دروس الشيخ محمد إسماعيل المقدم

محمد إسماعيل المقدم

الإجهاز على الفيديو والتلفاز

الإجهاز على الفيديو والتلفاز أحاطت بالمسلمين في هذا العصر فتن ومخاطر تحطم وتهدم فيهم من كل جانب، وليس العجب مما يفرض عليهم من الخارج، ولكن العجب مما يفرضونه هم على أنفسهم. ويعد التلفاز والفيديو من تلك الأشياء التي فرضوها على أنفسهم لكي تهدمهم من حيث لا يشعرون، ومما يميز هدم التلفاز والفيديو أنهما يهدمان الأخلاق والأديان والشرائع والأعراف كلها، وأن هذا الوباء يستشري مع الزمان ويتمكن في القلوب، وينتقل من جيل إلى آخر، مما ينذر بخطر عظيم ما لم يتدارك أهل العقل والعلم هذا الأمر ويحذروا من خطره.

تأثير الفيديو والتلفاز على المحيطين بهما

تأثير الفيديو والتلفاز على المحيطين بهما نستحضر معاً صورة رسمها أو تخيلها بعض الناس، وربما عبروا عنها في قصة تنسب إلى شخصية جحا أو غيره، شخصية ذلك الرجل الذي أراد أن يقطع غصن شجرة، فتسلق الشجرة وجلس على الغصن من طرفه الخارجي وليس من الجهة المقابلة للساق، ثم أخذ المنشار وظل يقطع الغصن، فرآه رجل على هذه الحالة، وكان هناك رجل يرى الصورة من بعيد، فقال له: أنت على وضع خطأ، يوشك أن تسقط الآن. فما بالى به ولا التفت إليه، ونظر أمامه فقط، فأخذ يقطع الغصن حتى هوى به وسقط على أم رأسه، فأخذ يجري وراء ذلك الرجل ويقول له: كأنك تعلم الغيب، كيف عرفت أنني سأسقط؟ أخبرني إذاً متى سأموت؟ والشاهد أن الإنسان حينما يكون داخل تأثير مجال معين فإنه لا يستطيع أن يقيس الأمور قياساً دقيقاً، لكنه إذا حرر نفسه من هذا المجال ومن تأثيراته، ونظر من بعيد استطاع أن يذكر الحكم الصائب على الأشياء، ولذلك فإن ذلك الرجل -لأنه بعيد- استطاع أن يرى هذه الصورة بخلاف ذلك الذي كان يمارسها بالفعل. فنحن نحتاج -أولاً- إذا أردنا أن نناقش هذا الموضوع أن نخرج من تأثيره السحري، أو تأثيره المخدر، كما يسميه بعض المعاصرين بالمخدر الكهربائي، نحن نحارب الإدمان بالمخدرات والكحول وغيرها كثيراً، إلا أننا نؤمن تماماً أن التلفزيون أو الفيديو أشد وأخطر وأفسد للقلوب. إن هذا الشخص الذي أشرب حب هذه الأشياء، ويجلس أمامها عاكفاً في خشوع وصمت وسكون العابد الخاشع المتبتل ما حظ هذا الإنسان الذي يدعي الإسلام ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة الله؟! ما حظه من قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، هل هذا الإنسان فعلاً بغض إليه الكفر والفسوق والعصيان؟! إن الذي يجلس ليرى -على الأقل- النساء المتبرجات هو الذي استجلب الجهاز بيده، واشتراه بماله، وربما أخذه من قوت أولاده، وهو الذي فتحه لأولاده وأحضره لهم، ثم بعد ذلك يذوق الثمار المريرة من هذه الفتنة التي أشعل نارها بيده هل له حظ من قوله تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]؟ هل له حظ من قوله عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]؟ إذا حشر الخبيث والطيب يوم القيامة، إذا حشر الحق والباطل فمع أي الفريقين يكون صاحب التلفزيون والفيديو؟ المسألة لا تحتاج إلى جواب، وماذا بعد الحق إلا الضلال. هذه الفتنة الآن اقتحمت بيوت المسلمين، وجاست خلال ديارهم تفسد عليهم عقيدتهم وأخلاقهم، وتصدهم عن دين ربهم تبارك وتعالى، وتقتل فيهم روح الغيرة على حرمات الله، الغيرة التي هي حياة القلب ليرى المنكر منكراً والمعروف معروفاً، إذا ماتت الغيرة على حرمات الله عز وجل مات الإيمان، وصار بلا روح، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)، فإن الله عز وجل يغار حينما يرى حرماته تنتهك وحدوده تتعدى. إن أقل ما يقع ممن يعكف ويجلس خاشعاً أمام هذا الصنم الكبير استحسان المعاصي، وإذا ما تعود قلبه على رؤية المنكرات يموت في قلبه الإحساس بأنها منكرات، لن يخلو من سماع الموسيقى، ولن يخلو من رؤية المرأة المتبرجة، ولن يخلو من إقرار كثير من المنكرات، بل لن تصير منكرات حينما يرى النساء الأجنبيات مع الرجال الأجانب عنهن في أوضاع -والعياذ بالله- تكاد تتفطر لها الأكباد والقلوب، هل القلب في هذه الحالة ينكر هذا المنكر؟ وإن أنكره في المرة الأولى ماذا يكون في الثانية والثالثة؟ وهكذا. إذاً يموت الإحساس من القلب ويصير قلباً منكساً، يستحسن المعاصي ويتلذذ بها، ويود أن لا يزعجه أحد أو أن يبعده ويقصيه عن هذا الاسترسال والخشوع أمام هذا الصنم الجديد. مر عبد الله بن عمرو رضي الله تبارك وتعالى عنهما على قوم جالسين يلعبون بالشطرنج، فأنكر عليهم قائلاً: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ فأيهما أولى بأن نتمثل له بهذه الآية، هذه القطع من الشطرنج الخشبية، أم هذا الصنم الجديد الذي حول ونقل السينما والبارات والمواخير والخمارات إلى داخل بيوت المسلمين؟! ثم حول الأمة تحويلاً شديداً عن الهدف الذي خلقت له. إن هذه الأمة المحمدية أمة ذات رسالة في هذه الحياة، كما قال ربعي بن عامر لـ رستم لما قال له: ما جاء بكم؟ قال: (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)، هذه هي أهداف هذه الأمة، لا أن تجلس وتقتل الوقت أو تنتحر -بتعبير أدق- أمام هذا الجهاز الخبيث، صارت الفتنة في كل مكان الآن، ولا يكاد يخلو منها بيت، وفي نفس الوقت نحتاج ونحن ندرس هذه القضية إلى الاقتباس من كثير من البحوث، وإن كنت -والحمد لله- لا أرى هذين الجهازين، لكن من خلال بحوث علمية كثيرة جمعت ودراسات اشتملت على الأسئلة التي ننقلها إليكم بالتنبيه إلى هذا الخبر. أيضاً نحتاج كثيراً جداً إلى الاقتباس من الباحثين الغربيين لسببين: الأول: أن الحكمة ضالة المؤمن. والسبب الثاني: أن القوم كانوا أسرف منا في الابتلاء بهذه الأشياء، ومع ذلك شهد شاهد من أهلها، وفهم رماه الأقربون حينما يضجون الآن ويمنعون أبناءهم من مشاهدة هذا الجهاز لأخطاره على الأخلاق والقيم؛ لأنه فتنة يشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير. الكل يوقف سمعه وبصره وقلبه على البث التلفزيوني، انظر إلى منظرهم وهم يتابعون مباراة كرة قدم، أو تمثيلية مهمة، ماذا يكون حالهم؟ تجد الخشوع، وهل يخشعون في الصلاة هكذا؟ أو إذا قرئ القرآن ينصتون له هكذا؟! لا. إنك تجد القلوب والأسماع خاشعة، ولو أن طفلاً صغيراً ألقى قشة في الأرض لثاروا وضجوا: اسكت. ويخرصون كل من يهم بأن يقطع عليهم هذه العبادة وهذا التبتل في محراب الشيطان، يتشبث كل فرد في متابعته لا يكاد ينفك عنها، الجميع عاكفون أمامه سامرون على حال من الذهول وفقدان الوعي كأنهم مسحورون قد سمروا على مقاعدهم يتابعون الأحداث بكل إصغاء وانتباه، تنقطع أنفاسهم، وتدق قلوبهم إذا تأزم الموقف، ثم تنطلق صيحاتهم وصرخاتهم ويتحركون في عنف عند أي موقف ناسين ما حولهم ومن حولهم، فترى الرجل الكبير يخرج عن وقاره، ويقف على الكرسي إذا سجل هدف -مثلاً- في مبارة كرة، ويصرخون كأن الحرب قد قامت، وكأن المسلمين استردوا فلسطين وعاد بيت المقدس بذاك الهدف، وأقيمت الخلافة، وعادت أفغانستان، ونفذت كل مآرب الأمة وأهدافها. هل من العقل والحكمة أن نتعامل مع هذا الجهاز الخبيث بهذه العفوية والسذاجة والسلبية؟ هل نحسن به الظن ونعتقد أن فوائده كثيرة؟ بل صار من المسلمين من يعتبر وجود هذا الخبيث ضرورة حياتية لا يستطيع أن يستغني عنها، قد يستغني عن الطعام والشراب ولا يستغني أبداً عن هذا الجهاز الخبيث، غاب عن هؤلاء جميعاً مساوئ ومخاطر هذا الجهاز، أو نظروا إليها بمنظار مصغر فحقروها. ومن هنا نقف هذه الوقفة في دعوة صادقة مع النفس نراجعها ونقلب أبصارنا وبصائرنا في محاسن هذا الجهاز ومساوئه، فإذا فعلنا ذلك سنقرر أن للفيديو والتلفزيون منافع للناس، ولكن هما كالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. لكن المنافع على قلتها ضخمت، وأريد لها الظهور فروج لها، وأخفيت المساوئ على خطورتها وكثرتها فلا تكاد تذكر، ومن أجل ذلك لن نتكلم على مزية واحدة من مزايا هذا الجهاز؛ لأن الناس يحفظونها ويعدونها كأسلحة مضادة إذا هوجموا، يقول أحدهم: أنا اشتريت التلفزيون لأشاهد البرامج الدينية، أو لمتابعة الشيخ الشعراوي، أنا أتيت به لكي أطالع نشرات الأخبار. ويستنزله الشيطان دركة دركة حتى يقع في الهاوية. فالتلفزيون ليس في حاجة إلى تلميع حتى نتكلم على مزاياه، وإنما نحاول كشف ما فيه من مخاطر يغفل عنها أكثر المسلمين انطلاقاً من قوله تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].

مفاسد التلفاز الأخلاقية والشرعية

مفاسد التلفاز الأخلاقية والشرعية أول ما نذكر به هؤلاء المؤمنين آية نتلوها من كتاب ربنا العظيم، لو فقهت معناها قلوبنا لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية الله، وإذا استيقظت ضمائرنا فلعل قشعريرة الرهبة تسري في أوصالنا، ورعشة الهيبة تهز أعماقنا، إنها قول ربنا جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فما ألصق هذه الآية بموضوعنا حيث تتعلق بأخطر جهاز إعلامي يخاطب العين، والسمع، والبصر، والقلب بالصوت والصورة والحركة.

أضرار التلفاز الصحية

أضرار التلفاز الصحية بالنسبة للأضرار الصحية والجسيمة التي تحدث من هذا الجهاز تجد أطفال الجيل التلفزيوني حينما يجرى لهم الفحص الطبي عند دخولهم المدارس تجد أن ظهورهم منحنية من الجلسة التي يجلسونها أمام التلفزيون، الأبصار ضعيفة، مشكلات في النطق والطلاقة في الحديث، إرهاق لأعصاب العين وإجهاد لها بسبب النظر المستمر في حجرة مظلمة عن قرب وباستمرار، وعدم تحريك الظهر إلا في هذا الحيز الضيق. عالم شهير بالتصوير الإشعاعي يسمى: دكتور إينل كروب أكد بمرارة وهو يحتضر في إحدى المستشفيات بأمريكا -هذا عالم في الإشعاع، ولن يكون هناك عالم بالإشعاع مثله متخصص في ذلك- فقال وهو يحتضر: إن أجهزة التلفزيون في البيوت هي عبارة عن عدو لدود وإخطبوط سرطاني خطير يمتد إلى أجسام الأطفال. وقد كان هذا الدكتور نفسه أحد ضحايا السرطان الناتج عن إشعاعات التلفزيون، بالذات الأشعة السينية التي تسبب الإصابة بالسرطان، وتشوه الأجنة، وقد تقتل الأجنة قبل الولادة أو بعد الولادة، وقد تحدث سرطانات في الجلد. هذا الدكتور كان أحد ضحايا السرطان الناتج عن إشعاعات التلفزيون، وقد أجريت له قبل وفاته ستٌّ وتسعون عملية جراحية لاستئصال الدرنات السرطانية ولكن دون جدوى؛ إذ إنه وصل إلى النهاية المؤلمة بعد أن استؤصل قسم كبير من وجهه وبترت ذراعه. وأضاف الدكتور كروب قبل موته: إن شركات التلفزيون تكذب وتخدع الناس عندما تزعم أن هناك حداً أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر ولا تزود بها أجهزتها، فالعلم يقول بعد التجارب العديدة: إن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم على درجات متفاوتة، وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون. وقد طالبت مجلة الاقتصاد التي نقلت هذه المعلومات -وهي مجلة تصدر في بيروت- في نهاية مقترحاتها أن على كل أب وأم أن يتناولا مطرقة ضخمة ويحطما بها كل ما لديهما من أجهزة تلفزيونية. يحذر العلماء في مصر أيضاً من ذلك، ويقولون: أكدت نتائج بحث علمي مصري أن تعرض الأم الحامل لمصادر الإشعاع الشديدة الموجودة حولنا في كل مكان ينتج عنه تشوهات في الأجنة قد تتسبب في موت الجنين قبل أو بعد الولادة. وأيضاً الدكتور محمد محمد منصور رئيس وحدة بحوث المناعة والطفيليات بالمركز القومي لتكنولوجيا الإشعاع في مصر يقول: بناءً على هذه النتيجة ينصح الدكتور محمد منصور السيدات الحوامل وكذلك الأطفال بعدم الجلوس لفترات طويلة أمام أجهزة التلفزيون الملون الموجودة حالياً في معظم البيوت المصرية؛ إذ به -الإشعاع- مصدر قاتل للجنين، كما أنه يؤدي إلى ضعف الإبصار عند الأطفال، إضافة إلى تأثيره على عدسة زجاج النظارة الطبية، وبالتالي درجة ملاءمتها للعين. وعلى أي الأحوال فهذه بعض الأشياء تكشف أنه خبيث لا خير فيه.

تدمير الفيديو لأخلاق الأجيال

تدمير الفيديو لأخلاق الأجيال من مفاسد الفيديو تلك الظاهرة التي انتشرت، وملخص القصة أن مالك إحدى المدارس ذهب إلى صاحب مقهى يرجوه أن لا يقدم أفلام الفيديو في الصباح؛ لأن المدرسة خلت تماماً من التلاميذ، ولما لم يستجب له صاحب المقهى طلب معاونة البوليس. أب أيضاً اقتنى جهاز الفيديو وعاد فوجد أولاده أتوا بشريط قذر، وجلس جميع الأولاد ينظرون إليه، فحطم الأب الجهاز تحطيماً وكسره تكسيراً. مثل هؤلاء الآباء هم أولى أن يسجنوا وأن يوضعوا في الأحداث، وليس الأبناء المساكين؛ لأنك أنت الذي أتيت بهذه الأشياء في البيت، ولتجدن إثمها ولو بعد حين، وستذوق ثمرتها. من ذلك أيضاً ظاهرة الهروب من المدرسة كما ذكرنا، فقد جاء في صحيفة الأهرام: كان أمراً غريباً أن تتجاوز أرقام الغياب نصف تلاميذ المدرسة، وباتت الفصول الدراسية شبه خاوية نتيجة لغياب التلاميذ، ولم يكن أمام ناظر المدرسة إلا أن يفزع إلى مدير أمن الجيزة ويضع أمامه أبعاد المشكلة والمخاطر التي تهدد مستقبل التلاميذ، وضرورة التوصل إلى حقيقة الأمر قبل أن يتفاقم الخطر وتمتد العدوى إلى باقي التلاميذ. فلم يكن ناظر المدرسة وحده الذي يعاني من مشكلة غياب تلاميذ مدرسته، فقد كانت مشكلة عامة عانت منها بعض المدارس الأخرى المجاورة التي تجاوز فيها أعداد الغائبين من تلاميذ تلك المدرسة النسب المعقولة، وأحال مدير الأمن بلاغ ناظر المدرسة لمدير المباحث لدراسته، وقاد رئيس قسم مكافحة جرائم الآداب العامة فريقاً للبحث، وبدأ تنفيذ خطة العمل بالانتشار في الأماكن القريبة من المدرسة والمدارس المجاورة، ومراقبة التلاميذ في خفاء، ومتابعة خطواتهم والطرق التي يسلكونها، ولم يدم الأمر طويلاً وبدأت الحقائق تتكشف حين تبين أن معظم التلاميذ يسلكون طريقاً واحداً يؤدي إلى حظيرة مواشي يتوقفون أمامها قليلاً لترقب الطريق، ثم يسرعون بعدها بالدخول في حذر حيث يقضون الساعات الطويلة بداخلها إلى حين حلول موعد انصرافهم من المدرسة، ويعودون بعد ذلك إلى بيوتهم. واكتملت الصورة، ولم يتبق سوى معرفة ما يدور داخل المكان، حتى تمكن ضابط الآداب من التسلل إلى داخل الحظيرة بعد أن دفع مبلغاً من المال في الوقت الذي انتشر فيه رجال الكمين لمحاصرة المكان، وكانت المفاجأة أن وجد الضابط أن حظيرة مواش مظلمة قد امتلأت عن آخرها بتلاميذ المدارس الهاربين الذين جلسوا متراصين على مقاعد خشبية، واستغرقوا في مشاهدة أحد أفلام الفيديو القذرة، فألقي القبض على صاحب الحظيرة وعلى التلاميذ، وتمت مصادرة مجموعة شرائط الفيديو. هذا من الحصاد المر الذي جناه المسلمون من هذا الجهاز. أيضاً أضعف الجهاز سلطان الأسرة، فاضمحلت القيم والآداب التي كانت الأسرة تعلمها، وحل محلها قيم التلفزيون المشتقة من الأفلام والمسرحيات والتمثيليات، عطلت الأمور النافعة التي كان يمارسها الأبناء والشباب كالقراءة والكتابة أو الرياضات النافعة، وإذا بالتلفزيون يصور الخمول والكسل والخواء الفكري لدى الإنسان، فلست أنت الذي تتحكم فيه بل هو الذي يتحكم فيك ويغير من نظم حياتك.

دور التلفاز في قلب المنكر معروفا والمعروف منكرا

دور التلفاز في قلب المنكر معروفاً والمعروف منكراً من أسوأ آثار التلفاز -إن لم تكن أسوأها على الإطلاق- تعويد الناس على التغاضي عن كثير من الفضائل الاجتماعية، فهو يهدم ويحطم الأخلاق والأديان، ويبطش بالحياء والقيم، وينشر الرذيلة، ويقتل الأحاسيس، بحيث ينتهي الأمر إلى استمراء المنكر، بل استحسان المنكر والفرح الشديد بارتكابه. ومن الأدلة الواقعية على ذلك أن الناس أصبحوا يقبلون أن رجلاً بحجة أنه أب لفتاة شابة يحتضنها، وهم يعلمون أنه أجنبي عنها وأن هذا تمثيل وكذب، ولكنهم صدقوا الكذب ولم يعودوا يستنكرونه، فهذا عندهم ليس منكراً هذا أبوها! فيأخذونه بعفوية وكأنه أمر طبيعي وعادي. ولم يعد يستنكر ما يقع بين رجال ونساء أجانب عنهم مما حرمه الله تبارك وتعالى، بل من يمكن نفسه من هذا الإجرام وهذا الانحلال ويعيش الدور بصدق -كما يقولون- يقال عنه: الممثل المحترم، والممثلة القديرة -أي: على الفساد والانحلال- أما من يظهر عدم الانسجام فهذا ضيق الأفق، هذا إنسان متزمت متطرف، وتنطلق عبارات: إنهم يريدون أن يعيدونا إلى القرون الوسطى المظلمة والعصور الحجرية. أيضاً صاروا لا ينكرون على المرأة المتزينة المتبرجة التي تظهر بأبهى زينتها حاسرة الرأس، كاشفة الشعر والرقبة والذراعين والساقين، ومع ذلك ربما يصفون هذه الممثلة أو هذه المذيعة بأنها محتشمة، فهي تكشف فقط شعرها ووجها ويديها وما إلى ذلك. تعودت القلوب على مناظر احتساء الخمور، كأنك داخل الخمارة والحانة وأماكن الفساد والإجرام، تعودت العيون أن ترى هذه المناظر وهي قيم كفرية فاسقة خبيثة تتعود عليها هذه القلوب، احتساء الخمور، التدخين، إتيان الفواحش، السرقات، القتل، السباب بأقذع الألفاظ السوقية، توجيه اهتمام الناس إلى تعظيم كرة القدم، وأن الأبطال هم أبطال كرة القدم، وإذا كانت هناك مباراة دولية لكرة القدم أو شيء من هذا ترى -كما قال بعض الإخوة- البلد خاوية تماماً، كأنه يوجد حظر تجوال، لا سيارات ولا مشاة، والمحلات مغلقة. حتى قال بعض الإخوة: لو أن عدواً من الأعداء أراد أن يحتل مصر بدون أن تطلق رصاصة واحدة تقاومه لاختار هذا الوقت؛ لأن الناس قابعون في بيوتهم أمام هذا الصنم، وانظر إلى الناس في ساعة صلاة الجمعة تجد وسائل المواصلات تعمل، والشوارع مزدحمة بالسيارات، والناس يمشون في الشوارع، وكأنك لست في بلد من بلاد المسلمين بشغل هذا الجهاز الخبيث. أيضاً إبراز برامج الرقص والخلاعة وأمثال هذه الأشياء، حتى عندما تسأل الطفلة الصغيرة: ما أملك في الحياة؟ تقول: أريد أن أكون راقصة مثل فلانة، أو مغنية مثل فلانة. فلا حول ولا قوة إلا بالله! هل هؤلاء هم أبناء المسلمين؟

تناقض المواقف بيننا وبين الغرب في محاربة التلفاز

تناقض المواقف بيننا وبين الغرب في محاربة التلفاز وهو تناقض غريب جداً، فإننا بقدر ما نتهاون بقدر ما يحرص الكفار على حماية أبنائهم من هذا الجهاز الخبيث، مع أنهم كفار لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، تجد -مثلاً- المدرسة الألمانية في الإسكندرية تأتي بالآباء وتعمل لهم فرزاً شديداً جداً للآباء والأمهات والأطفال، وتقيم لهم مختبرات الذكاء، ثم يوقع الأبوان إقراراً أن أولادهما إذا عادوا من المدرسة لا يشاهدون التلفزيون، هؤلاء لا يتدينون بذلك، لكن يقولون: إن التربية التلفزيونية تسير في خط موازٍ ومضاد للتربية التي تنتهجها هذه المدرسة، هذه تلغي مفعول تلك، ولذلك يوقع الأب والأم على إقرار أنه إذا طلب الطفل النظر إلى التلفزيون ونظر فالمدرسة غير مسئولة عن أي آثار تربوية تظهر في سلوكه، وتقول المدرسة: هذا أتى منكم أنتم وليس من طرفنا نحن. في حين تجد في مدرسة أخرى، وفي مكان اجتماع مجلس الآباء والمعلمين أتت امرأة متبرجة منسوبة ومحسوبة على الإسلام، أتت تصرخ وتشتكي وتضج وتصيح في اجتماع مجلس الآباء، وتقول: لابد من أن تبحثوا لي عن السبب، من الذي فعل بابني هكذا؟ لابد من أن عندكم هنا في المدرسة أناساً متطرفين. تقول لهم: إن ابني حينما يجلس عند التلفزيون إذا رأى راقصة أو شيئاً من هذه المناظر فإنه يضع بصره في الأرض ويرفض أن ينظر، فقولوا لي: من المسئول؟ أنتم متطرفون، أنتم تعلمون ابني التطرف، ابحثوا لي عن المسئول عن ذلك؟ أجاب مدير المدرسة: أبداً. نحن أبرياء من هذا التطرف، نحن لا نعلمه ذلك، نحن نلتزم كاملاً بمنهج الوزارة. أيضاً التلفزيون يعد أستاذاً من أساتذة الجريمة، ففي إحدى البرامج التلفزيونية أجريت مقابلة مع فتاة في الخامسة عشر من عمرها، رأت شخصاً في فلم يريد أن يقتل آخر فقطع مكابح السيارة، وكادت البنت أن تقتل أباها وأمها، فذهبت أيضاً لتقص فرامل السيارة لتقتلهما، لكن الأبوان اكتشفا الأمر بقدر من الله؛ لأن الفتاة أخطأت فقطعت بدل الفرامل سلكاً آخر أضاء إشارة إنذار حمراء، ولم يعرفا الفاعل. فجربت الفتاة خطة أخرى، إذ ألقت صفيحة من البنزين على السيارة في داخل الجراش فانفجرت، فتنبه الأبوان في آخر لحظة فأسرعا يفتشان الجراش والبيت خوفاً على ابنتهما حتى لا تحترق، وكادا يختنقان لكثافة الدخان واكتشفا أن الفاعل هو ابنتهما، وعندما سئلت الفتاة عن السبب قالت: أبواي يضغطان علي كثيراً للمذاكرة، وأخي أخفق، وهما يريدان مني تعويض إخفاقه، فنظرت إلى التلفزيون فتعلمت هذه الجريمة. هذه الفكرة علمها إياها التلفزيون.

جيل التلفاز والمثل الأعلى

جيل التلفاز والمثل الأعلى من أخطر الأشياء أن التلفزيون يؤثر في الأولاد عندما يأخذون منه المثل الأعلى في حياتهم، حيث يقلب القيم في نظرهم، فالشباب عامة ربما إذا سألته هل تتقن سورة الفاتحة أم لا لم يدر ما الجواب، وربما نجد بعضهم يجيب علينا، لكن لو سألته: ما هي الأسئلة التي ستتوجه إليك أول ما تنزل في قبرك؟ وإنك سوف تسأل عن ثلاثة أسئلة هل تعرف ما هي؟ كيف ستجيب عليها؟ وحين يسألك الملكان: من ربك وما دينك وماذا تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم صلى الله عليه وآله وسلم كيف ستجيب؟ فإنه لا يعرف، لكنه يعرف أسماء الممثلين والممثلات، والألوان المفضلة لهم، والأكلة المفضلة لهم، وكم مرة تزوج، والراقصين والراقصات، وأسماءهم، وربما عناوينهم، ويعرف عنهم ما لا يعرفه عن أقربائه. وهذا يضطرنا -للأسف الشديد- إلى حكاية أشياء نحب أن ننزه مجلس الذكر عن حكايتها، لكن ربما نلجأ أحياناً لضرب الأمثلة؛ لأن هذا واقع نعيشه، والخطر قادم في كل بيت بهذا التغيير. هذا نموذج يحكيه الشيخ مروان كجك، وهي مشكلة زوج يعاني من زوجته، وهي امرأة متعلمة وتعمل، وهي مغرمة بمشاهدة الأفلام التي تروي تاريخ حياة الراقصات، أو الأفلام التي تكون بطلتها (معلمة في قهوة بلدي) هذه المرأة تشجع طفلتها وهي في العاشرة من عمرها على المشاهدة أيضاً، والنتيجة أن الطفلة أصبحت تحاول إجادة الرقص البلدي أمام المرآة، إنه اغتيال البراءة والفطرة، وفي أوقات الفراغ فإن هذه الطفلة لا تلعب، وإنما تأتي بكوب وخرطوم لتجعل منه (شيشة)، وتطلب من زميلاتها أن ينادينها بصوت أجش: (يا معلمة!). وقال صاحب الرسالة أيضاً: إن زوجته تشعر بالارتياح من أعمال الطفلة، وتقول: إنها موهوبة في التمثيل فهذا حصاد هذه التربية التلفزيونية الخبيثة، ماذا تنتظر؟ البنت تتعلم من مثل هذه الممثلة كيف تسلك هذه المسالك، لذلك لا تعجب إذا كانوا يسمون الفاسق الفاجر المجرم (البطل)، بدل أن يقال: الفاسق الصادّ عن سبيل الله عدو الله وعدو رسول الله يقال: (البطل). المطربة أو المغنية معبودة الجماهير، وسبحان المعبود! يعبدونها عبادة، ولعلك تذكر حديث جريج العابد، فقد كان جريج يتعبد في صومعة، فأتته أمه وهو يصلي فنادته. فقال: أي رب! أمي وصلاتي؟ يعني: أيهما أقدم: هل أجيب أمي أم أكمل صلاتي؟ فنادته الثانية. فقال: أي رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. ونادته الثالثة فقال: أي رب! أمي وصلاتي. وكان لابد له من أن يقطع الصلاة ويجيب أمه براً بها. فدعت عليه أمه أن يعاقب عقوبة شديدة، وما كانت هذه العقوبة؟ لقد دعت عليه أن لا يموت حتى ينظر في وجوه الزانيات، دعت عليه بهذه الدعوة، فإذاً هذه عقوبة؛ لأن النظر إلى وجوه الفساق والظالمين يفسد القلوب ويطبع فيها السموم ويمرض القلوب، بعكس النظر إلى الصالحين الذين إذا رأيتهم ذكرت الله تبارك وتعالى. فانظر كيف أن المسلمين صاروا طواعية لا ينظرون إلى هذا عن عقوبة، لكنهم يستحسنون النظر إلى وجوه المجرمات الفاسقات، ويتقدمون بأنفسهم إلى هذا الجهاز الخبيث ويستجلبونه حتى ينظر أبناؤهم وشبابهم إلى هؤلاء النساء المجرمات اللاتي يسمونهن (البطلات) معبودات الجماهير. يقول الكاتب محمد عبد الله السمان مشيراً إلى حلقة تلفزيونية استضيف فيها بعض الطلبة من مدرسة معروفة، يقول: كان من المتوقع أن تكون الحلقة إلى آخر دقيقة فيها بالطلبة المتفوقين، وتكون حلقة من الحلقات الجادة التي يتلقى منها سائر الطلبة دروساً في التفوق، ولكن مقدم البرنامج سأل الطلبة واحداً واحداً عن مثله الأعلى في الحياة؟ وكانت الإجابات مذهلة، فالمثل الأعلى لدى الطلبة المتفوقين هم على الترتيب -ولست أدري أهو ترتيب تصاعدي أم تنازلي-: عبد الحليم حافظ، بليغ حمدي، نزار قباني، محمد عبد الوهاب، أنيس منصور. وقلت تعقيباً على هذه الإجابات: لم أكن أنتظر من هؤلاء الطلبة المتفوقين أن يقولوا: إن مثلنا الأعلى أبو بكر أو عمر أو علي أو خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهم، بل كنت أتوقع أن يقول واحدٌ منهم: إن مثلي الأعلى هو أبي. إلا أنه ما وجد في أبيه مثله الأعلى، وإلا فلو أحسن أبوه تربيته لما عمد إلى هذه الزبالة كي يتخذهم قدوة ومثلاً أعلى في الحياة.

جيل التلفزيون وشيوع الإجرام والرذيلة

جيل التلفزيون وشيوع الإجرام والرذيلة إن تأثير التلفاز تأثير وبائي عام، لما يتسم به من جماهيرية وشمولية، ولا يمكن الزعم بأن هذا الوباء غير ضار لأنه نجى منه بعض الناس. يقول دكتور يسمى استيفن محاضر في جامعة كالفورنيا، يقول هذا وهو رجل كافر نصراني أو يهودي الله أعلم به. يقول: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث. طفل فرنسي عمره خمس سنوات أطلق رصاصة على جار له عمره سبع سنوات، وأصابه إصابة خطيرة بعد أن رفض الأخير إعطاءه قطعة من اللبان، وقد ذكر في أقواله للشرطة أنه تعلم كيف يحشو بندقية والده عن طريق مشاهدة الأفلام في التلفزيون. ولذلك كتب أستاذ التاريخ الدكتور شاكر مصطفى عن جيل التلفزيون قائلاً: أبناؤنا هم أبناء وسائل الإعلام التي أفسدت الأسرة لدينا إفساداً، ودمرت كل مفاهيمها وآدابها، وكان قد قدم التلفزيون هذه الأمثلة كلها من خلال بحوث مجموعة أصلاً في هذا الأمر، قدم شخصية بطل طائر غير طبيعي يسمونه كذا العجيب منذ سنوات، حاول أحد الأطفال أن يقلد هذا المخلوق العجيب عندما طار من شرفة المنزل محاولاً تقليد هذا البطل العجيب فكان فيها هلاكه. فما من شك في آثاره في نشر الجريمة والعنف، وإضعاف الأشخاص، وشيوع الرذيلة، وتشييع الفاحشة وتزيينها في نظر الناس، وشيوع أساليب النصب والاحتيال، والسلبية، والتراخي، وتخريب البيوت. ويتحدث عما تثيره مسلسلات التلفزيون وأفلام الفيديو من تنغيص الحياة الزوجية، يقول: وحدث عن ذلك ولا حرج، ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من مشاهدي التلفزيون يجهلون أن هذه البيوت الواسعة والفرش المتنوعة ليست سوى أستديوهات قد أنشأت خصيصاً لتأجيرها للمنتجين الذين يصورون فيها مسلسلاتهم وأفلامهم، وهي ليست ملكاً للممثلة، هم يعتقدون أن هذا ملك للممثلة، الحدائق والخدم والحشم والأجهزة الحديثة والأثاث الرفيع وكذا وكذا، فتبدأ الزوجة في المقارنة بين ما تعيش فيه من ضيق وضنك وبين هذه الممثلة: انظر إلى الغنى، انظر إلى البيت الواسع المؤثث. فهي لا تتصور أن هذه أشياء مؤجرة لكن تتصور أن هذا ملك للممثلة، ويصدقون الكذب. فهذه الخدعة الماكرة تصيب النساء بالتأفف من حياتهن؛ لأنهن يعشن في بيوت متواضعة تخلوا من مظاهر الأبهة التي تعيش فيها الممثلات. أيضاً الزوجة التلفزيونية في الأفلام والمسرحيات والتمثيليات يأتون لها بطريقة المعاملة بين الرجل وبين المرأة، بين الزوج والزوجة، مشتملة على الرقة والخلو من المشاكل والحنو والعطف وكذا وكذا، فتبدأ تقارن كيف يمكث معها وكيف يحصل بينهما المودة، في حين هذا الزوج يرجع مكدوداً منغصاً عليه عيشته من السعي في جلب لقمة العيش لها ولأولادها ولا تعذره في ذلك، فتقارن بينه وبين ذلك الممثل، هذا ممثل، وهذا عمله، هو يعمل ممثلاً كذاباً ويتصنع، وهم أبعد الناس عن الابتسامة التي يرسمونها، وأبعد الناس عن الرقة التي يتظاهرون بها، هم أخبث الناس وأسقطهم وأهونهم في المجتمع.

آثار التلفاز على الحفظ والذاكرة

آثار التلفاز على الحفظ والذاكرة يعمل التلفاز على استفراغ طاقة الأبناء على الحفظ والتذكر بما يبثه من أغان واستعراضات جذابة، فتجد أن الأطفال يحفظون أغاني الإعلانات ويرددون شعاراتها، وبذلك ترسخ في نفوسهم قيم وأذواق الممثلين والمغنيات، فأنت تأتي بدروس خصوصية في البيت كل يوم، وتعلم بنتك كيف تعشق، وكيف تحب الولد، وإذا جلست معه ماذا تفعل. أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت فاعل يداك أوكتا وفوك نفخ فالأطفال يحفظون الأغاني ويرددون شعاراتها، وتربيهم الممثلات والفنانون، أتعرف ما معنى (الفنان) في لغة العرب؟ الحمار المخطط، هذا هو الفنان، فهؤلاء هم الذين يربون أولادك، تربية الممثلين تربية البارات والخمارات والحانات التي انتقلت إلى داخل بيوت المسلمين، فيا حسرة على العباد! كيف ومتى يحفظ هؤلاء الأطفال القرآن، هل يجتمع القرآن كلام الله الذي قال تعالى عنه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] هل يجتمع مع الأغاني والإعلانات والتمثيليات وأسماء المطربين والمطربات. كلا. لا يجامع القرآن غيره، قرآن الرحمن ومزمار الشيطان لا يجتمعان.

أهداف برامج التلفاز

أهداف برامج التلفاز تدور المسرحيات والأفلام وهذه الأشياء حول ضررين لا ثالث لهما، الضحك بمجرد الضحك، الضحك القائم على الكذب وربما دس فيه السخرية من شريعة الإسلام، وربما أضحكوا الناس على المتدينين وأهل طاعة الله وأولياء الرحمن عز وجل، السخرية والضحك التافه، الضحك الذي يلقي صاحبه في جهنم، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل له ويل له ويله له قالوا: من يا رسول الله؟ قال: الذي يكذب ليضحك الناس. فقال الصحابة للنبي: إنك تمازحنا! قال: نعم ولكني لا أقول إلا حقاً) صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب)، فهذا هو الهدف الأول. أما الهدف الآخر الذي تدور حوله كل البرامج والأفلام والمسرحيات والتمثيليات فهو قيم الحب والغرام والعشق والهيام ونحو هذه المعاني، وكأن هذه هي المشكلة الوحيدة في هذه الأمة، حلت كل المشاكل وما أصبحت غير مشكلة هذه الفتاة التي أحبت ذلك الولد وجرت بينهما هذه الأشياء المكررة، من أجل صد الناس عن سبيل الله تبارك وتعالى، وفي خلال ذلك يبثون السموم، ويصبح الخمر والدخان هو الحل الأول إذا بدرت مشكلة، إذا وقعت مشكلة لا يلجأ ولا يرجع إلى الاستخارة، أو الدعاء، أو الصلاة كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام، لا. بل أول حل إذا وقعت مشكلة أن يشعل السيجارة أو يشرب الخمر، هذا هو المخرج من الضائقات عند هؤلاء وأمثالهم. فالتلفزيون انتزع وسرق زمام القيادة من الآباء والأمهات، حتى يصح أن نعتبر هذا الجيل التلفزيوني ابن التلفزيون، هؤلاء هم أبناء التلفزيون وليسوا أبناء أبويهم، أهملهم الآباء، بل الآباء عندما يريدون أن يستريحوا من الضوضاء يفتحون لهم التلفزيون حتى يستريحوا منهم، ويسلمونهم إلى هذا الخبيث وهم عجينة غضة طرية يشكلونها كما شاؤوا، حتى سماه بعضهم (الوالد الثالث)، أو (الأب الثالث).

مفاسد التلفاز الشرعية

مفاسد التلفاز الشرعية يتناول القائمون على البرامج من خلال برامجهم الخبيثة تشويه بعض الأحكام والمفاهيم الإسلامية الثابتة، بل قد يتوصلون إلى الطعن في الشريعة الإسلامية، فيأتون مثلاً لقضية الطلاق التي هي من مميزات هذا الدين، حتى إن العالم الغربي الكافر اضطر أخيراً إليها، وبعدما كانوا يعيرون الإسلام بنظام الطلاق اضطروا اضطراراً إلى تشريع الطلاق، ومن الذي يكتب القصة؟ إنسان خبيث عنده هدف يريد أن يحققه من خلال القصة، فيأتيك بامرأة ناشز متحللة، ومع ذلك هو يصنع هذه الشخصيات، ثم يظهرها في صورة المظلومة المقهورة، وأن المرأة مستعبدة بسبب الإسلام وبسبب هذا الزوج الرجعي المتزمت، وهو الذي تحكم في صفات الفريقين، ثم بعد ذلك يبين كيف أن الرجل يتخلص من المرأة باستعمال سلاح الطلاق، وأن الطلاق عبارة عن كلمة تلقى بلا مسئولية، وجزافاً بلا مبالاة، وأنه بمجرد خروج هذه الكلمة تتمزق الأسرة وتهدم جدرانها، مع أن تشريع الطلاق في الإسلام أسمى وأعلى من أن يكون كذلك، لكنهم يركزون على الأخطاء الفردية، ويوهمون الناس أن هذا هو الأصل في المجتمع الإسلامي، وهذا هو الأصل في تشريع الطلاق، مما يزعزع يقين الناس بتشريعات القرآن ويجرئهم على التطاول عليها، والعياذ بالله.

خطر التلفاز كوسيلة إعلامية

خطر التلفاز كوسيلة إعلامية من المعلوم أن الإنسان يحصل على المعلومات إذا كانت بطريق النظر بنسبة تسعين في المائة، ويحصل على المعلومات عن طريق السمع كما أن العين تجذبها الحركة أكثر من أي شيء آخر. وإذا أرادنا أن نستشعر خطورة قضية هذا الجهاز علينا أن نسأل أنفسنا، لماذا تتسابق أمريكا وفرنسا والعالم الغربي على أن يبثوا إلينا البث المباشر؟! ليس هذا فحسب بل يعطونه إيانا منحة وهدية، لماذا؟ هل يجمعون الضرائب من مواطنيهم من أجل أن يتصدقوا علينا، وهل يريدون بنا الخير والسلامة والعافية، أم أنهم هم الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]؟ نعم هؤلاء هم الذين قال الله تبارك وتعالى في حقهم: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} [آل عمران:119]، وقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وهم الذين قال الله فيهم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. سؤال آخر نسأل أنفسنا إياه يبين لنا خطورة هذا الجهاز، التلفزيون ليس مجرد جهاز كهربائي موجود كغسالة أو ثلاجة أو نحوهما، كلا. إن التلفزيون موجه تربوي وله رسالة يؤديها، وليس مجرد تسلية، إنه موجه يوجه الناس إلى أهداف محددة، وإذا أردنا أن نستشعر خطورة التلفزيون كأقوى جهاز إعلامي ينطبق عليه المثل القائل: فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب إذا سمعت عند حدوث أي انقلاب عسكري في أي مكان في الدنيا فإن أول ما يبدأ به الانقلابيون هو الاستيلاء على الإذاعة والتلفزيون، لماذا؟ لأن بهما يمكن أن توجه الجيوش التي لم يتمكنوا منها من بعد، هذا الجهاز الذي يسميه بعض الإعلاميين بالمخدر الكهربائي، بل المخدرات التي يدمنها الناس يقعون في أسر هذا الجهاز، ذلك الأسر الذي لا يضاهيه سوى الأسر العسكري، لكن الأسر العسكري إذا قدر لصاحبه الخلاص منه خرج مرفوع الجبين، أما من يقع في الأسر التلفزيوني فإنه يوم يتمكن من الفرار والإفلات من الشاشة فإنه يمضي مهدود القوى نادماً ولا يكاد أن يرفع له رأس.

مفاسد التلفاز المادية على الناس

مفاسد التلفاز المادية على الناس لقد فاقت جاذبية التلفزيون كل حد حتى أضحت إدماناً استسلمت له طوائف كثيرة من الناس، ودخل التلفزيون إلى المصنع والمتجر وأكشاك السجائر والمرطبات، ورافق المسافرين في مركباتهم، والمتنزهين في نزهاتهم، حتى أصبح الرفيق الدائم الذي لا يمل، والسمير المستعلي الذي لا ينفك عن اللهو وترهات القول، حتى الطعام يتناوله الناس وهم يشاهدونه، وهذا يشعر إلى أي مدى تعلق الناس به، حتى إنهم في المحلات التجارية لا يتصورون العيش بدونه، وبلغت الفتنة به إلى أنهم بعدما كانوا في السابق يأتون بجهاز واحد في البيت أصبحوا بعد ذلك يأتون بجهازين أحدهما يستعمل والثاني احتياطي، فإذا تعطل الجهاز الأول لا يطيقون أن يعيشوا بدونه كأنه هواء يتنفسونه، فلابد من وجود جهاز آخر. ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى أن حدثت موضة جديدة، وهي أن يكون هناك مراعاة للذوق والآداب والحياء والقيم، وحتى لا يجلس الأولاد مع الأبوين وهما يشاهدان المناظر الخليعة، فكيف حلت المشكلة؟ أن يشتري الأب تلفزيوناً خاصاً ويضعه في غرفة النوم، ويضع تلفزيوناً آخر في غرفة الأولاد، هذه هي المروءة والشهامة والغيرة، كيف يجلسان معاً وينظران إلى هذه الأشياء؟ وهذا يذكرنا بذلك الممثل الفاسق الذي كانت زوجته تمثل دوراً من الأدوار القذرة الإجرامية مع أحد الممثلين، فالشهامة والغيرة والرجولة والنخوة اقتضت منه أنه يرفض أن يتم تسجيل هذه المشاهد في وجود أي شخص في داخل الأستوديو، فأمر بإخراج كل من في الأستوديو حتى لا يروا زوجته وهي تمثل هذه المشاهد. انظر كيف انتكست قلوبهم، وصارت عقولهم هباءً كأن لم تكن؟ أين النخوة؟ أين الشهامة؟ ربما جعلتك الشهامة تطرد خمسة أو ستة من الموجودين في الأستوديو حتى لا يروا زوجتك بهذه الحالة المزرية، وماذا عن الرجل الذي كان يصورها؟ ماذا عن الملايين من الناس الذين سيطالعون هذه الأشياء؟ ويقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن ما كاد هذا الجهاز يدخل بيتاً حتى شرعت كل البيوت لاحتضانه حتى البيوت الفقيرة المعدمة التي ربما يعوزها القوت اليومي، يقتطعون من قوتهم ليأتوا بهذه الأجهزة، ودخل هذا الخبيث وترفع في أزهى وأفضل مكان في صدر الدار بلا مقدمات، وانتشر في بيوت المسلمين انتشار النار في الهشيم.

الآثار الأخلاقية السيئة للتلفاز

الآثار الأخلاقية السيئة للتلفاز إن الآثار والبصمات التي يطبعها هذا الجهاز على الأسرة إنما تسري وتنطبع في نفوسهم بهدوء وبطء وخفاء، ولا تظهر على مدى يوم أو يومين وإنما تظهر بمرور الوقت في صور ما يسمى بمشكلات التلفزيون. لا شك أنه من المعلوم والملاحظ أن حال الناس -ولا حول ولا قوة إلا بالله- في يوم الإجازة ارتياد المساجد لصلاة الجماعة، لكن عندما يكون في نفس الوقت مباراة مهمة -كأنهم سيفتحون عكا وفلسطين والقدس- تجد المساجد خاوية، وتجد دروس العلم خاوية، حتى رواد المساجد يفتنون بهذه الصورة، ويضيعون صلاة الجماعة من أجل هذا الخبيث. تجد النزاعات العائلية، دمر كل شيء، إذا دخل بيتاً أذن بخرابه، إذا دخل قرية أذن بخرابها، قطع الأواصر، وأفسد وخبب بين الزوجات والأزواج، وأثار النزاعات بين الآباء والأبناء، فمثلاً: إذا أراد الآباء -مراعاة للمروءة ومن باب الحكمة والوقار والهيبة- منع أولادهم من النظر إلى شيء معين إذا بالأولاد يقاومون، ومن ثمَّ تحصل النزاعات والصراعات بين أفراد الأسرة الواحدة، الأبناء يتشاجرون على القناة التي يريدون أن يروها، ثم إصرار الأبناء على السهر وانصرافهم عن واجباتهم محاكاة وتقليداً لما يرونه من العنف والعدوانية، وأيضاً ما يقع من كثير من الشباب -وهم قد صاروا بالتلفزيون أطفالاً صغاراً غير راشدين- صاروا يعانون من النقص، ويحاولون إكمال هذا النقص عن طريق التقليد والمحاكاة. لقد دمر التلفزيون الكثير من القيم والأخلاق الإسلامية، ولنذكر مثالاً على ذلك: شرع الله تبارك وتعالى الاستئذان، وما الحكمة من تشريع الاستئذان؟ قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] إلى آخر الآية في سورة النور، حتى لا يطلعوا على العورات، وقد دمر التلفزيون هذه الحرمة، وضيع الحكمة من تشريع الاستئذان، أمر الشرع الأولاد والأطفال أن يستأذنوا قبل الدخول على الأبوين في أوقات خاصة من أجل الستر والصيانة والعفاف، لكن هذا الجهاز الخبيث هتك هذه الأستار، ولم يعد لهذه الأمور احترام ولا صيانة ولا سرية ولا ستر، بل تكشفت المرأة في هذا الجهاز بصورة مبتذلة ورخيصة، وفي إسفاف بالغ. إذا تأملنا حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها حينما كانت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والرجال والنساء قعود عنده -الرجال أمامه والنساء في الخلف-، فقال عليه الصلاة والسلام: (لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟ فأرم القوم -سكت الصحابة وأحرجوا من هذا-، فقالت أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: إي والله -يا رسول الله- إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون -اشتكتهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: نعم -يا رسول الله- يفعلون ذلك، الرجال يتحدثون، والنساء أيضاً يفعلن نفس الشيء فيما بينهن- فغضب النبي عليه الصلاة والسلام والسلام فقال: فلا تفعلوا -لا يتحدث الرجل ولا المرأة بما يكون بينهما من أمور خاصة- فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون)، فتأملوا هذا المثال فيما ضربه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ضربه فيما يكون بين الزوجين، وهذا يكون في حدود ما أحل الله تبارك وتعالى، فكيف إذا كان الذي يكشف ذلك هما شيطانان حقيقة من شياطين الإنس، وإذا كان الكلام في الحديث هنا في مجرد الحكاية فكيف إذا انضمت إليها المشاهدة والعياذ بالله، وقد قيل: حسبك من شر سماعه. فكيف برؤيته؟!

مسئولية المسلمين تجاه أطفالهم

مسئولية المسلمين تجاه أطفالهم يتصور بعض الناس أن تربية الأطفال تقتصر على أن يطعمه الطعام الجيد ويلبسه الملابس الجيدة وغير ذلك، ولا يلتفت إطلاقاً إلى مسئوليته في تربية هؤلاء الأولاد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، فليست المسألة تطوعاً ولا نافلة، بل إن هذا واجب، وسوف تحاسب عليه وتسأل أمام الله عنه. يقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته)، ويقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. يقول الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله: الولد أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق. ويقول الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى حجاً ولكن يعوده التدين أقربوه ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وأيضاً في هذا الزمان أبواه يتلفزانه، فيجعلانه عبداً للتلفزيون ومفاسد التلفزيون. إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب فإذا نشأ على الفساد لا يصلح بعد ذلك فيه شيء. ودور الأب والأم الآن بسبب هذا الجهاز الخبيث في انحسار شديد جداً، فالأب مشغول بالعمل، وربما الأم -أيضاً- تخرج للعمل، ثم يصبح الأطفال فريسة لهذا الجهاز الذي يتسلمهم وهم في طور التكوين عجينة رطبة يشكلها كيفما يشاء، ويتحكم فيها كاتبو برامجه، وقد يكون هؤلاء الكتاب من مرضى النفوس الذين يسقطون أمراضهم إسقاطاً نفسياً خلال كتابتهم، وحسب موقف الأب يكون موقف الابن، إذا كان الأب يصيح في الولد ويهجره ويزجره: كيف تنظر إلى التلفزيون؟ ثم إذا به هو يغلق الحجرة وينظر فما من شك أن هذه القدوة السيئة ستؤثر في موقف الابن من هذا الجهاز. لكن إذا كان الأب يحكي لأولاده ويعلمهم أن هذا الجهاز الخبيث جهاز حافل بالمعاصي التي تغضب الله تبارك وتعالى، فيحذر ابنه باستمرار، ويبغضه في هذا الخبيث، حينئذ يصبح الموقف الطبيعي للابن أن يكره أيضاً هذا الجهاز، فيتعالى عن مشاهدة شيء لا يرضي والده؛ لأنه يثق بوالده ويقلده. أيضاً الطفل عاجز عن أن يقوم بدور الرقابة على نفسه وحمايته مما يؤذيه في دينه أو دنياه، وهذه مسئولية أبيه، والأطفال ليسوا هم من يشتري الجهاز؛ لأنهم لا يستطيعون ذلك، وليسوا هم الذين ينتجون الأفلام والبرامج، فإذاً لابد أن يكون هناك رقابة وحماية من الأب لهذه الرعية المسكينة من أن تسقط فريسة لهذا الجهاز الخبيث. والسلف رحمهم الله كانوا يهتمون اهتماماً شديداً بتربية الأولاد، حتى إن بعض هؤلاء في بعض العصور الإسلامية لما أتى بهم الحاكم بعدما سجنهم فترة فقال لهم: أخبرونا ما هو أشد شيء مر عليكم في هذا الحبس؟ فأجابوا جميعاً: ما فاتنا من تربية أولادنا. لأنهم كانوا في هذه الفترة بعيدين عن أولادهم ولم يراقبوهم، فكيف بهذا الأب المعتدي الظالم المفرط الذي يأتي بهذا الجهاز لهؤلاء الأطفال المساكين فيسقطون ضحايا، ثم يعاقب الأولاد بعدما يفعلون الجرائم بأن يدخلوا في أماكن الأحداث، هو الذي يستحق أن يسجن وليس هؤلاء الأطفال الضحايا بجهل وظلم أبيهم. فكم يقلق الأب إذا وجد ابنه قد ارتفعت حرارته وعانى من الحمى، أو حصل له اصفرار اللون، أو جرح عضو منه، ثم لا يبالي وهو يرى ابنه موغلاً في المعاصي التي تنتهي به إلى النار والعياذ بالله، ما الفرق بين أن تأتي ببرميل من البترول وتسكبه على ابنك وتشعل فيه النار وتحرقه، وبين أن تسلك به طريق جهنم بأن تجعل قدوته الممثلين والفنانين والساقطين والساقطات والراقصين والراقصات؟ فأنت تقتله، أنت تضر ولدك، وعدمك خير من وجودك؛ لأنه إذا كان يتيماً ربما وجد من يعطف عليه ويرحمه من هذا العذاب ويحميه، لكن أنت أب شرير حينما تأتي بالجهاز وتضعه أمام أبنائك، وكيف يجلس الأب الذي لا رجولة فيه؟! بل كيف يقبل أن يجلس وبناته وأبناؤه إلى جواره يشاهدون معاً المناظر الخليعة القذرة التي يفعلها هؤلاء الفاسقون المجرمون؟! ماذا يفعل؟!

من جرائم التلفاز في حق المسلمين

من جرائم التلفاز في حق المسلمين مما يؤسف له أيضاً أننا بين الحين والآخر نضطر إلى ضرب أمثلة حتى تتحرك النخوة في هذه العقول التي طارت منها النخوة، يحكي الأستاذ مروان كجك يقول: روى لي أخ كريم أنه زار أستاذه الجامعي في بيته، وكان هذا الأستاذ نصرانياً، فلاحظ الأخ أنه ليس لدى أستاذه تلفزيون، رجل يعبد المسيح، ويقول: إن الله ثالث ثلاثة فسأله: لماذا لا تضع تلفزيوناً في بيتك؟ فأجابه ذلك النصراني: أأنا مجنون حتى آتي إلى بيتي بمن يشاركني في تربية أبنائي؟! فالتلفزيون يعد الوالد الثالث الذي يحتل مرتبة في الأسرة تلي مرتبة الأب والأم، بل هي فوق مرتبة الأم والأب في بعض الأحيان، فهو ليس ضيفاً دائماً وإنما هو مشارك في مفعولية إعداد وتربية أبنائنا. وقاضي فرنسي يعمل في ميدان الأحداث يقول: لا يخالجني أي تردد في أن لبعض الأفلام وخاصة الأفلام البوليسية المثيرة معظم الأثر الضار على غالبية حالات الأحداث المنحرفين. وإننا لهذا لسنا بحاجة إلى البحث عن أسباب عميقة وراء السلوك الإجرامي عند هؤلاء الأطفال أو المراهقين، والمرأة الناجحة تصبح هي المرأة التي تتخذ المرأة التلفزيونية أسوة وقدوة لها، فلابد أن تعدل في شخصيتها، وفي طريقة كلامها، وفي ملابسها، حتى تتشبه بهذه المرأة التلفزيونية بقدر الإمكان، والبطلة دائماً تسكر، وتدخن، وتعربد، وتتبرج لكل غاد ورائح. أيضاً تلقن هذه البرامج الأطفال والمراهقين فنون الغزل منذ نعومة أظفارهم، كيف يعشقون، كيف يكون لكل ولد بنت يمشي معها ويصاحبها ويدرس أخلاقها، وكل ما يجري من المفاسد المعروفة التي تفسد على المسلمين بيوتهم. أيضاً يجعل المشاهير ممن يسمونهم نجوماً في عالم السينما والمسرح والرقص والملاهي الليلية يجعل هؤلاء هم المثل الأعلى، ويرسخ في أذهان الأجيال أن الراقصات والفنانات والممثلات ونجوم الكرة أهم بكثير من العلماء والشيوخ والدعاة والمدرسين والمهندسين والأطباء، ويكفي أن تلمح مظاهر الحداد لموت فنان أو فنانة وتقارنها بموت شيخ أو عالم أو داعية من دعاة الإسلام. كنت مرة في مطار جدة فسمعت طفلاً صغيراً يصيح بكلمة ما فهمتها، وكأنه يقول: (لولاك) أو: (لولاك حبيبتي) فلفت نظري، ولما نزلت في مطار الإسكندرية سمعت أطفالاً آخرين في المطار يقولون نفس الشيء ونفس الكلمة، وأمشي في الشوارع أسمع الأطفال يرددونها، فسألت: ما معنى هذه الكلمة؟ قالوا: هذه أغنية مما يذاع ويشاع، والأطفال يرددونها ويترنمون بها. ومن الجرائم الكبرى للتلفزيون تزوير التاريخ الإسلامي، وتشويه بعض الصحابة أو الفاتحين أو المجاهدين كـ هارون الرشيد، وإذا ذكر هارون الرشيد ذكرت معه الجواري والخمور والمعازف، مع أن هذا الخليفة العظيم كان غازياً حاجاً، يحج سنة ويجاهد في سبيل الله سنة، وهو الذي قال لـ نقفور ملك الروم لما غدر به فكتب إليه الجواب يقول فيه: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم: وصلني كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع يا ابن الكافرة. وجهز له جيوشاً وأدبه تأديباً، تلك كانت عزة الإسلام، ولما رأى السحابة في السماء قال لها: أمطري أو لا تمطري فسيأتيني خراجك. فحتى نبغض الخلافة الإسلامية ننظر إلى الأتراك العثمانيين على أنهم محتلون، وأن الأتراك هؤلاء هم الاستعمار العثماني، يبغضوننا في أمجادنا، وفي نفس الوقت يضخمون أمامنا فساق الشرق والغرب والمغنيين ولاعبي الكرة والفارغين والتافهين؛ لكي يضعوا الحواجز بيننا وبين أمجادنا التي أخرجت خير أمة أخرجت للناس.

شبهات المقتنين للتلفاز والفيديو

شبهات المقتنين للتلفاز والفيديو

شبهة كون التلفاز للترويح عن النفس بعد العبادة

شبهة كون التلفاز للترويح عن النفس بعد العبادة من الشبهات التي يتشبث بها بعض الناس: (ساعة لربك وساعة لقلبك)، والحقيقة أن هذه هي قسمة ضيزى، هي ساعة أو سويعات أو دقائق أو ثوانٍ لربك إن كانت لربك، وساعات وأيام طوال وليالٍ لشيطانك، أو إن شئت: ساعة لربك وساعة لقلبك المريض بالنفاق والفساد. وكأنها شركة تقسم، وهل أنت تعبد إلهين؟ أين أنت من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163]. فالإنسان لا بأس بأن يروح عن نفسه لكن في اللهو المباح والبريء، ولا يشترط حتى يشعر الإنسان بالسعادة أن يعصي الله تبارك وتعالى، هناك صور كثيرة من الرياضات النافعة من اللهو المباح البريء الخالي من المعاصي يمكن أن تروح بها عن نفسك.

شبهة كون الأبناء قد أدمنوا على التلفاز

شبهة كون الأبناء قد أدمنوا على التلفاز بعض الناس يقولون: فات الأوان، الوقت متأخر جداً لإنقاذ أبنائنا وانتشالهم من هذا المستنقع الآثم، فهم أشربوا في قلوبهم حب التلفزيون، وغرقوا في إدمانه، فلا أمل في الخلاص بعد ذلك. والجواب هو في قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وفي قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، فالبداية هي النية الصادقة الجازمة، والعزم الأكيد على التوحيد الإيجابي، ثم التوكل على الله والسير حثيثاً في طريق مرضاته، ولنكن على يقين أن من ترك شيئاً لوجه الله أبدله الله خيراً منه، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه الله تبارك وتعالى هرولة. حتى في البلاد الأوروبية وأمريكا الغالب على استعمال الفيديو وهذه الأجهزة الأشياء النافعة جداً، برامج كاملة تعليمية، وفيها آيات من آيات الله تبارك وتعالى النافعة، واكتشافات علمية، وعلوم كثيرة جداً تدرس من خلال الفيديو وأجهزة الفيديو، لكن هنا ما علم عن هذا الجهاز الشرير إلا الخبث والفساد، وكأنهم لا يصدرون إلينا إلا هذه الأشياء التي تحطم ديننا وتحصيناتنا الأخلاقية. فالغالب عليه الفساد، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا أبداً ولو زينها بمائة ثوب، ففي الحقيقة ما عرفنا عن الفيديو والتلفزيون إلا الفساد، أما البرامج النافعة فهذا يخدع نفسه، أين البرامج النافعة؟ حتى لو كان فيه نفع فهو كالخمر والميسر {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]. والقاعدة الفقهية المأخوذة من الحديث هي (لا ضر ولا ضرار)، وهذا ضرر يقيني في الدين، وإلا فمن يتخيل أنه يفتح التلفزيون ولا يسمع منه موسيقى، أو ينظر إلى امرأة فاسقة متبرجة، هذا بغض النظر عما عدا ذلك مما ذكرنا بعضه. فلا يخلو أبداً من فساد، هو شر كله ولا شك في هذا، ومن يغالط في هذا فهو إنسان مكابر، نحن نرى الآن في هذا الزمان من شدة الفساد الذي طغى على التلفزيون أناساً غير ملتزمين بالدين، وربما لا يصلون، وتجد الواحد منهم يعمد إلى التلفزيون ويحطمه ويكسره لما رآه بعينه قد أوقع بين أولاده فساداً وتطبيق الدروس التي يرونها من الانحلال والفساد. فنحن لا نوجه كلامنا إلى الحكومة أو السياسيين أو الإعلاميين أو المنتجين أو المخرجين، ولكن هؤلاء إذا استمروا سادرين في غفلتهم مصرين على انحرافهم فما من شك أنهم ما أجبروك على أن تأتي بالجهاز في البيت، وتخرج من قوت أولادك وتشتري أحد هذين الجهازين الخبيثين أو كليهما، أنت الذي أتيت به، وأنت المسئول عن هذا المنكر، ما أجبرت عليه، أنت الذي أضرمت النار في نفسك وأولادك. فإن كنت لا ترعوي ولا تنزجر بمثل هذا فلنحك هذه الحكاية -ونختم بها الحديث- لعلك تتخيل أنك حينما تدرج في أكفانك وتنكشف أمامك الحجب وترى الملائكة وتدرج في قبرك فلعل هذه الرؤيا الصالحة أو الصادقة -بتعبير أدق- التي رآها بعض الناس من قبل ممن كان قد أقتنى جهاز التلفزيون ثم مات تنفعك. هذه القصة قصة شيخ كبير في السن كان سبباً في هداية أسرة بكاملها، كانت هذه الأسرة غافلة لاهية تقضي معظم وقتها أمام شاشة التلفزيون لمشاهدة الصور المحرمة، ومسلسلات الحب والغرام والهيام، فما هي تفاصيل القصة؟ يحكي هذا الشيخ فيقول: في يوم من أيام شهر رمضان المبارك كنت نائماً في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلاً أعرفه من أقاربي قد مات، ولم أكن أعلم أن في بيته تلفزيوناً، جاءني وأنا نائم في المنام فضربني بقدمه ضربة حتى كدت أن أصرع من ضربته، وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي وقل لهم بأن يخرجوا التلفزيون من بيتي. قال الشيخ: في نفس الرؤيا كنت أرى التلفزيون في جانب من البيت وكأنه كلب أسود والعياذ بالله. قال: فاستيقظت من نومي مذعوراً واستعذت بالله من الشيطان الرجيم وعدت إلى نومي، فجاءني في المنام مرة ثانية وضربني ضربة أقوى من الأولى، وقال لي: قم واذهب إلى أهلي وقل لهم أن يخرجوا التلفزيون من بيتي ولا يعذبونني به، قال: فاستيقظت مرة ثانية وهممت أن أقوم، ولكنني تثاقلت وعدت إلى نومي. فجاءني في المرة الثالثة وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين وقال لي: يا فلان! قم واذهب إلى أهلي وقل لهم بأن يخلصوني مما أنا فيه خلصك الله. قال: فاستيقظت من نومي وعلمت أن الأمر حقيقة، فلما صليت التراويح من ذلك اليوم ذهبت إلى بيت صاحبي وهو قريب لي، فلما دخلت إذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا عليه ينظرون إليه وكأن على رؤوسهم الطير، فجلست، فلما رأوني قالوا مستغربين: ما الذي جاء بك -يا فلان- في هذا الوقت؛ فليس هذا من عادتك؟ قال: فقلت لهم: جئت لأسألكم سؤالاً فأجيبوني: لو جاءكم مخبر وأخبركم أن أباكم في نار جهنم أو يعذب في قبره، هل ترضون بذلك؟ قالوا: لا. ندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب. قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم، فانفجروا جميعاً بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز التلفزيون وكسره تكسيراً أمام الجميع معلناً التوبة، ولكن القصة لم تنته بعد. قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم فقال لي: خلصك الله كما خلصتني. هذه عبرة من الواقع المشاهد وقعت مع هذا الرجل. فمن منا يريد أن يخلصه الله؟ وهذا الرجل وجد من يخلصه فربما أنت لا تجد من يخلصك، تموت وتدرج في أكفانك وتصير وحيداً في قبرك ثم تبقى هذه السنة السيئة التي أحدثتها وتركتها تفسد عليك أولادك وتبعدهم عن ربهم وتقطع عليهم الطريق إلى الله. إن التلفزيون قاطع الطريق إلى الله، فهو يقطع عليك الطريق إلى الله، ويبعدك عن طاعة الله تبارك وتعالى، فلا تقل أبداً: أنا أضبطه، وأنا أتحكم فيه. إنما هو الذي يتحكم فيك، لا تقل أبداً: أنا أتركه وأثق من أولادي. كلا؛ النساء ضعيفات القلوب، وربما أحياناً العقول، حتى المسيح الدجال عندما يخرج فإن الرجال يقيدون النساء بالحبال ويوثقونهن بها في البيوت من شدة افتتانهن بالمسيح الدجال، فكيف تعرض زوجتك للفتنة؟ كيف تعرض بناتك للفتنة؟ كيف تعرض أولادك لعشق الممثلة الفلانية، والتلذذ بالنظر للمذيعة الفلانية، وتسلم قلوبهم لهذه السموم ثم تحسب بعد ذلك أنك على شيء؟! فالتوبة بابها مفتوح لمن أراد النجاة، ولا سبيل في مجتمعنا للتعامل مع هذا الجهاز إلا أن تعمد الآن إلى تكسيره وتلقيه على المزبلة في المكان اللائق به، متى يأتي هذا اليوم الذي نجد أكوام القمامة كدست فيها أجهزة التلفزيون في توبة جماعية من جميع المسلمين حتى ينزل الله علينا المطر الذي أمسكته السماء؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن -كان يتعوذ أن يدرك هذه الأيام- لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا من قبل، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).

مشاهد الاستهتار في التلفاز

مشاهد الاستهتار في التلفاز من الأمور الخطيرة جداً في التلفزيون الاستهتار بالقيم الإسلامية، بل ربما يوقع الناس في الكفر والعياذ بالله، إذا تحدث عن حكم شرعي بطريقة فكاهية معينة وضحك الناس هلكوا وراحوا إلى النار واستحقوا عذاب الله إن لم يتوبوا ويسلموا من جديد، حينما يأتي شخص بآية قرآنية ويسخر منها ويضحك الناس عليها ويضحك الغافلون الجاهلون يقعون والعياذ بالله في الردة، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. وفي مشهد راقص هابط ساقط يردد أحد المجرمين الفاسقين عبارة أمام الراقصة -والعياذ بالله- يقول فيها: أستغفر الله. أو: اللهم! صل على النبي. وهل هذا مقام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو في الأغاني يغنون ويقولون: صل على النبي عليه الصلاة والسلام. إن النبي بريء منهم ومن أفعالهم أخزاهم الله.

شبهة كون التلفاز للتسلية فقط

شبهة كون التلفاز للتسلية فقط هناك بعض الشبهات يذكرها بعض الناس، ومع أنها شبهات ضحلة لكن سوف نتوقف قليلاً لنجيب عليها. بعض الناس يقول: التلفزيون مجرد تسلية وقضاء وقت فراغ وليس أكثر، وليس كما تزعمون! فالجواب أن علماء النفس أنفسهم يؤكدون أن الشيء الذي لا يأخذه الإنسان مأخذ الجد هو الذي يؤثر فيه أبلغ الأثر، فالترفيه التلفزيوني ليس أمراً ثانوياً يمكن التهوين من شأنه، التلفاز مثل الماء والنار له جاذبية، وله سحر؛ لأنه يتحرك ويسحر ويقلب الألباب، ويتواطأ فيه الشكل مع المضمون. يقول الباحث الألماني مارتن كارلي هيتر: إن أطفال اليوم ليسوا مشاهدين فقط، وإنما هم شركاء في الأحداث والتمثيل، فهم يعيشون الحدث ويشاركون فيه، ويتأثرون بالتجربة تأثراً واقعياً حياً، فهذا مثل الأفعى ناعمة الملمس لكن بداخلها السم الزعاف، كما يقول الشاعر: إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب فليس جهاز التلفزيون مجرد تسلية، بل هو عبارة عن مرب وموجه وصانع لهذه الأجيال التلفزيونية، وهذه حقيقة ندركها وليس كلاماً خيالياً، واسألوا السجون، واسألوا الأحداث، واسألوا صفحات الجرائم في الجرائد عن ثمار التلفزيون وأثرها على الأولاد.

شبهة مشاهدة البرامج الدينية

شبهة مشاهدة البرامج الدينية بعض البسطاء يقول: أنا أشتريه من أجل البرامج الدينية، ونور على نور. وفي الحقيقة هو ظلام في ظلام، حتى البرامج الدينية لا تخلوا من التشويش ومهاجمة الإخوة الملتزمين، والتشنيع على الدعاة إلى الله، ووصفهم بالتطرف. فهذه الندوة والمسرحية التي يسمونها (ندوة الرأي) التي تدار من وراء الكواليس وكل واحد يحفظ فيها دوره كالدمى التي تحرك لكي يصلوا عن طريقها إلى هدف معين. إن التلفزيون يعاني من ازدواج الشخصية، فيفتتحونه بالقرآن الكريم من باب ذر الرماد في العيون، حتى إذا ما اعتراض معترض قيل له: نعم له مساوئ ولكن له أيضاً محاسن. فيختارون الأوقات -كما يذكر الباحثون- غير الملائمة تماماً لتكون منفرة بحيث لا يجلس إليها الناس، وأوله قرآن وآخره قرآن، وما بين ذلك عبادة للشيطان، نفس الجهاز الخبيث الذي يذيع القرآن الكريم هو هو الذي يذيع الرقص والغناء والفساد المحلي والمستورد بألوانه المتعددة تعدد ألوان الطيف. إذاعة إسرائيل تذيع القرآن، إذاعة لندن تذيع القرآن، وأنت إذا ركبت سيارة أجرة مع بعض الناس في السفر يبدأ بنفس برنامج الإذاعة، أول شيء يقرأ الركاب الفاتحة، ثم يفتح شريط القرآن، ثم بعد ذلك إذا بالأغاني والفساد والفسق طوال الرحلة، فهو اتجاه سائد، رجل يريد أن يفتتح مشروعاً معيناً يأتي بالمقرئ يقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]. وإن كانت معاهدة صلح قرأ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، وإن وقعت حرب يقول: لا أدري وافعلوا كذا، ويأتون بالآيات القرآنية، لكي تبرر هذه التصرفات. فمن يتأمل مساحة البرامج الدينية المزعومة مقارنة بمساحة البرامج الأخرى لا يمكن أن يتخيل أن هذا التلفزيون في بلد أو في مجتمع يدين شعبه بدين الإسلام، بل بدين آخر يعنى به القائمون على هذا الجهاز الخطير. متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم

منهاج أهل السنة في تقييم الرجال

منهاج أهل السنة في تقييم الرجال إن الخوض في أعراض الناس إثم عظيم، وأعظم منه الخوض في أعراض العلماء؛ لذا سلك أهل الحديث في تقييم الرجال منهجاً قويماً لم يسبقهم إليه أحد من الأمم، وهذا المنهج له قواعد مبنية على العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وعلى العلم الذي هو معرفة الشيء على حقيقته.

أهمية العدل والإنصاف كميزان في الحياة

أهمية العدل والإنصاف كميزان في الحياة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). رواه مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين) المقسطون: هم العادلون كما فسرها صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث، فبدأ الحديث بقوله: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور)، ثم قال في آخره: (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، ففسرها في آخر الحديث بأن المقصود بـ (المقسطين): العادلون، والإقساط والقسط: العدل، يقال: أقسط إقساطاً إذا عدل، ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]. وأما بفتح الياء وكسر السين قسط يقسط قسوطاً وقسطاً فهو قاسط وهم قاسطون فيعني الجائرون الظالمون، أما المقسطون فالعادلون، ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:15] يعني: وأما الجائرون الظالمون (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)، فقوله: (إن المقسطين -يعني: العادلين- عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن) يعني: يجلسون على منابر، وسمي المنبر بهذا الاسم لارتفاعه، فهم على منابر حقيقة، ومنازلهم رفيعة عن يمين الرحمن عز وجل، وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي يسلك فيها مسلك السلف الصالح، ونقول فيها: نؤمن بالله وبما جاء من عند الله، على مراد الله عز وجل، ونؤمن بهذه الصفات أن لها حقيقة، وإن كنا لا يمكن أن ندرك كيفية اتصاف الله تبارك وتعالى بها، فهذه صفات الله عز وجل تعرف بها إلينا، وما علينا إلا أن نثبتها كما أراد الله، وبلا كيف، مثل قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت صفة السمع والبصر، وفي نفس الوقت رفع علم الكيفية وقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يعني: ليس كالله شيء. فأي شيء من آيات أو أحاديث الصفات مهما حاولت أن تجتهد، أو تصل بعقلك إلى تخيل صورة لها، فلابد أن تقطع حتماً أن الله عز وجل على خلاف هذه الصورة التي يمكن أن تتخيلها، فكل ما تتخيله فالله جل وعلا بخلافه، فإذا قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فليس كالله تبارك وتعالى شيء، فلا يعلم كيف هو إلا هو تبارك وتعالى، فلذلك علينا أن نيئس تماماً وأن نيئس العقول ألا تطمح أبداً في أن تعرف كيفية اتصاف الله تبارك وتعالى بهذه الصفات، ثم نحن لا نشبه الله بخلقه، وفي نفس الوقت لا نعقل صفات الله تبارك وتعالى. بعض الناس إذا سمعوا نصوصاً في صفات الرب عز وجل تبادر إلى ذهنهم المعنى الذي يليق بالمخلوقين، فيستبشعونه فيقعون في التشبيه أولاً، ويترتب على التشبيه أن يستبشعوا هذا الوصف، فالبتالي يلجئون ويفرون إلى التعطيل، فينفون صفات الله تبارك وتعالى، ولو أنهم من البداية ما شبهوا لما وقعوا في الورطة الثانية، وهي ورطة التعطيل، أما السلفيون الموحدون فإنهم يقولون كما قال سلفهم الصالح: آمنا بالله، وبما جاء من عند الله، على مراد الله، ونحن نقول أيضاً كما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. تنبيه: جاءت وصف الله تبارك وتعالى باليمين كما في قوله تبارك وتعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وفي هذا الحديث يقول: (وكلتا يديه يمين)، وهذا تنبيه على أن اتصاف الله تبارك وتعالى بهذه الصفة لا كاتصاف المخلوقين، بل كلتا يديه تبارك وتعالى يمين، فيده لا تشبه صفات المخلوقين التي تستحيل في حق الرب عز وجل. (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) هذا الجزاء، وهذا الفضل العظيم، وهو أن يتبوأ هؤلاء المقسطون منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وحتى ينال الإنسان هذه الفضيلة فلابد أن يتصف بصفة العدل. ويقول صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -جعل أولهم- إمام عادل) فكل ما تقلده الإنسان يجب أن يعدل فيه؛ من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة أو نظر على يتيم أو صدقة أو وصف، وأيضاً فيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته). الشاهد: أن من اتصف بصفة العدل وعمل بها فيما يتولاه من أمور؛ فإن جزاءه عند الله ما ورد في هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). هذا العدل الذي نوه به هذا الحديث، ووعد عليه هذا التشريف والتعظيم، لا يقتصر فقط على الإمارة أو الخلافة، أو ولاية الرجل أهله، والمدير مع موظفيه وهكذا، وإنما ينبغي أن يتصف به الإنسان في كل شيء حتى في حكمه على الأمور، وتقويمه للناس ولمنازلهم، وحكمه على الأفكار والمؤلفات والشيوخ، وهكذا ينبغي أن يتصف الإنسان بالعدل كما أمر الله تبارك وتعالى في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] فهذه الآية توضح منهجاً عظيماً يجعل العدل لازماً أصيلاً من لوازم الإيمان؛ فقد بدأ الخطاب في الآية بمخاطبة المؤمنين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم يشترك فيها إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم نظام الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الدين من خلاق، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة. هذا قانون من قوانين وسنن الله في هذه الحياة الدنيا: أن الدولة التي تقوم على العدل فإنها تمكن ويقوم أمرها، والدولة التي تقوم على الظلم -حتى لو كانت مسلمة- فإنه لا يقوم لها أمر، وإن كانت تجازى بالإسلام في الآخرة. ونحن نحتاج أيضاً إلى العدل والإنصاف حينما نرجع إلى منهج السلف الصالح لنزن الأمور كلها بالميزان القسط، حيث أصبحت الأهواء اليوم هي التي تتحكم بالآراء والتوجهات، حتى أن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحبهم وإن كانت كبيرة، ويسوغها ويلتمس لها المعاذير، بل قد تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن في نظره، ويجعل محبوبه في أعلى المنازل؛ ولا يقبل فيه نقداً أو مراجعة، وفي المقابل تراه إذا أبغض أحداً لهوىً في نفسه، أو تقليداً لغيره؛ جرده من جميع الفضائل، ولم ينظر إلا إلى سيئاته وزلاته، فيفخمها وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بينة، فالاضطراب ليس فقط في تقويم الرجال بل أيضاً في عالم المؤلفات والمصنفات، ترى بعض الناس إذا رأى خللاً في كتاب ما رمى به عرض الحائط، أو إذا رأى شيخاً زل في مسألة فلا يعرف هذا الشيخ إلا بهذه الزلة، كأنه ليست له محاسن على الإطلاق، ولا يقبل منه أي شيء، ويقول: الشيخ صاحب البدعة الفلانية. الشيخ سالك الخطأ الفلاني في الكتاب الفلاني. ولا يلتفت إلى أنه ينبغي أن يلتزم بقوله عز وجل: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8]. فعامل الهوى وغيره من العوامل تجعل الإنسان يميل وينحرف عن ميزان العدل، وميزان القسط، فبعض الناس إذا رأى خللاً في كتاب من الكتب رمى به عرض الحائط، وشن على مؤلفه وعلى من اقتناه أو قرأه غاره، وهو في ذلك مغفل إغفالاً شديداً الجوانب الإيجابية التي قدمها صاحبه. أما إذا كان هذا الكتاب لأحد ممن ينتمي إلى حزبه مثلاً، أو إذا كان مرضياً عنده؛ فإنه يرفع الكتاب فوق منزلته، ويغض الطرف عن زلل المؤلف أو تقصيره؛ ظناً منه بأنه إن اعترف بوجود بعض جوانب النقص في هذا الكتاب فإن هذا يحط من قيمة صاحبه، أو يقلل من شأنه، وقد قيل: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا لم يقف الخلل الفكري والقصور المنهجي عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أعظم من التنازع و

أصول المنهج القويم في الرجال والمصنفات والآراء

أصول المنهج القويم في الرجال والمصنفات والآراء لشيوع هذه الظاهرة حاول بعض الباحثين أن يعالجها، ويسد هذه الثغرة، وهناك قضايا فكرية كثيرة مهمة جداً ما زالت تحتاج إلى حسم، وإلى وضع ضوابط وموازين، هذه الثغرة هي ثغرة المنهج القويم في الحكم على الرجال، أو تقويم الرجال والمصنفات والآراء وغير ذلك في ضوء موازين ومنهج أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية، هذه الثغرة حاول بعض الكتاب أن يعالجها، ومن ذلك هذا البحث الذي نلخصه لكم اليوم لندرته أو لعدم وجود هذا الكتيب، وهو إعداد الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان: منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم. يذكر في أول بحثه أنه يعالج فتنة الظلم والجور في الحكم على الرجال والكتب والمناهج.

ورع اللسان

ورع اللسان إذا ضعف ورع اللسان أو انحرف أو زال عن الإنسان؛ فإنه يتجرأ على الخوض في أعراض الناس، فيتجرأ في بعض الأحيان ويطلق الأحكام جزافاً بدون تثبت، فيجرح أو يعدل ويخطئ ويصوب، وربما سمع شيئاً في حق من هو مخالف له فلا يتفطن إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع)، فنتسمعه يردد كل ما يسمع لموافقته هواه، ويظن أنه ليس عليه عهدة في ذلك لأنه يروي عن الآخرين، ويظن أنه لا يخوض في عرض إخوانه، ويظن أن الرواية عن الآخرين تشفع له، وهذا ظن خاطئ، فالواجب عليه أن يتثبت في ذلك، فهو داخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع)، فليس كل ما تسمع ترويه وتنقله وتعتمده، ولا يشفع لك أنك تقول: إنما أروي عن غيري؛ لأن هذا هو عين ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام، فقوله: (كفى بالمرء كذباً) فيه توضيح أن عين الكذب أن تحكي وتروي بدون تثبت، وهذا ينشأ منه كثير من الفتن، والخوض في حقوق المسلمين لا يجوز؛ ولأن الكلام وافق هواه فهو ينقله عن الآخرين بحجة أن هذا كلام سمعه، وأنه لم يختلقه، والرسول يقول: (كفى بهذا كذباً) يعني: ليس كذباً أصرح من هذا. فينبغي التثبت تماماً مع من لا تحب كما تتثبت في حق من تحب، وحسن الظن بالمسلمين واجب، فكل المسلمين سواء من هؤلاء أو هؤلاء ينبغي أن تنضبط بميزان العدل معهم، بعض الناس تراه يجرح ويعدل ويخطئ ويصوب قبل أن يستوعب الأمر، وقيل: أن يجمع أطرافه ويدرسه من جميع جوانبه، فيغلب على أحكامه الجور وعدم القسط، وحينما تتفلت الألسنة من قيود الشرع والعقل فإنها تتبارى في الوقيعة في أعراض المسلمين، وتجلب العداوة والبغضاء بين الأحباب، ولو تأمل الإنسان ما ورد في مثل هذا من النصوص لتردد كثيراً قبل أن يزل لسانه ليرمي به من هنا ومن هناك، يقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، فيا ويح غافل وليس بمغفول عنه! (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ)، ولو أنك بكل ذنب ترتكبه بلسانك رميت حجراً في غرفة لامتلأت هذه الغرفة في زمن يسير جداً بالأحجار؛ بحيث لا تتسع بعدها لشيء آخر، فالإنسان في غفلة عن هذا الذي يحصى عليه كل يوم، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!). من أجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الضمان الذي يؤمن لك دخول الجنة هو حفظ اللسان، يقول صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة). يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن العجب! أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين وبالزهد وبالعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب. وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، وتزداد الخطورة ويعظم الذنب إذا كان هذا القدح الجائر في العلماء، فهم سادة الأمة وقادتها ونورها، ولا خير في قوم لا يعرفون لعلمائهم قدرهم. وفي هذا الزمان قد ابتلينا بهذه الجماعات التي تبدأ تعرض وتزين وتزخرف فكرها للآخرين ليقبلوا عليه، وأول ما يهتمون به هو تحطيم علماء المسلمين في نظر الشباب، وأكل لحوم العلماء بالغيبة والنميمة والبهتان أحياناً، والتنقص من شأنهم، والازدراء لهم، والتطاول عليهم، وهذا من أعظم الذنوب، والله عز وجل يعجل لفاعله العقوبة؛ لأن الطعن في علماء المسلمين ذنب عظيم، يقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة. فعادة الله وسنته جرت أن كل من يتناول ويقع في أعراض علماء المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى جرت سنته أنه لابد أن يهتك ستر من هتك ستر أئمة العلم والهدى، فقوله: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة. يعني: من أكل منها هلك ومات، وأهلكه الله تبارك وتعالى، يعني: من أكل منها بالغيبة والنميمة؛ فلا ينبغي أبداً أن يقر أحد على التطاول على علماء المسلمين، أو هتك أعراضهم، أو الخوض فيهم بغير حق، بل ينبغي أن تحمل أقوال العلماء وأفعالهم على أحسن وجه ممكن، ويجتهد الإنسان في ذلك، وهو مثاب على هذا الاجتهاد وإن أخطأ. الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى له كتاب (الرد الوافر)، وقد طبع الكتاب الشيخ زهير جزاه الله خيراً، وكأنه تعمد ألا يكمل عنوان الكتاب على الغلاف؛ لأن هذا الكتاب هو في على العلاء البخاري الذي تطاول على شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إن من قال: ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر! فرد الإمام ابن ناصر الدين عليه بهذا الكتاب القيم جداً، والذي لا يليق بكم ألا تقرءوه، والعنوان هو: الرد الوافر على من قال: من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر! فمراعاة لحرمة شيخ الإسلام ما أتم الشيخ زهير طبع العنوان على الغلاف، لكن سماه فقط الرد الوافر، ويقول الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى في هذا الكتاب: لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فأعراض المسلمين حفرة من حفر الناس، ومن وضع قدمه في أعراض المسلمين فقد وضعها على شفا جرف هار يخشى أن ينهار به في نار جهنم، وكما قال أحد الحكماء: يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه وعثرته في الرجل تبرى على مهل إذاً: العلاج الأول للجور في الحكم على الآخرين: ورع اللسان، والخوف من الله تبارك وتعالى، وخوف العقوبة من التطاول بغير حق في أعراض العلماء.

أهمية التجرد من الهوى

أهمية التجرد من الهوى لا يصح تقويم أي رجل من الرجال أو مؤلف من المؤلفات بمقررات سابقة، فلا يقبل الإنسان على قراءة البحث وهو يحمل فكرة في ذهنه، وغير مستعد لأن يتنازل عنها أو تهتز عنده، فهو يبيت خلفيات معينة، ومن خلالها ينظر لهذا البحث، فهذا يجعل الإنسان لا ينظر بتجرد إلى البحث، بل يميل عن الحق ميلاً واضحاً، فهو لا ينظر إلى المرء بمجموع أعماله، بل يتغاضى عن المحاسن، ولا يقع بين عينيه إلا الهفوات، بل قد يعطيها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح. فلذا كان التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب، ومثال عدم التجرد: حينما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه، لقي النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال لهم: (أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: ما تقولون فيه لو أنه دخل في دين الإسلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك! فخرج عليهم عبد الله بن سلام وقال لهم: يا معشر اليهود! أنتم تعلمون أن هذا هو النبي الذي جاءت صفته في التوراة، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا، وأجهلنا وابن أجهلنا!) في الحال انقلبت هذه الموازين؛ لأنهم مقيمون على الباطل ولا يريدون أن يتحولوا عنه، فالتجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب. يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135] فالهوى من الأنواع الخفية التي تتسلل إلى قلب المرء تدريجياً حتى تسيطر عليه من حيث لا يشعر، فهو باب عريض من أبواب الضلال يجثم على صدر الإنسان، ولا يولد إلا الجور والظلم في أحكام المرء، يقول تبارك وتعالى مخاطباً نبيه داود عليه السلام: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، وآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) والقرآن دائماً يأتي بالوحي في مقابلة الهوى كما في هذه الآية: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى} [ص:26]. ويقول أيضاً: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119]، ويقول عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، ويقول تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، لذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يسمون أهل البدع والتفرق الذين يخالفون الكتاب والسنة: أهل الأهواء؛ لأنهم قبلوا ما أحبوه، وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدىً من الله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يحب لحب الله ورسوله في ذلك، ولا يرضى لرضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا ما حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وأنه الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض لدين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصده الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة؛ فليس مجاهداً في سبيل الله. يعني: أنه ممكن أن يوافق الحق ويتحمس له، لا لأن البحث المتجرد أدى إلى أن هذا حق، لكن لأن الطائفة التي ينتمي إليها يقولون بهذا القول، ولأن من يحيطون به يقولون بهذا القول، أو ينتصر للحق ليثنى عليه به، ولا يقول ذلك خالصاً لله بل لغرض من الدنيا، فهذا ليس مجاهداً في سبيل الله، ولا يفعل هذا لله، لكن يرى الحمية لطائفته التي ينتمي إليها، أو الحزب الذي ينتمي إليه، أو ليقال عنه: شجاع أو جريء، أو عالم، أو لينال غرضاً من الدنيا؛ فهذا ليس عاملاً لله، وليس مجاهداً في سبيل الله، وإن كان يدافع عن حق، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو نظيره أيضاً معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة، فالمقصود: أن التجرد بالقول والعمل وسلامة القصد، مقصد مهم في تقويم الرجال وأعمالهم، فينبغي أن يقصد بالبحث أو الكلام وجه الله عز وجل، والنصيحة للمسلمين، كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. وينبه شيخ الإسلام أيضاً تنبيهاً مهماً جداً إلى أمر النية في ذلك فيقول رحمه الله: وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد منه بيان الحق، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم، لم يكن عملهم صالحاً، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبةً وتعزيراً، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام. فالهجرة المقصود منها معالجة هذا الشخص، وزجره عن المعصية أو الباطل أو البدع، وليس المقصود منها التشفي منه، وإنما المقصود الإحسان إليه بهجره لينبذ هذا الضلال، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر، ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق. وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق، وغايته النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين، وإن جعل الحق تبعاً للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق، قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). فالعلم والعدل أصل كل خير، والظلم والجهل أصل كل شر، والله تبارك وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم، فقال سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]. يقول الإمام الفذ ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: هيهات هيهات؛ إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقبها هوى لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك، لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك. وقديماً كان سلفنا الكرام رضي الله عنهم يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.

معرفة الرجال بالحق

معرفة الرجال بالحق يقول الحافظ ابن حزم رحمه الله: التقليد على الحقيقة: إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير برهان، فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليداً، فقام البرهان على بطلانه. وقال الشوكاني رحمه الله في التقليد: هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة، فثمرة التقليد إهمال النصوص الشرعية، وتعطيل العقل البشري، فالإنسان يرى بعين غيره بدون معرفة دليله، ولسان حاله يقول: إن إمامه قد اقتبس شعلة من نور العصمة، فلا يمكن أن يفوته حديث، ولا يمكن أن يفوته فهم حديث؛ فيصبح فكر الإنسان أسيراً لا حراك به، ليس له قدرة على التأمل أو التفكير أو النظر، وإن وجد فيه بقية من تأمل أو فكر فإنه يسخرها لتحليل أقوال شيخه ودراستها، فمنها المبدأ وإليها المنتهى! كثير من النزاعات والخلافات التي تحدث بين العلماء وبين طلبة العلم قديماً وحديثاً حصلت بسبب هذا التقليد، والتعصب لأقوال الرجال، ومعرفة الحق عن طريق أقوال الرجال، وجعلها حجة في كل صغيرة وكبيرة. يقول الإمام ابن القيم: اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة. فمسألة التقليد والتعصب لأقوال الرجال خطأ كامن وخطير جداً في منهج التلقي، فينبغي تجاوز أقوال الرجال، والتحرر من هذا الداء العضال إلى تقديم قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وما يعلم أحد من الأئمة الربانيين إلا وقد نهى عن تقليده، وأخذ كلامه بدون برهان، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر. ربيعة شيخ الإمام مالك يعرف بـ: ربيعة الرأي، واسم أبيه فروخ، خرج هذا الأب إلى الجهاد وبقي سنوات طويلة، وكان ربيعة ما يزال حملاً في بطن أمه، ثم ولدته أمه وعلمته حتى صار إماماً، وقصته طويلة معروفة، يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم به ائتمروا! يعني: يتحسر لحال بعض العلماء لاتصافهم بالرياء الظاهر، والشهوة الخفية، وأن الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، والعلماء هم الذين يتولون صياغتهم وتربيتهم. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت. وقال مالك بن أنس رحمه الله: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. وبعض تلامذة الإمام مالك كان يحضر مجلسه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر عن الإمام مالك أنه إذا تكلم وناظره أحد في مسألة وناقشه في الدليل، فكان يرفع صوته بهذه العبارة المشهورة: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، ويضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الشافعي رحمه الله: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي، وجعل يردد هذا لكلام. وقال الإمام أحمد: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال أيضاً: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا. فهذا هو منهج الأئمة الكرام بصفائه ونقائه، ومع وضوح هذه القضية عند أهل العلم إلا أن شريحة كبيرة من الأمة تعاني من هذا الداء المستحكم، ليس فقط في مسائل الفروع، لكن أيضاً في مسائل الأصول وأمور العقيدة. يقول الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق، الحق هو حق لأن فلاناً قاله، وليس حقاً لأنه قام عليه الدليل، والعاقل يقتدي بسيد العقلاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال: لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله، والعاقل ينظر في القول نفسه فإن كان حقاً قبله، سواءً كان قائله مبطلاً أو محقاً، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالماً بأن معدن الذهب الرغام، والرغام هو التراب، فالذهب تحصل عليه من التراب، فكذلك حتى لو كان في أقاويل أهل الضلال شيء من الحق فتأخذ هذا الحق ولا تعرض عنه. قال: ولا تأس على الصراف إذا أدخل يده في كيس القلاب. لماذا؟ لأن الصراف ناقد وبصير يستطيع أن يميز الذهب من غيره. قال: وانتزاع الإبريز الخالص من الزيت والبهرج دون الصيرفي البصير، ويمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق. أي: فيمنع من الدخول في البحر الشخص الأخرق الذي لا يحسن السباحة، لكن السباح الماهر يسمح له بذلك حتى يغوص ويستجلب الدرر. قال: ويصد عن مس الحية الصبي دون المغرم البارع.

كل بني آدم خطاء

كل بني آدم خطاء صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فالخطأ صفة لازمة للبشر، لا ينجو منها أحد عدا الأنبياء المعصومين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولو نجا من هذه الخصلة أحد لنجا منها خير البشر بعد الأنبياء وهم الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فبعض المبتدعة يرون أن الخطأ والإثم متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، لكن أهل السنة والجماعة يرون أن المجتهد المخطئ مأجور غير مأزور؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، أما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون -لأنهم لا يريدون أن يخطئوا الأئمة كما يفعل الرافضة- وتارة يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يأثمون. يقول الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء، فالشخص النبيل هو الذي تعد أخطاؤه، وتكون معدودة، فلا يوجد إنسان بدون خطأ: من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط يقول ابن القيم رحمه الله: وكيف ينجو من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً، ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصلاح ممن عدت إصاباته.

الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات

الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات إذا تبين أن الإنسان معرض للصواب وللخطأ، فلا يجوز لنا مهما كانت منزلته أن نطرح جميع اجتهاداته، بل ننظر إلى أقواله؛ فما وافق الحق منها نلتزمه، ونعرض عن أخطائه، فعين الإنصاف أن توازن بين الإيجابيات والسلبيات، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75]. فالله عز وجل يذم اليهود من حيث العموم، لكن في الوقت ذاته يبين تبارك وتعالى أن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة ولا يخونها، وهؤلاء قليلون فيهم، من أجل هذا يقول عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. بلقيس لما كانت كافرة وقالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]، في بعض وجوه التفسير أن قولها: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، هو من عند الله عز وجل، وأنه أقر بلقيس على ما قالته وإن كانت كافرة، لكن لأن هذا حق، ولذلك يقول بعض الشعراء: لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص فمن أجل ذلك ينبغي أن يتصف الإنسان بالإنصاف. يقول الله عز وجل وهو يذكر صفات بعض أهل الكتاب مبيناً منهج العدل والإنصاف: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] يعني: مال الأميين أو الأمميين أو الجويين -وهم كل من عادى اليهود- حلال، {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75]. وجاء في صحيح البخاري في حديث طويل فيه قصة رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل التمس مركباً ليركبه ليقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، وكان قد قال له صاحب المال: أريد شهيداً، قال: كفى بالله شهيداً، قال: أريد كفيلاً، فقال: كفى بالله كفيلاً؛ فأقره على ذلك، وأخذ منه هذا القرض، فلما أراد الرجل أن يؤدي إليه المال، وحاول أن يصل إليه بالمركب في الموعد ما استطاع، فلما عجز أتى بخشبة، وجعل فيها تجويفاً ووضع فيها الألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم أصلح موضعها ولحمها، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فوضع الآخر الخشبة في البحر، ودعا الله أن تصل إلى الرجل، فإذا بالرجل صاحب المال خرج في الموعد ينتظر المركب لأجل أن يسدد له الدين، فوقف ينتظر المركب فما رأى مركباً، وما أتى الرجل في الموعد، فحينئذ وجد الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله كحطب يحتطب به، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار مرة أخرى، فقال: والله! ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به، فقال: فإن الله قد أدى عنك، وبعث بالخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً، فهذا مثل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75]، فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء بما هم فيه من خير حتى وإن كانوا أعداء. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ويعلمون -يعني: أهل السنة- أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس الفلاسفة، وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناً، كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين، وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75]، فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء حتى وإن كانوا أعداء بما هو فيهم حقيقة. وقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فالله سبحانه وتعالى أثبت النفع في الخمر والميسر، وهو ما يحصل من الربح المادي نتيجة التجارة فيهما، ولكنه حرمهما لغلبة مفاسدهما على هذه المنافع. وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن) فمع أنه وصفه بأنه خير، لكن خالطه دخن، فأدرجه في جملة الخير، (قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)، فأثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن بينهم؛ فالعبرة بكثرة المحاسن وغلبتها. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في شرب الخمر، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله! ما علمت أنه يحب الله ورسوله). كلمة: (ما)، هنا موصولة بمعنى الذي، أي: لا تلعنوه؛ فإن الذي أعلمه منه أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الصحابي رضي الله تعالى عنه زلت قدمه وتكررت منه هذه المعصية، ولكن هذا لا يعني أنه فاسد بالكلية، بحيث تهمل الصفات الحميدة الأخرى التي توجب محبته وموالاته. فلابد أن يعرف للمحسن إحسانه، وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف، فلا يجوز أن يغلب جانب النظر إلى المعصية على جانب النظر إلى الطاعات وبقية الحسنات والفضائل، فهذا هو الحد الفاصل بين أهل السنة والخوارج، فالخوارج يكفرونه، ويتبرءون من فعل المعصية، ويعدونه قد خرج من الملة تماماً، ويعادونه كما يعادون الكافر، بل ربما يكونون على أهل الإسلام أشد منهم على أهل الأوثان، كما جاء في صفتهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان. وهذا من شدة انحرافهم عن هذا الأصل القويم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة رضي الله عنه في حق الشيطان الذي علمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان إذا أراد أن ينام: (أما إنه صدقك وهو كذوب)، فانظر إلى الإنصاف؛ مع أنه شيطان، لكنه كان صادقاً في هذه الجزئية، فوصفه بالصدق مع أن الأصل فيه أنه كذاب، فأثبت الصدق للشيطان الذي ديدنه الكذب، ولم يمنع ذلك من اتباع الخير الذي دل عليه، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ضمن فوائد هذا الحديث: ومنها: أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها، وتؤخذ عنه فينتفع بها، وبأن الكذاب قد يصدق. كذلك السلف الصالح أيضاً رسخوا وأصلوا هذا الأصل الأصيل، فمن ذلك قول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله يعني: من كان الخير الذي فيه أكثر من الشر الذي فيه، فيعفى عن النقص؛ لأجل غلبة الخير فيه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من المروءة جبر نقص ذوي الهيئات)، وجاء في حديث صحيح: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) أي: الشخص الذي يعلم من غالب أحواله الاستقامة إذا زل مرة أو مرتين ما لم يكن حداً من حدود الله تغاضوا عنه، ولا تؤاخذوه به؛ لأن الغالب عليه الخير. وقال ابن المسيب: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله. وقال محمد بن سيرين: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره. وقال عبد الله بن الزبير الحميدي رحمه الله: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة، فقلت: فمن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي، وكان أحمد قد جالسه بالعراق، فلم يزل بي حتى اجترني إليه -حتى يحضر عنده- وكان الشافعي قبالة ميزاب الكعبة، فجلسنا إليه، ودارت مسائل، فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ -أي: كيف رأيت الإمام الشافعي رحمه الله؟ - فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه. أي: جعل يذكر الأخطاء التي أخطأ فيها الإمام الشافعي في أثناء هذه المناظرة، قال: وكان ذلك مني بالقرشية -يعني: كان ذلك حسداً مني للإمام الشافعي رحمه الله تعالى- فقال لي أحمد بن حنبل: فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟ تمر مائة مسألة يخطئ في خمس منها أو عشر هل من العقل أن تترك خمسة وتسعين مسألة من الصواب، وتتمسك بخمس؟ ألا يساوي الشافعي عندك إلا هذه الأخطاء الخمسة؟! اترك ما

منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال

منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال العلم المتعلق بالرجال يسمونه: علم الجرح والتعديل، ومعلوم أنه لا يوجد منهج بشري على الإطلاق يملك عشر معشار هذا المنهج التوثيقي الدقيق الذي قدمه لنا أئمة الحديث رضي الله عنهم أجمعين. يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان وهو يصف معالم هذا المنهج: لسنا ممن يوهم الرعاع ما لا يستحله، ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفاً، بل نعطي كل شيخ حظه مما كان فيه، ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح. محاور هذا المنهج متعددة، وتفاصيلها تراجع في مظانها من كتب الحديث والمصطلح، لكن هنا إشارة عابرة إلى ثلاث مسائل حتى يتبين لنا بها مدى عدلهم وإنصافهم رحمهم الله. المسألة الأولى: تقويم المبتدعة: فالعلماء ينظرون في الراوي إلى جهتين: جهة الضبط والإتقان، وجهة الصدق، فإذا توافرت فيه هاتان الصفتان اعتمدت رواية الراوي حتى لو كان ممن عرف تلبسه ببدعة غير مكفرة تخالف منهج السلف الصالح، وكانوا يقولون: لنا صدقه وعليه بدعته؛ لأنه عرف بالصدق، لاسيما إن كان خارجياً يعتقد أنه يكفر لو كذب، وإن كان قد وجد أيضاً كذب في الخوارج، لكن هذا في حق من قبلوه من أهل البدع إذا ثبت صدقه، فليس هذا تهوين من أمر البدع وأهلها، وإنما تعظيم للعدل، واعتراف بالحق لأهله. يقول الإمام الطبري رحمه الله: لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة، ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنهم ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه مجرد الاتهام. فالقدح هكذا جزافاً لا يصح، لكن ينبغي التحري والتدقيق في هذا. ويقول الحافظ ابن حجر: فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه؛ فلا مانع من قبوله. فلذلك لا نعزب إذا رأينا بعض علماء الحديث وأئمتهم حتى البخاري نفسه قد يروي لبعض أهل البدع لتوفر هاتين الصفتين: الصدق والضبط، فهذا يدل على عظم العدل الذي اتصف به هؤلاء السلف في تقويمهم للرجال مع شدتهم على أهل البدع، وحساسيتهم في هذه المسألة. ولذلك نجد شيخ الإسلام نفسه أحياناً كان يعترف بفضائل المبتدعة إذا ثبتت عنهم، ولا يتردد في ذلك، يقول رحمه الله: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار؛ فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً. فانظر إلى دقة فهم شيخ الإسلام، وشدة إنصافه في هذا الباب. نجد أيضاً في صفوف من ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية أخذهم على بعض الجماعات أنهم ينتشرون في كل أقطار العالم كجماعة التبليغ، حتى في داخل روسيا وجنوب أفريقيا وأمريكا وأوروبا وكل العالم؛ ينتشرون للدعوة إلى الإسلام على بعض البدع التي يتلبسون بها، ولهذا يقولون: كيف يعلمون الناس إسلاماً بهذه البدع؟ فالأولى أن من يرى فهماً أصح للإسلام أن ينشط نشاطهم ويتحرك حركتهم، لكن مع الكسل نتفرغ فقط للرثاء لحال هؤلاء الذين يسلمون على أيديهم، وهذا كلام شيخ الإسلام يقول: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار، ويكون آثماً بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين، وذلك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير، وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين؛ فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخص منها وهي بدعة أهل السنة. ثم يقول شيخ الإسلام في نفس الباب رحمه الله: والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأزين، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم، وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض. ومن جميل ما سطره يراع الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه سير أعلام النبلاء، وهو من أنفس كتب الرجال وأعظمها، يقول رحمه الله: غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن. هذه هي المسألة الأولى فيما يتعلق بتقويم أهل الحديث في تقويم المبتدع. المسألة الثانية في منهج أهل الحديث: أن الخطأ اليسير في جنب الصواب الكثير مغفور: فالحكم يكون على غالب مرويات الرجل، وضبط الراوي شرط أساسي من الشروط، لكن هذا لا يعني سلامته من الخطأ تماماً، بل ينظر إلى مجموع ما يرويه الرجل، فإذا كان الغالب على ما يرويه السلامة من الخطأ؛ اعتبر الراوي ضابطاً وقبلت روايته، لكن إذا كثرت الأخطاء، ومخالفة الراوي لغيره من الثقات؛ رد حديثه. يقول سفيان الثوري رحمه الله: ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ، وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك. ويقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا خلاف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة. فهذا لا يترك حديثه، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه. وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما رأيت أحداً أقل خطأ من يحيى بن سعيد، ولقد أخطأ في أحاديث، ثم قال: ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟! وقال أبو عيسى الترمذي: وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان، والتثبت عند السماع؛ مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط أحد من الأئمة مع حفظهم. وقال الحافظ ضياء الدين المقدسي: ولو كان كل من وهم في حديث اتهم؛ لكان هذا لا يسلم منه أحد. المسألة الثالثة والأخيرة من ضوابط أهل علم الحديث في الحكم على الرجال، وهي مهمة جداً، وقل ما يتفطن لها كثير من الناس، وهي: أن كلام الأقران يطوى ولا يروى: فقد يحصل أن بعض الأقران المتقاربين في السن والعلم ممن يكونون في عصر واحد يحصل بينهم شيء من الاختلاف لسبب من الأسباب، فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعض دون عدل أو تأن، حتى أن الواحد منهم قد يصف غيره أحياناً بأوصاف يعلم يقيناً أنه بريء منها، ولكن حب الذات والانتصار للنفس يذكي فيه روح الغيرة والاعتداء، من أجل ذلك كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون الجرح بين الأقران، إذا تبين لهم أن سبب صدوره نزاعات شخصية بين الطرفين، والعبرة بالأدلة والبراهين، صحيح أن الجرح مقدم على التعديل، لكن إذا كان الجرح ناشئاً عن خصومة مذهبية أو عصبية، أو نوع من التحاسد، وثبت ذلك؛ فلا يقبل هذا الجرح، ولا ينبغي أن يحكى، لكنه يطوى ويخفى، فهذه الصورة أيضاً لا تقف عند المحدثين، بل قد تتعداه في مثل هذا العصر إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية؛ فبعض الناس قد يعجب مما يراه في كتب بعض علماء الدعوة السلفية من الخلاف والمساجلات والمحاورات الشديدة؛ لأنهم ينحرفون عن هذا المنهج، ولكن كلام الأقران يطوى ولا يحكى، فالمنهج القسط: أن ينظر إلى الخلفيات التي تبنى عليها الأحكام، ومن ثم توزن بما يقتضيه الحال من التحري والإنصاف حتى لا يتهم أحد بما ليس فيه، فليس كل جرح مؤثراً، وليس كل اتهام مقبولاً، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه. قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: هذا باب غلط فيه كثير من الناس، وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب: أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه. يقول الإمام الذهبي: كلام بعض الأقران في بعض لا يعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لذكرت من ذلك الشيء الكثير. وذلك مثل ما حصل بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح، وبين السيوطي والسخاوي، وهكذا في كل عصر تحصل مثل هذه الأشياء، فإذا تناطحت ا

أمثلة تطبيقية لتقويم الرجال

أمثلة تطبيقية لتقويم الرجال أخيراً وقبل أن نطوي بساط هذا البحث نذكر أمثلة تطبيقية لتقويم الرجال، فنلاحظ في كلام العلماء في تقويم الرجال التورع والتحري والعدل والإنصاف، فنجد بعض النقاد من علماء الحديث قد يضعف أباه أو ولده أو قريبه إذا كان يستحق ذلك، ولا يداري ولا يداهن؛ فإن المنهج أغلى من أولئك الرجال، يقول شعبة: لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان؛ كان ختني -قريباً له- ولم يكن يحفظ. وسئل علي المديني عن أبيه فقال: سلوا غيري. يعني: لا يريد أن يتكلم في أبيه، فأعادوا فأطرق ثم رفع رأسه فقال: هو الدين، يعني: هي مسئولية الدين، فكأن هناك تحفظ من أن يوثق أباه في الرواية أو من ناحية حفظه مثلاً، حتى مع أبيه، فهذا تصديق لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135]، فهو يتحرج من أن يقع في أبيه، ويستخدم كل وسيلة ليهرب من هذا الأمر، وفي نفس الوقت يقول: هو الدين. وأبو داود السجستاني كان يكذب ابنه ويقول: هو كذاب لا تقبلوا روايته. وقال عبيد الله بن عمرو: قال لي زيد بن أبي أنيسة: لا تكتب عن أخي؛ فإنه كذاب. وقال الذهبي: لو حابيت أحداً لحابيت أبا علي، لمكان علو روايته في القراءات عنه؛ لأنه صاحب الروايات العالية في القراءات التي أخذها عنه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى. ونذكر مثالاً في معرض حديث شيخ الإسلام عن أبي ذر الهروي، وهو أحد الرواة المشهورين لصحيح البخاري، يقول: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف. ثم ذكر بعض أصحابه ممن فيهم نظر، وفيهم بعض البدع، ووضح أيضاً ما هم عليه من الخطأ في هذه الأبواب. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الإمام أبي محمد بن حزم رحمه الله: كذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات، فإنه يستحمد فيه موافقة أهل السنة والحديث، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن الكريم وغيرها، ولا ريب أنه موافق له في بعض ذلك، لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن الكريم والصفات. وكذا يفصل الإمام ابن تيمية القول في حق الإمام الكبير ابن حزم رحمه الله، ثم يقول في النهاية بعد أن ذكر بعض المؤاخذات: وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدافعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام، ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره، فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف، والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء. كذلك انظر إلى كلام الذهبي في ترجمة القاضي أبي بكر بن العربي مشيراً إلى وقوع القاضي أبي بكر بن العربي في ابن حزم رحمه الله، فقال بعدما مدح القاضي أبا بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم، وأحفظ بكثير، وأصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق كغيره من الأئمة، والإنصاف عزيز. أيضاً يقول الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم: وكان قد مهر أولاً في الأدب والأخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيراً ليته سلم من ذلك، ولقد وقفت له على تأليف يحض فيه على الاعتناء بالمنطق، ويقدمه على العلوم؛ فتألمت له، فإنه رأس في علوم الإسلام، متبحر في النقل، عديم النظير، على يبس فيه، وفرط ظاهرية في الفروع والأصول، وصنف في ذلك كتباً كثيرة -أي: في المذهب الظاهري- وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله؛ بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين -يعني: كأنهم عملوا منها عقداً فيه درر ثمينة وفيه خرز مهين- فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزءون! وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار. اهـ أيضاً الإمام أبو إسماعيل الهروي له كتاب معروف اسمه: ذم الكلام، وكتاب في التصوف اسمه: منازل السائرين شرحه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين، والإمام الهروي ممن يلقب بشيخ الإسلام، لكن الحافظ ابن القيم استدرك عليه في كتابه مسائل عديدة، وتعقبه في ألفاظ مختلفة، يقول الإمام ابن القيم في بعض المواضع التي ما استطاع أن يتجاوز عنها وهو يشرح كتاب الإمام الهروي: في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يجبره حسن حال صاحبه وصدقه وتعظيمه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له. ولذلك تجد الفرق بين عبارات الإمام ابن القيم في بعض الطبعات من كتاب مدارج السالكين، وبين عبارات بعض علماء الدعوة السلفية، فقد كانت عباراتهم شديدة جداً في مثل الإمام الهروي، ففي الغالب الشباب يميلون إلى هذه الشدة ويتجاوبون معها، ولا ينضبطون بهذا الذي نتحدث فيه الآن، وهو العدل والإنصاف، فتجد من السهل جداً أن تخرج منهم كلمة الكفر والشرك، ويوصف رجل بأنه صوفي؛ فيظن أن كلمة صوفي تطلق دائماً على أهل الإلحاد والاتحاد، وتعني كذا وكذا، وهذه لفظة مشتبهة، وينبغي أن تفتش عن المعنى المقصود لمن اتصف بها؛ لأنها كلمة تحتمل عدة معانٍ، وبسط هذا له موضع آخر. يقول ابن القيم في بعض الألفاظ قبل أن ينتقده شيخ الإسلام حبيب، ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: عمله خير من علمه، أي: عمل الهروي خير من علمه. وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله رسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ في هذا الباب لفظاً ومعنى. ثم في موضع آخر يستنكر ابن القيم على الهروي بعض هذه المواضع ويقول: ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه، وإساءة الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل، وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، والكامل من عدّ خطؤه، ولاسيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا إلا أقلهم على أودية الهلكة. ومن هذه النماذج أيضاً، وهو نموذج واضح جداً ونحتاجه كثيراً، نقد العلماء لكتاب إحياء علوم الدين لـ أبي حامد الغزالي، وكتاب قوت القلوب لـ أبي طالب المكي، يقول شيخ الإسلام بعد كلام طويل في حق الإحياء: والإحياء فيه فوائد كثيرة، ولكن فيه مواد مذمومة، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: أبو حامد أمرضه الشفاء! وهو كتاب لـ ابن سيناء اسمه الشفاء في الفلسفة فكانوا يقولون: إن أبا حامد لما قرأ في كتاب الشفاء أمرضه. يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في الإحياء أيضاً: وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء، ومنحرفي الصوفية نسأل الله علماً نافعاً. ويقول أيضاً: الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ، ويقول الذهبي أيضاً: رحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله؟ ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول. فهذان إمامان من أئمة أهل السنة؛ شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الذهبي رحمهما الله يثبتان الاضطراب والانحراف في منهج أبي حامد الغزالي رحمه الله، ولم يمنعهما ذلك من تقرير الجوانب الإيجابية في منهجه الفكري إحقاقاً للحق، وإتماماً للعدل المأمور به شرعاً، فإذا فقدنا هذه الضوابط التي ذكرناها، تشيع الاتهامات وتكثر الافتراءات، ويصل الحال عند بعض الناس إلى أن يرموا بالكتاب جملة وتفصيلاً، وقد يتطاولون بألفاظ السب والتجديع لمؤلفه. منهج أهل

تفسير آية الكرسي

تفسير آية الكرسي إن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي؛ ففيها من المعاني ومن صفات الله وأسمائه وتنزيهه ما لا يحيط به إنسان، ولا يسطره بنان. ومن تأمل هذه الآية وتدبرها ظهر له من هذه المعاني ما يُعرّفه بقدر هذه الآية، وفضلها وعلوّ منزلتها، فحريّ بكل مسلم أن يحفظها، وأن يعي تفسيرها؛ ليكون له عند الله الثواب العظيم، والأجر الجزيل.

فضل آية الكرسي

فضل آية الكرسي

آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن

آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن لآية الكرسي مكانة عظمى، ومنزلة رفيعة؛ لأنها اشتملت على أشرف المذكورات، وعلى أفضل المعلومات، كما أنها تتضمن توحيد الله جل جلاله، وتعظيمه وتمجيده، وذكر صفاته، ولا مذكور ولا معلوم أعظم من رب العالمين تبارك وتعالى. يقول الرازي رحمه الله: واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم، فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف، كان الذكر والعلم أشرف، وأشرف المذكورات وأشرف المعلومات هو الله سبحانه وتعالى، وكل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه، فإن ذلك الكلام يكون النهاية في الجلال والشرف. وآية الكرسي هي بهذه المثابة، وقد بلغت في الشرف أقصى الغايات وأبلغ النهايات. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي أنزل عليه القرآن الكريم قد بين فضل هذه الآية ومكانتها في عدد من أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم. ونحن نحاول أن نفرد هذه الآية بالتدبر والتأمل من خلال بحث مختصر للدكتور فضل إلهي حفظه الله تعالى بعنوان: (فضل آية الكرسي وتفسيرها). يذكر المؤلف أولاً: أن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم، فقد روى الإمام مسلم، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فضرب في صدري وقال: والله! ليهنك العلم أبا المنذر)، معناها: ليكن العلم هنيئاً لك، رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى. فخير الكلام كلام الرحمن جل جلالة، وخير ما نزل من كلام الله عز وجل: القرآن الكريم، وخير وأعظم آية في القرآن الكريم: آية الكرسي، فما أعظم شأنها، وأجلّ منزلتها، وأعلى مكانتها! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الحديث، وعلى وصفه هذه الآية بأنها أعظم آية في كتاب الله: وليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي، وإنما ذكر الله في أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر عدة آيات لا آية واحدة. وهو هنا يشير إلى أن أوائل سورة الحديد وأواخر سورة الحشر تضمنتا من أسماء الله عز وجل وصفاته الكثير، لكن هذا أتى مفرقاً في عدة آيات، وإنما كلامنا هنا عن أفضل آية في القرآن.

آية الكرسي تتضمن اسم الله الأعظم

آية الكرسي تتضمن اسم الله الأعظم كذلك من فضائل هذه الآية المباركة: أن فيها اسم الله الأعظم، فلله تبارك وتعالى أسماء، وهي الأسماء الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها، ومن تلك الأسماء المباركة: اسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم أن اسمه الأعظم جل جلاله في آيات من القرآن الكريم، ومن تلك الآيات التي ذكر فيها ذلك: آية الكرسي. فقد روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في هاتين الآيتين: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} و {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]: إن فيهما اسم الله الأعظم). يستفاد من هذا الحديث أن اسم الله الأعظم هو: الله لا إله إلا هو الحي القيوم؛ لأن هذا هو القاسم المشترك بين هذين الموضعين في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي صدر آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]. وروى الحاكم عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اسم الله الأعظم لفي ثلاث سور في القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه) فالتمستها فوجدت في سورة البقرة قول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} آية الكرسي، وفي سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2] وفي سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]. فمن رغب في الدعاء باسم الله الأعظم ليستجاب له فليدعُ بما جاء في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، فمن توفيق الله سبحانه وتعالى للعبد أن يدعو الله عز وجل باسمه الأعظم؛ لأن الإنسان إذا دعا باسم الله الأعظم وتوسل به فإنه إذا سأل الله أعطاه، وإذا دعاه أجابه. والاسم الأعظم لله سبحانه يحتاج إلى بحث مستقل، وهناك خلاف كبير بين العلماء في تعيين اسم الله الأعظم، والروايات، في هذا كثيرة، وتستحق بالفعل أن نفردها ببحث مستقل إن شاء الله تعالى فيما بعد، لكن هذه إحدى الروايات التي تؤيدها بعض الأدلة في أن اسم الله الأعظم هو: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن اسم الله الأعظم هو: الحي، حيث قال: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها؛ ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا هو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتفى بالحي؛ لأنه لو لم يكن إلا اسمه الحي لاستلزمت حياته سائر الصفات. فرأي ابن تيمية: أن (الحي) هو اسم الله الأعظم. أما ابن القيم فإنه يرى أن اسم الله الأعظم هو: الحي القيوم، فقد قال: كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، هو اسم (الحي القيوم). من الروايات التي وردت في اسم الله الأعظم: دعاء ذي النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. ومنها: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) إلى آخر الدعاء، وموضعه بعد التشهد وقبل التسليم. وهناك عدة روايات في الاسم الأعظم، وتفصيل ذلك في موضع آخر.

آية الكرسي من أعظم ما يحصن العبد من الشيطان الرجيم

آية الكرسي من أعظم ما يحصن العبد من الشيطان الرجيم ومن فضائل هذه الآية الكريمة: أنها تحرز الإنسان وتحفظه من الشيطان الرجيم. فالشيطان يسعى إلى الإضرار بالعباد، والله عز وجل -وهو الرءوف بالعباد- شرع لهم أموراً تقيهم من شر الشيطان وتبعده عنهم. فمن تلك الأمور التي يتقى بها شر الشيطان: قراءة آية الكرسي، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قراءة آية الكرسي تبعد الشيطان عن قارئها وتحفظه من شره. من ذلك ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: لأذهبن بك وأشكوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال: رفعه إلى الحاكم، يعني: أحضره للشكوى، (قال: إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة)، يحتمل هنا أنه يعني: عليّ نفقة عيال، أو أن (علي عيال) بمعنى: لي عيال، قال: (فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟). أي: بادره النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال عن شيء لم يخبره به أبو هريرة، وإنما ذلك وحي من الله. قال: (قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود)، أي: أنه كان كاذباً في هذا الكلام، وسيعود مرة ثانية إلى هذا الفعل، قال: (فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته -أي: راقبته- فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني؛ فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود. فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجعل يحثوا من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح). قوله: (فإنك لن يزال عليك من الله حافظ) يعني: حافظ من عند الله، أو من جهة أمر الله تبارك وتعالى، وقوله: (ولا يقربنك شيطان حتى تصبح) هذا ضمان للحفظ من الشيطان. قال أبو هريرة: (فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح). وكان الصحابة رضي عنهم أحرص ما يكونون على الخير، فلم يكن أبو هريرة ليفوّت مثل هذه الفرصة التي أغراه فيها هذا الجني بأن يعلمه كلمات ينفعه الله بها. وكانوا أحرص شيء على الخير، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث: ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها. أي: إذا قرأتها في وضع من الأوضاع الشيطانية بصدق فإنها تبطل هذه الأحوال الشيطانية، مثل من يدخل النار بأحوال شيطانية، وبعض الناس الذين يزعمون أنهم يلقون أنفسهم في النار، ويكون في الأمر نوع من الأحوال الشيطانية، فإذا كان هناك شخص موجود وقرأ آية الكرسي فإن هذا يبطل، أو يحضر سماع المكاء والتصدية، فتتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاماً لا يُعلم، وكذلك في مثل هذا الموضع إذا قرأ الإنسان آية الكرسي فإنه يبطل الأحوال الشيطانية، ولذلك فإن القوم الذي ينشغلون بهذه الأحوال الشيطانية، يخافون جداً من أن يوجد أحد الحضور يذكر الله أو يقرأ آية الكرسي، ولا شك أن في هذا الحديث فضل عظيم لآية الكرسي. ومن ذلك ما رواه الإمامان أحمد والترمذي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (أنه كانت له سهوة فيها تمر)، والسهوة: هي الطاق في الحائط، يوضع فيها الشيء، وقيل: المخدع بين البيتين، وقيل: شيء يشبه الرف، وقيل: بيت صغير كالخزانة الصغيرة، وكل هذه الأشياء يُطلق عليه: سهوة، ولفظ الحديث يحتملها كلها، وإن كان بعض الطرق تُرجح أن المراد بالسهوة هنا: التعريف الأول، وهو الطاق في الحائط يوضع فيها الشيء. عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (أنه كانت له سهوة فيها تمر، فكان تجيء الغول فتأخذ منه)، والغول: مفرد الغيلان، وهي جنس من جن الشياطين، (فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب، إذا رأيتها فقل: باسم الله، أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأخذها، فَحَلَفَتْ ألا تعود، فأرسلتها، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ قلت: حلفت ألا تعود، قال: كذبت، وهي معاودة للكذب، فأخذتها مرة أخرى، فحلفت ألا تعود، فأرسلتها، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ قلت: حلفت ألا تعود، فقال: كذبت وهي معاودة للكذب، فأخذتها، فقلت: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى النبي صلى عليه وسلم، فقالت: إني ذاكرة لك شيئاً: آية الكرسي، اقرأها في بيتك، فلا يقربك شيطان ولا غيره) أي: لا يقربك شيء يضرك، سواء كان شيطاناً أو غيره، (فجئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ فأخبرته بما قالت، قال: صدقت وهي كذوب)، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وأقرّه الحافظ المنذري، وصححه الألباني رحمهم الله تعالى. وروى النسائي وابن حبان والطبراني والحاكم والبغوي عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أنه كان له جرين تمر)، وجرين التمر: هو موضع يجفف فيه التمر، (فكان يجده ينقص، فحرسه ليلة، فإذا هو بمثل الغلام المحتلم، فسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال: أجني أم أنسي؟ فقال: بل جني، فقال: أرني يدك، فأراه، فإذا يد كلب وشعر كلب، فقال: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد عَلِمَتْ الجن أنه ليس فيهم رجل أشدّ مني، قال: ما جاء بك؟ قال: أنبئنا أنك تحب الصدقة، فجئنا نُصيب من طعامك، قال: ما يجيرنا منكم؟ قال: تقرأ آية الكرسي من سورة البقرة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}؟ -يعني: أتحفظها؟ - قال: نعم، قال: إذا قرأتها غدوة أُجِرْتَ منّا حتى تمسي، وإذا قرأتها حين تمسي أُجِرْتَ منّا حتى تصبح). قوله: (غدوة) يعني: في الغدو، وهو الصباح. قال أُبي: (فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدق الخبيث). فالشاهد: أن هذا من فضائل آية الكرسي. وهذا الحديث قال فيه الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي، وقد ترجم الإمام ابن حبان هذا الحديث بقوله: ذكر الاحتراز من الشياطين -نعوذ بالله منهم- بقراءة آية الكرسي. إذاً: من وظائف آية الكرسي أنها تقال في أذكار الصباح والمساء، وعندما يأوي المسلم إلى فراشه لينام، فإنه إذا قرأ آية الكرسي، فإنه يصير معه حافظ من الله تعالى ولا يقربه شيطان حتى يصبح. وأيضاً: قراءة آية الكرسي في البيت تبعد الشيطان وغيره مما يضر الناس عن ذلك البيت. وكذلك قراءة آية الكرسي غُدوة -أي: في الصباح- تجير قارئها من الجن حتى المساء، وقراءتها مساء تجير قارئها منهم حتى الصباح.

من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى

من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى كذلك مما ثبت من فضل آية الكرسي: أن من قرأها بعد الصلاة المكتوبة فهو في ذمة الله تعالى إلى الصلاة الأخرى. فقد روى الإمام الطبراني عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله تعالى إلى الصلاة الأخرى)، وهذا حديث حسن. فما أعظم هذه الذمة! وما أوثقها وأقواها! فإنها ذمة الله سبحانه وتعالى القادر المقتدر، رب الخلق، ومالك الكون، ومدبر الأمر كله، إنها ذمة الله الذي لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، إنها ذمة الله الذي لا غالب لمن نصره، ولا ناصر لمن خذله، فعلى الراغبين في أن يدخلوا في ذمة الله أن يحرصوا على مداومة قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة.

قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة من أسباب دخول الجنة

قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة من أسباب دخول الجنة ومن فضائل ووظائف آية الكرسي أيضاًًًُ: ما بشّر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: أن من قرأها بعد الصلاة المكتوبة، لا يحول بينه وبين دخول الجنة إلا الموت. فقد روى الإمام النسائي وابن حبان والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت). وهذا الحديث قال عنه الحافظ المنذري: رواه النسائي والطبراني بأسانيد آحادها صحيح، وقال شيخنا أبو الحسن: هو على شرط البخاري وابن حبان في كتاب الصلاة وصححه، وأيضاً صححه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. قال الطيبي في شرح قوله: (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت): أي: أن الموت يكون هو الحاجز بينه وبين دخول الجنة، فإذا انقضى هذا الحاجز -الموت- حصل دخول الجنة، (لم يمنعه)، وهذا يدل على أن من أراد أيضاً أن يختم له بخير فليحرص على آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة، كما في فضيلة سيد الاستغفار: (أن من قرأه حين يصبح ثم مات من يومه دخل الجنة، ومن قرأه حين يمسي ثم مات من ليلته دخل الجنة). وقراءة آية الكرسي أحد أسباب دخول الجنة، واستحقاق الجنة أن يكون قد قرأ آية الكرسي في هذين الوقتين، أو يكون قرأ آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة. قال المُلاّ علي القاري: ويمكن أن يقال بالمقصود: أنه لا يمنع من دخول الجنة شيء من الأشياء ألبتة؛ لأن الموت في الحقيقة ليس مانعاً من دخول الجنة، بل قد يكون موجباً لدخولها، ويكون الوسيلة لدخول الجنة، فيكون تفسير هذا الحديث على مثل قول القائل: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلولٌ من قراع الكتائبِ فهل الناس الذين يصفهم الشاعر يُذمّون بهذا الكلام؟! A لا، بل هذا من المدح؛ لأن مما يدل على الشجاعة أن السيوف تكون فيها الخدوش نتيجة لكثرة القتال بها، فهذا فيه وصف لهم بالشجاعة. وأحياناً قد يمدح الإنسان من يحبه ويؤكد مدحه بما يشبه الذم، فمثلاً تقول: فلان ليس فيه عيب إلا أنه يموت، وهل كون الإنسان يموت هذا عيب؟! فيكون المقصود في هذا البيت: أنه لا عيب فيهم. فإذاً: هذا يشبه تفسير آخر الحديث: (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت)، يعني: لم يمنعه من دخول الجنة شيء ألبتة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، فقوله: (وما نقموا منهم) يعني: ما كرهوا وما عابوا عليهم إلا الإيمان، مع أن هذا مما لا يُكره ولا يُعاب. ولا شك أن هذا من الفضل العظيم لهذه الآية العظيمة -وهي آية الكرسي- وفعله يسير جداً، وفي نفس الوقت جزاؤه عظيم للغاية، فهل يخطر على قلب بشر جزاء أجلّ وأفضل من هذا الجزاء، وهو أنه إذا قرأ آية الكرسي استحقّ الجنة! ويبقى فقط أن يموت حتى يدخل الجنة! فهذا هو الفوز العظيم كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)

(الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء

(الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء إن آية الكرسي مشتملة على عشر جمل مستقلة، نذكرها بالترتيب: الجملة الأولى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} والكلام فيها على قسمين: أولاً: بيان أن (الله لا إله إلا هو) أساس دعوة جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فقوله: (الله لا إله إلا هو) هذا هو شعار الإسلام، وهذه كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله تبارك وتعالى. يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: وأما تأويل قوله: (لا إله إلا الله) فإن معناه: النهي أن يُعبد شيء غير الله الحي القيوم، الذي صفته ما وصف به نفسه تباك وتعالى في هذه الآية: (الله لا إله إلا هو)، فبدأ بلفظ الجلالة، ثم ذكر أهمّ شيء على الإطلاق في دعوة الإسلام، وهو هذا الشعار -شعار التوحيد-: (لا إله إلا هو). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: إخبارٌ بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلق. وقال البيضاوي: والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير. وقال القاضي أبو السعود: أي: هو المستحق للعبودية لا غير. وقال السعدي: فأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، فألوهية غيره وعبودية غيره باطلة. إذاً: معنى هذه الجملة: أن الله جل جلاله هو المتفرد في استحقاق العبودية، فلا يعبد أحد سواه كائناً من كان، بأي نوع من أنواع العبادات. فلا قيام ولا ركوع ولا سجود ولا ذبح ولا نذر إلا له وحده تعالى. ولا يُدعى في السراء والضراء واليسر والعسر والفرح والغمّ إلا الله سبحانه وتعالى. ولا يُستمدّ ولا يُستنصر ولا يُستغاث إلا به. ولا طواف إلا ببيته العتيق. ولا حلف إلا به، ولا حكم إلا له. ولا ندّ ولا نظير ولا شريك له في أي نوع من أنواع العبادات. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هذه كلمة النجاة، وهي مكونة من شقين: الأول: شق فيه النفي، وهو: (لا إله) يعني: نفي استحقاق العبودية والألوهية عن غير الله. الثاني: الإثبات، وهو: (إلا الله)، وهو إثبات استحقاق الألوهية لله الأحد جل جلاله. وقد أتى ذكر شهادة التوحيد بمعناها في بعض المواضع، مثل قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، وهي كلمة الشهادة، فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت) يعني: يحقق النفي، فيؤمن بأنه لا يوجد أحد ولا شيء غير الله يستحق أن يُعبد. وقوله: (ويؤمن بالله)، يعني: لا يصحّ إيمانك بالله حتى تبطل استحقاق العبودية لغير الله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]. وكذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [الزخرف:26 - 28] وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، لكنه هنا ذكرها بالمعنى: (إنني براء مما تعبدون) أي: أكفر بكل ما تعبدون من دون الله، (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)، وهذا هو نفس معنى: لا إله إلا الله. وهذا هو ما بدأت به آية الكرسي، وهو مفتاح وأساس دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فما بعث الله نبياً إلا أوحى إليه أنه لا إله إلا هو، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فهذه الكلمة مفتاح دعوة جميع الأنبياء والرسل، ولذلك كانت هذه الشهادة قاسماً مشتركاً بين جميع الأنبياء على الإطلاق، ولجميع الرسالات: لا إله إلا الله، ينضّم إليها شق آخر في الشهادة بإثبات النبوة والرسالة وهي: فلان رسول الله، ويختلف هذا من أمه إلى أمه، فمثلاً في عهد نوح كانت كلمة النجاة: لا إله إلا الله نوح رسول الله، وفي عهد موسى: لا إله إلا الله موسى رسول الله، وفي عهد عيسى عليه السلام: لا إله إلا الله عيسى رسول الله، ثم جاءت الرسالة الخاتمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لا ينجو الإنسان إلا إذا حقق هذين النوعين من التوحيد: توحيد المعبود -وهو: الله- وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله؛ لأن معنى أنك تشهد أن لا إله إلا الله: أنك تثبت أنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إلى الله، وأن من عبد أو وجه العبادة لغير الله فقد أشرك بالله واتخذ معبوده إلهاً من دون الله. فخلاصة الكلام: أن الشقّ الأول من كلمة التوحيد يدلنا على توحيد العبادة، فإذا قال قائل: يا رب آمنت أنه لا إله إلا أنت، وأنه لا ينبغي أن توجّه العبادة إلا إليك، إذاً: كيف يتعرف هذا على كيفية العبادة؟ وعن أي طريق يعرف ما يرضي ربه ليفعله؟ وما يسخطه ليتجنبه؟ وكيف يصلي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يزكي؟ وكيف يحج؟ وكيف يقوم بسائر العبادات؟ وقد أتى بيان هذا كله في الشق الثاني، وهو توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فلا يعبد الله بالأهواء، ولا بمقتضيات العقول فحسب، وإنما يعبده بالوحي الذي يوحيه الله للرسول الذي أرسله كي يعلمك كيف تحقق التوحيد. فإذاً: لابد من توحيدين: توحيد الله عز وجل، وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله، إذ لا يمكن أن يقبل الله من العبد عبادة إلا إذا كانت موافقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال القاضي ابن عطية في تفسيره: لما أخبرهم تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم، أتبع ذلك بإعلامهم أنه ما أرسل قط رسولاً إلا أوحى إليه أن الله فرد صمد، وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات، وإنما اختلفت في الأحكام، ولذلك نقول: إن لفظة التوحيد (لا إله إلا الله) قاسم مشترك بين جميع الأنبياء، وكل الأنبياء دعوا إليها، واختلفوا في الأحكام، والشريعة تختلف، لذلك فمن الممكن أن نقول: الرسالات السماوية، ولا ينبغي أن نقول: الديانات السماوية؛ فهذا كذب وضلال مبين، إذ لا يوجد شيء اسمه: (الديانات السماوية) بصيغة الجمع؛ لأن السماء لم ينزل منها إلا دين واحد، وكل الأنبياء دعوا إلى الإسلام، لكن التحريف هو الذي فعل ذلك، فادعاء أن الأديان المحرّفة الموجودة حالياً كلها سماوية هذا من الضلال المبين؛ لأن السماء لم ينزل منها غير دين واحد فقط، وهو دين الإسلام، فآدم كان مسلماً نوح كان مسلماً موسى دعا إلى الإسلام عيسى دعا إلى الإسلام هود دعا إلى الإسلام صالح دعا إلى الإسلام وهكذا جميع الأنبياء دعوا إلى الإسلام، فلذلك إذا قرأت قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فإياك أن تظن أن الإسلام هو الرسالة الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا، بل معنى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] أي: منذ أن خلق الله الدنيا والناس كلهم مطالبون بالإسلام، والأدلة في القرآن على ذلك أكثر من أن تُحصر، ووصف الأنبياء بالإسلام شائع جداً في القرآن الكريم. فجميع الأنبياء متّحدون في العقيدة، وقد يختلفون في الشرائع، فمن الممكن أن نقول: شرائع سماوية، أو رسالات سماوية؛ لأنها رسالات متعددة، لكن لا نقول أبداً: الأديان السماوية كما سبق. والحق لابد أن يكون واحداً، فكيف يقال عن النصرانية المحرّفة أنها دين سماوي في سياق المدح؟! وفيها: لا إله إلا الله، ليس عيسى رسول الله، حيث يزعمون أن عيسى هو الله!! أو أن الآلهة ثلاثة!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وفي اليهودية نجد إلحاداً في أسماء الله وصفاته، فكيف يكون هذا أيضاً دين سماوي؟! الدين السماوي هو دين موسى وعيسى وآدم ومحمد ونوح وجميع الأنبياء، فهؤلاء كلهم دعوا إلى: لا إله إلا الله، واختلفوا في الشرائع لاختلاف الأمم والظروف، إلى أن جاءت الشريعة الخاتمة التي يصلح بها كل زمان وكل مكان. إذاً: لا تختلف النبوات على الإطلاق في الدعوة إلى: لا إله إلا الله، وإنما يختلفون في الأحكام، مثل: أحكام الزواج أحكام الطلاق أحكام العبادات، إلخ. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة على أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود؛ لأن الدليل إما معقول وإما منقول: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:10]. وقال قتادة: لم يُرسَل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد، روحه التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) العلات: الضرائر، أي: مثل الشخص الذي يتزوج عدة نساء ويأتي بأولاد، فهؤلاء الأولاد يكون أشقاء من جهة الأب، فالدين واحد وهو التوحيد، وكلهم متفقون على هذا الأصل. قوله: (وأمهاتنا شتى)، أي: الشرائع تختلف، ولذلك جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بنسخ الشرائع التي قبلها، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيرها: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ)) أي: بعثناهم بأن اعبدوا الله ووحدوه، (واجتنبوا الطاغوت) أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل ما دعا إلى الضلال. وقال ابن كثير: (ولقد بعثنا في كل أمة) أي: في كل قرن وطائفة (رسولاً) وكلّهم يدعون إلى عبادة الله، وينهون عن عبادة ما سواه. إذا استعرضنا بعض آيات القرآن الكريم نجد أن هذه الحقيقة هي أجلى حقائق القر

شواهد اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى هذا الأساس: (الله لا إله إلا هو)

شواهد اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى هذا الأساس: (الله لا إله إلا هو) إذا كان الأمر كذلك فلا غرو أن نرى سيد الأنبياء وخاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم قد اهتمّ بالتوحيد، وأعطاه الأولوية المطلقة، يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وهذا هو الأصل الذي أمر أن يعلنه للناس كافة، يقول عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف:158]. فهذا الأصل لم ينشغل عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً قبل تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، بل وبعد ذلك في حال الأمن وفي حال الحرب في الحضر والسفر في المسجد والسوق، فدعا إليه أقاربه وعامة الناس، ومن أحبوه ومن أبغضوه من جميع أصناف الناس، وسواء المشركين أو المنافقين، أو اليهود والنصارى، كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه بكل وسيلة من المشافهة والمكاتبة، ومنهم من أرسل إليهم رسلاً، فالسيرة الدعوية في المرحلة المكّية والمدنية مليئة بالشواهد الدالّة على ذلك. روى الإمام أحمد عن رجل من بني مالك بن كنانة، وهذا الرجل من الصحابة، وإذا لم نعرف اسم الصحابي الذي روى الحديث، كأن يقول الراوي: عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لا يؤثر في صحة الحديث على الإطلاق؛ لأن الصحابة جميعهم عدول، رضي الله عنهم. فقد روى الإمام أحمد بسنده عن رجل من بني مالك بن كنانة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخلّلها) يتخللها: يمشي خلال تجمّعات الناس في سوق ذي المجاز، (يقول: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. وأبو جهل يحثي عليه التراب، ويقول: لا يُغوينّكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وروى الإمام الحاكم عن ربيعة بن عباد الدؤلي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. ووراءه رجل يقول: يا أيها الناس! إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم. فسألتُ عن هذا الرجل، فقيل: أبو لهب). ففي الحديث الأول كان أبو جهل هو الذي يحثي عليه التراب، أما في هذه المرّة فكان أبو لهب. وروى البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ل أبي طالب: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملّة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال: أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله). وروى البخاري عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، فقال يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: ألاّ يعذب من لا يشرك به شيئاً). وروى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع) يعني: في غزوة ذات الرقاع، (فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه) أي: أن هذا المشرك أخذ السيف، (فقال له) يعني: قال المشرك للرسول عليه الصلاة والسلام: (أتخافني؟ فقال له: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله)، وفي رواية للإسماعيلي: (فسقط السيف من يده) أي: سقط السيف من يد هذا المشرك، (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ). فتأمل كيف أن الرجل لم يُجب على السؤال، أما النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: من يمنعك مني؟ قال: الله. أما المشرك فلا مولى له، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، وذلك هو الذي يرجّح كفّة أهل الإسلام في صراعهم مع أهل الباطل، وهو أن الله معهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، فمن كان الله معه فلن يغلبه أحد. فإذاً: إلى من يلجأ الكفار والظالمون والذين يعيثون في الأرض فساداً؟! لو سُئلوا فلن يجدوا جواباً، أما المؤمن فهو يعرف جيداً من الذي يلجأ إليه. وتكملة الحديث: (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك على ألاّ أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فأتى أصحابه -أي: الرجل- فقال: جئتكم من عند خير الناس). كذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيصر ملك الروم إلى عبادة الله وحده وترك الشرك، فقد جاء في نصّ كتابه الكريم إلى هرقل، كما جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من محمد عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِمْ تَسْلَم يؤتِك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين؟ -وهُمْ: الأكارين أو الفالحين جمع أريس- {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]). وهذه الآية يستدل بها بعض السّاسة كما فعل السادات في بعض المناسبات أو المؤتمرات المتعلقة بالتنفيذية، فكان يتلو الآية في سياق أننا شيء واحد، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] بحيث يوهم أن المسلمين واليهود والصنارى وغيرهم شيء واحد، وأنهم كلهم يدعو إلى عبادة الله، بطريقته، فهذا يقول: إن الله هو المسيح! واليهود يقولون على الله الكذب! وينسبون إليه من الصفات ما يتنزه سبحانه عنه! والمسلمون كذلك يدعون إلى عبادة الله، وهذا كلام باطل، فإن معنى (كلمةٍ سواء) هي: دين الإسلام فقط لا غير، فقوله: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران:64] يعني: ادخلوا في دين الله، ((أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) فإذا أكملت الآية: ((فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)). كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن أن يكون أول ما يدعو الناس إليه هو: توحيد الله تبارك وتعالى. فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحّدوا الله تعالى). إذاً: التوحيد له الأولية المطلقة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا عرفوا ذلك، فأخبِرْهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم) إلى آخر الحديث. وفي رواية: (فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). إذاً: أول ما بُدئت به آية الكرسي هو أفضل الكلام على الإطلاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). فأفضل الذكر على الإطلاق -أي: بعد القرآن الكريم- هو أن تقول: لا إله إلا الله، فالله عز وجل هو المتفرد بالإلوهية والعبودية لجميع الخلائق دون سواه، وهذا هو الأمر المهمّ الذي ابتعث الله له جميع الأنبياء والمرسلين بمن فيهم خاتمهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (الحي القيوم)

تفسير قوله تعالى: (الحي القيوم)

بيان معنى (الحي) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى

بيان معنى (الحي) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى الجملة الثانية من آية الكرسي: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. بدأ الشيخ فضل إلهي بتعريف معنى (الحي). يقول: المراد به -والله تعالى أعلم- الذي له الحياة الذاتية التي لم تأتِ من مصدر آخر، الكاملة الدائمة التي ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد. وحينما تصف الله سبحانه وتعالى بأنه الحي فإن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسمّيات، فقد يُطلق لفظ من الألفاظ على الله وعلى غير الله، لكنّ هذا التماثل في الاسم لا يقتضي تماثل المسمّيات، فمثلاً: يوصف الله بأنه عالم، ويوصف بعض البشر بأنه أيضاً عالم، أو كريم، أو حليم، وكذلك (حي) أيضاً من أوصاف بعض المخلوقات، لكن حينما نقول: إن الله عز وجل من أسمائه الحسنى (الحي) فيجب أن ندرك الفرق بين حياتنا وبين حياة الله تبارك وتعالى، فحياتنا قبلها عدم وبعدها موت، ونحن لم نحي أنفسنا، وإنما الذي أحيانا هو الله تبارك وتعالى. فمعنى وصف الله سبحانه وتعالى بهذا الوصف: (الحي) يعني: أنه له الحياة الذاتية التي لم تستمد من مصدر آخر، فهو دائماً عز وجل حي منذ الأزل وإلى الأبد، لم ينفصل عنه هذا الوصف أبداً تبارك وتعالى، فحياة الله حياة كاملة دائمة، ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد. وقال قتادة في تفسير الحي: يعني: الحي الذي لا يموت. وقال الإمام السدي: المراد بالحي: الباقي. وقال الطبري: أما قوله: ((الْحَيُّ)) فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحدّ، ولا آخر له بأمد -أي: غاية ينتهي إليها- إذ كل ما سواه فإنه وإن كان حيّاً فلحياته أول محدود وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها. وقال البغوي: (الحي): الباقي الدائم على الأبد. وقال ابن كثير: أي: الحي في نفسه، الذي لا يموت أبداً. وقال أبو السعود: الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء. ومن الآيات التي جاء فيها اسم (الحي) لله تبارك وتعالى: قوله عز وجل في أول سورة آل عمران: ((الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))، وقال عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]، وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]،وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65]. وقد ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن اسم (الحي) يستلزم جميع صفات الكمال لله تبارك تعالى، ولذلك كان يرى أن (الحي) هو اسم الله الأعظم، يقول: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) فهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتُفي بالحي. وقال السعدي: وأنه الحي الذي له جميع معاني الحياة الكاملة، من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية. وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في تفسير (الحي القيوم): هذان اسمان من أسمائه تعالى، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال، فكمال الأوصاف في الحي، وكمال الأفعال في القيوم؛ لأن معنى الحي: ذو الحياة الكاملة، ويدل على ذلك (أل) التي تفيد الاستغراق، وكمال الحياة من حيث الوجود والعدم، ومن حيث الكمال والنقص. أيضاً: إثبات هذا الاسم (الحي) بهذا المعنى الذي ذكرناه يستلزم أن كل ما سوى الله تبارك وتعالى ميت، فإن الحياة الأزلية الأبدية الدائمة ليست إلا الله الأحد تبارك وتعالى، وكل من سواه كائناً من كان فإنه هالك وميت، يقول عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185]، وقال عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، وقال عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57]، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. فلو كان لأحد من الخلق الخلود والبقاء لكان أولاهم بذلك سيد الأولين والآخرين خليل رب العالمين: رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يبق عليه الصلاة والسلام، وإنما مات كما يموت البشر، فهذه الحقيقة كانت مؤكدة حتى قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35]، وقال عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] وقال جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، ثم قال: واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي رحمهم الله تعالى. وليس الحديث على ظاهره؛ لأن الإنسان لا يعيش كما يشاء هو، لكن هذا لبيان هذه الحقيقة، كما قال موسى عليه السلام لما أُمر أن يضع يده على متن ثور وله بكل شعره وقعت عليها يده سنة، فيمتد عمره بذلك، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فالشاهد قوله: (يا محمد! عِشْ ما شئت)، أي: افترض أنك تعيش ما شئت، فلا بد في النهاية من الموت، فإنك ميت. ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ذكر اسم الحي مباشرة بعد قوله: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، وفي ذلك استدلال على إثبات تفرده بالألوهية، فكأن الحي دليل لإثبات قوله: (الله لا إله إلا هو)، فالدليل على أنه لا إله إلا هو: أنه الحي، فهذا استدلال على إثبات تفرده بالألوهية وإبطال عبودية كل من سواه؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا من كان حياً بالحياة الذاتية الدائمة الأبدية، وحيث لا حي بهذه الحياة إلا الله الأحد، فلا يستحق العبادة إلا هو. يقول ابن عاشور: والمقصود: إثبات الحياة، وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية؛ لانتفاء الحياة عنهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]. وقد يقول قائل: إن هذه الأصنام كانت جمادات، ولكن من عبد إنساناً أو كائناً حياً فإنه يعبد حياً، نقول: لا، يوجد وصف الحياة المستقلة الذاتية التي لم تأتِ بمصدر آخر سوى الله سبحانه وتعالى، فليس هناك حي بهذا المعنى إلا الله، وبالتالي فلا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن حياة كل ما سوى الله إنما هي من عند الله، فهو الذي يحيي ويميت، وغيره لا يحيي ولا يميت. وقد نبّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى التلازم بين الحياة الدائمة واستحقاق العبودية، فانتبهوا لهذا المعنى، وهو معنى كلمة (الحي)، وأنها أتت مباشرة بعد قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255]، وأبو بكر الصديق نبّه إلى الربط بين الحياة وبين استحقاق الألوهية والعبودية. وهذا كان في الخطبة التي ألقاها أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة كانت الصدمة عليهم أشد ما تكون، ونحن نعرف ماذا فعل عمر في تلك الحادثة الجليلة، والتي هي أعظم قاصمة وقعت في تاريخ الإسلام كله، وهي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، والصحابة كانوا قد صُدموا أشد الصدمة، وثبت أبو بكر رضي الله عنه، وهذه من فضائله التي تبين فعلاً استحقاقه لأنْ يكون الرجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمصيبة رغم عظمها إلا أن أبا بكر أراد أن يلفتهم إلى أن لا غرابة في أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحالة في ذلك، بدليلٍ لطيف جداً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلهاً يُعبد، وإنما هو بشر من البشر، وأن الذي نعبده نحن المسلمين وحده هو الله عز وجل، فهو حي لا يموت. فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر رضي الله عنه يكلم الناس، حتى وصل الأمر إلى أن عمر قال: كذب من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قُبض، بل ذهب إلى لقاء ربه كما حصل لموسى. ورفع السيف وقال: من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات لأقطعن عنقه بهذا السيف -وهذا من شدة الصدمة- فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه بكل ثقة، فقال له: اجلس يا عمر، فأبى عمر رضي الله عنه أن يجلس من شدة الانفعال، فأقبل الناس عليه وتركوا عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً صلى الله ع

بيان معنى (القيوم) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى

بيان معنى (القيوم) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (الحي) كمال الأوصاف، و (القيوم) تعبير عن كمال الأفعال، أما وزن (القيوم) فهو: (فيعول) مأخوذ من القيام، ومعنى ذلك: أنه جل جلاله قائم بأمر الخلق برزقه ورعايته وحفظه، وما من شيء إلا وإقامته بأمره وتدبيره سبحانه وتعالى. قال القرطبي: وأما قوله: (القيوم) فإنه (الفيعول) من القيام، وأصله: القيوُوْم، بواوين. وقال أبو حيان: القيوم على وزن (فيعول) أصله: قيووم، اجتمعت الياء والواو واستبقت إحداهما بالسكون، فقُلبتْ الواو ياءً وأُدغمت فيها الياء. أما معناه: فقال قتادة: القيوم: القائم بتدبير خلقه. وقال الربيع: القيوم: قيّم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه. وقال الطبري: القيوم: القائم برزق خلقه وحفظه. وقال ابن كثير: القيوم: القيّم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره. وقد وردت نصوص أخرى من القرآن الكريم تدل على أن قيام الموجودات وبقاءها وحفظها بأمر الله تعالى، ولا قوام لها بدونه. من ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19] (صافات): باسطات أجنحتهن، (ويقبضن) يعني: قابضات، (ما يمسكهن): يعني: عن الوقوع سواء في حالة البسط أو القبض، (إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير): فمن الذي يمسك الطير في السماء؟ لا أحد إلا الله سبحانه وتعالى. وقال جل وعلا: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:38 - 39] (العرجون): العذق الذي عليه الشماريخ، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس:40] يعني: فتجتمع معه في الليل، {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40] فلا يأتي قبل انقضائه، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] (يسبحون): يجرون، {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41] المشحون: المملوء، {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس:42 - 43] أي: لا مغيث لهم، {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} [يس:43] يعني: ولا هم ينجون من الغرق، {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:44]. فمن يأمر الشمس بالجري لمستقرٍ لها؟! ومن يقدر منازل القمر؟! ومن يمنع الشمس عن الاجتماع مع القمر؟! ومن يحجز الليل عن المجيء قبل انقضاء النهار؟! ومن يوقف النهار من الطلوع قبل انصرام الليل؟! ومن يحفظ ركاب السفن وسط موجات البحر التي هي كالجبال؟! A إنه الله لا إله إلا هو الحي القيوم. يقول تبارك وتعالى مبيّناً قيام السموات والأرض بأمره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] (أن تقوم) أي: أن تدوما قائمتين، {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] يعني: أن الله يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع، {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] يعني: ما يمسكهما أحد سوى الله تبارك وتعالى، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41] وهذه الآية فيها ترغيب عظيم جداً، فهو الحافظ القيوم لأمرهما، الحكمة في أنه ختم الآية بقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو يؤاخذ الناس بما كسبوا لدمر هذا الكون، ولأزال السموات والأرض، لكنه حليم، يحلم عنهم، ويرجئهم إلى أن يتوبوا. فهذا ترغيب في المبادرة إلى الله، وألا ينخدع الإنسان بإمهال الله إياه، ولا يغتر بصفة الحلم، بل عليه أن يبادر إلى التوبة، فإنه إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، (إنه كان حليماً) يعطيك الفرصة، ويمهلك كي تستعتب وتتوب، (غفوراً)، إذا رجعت إليه فإنه يغفر لك. وكما بين العلماء أن لاسم (الحي) منزلة عظيمة، فكذلك بيّنوا عظم شأن اسم (القيوم). يقول القاضي علي بن علي الحنفي شارح الطحاوية رحمه الله: فعلى هذين الاثنين: (الحي القيوم) مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيهما، فكل الأسماء الحسنى تدور حول (الحي القيوم). ثم قال رحمه الله تعالى: وأما (القيوم) فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتمّ انتظام. فالله سبحانه هو الغني الحليم، يقوم بنفسه ولا يحتاج إلى غيره، أما غير الله فلابد من أن يقيمه الله؛ لأنه لا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، فيجب أن نرى أفعال الله، وتدبير الله، وقيامنا بالله في كل شيء، في كل نبضة قلب في كل نفس تأخذه في كل رزق يفتح عليك به في طلوع الشمس في غروبها في كل شيء، فما من شيء إلا وهو بقدرة الله وبإقامة الله إياه، فلو لم يُقمْك الله لما قدرت على شيء، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه القيّومية هي سبب كل ما نرى في الوجود من تدبير، ومن إقامتنا. قال السعدي رحمه الله: كما أن (القيوم) تدخل فيه جميع صفات الأفعال؛ لأنه القيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها، وأمدّها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها. وذكر اسم (القيوم) لله عز وجل بعد (الله لا إله إلا هو) فيه ما يدل على تفرده تعالى بالألوهية والعبودية؛ لأنه هو المتفرد لقيام أمر الخلق، من رزقهم وحفظهم ورعايتهم من غير ندّ ولا شريك، فما دام لم يقم الخلق، ولم يدبر أمرهم، ولم يرزقهم، ولم يُحيهم، ولم يعافهم، ولم يفعل بهم كل هذا إلا الله عز وجل وحده، فينبغي ألا نوجّه العبادة إلا إلى الله عز وجل؛ لأنه هو المستحق وحده لجميع أنواع العبادات، دون أن يشرك معه فيها أحد. هذا ما تيسر من استعراض هذا التفسير لجزء من آية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

بداية الهداية

بداية الهداية عندما يأذن الله سبحانه وتعالى بهداية شخص فإنه ييسر له أسباب الهداية، وما أكثر الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي ثم وفقهم الله تبارك وتعالى إلى الهداية، وقد جعل الله عز وجل للهداية أسباباً كما جعل للغواية أسباباً، فمن أسباب الهداية: مجالسة الصالحين، وسماع أخبار التائبين، وتلاوة القرآن بالتدبر، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة.

أسباب تجديد الإيمان في القلوب

أسباب تجديد الإيمان في القلوب

السبب الأول: دعاء الله وسؤاله تجديد الإيمان

السبب الأول: دعاء الله وسؤاله تجديد الإيمان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم) رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الهيثمي: إسناده حسن، ورواه الحاكم عن ابن عمرو رضي الله عنهما وقال: رواته ثقات، وأقره الذهبي، وصححه الألباني، ومن قبله قال الحافظ العراقي في أماليه: حديث حسن من طريقين، عن ابن عمرو وابن عمر رضي الله عنهم. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق) أي: يكاد أن يبلى. قوله: (في جوف أحدكم) يعني: أيها المؤمنون. قوله: (كما يخلق الثوب) شبه الإيمان بالثوب الذي لا يستمر على هيئته، فحينما تشتري ثوباً جديداً له ألوان معينة فبمرور الوقت يتعرض للشمس والغسل فيصبح ثوباً خلقاً قديماً، وتتغير ألوانه، فهكذا الإيمان أيضاً إذا دخل القلب لابد أن يجدد، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء حتى يجدد الله الإيمان في قلوبنا، وإلا فإن الإيمان يخلق ويطول الأمد على القلب، ويطرأ عليه القساوة والران، وربما اشتدت به الأمراض حتى يموت ذلك القلب. قوله: (كما يخلق الثوب) وذلك أن العبد يتكلم بكلمة الإيمان وبذكر الله والتوحيد، ثم يدنس هذه الكلمة بسوء أفعاله، فإذا عاد واعتذر واستغفر فقد جدد ما أخلق وطهر ما دنس من قلبه. قوله: (فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم) يعني: حتى لا يكون لقلوبكم وجهة غير الله تبارك وتعالى، ولا رغبة في سواه، ولهذا قال معاذ لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) أي: نجدد إيماننا بذكر الله تبارك وتعالى وتعلم العلم. هذا الحديث يبين الخطر الذي يهدد قلب أي مؤمن، ولا يكفي الإنسان مجرد أن يدخل في الإيمان أو ينعم الله عليه بالتوبة، ثم يظن أنه نجا، بل لابد مع التقوى من الاستقامة عليها، لابد من الثبات حتى الممات، وإلا فأكثر الناس يشرعون في هذا الطريق ثم لا يثبتون عليه، وتتخطفهم الشهوات والأهواء من الجانبين، وقل من يسلم، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأخذ هذا السبب من أسباب تثبيت الإيمان في القلب، وهو الدعاء، وهو أعظم سبب؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (الدعاء هو العبادة)، وقال عز وجل قبل ذلك: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. فهذا الدعاء أحد أسباب مداواة القلوب وشفائها وعافيتها من القساوة وعودة الإيمان من جديد، وهو أن نقول: اللهم جدد الإيمان في قلوبنا!

السبب الثاني: الذكرى بالآيات والأحاديث والقصص

السبب الثاني: الذكرى بالآيات والأحاديث والقصص من الأسباب التي تنفع القلب وتجدد الإيمان وتعافي القلب من قساوته: الذكرى، ولا يشترط أن يكون الإنسان جاهلاً بالأحاديث أو الآيات التي تتكلم -مثلاً- عن عظة الموت وعن أهوال يوم القيامة وعن القرب من الله عز وجل والأحوال القلبية، وإنما قد يعلم الإنسان كثيراً جداً من الآيات والأحاديث، ولكنه لما طال عليه الأمد، وتعود قلبه على سماعها؛ لم ينفعل بها، ولم تؤثر فيه شيئاً، لكن إذا جدد العهد بتذكر هذه النصوص ولم يهجرها، وجدد العهد بزيارة المقابر، وبقراءة هذه الأحاديث، وبحضور مجالس العلم؛ فقد نصت آية في كتاب الله تبارك وتعالى أن هذا مما ينفع القلب، ولا يشترط أن تكون جاهلاً بما يقال، لكنك تنتفع بالتذكرة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فمن كان مؤمناً انتفع بهذه الذكرى، وحملته على تجديد الإيمان في قلبه.

أهمية استقامة القلب وأسباب فساده وقسوته

أهمية استقامة القلب وأسباب فساده وقسوته القلب هو قطب الدائرة، وهو أساس الاستقامة وصلاح الحال، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فعلى العبد أن يهتم بصلاح قلبه قبل أي شيء آخر، فإذا صلح القلب صلح كل شيء واستقام كل أحواله. ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). ويقول عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره صلى الله عليه وسلم). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه) فتبين من هذه الأحاديث أن أس الاستقامة وقطب رحاها استقامة القلب.

من أسباب قسوة القلب ومرضه: التهاون بالمعاصي

من أسباب قسوة القلب ومرضه: التهاون بالمعاصي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء) هكذا تحصل القساوة والمرض والران على القلوب تدريجياً؛ وذلك بسبب تهاون الإنسان بالمعاصي، وكونه يظن أن الوقت فيه سعة، وسوف يتوب ويستدرك فيما بعد، لكن تنضم نكتة إلى نكتة إلى نكتة حتى يعلو الصدأ ويعلو السواد ويعلو الران جميع القلب. إذاً: على الإنسان ألا يتهاون بأي معصية وإن دقت في عينه؛ فإن هذا الذنب الصغير مع الأيام ومع تكراره يعود كبيراً. لا تحقرن من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يعود كبيرا إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيرا قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وعاد إليه نوره، وإن عاد -يعني: عاد إلى المعصية- زيد فيها حتى تعلو قلبه). قوله: (زيد فيها حتى تعلو قلبه) هو الران الذي ذكر الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].

من أسباب قسوة القلب ومرضه: استحسان المنكرات

من أسباب قسوة القلب ومرضه: استحسان المنكرات عن حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء) وهذه أيضاً من الأبواب التي يسمم بها القلب، ويطرأ عليه بسببها الصدأ والسواد والتعكير؛ لأنه حينما يرى المنكرات ولا يتمعر وجهه غضباً لله تبارك وتعالى، بل لا يكتفي أنه لم ينكر الحرام، بل يستلذ بهذا الحرام ويستحسنه والعياذ بالله، فيكون ذلك سواداً في قلبه، وهو لا يشعر أن النظر إلى فساد التلفاز -مثلاً- يعتبر معصية، لكنه يظن أن هذه متعة، وأن الوقت الذي يقضيه في هذه المعصية يعود عليه بنفع موافق لهواه ولشهواته، فهو لا يستقبح المعصية، لكنه يستحسنها، فتنكت كل معصية نكتة سوداء في قلبه، ويموت قلبه رويداً رويداً، ولهذا لما سئل سفيان رحمه الله تعالى: ما بال أهل الأهواء شديدو المحبة لأهوائهم؟ قال: ألم تر إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، فهكذا يشرب الإنسان المعاصي ويستحسنها، وتنقلب المفاهيم والموازين في قلبه فيرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فأنى له الهداية إن لم يتداركه الله برحمته؟! يقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفاء لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه). فيكون الهوى هو الحاكم، وبذلك يصبح قلبه أسود مرباداً، يعني: متغيراً. قوله: (كالكوز مجخياً) أي: كالكوز المقلوب، وهل الكوز المقلوب يستوعب الحكمة؟ لا، فكذلك هذا القلب منكوس، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه.

من أسباب قسوة القلب ومرضه: الإعراض عن القرآن

من أسباب قسوة القلب ومرضه: الإعراض عن القرآن لقد اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام في كثير من الأحاديث بأمر القلب، فقد كان يكثر الدعاء بصلاح القلب، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلبي) قوله: (ربيع قلبي) يعني: المطر الذي يحيي قلبي؛ فإن القرآن فيه حياة القلوب، وقراءة القرآن وحفظه والتعبد به من أعظم ما يتقرب به إلى الله تبارك وتعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم لن تتقربوا إلى الله بشيء أحب إليه مما خرج منه) يعني: كلامه سبحانه وتعالى، لكن كيف ندعو الله عز وجل في كل مناسبة، ونقول: اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونحن أصلاً نهجر القرآن ولا نقرأ القرآن ولا نعيش مع القرآن؟! كيف ندعو الله أن يجعله ربيع قلوبنا ونحن لا نأخذ هذا الدواء؟! إن هجرنا لهذا الدواء الموجود في الصيدلية لا ينفي كونه سبباً من أسباب الشفاء، وكون بعض الناس يعرضون عن تعاطي هذا الدواء الذي هو القرآن -وهو سبب من أسباب الشفاء- لا يقدح في كونه شفاءً لما في الصدور، يقول عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، وهذا المعرض عن القرآن لا يعود وبال عمله إلا على نفسه، فيكون ممن يشتكيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فالسؤال الذي يجب أن يعرضه كل منا على نفسه: إذا كنت تسأل الله وتدعوه بقولك: اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، كيف يكون ربيع قلبك وأنت لا تتعاطى هذا الدواء ولا تداوي قلبك به؟!

من أسباب قسوة القلب ومرضه: الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى

من أسباب قسوة القلب ومرضه: الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى جاء في بعض الآثار: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل؛ فتقسو قلوبكم، وإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلى، ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).

أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة

أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة كان صلى الله عليه وسلم يهتم كثيراً بوصف دواء القلوب لأصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له: إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم)، وشكا ذلك رجل إلى مالك بن دينار فقال له: أدمن الصيام -أي: داوم على الصيام- فإن وجدت قسوة فأطل القيام، فإن وجدت قسوة فأقل الطعام. قال إبراهيم الخواص: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.

من أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة مجالسة التائبين

من أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة مجالسة التائبين يقول بعض السلف: اجلسوا إلى التوابين؛ فإنهم أرق الناس أفئدة. إذاً: من أعظم أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة أن يكثر الإنسان من الجلوس إلى التائبين لاسيما حديثي العهد بالتوبة، فهؤلاء يكونون أرق الناس أفئدة وقلوباً، فإن لم يتيسر له ذلك فليطالع في أحوال هؤلاء التائبين، وكيف تابوا، فإن لكل توبة قصة، ولكل هداية بداية، وقد تكون هذه البداية للهداية إما آية سمعها رجل فأفاق وصحا من سكرته، وإما حادثة تعرض لها كسرت قلبه بعد الكبر والإعراض فتاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى وهكذا. إذاً: ما دام هناك روح في الإنسان فمهما قسا قلبه فهناك أمل بأن يشفيه الله تبارك وتعالى، يقول بعض الصالحين: أسق غصنك ما دامت فيه رطوبة. أي: إذا كان الغصن ما زال فيه رطوبة -حتى ولو كانت قليلة- فهو قابل لأن يحيا، أما إذا جف الغصن تماماً ويبس فهذا لا ينفع فيه شيء.

مراحل التوبة

مراحل التوبة يقول بعض العلماء حينما يتكلمون عن التوبة: إن بداية الطريق إلى الله عز وجل وبداية الهداية لا تكون بالتوبة بقدر ما تكون بالإفاقة، وذلك بأن يفيق الإنسان ويصحو ويفكر في مصيره وماذا عمل لما بعد الموت؟! وكيف يستعد للقاء الله؟! حينها يندم على ما فرط منه. هذه الإفاقة هي الصحوة التي يفيق بها الإنسان، والتي إن لم تقم له هذه القيامة في الدنيا فرغماً عنه سيفيق وسيندم، لكن حيث لا ينفعه الندم حينما يأتيه ملك الموت. فأول المراحل: أن يفيق الإنسان ويقوم من نومه ومن سباته، يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] فهذه القيامة هي أن يفيق الإنسان من سكرته، ويعزل نفسه عن هذه المؤثرات التي تشغله عن الله، وعن الدار الآخرة، وعن الوطن الحقيقي، وعن المستقبل الدائم الذي لا انقطاع له في حياة أبدية لا نهاية لها. يقول تبارك وتعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، عبر عنها بهذا القيام. قوله: (إذ قاموا) أي: أفاقوا، (فقالوا ربنا رب السموات والأرض). إذاً: كل هداية لها بداية، وأي إنسان منَّ الله عز وجل عليه بالهداية ففي الغالب أن يكون هناك موقف معين، خاصة إذا كان هذا الإنسان من قبل معرضاً عن الله، ولم يوفق أن يكون شاباً نشأ على طاعة الله وعلى عبادة الله، بل يكون قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، أو انغمس تماماً في المعاصي والمخالفات، فتكون هناك بداية لهدايته. وهذه البداية تختلف حسب مدخل كل إنسان إلى التوبة، والاستقامة قد تكون بآية سمعها مئات المرات من قبل، لكن في موقف معين فهذه الآية جعلته بإذن الله يفيق من غفوته، وتكون سبباً لاستئناف الطريق إلى الله عز وجل.

معنى قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم) وسبب نزولها

معنى قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم) وسبب نزولها الآيات في موضوع التوبة والاستقامة كثيرة، منها هذه الآية في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17]. يقول الله عز وجل: (ألم يأن) يعني: ألم يحن أو ألم يأت الأوان والحين، وهو من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه، أي: وقته بمعنى يقرب. كما قال الشاعر: ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب الملم لي العقلا وكما أنشد ابن السكيت: ألما يأن لي أن تجّلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا معنى قوله تعالى: (ألم يأن) أي: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه. قوله تعالى: (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) هذا فيه بيان أن دواء قسوة القلوب هو ذكر الله. قوله: (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) هو القرآن الكريم. والخشوع أصله في اللغة: السكون والطمأنينة والانخفاض. أما في الشرع: فهو خشية من الله تداخل القلوب، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون كما هو شأن الإنسان الخائف. إذاً: لقد حان للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وجاء الحين والأوان لذلك؛ لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] إلا أربع سنين) رواه مسلم، والعتاب: هو مخاطبة الإدلال وطلب حسن المراجعة والتذكير بما كره من عمله. يقول ابن مسعود: (لما نزلت هذه الآية بهذا العتاب من الله عز وجل، جعل بعضنا ينظر إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟!) أي: ما الشيء الذي أوجب نزول هذه الآية؟ وما التقصير الذي قصرناه؟ وقال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه تبارك وتعالى. ويروى في بعض كتب التفاسير: أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم الخشوع، فقالوا عند ذلك: خشعنا). وهذا أيضاً يذكرنا بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] قوله: (لما يحييكم) أي: يحيي قلوبكم، ثم قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]. قوله عز وجل: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ) أي: الأجل والإمهال والاستدراج. قوله: (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: بطول الأمد. إذاً: الإنسان قد يعلم الآيات ويعلم الأحاديث ويعلم الحلال ويعلم الحرام، لكن قلبه لا ينفعل بهذه الآيات والأحاديث لطول الأمد الذي يحدث قسوة في القلوب. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون الموعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد. قوله: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أي: خارجون عن طاعة الله، فاسقون في الأعمال فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة، كما قال عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13]، فكل نقض لميثاق الله وعهد الله يعاقب الإنسان من جرائه بقسوة القلب، ماذا أحدثت هذه القسوة؟ {يحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13]. ويقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]، ويقول عز وجل: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:27] أي: خارجون عن أمر الله تبارك وتعالى. يقول الحافظ ابن كثير معلقاً على قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] أي: فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في أي شيء من الأمور الأصلية أو الفرعية. ثم قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17] فيه إشارة إلى أنه تبارك وتعالى يلين القلوب بعد قساوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]: الذين ابتدعوا الرهبانية من أصحاب الصوامع قست قلوبهم فخرجوا وفسقوا عن أمر الله عز وجل. وقيل: الفاسقون: هم من لا يعلم ما يتدين به من الفقه، ويخالف من يعلم، وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى. وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة رضي الله عنهم بمكة مجدبين، فلما هاجروا إلى المدينة أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم فوعظهم الله؛ فأفاقوا. وقال ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس قال: (بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى، ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).

نماذج من التائبين في الزمن القديم والمعاصر

نماذج من التائبين في الزمن القديم والمعاصر

توبة ابن المبارك والفضيل بن عياض وسببها

توبة ابن المبارك والفضيل بن عياض وسببها يقول القرطبي: وهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تبارك وتعالى. وروى بسنده عن الحسن بن زاهر قال: سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده، قال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا؛ وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعاً بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له: راشين السحر -لعله نوع من الموسيقى- وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد -أي: العود لا يجيب إلى هذا العزف-، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان -والعهدة على الراوي إن صح السند في ذلك- يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. فإن صحت هذه القصة فهذه تكون إعانة من الله تبارك وتعالى لـ ابن المبارك على هذه الهداية والتوبة. يقول القرطبي: وبلغنا أن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود ويغني به: ألم يأن لي منك أن ترحما وتعص العواذل واللوما وترثي لصب بكم مغرم أقام على هجركم مأتما يبيت إذا جنه ليله يراعي الكواكب والأنجما وماذا على الظبي لو أنه أحل من الوصل ما حرما وأما الفضيل بن عياض فمشهور عنه أكثر مما اشتهر عن ابن المبارك أن هذه الآية كانت سبباً في توبته، وذلك أن الفضيل كان يعشق جارية فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن، فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: نسير الليلة، فقال آخرون: لا إن فضيلاً يقطع الطريق فانتظروا حتى الصباح، فسمعهم الفضيل رحمه الله، فقال: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام، فجاور في الحرمين، ولذلك سمي بعابد الحرمين رحمه الله تعالى.

توبة شاب بعد إنقاذه من الغرق

توبة شاب بعد إنقاذه من الغرق نستطرد قليلاً في هذا الموضوع الذي أشرنا إليه وهو ذكر قصص التائبين، ومن ذلك قصة شاب كان يمشي بسيارته، وإذا بها تخرج عن سيطرته وتهوي به في النهر فغاصت به حتى بلغت به القاع، يقول هذا الشاب: وأحسست كأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة فنطقت بالشهادتين، -أي: في نفسه- وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وفي الحال تذكرت أن زجاج السيارة الأمامي مكسور، شاء الله أن ينكسر في حادث منذ أيام ثلاثة، وقفزت دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة، ونظرت فإذا جمع من الناس يقفون على الشاطئ كانوا يصيحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني خارج السيارة، نزل اثنان منهم وصعدا بي إلى الشاطئ، وقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، غير مصدق أني نجوت من الموت وأني الآن بين الأحياء، وكنت أنظر إلى السيارة وهي غارقة في الماء فأتخيل حياتي الماضية سجينة هذه السيارة الغارقة، أتخيلها تختنق وتموت وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي، لقد تخلصت منها، وخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة شديدة في الجري بعيداً عن هذا المكان الذي دفنت فيه ماضيّ الدنس، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، دخلت البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لبعض الممثلات والراقصات، فمزقتها، وارتميت على سريري أبكي، ولأول مرة أحس بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب بغزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت المؤذن يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة، فانتفضت واقفاً وتوضأت، وفي المسجد بعد أن أديت الصلاة أعلنت توبتي، ودعوت الله أن يغفر لي، ومنذ ذلك الحين وأنا كما ترى. قلت: هنيئاً لك يا أخي! وحمداً لله على سلامتك، لقد أراد الله بك خيراً، والله يتولاك ويرعاك، ويثبت على الحق خطاك.

توبة شاب من استعمال الحبوب المنبهة

توبة شاب من استعمال الحبوب المنبهة قصة أخرى أيضاً من الواقع لشاب تائب يقول: كنت أعمل سائقاً للمسافات الطويلة، وبالجهد والكفاح استطعت بفضل الله أن أشتري سيارة أعمل عليها، وأنا لا أستطيع أن أواصل الليل بالنهار؛ لأني كنت أحلم بالحياة الوردية كما يقولون، مما أدى بي إلى استعمال الحبوب المنبهة، فأصبحت أواصل السهر والسفر من ثلاثة أيام إلى خمسة أيام دون نوم، بقيت على هذا الحال ما يقرب من سنتين، جمعت خلالهما مبلغاً كبيراً، وفي سفرة من السفرات قررت أن تكون هذه الرحلة آخر رحلة، وبعدها أرتاح من هذا العناء، وكانت إرادة الله فوق كل شيء. ركب المسافرون السيارة، وخرجنا من المدينة وقطعت مسافة لا بأس بها، وإذا بي أفاجأ بسيارة تمر من جواري تسير بسرعة جنونية، أحسست بداخلي بأن أمراً ما سوف يحدث، وبالفعل فما هي إلا لحظات حتى رأيت السيارة المذكورة وهي تتقلب أمامي، ومع تقلبها كنت أرى أشلاء تتطاير في الهواء، هالني المنظر فلقد مرت بي حوادث كثيرة، ولكن الذي رأيت كان فوق تصوري، ووجمت للحظات أفقت بعدها على صوت بعض المسافرين وهم يرددون: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون. انظروا الموت لا يفرق بين شاب وعجوز، ولا رجل ولا امرأة، ولا طفل ولا كبير، ولا سائق ماهر ولا غيره، وإنما يأتيك بغتة دون إنذار مسبق، فإذا تذكر الإنسان كثيراً من أصدقائه وأحبابه فإنه يرد على خاطره الكثيرين ممن سبقوه، فهل إذا صرت إلى مثل الذي صاروا إليه ستضمن أنك ستنجو من عذاب الله؟! يقول: قلت في نفسي: كيف لو كنت مكان هذا الشاب؟ كيف أقابل ربي بلا صلاة ولا عبادة ولا خوف من الله؟ أحسست برعدة شديدة في جسمي ثم لم أستطع قيادة السيارة إلا بعد ثلاث ساعات، بعدها أخذت الركاب وعدت، وفي الطريق أديت صلاة المغرب والعشاء، وكانتا أول صلاة أصليهما في حياتي. دخلت إلى منزلي وقابلتني زوجتي، فرأت تغيراً واضحاً وجلياً في هيئتي، فظنت بأني مريض فصرخت في وجهي: ألم أقل لك اترك هذه الحبوب؟! إنك لن تدعها حتى يخطف الله عمرك فتذهب إلى النار، كانت هذه الكلمات بمثابة صفعات وجهتها لي زوجتي، فقلت لها: أعاهد الله أنني لن أستعمل هذا الخبيث، وبشرتها بأني صليت المغرب والعشاء، وأني تبت إلى الله وبكيت بكاء مراً وشديداً. أيقنت زوجتي أني صادق فيما أقول، فما كان منها إلا أن انخرطت تبكي معي فرحة بتوبتي ورجوعي إلى الحق، في تلك الليلة لم أتناول عشائي، نمت وأنا خائف من الموت وما يليه، فرأيت فيما يرى النائم أني أملك قصوراً وشركات وسيارات وملايين الجنيهات، وفجأة وجدت نفسي بين القبور أنتقل من حفرة إلى حفرة أبحث عن ذلك الشاب المقطع فلم أجده، فأحسست بضربة شديدة على رأسي أفقت بعدها لأجد نفسي على فراشي، تنفست الصعداء وكان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فقمت وتوضأت وصليت حتى بزغ الفجر فخرجت من البيت إلى المسجد، ومنذ ذلك اليوم وأنا -ولله الحمد- ملازم لبيوت الله لا أفارقها، وأصبحت حريصاً على حضور الندوات والدروس التي تقام في المساجد، وأحمد الله أن هداني إلى طريق السعادة الحقيقية والحياة الحقة.

توبة شاب من استعمال المخدرات وسبب تعاطيه لها

توبة شاب من استعمال المخدرات وسبب تعاطيه لها هذه قصة توبة شاب مدمن للمخدرات: كان شاباً يافعاً شجاعاً يعرفه كل أولاد الحارة بالنخوة والشهامة، كان دوماً لا يفارق ذلك المقهى المنزوي، والذي تظلله تلك الشجرة الكبيرة، أولاد الحارة يخافونه ويستنجدون به في وقت الأزمات، كانت عصاه لا تخطئ، وكانت حجارته كالسهام، كانت أخباره في كل الحارات، كان إذا دخل ذلك المقهى وأخذ الكرسي الذي اعتاد الجلوس عليه وشاهده القوهجي؛ ترك كل شيء في يده وأحضر براد الشاي الذي تعود أن يتناوله باستمرار، وخاصة بعد صلاة المغرب، إنه لا يخافه، ولكنه يحترم فيه نخوته وشهامته، ظل ذلك الشاب طويلاً على هذه الحال بلا منافس، غير أن هذه الأحوال لم تعجب مجموعة من أشرار الحي، كيف يأخذ هذا الشاب كل هذه الشهرة، وكل هذا الحب والاحترام؟ لابد من حل لكسر شوكته وتحطيم معنوياته وأحلامه وسمعته، فكر كبيرهم ملياً وقال: إنني لا أستطيع مقاومة ذلك الشاب، ولكن لدي سلاح سهل ويسير إذا استخدمته دمرته به، إنها المخدرات، ولكن كيف؟ قفز واحد من تلك المجموعة الشريرة وصاح: براد الشاي، براد الشاي، إنه يحب أن يتناوله يومياً بعد صلاة المغرب. تسلل واحد منهم بخفية وسرعة إلى ذلك المقهى، ووضع كمية من الحبوب المخدرة في براد الشاي، وجلسوا في الموقع المقابل يراقبون تصرفاته، لقد وقع في الفخ، وتمر بقدر الله دورية للشرطة وترى حالته غير طبيعية فتلقي القبض عليه، إنها المخدرات، وكم كان اندهاش قائد الدورية، فهو يعرفه تماماً، فكيف تحول بهذه السرعة إلى تلك الملعونة الحبوب المخدرة؟ أدخل السجن ولكن لا فائدة، لقد أدمن ولم يستطع الإفلات من حبائلها، إنه في كل مرة يخرج من السجن يعود إلى ذلك المقهى ويقابل تلك المجموعة، استمر على تلك الحال عدة سنوات، وكانت المفاجأة لقد فكر والداه وأقاربه كثيراً وحاله ومصيره وسمعتهم بين الناس، وكان القرار أن أصلح شيء له هو الزواج من إحدى البلاد المجاورة؛ حتى ينسيه ذلك المقهى وتلك الجماعة الشريرة، وأبلغوه بذلك القرار فكان نبأ ساراً، فأعلن توبته، وعاهد والديه، وبدأ في الترتيب لعش الزوجية، واشترى بعض الأثاث، ودخل مرحلة الأحلام والأماني: زوجة وبيت وأسرة وأبناء، ما أجمل ذلك، وتحدد موعد السفر ليرافق والده للبحث عن زوجة، إنه يوم السبت، لكن الله لم يمهله، نام ليلة الخميس، وكان كل تفكيره في الحلم الجديد في الموعد الآتي حتى ينقضي هذا اليوم واليوم الذي بعده، إيه أيتها الليلة! إنك طويلة، وكان A إنها ليلتك الأخيرة! فما أصبح الصباح، حتى اعتلى الصياح وكانت النهاية أن يمسي في قبره تلك الليلة.

توبة شاب عاق لأمه

توبة شاب عاق لأمه هذا شاب ذهب إلى الخارج، تعلم وحصل على شهادات عالية، ثم رجع إلى بلاده، وتزوج من فتاة غنية جميلة كانت سبباً في تعاسته لولا عناية الله، يقول: مات والدي وأنا صغير، فأشرفت أمي على رعايتي، عملت خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تنفق علي، فقد كنت وحيدها، أدخلتني المدرسة، وتعلمت حتى أنهيت الدراسة الجامعية، كنت باراً بها، وجاءت بعثتي إلى الخارج، فودعتني أمي والدموع تملأ عينيها وهي تقول لي: انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطعني من أخبارك، أرسل لي رسائل حتى أطمئن على صحتك، أكملت تعليمي بعد مضي زمن طويل ورجعت شخصاً آخر -قد أثرت فيه الحضارة الغربية-، فصرت أرى في الدين تخلفاً ورجعية، وأصبحت لا أؤمن إلا بالحياة المادية والعياذ بالله، وتحصلت على وظيفة عالية، وبدأت أبحث عن الزوجة، حتى حصلت عليها، وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة، ولكني أبيت إلا تلك الفتاة الغنية الجميلة؛ لأني كنت أحلم بالحياة الأرستقراطية كما يقولون. وخلال ستة أشهر من زواجي، كانت زوجتي تكيد لأمي حتى كرهت والدتي، وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجتي تبكي، فسألتها عن السبب؟ فقالت لي: إما أنا وإما أمك في هذا البيت، لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك، جن جنوني وطردت أمي من البيت في لحظة غضب، فخرجت وهي تبكي وتقول: أسعدك الله يا ولدي! وبعد ذلك بساعات خرجت أبحث عنها ولكن بلا فائدة، فرجعت إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة، وانقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن، وأصبت خلالها بمرض خبيث، دخلت على إثره المستشفى، وعلمت أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي، وقبل أن تدخل علي طردتها زوجتي وقالت لها: ابنك ليس هنا، ماذا تريدين منا؟ اذهبي عنا؟ رجعت أمي من حيث أتت، وخرجت من المستشفى بعد وقت طويل، وانتكست فيه حالتي النفسية، وفقدت الوظيفة والبيت، وتراكمت علي الديون، وكل ذلك بسبب زوجتي، فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة. وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميل وقالت: ما دمت قد فقدت وظيفتك ومالك، ولم يعد لك مكان في المجتمع؛ فإني أعلنها لك صريحة: أنا لا أريدك، طلقني! كان هذا الخبر بمثابة صاعقة وقعت على رأسي، فطلقتها بالفعل، فاستيقظت من السبات الذي كنت فيه، خرجت أهيم على وجهي أبحث عن أمي، وفي النهاية وجدتها، ولكن أين وجدتها؟ كانت تقبع في أحد الأرصفة تأكل من صدقات المحسنين، وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة، وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها وبكيت بكاء مراً، وما كان منها إلا أن شاركتني البكاء، بقينا على هذه الحالة حوالى ساعة كاملة، بعدها أخذتها إلى البيت، وآليت على نفسي أن أكون طائعاً لها، وقبل ذلك أكون متبعاً لأوامر الله ومجتنباً لنواهيه، وهأنا الآن أعيش أحلى أيامي وأجملها مع حبيبة العمر أمي حفظها الله، وأسأل الله أن يديم علينا الستر والعافية.

توبة شاب بسبب دعاء أمه له

توبة شاب بسبب دعاء أمه له هذه قصة شاب كان يسكن مع أمه العجوز في بيت متواضع، وكان يقضي معظم وقته أمام شاشة التلفاز، كان مغرماً بمشاهدة الأفلام والمسلسلات، يسهر الليالي من أجل ذلك، لم يكن يذهب إلى المسجد ليؤدي الصلاة المفروضة مع المسلمين، طالما نصحته أمه العجوز بأداء الصلاة فكان يستهزئ بها ويسخر منها ولا يعيرها أي اهتمام، مسكينة تلك المرأة الكبيرة الضعيفة، إنها تتمنى لو أن الهداية تباع فتشتريها لابنها الوحيد بكل ما تملك. وهذه العجوز لا تملك إلا شيئاً واحداً فقط إنه الدعاء، فهو سهام الليل التي لا تخطئ، فبينما هو يسهر طوال الليل أمام تلك المناظر المزرية كانت هي تقوم في جوف الليل تدعو له بالهداية والصلاح، ولا عجب فإنها عاطفة الأمومة التي لا تساويها عاطفة أياً كانت. وفي ليلة من الليالي حيث السكون والهدوء، وبينما هي رافعة كفيها تدعو الله، وقد سالت على خديها دموع الحزن والألم، إذا بصوت غريب يقطع ذلك الصمت الرهيب، فخرجت الأم مسرعة باتجاه الصوت وهي تصرخ: ولدي حبيبي! فلما دخلت عليه فإذا بيده المسحاة -آلة مثل الفأس- وهو يحطم ذلك الجهاز اللعين، الذي طالما عكف عليه وانشغل به عن طاعة الله وطاعة أمه، وترك من أجله الصلوات المكتوبة، ثم انطلق إلى أمه يقبل رأسها ويضمها إلى صدره، وفي تلك اللحظة وقفت الأم مندهشة مما رأت والدموع على خديها، ولكنها في هذه المرة ليست دموع الحزن والألم، وإنما هي دموع الفرح والسرور، لقد استجاب الله دعاءها فكانت الهداية، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].

توبة شاب من سماع الغناء بسبب طفل صغير

توبة شاب من سماع الغناء بسبب طفل صغير هذا طفل صغير لم يتجاوز سن البلوغ، كان سبباً في هداية أخيه من سماع الغناء المحرم، عرف ذلك الطفل حكم الإسلام في الغناء وتحريمه له، فانشغل عن الغناء بقراءة القرآن وحفظه، ولكن لابد من الابتلاء. ففي يوم من الأيام خرج مع أخيه الأكبر في السيارة في طريق طويل، وأخوه هذا كان مفتوناً بسماع الغناء، فهو لا يرتاح إلا إذا سمعه، قام الأخ الأكبر بفتح المسجل على أغنية من الأغاني التي كان يحبها، فأخذ يهز رأسه طرباً، ويردد كلماتها مسروراً، لكن لم يتحمل ذلك الطفل الصغير هذه الحال، وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فعزم على الإنكار وهو لا يملك هنا إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه، فأنكر بلسانه وقال مخاطباً أخاه: لو سمحت! أغلق المسجل؛ فإن الغناء حرام، وأنا لا أريد أن أسمعه، فضحك أخوه الأكبر ورفض أن يجيبه إلى طلبه. ومضت فترة وأعاد ذلك الطفل الطلب، وفي هذه المرة قوبل بالاستهزاء والسخرية، فقد اتهمه أخوه بالتزمت والتشدد إلى آخره، وحذره من الوسوسة، وهدده بأن ينزله في الطريق ويتركه وحده! وهنا سكت الطفل على مضض، ولم يعد أمامه إلا أن ينكر بقلبه، ولكن كيف ينكر بقلبه؟ إنه لا يستطيع أن يفارق ذلك المكان، فجاء التعبير عن ذلك بعبرة ثم دمعة نزلت على خده الصغير الطاهر؛ فكانت أبلغ موعظة لذلك الأخ المعاند من كل كلام يقال. فقد التفت الأخ الأكبر إلى أخيه الصغير فرأى الدمعة تسيل على خده، فاستيقظ من غفلته، وبكى متأثراً بما رأى، ثم أخرج الشريط من مسجل السيارة ورمى به بعيداً معلناً بذلك توبته من استماع تلك الترهات الباطلة.

توبة أسرة كاملة من مشاهدة الأفلام والمسلسلات الماجنة في التلفاز وغيره

توبة أسرة كاملة من مشاهدة الأفلام والمسلسلات الماجنة في التلفاز وغيره هذا شيخ كبير في السن كان سبباً في هداية أسرة كاملة، كانت غافلة لاهية، تقضي معظم وقتها أمام شاشة التلفاز لمشاهدة الصور المحرمة ومسلسلات الحب والغرام والهيام. يقول هذا الشيخ الكبير: كنت نائماً في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلاًً أعرفه من أقاربي قد مات، ولم أكن أعلم أن في بيته التلفاز، جاءني فضربني بقدمه ضربة كدت أصرع من ضربته، وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي. قال الشيخ: وكنت أرى هذا التلفاز في بيته -يعني: في المنام- وكأنه كلب أسود والعياذ بالله، قال: فاستيقظت من نومي مذعوراً، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وعدت إلى نومي، فجاءني في المنام مرة ثانية وضربني ضربة أقوى من الأولى وقال لي: قم واذهب إلى أهلي وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي لا يعذبونني به، قال: فاستيقظت مرة ثانية وهممت أن أقوم، ولكني تثاقلت وعدت إلى نومي، فجاءني في المرة الثالثة وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي، وقل لهم: يخلصونني مما أنا فيه خلصك الله، قال: فاستيقظت من نومي، وعلمت أن الأمر حقيقة. فلما صليت التراويح من ذلك اليوم ذهبت إلى بيت صاحبي وهو قريب لي، فلما دخلت فإذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا عليه ينظرون إليه وكأن على رءوسهم الطير، فجلست، فلما رأوني قالوا مستغربين: ما الذي جاء بك -يا فلان- في هذا الوقت، فليس هذا من عادتك؟! فقلت لهم: جئت لأسألكم سؤالاً فأجيبوني عليه: لو جاءكم مخبر وأخبركم أن أباكم يعذب في قبره هل ترضون بذلك؟ قالوا: لا، وندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب! قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم؛ فانفجروا جميعاً بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز (التلفاز) وكسره تكسيراً أمام الجميع معلناً التوبة. لكن القصة لم تنته بعد، قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم فقال لي: خلصك الله كما خلصتني! يعني من العذاب. إذاً: فكل أب أو ولي يدع هذا الجهاز الخبيث في بيته ويموت فويل له إن لم يدمره تدميراً قبل أن ينتقل إلى جوار الله تبارك وتعالى.

توبة من في المرقص على يد شيخ وعظهم فيه

توبة من في المرقص على يد شيخ وعظهم فيه هذه القصة الأخيرة وهي قصة غريبة جداً، قال الشيخ علي الطنطاوي في بعض كتبه: دخلت أحد مساجد مدينة حلب، فوجدت شاباً يصلي فقلت: سبحان الله! إن هذا الشاب من أكثر الناس فساداً، يشرب الخمر، ويفعل الزنا، ويأكل الربا، وهو عاق لوالديه، وقد طرداه من البيت، فما الذي جاء به إلى المسجد؟! فاقتربت منه وسألته: أنت فلان؟ قال: نعم. قلت: الحمد لله على هدايتك، أخبرني كيف هداك الله؟! قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص -يعني ساحة رقص- قلت مستغرباً: في مرقص؟! قال: نعم في مرقص، قلت: كيف ذلك؟ قال: كان في حارتنا مسجد صغير يؤم الناس فيه شيخ كبير السن، وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟ ما بال أكثر الناس وخاصة الشباب لا يقربون المسجد ولا يعرفونه؟! فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي. قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟ رد عليه أحد المصلين: المرقص: صالة كبيرة فيها خشبة متسعة تصعد عليها الفتيات شبه عاريات يرقصن، والناس حولهن ينظرون إليهن، فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟! قالوا: نعم. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس. قالوا له: يا شيخ! أتعظ الناس وتنصحهم في المراقص؟! قال: نعم. حاولوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيواجهونه بالسخرية والاستهزاء، وسيناله الأذى، فقال: وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص، وعندما وصلا إليه سألهما صاحب المرقص: ماذا تريدان؟ قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص. تعجب صاحب المرقص! وأخذ يمعن النظر فيهما، ورفض السماح لهما بالدخول، فأخذا يساومانه ليأذن لهما حتى دفعا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي؛ فحينئذ وافق صاحب المرقص، وطلب منهما أن يحضرا في الغد عند بدء العرض اليومي. قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً في المرقص، فبدأ الرقص من إحدى الفتيات، ولما انتهت أسدل الستار ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة وحمد الله والثناء عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أن ما يرونه هو فقرة فكاهية! فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم، أخذوا يسخرون منه، ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء وهو لا يبالي بهم، واستمر في نصحه ووعظه، حتى قام أحد الحضور وأمرهم بالسكوت والإنصات حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ. قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل، تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصاً لتوبة بعض الصالحين. وكان مما قاله: أيها الناس! إنكم عشتم طويلاً وعصيتم الله كثيراً، فأين ذهبت لذة المعصية؟ لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء، ستسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى. أيها الناس! هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟ إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم فكيف بنار جهنم؟! بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان. قال: فبكى الناس جميعاً وخرج الشيخ من المرقص وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه. هذا ما تيسر ذكره من بيان بعض المواقف التي كانت بداية لهداية كثير من الناس، فعلينا أن نجدد العهد مع الله تبارك وتعالى، وأن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم). وعلينا أن نذكر أنفسنا بهذه الآية العظيمة التي كانت سبباً في بداية الهداية لكثير من عباد الله الصالحين، هذه الآية التي خاطبت خير أمة أخرجت للناس: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17]. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

تلخيص مناسك الحج

تلخيص مناسك الحج الحج فريضة الله على من استطاع إليه سبيلاً، وعلى المسلم قبل أن يحج أن يتعلم أحكام الحج وآدابه، وما ينبغي فعله أو تركه من الأعمال، وفي هذه المادة تلخيص مفيد لما يتعلق بآداب السفر إلى الحج، والإحرام له، والطواف فيه.

آداب السفر إلى الحج

آداب السفر إلى الحج الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. نشرع في تلخيص المناسك -مناسك الحج والعمرة- ونحيل التفاصيل في الفروع الفقهية إلى درس السبت والخميس إن شاء الله. فالمقصود اليوم تبسيط المناسك بصورة عملية بحيث تسعف من يتعجل للسفر في هذه الأيام. وأول ما ينبغي الكلام فيه: آداب السفر إلى هذه الفريضة.

آداب التهيؤ للسفر

آداب التهيؤ للسفر فأول آداب السفر: أن يشاور الإنسان من يثق بدينه وعلمه وتقواه في أمر سفره، وأيضاً: أن يستخير الله تبارك وتعالى في هذا السفر، وذلك إذا لم يكن السفر فريضة. من آدابه أيضاً: أن يعزم على التوبة والرجوع عن جميع المعاصي والمخالفات، وأن يرد المظالم إلى أصحابها، فإن كان غصب مالاً أو اغتاب رجلاً، أو أخذ أي نوع من المظالم من صاحبها فعليه أن يرد هذه المظالم. ثم أيضاً: يقضي من ديونه ما أمكنه أو يستأذن صاحب الدين عليه. أيضاً من هذه الآداب: أن يرد الودائع إن كان عنده ودائع يحفظها للناس فيردها إلى أصحابها، حتى إذا قبض أو مات في سفره لم يطالب بها أمام الله. أيضاً: يطلب المسامحة خصوصاً ممن كان يكثر مصاحبته ومعاملته من زوجة ووالدين وغيرهما. أيضاً: يكتب وصيته إن كان له مال يوصي به، ويشهد عليها، بشرط ألا تزيد على الثلث، وأن يؤديها إلى أقاربه الذين لا يرثون، أو إلى جهة من جهات الخير. يوكل من يقضي عنه من ديونه ما لم يتمكن من وفائه. أيضاً: يترك لأهله نفقتهم إلى حين عودته، وأن يجتهد في إرضاء والديه، وتجتهد المرأة إذا سافرت في إرضاء زوجها والتوثق من مسامحته. من ذلك أيضاً: الاستكثار من الزاد والنفقة بنية مواساة المحتاجين ممن يصحبونه أو يلقاهم في سفره. كذلك ترك المماحكة والمشاجرة والخلاف، وعدم المسامحة في البيع والشراء. أيضاً من هذه الآداب: أن يختار الصحبة الصالحة كما قال بعض الناس: الرفيق قبل الطريق، فينبغي أن يختار ويتحرى في الصحبة التي تصحبه في الحج، فيختار الرفيق الموافق الذي يؤثر على نفسه، ويحرص على راحة من يرافقه، ويا حبذا لو كان من أهل العلم أو ممن عنده علم بحيث يذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر. من ذلك أيضاً: أن يؤمر القوم عليهم أميراً للسفر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم). كذلك أيضاً: أن يحصل وسيلة مواصلات قوية ومريحة.

فقه الحج والعبادات وآداب الرفقة

فقه الحج والعبادات وآداب الرفقة من هذه الآداب: أن يتعلم فقه الحج، وعلى الأقل يتعلم ما يصح به حجه، وما يفسد الحج، وكيف يتجنبه وهكذا، فيجب أن يتعلم من الفقه ما يصحح به عبادته ومناسكه، وأيضاً يتعلم من الفقه ما يحصل به النوافل، وما يزيد الحسنات ويضاعف الثواب في مثل هذه التجارة العظيمة، وفي مثل هذه المواضع المشرفة، فإن عجز عن ذلك فإنه يستصحب كتاباً شاملاً لمناسك الحج؛ بحيث يدمن ويداوم على مطالعته أثناء سفره ما بين الوقت والآخر حتى يستوثق من أداء المناسك على وجهها، أو يصطحب عالماً يرجع إليه كلما احتاج. من ذلك أيضاً: أن يجتهد في العبادة والذكر، وأن يتفرغ لهما في هذه الرحلة. من آداب السفر عموماً: أن يسافر يوم الخميس مبكراً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يسافر يوم الخميس، أما مبكراً فلقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها). ويستحب المشي في السفر ليلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل). من آداب هذا السفر: التقشف والرق، فيتجنب الإنسان تحصيل الشهوات ولو كانت مباحة كالطعام الزائد، والملابس الفخمة، والاهتمام بالمظهر، بل ينبغي أن يكون متقشفاً، ويتجنب الزينة والتبسط في الطعام والشراب وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم: (أتدرون من الحاج؟ الحاج الشعث التفل) الشعث: الذي تفرق شعر رأسه، لأنه لا يهتم بمظهره ولا بهذه الأشياء، والتفل: الذي لا يضع طيباً ولا بخوراً ولا مثل هذه الأمور. أيضاً من آداب السفر: حسن الخلق مع الناس، لقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] ومنها: تجنب المخاصمة والمخاشنة، ومزاحمة الناس، بل ينبغي أن يكون الإنسان منضبطاً، ولا يكون سلوكه في حال إحرامه وفي حال انطلاقه في هذا السفر المبارك مثل سلوكه في دار الإقامة، لأنه صار في حالة تلبس بعبادة من أعظم العبادات ينبغي أن ينزهها عن جميع المخالفات؛ لقوله تبارك وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] كما سنبين إن شاء الله، فنهى الله تبارك وتعالى عن الرفث والفسوق والجدال. والرفث: هو النطق بالكلام الذي يتعلق بالجماع، وقيل: هو ذكر أحوال هذا الأمر ما بين الرجل وبين أهله، ومواجهة النساء بذلك. والفسوق: هو جميع المعاصي من الخروج عن طاعة الله. ((وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)) أي: لا مماراة ولا مخاصمات ومجادلات تفضي إلى قسوة القلوب وإلى التفرق والشتات، فينبغي على الإنسان أن يكون منضبطاً. والتلبس بالمعاصي ينقص ثواب الحج جداً، ويكفي أن التلبس بالمعاصي يحرم الإنسان من الثواب العظيم على الأقل، وهو الثواب الذي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع في الرفث أو الفسوق أو أي شيء من المعاصي فإنه يقدح في استحقاقه لهذا الثواب العظيم، فينبغي لهذا الإنسان أن يكون متيقظاً حذراً من وقوع المخالفات. بل من العلماء -وهو الإمام ابن حزم رحمه الله- من أبطل حج من رفث أو فسق في حجه، فينبغي الاحتياط الشديد في ذلك.

أذكار السفر وما يتعلق بذلك

أذكار السفر وما يتعلق بذلك من ذلك أيضاً: أن يحافظ على الأذكار؛ سواء الأذكار الموظفة أو الأذكار المطلقة، فإن هناك أذكاراً قيدت بوظيفة معينة ينبغي على الإنسان أن يحافظ عليها، فيستحب للمسافر عموماً أن يواظب على نفس الأذكار التي تستحب للمقيم في الليل والنهار، واختلاف الأحوال، كالأكل والشرب، وعند النوم، وعند الاستيقاظ، وعقب الصلاة، وغيرها من الأذكار الموظفة. أما المسافر فيزيد أذكاراً أخرى منها: أنه يودع حينما يودع من يكونون في وداعه يقول لهم: (أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)، وفي بعض روايات الحديث: (أستودعكم الله الذي لا تخيب عنده الودائع) ففي الحديث: (إن الله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه) فلا ينسى الإنسان أن يستودع الله أهله وبنيه وكل من يكونون في وداعه بهذا الدعاء كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول المقيم للمسافر: (أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك). أستودع الله: أي أتركها وديعة عند الله، وهي ثلاثة أشياء: دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك. المقصود بالأمانة هنا: أهله ومن يخلفه، وماله الذي يتركه عند أمينه، وذكر الدين هنا، فقال: (أستودع الله دينك) أي: أن يحفظ عليك دينك، ويبقى عنده وديعة لا تضيع في السفر؛ لأن السفر مظنة المشقة، فربما كانت هذه المشقة سبباً لإهمال بعض أمور الدين والتفريط فيها، فلذلك خص هذا الأمر قبل كل شيء. قوله: (وخواتيم) جمع خاتمة، وهي: ما يختم به العمل، أي: يكون آخره، ودعا له بذلك لأن الأعمال بخواتيمها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) فلذلك اهتم بهذه الثلاث: دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك. وحينما يبعد الإنسان ولا يكون تحت رقابة القوم الذين يعرفونه ويعرفهم، ربما كان الشيطان عليه أقوى، فلذلك سمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن حقيقة أخلاق الشخص وطباعه، فيحتاج إلى توفيق من الله وعصمة؛ حتى لا يتردى مهاوي المخالفات. أيضاً يقول المودع للمسافر بعد أن يقول: أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك؛ يقول له أيضاً: زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مسافر: (زودني، فقال: زودك الله التقوى. قال: زدني. قال: وغفر ذنبك. قال: زدني. قال: ويسر لك الخير حيثما كنت) ثم يقول المودع للمسافر: (عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف). الشرف: هو ما علا من الأرض، فهذه أيضاً كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر. وإذا كان سفر حج أو عمرة يقول له المقيم: ادع الله لنا بخير، فإذا ولى المسافر وانطلق دعا له المقيم قائلاً: اللهم اطوله البعد، وهون عليه السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب كما قال صلى الله عليه وسلم. فإذا أراد ركوب دابته، أي: إذا أراد المسافر أن يركب المركوب فوضع رجله في الركاب يقول: باسم الله. وإذا كانت سفينة قال: كما قال نوح عليه السلام: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41] أي: أن مجراها باسم الله ومرساها، وهو منتهى سيرها كذلك. وأيضاً يدعو كما دعا نوح عليه السلام لما ركب الفلك: {رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون:29]. فإذا استوى واستقر على ظهر ما يركبه يقول: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] (مقرنين) أي: مطيقين أو مقتدرين عليه، فنحن ما كنا نطيق قهر هذه الدابة واستعمالها لولا تسخير الله تعالى إياها لنا. الإنسان إذا ركب جملاً فقوة الجمل لا تخفى، وإذا غضب الجمل وطاش كانت شدته وصعوبته عظيمة، فمن الذي ذلل الجمل بحيث يقوده طفل صغير؟ إن الذي ذلله هو الله تبارك وتعالى، فنحمد الله على هذه النعمة، خاصة إذا كانت هناك نعم أعظم وأعظم، كركوب الطائرات أو السيارات أو ما إلى ذلك من الوسائل الحديثة التي وفرت الراحة، وهي من نعم الله تبارك وتعالى علينا، فنشكر الله على هذه النعمة وهذا التيسير! فيقول: الحمد لله، {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. النبي صلى الله عليه وسلم لما علمهم هذا الدعاء ضحك بعدما قال: (سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقال له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله! من أي شيء ضحكت؟ فقال: إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري). ويقول أيضاً: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا بنصحك واقلبنا بذمة، اللهم اطو لنا الأرض، وهون علنيا السفر) الذمة: العهد، والذمام العهد والأمان، اللهم اقلبنا: أي: أرجعنا إلى أهلنا (بذمة) أي: بعهد وأمان وضمان منك أن نعود آمنين سالمين. ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)، وعثاء السفر: شدته ومشقته وتعبه. (وكآبة المنظر) الكآبة: هي الحزن والتغير والانكسار من مشقة السفر، وما يحصل على المسافر من الاهتمام بأموره. (وسوء المنقلب) سوء الانقلاب إلى أهله بعد السفر، وذلك بأن يرجع مهموماً أو منقوصاً ومهموماً بما يسوءه، فيتعوذ الإنسان من سوء المنقلب. ويقول أيضاً: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال) الحور: هو النقصان والرجوع، والكور أو الكون المقصود به: الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية، أي: الرجوع من شيء إلى شيء من الشر، أو الرجوع من الاستقامة والزيادة إلى الاعوجاج والنقص، فهذا معنى الكون في قوله: (أعوذ بك من الحور بعد الكون)، ومن رواه بالراء (أعوذ بك من الحور بعد الكور) فالمقصود به هنا: الزيادة، مأخوذ من تكوير العمامة، فكلما كورها زادت، والمقصود التعوذ من الانتقاص بعد الزيادة والاستكمال، ورواية الكون معناها مأخوذ من الاستقرار والثبات، فالمراد التعوذ من النقصان والتغيير بعد الثبات والاستقرار حتى لا يتحول قلبه وينقص في دينه. وإذا علا الثنايا كبر، وإذا هبط سبح: أي: إذا ارتفع فوق جبل يكبر، وإذا هبط في الوديان يسبح، فأولى إذا ركب الطيارة أن يكثر من التسبيح، وإذا عثرت دابته، أو تعطلت السيارة أو شيء من هذا يقول: باسم الله. وإذا نزل منزلاً قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه إذا قال ذلك لن يضره شيء، ولما كان لا يجوز وصف أي شيء من كلام الله بالنقصان تعوذ صلى الله عليه وسلم بكلمات الله التامة؛ لأنها ليس فيها نقصان ولا عيب كما يكون في كلام الآدميين، وقيل: معنى (التامات) أن ينتفع بها المتعوذ وتحفظه من الآفات. وإذا أتى عليه السحر وهو الجزء الأخير من الليل قال: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا؛ عائذاً بالله من النار) كما كان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. (سمع سامع): المقصود فليشهد الشاهد، أو ليسمع السامع وليشهد على حمد الله سبحانه وتعالى على نعمه وحسن بلائه. وقيل معناه: انتشر ذلك وظهر، وسمعه السامعون أن نعم الله علينا قد ذاعت وكثرت وترادفت بحيث علم بها الجميع، فسمعها السامعون، وشهد الشاهدون. (وحسن بلائه علينا): المقصود بالبلاء: حسن بلاء النعمة، والبلاء: الاختبار والامتحان، فالبلاء بالقول ليتبين به الشكر، والابتلاء بالشر ليظهر الصبر. (ربنا صاحبنا): أي: احفظنا؛ لأن من صحبه الله لم يضره شيء. (عائذاً بالله من النار): تحتمل وجهين: أحدهما أن يريد: أنا عائذ بالله من النار. أو يقول: أنا متعوذ بالله من النار. فعلى المسافر أن يكثر من الدعاء، وهذا من أهم آداب السفر التي يقصر فيها كثير من الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده) جعل منهن صلى الله عليه وسلم دعوة المسافر، فالمسافر ينبغي أن يكثر من الدعاء؛ لأن دعوة المسافر مستجابة. وعلى المسافر أن يكون على دراية بأحكام الطهارة والصلاة، وما يحتاج إليه من الرخص أو الفقه الخاص بجمع الصلاة، والمسح على الجورب، وهكذا ما قد يحتاج إليه من الأحكام في سفره. فهذا فيما يتعلق بآداب السفر.

تنبيهات تتعلق بالمناسك

تنبيهات تتعلق بالمناسك

اجتناب الوقوع في الشرك

اجتناب الوقوع في الشرك هناك بعض التنبيهات تتعلق بالمناسك، وهي بعض المخالفات التي يقع فيها كثير من الناس، أعظمها بلا شك الوقوع في بعض الشركيات التي لا تليق بالمسلم الموحد، فيستغيث بعض الناس بغير الله، ويستعينون بالأموات من الأنبياء أو الصالحين ويدعونهم من دون الله، أو يحلفون بهم تعظيماً لهم؛ فيبطلون بذلك حجهم؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. ينبغي أن يعبد الله وحده لا شريك له، لا يشرك الإنسان مع الله أي شيء من الملائكة أو النبيين أو الصالحين؛ لقوله تعالى، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإذا كنا بصدد التحذير من المعاصي في الحج، فأولى ثم أولى أن يحذر المسلمون الوقوع في الشرك، للأسف كثير من المسلمين يقعون في أشياء وهذا مشتهر ومعروف، وهو من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر كهذه النماذج التي ذكرناها.

اجتناب حلق اللحى

اجتناب حلق اللحى كذلك بعض الناس يتزينون بحلق اللحية، وهذه معصية، والإصرار عليها يجعلها من الكبائر؛ لأنها ضمن الفسق: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197] الفسوق ذكرنا أنه يدخل فيه جميع المعاصي، فمن المعاصي المحرمة في الحج وفي غير الحج، وفي حالة الإحرام وفي غير الإحرام: أن يحلق الإنسان لحيته مضادة لأمر الله تبارك وتعالى، فهذا مما يشيع أيضاً في المسلمين في هذا الزمان، معاندة لأمر الله تبارك وتعالى. والأدلة باختصار شديد جداً على تحريم هذه المعصية: أولاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام ظاهره الوجوب، فينبغي امتثاله، وعدم التحذلق والتنطع والتفلسف لإبطال أمر النبي وتعطيله. الأمر الثاني: أن في حلق اللحية تغييراً لخلق الله بدون إذن من الشرع، فالهيئة التي خلقك الله عليها ينبغي أن تحافظ عليها فلا تغيرها، إلا ما ورد الدليل باستثنائه، فهذا يجوز تغيير خلق الله فيه، بل قد يجب. من ذلك مثلاً: نتف الإبط، وحلق العانة، والختان، وتقليم الأظفار، كل هذا تغيير لخلق الله، لكنه تغيير بأمر من الشارع؛ لأنه من خصال الفطرة. والذي يأمر بتغيير خلق الله هو الشيطان قال تعالى عنه: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، فحلق اللحية فيه تغيير لخلق الله. وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن النساء، فقال: (لعن الله النامصات والمتنمصات، والواشمات والمستوشمات، والمتفلجات بالحسن المغيرات خلق الله) فإذا كان قد حرم على النساء أن يتزين بهذه الأنواع من الزينة المحرمة التي فيها تغيير لخلق الله، فأولى أن يحرم ذلك على الرجال. الأمر الثالث: أنها من سنن الفطرة، فسنن الفطرة بعضها واجب، وبعضها في وجوبه خلاف، ولكن على الأقل ينبغي الاستمساك بالفطرة وسنن الأنبياء، وما كانوا عليه أجمعون. ومن ذلك أن في حلق اللحية تشبهاً بالنساء، فالله عز وجل خص الرجال على النساء بوجود اللحية في وجوههم، بل اللحية من نعم الله تبارك وتعالى على الرجال، فحلقها كفر بهذه النعمة؛ لأنها من خصال الذكورة والفحولة والرجولة، وقد (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من النساء بالرجال، والمتشبهات بالرجال من النساء). أيضاً: في حلق اللحية تشبه بالكفار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خالفوا المجوس -أو خالفوا المشركين أعفوا اللحى وأحفوا الشوارب). ورد الأمر بإعفاء اللحية بخمس صيغ: (أعفوا اللحى، أوفوا اللحى، أرجوا اللحى، أرخوا اللحى، وفروا اللحى)، ومعناها كلها تركها على حالها لا يقربها، والأدلة في هذا الأمر كثيرة، والكلام في هذا يطول، لكن مما يؤسف له أن المسلم قد يموت قريبه، فإذا أراد أن يظهر الجزع والحزن ترك لحيته، إظهاراً للجزع لا طاعة لله ورسوله، أو انصياعاً وراء الآراء والتقاليد الفاسدة.

اجتناب لبس خاتم الذهب

اجتناب لبس خاتم الذهب أيضاً من ذلك شيوع لباس خاتم الذهب: كثير من الرجال يلبسون خاتماً من ذهب أو ساعة أو نظارة ذهب، فهذا الأمر شائع جداً، وبالذات ما يعرف بدبلة الخطوبة أو خاتم الزواج، هذا بجانب أنه محرم على الرجل أن يلبس خاتماً من الذهب ففيه تشبه بالنصارى من الكفار، فيحرم على الرجل لبس خاتم الذهب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها). أيضاً: لما رأى في إصبع رجل خاتماً من ذهب نزعه من إصبعه صلى الله عليه وسلم وألقاه في الأرض، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في إصبعه، فألقاها، فبعدما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال الناس للرجل: خذه فانتفع به، قال: لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ذكر ما يجوز للمحرم مما قد يتحرج منه بعض الناس

ذكر ما يجوز للمحرم مما قد يتحرج منه بعض الناس

غسل المحرم رأسه

غسل المحرم رأسه إن في الحج أفعال يجوز للمحرم فعلها، ويظن بعض الناس أنها ممنوعة، ومنها: الاغتسال للإحرام، ودلك الرأس، ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن حنين أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة: (اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك، فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب، قال: فسلمت عليه فقال: من هذا؟ قلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب رضي الله عنه يده على الثوب الذي كان يتخذه ستارة وهو يغتسل فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل) فقال المسور لـ ابن عباس: لا أماريك أبداً، يعني: لا أجادلك بعد ذلك أبداً؛ لأن الحجة والعلم معك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ربما قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعال أباقيك في الماء أينا أطول نفساً! ونحن محرمون. وكأنهما كانا في البحر أو نحوه، فينظر أيهما أطول بقاء في الماء إذا غطس، كنوع من الترفيه أو المزاح. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتناقلان -يعني: يتغاطسان يغوص أحدهما رأس صاحبه- وعمر ينظر إليهما فلم ينكر ذلك عليهما.

حك الرأس ولو سقط منه شعرات

حك الرأس ولو سقط منه شعرات ومن الأمور التي لا حرج فيها حك الرأس ولو سقط منه بعض الشعر، ويدل عليه حديث أبي أيوب الذي ذكرناه في اغتساله أنه جعل الرجل يصب على رأسه وهو يحرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، مع احتمال أن تسقط شعرة أو عدة شعرات. وروى مالك عن أم علقمة بن أبي علقمة أنها قالت: سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن المحرم: أيحك جسده؟ فقالت: نعم، فليحككه وليشدد، ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت، يعني: برجلها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وله أن يحك بدنه إذا حكه، وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره.

الاحتجام وشم الريحان وطرح الظفر المنكسر ونحوه

الاحتجام وشم الريحان وطرح الظفر المنكسر ونحوه أيضاً: يجوز الاحتجام ولو بحلق الشعر التي في مكان الحجم؛ لحديث ابن بحينة رضي الله عنه قال: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم في موضع بطريق مكة في وسط رأسه). أيضاً من ذلك: شم الريحان، وطرح الظفر إذا كان طويلاً فانكسر؛ لكن لا يستأنف هو قص أظافره. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى فإن الله عز وجل لا يصنع بأذاكم شيئاً. وعن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر وهو محرم، فقال سعيد: اقطعه.

الاستظلال بالخيمة ونحوها

الاستظلال بالخيمة ونحوها أيضاً من الأمور الجائزة للمحرم: الاستظلال بالخيمة أو المظلة، وأيضاً يستظل بالسيارة، وبعض المتنطعين وهم الرافضة الشيعة يتنطعون في هذا الأمر، فتجد (الأتوبيسات) التي يسافرون فيها قد أزالوا منها السقف، وهذا من ضلالهم وتنطعهم وابتداعهم في الدين، فهذا لم يأذن به الله عز وجل؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنصب القبة له بنمرة، ثم نزل بها وهو محرم. وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: (حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً رضي الله عنهما أحدهما بخطام ناقته، والآخر رافعاً ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة).

شد المنطقة والحزام على إزاره

شد المنطقة والحزام على إزاره وله أن يشد المنطقة والحزام على إزاره، فلا بأس أن يضع حزاماً في وسطه، وله أن يعقده عند الحاجة، وأن يتختم، وأن يلبس ساعة اليد، ويضع النظارة لعدم النهي عن ذلك: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وعن عائشة رضي الله عنها: (أنها سئلت عن الهميان للمحرم -وهو شيء مثل الحزام توضع فيه النقود- فقالت: لا بأس به ليستوثق من نفقته) أي: حتى يستوثق ويضمن أنه حافظ على نفقته وماله، فيحتاج المحرم لمثل هذا حتى يحافظ على المال. وعن عطاء قال: (يتختم المحرم ويلبس الهميان). رواه البخاري تعليقاً، فلا شك أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة، مع عدم ورود ما ينهى عنه، قال الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]. فهذه بعض التنبيهات على أشياء يتحرج منها بعض الناس.

أمور ينبغي على المحرم الانتباه لها

أمور ينبغي على المحرم الانتباه لها

الغسل للإحرام وصفة لباس الإحرام

الغسل للإحرام وصفة لباس الإحرام قبل الإحرام ينبغي للإنسان أيضاً أن يلاحظ هذه الأمور. أولاً: يستحب لمن عزم على الحج أو العمرة المفردة أن يغتسل للإحرام، ولو كانت حائضاً أو نفساء، فهذه أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وأن تستثفر، وهذا مجرد تنظف وليست طهارة، لأنها إذا حاضت أو نفست واغتسلت فهذا الغسل لا يطهرها ولا يجيز لها الصلاة، لكن مع ذلك أمرها عند الإحرام أن تغتسل، فغير الحائض والنفساء أولى. فيستحب للإنسان أن يغتسل غسل الإحرام قبل أن يحرم، ثم يلبس الرجل ما شاء من الألبسة التي لم تفصل على قدر الأعضاء، وهي التي يسميها الفقهاء الثوب المحيط، وهو الشيء الذي يفصل على قدر العضو، كأن تقول: هذا كم، وهذا سروال، وهذا كذا. فعلى المحرم أن يلبس أشياء غير مفصلة على قدر العضو، وذلك كالإزار والرداء في هيئته، ويلبس النعلين، وهو هنا: كل ما يلبس على الرجلين لوقايتهما مما لا يستر الكعبين فهو جائز، والكعبان: هما العظمان الناتئان في جانبي القدم، فهذا هو الأولى؛ لكن إذا لم يجد نعلين فإنه يلبس خفين. ولا يغطي الرجل رأسه بشيء مما يستر الرأس بطريقة مباشرة لا قلنسوة ولا عمامة، أما المرأة فلا تنزع شيئاً من لباسها، إلا أنها تمنع من أمرين: من النقاب، ومن القفاز، كما قال صلى الله عليه وسلم، في الحديث: (لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين إلا ألا يجد نعلين فليلبس الخفين)، وقال: (لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين)، لكن ليس معنى هذا أن المرأة تكشف وجهها، فهذا النهي ليس عن تغطية الوجه والكفين مطلقاً، وإنما هو عن تغطيتهما بلباس معين وهو النقاب أو القفاز، لكن إذا مر بها الرجال فلتستتر بأن تسدل جلبابها على وجهها وأن تسدل كمها حتى يستر كفها. فلا يفهم من الحديث أن المرأة تكشف الوجه والكفين أمام الأجانب وهي محرمة، وإنما المقصود أن إحرام المرأة في الوجه والكفين، وأن وجه المرأة مثل بدن الرجل لا مثل رأسه، فلو قلنا: إن وجه المرأة وكفيها مثل رأس الرجل لوجب عليها أن تكشفه في كل وقت في الإحرام، لكن الصحيح أن وجه المرأة وكفيها مثل بدن الرجل يغطى لكن لا بمخيط، كذلك وجه المرأة وكفاها يغطيان لكن لا بمخيط وهو القفاز؛ لأن القفاز مخيط، وكذلك النقاب يقطع على قدر الوجه، فهذا أيضاً لا يلبس، لكن ستر وجهها كما كانت النساء يفعلن في صحبة عائشة رضي الله عنها في الإحرام. تقول أسماء: (كنا إذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا) فيفهم من هذا أنها تسدل سدلاً، لكن لا تستعمل النقاب، والنقاب: هو قطعة تغطي الجبهة، وقطعة تأتي على عظمة الأنف وما تحته، فبالتالي تظهر العينان، فالنقاب من النقب، وهو: الثقب ويسمى أيضاً: البرقع، أما إذا جعلت النقاب على طرف الأنف فيسمى اللثام، فالمقصود أنها تستر وجهها وكفيها، لكن لا بالنقاب، وتغطي يديها لكن ليس بالقفاز، هذا بالنسبة لإحرام المرأة، والله أعلم.

متى يصير المرء محرما

متى يصير المرء محرماً وللمرء أن يلبس الإحرام قبل الميقات ولو في بيته، لكن ليس معنى ذلك أنه يصير محرماً، لأنه لا يكون محرماً إلا بالنية، فالإزار والرداء يلبسه الإنسان في أي حالة عادية، كذلك امتناعه عن محظورات الإحرام ليس إحراماً، فلابد من النية، فله أن يلبس الإحرام قبل الميقات ولو في بيته كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فهذا فيه تيسير على الذين يحجون بالطائرة، فلا يحتاجون إلى تغيير الملابس، ولبس الإزار والرداء فيها، فلا بأس أن يلبس في المطار الإزار والرداء، لكن لا يحرم إلا قبل أن يصل الميقات بيسير حتى لا يفوت الميقات وهم غير محرمين. أيضاً المحرم بعدما يغتسل غسل الإحرام يدّهن ويتطيب في بدنه لا في ثوبه، وطيب الرجل في بدنه يكون في اللحية والرأس، لكن الرجل لا يضع الطيب في جبهته ووجنتيه هذا للنساء، أما الرجل فيضع الطيب في شعره وفي لحيته أو في بدنه عامة بأي طيب شاء له رائحة ولا لون له، أما النساء فطيبهن ما له لون ولا رائحة له، هذا كله قبل أن ينوي الإحرام. فهو في الحقيقة سوف يستديم الطيب ولم يستأنف الطيب، لأنه بعد اغتسال غسل الإحرام يضع الطيب، ثم يحرم بعد قليل، فيبقى أثر الطيب بعد إحرامه؛ وهذا لا يعد محظوراً، لكن لو أنه مسح الطيب من رأسه ووضعه في أي موضع آخر، فإنه يعتبر قد ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام وعليه دم؛ لأنه بهذا النقل كأنه استأنف تطييب هذه المنطقة، لكنه لو سال بفعل العرق أو نحوه فلا بأس. فاستبقاء أثر الطيب الذي وضعه وهو حلال قبل أن يحرم لا حرج فيه، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أرى وبيص الطيب في مفرقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم) أي: كان يلمع طيب المسك في مفرقه وهو محرم، فدل على أن أثر الطيب يبقى، وكان هذا استدامة وليس استئنافاً للطيب، لكن متى ما أحرم يحرم عليه أن ينقل الطيب من موضع إلى موضع.

الإحرام من الميقات المكاني

الإحرام من الميقات المكاني إذا وصل الميقات المكاني وجب عليه أن يحرم، ولا يكون ذلك بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته؛ لأن نية الحج موجودة وهو خارج من بيته، فالمقصود أن توجد نية الإحرام بجانب التلبس بالأمور المختصة بالإحرام وبالذات التلبية، فالقصد مازال في القلب منذ خرج من بلده، فلابد مع القصد من قول أو عمل يصير به محرماً، فإذا لبى قاصداً للإحرام انعقد إحرامه اتفاقاً، وذلك أنه بمجرد أن يصل الميقات يقول: لبيك اللهم لبيك! ويستمر في التلبية ناوياً الإحرام. ولا يقول بلسانه شيئاً بين يدي التلبية من البدع والعبادات المخترعة التي يقولها الناس في ذلك الموطن، مثل قولهم: اللهم إني أريد الحج أو العمرة فيسره لي وتقبله مني إلى آخره؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: إني نويت الحج والعمرة، وبعض العلماء يستحبها حتى لا ينسى، ولكن الأقرب أن هذا التلفظ بالنية لم يثبت من فعله صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة والطهارة والصيام وغيرها. أما المواقيت المكانية فهي خمسة مواقيت: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم، وذات عرق، (هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة، ومن كان منزله دونه فمهله من منزله، حتى أهل مكة يهلون من مكة). هذه المواقيت حددها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لمن قصد مكة للنسك أن يتجاوزها بدون إحرام. أما ذو الحليفة فهو مكان معروف يبعد عن المدينة المنورة حوالى أحد عشر كيلو متراً، ويبعد عن مكة أربعمائة وخمسين كيلو متر، وهو أبعد ميقات. الجحفة كانت تسمى من قبل المهيعة، وهي تبعد عن مكة حوالى مائتي كيلو متر، والجحفة الآن قد انقرضت، وأصبح الناس يحرمون من مكان قبلها بقليل يسمى (رابغ)، وهو ميقات أهل المغرب والقادمين من مصر. وقرن المنازل يبعد عن مكة حوالى أربعة وتسعين كيلو متراً، ويلملم يبعد أربعة وخمسين كيلو متراً، وذات عرق تبعد حوالى أربعة وتسعين كيلو متراً. فهذه المواقيت لأهلهن، أي: لمن يدخل هذه الأماكن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن، أي: بغض النظر عن جنسيته، مثلما لو أن مصرياً يعيش في اليمن فذهب للعمرة من اليمن فإنه يحرم من يلملم. والذي يكون في مكان أقرب لمكة من الميقات فميقاته من مكانه، وهو معنى قوله: (وأهل مكة يهلون من مكة). أما ذو الحليفة فهو مكان قريب من المدينة المنورة بينه وبينها أحد عشر كيلو متراً، ويسمى وادي العقيق، والمسجد هناك يسمى مسجد الشجرة، وفيها بئر، ويسميها جهال العامة: أبيار علي يزعمون أن علي بن أبي طالب قاتل الجن في هذا المكان، وهذا من خرافاتهم وأكاذيبهم.

كيفية الإحرام

كيفية الإحرام فإذا أتى الميقات وأراد الإحرام نوى بقلبه العمرة أو الحج، فإذا استوى على الدابة وابتدأ السير استقبل القبلة وحمد الله وسبح وكبر ثم قال: لبيك اللهم بعمرة إن كان معتمراً أو متمتعاً، أو: لبيك اللهم بحجة وعمرة إذا كان قارناً قد ساق الهدي، أو: لبيك اللهم بحجة إذا كان مفرداً. وللمرء أن يشترط إذا كان مريضاً يخشى الوجع، ويخاف أن صحته لا تساعده فيضطر للرجوع، فيقول: لبيك اللهم لبيك! ومحلي من الأرض حيث تحبسني، ويقول: اللهم هذه عمرة، أو اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ثم يرفع صوته ملبياً بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينوي النسك: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك. فيكررها، ويستحب ألا يزيد عليها، لكن يجوز أن يزيد زيادات أخرى كما كان بعض الصحابة يقولون: لبيك إله الحق لبيك. أو يزيد مثلاً: لبيك ذا المعارج، ولبيك ذا الفواضل، أو: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل، فهذا جائز فقط لا مستحب، فلا تنكر على من فعل هذا، لكن الأفضل أن تلزم تلبية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الصيغة المشهورة المعروفة، فيلزم التلبية ويحافظ عليها؛ لأنها من شعائر الحج. والتلبية مأخوذة من لبى، بمعنى: أجاب، فكلمة (لبيك) معناها تلبية بعد تلبية، فمعناها هنا المسمى، وتسميتها للتكثير أي: إجابة لك بعد إجابة ولزوماً بطاعتك، يقول الإمام النووي رحمه الله: اتفق العلماء على استحباب التلبية، ويستحب الإكثار منها في دوام الإحرام، وتستحب قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وجنباً وحائضاً، ويتأكد استحبابها في كل صعود وهبوط، وحدوث أمر من ركوب أو نزول أو اجتماع رفقة أو فراغ من صلاة، وعند إقبال الليل والنهار، ووقت السحر، وغير ذلك من تغاير الأحوال. وليس للإحرام صلاة تخصه كما يتوهم كثير من الناس، لكن السنة أن تحرم بالحج أو العمرة عقب صلاة فرض أو نافلة؛ لكن ليس هناك سنة مستقلة للإحرام، فإذا كان الإحرام في وقت من أوقات النهي عن الصلاة فلا تصلي ركعتين تنفلاً بنية الإحرام؛ لأنهما ليستا من ذوات الأسباب، لكن السنة أن يكون الإحرام عقب صلاة فرض أو نافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم عقب صلاة الظهر، لكن إذا كان ميقات الشخص من ذي الحليفة استحب له أن يصلي في هذا المكان عند ذي الحليفة لا لخصوص الإحرام وإنما لخصوص المكان وبركته. فقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة، أو عمرة وحجة). وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأي -وفي رواية: أري- وهو معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة) فلذلك أمر بالصلاة في هذا المكان. فمن كان ميقاته من ذي الحليفة فلا بأس أن يصلي في هذا الوادي لخصوص الوادي المبارك وليس لسنة الإحرام.

محظورات الإحرام

محظورات الإحرام

الرفث والفسوق والجدال وحلق الشعر

الرفث والفسوق والجدال وحلق الشعر ما هي الأشياء التي تحرم على الإنسان بالإحرام حتى يحل من إحرامه؟ أول ذلك ما جاء في قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، والرفث كامن في أمرين: مباشرة النساء بالجماع ومقدماته والكلام بذلك. والفسوق في الآية كامن بجميع أنواع الخروج عن طاعة الله تبارك وتعالى، فأي معصية فسق. والجدال: المخاصمة والمراء حتى يغضب صاحبه. من ذلك أيضاً ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه من حلق شعر الرأس: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] فحلق شعر الرأس أو شعر البدن عموماً من المحظورات.

ما يحرم من اللباس على المحرم

ما يحرم من اللباس على المحرم من ذلك أيضاً تغطية المحرم الذكر رأسه، فهذا أيضاً لا يحل له في الإحرام. ومن ذلك أن يلبس أي شيء يحيط بالبدن أو بعضه، وأي شيء يغطي الرأس، فلا يجوز للمحرم لبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا الخف أيضاً، إلا إذا لم يجد نعلاً فإنه يجوز له لبس الخفين. كذلك إذا لم يجد إزاراً فيجوز له لبس السراويل. كذلك لا يجوز له أن يلبس ثوباً مسه ورس أو زعفران، والزعفران: هو صبغة صفراء، وهذا في حق الرجال، وكما ذكرنا أن النساء يلبسن ما شئن من أنواع الثياب إلا أنه لا يجوز لهن أن ينتقبن، ولا أن يلبسن القفازين، وهذا هو معنى قولنا: إحرام المرأة في وجهها وكفيها. من ذلك أيضاً: عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم أن يتزوج، ولا أن يزوج غيره في حالة الإحرام، سواء كان بوكالة أو بولاية، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.

صفة التلبية وذكر فضلها

صفة التلبية وذكر فضلها بعد ذلك يستقبل القبلة ثم يلبي بالعمرة أو بالحج كما ذكرنا، فيقول: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ويلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمر المحرم برفع صوته بالتلبية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج) وهو رفع الصوت بالتلبية. والثج هو: ثوران دماء الهدي والأضاحي، فهذا من أفضل مناسك الحج، ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته يصرخون بالتلبية صراخاً يرفعون أصواتهم. قال أبو حازم: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم. لكن لا تكون التلبية بصوت جماعي كما يفعل الناس، القاعدة أنه حيثما شرع الجهر بالذكر فلا يكون بصورة جماعية، سواء في ختام الصلاة أو غيرها كما هو أقرب للأدلة. كذلك في تكبيرات العيد كل إنسان يكبر وحده، وليس بالصورة الجماعية الموجودة الآن، فهذه من البدع. كذلك أيضاً التلبية شرع فيها الجهر بالذكر، فليس من السنة أن يلبي الناس بصوت واحد في جماعة، لكن السنة أن كل شخص يلبي وحده. والنساء يلبين كما يلبي الرجال، لكن لا يشرع للمرأة أن ترفع صوتها خشية الفتنة، وإن كان قد وردت آثار أن عائشة رضي الله عنها سمعت وهي تلبي. ويواظب على التلبية ولا يقصر فيها؛ لأن ثواب التلبية عظيم جداً، والتلبية من شعائر الحج، ومن تعظيم شعائر الله أن تواظب على التلبية طوال فترة الإحرام، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا)، يعني: عن يمينه وشماله؛ وبخاصة كلما علا شرفاً أو هبط وادياً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنية له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية) وفي حديث آخر: (كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي يلبي). ويجوز أن تخلط التلبية بالتهليل، أي: بلا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتلبية أو تهليل، فإذا بلغ الحرم المكي ورأى بيوت مكة أمسك عن التلبية). وبعض العلماء يقول: إن من كان محرماً بالعمرة قطع التلبية عند وصوله إلى الحجر الأسود، أما الحج فيلبي باستمرار ولا تنقطع التلبية إلا عند رمي جمرة العقبة.

آداب دخول مكة

آداب دخول مكة من السنة أن يغتسل لدخول مكة قبل الدخول، ويدخلها نهاراً أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلا، فإنه صلى الله عليه وسلم دخلها من الثنية العليا، ثنية كداء المشرفة على المقبرة عند الحجون، ودخل المسجد من باب بني شيبة، فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود، فيتحرى أن يدخل من باب يوصله مباشرة إلى الحجر الأسود، وله أن يدخل مكة من أي طريق شاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل فجاج مكة طريق ومنحر) وفي حديث آخر: (مكة كلها طريق، يدخل من هاهنا، ويخرج من هاهنا). فإذا دخل المسجد فيراعي آداب دخول المسجد الحرام، فيقدم رجله اليمنى ويقول: (اللهم صل على محمد وسلم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)، فإذا رأى الكعبة يجوز أن يرفع يديه؛ لأن ذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع والمهابة والإجلال، ويدعو بما تيسر له أو يدعو بدعاء عمر رضي الله عنه حينما رأى الكعبة قال: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام). قوله: (اللهم أنت السلام) أي: أنت الذي اسمك السلام، وهو من أسماء الله الحسنى. (ومنك السلام) أي: منك تأتي السلامة من الآفات والبلايا. (فحينا ربنا بالسلام) أي: اجعل تحيتنا في وفودنا عليك السلامة من الآفات. فإذا أتى الحجر الأسود أمسك عن التلبية، بعض العلماء كما ذكرنا يقول: إذا أتى بيوت مكة قطع التلبية؛ لأنه حينئذ ينشغل بأمور أخرى حيث يعتني بمتاعه وإيداعه في مكان أمين إلى غير ذلك. بعد ذلك يبدأ في طواف القدوم، وإذا كان معتمراً فإنه ينوي طواف العمرة، والقارن أيضاً ينوي طواف العمرة.

صفة الطواف وآدابه

صفة الطواف وآدابه وصفة الطواف: أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، وهناك شيء يسهل الطواف وهو أنه يوجد خط بني من الرخام مقابل الجهة التي عندها الحجر الأسود، فيبدأ الشوط منها، فيستقبل الحجر الأسود، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر، فإذا واجهه استلمه بيديه، يقول: باسم الله والله أكبر ثم يقبله، ثم إن شاء سجد عليه، هذه هي الصورة المثلى لاستلام الحجر الأسود، فيستقبله ويستلمه بيديه ثم يقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر، وذلك بحيث يكون جميع الحجر عن يمينه ويكون منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر، ثم يبتدئ طوافه ماراً بجميع بدنه على جميع الحجر جاعلاً يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفاً بالبيت، ثم يمر وراء الحِجْر، ويدور بالبيت فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوفة واحدة، ثم يفعل ذلك حتى يتمم سبعة أشواط، وكلما مر بالحجر الأسود يستلمه ويقبله ويسجد عليه إن استطاع، وإن لم يستطع فيستلمه ويقبله، فإن لم يستطع يستلم بيديه ويقبل يديه، فإن لم يستطع فيشير إليه من بعيد ويقول: باسم الله والله أكبر. أما في الركن اليماني فليس عنده ذكر معين، لكن يستلمه فقط بدون ذكر، وإذا لم يستطع فلا يشير إليه، هذا بالنسبة للركن اليماني الذي من الجهة اليمانية. ويقول الشنقيطي رحمه الله: أصح أقوال أهل العلم أنه لابد أن يكون جميع بدنه حال طوافه خارجاً عن شاذوران الكعبة؛ لأنه منها، وكذلك لابد أن يكون جميع بدنه حال طوافه خارجاً عن جدار الحجر؛ لأن أصله من البيت، ولكن لم تبنه قريش على قواعد إبراهيم؛ لأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين، وإذا صليت داخل الحجر فأنت تصلي داخل الكعبة. وهناك سنن في طواف القدوم أو طواف العمرة الذي تفعله أول ما تقدم إلى مكة: فيسن حينما تقترب من الكعبة وقبل ما تبدأ الطواف الاضطباع، والاضطباع هو كشف الضبع وهو أعلى الذراع أو أعلى الكتف، بأن يرد الرداء على كتفه الأيسر ويكشف الأيمن. بعض الناس حينما يحرمون من الميقات يضطبعون، وهذه بدعة مخالفة للسنة، فلا يتصورون إحراماً إلا بكشف الكتف، والاضطباع إنما يكون عند طواف القدوم فقط، وفيما عدا ذلك لا اضطباع، فإذا فرغ من الطواف فلابد أن يغطي كتفه؛ لأنه سيصلي. ويسن أيضاً في الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم الرمل، والرمل: هو عبارة عن تقارب الخطا مع الإسراع في المشي. وحكمة تشريع الرمل أن الصحابة لما أتوا للعمرة منعوا في الحديبية، وفي العام المقبل أتوا ليعتمروا، فكان المشركون يتهمونهم بالضعف حتى قالوا: أتاكم قوم قد أنهكتهم حمى يثرب، فكانوا يظهرون الشماتة في الصحابة أن حمى المدينة قد أنهكتهم وأمرضتهم، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يظهر الجلد والقوة حتى لا يشمت المشركون، فأمرهم أن يسرعوا في الخطا حتى يظهروا الجلد والقوة، وأنهم في عافية، ثم بقي هذا الحكم مع أن علته قد زالت بتمكين المسلمين من الفتح، فهذا لا ينافي أن هناك علة أخرى لهذا الحكم، وهذه العلة هي أن يتذكر المسلمون نعمة الله عليهم بالقوة بعد الضعف، وبالكثرة بعد القلة. ويشترط للطواف الطهارة من الحدث والخبث وستر العورة.

مجمل ما يفعله الطائف بالبيت

مجمل ما يفعله الطائف بالبيت مجمل ما يفعله في طواف القدوم: أن يبادر إلى الحجر الأسود فيستقبله ويكبر، والسنة أن يقول: الله أكبر، وهذا قد ثبت في الحديث المرفوع، أما التسمية فهي ليست في حديث مرفوع، ولكنه موقوف على ابن عمر، فلا بأس أن يقول: باسم الله، والله أكبر، ثم يستلمه بيده فيمسحه ويقبله بفمه، ويسجد عليه أيضاً، فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر وابن عباس، فإن لم يمكنه تقبيله مسحه ثم قبل يده، فإن لم يمكنه الاستلام أشار إليه من بعيد بيده، ويفعل ذلك في كل طوفة ولا يزاحم عليه؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمر إنك رجل قوي فلا تؤذ الضعيف، وإذا أردت استلام الحجر فإن خلا لك فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر) وفي استلام الحجر فضل كبير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبعثن الله الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، ويشهد على من استلمه بحق) وهذا حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (مس الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطّاً). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من الجنة) أي: ليس على وجه الأرض شيء من الجنة غير الحجر الأسود، (الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك). ثم يبدأ الطواف حول الكعبة يجعلها عن يساره، فيطوف من وراء الحِجْر سبعة أشواط يضطبع فيها كلها، ويرمل في الثلاثة الأول منها، ويمشي في سائرها، ويستلم الركن اليماني بيده في كل طوفة دون أن يقول: باسم الله والله أكبر، وإذا عجز عن استلامه من بعيد لا يشير إليه، ولا يقول شيئاً؛ لكن السنة بين الركنين أن يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فهذا هو الدعاء المأثور مع التسمية في الطواف، وما عدا ذلك فلا يوجد دعاء مأثور. لكن الركنين الشاميين لا يستلمهما، وبعض العلماء يقول: لو تم بناء الكعبة لاستلمنا الركنين الشاميين أيضاً. بعد ذلك يجوز له أن يلتزم ما بين الركن والباب، وهي مسافة قدر أربعة أذرع بين الحجر الأسود وبين الباب، ومعنى الالتزام: أن يقترب من الكعبة فيضع صدره ووجهه وذراعيه عليه ويدعو عنده. وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين يرتقي بهما الحديث إلى مرتبة الحسن، ويزداد قوة بثبوت العمل به عن جمع من الصحابة منهم ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذا الملتزم بين الركن والباب، وقال شيخ الإسلام: وإن أحب أن يأتي الملتزم بين الحجر الأسود والباب فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه، وكفيه، ويدعو ويسأل الله تعالى حاجته؛ فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع وغيره، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك حين يدخلون مكة. ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسناً، فإذا ولى فلا يقف ولا يلتفت ولا يمشي القهقرى. ليس للطواف ذكر خاص، فله أن يقرأ من القرآن أو من الذكر ما شاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة ولكن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير) وفي رواية: (فأقلوا فيه الكلام). قال شيخ الإسلام: وليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له. ومن آداب الطواف: أن يكون في طوافه خاشعاً حاضر القلب، ملازماً للأدب بظاهره وباطنه، في هيئته وحركته ونظره، فإن الطواف صلاة فيتأدب بآدابها، ويستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته، ويخفض صوته، ويقل الكلام، فإن نطق فلا ينطق إلا بخير، ويصون نظره عما لا يحل النظر إليه. ولا يجوز أن يطوف بالبيت عريان ولا حائض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يطوف بالبيت عريان) وقال لـ عائشة رضي الله عنها لما حاضت: (افعلي كما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، ولا تصلي حتى تطهري) فلا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت. فإذا انتهى من الشوط السابع غطى كتفه الأيمن، وانطلق إلى مقام إبراهيم وقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فجعل المقام بينه وبين البيت وصلى عنده ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية بعد الفاتحة سورة الإخلاص، ثم إذا فرغ من الصلاة ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وقال أيضاً: (إنها مباركة، وهي طعام طعم، وشفاء سقم). وقال صلى الله عليه وسلم: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم). وبعدما يصلي الركعتين ويشرب زمزم يعود إلى الحجر الأسود فيكبر ويستلمه على التفصيل الذي ذكرناه، وهذه نقطة ينساها كثير من الناس.

قصيدة في الحج للصنعاني

قصيدة في الحج للصنعاني نختم الكلام بأبيات طيبة من نظم العلامة الصنعاني رحمه الله ذكر فيها الحج وبركته وتكلم على المناسك، يقول: فشدّوا مطايانا إلى الربع ثانياً فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه ثم يتكلم حينما رأى البيت والطواف، يقول: ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه فكم لذة كم فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه نطوف كأنا في الجنان نطوفها ولا هم لا غم فذاك نفيناه فياشوقنا نحو الطواف وطيبه فذلك شوق لا يحاط بمعناه فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا هناك تركناها فيا كيف ننساه ترى رجعة هل عودة لطوافنا وذاك الحمى قبل المنية نغشاه ووالله ما ننسى زمان مسيرنا إليه وكل الركب قد لذ مسراه وقد نسيت أولادنا ونساؤنا وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه تراءت لنا أعلام وصل على اللوى فمن أجلها فالقلب عنهم لويناه جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومَنْ دونه خلف الظهور نبذناه وسرنا نشق البيد للبلد الذي بجهد وشق للنفوس بلغناه رجالاً وركبانا على كل ضامر ومن كل ذي فج عميق أتيناه نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلا وعنه قطعناه ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا فتمسي الفلا تحكي سجلاً قطعناه ولا صدنا عن قصدنا بعد أهلنا ولا هجر جار أو حبيب ألفناه وأموالنا مبذولة ونفوسنا ولم نبق شيئاً منهما ما بذلناه عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كل شيء بذلناه فمن عرف المطلوب هانت شدائد عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة حيارى سكارى نحو مكة وُلاه فلله كم ليل قطعناه بالسرى وبر بسير اليعملات بريناه وكم من طريق مفزع في مسيرنا سلكنا وواد بالمخوفات جزناه ولو قيل إن النار دون مزاركم دفعنا إليها والعذول دفعناه فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله ترادفت الأشواق واضطرم الحشا فمن ذا له صبر وفي النار أحشاه وأسرى بنا الحادي فأمعن في السرى وولى الكرى نوم الجفون نفينا ولما بدا ميقات إحرام حجنا نزلنا به والعيس فيه أنخناه ليغتسل الحجاج فيه ويحرموا فمنه نلبي ربنا لا حرمناه ونادى مناد للحجيج ليحرموا فلم يبق إلا من أجاب ولباه وجردت القمصان والكل أحرموا ولا لبس لا طيب جميعاً هجرناه ولا لهو لا صيد ولا نقرب النسا ولا رفث لا فسق كُلاً رفضناه وصرنا كأموات لففنا جسومنا بأكفاننا كل ذليل لمولاه لعل يرى ذل العباد وكسرهم فيرحمهم رب يرجّون رحماه ينادونه: لبيك لبيك ذا العلا وسعديك كل الشرك عنك نفيناه فلو كنت يا هذا تشاهد حالهم لأبكاك ذاك الحال في حال مرآه وجوههم غبر وشعث رءوسهم فلا رأس إلا للإله كشفناه لبسنا دروعاً من خضوع لربنا وما كان من درع المعاصي خلعناه وذاك قليل في كثير ذنوبنا فيا طالما رب العباد عصيناه إلى زمزم زُمَّت ركاب مطينا ونحو الصفا عيس الوفود صففناه نؤم مقاماً للخليل معظماً إليه استبقنا والركاب حثثناه ونحن نلبي في صعود ومهبط كذا حالنا في كل مرقى رقيناه وكم نشزٍ عالٍ علته وفودنا وتعلو به الأصوات حين علوناه نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وعدناه دعانا إليه الله قبل بنائه فقلنا له لبيك داع أجبناه أتيناك لبيناك جئناك ربنا إليك هربنا والأنام تركناه ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة إذا ما حججنا أنت للحج رمناه فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا وما زمزم أنت الذي قد قصدناه وأنت منانا أنت غاية سؤلنا وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه إليك شددنا الرحل نخترق الفلا فكم سدَّ سَدٌّ في سواد خرقناه كذلك ما زلنا نحاول سيرنا نهارا وليلاً عيسنا ما أرحناه إلى أن بدت إحدى المعالم من منى وهبّ نسيم بالوصول نشقناه ونادى بنا حادي البشارة والهنا فهذا الحمى هذا ثراه غشيناه رؤية البيت وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن بدا البيت العتيق وركناه فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا وكبرت الحجاج حين رأيناه وقد كادت الأرواح تزهق فرحة لما نحن من عظم السرور وجدناه تصافحنا الأملاك من كان راكبا وتعتنق الماشي إذا ثم تلقاه طواف القدوم فطفنا به سبعاً رملنا ثلاثة وأربعة مشينا كما قد أمرناه كذلك طاف الهاشمي محمد طواف قدوم مثلما طاف طفناه وسالت دموع من غمام جفوننا على ما مضى من إثم ذنب كسبناه ونحن ضيوف الله جئنا لبيته نريد القرى نبغي من الله حسناه فنادى بنا أهلاً ضيوفي تباشروا وقروا عيونا فالحجيج قبلناه غداً تنظروني في جنان خلودكم وذاك قراكم معْ نعيم ذخرناه فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا وأي ثواب مثل ما قد أثبناه وكل مسيء قد أقلنا عثاره ولا وزر إلا عنكم قد وضعناه ولا نصب إلا وعندي جزاؤه وكل الذي أنفقتموه حسبناه سأعطيكم أضعاف أضعاف مثله فطيبوا نفوساً فضلنا قد منحناه فيا مرحباً بالقادمين لبيتنا إليّ حججتم لا لبيت بنيناه علي الجزا مني المثوبة والرضا ثوابكم يوم الجزاء ضمناه فطيبوا سروراً وافرحوا وتباشروا وتيهوا وهيموا بابنا قد فتحناه ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم وما كان من عيب عليكم سترناه فهذا الذي نلنا بيوم قدومنا وأول ضيق للصدور شرحناه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

آفات اللسان

آفات اللسان إن اللسان نعمة من نعم الله عز وجل العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جَرْمه، عظيم طاعته وجُرْمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان، ثم إنه ما من موجود أو معدوم، خالق أو مخلوق، متخيل أو موهوم، إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، وبثناء أو قدح إما بحق أو بباطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء إلا في اللسان، فيجب على المسلم الحذر من آفات اللسان ومكائده.

المؤمن هو الذي ينتفع بالذكرى

المؤمن هو الذي ينتفع بالذكرى الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً؛ إذا ذُكر ذكر). فقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن: (إذا ذُكر ذكر)، إشارة إلى ما بينه الله تبارك وتعالى في قوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]. ثم بين في آية أخرى من الذين ينتفعون بالذكرى، فقال عز وجل: {وَذَكِّر ْفَإِنّ َالذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فقد يقع المؤمن في الأخطاء، لكنه إذا ذكر بآيات الله عز وجل فإنه يتذكر وينتفع بهذه الذكرى، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. وهناك فرق بين التعليم وبين التذكير؛ فالإنسان يتعلم ما كان جاهلاً إياه من قبل، أما الذكرى فقد يكون عند الإنسان معلومات، لكنه يحتاج إلى التذكير بها، وإلى إيقاظ معانيها في قلبه، فكلنا يعلم أنه يموت، لكن ليس كلنا يعتبر ويتذكر حقيقة الموت، ولا ينفعل بها إلا إذا ذُكر بذلك.

الإسلام دين يتعامل مع الواقع البشري الحي

الإسلام دين يتعامل مع الواقع البشري الحي ومن نعمة الله سبحانه وتعالى علينا أن هذا الإسلام ليس ديناً يتعامل مع النظريات المثالية أو الخيالية، وإنما هو دين يتعامل مع الواقع البشري الحي، وإذا كلفنا الإسلام بشيء فهو لابد داخل طوقنا، وفي استطاعتنا؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ومن رحمة الله عز وجل أنه أرسل إلينا من أنفسنا رسولاً من البشر، ولو كان أرسل إلينا ملكاً -بفرض وقوع ذلك- فربما إذا ندب الملك هؤلاء البشر إلى أن يغيروا أخلاقهم ويتمثلوا الحق في سلوكهم ربما قالوا: أنت ملك، وأما نحن فبشر، ولابد من أن نقع في الذنوب والتقصير. أما وقد جاءنا رسول من أنفسنا وهو بشر مثلنا تمثل فيه وتحقق فيه النموذج الأعلى والأكمل للبشرية على الإطلاق، وليس هذا فحسب، بل جعله الله عز وجل قدوة لنا وأسوة نقتدي بها، فقال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ثم انفعل صحابته الأبرار رضي الله تعالى عنهم بهذه الأسوة الحسنة وتأثروا بها، وبذلك استحقوا أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، فخير أمة وأفضل أمة وأكمل الأمم على الإطلاق هم الصحابة الأطهار، ثم من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن المسلمين دائماً ننظر إلى السلف الصالح وإلى الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان على أنهم قمة شامخة عالية، وكل ما نرجوه هو أنا نحاول أن نرتقي بقدر الاستطاعة ونرتفع إلى مستواهم؛ فالاقتداء بالسلف وبالصحابة ليس رجوعاً إلى الوراء، وليس رجعية، لكنه تسامٍ وترقٍ وصعود إلى أعلى. فينبغي محاولة اللحاق بهم في أخلاقهم وفي عباداتهم وفي جهادهم رضي الله تعالى عنهم.

أهمية تزكية النفوس

أهمية تزكية النفوس وإذا كان من الوظائف الأساسية للرسول صلى الله عليه وسلم تزكية النفوس، كما قال الله عنه: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] فإنه عليه الصلاة والسلام بين أيضاً أن من مقاصد بعثته الأساسية ما شرحه وفسره بقوله: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)، فهذا من المقاصد الرئيسية لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الإنسان مهما كان فيه من العيوب فبفضل الله سبحانه وتعالى وبمجاهدة النفس وبالاستهداء بنور الوحيين، فإنه يستطيع أن يتغير إلى أكمل صورة؛ وباب الفضائل مفتوح على مصراعيه، وكل من عنده همة وعزيمة على أن يلجه فإنه يستطيع أن يلجه، ولن يكبله أحد، وفي ذلك يقول الشاعر: إذا أعجبتك خصال امرئٍ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس لدى المجد والمكرما ت إذا جئتها حاجب يحجبك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) يعني: أنه مهما كان عند الإنسان صعوبة في أخلاقه أو في طباعه، وهو غير راضٍ عنها، فإنه يستطيع بالاستعانة بالله سبحانه وبالاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فعليه أن يغيرها إلى أحسن الأخلاق؛ وبالتالي ينال أعلى الدرجات؛ فإن العبد ينال بحسن الخلق ما لا يناله بالعبادة والصيام والقيام.

استغلال شهر رمضان في التخلص من العادات السيئة

استغلال شهر رمضان في التخلص من العادات السيئة والحقيقة أننا نطرق كثيراً باب الموسم العظيم المبارك موسم شهر رمضان المعظم، والذي فيه كثير من الفضائل والخيرات التي لا يحرم منها إلا محروم، وهو فرصة لتحسين الأخلاق، وشهر رمضان إذا نظرنا إليه من أي زاوية نجد أنه شهر البركات والخيرات العامة والخاصة على جميع الناس، حتى نجد أن الإنسان مهما كان شريراً فبمجرد أن يدخل عليه شهر رمضان نجد أن ذروة الشر تقل عنده، وعند الناس جميعاً، فالحقيقة أنه فرصة عظيمة، فنقول للمدخنين: هذه فرصتكم للإقلاع عن التدخين، وكذا نقول للنهمين الشرهين في الطعام: هذه فرصتكم لمكافحة شهوة الطعام. وفي مجتمع الملتزمين ما زلنا جميعاً نشكو من آفات خطيرة جداً نحتاج إلى استغلال هذا الشهر من أجل مقاومتها ومجاهدتها. وما أكثر ما نسمع أسئلة حينما يحل شهر رمضان: هل البخور يؤثر في الصيام؟ وهل الطيب يؤثر في الصيام؟ هل كذا يؤثر في الصيام؟ ونهتم دائماً بما يؤثر في الصيام من هذه الأمور، وقلَّ أن نجد من يصرف همه إلى هذا العضو الخطير في بدنه وهو اللسان الذي هو بلا شك يؤثر في الصيام تأثيراً شديداً جداً بنقصان الأجر، حتى وصل الأمر أن بعض العلماء يفتي -وفتواه شاذة- أن من اغتاب الناس فقد أفطر وبطل صيامه بذلك، ونحن لا نقول بهذا بالضبط، لكن نقول: هي تؤثر في الصيام بلا شك، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). إذاً: هذا حديث يبين لنا أنه ينبغي أن يصاحب الصوم تزكية للنفس وتطهير للسان من آفاته.

فضل القول الحسن وحسن الخلق

فضل القول الحسن وحسن الخلق إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالقول الحسن فقال عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، ففي هذه الآية الأمر بإحسان الكلام، وأن ينطق الإنسان بالخير. وقال تبارك وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، فانتظمت هذه الآية بعمومها المسلم واليهودي والنصراني وغيرهم. وعن عطاء في قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] قال: للناس كلهم المشرك وغيره. فحتى المشرك عليك أن تحسن خلقك وألفاظك معه. وعن أبي سنان قال: قلت لـ سعيد بن جبير رحمه الله: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي -أي: هو الذي يبدأني بالخير ويسلم علي- أفأرد عليه؟ فقال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. أي: لو قال لي فرعون الذي هو شر البشر في عصر موسى عليه السلام خيراً لرددت عليه خيراً مثله، فإن هذا هو أدب القرآن، كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]. ففرعون الذي كان شر الخلق في زمن موسى عليه السلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أرسل إليه نبيين كريمين وأمرهما باللين معه فقال عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فإذا كان هذا مع فرعون، فكيف بغيره؟! وبعض الإخوة إذا أحسن خلقه مع الكافر يظن أنه مفرط في دينه، وأن هذا تنازل عن الإيمان وعن مقتضيات الإيمان، وهذا غير صحيح، فأنت لا تواليه بسبب كفره، بل أنت تعاديه وتبغضه، لكنك تعطيه حقه إذا كان قريباً أو جاراً أو إذا تعاملت معه؛ فحسن الخلق مع كل الناس مندوب إليه ومأمور به، وليس في ذلك ما يقدح في الدين. وكان من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يذم أحداً ولا يعيبه صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن).

تأثير سوء الخلق في الصد عن سبيل الله

تأثير سوء الخلق في الصد عن سبيل الله وبمناسبة هذه الكلمة التي قالها أبو سنان لـ سعيد بن جبير: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي أفأرد عليه؟ فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. يعني: فإذا كان الإحسان في مقابلة إحسان كمن أدى إليك خدمة معينة فلا مانع من أن تشكره بأن تقول له: شكراً لك، حتى لا يكون دعاءً وهو لا يستحق ذلك، لكن اذكر له أي عبارة فيها نوع من المجاملة؛ فهذا الخلق هو الذي يليق بالمسلم. وأتذكر حادثة حصلت بسبب سوء فهم بعض الإخوة لهذا الأمر؛ لأنه كان يظن أن حسن الخلق مع الكافر تنازل في الدين أو ضعف في الإيمان، وذلك أني كنت في بريطانيا، فحكى لي بعض الإخوة الأفاضل قصة حصلت من شابين ضلا الطريق في منطقة معينة، وكانا يبحثان عن العنوان، والناس هناك فيهم صفة جيدة في موضوع دلالة الناس الذين يبحثون عن الطريق مثلاً، أو يحتاجون معرفة شيء معين. المهم أنهما سألا رجلاً كبيراً في السن عن العنوان أو المكان الذي يبحثان عنه، فالرجل لم يكتف بأن شرح لهما خريطة المكان أو الموضع الذي يطلبانه، وإنما سار معهما مسافة كبيرة واصطحبهما حتى أوصلهما إلى المكان الذي يريدان، فوقف الرجل فإذا بالأخوين ينصرفان عمداً، فالرجل استنكر هذا الموقف جداً، فأراد أن يعاتبهما عتاباً يسيراً فقال لهما: عندنا نحن معشر الإنكليز أن من أدى إلينا معروفاً فإننا نقول له: نشكرك، وكأنه يريد أن يقول: فماذا عندكم فالأخ قال له: أنا أعرف هذا جيداً، وأنا متعمد ألا أقول لك: شكراً؛ لأنك كافر! إلى آخر هذا الأسلوب، وبلا شك أن هذا تنفير. وأنا لا أريد أن أخرج عن الموضوع؛ لأننا حتى الآن لا نزال في المقدمة، ولكن بلا شك أن سوء الخلق بالذات يكون له تأثير ضار في الصد عند سبيل الله عز وجل، فلا تظن أنك إذا فعلت ذلك أنك في عافية، قال الله عز وجل في أواخر سورة النحل: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94]، فهذه آية في غاية الروعة في الحث على حسن الخلق حتى مع الكفار، فقوله: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ)، أي: إياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف باسم الله سبحانه وتعالى وتجعلوها وسيلة لخداع الناس، فالناس حينما يرونكم تحلفون وتعظمون اسم الله عز وجل يثقون أنكم صادقون فيما تريدون، وأنكم ملتزمون بما تحلفون عليه، فإياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف وتجعلوها سبيلاً للإفساد بينكم ونقض العهود والمواثيق. وقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، أي: أن أول ضرر أنه تزل قدم بعد ثبوتها، فبعدما كنتم ثابتين على الصراط المستقيم تزلون وتنحرفون عنه، وهذا انحراف يخصكم أنتم في أنفسكم، وليس هذا فحسب، بل تفقدون اسم الإيمان والتقوى والاستقامة إلى الاعوجاج والزلل، وأيضاً تذوقون السوء، ولكم عقاب عند الله عز وجل؛ لأنكم بسوء خلقكم ونقضكم العهود واتخاذ الأيمان للإفساد وخداع الناس تنفرون عن الدين، فالكفار إذا رأوكم تفعلون ذلك قالوا: لو كان في دينهم خيراً لأدبهم، ولزجرهم عن هذا الشر الذي فعلوه وعن هذه الخديعة والخيانة، فهذا يترتب عليه تشويه الدين في نظر هؤلاء الناس الذين يفترض أنكم تدعونهم بسلوككم وأخلاقكم أكثر مما تدعونهم بأقوالكم، فيترتب على ذلك أن ينفر هؤلاء الناس عن الإسلام، وبالتالي ستبوءون أنتم بوزر صدهم عن سبيل الله؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94] أي: بسوء الخلق. وفي واقعة ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه ما يدل على أثر حسن الخلق؛ فإنه كان شديد العداوة للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام خير معلم على وجه الأرض، فأتي بـ ثمامة بعد أن أسر، فأمر به أن يوثق ويقيد في سارية من سواري المسجد، وبقي على ذلك ثلاثة أيام. إنها حكمة عظيمة من خير معلم وخير مربٍ في تاريخ البشر كلهم أجمعين عليه الصلاة والسلام، هذه الحكمة هي أن ثمامة بن أثال ربط في المسجد حتى يعلم أن المسجد هو مجلس الوزراء وهو مجلس الشعب ومجلس الشورى وغرفة العمليات ومكان العبادة ومكان التدريب على الجهاد، وكل شيء كان يتم في المسجد، فأراد أن يلقنه درساً في كيفية أخلاق المسلمين، وفي كيفية تعامل الصحابة مع بعضهم البعض، وكيف يعبدون الله؟ وكيف يحيي بعضهم بعضاً؟ وهكذا، فإنه إذا رأى هذا فسيكون سبيلاً إلى اقتناعه بالإسلام. وبالفعل أن هذا هو الذي تم، (فلما سأله أول يوم: كيف تجدك يا ثمامة! قال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وفي اليوم الثاني قال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وفي اليوم الثالث عفا عنه النبي عليه الصلاة والسلام وأطلقه، فذهب ثمامة إلى مكان معين فاغتسل، ثم أتى وشهد شهادة الحق، رضي الله تعالى عنه). الشاهد من هذا: أنه لولا أنه عاش وانغمس في مجتمع الصحابة ورأى أخلاقهم وسلوكياتهم لما كان انجذب إلى الإسلام. يقول عليه الصلاة والسلام: (وخالق الناس بخلق حسن) أي: كل الناس، وليس فقط المسلمين؛ فحسن خلق المسلم -كما سنتناوله إن شاء الله تعالى- يتعدى حتى يشمل البهائم والحيوانات.

أعظم حقوق المسلم صيانة عرضه

أعظم حقوق المسلم صيانة عرضه ونحن سنركز على آفات اللسان، وبالذات آفات اللسان المتعلقة بالغيبة التي هي آفة شائعة ومتوغلة في المجتمعات، ولا نكاد نستثني أحداً، حتى مجتمعات الملتزمين والملتزمات. فلا شك أن أعظم حقوق المسلم على الإطلاق هي صيانة عرضه ورعاية حرمته، فإن تحريم النيل من عرض المسلم أصل شرعي متين واجب بالضرورة من دين الإسلام، وحفظ العرض واحد من الضرورات الخمس التي جاءت من أجلها الشرائع. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعظم حشد تم في الإسلام على الإطلاق، وكان يزيد عن مائة ألف نفس من الصحابة الكرام رضي الله عنهم في حجة الوداع فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟). والأعراض: جمع عرض، والعرض هو كل موضع يقبل المدح أو الذم في الإنسان، فأي شيء من صفات الإنسان يمكن أن يمدح أو يذم سواء كان في نفسه أو في سلفه من آبائه وأجداده أو من يلزمه أمره، أو هيئة مشيته أو طريقة كلامه أو ملابسه أو أي شيء يخص المسلم مما إذا ذكر فيه بسوء يسوءه ذلك، فهذا هو عرضه. وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلم. قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه). وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ويده تشمل أشياء كثيرة: تشمل الضرب، وتشمل الكتابة، وتشمل كل شيء يمكن أن يترتب عليه أذية مسلم. قال سفيان بن حصين: كنت جالساً عند إياس بن معاوية، فمر رجل فنلت منه، فقال لي: اسكت، ثم قال لي: يا سفيان! هل غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم وسلم منك الترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فما عدت إلى ذلك بعد. وقال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة)، ومثل هذه الضمانة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تعلق إلا على أمر عظيم جسيم. ونظر عبد الله بن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك). أي: أن حرمة المؤمن عند الله سبحانه وتعالى أعظم من حرمة الكعبة المشرفة. وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:11 - 12] يعني: هل منكم من يطيق ذلك من الناحية الطبيعية؟ وطبع الإنسان هل يقبل أن يكون أخوه المسلم ميتاً وهو يأتي بسكين ويقطع من لحم أخيه ويأكله؟! فأنتم لا تحبون ذلك، وأنتم تكرهونه طبعاً، فكما كرهتموه طبعاً فاكرهوه شرعاً.

حد الغيبة وحرمتها

حد الغيبة وحرمتها وبين صلى الله عليه وسلم أن حد الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه، وقال صلى الله عليه وسلم: (الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره). وبعض الناس يلبس الشيطان عليهم؛ لأن الشيطان واقف لهم بالمرصاد، وكل باب من أبواب الخير يريد أن يغلقه عليهم، وكل باب من أبواب الشر يريد أن يفتحه ويوسعه لهم بالتبريرات والتسويغات والمعاذير، فمثلاً تسمع واحداً يتكلم على واحد فتقول له: اتق الله! فهذه غيبة، فيقول لك: أنا مستعد أن أقول هذا الكلام أمامه! فيقال لهذا المسكين: حتى لو كنت مستعداً أن تقوله أمامه فهذه هي الغيبة التي حرمها الله، وإنما الفارق أنك إذا قلته أمامه وقعت في خطأ آخر وهو أذية أخيك المسلم ومواجهته بما يكره، وإذا كان أمام ناس فتكون قد فضحته وأسأت إليه أكثر ولم تستر عليه، وإذا كان في غيبته فهذه هي الغيبة، فإنه لم يستثن الرسول عليه الصلاة والسلام شئياً، ولم يقل مثلاً: الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه إلا إذا كنت تقوى على أن تواجهه بذلك، فحتى لو كنت تزعم أن هذه من الشجاعة وأنك تستطيع أن تواجهه بذلك فهي غيبة، وليس لها اسم آخر غير الغيبة، وهي الذنب المحرم الذي أجمع العلماء على تحريمه، فحد الغيبة: أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه. والفرق بين الغيبة والبهتان هو كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابي: (أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، أي هذا هو البهتان. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يرحل له) قوله: (لا يأكل) يعني: ليس هو الذي يعد طعامه، فإنه لا يأكل حتى يُعد له الطعام، وقوله: (ولا يرحل حتى يرحل له) أي: وإذا أراد أن يركب الدابة فإن غيره يضع الرحل الذي يوضع على الدابة، ويقوم بخدمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتبتموه)، فالمفروض أنك أيها الإنسان! تكون منتبهاً في أي مجلس تجلسه، وإذا كان سيقع من أحد غيبة فعليك أن تنصحه وتبين له أنها غيبة، وقد يقع بينك وبينه نوع من الوحشة في أول جلسة، لكنه سوف يعرف أنك لست ممن يحب المشاركة في أكل لحوم الناس، فعلى الأقل سيكفيك شره إن لم يتب إلى الأبد؛ لأنه إذا وجد في كل مجلس فيه غيبة من يزجره وينبهه إلى خطورة هذه المعصية فسيراجع نفسه بلا شك، أو يكف عن أعراض الناس، لكن الذي يحصل أنها توافق أهواء الجالسين، وقد يسوغونها في مصلحة الدعوة، وهذه من الأبواب الشيطانية، وبالتالي يحصل تمكن من هذه الآفة في هذا المجتمع، قالوا: (لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يرحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتموه، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا بما فيه؟ فقال: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه) أي: حسبك من الشر أن تغتابه بأن تذكر ما فيه، فهل تريد كذلك أن تبهته، وتفتري عليه الكذب أيضاً؟ بل يكفيك حظاً من الإثم أن تذكر أخاك بما فيه، وأن تغتابه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية كذا وكذا)، قال بعض الرواة: تعني: أنها قصيرة، مع أن عائشة ضرتها، وقد يقع من التحاسد والتنافس بين الضرائر ما يغتفر، لكن مع ذلك ما سكت؛ رعاية لحرمة المسلمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته!) أي: لو أن هذه الكلمة تجسدت وخلطت بماء البحر لعكرت ماء البحر وأفسدته، إنها كلمة واحدة، لكنها غيبة.

أحكام الغيبة وأثرها على الفرد والمجتمع

أحكام الغيبة وأثرها على الفرد والمجتمع

التوبة من الغيبة

التوبة من الغيبة روى الضياء في الأحاديث المختارة بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا لا يوائم نوم بيتكم)، يعني: وجدوا أن هذا الخادم تأخر في النوم أو أطال النوم حتى استيقظا ولم يكن قد أعد الإفطار أو الطعام، فقالا: إننا الآن في حالة سفر، والإنسان في السفر لا يتمادى في تعاطي راحة البدن؛ لأن حالة السفر تحتاج نوعاً من الأهبة والاستعداد، والإنسان لا يتصرف كأنه في بيته، فمعناه: أن النوم يكون خفيفاً، فقالا: (إن هذا لا يوائم -يعني: يوافق- نوم بيتكم) أي: أنه نائم نوماً واحداً سواء كان قاعداً في البيت أو مسافراً، (فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدمانك)، يعني: يطلبان منك الإدام، والإدام هو كل ما أكل به الخبز، فلما ذهب الرجل وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قد ائتدما، ففزعا، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟ فقال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه في أنيابكما -وفي رواية: ثناياكما- قالا: فاستغفر لنا قال: هو فليستغفر لكما) أي: صاحب الحق. فالإنسان إن كان لابد مصراً أن يعصي الله سبحانه وتعالى فليختر معصية يسهل عليه أن يتوب منها، لكن عند أن تختار معصية تتعلق بحق الغير فمعنى ذلك أنه لن تبرأ ذمتك إلا أن يسامحك هذا الشخص، وإذا لم يسامحك فسترد القيامة وفي عنقك حق العباد؛ لأن المعصية إذا كانت بينك وبين الله فإذا تبت إلى الله فالله يقبل التوبة عن عباده، أما إذا كانت المعصية في حق من حقوق العباد فلابد أن تستحل من صاحبها، وإما أن يستوفي حقه منك، والعملة هناك في الآخرة ليست الدينار ولا الدرهم، إنما هي الحسنات والسيئات، فيأخذ من حسناتك حتى يقضي عليها، فإذا لم يبق معك حسنات يؤخذ من سيئاته فتطرح عليك، فلماذا الإنسان يتعب في العبادة ويتعب في الحفظ والصيام والأعمال الصالحة ثم يجدها في ميزان الآخرين؟! فلذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم: المفلس. الشاهد أيضاً من هذا الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما) والخطاب موجه إلى الاثنين، مع أن واحداً منهما هو الذي تكلم، فنسب الوزر إليهما جميعاً. إذاً: القاعدة: أن مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم والوزر. يقول الشاعر: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه

حكم استماع الغيبة

حكم استماع الغيبة ومن الأمور المهمة جداً أن مستمع الغيبة والمغتاب كلاهما شريك في الإثم، فإذا تواجدت في مجلس تدور فيه الغيبة كما يدار بالفاكهة على رواد المجلس فلا تظن أنك تبرأ من مثل هذا المنكر، بل لابد أن تزيله أو تزول عنه، أما أن تجلس ساكتاً فمجرد استماعك يجعلك شريكاً في هذه الغيبة. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (جاء الأسلمي -يعني: ماعزاً - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: أتيت امرأة حراماً، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال في الحديث: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رُجم رجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله)، وجثة الحمار لما تتعفن وتتجيف تزيد الغازات في داخل البطن، والعضلات تشتد جداً وتتيبس، والجثة ملقاة في الأرض، والحمار رافع رجليه من التعفن، كل هذا كناية عن شدة التعفن والنتن في هذه الجيفة، قال: (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان -يعني: هذين الرجلين اللذين تكلما بهذا الكلام- قالوا: نحن ذان يا رسول الله! فقال لهما عليه الصلاة والسلام: كلا من جيفة هذا الحمار! فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده! إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها)، فالشاهد من هذا الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة). فأول شيء نسب الوزر إليهما جميعاً، مع أن الذي تكلم هو واحد؛ كان يحدث الذي بجواره، والذي بجواره سكت، فمعناه أنه صار شريكاً له في الإثم؛ لأن السكوت علامة الرضا. فلو قلت للمغتاب: اتق الله، فستكون قد برئت من المعصية، لكن حين تسكت أو تستحي فأنت شريك في الوزر، ومثلك مثله ولا فرق، ولذلك قال لهما: (كلا من جيفة هذا الحمار!)، وقال لهما: (ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة)، يعني: أن الأكل من الجيفة أخف؛ لأن الإنسان لو أكل من جيفة الحمار المنتن لم يؤذ مسلم، ولم ينتهك عرض مسلماً، ولم تتعلق بذمته حقوق العباد، فلا شك أن أكل لحوم الحمر المتجيفة والمنتنة خير من أكل لحوم البشر؛ لأن أكل لحوم البشر يترتب عليه هذه الأشياء التي ذكرنا.

تنجيس الغيبة والأمر بالتطهر منها

تنجيس الغيبة والأمر بالتطهر منها وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن أحق ما طهر الرجل لسانه، وأي واحد منا إذا أصابت النجاسة ثيابه فإنه ينظفه ويطهره، فإذا اغتاب الناس فإن هذه النجاسة تكون في لسانه، فأي الأشياء أولى أن تطهر؟ لا شك أن اللسان أولى بالتطهير، ولذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: إن أحق ما طهر الرجل لسانه. بل إن بعض السلف كان إذا أراد التنفير من هذه المعصية أمر فاعلها بالطهارة الحقيقية، فيأمره بالمضمضة وبالوضوء تشبيهاً لها بالنجاسة الحسية، وإرشاداً إلى التحرز منها، كما يتحرز من النجاسات. فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها؟ وهذه العبارة من أم المؤمنين تحتمل أكثر من معنى، فإذا كانت على حقيقتها فربما كانت تقصد الوضوء من أكل ما مسته النار قبل أن ينسخ، كأنها تقول لهم: أنتم تتوضئون من هذه الكلمة قبل أن ينسخ الوضوء ما مسته النار، وتحتمل الوضوء من أكل لحم الإبل، فكأنها تقول لهم: إذا توضأ أحدكم من الطعام الطيب الحلال سواء كان مما مسته النار قبل أن ينسخ أو من أكل لحم الإبل ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها، وهي أولى أنك تمضمض فمك بعدها. فإذا ما ابتليت بالغيبة فهذا أولى من أن تتمضمض من أكل لحم الإبل أو غيره. ومثله قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من طعام طيب). وعن إبراهيم قال: الوضوء من الحدث وأذى المسلم، أي: كما تتوضأ من الحدث توضأ من أذى المسلم. ويحمل هنا الوضوء على غسل الفم وتطهير اللسان. وعن محمد بن سيرين قال: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول: توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحدث. يعني: اغسلوا وطهروا ألسنتكم، فإن بعض ما تقولون من الغيبة والنميمة شر من الحدث ومن النجاسة. وجاء حديث في هذا، لكنه مرسل وإن كان رجاله ثقات، أخرجه ابن سعد، وهو ما رواه معن عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، قالت صفية بنت حيي: والله يا نبي الله! لوددت أن الذي بك بي، فغمزها أزواجه) أي: أن ضرائرها غمز بعضهن لبعض أن انظرن صفية ماذا تقول للرسول عليه الصلاة والسلام: (فأبصرهن، فقال: مضمضن، فقلن: من أي شيء؟ قال: من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة)، هنا الحديث مرسل في الحقيقة، وإذا صح ففيه إشارة أيضاً إلى موضوع المضمضة كما بينا.

الإجماع على تحريم الغيبة

الإجماع على تحريم الغيبة قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: والإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى. والحقيقة أن حكاية الإجماع في هذا فيه نظر. لكن هنا تعبير آخر أكثر دقه، وهو أن علماء الشافعية نصوا على أن الغيبة إذا كانت في أهل العلم وحملة القرآن الكريم فهي كبيرة وإلا فصغيرة. وقال الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله: كل منهما -أي: الغيبة والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة، هل هي كبيرة أم صغيرة؟ وقال آخرون: إن كانت في طلبة العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا كانت صغيرة. وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)، والجزاء من جنس العمل. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً؛ أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه).

عذاب القبر بسبب الغيبة

عذاب القبر بسبب الغيبة وعن جابر رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين). وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، فأيكم يأتيني بجريدة؟ فاستبقنا، فسبقته، فأتيت بجريدة، فكسرها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة وعلى ذا القبر قطعة، وقال: إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول). وعن قتادة رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم) يعني: يعذبون أنفسهم بأيديهم، وفيها أظافر من نحاس، وبها يخمشون الوجوه، (فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم).

غيبة المسلم كأكل لحمه ميتا

غيبة المسلم كأكل لحمه ميتاً وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل -يعني: انصرف- فوقع فيه رجل من بعده -أي: بعدما غادر المجلس اغتابه أحد الجالسين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخلل، فقال: ومم أتخلل وما أكلت لحماً؟) وتخليل الأسنان هو: إخراج الألياف التي تعلق ما بين الثنايا، فقال له النبي عليه السلام: (إنك أكلت لحم أخيك). وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم. فالغيبة ضيافة الفساق، والفساق هم الذين لا يبالون بحرمة الله سبحانه وتعالى، ولا يبالون أن يأكلوا لحوم الناس. والمنكر قد شاع في المجتمع جداً وذاع، وقلَّ من ينكره، ونحن لا نكاد نبالي به، ولا نشعر، وقلوبنا لا تحس ناحيته بكراهية إلا من رحم الله، فحن محتاجون إلى تجديد العهد بهذه النصوص، وأن نعطي الأمور حجمها، فالأمر كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، وكما قال تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، فالغيبة ضيافة الفساق الذين لا يتقون الله سبحانه وتعالى، كما قال بعض السلف. وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أنه أضاف ناساً، فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً، فقال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز. يعني: بدأتم بلحم هذا المسلم الذي اغتبتموه قبل الخبز. وعن موسى السيلاني أنه سأل سفيان الثوري رحمه الله تعالى فقال: يا أبا عبد الله! إن الله يبغض بيت اللحميين؟ يعني: يقول له: هل ربنا سبحانه وتعالى يبغض بيت اللحميين؟ يقصد: الناس الذين يأكلون لحماً كثيراً، فنسبهم إلى اللحم، فقال له سفيان: ليس هم الذين يأكلون اللحم، ولكنهم الذين يأكلون لحوم الناس. فاللحميون هم الذين هم مغرمون بأكل لحوم الناس، لكن أن تأكل لحم البقر والغنم فهذا حلال لم يحرمه الله سبحانه وتعالى عليك مادمت تشكر نعمته، لكن المهم ألا تأكل لحوم الناس.

صور الغيبة

صور الغيبة أما صور الغيبة فالغيبة لها صور شتى: فقد تكون بالقول، وقد تكون بغير القول، يعني: أنه لا يشترط في الغيبة أن تكون باللسان، بل ممكن أن تكون الغيبة بحركة العين، أو بإخراج اللسان، أو بالتمثيل كأن يحاكي مشيته أو شيئاً من هذا، فالغيبة كما تكون بالقول تكون بغيره. قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: ذكر عيب أخيك باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وتعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، وهو حرام. وقال النووي: وكذا سائر ما يتوصل به إلى فهم المقصود، كأن يمشي مشيته، فهو غيبة، بل هو أعظم من الغيبة، كما قال الغزالي؛ لأنه أبلغ في التصوير والتفهيم، وأنكر للقلب. ومن صور الغيبة أن يأتي ذكر واحد في مجلس من المجالس، فيأتي آخر من الجالسين فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان الحمد لله الذي عافانا من فتنة الدنيا، فهذه غيبة، وصاحبها جمع بين أمرين: بين ذم أخيه وبين مدح نفسه، وأنه رجل زاهد ومخلص، وقد يقول: الحمد لله الذي عافانا من الرياء، وهذه غيبة، فمهما قلت: الحمد لله فلا تظن أن قولها يعفيك من الغيبة، بل هي غيبة. وقد يأتي ذكر رجل فيقول آخر: الحمد الله الذي عافانا من فتنة الدنيا، أو الحمد لله الذي عافانا من كذا وكذا، أو الحمد لله الذي عافانا من عبودية المال، فهو بهذا يزكي نفسه ويذم أخاه. كذلك بعض الناس يتكلم في مجلس ويكون الحاضرون في المجلس يعرفون أن الذي يتكلم عليه هو فلان ابن فلان بعينه، كأن يقول: قال بعض الفقهاء، أو قال بعض من رأينا، أو فعل بعض من نعرفه من أصحابنا، أو قال بعض الجيران، فإذا كان الجالسون يعرفون من الذي يقصده فهذه أيضاً غيبة؛ لأنهم يعرفون، وبالتالي فإن المتكلم ذكر أخاه بما يكره من خلفه؛ لأن المخاطب يفهمه بعينه؛ لحصول التفهيم بهذه الصيغة. وربما سئل شخص عن حال أخيه فيقول مثلاً: ربنا يهدينا! والظاهر أن الشيطان يسول له أنه نفسه ما فعل شيئاً خطأً؛ لأنه يقصد بقوله: ربنا يهدينا، وصفه بالضلال مثلاً، أو يسأل عنه فيقول: ربنا يصلحنا ويصلح أحوالنا، الله يصلحه، أو نسأل الله العافية، أو نعوذ بالله من الشر، أو أي عبارة يفهم منها تنقص المسلم؛ فهي غيبة.

التحذير من اتخاذ مصلحة الدعوة ذريعة إلى الغيبة

التحذير من اتخاذ مصلحة الدعوة ذريعة إلى الغيبة وفي الحقيقة من المفروض أننا نتكلم بالتفصيل على بعض الاستثناءات التي ذكرها العلماء. وهنا إشارة حمراء فيها الإنذار الشديد؛ لأن بعض الإخوة أحياناً يلقون ببعض المعلومات إلى من لا يحسن فهمها ولا تطبيقها، والرسول عليه الصلاة والسلام سئل: (أفلا أخبر بها الناس؟ -في تبشير من قال: لا إله إلا الله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً يتكلوا) يعني: لا. حتى لا يسيئوا فهم هذا الكلام؛ لأنهم إذا أساءوا فهمه سيتكلون على هذا الكلام، ويقصرون في العمل؛ فلا تخبرهم؛ لأنهم لن يضعوا الكلام في موضعه المناسب. ومن ثمَّ قال ابن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، ففي بعض الأشياء المفروض أن الإنسان إذا شك أن ناساً يفهمونها على غير وجهها فيكتم هذا العلم؛ لأنه سيساء فهمه، ويكون باباً إلى الشر. مثلاً: إذا علم واحد أن السنة أن تؤدى السنن والرواتب في البيت، وحاله أنه إذا أخرها إلى البيت لم يصلها، فهذا إذا كنت تعرف من حاله أنه لن يصليها في البيت فلا تعلمه هذه المسألة، وهكذا، فالإنسان لابد أن يكون عنده بصر وتلمح للأمور، وأكثر الآفات التي دخلت في مجتمعنا في موضوع الغيبة ناشئة من أننا دائماً نقرن الكلام بالغيبة بالكلام على الرخص التي أبيحت فيها الغيبة، فبالتالي نجد المجتمع في نوع من التسيب وعدم الانضباط إلى أقصى غاية ممكنة، ونجد الإخوة يحفظون المبررات والمسوغات كما يحفظون الفاتحة و (قل هو الله أحد)! وتقول لأحدهم: يا أخي! اتق الله فإن هذه غيبة، فيقول لك: العلماء قالوا: يجوز هذا للجرح والتعديل، ويجوز لكذا، ويجوز لكذا، فنقول: إذا كان مستواك العلمي والإيماني ومستوى الورع عندك يؤهلك أنك تضبط نفسك ضبطاً متيناً محكماً حيث تحاسب نفسك بمنتهى الدقة وتتحكم فيها جيداً فلك أن تفعل، أما إن لم يحصل فهي غيبة، وهي سيف في يد ناس لا يحسنون استعمالها؛ فيذبحون به الناس وينتهكون أعراضهم، وهذا هو الواقع، ونحن نعترف بهذا الواقع. فأحسن شيء أن ننسى تماماً موضوع الاستثناءات التي هي للغيبة؛ لأن هذا أسلم شيء إلا لمن وجد من نفسه ثقة، كما سنحكي عن الإمام البخاري وغيره من الأئمة، لكن اجعل الأصل أن ننسى موضوع الاستثناءات؛ إذ لا توجد سلامة في غير هذا الآن، ولن تكون لك سلامة من هذه الفتنة إلا بإنسان يكف لسانه عن الشر وعن الخوض في إخوانه المسلمين. فاعتبروا أنه لا توجد أصلاً استثناءات في الغيبة؛ لأن باب الاستثناء هو الذي فتح لنا هذه الأبواب العظمى من الشر التي تهلكنا وتهلك إخواننا. والإمام النووي رحمه الله تعالى لما نقل عن الغزالي المواضع الستة المعروفة في جواز الغيبة لم يقرهم بعض العلماء على ذلك. والإمام الشوكاني رحمه الله تعالى ألف كتاباً استدرك فيه على النووي، واستدرك فيه على الإمام الغزالي رحمهم الله تعالى أجمعين، وبيَّن أن الكلام ليس على إطلاقه في هذه الصور، وذلك في كتابة المعروف: (رفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة). ولا نريد أن نفصل الآن، ولكن أنصح إخواني نصيحة لوجه الله أن ينسوا وجود استثناءات في الغيبة، وأن يؤسسوا الأساس وبعدما يصلون إلى مستوى من الورع كمثل ورع البخاري ومثل ورع السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فحينئذٍ لهم أن يعملوا بهذه الاستثناءات. فإن كنت أيها الأخ! ضابطاً نفسك كحال السلف الذين نتكلم عنهم فلك أن تأخذ هذه الرخصة وتتكلم، لكن أعتقد أن الأمر يحتاج لكثير من الضبط. فالنصيحة التي أشدد فيها هي: أن تنسوا تماماً أن هناك استثناءات في الغيبة، وتعاملوا على الأصل، وهو أن الغيبة كلها حرام؛ لأننا في زمن لو فتح فيه هذا الباب فالناس ستتوسع فيه توسعاً شديداً جداً. فهذا الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى يقول: منذ أربعين سنة ما تكلمت بكلمة إلا أعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل. فمنذ أربعين سنة لم يتكلم بكلمة واحدة إلا وهو واثق وجازم وقد أعد لها جواباً، فلما يسأله الله عز وجل يوم القيامة على هذه الكلمة فعنده الجواب حاضر. فهل أنت في هذا المستوى حتى تقول: أنا أغتاب من أجل مصلحة الدعوة؟! ومصلحة الدعوة تكاد أن تكون وثناً يعبد من دون الله، وكل من وقع في معصية حتى يخرج من الحرج يقول: لمصلحة الدعوة! فأي دعوة هذه التي تنحرف بك عن مثل هذه الثوابت في المنهج الإسلامي؟! وهل هذه دعوة الله سبحانه وتعالى؟! وهل هذه أخلاق الصحابة؟! وهل هذا هو ما علمنا إياه الرسول عليه الصلاة والسلام؟!

حال السلف في الحذر من الغيبة

حال السلف في الحذر من الغيبة

دلالة الغيبة على حقارة المغتاب

دلالة الغيبة على حقارة المغتاب وعن عون بن عبد الله قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. وهذا الكلام الذي يقوله السلف الآن كأنهم يتفاخرون في العلوم النفسية الحديثة بأنهم هم الذين وضعوا هذه الأسس وهذه الأشياء. والشخص الذي يرى صورة نفسه صغيرة جداً تجده دائماً يضخم عيوب الآخرين، ولذا تبرز شخصية الإنسان من خلال نصيبه من هذه القضية، فإذا عُرف بأنه مشغول بتضخيم عيوب الآخرين والطعن في الناس، فهذه مرآة تعكس أنه يشعر بضآلة نفسه وبحقارتها وأن حجم نفسه صغير؛ لأنه يعتقد أنه لن ينفتح إلا على أنقاض الآخرين، فدائماً يحاول أن يحطم الآخرين، ولذا يكثر نقد الناس وذكر عيوبهم، وهذه مرآة تعكس أن إحساسه وثقته بنفسه ضعيفة، وأنه في داخل نفسه يحس أنه صغير وحقير، فلذلك يشتغل بعيوب الآخرين. يقول عون بن عبد الله رحمه الله: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس. وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً ألا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين. وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس فيما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم. يقول الشاعر: لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك سمع أعرابي رجلاً يقع في الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها. وأجرأ من رأيت لظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب

اشتغال السلف بعيوب أنفسهم عن الآخرين

اشتغال السلف بعيوب أنفسهم عن الآخرين لا شك أن الإنسان إذا انزجر عن الكلام في عيوب الناس، فإنه في خير، ونحن لا نقول: إن الناس لا يوجد فيها عيوب، لكن يجب عليك أن تنشغل بعيوب نفسك، والإنسان إذا ركز في الاشتغال بعيوب نفسه سوف يكون مشغولاً عن عيوب الناس، ولن ينظر في عيوب الناس بهذه الصورة إذا ركز في عيوب نفسه، فالإنسان دائماً يجب عليه أن يركز وأن ينتقد نفسه، وعليه أن يصلح ويجاهد نفسه؛ ولا ينشغل بعيوب الناس إلا من قد لهى عن عيوب نفسه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) وفي بعض الروايات: (وينسى الجذل) أي: جذل الشجرة، والقذاة هي ما يقع في الماء من تراب أو تبن أو أي شيء من القاذورات التي تأتي على الماء، والجذع هو: واحد جذوع النخل، وقوله: (وينسى الجذع في عينه)؛ أي: لأنه لنقص نفسه وحبه لها يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه؛ فيدركه مع خفائه، فيعمى عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به. يقول الشاعر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى لقي زاهد زاهداً فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله، فقال الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك. فانظر كيف كان الصحابة والسلف يصدقون قول الرسول عليه السلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وكثيراً من الكلام الذي نخوضه لا يعنينا ولا يخصنا في شيء. لما توفي منصور بن زاذان رحمه الله تعالى وكان من العابدين المجتهدين حتى قالوا: لو أن منصور بن زاذان هذا قيل له: إن ملك الموت على الباب أو أنك تموت غداً لما استطاع أن يزيد في عمله؛ لأنه قد أتى بأقصى ما يستطيع في كل الأحوال، ولم يملك على أن يزيد شيئاً في عمله الصالح، فلما توفي قالت ابنة واحد من جيرانه من العلماء لأبيها: يا أبت! الخشبة التي كانت على سطح البيت الذي بجوارنا ما نراها! أي: أنها تعودت أن ترى بالليل بالذات دائماً خشبة موجودة على سطح بيت منصور، فقال لها: يا ابنتي إن هذا منصور كان يقوم الليل يصلي ويقرأ القرآن، وقد مات رحمه الله. أي: أنه كان من بعيد يبدو كالخشبة، فالبنت لما فقدت رؤيته قالت: أين ذهبت الخشبة؟ فقال لها أبوها: هذا منصور كان يقوم الليل وقد مات رحمه الله تعالى. الشاهد: أنهم كانوا جيراناً، ومع هذا فانظر كيف أن هذا العالم ربى نفسه وربى أهله وربى ابنته على أنه لا يتكلم على الناس، وما انشغلوا بالجيران ولا تكلموا حتى ولو بكلام على أن منصوراً يقوم طول الليل، وما عرفت البنت أنه كان منصوراً؛ لأنها قالت: أين الخشبة التي كانت على السطح. فالسلف كان كل واحد يركز على نفسه، وينشغل بعيوب نفسه، ولا ينشغل بغيره. قال الشاعر: المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه وعن بكر قال: تساب رجلان فسب أحدهما الآخر، فقال أحدهما: حلمني عنك ما أعرف من نفسي. أي: أنا أستطيع أن أرد عليك، لكن الذي يجعلني أحلم وأصبر عليك هو ما أعلم من نفسي من العيوب. وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس، ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام، ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان، وما قولك فيهما؟ فقال: هل غير، أي: هل عندك حاجة أخرى؟ قال: لا، قال: جهزوا الرجل، يعني: أن الجواب سيأخذه بسرعة، فأحضروا له متاعه من أجل أنه سيعود، فلما فرغ من جهازه قال: اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أن قولي فيهما: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]. وقال الشافعي: قيل لـ عمر بن عبد العزيز: ما تقول في أهل صفين، فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها فلا أحب أن أخضب بها لساني. يقول الشاعر في هذا المعنى: لعمرك إن في ذنبي لشغلاً عن ذنوب بني أمية على ربي حسابهم إليه تناهى علم ذلك لا إلي وليس بضائري ما قد جنوه إذا ما الله أصلح ما لدي فربنا سيحاسبك على ذنوبك أنت، لا على ذنوب بني أمية؛ فلا تنشغل بذم الناس.

ورع البخاري رحمه الله عن الغيبة

ورع البخاري رحمه الله عن الغيبة قال بكر بن منير سمعت أبا عبد الله البخاري رحمه الله تعالى يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً. يعني: أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصطفي لموقف الإمامة في الدين أي إنسان، وإنما يصطفي أناساً في القمم، ومن الذين اصطفاهم الله الإمام البخاري رحمه الله تعالى، فهناك المؤهلات والمسوغات لهذا الإمام، ولذا قال: إني أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً، وله كلام في علم الرجال كما في كتابه (التاريخ) وفي غيره، ومع ذلك فهو في منتهى الدقة، وواثق من نفسه أنه لم يقع في غيبة على الإطلاق. وعلق الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى على كلام البخاري قائلاً: صدق رحمه الله؛ ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه؛ فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث سكتوا عنه فيه نظر ونحو هذا، وقل أن يقول: فلان كذاب أو كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر فهو متهم واهٍ. وهذا هو معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً. وهذا والله غاية الورع. قال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعته -يعني: الإمام البخاري - يقول: لا يكون لي خصم في الآخرة -أي: أنه لم يقع في مسلم بحيث يقف يوم القيامة أمامه خصماً بين يدي الله عز وجل- فقلت: إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب التاريخ، ويقولون: فيه اغتياب الناس، فقال: إنما روينا ذلك رواية لم نقله من عند أنفسنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس مولى العشيرة) يعني: حديث عائشة. وسمعته يقول: ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها. فكانوا إذا اختاروا الصراط المستقيم يبقون على استقامة، ولا يوجد عندهم روغان الثعالب ولا التحايل والتلاعب في حدود الله عز وجل.

خطر اللسان وما يترتب على حفظه وإطلاقه

خطر اللسان وما يترتب على حفظه وإطلاقه

أهمية تعويد الإنسان لسانه على النطق بالخير

أهمية تعويد الإنسان لسانه على النطق بالخير أخرج الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عيسى بن مريم عليه السلام لقي خنزيراً بالطريق فقال له: انفذ بسلام، فقيل: تقول هذا لخنزير؟ فقال عيسى: إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء. وعن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: رأيت ابنة الربيع بن خثيم أتته فقالت: يا أبتاه! أذهب ألعب؟ فقال: يا بنيتي! اذهبي قولي خيراً. أي: أنه خشي أن تكتب في صحيفته كلمة (اذهبي فالعبي)، فتحرز من أن يقول لها: العبي، لكن قال: يا بنيتي! اذهبي قولي خيراً. والحقيقة أن الدوافع على الغيبة غالباً ما تكون الرغبة في شفاء الغيظ، فالإنسان قد يكون حاسداً لشخص أو بينه وبينه خصومة أو أي عامل من هذه العوامل، فيريد أن يشفي غيظه وينفس عن هذه المشاعر عن طريق الغيبة، فالإنسان إذا جاهد نفسه إزاء ما يجد من هذه المشاعر المقيتة فإنه يثاب على ذلك، وهذا من أفضل الجهاد، كما سنبين إن شاء الله تعالى، فإذا كظم غيظه فله بذلك ثواب عظيم؛ لأن معنى ذلك أن عنده تحكماً وضبطاً لنفسه، يقول عليه الصلاة والسلام: (من كظم غيظاً وهو قادر أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء). ومن ثمّ قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد، يعني: يكون في فمه مثل لجام الفرس الذي يوضع في الفكين، وهو لجام التقوى على لسانه، فليس كل ما يريده الإنسان يفعله؛ لأن معه لجام التقوى، وهو اللجام الذي يحبسه عن أن يفعل كل ما يريد أو كل ما يقدر عليه. وعن عبد العزيز بن الماجشون قال: قال: أبو حازم لبعض الأمراء -ويبدو أن هذا الأمير آذاه-: والله لولا تبعة لساني لأشفيت منكم اليوم صدري. يعني بالكلام فيكم. وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله).

فضل حفظ اللسان

فضل حفظ اللسان عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما النجاة في الفتن؟ قال: املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار). وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب). وفي حديث معاذ الطويل المعروف أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ -العاصم من هذه الأشياء- فأخذ بلسانه وقال: كف عنك هذا أو كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)، أي: أن اللسان يحصد الشرور والآثام والأوزار بمنتهى السهولة؛ وذلك بكونه يفري في أعراض الناس ويخوض في الباطل. وعن معاذ رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أوصني، قال: اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك على الناس من هذا كله، قال: هذا، وأشار بيده إلى لسانه). وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً لمن استوصاه: (أجمع اليأس مما في أيدي الناس، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً). وقال في الحديث الآخر: (إياك وكل ما يعتذر منه). وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به، قال: قل ربي الله ثم استقم، قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف عليه؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا) يعني: إن أكثر القوادح في الاستقامة هو اعوجاج أو انحراف اللسان.

الأحكام الشرعية المتعلقة باللسان

الأحكام الشرعية المتعلقة باللسان فجارحة اللسان ينبني عليها كثير جداً من الأحكام كالطهارة والصلوات وسائر أركان الإسلام والجهاد والبيوع والنكاح والجنايات والحدود والقضاء. فاللسان له أبواب متخصصة به: منها القذف والردة والأيمان والنذور والشهادات والإقرار، وكذلك في باب التوحيد؛ فكم من كلمة ردة أوجبت قتلاً! وكم من كلمة أوجبت قذفاً فجلداً! أو أوجبت كفارات، أو نزعت بسببها حقوق من أهلها، أو كان فيها إفراط أوجب بمفرده حكماً، ولذلك قالوا: إقرار المرء على نفسه أقوى البينات، ولذلك تكاثرت نصوص الشريعة الإسلامية في تعظيم شأن اللسان ترغيباً وترهيباً، وأفرد العلماء في كثير من مفرداته المؤلفات في الترغيب وفي الترهيب عن آفات اللسان.

أكثر ما يدخل النار اللسان

أكثر ما يدخل النار اللسان وعن شكل بن حميد رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! علمني تعوذاً أتعوذ به، قال: فأخذ بكفي فقال: قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيي) والشاهد هنا: قوله عليه الصلاة والسلام: (وأعوذ بك من شر لساني). وعن شقيق قال: لبى عبد الله رضي الله عنه على الصفا، ثم قال: يا لسان! قل خيراً تغنم، واسكت تسلم من قبل أن تندم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن! هذا شيء أنت تقوله أم سمعته؟ قال: لا، بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثر خطايا ابن آدم في لسانه). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟! قال: أن يسلم الناس من لسانك)، فهذا الترك سماه عملاً؛ لأن في Q ( أي الأعمال أفضل؟)، فقال في الثانية: (أن يسلم الناس من لسانك).

لسانك سبع بين فكيك

لسانك سبع بين فكيك قال ابن السماك: سبعك بين لحييك -يعني أنه يشبه اللسان بالسبع، وأن هذا السبع الضاري موجود بين الفكين- تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور -أي: قد انتهيت من غيبة الأحياء ثم بعد ذلك تحولت للكلام في الموتى في قبورهم-: فما تركي وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك، ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه فهذا جزاؤه إذ عافاك؟ يعني: هل هذا من شكر نعمة الله أنه عافاك من هذا البلاء؟ ارحم أخاك واحمد الذي عافاك. لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين ففي الحقيقة أن اللسان من الأعضاء الخطيرة الشديدة الخطر، ومن يعرف تشريح اللسان يجد أن بعض الألياف طويلة وبعض الأحيان تكون عرضية أو مائلة، فاللسان فيه كل أنواع العضلات، فيه عضلات بالطول والعرض والمائلة والمستعرضة وغيرها، واللسان هي العضلة الوحيدة التي لا تتعب من كثرة الحركة، فممكن أن الإنسان يتكلم خمس ساعات ولا يشعر بمشقة في كثرة الكلام، وهي خطيرة جداً، فبالتالي يحتاج الإنسان إلى أن يلزم جانب الأمان. فالأفضل للإنسان أن يعتاد الصمت، كما نصح العلماء: إذا استوت المصلحة والمفسدة في الكلام فلا تتكلم، أما إذا رجحت المصلحة فنعم، وإذا غلبت المفسدة فيكون أولى ألا تتكلم، يقول الله عز وجل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] وقال عز وجل -وهي آية في الحقيقة فيها أعظم زجر عن إطلاق اللسان-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فلا توجد كلمة تخرج منك إلا وتسجل وتكتب.

فضل الصمت

فضل الصمت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لم تزل سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك)، فالأصل الذي هو السلامة أن الإنسان لا يتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام على مصلحة السكوت. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت قليل الضحك). وعن شيخ من قريش قال: قيل لبعض العلماء: إنك تطيل الصمت، فقال: إني رأيت لساني سبعاً عقوراً أخاف أن أخلي عنه فيعقرني: ما إن ندمت على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا وعن أرطأة بن المنذر قال: تعلم رجل الصمت أربعين سنة بحصاة يضعها في فيه، يعني: مكث أربعين سنة يجاهد نفسه في تعلم الصمت، فلذلك فإن هذا الكلام ليس موضوعاً نظرياً، بل ينبغي أن يكون انطلاقاً إلى المجاهدة العملية للنفس في التحكم في اللسان. وقوله: بحصاة يضعها في فيه، يعني كان يأتي بحصى ويضعها تحت لسانه لا ينزعها إلا عند طعام أو شراب أو نوم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: والذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. ولذلك مد الله سبحانه وتعالى اللسان بكثير من الحواجز، وجعل لنا أذنين ولساناً واحداً، حتى نسمع أكثر مما نتكلم، ولهذا تجد الأذنين ليس عليهما غطاء، وتجد العين عليها غطاء من أجل رد البصر، وهكذا اللسان جعل الله له باباً من عظم وباباً من لحم، حتى لا يتساهل الإنسان في الكلام. وقال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فافعل. وعن الحسن قال: ابن آدم! وكل بك ملكان كريمان: ريقك مدادهما، ولسانك قلمهما. يعني: أنه وكل بك ملكان كريمان يكتبان عليك الأعمال، والمداد الذي يكتبان به هو الريق، والقلم هو اللسان. وعن شفي بن نافع الأصبحي قال: من كثر كلامه كثرت خطيئته. وكان المدرسون في موضوعات التعبير سواء العربي أو الإنجليزي يقولون لنا: كلما تتكلم كثيراً كلما كانت احتمالات الغلط أكثر، فتكون عليك، فالإنسان عليه أن يتكلم بما قل ودل، فكلما تكلم أكثر كلما كانت احتمالات الخطأ أكثر. وقال سفيان الثوري: لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إلي من أن أرميه بلساني. أي: لأن رمي اللسان لا يخطئ، لكن السهم قد يخطئ. وعن يعلى بن عبيد قال: قال سفيان: لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم الملائكة ترفع الحديث إلى الله سبحانه وتعالى. وقال أبو علي الدقاق: لو كنتم تشترون الكاغد للحفظة -أي: الورق- لسكتم عن كثير من الكلام. يعني: لو كان الله سبحانه وتعالى كلفكم بأن تشتروا الورق للكرام الكاتبين ليسجلوا فيها أعمالكم لسكتم عن كثير من الكلام، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تبعث إلى أخواتها بعد صلاة العشاء تقول لهن: ألا ترحن الكتَّاب؟

محاسبة السلف لأنفسهم

محاسبة السلف لأنفسهم

دلالة حفظ اللسان على خيرية صاحبه

دلالة حفظ اللسان على خيرية صاحبه عن يونس بن عبيد قال: ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله. يعني: أن كل أحواله تكون مستقيمة، فيكون محافظاً على الصلاة، ذاكراً لله عز وجل، محافظاً على العبادات، وعلى الطاعات والواجبات، وعلى الاستقامة في كل أحواله. وعن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: خصلتان إذا رأيتهما في الرجل فاعلم أن ما وراءهما خير منهما: إذا كان حابساً للسانه، يحافظ على صلاته. يعني: إنسان تجد فيه هاتين العلامتين فاعرف أن ما خفي عليك منه أفضل مما ظهر. وعن الأوزاعي عن يحيى رحمه الله قال: أثنى رجل على رجل، فقال له بعض السلف: وما علمك به؟ قال: رأيته يتحفظ في منطقه. يعني: يتحكم في اللسان، فكان هذا هو العمدة في أنه أثنى عليه ثناءً عاماً طيباً. فمن حافظ على لسانه فهو لما سواه أحفظ، كما قيل في الصلاة.

من أساليب السلف في حفظ اللسان

من أساليب السلف في حفظ اللسان عن أسلم: أن عمر رضي الله تعالى عنه دخل يوماً على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه، فقال عمر: مه! غفر الله لك، فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد. وعن جرير بن حازم قال: ذكر ابن سيرين رجلاً فقال: ذاك الرجل الأسود -يريد أن يعرفه بصفة يمتاز بها- ثم قال: أستغفر الله؛ ما أراني إلا قد اغتبته. فما دام الإنسان يستطيع أن يميز الشخص بصفة أخرى غير الصفة التي تؤذيه فعليه أن يلجأ إليها، ولا يلجأ إلى الصفة التي فيها نقص أو إساءة أو عيب فيه، إلا إذا لم يجد غيرها وكان لابد من ذكرها. وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى قال: قال شداد بن أوس رضي الله عنه لغلامه: ائتنا بسفرتنا فنعبث ببعض ما فيها، -يعني: نأكل ما فيها- فقال له رجل من أصحابه: ما سمعت منك كلمة منذ صاحبتك أرى أن يكون فيها شيء غيره هذه، قال: صدقت؛ ما تكلمت بكلمة مذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحكمها وأفطنها إلا هذه، وايم الله لا تذهب مني هكذا، فجعل يسبح ويكبر ويحمد الله عز وجل! يعني: مقابل أنه قال هذه الكلمة أراد أن يجبرها ويكفرها بذكر الله عز وجل. وعن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس في سفر، فنزل منزلاً، فقال لغلامه: ائتنا بالسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أختمها وأحكمها إلا كلمتي هذه، فلا تحفظوها عليَّ. وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: قال فلان -وسمى رجلاً-: ما رأيت رجلاً من الناس إلا لابد أن يتكلم ببعض ما لا يريد غير عاصم بن عمر. وعن أبي عبيد قال: ما رأيت رجلاً قط أشد تحفظاً في منطقه من عمر بن عبد العزيز. وكان الربيع بن خيثم إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً، فكل ما تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء. يعني: أن كل الكلام الذي يتكلم به يسجله، ثم يأتي في المساء فيحاسب نفسه على ما قاله. وعن إبراهيم التيمي قال: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة فلم يتكلم بكلام لا يصعد، أي: أن كل كلامه في حق؛ بحيث يصعد إلى الله، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]. وقال خارجة بن مصعب: صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة، فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

أساليب عجيبة في حفظ اللسان

أساليب عجيبة في حفظ اللسان وبعض السلف لهم أساليب عجيبة جداً في محاسبة النفس في هذا الأمر، فبعضهم كان كلما عمل غيبة وضع حجراً في الغرفة، يقول: ولو أني فعلت ذلك لامتلأت الغرفة من الحجارة. ولا مانع أننا نحاول أن نطبق هذا الكلام كنوع من التأديب العملي حتى نعطي الأمور حجمها الحقيقي، فالأمر خطير جداً؛ فتخيل أنك تحاسب لسانك على كل كلمة قلتها كان ينبغي ألا تقولها، وكلما زللت وضعت طوبة في الغرفة، وبقيت هكذا لمدة أسبوع أو أيام قليلة، فستجد أننا نتساهل في أمر هو في غاية الخطورة. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان)، يعني: تذل وتخضع، ومنه التكفير في الصلاة، والتكفير: هو وضع اليدين على الصدر عند النحر؛ لأنها علامة التذلل، فمن أراد أن يتذلل غاية التذلل فليعمل هكذا، فكل الأعضاء كما يقول الصادق المصدوق في كل صباح تخضع وتتذلل للسان كأنها تتحايل على اللسان: (وتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) ولذلك يستدل على استقامة الرجل باستقامة لسانه، فانظر إلى لسانه؛ فإذا كان يتحكم في لسانه فمعناه أن كل أحواله جيدة، وكل أحواله مستقيمة غالباً. وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء من الجسد إلا يشكو ذرب اللسان على حدته) يعني: حدة اللسان.

الخلوة والاختلاط

الخلوة والاختلاط من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء صيانة الأعراض ليصلح المجتمع وتنتظم الحياة، ولئلا تنحط الحياة البشرية إلى الحياة البهيمية، فتختلط فيها الأنساب، وتدخل الرذيلة عليها من كل باب، وفي سبيل تحقيق هذا المقصد حرم الله الزنا، وسد كل الطرق المفضية إليه، ووضع بين الرجال والنساء أسلاكاً شائكة من تجنبها سلم وغنم، ومن تعداها عطب وأثم، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.

الاحتياطات التي شرعها الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة

الاحتياطات التي شرعها الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. كلامنا يدور حول قضية فتنة المرأة واحتياطات الإسلام إزاءها؛ إذ أول معالم الفتنة في بني إسرائيل كانت بالنساء، وهناك احتياطات شرعها الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة، وينبغي أن يعلم أن حفظ العرض من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والشريعة تسير في اتجاهين لمنع وقوع الفاحشة، فهناك إجراءات وقائية وهناك إجراءات علاجية. أما الإجراءات الوقائية فهي تحريم الزنا وبيان أنه خراب للدنيا وللدين، وهناك جملة من الآيات والأحاديث والآثار في الحث على العفة والتحذير من الفاحشة وبيان عاقبتها الوخيمة في الدنيا والآخرة. وأعظم الإجراءات التي شرعها الإسلام لحماية المسلمين من هذه الفتنة هو الاجتهاد في إصلاح القلب؛ فإن ذلك هو أعظم رادع عن المعاصي. ومن هذه الإجراءات منع الزواج ممن عرف -أو عرفت بالفاحشة- إذا لم يتب، فلا يجوز نكاح الزانية أو الزاني، كما قال تبارك وتعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً} [النور:3] يعني: فاسقة مثله {أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] لا تعتقد تحريم هذا الفعل أصلاً، أو العكس كما في الآية الكريمة، إذاً هذا يدل على أن الكفاءة في العفة شرط في الزواج، الكفاءة في العفة أن تكون مثله، فلا يزوج العفيف من فاسقة، ولا يزوج الفاسق من امرأة صالحة عفيفة؛ لعدم وجود التكافؤ، قال تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ} [النور:3] يعني: فاسق مثلها مستهتر {أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] يعتقد تحريم ذلك، {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] أما أهل الإيمان فإنه يحرم على المؤمن أن يتزوج زانية، وكذلك بالنسبة للمؤمنة.

تحريم البذاءة وفحش القول وسوء الظن بالمسلمين وقذفهم

تحريم البذاءة وفحش القول وسوء الظن بالمسلمين وقذفهم إن من تلك الإجراءات: تحريم البذاءة والفحش من القول، ومنها تحريم سوء الظن بالمسلم، ووجوب حسن الظن بالمسلمين، خاصة إذا سمع الإنسان أحداً يقذف أحداً في عرضه، فيجب على الذي يستمع وجوباً مؤكداً بالقرآن الكريم أن يقول له: إذا لم تأت بأربعة شهداء فأنت عند الله من الكاذبين، أنت عند الله كاذب. فلا ينبغي أبداً للمسلم الذي يخشى الله سبحانه وتعالى في أي مجلس وفي أي ظرف أن يتكلم بكلمة واحدة أو حرفاً في المشاركة أو الإقرار في قذف عرض أي مسلم معصوم، إلا إذا كان هناك أربعة شهود وتحققت شروط هذه الشهادة، وإلا فيجب عليك أن تقطع كلامه وأن تواجهه وأن لا تستحي منه، بل تجهر بقول الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] قل له: أنت كاذب مهما ادعيت صدقك حتى لو كان هذا الشخص من أعدل الناس عندك، متى ما تجرأ على الخوض في أعراض الناس وليس معه الشهود الشرعيون فإنك تقول له: أنت كاذب بنص القرآن (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ). والعلماء ذكروا أنه لو شهد أربعة رجال على الفاحشة بكل شروطها المطلوبة شرعاً، ثم حينما أتى بهم القاضي أو الحاكم واستشهدهم فشهد ثلاثة شهادة قاطعة ومؤكدة، والرابع تلعثم فإن الأربعة يقام عليهم الحد بالقذف، أي: لو أن ثلاثة شهدوا لا يجوز لهم أن يتكلموا، وإذا تكلموا فإنه يقام عليهم حد القذف، فالأربعة إذا شهدوا وواحد منهم تلعثم وتردد ولم يجزم بالشهادة المطلوبة فالجميع يقام عليهم الحد؛ لأن أمر الأعراض -كما ذكرنا- ليس بالأمر الهين، فينبغي أن تعلم خطورة القذف أو الطعن في عرض المعصوم وكيف تكون آثاره متعدية تتوقف لا على المرأة ولا على الرجل، بل تتعدى إلى العائلة كلها، وإلى كل من يمد لهم بقرابة، فمثل هذا الأذى ومثل هذا العدوان شرع الله سبحانه وتعالى فيه مثل هذه الإجراءات الصارمة لحفظ كرامة المرأة والرجل، ومن هذه الإجراءات تحريم قذف المؤمن أو المؤمنة بالفاحشة، وتشريع العقوبة الزاجرة لمن يفعل ذلك.

تحريم إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد

تحريم إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد إن الإسلام حرم مجرد حب إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] إلى آخر الآية، فمجرد حب إشاعة الفاحشة هذا من الجرائم ومن العدوان والانتهاك لحدود الله تبارك وتعالى، ومن إشاعة الفاحشة الحكايات الكثيرة أو الحوادث التي تهون على القلوب أن تسمع مثل هذه المعاصي، فتتعود القلوب على سماعها، وهذه أول خطوة في الاقتراب من حدود الله وتعديها فيما بعد، فإذاً حرم الإسلام مجرد حب إشاعة الفاحشة فكيف بمن يشيعها بالفعل؟! مثل هذه الجرائد التي يقوم عليها أناس لا خلاق لهم، والتي يجردونها لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا عن طريق سرد هذه الحكايات ونشرها على الملأ، فهذا يحرم حكايته، ولا يجوز أن تحكي ولا تسمح لأحد أن يحكي لك، حتى لو كانت الإشاعة قد وقعت بالفعل لا تتكلم، ولا تسمعها رعاية لقلبك وحماية لقلبك؛ لأنك إذا عودت قلبك أن يسمعها فينتهي هذا الحاجز بينك وبينها، وبالتالي تكون أقرب إلى الوقوع فيها أو إلى التهوين من شأنها.

تحريم غياب الرجل عن زوجته مدة طويلة

تحريم غياب الرجل عن زوجته مدة طويلة ومن تلك الإجراءات أن الشريعة الحنيفية حرمت على الرجل أن يغيب عن زوجته مدة طويلة، فأصوب الأقوال في تقديرها هي مدة الإيلاء {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227].

فرض الحجاب على النساء

فرض الحجاب على النساء ومن أعظم التدابير الوقائية في هذا الباب فرض الحجاب على النساء، فالحجاب فريضة على النساء المسلمات، واعتبار قرارهن في البيوت هو الأصل الأصيل في دائرة عملهن، كما قال عليه الصلاة والسلام (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).

تحريم التبرج وإظهار الزينة وتشريع الاستئذان

تحريم التبرج وإظهار الزينة وتشريع الاستئذان ومن تلك الإجراءات -أيضاً- تحريم التبرج وإظهار الزينة للفت نظر الأجانب، ونرجو -إن شاء الله- فيما بعد أن نفصل الكلام في هذا الموضوع، ومن هذه الإجراءات أيضاً تشريع الاستئذان؛ لأن الاستئذان شرع من أجل البصر، إنما جعل الاستئذان حتى لا تقع عين خائنة على عورة غافلة فيقع ما لا يحمد عقباه.

الأمر بغض البصر

الأمر بغض البصر ومن تلك الإجراءات الأمر بغض البصر، فقد منح الله سبحانه وتعالى كل مسلم ساتراً وحاجباً طبيعياً يسدله على عينه إذا رأى مالا يحل له، والنظرة الأولى التي ستكون وليدة المفاجأة لا يؤاخذ الله تعالى عليها، وإذا وقعت نظرة فجأة فعلى المسلم أن لا يعقبها بأخرى، بل عليه أن يحول بصره إلى الأرض أو إلى جهة أخرى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) فقوله (لك الأولى) يعني نظرة الفجأة التي تقع بدون قصد، أما إذا كانت عن قصد فتحرم الأولى وتحرم الثانية، وتحرم الآخرة إذا كانت بقصد، أما المعفو عنها فهي التي جاءت فجأة.

تحريم مس المرأة الأجنبية ومصافحتها

تحريم مس المرأة الأجنبية ومصافحتها ومن تلك الإجراءات أيضاً تحريم مس الأجنبية ومصافحتها، فإن الإسلام يطارد الحرام أنى وجد، ويترقب المنكر حيثما كان ليقضي عليه، فلمس المرأة باليد يحرك كوامن النفس ويفتح أبواب الفساد ويسهل مهمة الشيطان، والحواس التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الإنسان خمس، فكل شيء من البدن مخلوق لأجل أداء وظيفة محددة، العين للنظر، والأنف للشم، والبشرة للمس، فهذه الوظيفة لا ينكرها عاقل، فمس المرأة الأجنبية مما يفتح ذريعة الفساد، ولذلك توعد الرسول صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك بعقوبة شديدة، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)، وإذا كان هذا في مجرد المس فقال: (أن يمس) حتى لو كان بغير شهوة فما بالك بما فوق هذا النوع من المس؟! وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)، فالمقصود بالحديث أن من الناس من يكون إتيانه لهذا الأمر المحرم إتياناً حقيقياً بفعل الفاحشة الكبرى، ومنها ما يكون -كما قال الإمام النووي - مجازياً دون ذلك، لكن أطلق عليه هذا اللفظ تنفيراً منه، (فالعينان زناهما النظر) بأن ينظر الإنسان إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، وما أوفر حظ الذين يجلسون أمام الفيديو والتلفاز وهذه الأشياء ينظرون إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، والنظر للأجنبية في حد ذاته بشهوة لا شك أنه داخل في زنا العين. (والأذنان زناهما الاستماع) الكلام الفاحش والماجن، (واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش) البطش معناه: اللمس (والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فيكون زناً حقيقياً إذا وقعت الفاحشة. الشاهد في الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واليد زناها البطش)، والبطش هو المس باليد، بأن يمس امرأة أجنبية بيده، أما من تساهل في مصافحة النساء واحتج بطهارة قلبه فيقول: أنا قلبي طاهر، ونيتي سليمة فنقول: الإسلام لم يكل الناس إلى نواياهم الحسنة ولا إلى ضمائرهم، وإنما شرع من الإجراءات الصارمة ما يحسم باب الفتنة حتى لا يصير الأمر محتملاً، فلذلك لا تقبل دعوى طهارة القلب وسلامة النية، مع أن الظاهر يخالف ذلك، لا تقبل دعوى من ادعى أن قلبه سليم وقلبه طاهر ويدعي أنه لا يتأثر بذلك، فمن فعل مثل هذا فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وأقوى دليل على كذبه في هذه الدعوى أن أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأخوفهم لله وأرعاهم لحدود الله يقول وهو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أمس أيدي النساء) ويقول (إني لا أصافح النساء)، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء، مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم، كيف وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]؟! وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها) أي: يملك نكاحها. فلا ينبغي الالتفات بعد ذلك إلى بعض الناس الذين يتساهلون في هذا الباب انصياعاً أمام الضغوط الاجتماعية الواقعة من الناس، لأن بعض الناس يتساهل جداً في هذا الأمر ويحاول أن يتنصل من هذا الحكم الشرعي بحجج واهية ساقطة لا تحتاج إلى أن نبذل جهداً ووقتاً في إسقاطها، وبعض الناس قد يتهاونون بهذا الحكم بزعم أنهم يستحيون من إحراج من تمد يدها للمصافحة، غافلين عن أن هذا ليس حياء؛ لأن الحياء خير كله، والذي يأتي بالشر لا يمكن أن يكون خيراً، فإنه لا يأتي الخير إلا بالخير، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الشرعي الذي يمنع من الحرام، فالحياء الشرعي في هذا الموضع هو حياؤك من الله، أن تستحي من الله أن تمد يدك إلى امرأة أجنبية فتصافحها، أما إذا دفعك حياؤك من الناس أو من هذه المرأة إلى أن تمد يدك وتصافحها فإنك استحييت من الخلق وضيعت الحياء منه تبارك وتعالى، فهذا يسمى عجزاً وليس حياءً، هذا عجز وتهاون وخذلان وليس حياءً، يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء ويأمر به ويحث عليه، ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكاً بقوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]، فهذا هو نهاية الحياء. يعني: كان صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فنهاية الحياء أن لا يستحي الإنسان من الحق، فهذا نهاية الحياء وكماله وحسنه واعتداله، فإن من غلب عليه الحياء حتى منعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء واتصف بالنفاق والرياء، والحياء من الله هو الأصل والأساس؛ فإن الله أحق أن يستحيا منه.

تحريم الخلوة بالأجنبية

تحريم الخلوة بالأجنبية ومن تلك الإجراءات المقصود منها حماية المرأة وحماية الرجل -أيضاً- من الافتتان بها تحريم الخلوة بالأجنبية، وحقيقة الخلوة: أن ينفرد رجل بامرأة أجنبية في غيبة عن أعين الناس. فالخلوة بالأجنبية بلا شك من أعظم الذرائع، وأقرب الطرق إلى اقتراف الفاحشة الكبرى، وقد صرح القرطبي رحمه الله تعالى بأن الخلوة بغير محرم من الكبائر، خلوة الرجل بالمرأة بغير محرم هي من كبائر الذنوب، وبعض الناس لا يفهم ولا يريد أن يفهم، ويقول: قلبي سليم ونيتي حسنة! كل هذا الكلام الذي ما حدثت جريمة إلا وكانت هذه مقدماتها، فدائماً تكون مقدمة هذه الجرائم مثل هذا الكلام الذي لا ينطلي على الإنسان الذي يفقه عن الله أمره، فيقول: نيتي سليمة، وهذه مثل أختي، وهذه مثل أمي إلى آخر هذا الكلام، فهو يتصور أن المحرم هو فعل الفاحشة، أما الخلوة فليس فيها مشكلة لأن قلبه سليم ونيته سليمة، والله سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله سبحانه وتعالى أعلم بنا من أنفسنا وهو اللطيف الخبير، شريعته ما جاءت للتعنيف ولا للمشقة، وإنما أتت رحمة بنا، وحماية لنا وصيانة لأعراضنا، فالله أعلم بمن خلق، وقوله: (من خلق) تعم الإنسان الرجل والمرأة، وتعم أيضاً الشيطان، فالله أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (أنه ما اجتمع رجل بامرأة) يعني بغير محرم (إلا كان ثالثهما الشيطان) فهذا خبر الله وهذا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله وصدق رسوله، وكذب المنافقون الذين يجادلون في الحق بعدما تبين، يقول مجاهد: فالخلوة بغير محرم من الكبائر وهو أيضاً من أفعال الجاهلية، كما صرح بذلك العلماء، قال مجاهد في قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] قال: لا تخلو المرأة بالرجال. وقال عبد الرحمن بن زيد: لا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم. والحقيقة أن الإنسان العاقل -لا الذي أصاب عقله ضعف وخور -هو الذي يدرك هذه الأشياء، فهي إجراءات في منتهى المنطقية ومعقولة، والإنسان العاقل نفسه يدركها ببساطة وبسلاسة، ونلاحظ -مثلاً- أن تقسيم الناس بالنسبة للمرأة أو بالنسبة للرجل إلى محارم وأجانب تقسيم منطقي جداً، والمقصود -كما قلنا- هو حماية الأعراض، حماية المرأة من فتنة الرجال، وحماية الرجال من فتنهن، وفي نفس الوقت فإن هذا التقسيم يترتب عليه أحكام فطرية، فالخلوة والنظر والسفر إنما تحرم بالنسبة للأجنبية، ولكن تباح الخلوة لمن يباح له أن يستحلها وهو الزوج، أو لمن هو مأمون عليه من المحارم كأخيها وأبيها وابنها، فهؤلاء جميعاً يؤمنون على المرأة، يودع الله سبحانه وتعالى في قلوبهم ما ينفرهم عن التطلع إلى النساء ذوات المحارم، ولذلك يباح للمرأة أن تتزين لزوجها، ويمكن أن تظهر زينتها العادية في ثياب المهنة -مثلاً- أمام أخيها أو أمام أبيها؛ لأنهم محارم ويؤتمنون عليها، لكن منعت من إظهار ذلك أمام الأجنبي لأنه لا يؤتمن عليها، وقد تترقى الأمور خطوة خطوة إلى أن يقع ما حرم الله سبحانه وتعالى، فهذا الكلام يقبله الإنسان العاقل، ولا يعارضه إلا الإنسان الذي في قلبه مرض والعياذ بالله، الذين عندهم مرض وفساد في القلوب وضعف في العقول هم الذين يجادلون في الحق بعدما تبين، فهذا كلام منطقي، وأي إنسان عاقل حتى لو كان غير مسلم يستسيغه إذا كان المفروض حماية المرأة وإذا كان العِرض له قيمة عنده، أما من كان عنده العرض ليس له قيمة فمن الطبيعي أن يحصل عنده ما يحصل في المجتمعات الغربية وفيمن اقتفوا واقتدوا بهم من الفساد وضعف الغيرة والتحلل وانعدام الحياء، وغير ذلك من شيوع الفواحش فيما بين هؤلاء الناس؛ لأن العرض ليس له عندهم أي قيمة على الإطلاق، ولا يعرفون أصلاً كلمة العرض ولا الشرف، بل عندهم البنت إذا وصلت سن الثامنة عشرة ولم تتخذ لها خليلاً تعيش معه كالأزواج تعرض على الطبيب النفساني، والولد إذا لم يفعل نفس الشيء في نفس السن أو قبل ذلك بقليل فإن أصدقاءه يعيرونه ويتهمونه بصفات مضادة للرجولة؛ لأنه لم يتخذ خليلة! فأمثال هؤلاء ينبغي أن نضعهم في الموضع اللائق بهم، فلا نقول: إنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً كما وصفهم الله تبارك وتعالى، لا أن نفتتن بهم وأن نجعلهم القدوة ونرتضيهم قدوة بدلاً من سلفنا الصالح الذين هم خير قدوة رحمهم الله تعالى أجمعين. خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدرجة الهلاك، فينبغي في هذا الباب أن لا يأمن الإنسان على نفسه ولا من نفسه، بل الإنسان كما قال بعض السلف: من أعطى من نفسه أسباب الفتنة أولاً لم ينج آخراً، وإن كان جاهداً، فالشيطان -كما ذكرنا- لا يأتيك مباشرة ويأمرك بالحرام، لكنه يستدرجك خطوة بعد خطوة ويستنزلك درجة بعد درجة إلى أن يهون عندك ما كنت تستفظع إتيانه أو فعله، ولذلك قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، وقال تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، وقال عز وجل أيضاً: {وَلا تَقْرَبُوا الزنا} [الإسراء:32]، وإنما قال: (تقربوا) لأنه عبارة عن خطوات، فالزنا حرام وكل ما أدى إليه حرام كما سنشرح ذلك بالتفصيل، فالإنسان عليه أن يتصرف في هذا الباب كأن سبعاً ضارياً كامن في داخله، وإنه إذا أتى شيئاً من هذه المحرمات فإن هذا السبع يخرج ويهلكه ويوقعه فيما حرم الله تبارك وتعالى، ولذلك فإن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدعاة للهلاك ومدرجة للإثم والفجور، وكيف لا يكون كذلك والفرصة سانحة وقد تركت الخلوة لهذه الأمور أن تستيقظ، فأي فعل من الأفعال يمر بمراحل عدة، أولها: مرحلة النزوع أو الرغبة أو الميل إلى الفعل، ثم مرحلة الوجدان أن يجد الشخص ويعزم على الفعل، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ، وهذا الباب هو الذي نتكلم فيه باب الافتتان بهذه الشهوة، فهناك طبيعة في هذا الكائن البشري، أن الإنسان إذا اتقدت نار الشهوة واستيقظ فيه الحيوان فإنه يندفع إلى الفعل إن لم تحجزه التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى، فمن ثم رأينا القرآن الكريم ينهى عن الاقتراب من أسباب الزنا فيعالج هذه الجريمة الخلقية بحجز النفس عن أسبابها، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزنا} [الإسراء:32] بينما نلاحظ أن هذا فعلاً هو دين الفطرة، فالله سبحانه وتعالى لم ينهنا في آية أو في حديث عن أكل الطين أو الرمل -مثلاً- أو شرب البول؛ لأن في فطرتنا نفوراً من هذه الأشياء، فلذلك الشرع ما تعرض لهذا واكتفى بوجود النفور، فالخطر من تعاطي مثل هذه الأشياء لم يتعرض له أصلاً بنهي، كذلك لما نهانا عن القتل ما قال: ولا تقربوا القتل. وإنما قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] مع أن القتل جريمة بشعة والقتل من أعظم الكبائر والجرائم بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، لكن النفس بطبيعتها تأبى القتل وتنكره، فلذلك أتى النهي عن الفعل مباشرة فقال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) أما في هذا الوزر خاصة فإن الله سبحانه وتعالى قال فيه: (ولا تقربوا) فينبغي للأخوة في حوارهم مع الناس أن ينبهوا لهذا الأمر، كحكاية: (إن قلبي سليم) و (نيتي سليمة) و (قلبي طاهر وما يؤذي أحد) كل هذا الكلام لأن الإنسان لا يستحضر أن مجرد الخلوة معصية، حتى لو وجد رجل وامرأة في مكان في خلوة ولم يخطر ببال أي منهما أي شيء فقد ارتكبا الوزر وسجلت ودونت المعصية في حقهما؛ لأن الخلوة في ذاتها حرام، وليست حراماً فقط إذا أدت إلى الفاحشة، لكن الخلوة لذاتها حرام، والحكمة من تحريمها أنها ذريعة للفاحشة وذريعة إلى القيل والقال والطعن في الأعراض، ولذلك قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا) فهذا كله يرينا إلى أي حد يسد الإسلام على هذه الجريمة كل من منفذ، ويحجب النفس عن أسبابها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية وشدد في ذلك، فالإسلام جعل بين الرجال وبين النساء الأجانب أسلاكاً شائكة، وهذه الأسلاك الشائكة كي تحجب الأجانب من الرجال عن النساء وقاية للطرفين من هذه الفتنة، وتأكد أنك إذا تتبعت خطوات ومراحل أي قصة في جريدة حصل فيها انتهاك للعرض أو العدوان عليه أو الوقوع في هذه الفاحشة -والعياذ بالله-، إذا تتبعت القصة من أولها ستجد أن البداية كانت ثغرة في الأسلاك الشائكة، ثغرة بسيطة في الأسلاك الشائكة مر وعبر من خلالها الشيطان وتسبب في وقوع هذا الفحش، فالبداية تكون في أن الله أمره من ضمن الأسلاك الشائكة بغض البصر، فلم يمتثل أمر الله وأطلق بصره، فوقع في العشق -مثلاً- وما يتلوه من ترك الدين والدنيا، أمره الله بأن لا يمس أجنبية فصافح المرأة الأجنبية وتلا ذلك ما تلاه من الحرام، نهاه عن الدخول عن المغيبة التي غاب زوجها، نهاه عن الخلوة بالمرأة وعن السفر معها، أو نهى عن سفر المرأة وحدها، فتجد أن هذه الأسلاك الشائكة حصل فيها ثغرة، ومن خلالها نفذ الشيطان فأوقع العباد في حبائله، فإذاً هذا كله يتطرق مع الحكمة العظيمة في صيانة الأعراض، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، ومنها حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالهما الشيطان) وهذا يعم جميع الرجال (ألا لا يخلون رجل) يعني: أي رجل (بامرأة) أي امرأة، فالحديث يعم جميع الرجال ولو كانوا صالحين ومن أولياء الله، أو مسنين شيوخاً هرمين فهم فيدخلون في الحديث؛ لأن الحديث قال: (لا يخلون رجل بامرأة) سواء أكانوا رجالاً صالحين أم مسنين، أو كانت النساء صالحات أو عجائز، ومنها حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن الن

تحريم سفر المرأة بدون محرم

تحريم سفر المرأة بدون محرم ومن تلك الإجراءات أن الإسلام حرم سفر المرأة بغير محرم، وبعض النساء حينما نتكلم في هذا تظن أن هذا نوع من التشديد أو التعسير عليهن، ولا يدركن أن هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بهن كما سنبين؛ لأن المرأة مظنة الشهوة والطمع، والمرأة لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها، ولا يغار عليها مثل محارمها، لا يغار على المرأة غيرة حقيقية أبداً أحد مثل محرمها كزوجها أو أخيها أو ابنها، الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم، وسفرها بدون محرم يعرضها إلى الخلوة بالرجال ومحادثتهم، وقد يقع فيها من في قلبه مرض، وربما سهل خداع المرأة، وربما يعتريها مرض، وإذا سلمت من كل هذا فلن تسلم من القيل والقال إذا سافرت بدون محرم يصونها ويرعاها فمن أجل ذلك كله حرم الإسلام عليها أن تسافر بغير محرم يصحبها ويحميها، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) (لا تسافر) فهنا أطلق السفر ولم يقيده بمدة ولا بزمن، وهذا هو الصحيح أن السفر هو كل ما أطلق عليه لفظ السفر فإنه يتناوله هذا الحديث، يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ذلك في ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك. وفي رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المطلقة: (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم) وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً، وقال الحافظ رحمه الله: قد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات. أي: الروايات التي فيها تقييد مختلفة ومتفاوتة، فالمخرج من هذا كله أن يقال: السفر مطلقاً. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتب في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك)، فأمره أن يترك الجهاد وينطلق كي يصحب امرأته في الحج، وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى (النساء لحم على وضم) والوضم: ما وقيت به به اللحم عن الأرض من خشب أو حصير يعني الشيء مثل السفرة على الأرض تضع عليه اللحم كي تحمي اللحم أن ينتقل عليه التراب مثلاً، سواء قطعة خشبة أو قطعة حصير، فهذا هو الوضم، فمعنى قول الإمام ابن العربي: (النساء لحم على وضم إلا ما ذُبَّ عنه) أن اللحم إذا تركته على وضم فإن الذباب يجتمع عليه ويلوثه ويفسده، إذا تركت اللحم على الوضم دون أن تدفع عنه الذباب أو تغطيه بشيء فإنه سيأوي إليه الذباب ويفسده، فهكذا أيضاً (النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه)، فيقف معها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها يذب عنها هذه الذئاب البشرية وهؤلاء الذباب ويحميها من هؤلاء، كما يقول الشاعر: تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستأسد الحامي لأن أمثال هؤلاء الذئاب من البشر أو الكلاب من البشر إذا رأوا المرأة معها من يحميها فإنهم لا يجرءون عن أن يقتربوا منها. تعدو الذئاب على من لا كلاب له. الكلاب التي تستعمل الحراسة، يعني عدم وجود الحرس. وتتقي مربض المستأسد الحامي. أي: الذي يقف كالأسد يحمي عرضه. يقول ابن العربي: كل أحد يشتهيهن وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام، فحد الله عليهن بالحجاب وقطع الكلام وحرم السلام، وباعد الأشباح إلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يمنع منها وهم أولو المحرمية، ولما لم يكن ذلك من تصرفهن جعل الأصل قرارها في البيت، فلما لم يجد مفراً من أن يخرجن لقضاء حاجتهن أذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان المخالفة وهو السفر مقر الخلوة ومعدن الوحدة). السفر غالباً يكون فيه وحدة ويكون فيه خلوة، فإذا تركت وحدها تتعرض لما لا تطيق، وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كبيرة. أي: حتى لو كانت امرأة كبيرة؛ فإن السفلة والسقطة من الناس لا يرتدعون حتى عن الكبيرة، كما يقول الشاعر: ولكل ساقطة في الحي لاقطة وكل كاسدة يوماً لها سوق فيقول النووي: قد قالوا: (لكل ساقطة لاقطة) ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطتهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وحيائه. فتباً لهؤلاء الذين يطلقون لبناتهم ولنسائهم العنان يسافرن دون محرم، ويجعلون من علامات المرأة المتحررة المتنورة أنها تسافر دون محرم! وأنها الآن تجهر وتفخر بأنها تسافر بدون محرم، ويخلون برجال أجانب مدعين أن الظروف تغيرت، وأن المرأة اكتسبت من التعليم ومن الحرية ما يجعلها موضع ثقة أبيها وزوجها، ما هذا إلا فكر خبيث دس إلينا ليفسد حياتنا، وما هي إلا حجج واهية ينطق بها الشيطان على ألسنة هؤلاء الذين انعدمت عندهم غيرة الرجولة والشهامة، فضلاً عن كرامة المسلم ونخوته، يقول فضيلة الدكتور الصباغ حفظه الله تعالى: ومثل الذين يتهاونون في الخلوة والاختلاط الآثم بدعوى أنهم ربوا على الاستجابة بنداء الفضيلة ورعاية الخلق مثل قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لا يكون؛ لأننا كتبنا ورقة وضعناها فوق البارود تحذيراً من الاشتعال والإحراق!! هل هذه الورقة يكون لها قيمة؟! النار موجودة بجانب البنزين أو البارود، ويقول: إن المانع من الانفجار هو هذه الورقة. يعني أن هذه حجة واهية مثل هذه الورقة التي لا قيمة لها؛ لأنه متى ما اقترب البنزين من النار فالنتيجة معروفة في الغالب، فهذا خيال بعيد عن الواقع، ومغالطة للنفس وطبيعة الحياة وأحداثها، أنه متى حصل تسيب وتهاون في نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء فالنتيجة معروفة. ونحن إذا كنا نتكلم من خمسين سنة عندما كانت دعوة تحرير المرأة ونشر هذا الفساد في بلاد المسلمين ما زالت قائمة، وعندما خضنا التجربة كان يمكن أن الكلام فعلاً يحتمل، ولذلك خدع به كثير من الناس، لكن الآن المفروض أن القضية ليست محل خلاف في أن هذا من أفسد المناهج، أي: الاختلاط والإباحية التي إلى الآن نرى ثمرتها، وسنحاول أن نتكلم فيما بعد عن ذلك بالتفصيل إن شاء الله. فالموضوع أخذ باستدراج، ففي البداية كانت المعركة حول كشف وجه المرأة، وزجوا ببعض الشيوخ في المعركة، وجعل يقول: الشرع يبيح كشف وجه المرأة، وهؤلاء الناس متزمتون أو متشددون، ويحرفون الآيات عن مواضعها. وينحرفون في تفسير نصوص الشريعة إلى أن ينصروا هذا المذهب المرجوح القائل بإباحة كشف وجه المرأة، ثم إذا فرغوا من ذلك ترقوا إلى خطوة أخرى، إلى الآن وصل الأمر إلى ما نحن عليه الآن، فالآن المفروض أن كل شيء انكشف، وأن كل سوءات منهج تحرير المرأة ومناهج الإباحية الآن صارت تجربة خضناها وصار عندنا رصيد من الحقائق المريرة نعيشها ونحياها، فالكل منا يجد ثمرات مرة لتحرير المرأة ويراها في الطرقات وفي المواصلات وفي المرافق وفي الوظائف وفي الجامعات وفي المدارس وفي الهيئات، في كل مكان في بلادنا نرى الثمرات المريرة لا المرأة نضجت ولا المرأة حصلت خيراً، بل المرأة الآن عادت تحلم من جديد بأن تستقر في بيتها وتعود إلى مملكتها، فكل هذا الكلام مغالطات خطابية، فقط يقال للتغرير بالنفس، والمفروض أنه الآن انتهى دور الكلام الخطابي؛ لأن الواقع يقطع كل من يجادل في هذه الحقائق، فإننا ما ذقنا من هذا كله إلا الانحدار، وإذا لم يحصل وقوف لهذا التيار من الانحلال والفساد فالنهاية ستكون كما حصل في تركيا، حينما ثبتت على هذا الطريق الذي يُعلم جيداً أن من قطع الخطوات الأولى فيه لا بد أن تنتهي به إلى الإباحية المطلقة، وقد سمعت من بعض الناس أن البلاد الأوربية تخشى على فسادها من شبكات البث التركية من الفساد الذي فيها! فبعد ما كانت تبث النور لكل أوروبا ودخل الملايين من أهل أوروبا في الإسلام على يد الأتراك، إذا بهم يكيدون لنا حتى يجعلوها هي البؤرة لنشر الفساد في كل المنطقة، وهذا الشيء الوحيد الذي تفوق فيه الأتراك الآن في هذا الزمان إلا من رحم الله! هذا الفساد الذي يشيعونه في كل مكان حتى جعل بعض البلاد الأوربية تخشى على فسادها من فساد البرامج التركية والبث التلفزيوني التركي والعياذ بالله، فنفس الشيء إذا لم يحصل كبح لهذا الاتجاه ستمضي الأمور على سلمها، كل يوم يحصل تحطيم لشيء جديد من الرصيد الذي تبقى لدينا من القيم، فالأمور تتدهور، وهناك أناس لهم مصلحة في تحصين شباب المسلمين والمسلمات عن طريق الإنحلال، بعدما اجتهدوا في تحصينهم عن طريق الشبهات والطعن في الدين والأفكار البائسة كالعلمانية وغيرها، ثم الآن العمل ماض على قدم وساق لأجل تحصينهم بالانحلال خدمة لأغراض اليهود؛ لأن المطلوب من الأمة أن لا يصلح شبابها في المستقبل القريب لأي نوع من المقاومة حتى يستطيع اليهود أن يركبوهم كالحمير كما يقول اليهود، وهذا السر في أن اليهود دائماً يحاولون تحطيم جميع الأجيال بنشر الفواحش والمذاهب الهدامة حتى لا تقوى هذه الشعوب على المقاومة حينما يقوم من جديد ملك داود في بيت المقدس وتقوم مملكة داود، ويخرج إليهم المسيح الدجال كما ينتظرونه، ويسمونه المسيح المنتظر، فهدفهم كله تحطيم الأمم حتى لا يبقى عندها أي قدرة على المقاومة، ولا يكون عندها مبدأ، ولذلك نجد أن المخدرات تنتشر وهي سلاح أشد فتكاً من الأسلحة النووية على شباب المسلمين؛ لأن الإنسان إذا سقط صريعاً للإدمان انتهى ويشطب عليه، ولا يؤمل في أن يعالج فيما بعد إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فالأمر جد خطير، وهي عبارة عن سلسلة متشابكة من المؤامرات لتحطيم مقومات القوة في أمة المسلمين وفي أمة التوحيد كي لا يبقى عندها أي قدرة على المقاومة إذا حضر السيد اليهودي.

تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة

تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة ومن تلك الإجراءات -أيضاً- تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة، فمن المعلوم أن من دواعي فتنة الرجل بالمرأة ونزوعه إليها ما يشم منها من الطيب الذي يفوح شذاه، فيجر إلى الفتنة ويكون رسولاً من نفس شريرة إلى نفوس أخرى شريرة، والإنسان يعجب من هذه المرأة التي تستيقظ في الصباح وتقضي ساعة -مثلاً- أمام المرآة تظهر الأصباغ والمساحيق، وتهتم بمظهرها أمام الرجال الأجانب أكثر مما تهتم بمظهرها أمام زوجها الذي تستطيع أن تتناول ثواب العبادة إذا تزينت له في البيت، فهذه تكون عبادة وتثاب عليها، وهي طاعة لله سبحانه وتعالى؛ لأنها في موضعها المناسب، فمن الظلم أن تضع هذا التزين في غير موضعه، تخرج المرأة بهذه الزينة وتضع هذه الروائح والعطور لأجل أن تلفت إليها الأنظار! قرأت في أحد الكتب التي تتكلم عن التلفزيون ومفاسده، فيحكي أنه أذيع في أحد التلفزيونات أن امرأة تمر تفلة -يعني: ليس عليها طيب ولا روائح- والرجال واقفون يلتفتون إليها، ثم بعد ذلك تهتدي هذه المرأة لفكرة شيطانية، فتضع الطيب وتتضمخ بالطيب ثم تمر وإذا بالرجال جميعاً ينجذبون نحوها ويسيرون ورائها! وهذا الإعلام قد يكون صامتاً أو متكلماً، لكن أنظر إلى المعنى الذي يريدونه وإلى الهدف الحقيقي الذي هو نشر الفتنة بالمرأة عن طريق هذه الأشياء، فأي امرأة عندها بقية من كرامة كيف تقبل أنها تخرج هكذا وتعرض على الرجال بهذه الصورة وهي لا تأمن أن ينظروا إليها نظرة محرمة أو يشتهونها في أنفسهم، هل امرأة عندها كرامة؟! وهل عنده كرامة ذلك الزوج الذي يخرج يتأبط ذراع زوجه في الطريق، وقد كشفت عن محاسنها وتزينت وتلطخت بالبويات والألوان ووضعت الطيب وهو ماشٍ فخور بهذا العري وهذه الفضيحة؟! أولى لك أن تنكس رأسك في الوحل وفي الطين من أن تفتخر بأنك تعرضها للرجال؛ لأن النظر هو نوع من التمتع، والنظر إلى المرأة -خاصة إذا كانت في الزينة- هو نوع من الاستمتاع بها، فكيف يكون رجلاً؟! حتى إذا لم نقل: عنده دين. ولا: إنه متطرف ولا إرهابي فهو رجل، فكيف يقبل أن يشاركه الرجال فيها ويعرضها للناظرين هكذا بعد أن زينها في البيت، ثم تخرج إلى الرجال ويفخر بذلك؟! كما نرى ذلك في الأفراح ونرى ذلك في الطرقات، وكأننا لسنا من أمة المسلمين، وكأننا لا صلة لنا بهذا الدين ولا بهذا الرسول ولا بهذا القرآن! فالله المستعان. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية) كل عين تنظر إليها فهي واقعة في هذا الإثم، ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا) يعني: زانية. والعياذ بالله، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً) نهاها أن تمس الطيب إذا راحت إلى المسجد وهو مكان عبادة، فكيف إذا خرجت إلى السوق؟! وكيف إذا خرجت لغير ذلك من المرافق؟! وكيف تمر على مجالس الرجال بهذه الرائحة؟! ليس هذا من المنطق ومن العقل فضلاً عن أنه حكم الشرع، إنما يرفع الحرج عنها تماماً ما دامت أمام زوجها أو أمام محارمها بأن تضع الطيب أو تتزين أو ترفع الحجاب؛ لأن هؤلاء مأمونون، وأي إنسان عاقل يستسيغ هذا، ولا يمكن أن يعترض على هذا إلا من مسخت فطرته وانتكس إلى مرتبة أقل من مرتبة الخنازير والحيوانات والبهائم، هذا كلام منطقي جداً، حتى الذي ليس عنده دين يرى ذلك متوافقاً مع فطرته ومع عقله، فلا ضير على المرأة أن تستعطر في بيتها ولزوجها بشرط أن لا تغشى به مجالس الرجال؛ لأن الطيب من ألطف وسائل المخابرة والمراسلة، والحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس أن لا يحتمل حتى هذا العامل اللطيف الخفي، وقد خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه متطيبة فوجد ريحها، فعلاها بالدرة ثم قال: (تخرجن متطيبات فيجد الرجل ريحكن! وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تفلات) (تفلات) خاليات من الروائح.

تحريم الخضوع بالقول

تحريم الخضوع بالقول ومن تلك الإجراءات -أيضاً- تحريم الخضوع بالقول، فقد يكون صوت المرأة رخيماً يحرك النفوس المريضة، فيجرها إلى التفكير في المعصية أو يوقعها ويوقع بها في بلية العشق، يقول بشار: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا فمن هنا نهيت المرأة عن مخاطبة الأجانب بكلام فيه ترخيم كما تخاطب زوجها، وأمرت أن تتحرى فوراً الصوت الجاد العاري عن أسباب الفتنة، ولم يخول لها الإسلام إذا ما راب شيء في الصلاة أن تسبح كالرجال؛ لأن الرجال قد يفتتنون بصوتها، بل عليها أن تصفق، وهي في الحج لا ترفع صوتها بالتلبية، ولا يشرع لها أن تؤذن للصلاة في المسجد، ولا أن تؤم الرجال، وقد سد الإسلام على المرأة كل سبيل للتسيب في هذا الباب حينما جعل أمهات المؤمنين محلاً للقدوة، فلم يبق هناك عذر لمعتذر، فإذا كانت أمهات المؤمنين اللائي هن أشرف نساء العالمين رضي الله تعالى عنهن أجمعين يقول الله تعالى لهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] مع أنهن أمهات المؤمنين في الحرمة وفي الاحترام، ومع ذلك نهاهن أن يخاطبن الرجال بخضوع بالقول فكيف بغير هن؟! وقال صلى الله عليه وسلم: (والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام)، وفي رواية: (والأذن تزني وزناها السمع).

تحريم الاختلاط

تحريم الاختلاط من أعظم وسائل الإسلام لتجفيف منابع الفتنة بالمرأة -وهو من أشد مظاهر الإسلام غربة الآن في مجتمعات المسلمين عامة- حظر الاختلاط، وحينما نقول: (الاختلاط) فإنما نقصد به اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم له اجتماعاً يؤدي إلى ريبة، أو يكون فيه تسهيل لوسائل الاتصال بينهما والتي قد تؤدي إلى هذه الريبة، أو كما قال بعض العلماء: هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر أو الإشارة أو الكلام أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد. يعني: لو أن الرجال في الطريق العام والنساء كذلك ولا توجد وسيلة للاتصال أو الريبة فهذا لا يسمى اختلاطاً، إذا خرجت المرأة في الطريق تمشي على الرصيف -مثلاً- أو بعيداً عن الرجال فهذا ليس اختلاطاً، إنما الاختلاط الذي نتكلم عنه هو الذي يسهل حصول الريبة، ويسهل الاتصال بين الرجال الأجانب والنساء، فيقول تبارك وتعالى مخاطباً أمهات المؤمنين: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، فهذا إشارة إلى أرقى وأعلى درجات الحجاب، وهي القرار في البيت، ويقول تعالى أيضاً: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] (وإذا سألتموهن متاعاً) يعني: إذا سألتم -أيها المؤمنون- أمهات المؤمنين زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم متاعاً -فتوىً، أو ماعوناً، أو طعاماً، أو غير ذلك- (فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن)، فإذا كان الحجاب الكامل الذي يغطي جميع البدن أطهر لقلوب الصحابة وأطهر لقلوب أمهات المؤمنين فماذا نقول فيمن يأتي بعدهن؟ ومن الذي هو أشد حاجة إلى هذه الطهارة: نحن أم الصحابة؟ نساؤنا أم أمهات المؤمنين؟ لا شك أن الحكم يثبت في حقنا بطريق الأولى، أو بقياس الأولى، وقال صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها)، وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق: (استأخرن) أمر النساء أن يستأخرن، يقول: (استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق) (تحققن): مأخوذة من: حاق الطريق يعني: وسطه. يعني أن تتنحى المرأة جانباً إذا مشت في الطريق، (فليس لكن أن تحققن الطريق)، يعني: ليس لكن أن تمشين في وسط الطريق لكن في الجوانب، عليكن بحافة الطريق. فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به، والآن نحن ما نجد مكاناً حتى على الرصيف، والله المستعان! وقد أفرد صلى الله عليه وسلم في المسجد باباً خاصاً للنساء يدخلن ويخرجن منه لا يخالطهن ولا يشاركهن فيه الرجال، فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. وعن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى أن يدخل المسجد من باب النساء)، ومن ذلك تشريعه للرجال إماماً ومؤتمين أن لا يخرجوا فور التسليم من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة بالمسجد نساء، إذ كان وضع المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما نعلم: الرجال أولاً، ثم الصبيان، ثم بعد ذلك النساء، وقال (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، وبعض الأخوات لهن اجتهاد غريب في تطبيق هذا الحديث، يذهبن إلى أن تركيب الصفوف بالنسبة للنساء يبدأ من آخر صف، فبعضهن وصلن لمرحلة اجتهاد عليا، ففهمن الحديث هكذا، أن أول صف للمرأة هو الذي يكون قريباً من جدار الخلف، والصف الثاني يكون أمامه وهكذا، أي أنهن يعكسن الحديث، وهذا معناه أن أول الصفوف سيكون آخرها، فبالتالي يكون أولها خيرها بعكس الحديث، وعلى أي الأحوال فما كان هناك ساترٌ أو حاجزٌ بين الرجال وبين النساء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والحقيقة أن هذا الأمر الآن شاع في المساجد، وهو فيه شيء من الخير الكثير، وهو الفصل الكامل بين الرجال والنساء في المساجد، لكن يشترط فقط اتخاذ إجراء يسهل للنساء اللاتي يحضرن كل يوم متابعة الإمام؛ لأنه بهذا الوضع المحكم الإغلاق إذا حصل أي طارئ أثناء الصلاة فإن النساء يقعن في اضطراب عظيم، فلا يتمكن من معرفة إذا كان الإمام سجد سجدة التلاوة أم لا، سجد سجود السهو أم لا، هنا نقول: نأتي بكاميرات تلفزيونية. لكن الكهرباء يمكن أن تنقطع، فالحقيقة أن القضية تحتاج إلى أن يوجد هناك وسيلة ولو نوع من الزجاج الذي يحجب الرؤية، وفي نفس الوقت توجد ثغرة ولو بسيطة يستطيع حتى بعض النساء أن يتابعن الإمام من خلالها، أما بهذا الوضع فأعتقد أن هذا فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد من وجود طريقة لمتابعة النساء لحركات الإمام، وهذا تنبيه عابر وليس الآن مقام التفصيل فيه. ومن هذا أيضاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام (كان إذا سلم من الصلاة مكث قليلاً)، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال، كان المعصوم عليه السلام إذا فرغ من الصلاة يمكث في مصلاه شيئاً قليلاً، ثم يتحول؛ لأن النساء كن في الخلف، وإذا التفت الرسول عليه السلام ستقع عينه على النساء، فلذلك كان يمكث قليلاً بعد السلام في مكانه قبل أن ينصرف أو يتحول كي تتمكن النساء بسرعة من الخروج من المسجد، فإذا خرجن يلتفت إلى الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك بوب الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في هذا بقوله: (باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة)، ورواه البخاري أيضاً، وفيه: قال ابن شهاب: (فنرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم) يعني: كي لا يحصل اختلاط بين الرجال والنساء. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان يسلم فينصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وروى النسائي: (أن النساء كن إذا سلمن قمن). إذاً السنة بالنسبة للنساء إذا سلمن ينطلقن بسرعة لئلا يحدث اختلاط، ولو أن الأخوات يلتزمن هذا الأمر الشرعي لما حصلت هذه المناظر المؤذية التي تقع أحياناً، وأنا استغرب من هذا الجيل الجديد في موضوع التهاون في أمر الاختلاط، أين الحزم الذي عهدناه في الإخوة؟ تجد الأمر فيه تساهل غريب جداً، الأخت تروح وتأتي وتقف وسط الشارع بلا حرج، والأمر عادي لا مشكلة فيه، أو الأخ يقف قريباً من مكان النساء، فهذه أوضاع ليست من الإسلام -لا أقول: ليست من السلفية-، إن هذه أوضاع ليست من الإسلام في شيء، فالأخوات عليهن الانصراف بسرعة بعد التسليم من الصلاة، والأخوة يتريثون في الخروج حتى تنصرف النساء، وفي رواية النسائي: (أن النساء كن إذا سلمن قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال) قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث كراهة مخالطة الرجال بالنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت. وعن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك. فقال: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي) مع أن الصلاة في مسجده تضاعف، ولكن مع ذلك كلما كانت المرأة أبعد من الخروج والاحتكاك بالرجال كان أسلم لدينها، فهي إذا كان ولا بد -كما في هذا الزمان نظراً لأن بعض الأخوات يعانين من آبائهن -للأسف الشديد- بسبب التزامهن بالدين وليس هناك مخرج ولا وسيلة للتعلم سوى أن تخرج إلى المسجد فلا أقل من إنها إذا خرجت تراعي حدود الله سبحانه وتعالى، بأن تحتجب حجاباً كاملاً، وتراعي آداب مجلس العلم، فتنصرف مباشرة كي لا تختلط بالرجال خارج المسجد. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن) وقال صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، وهذا كله في حال العبادة والصلاة التي يكون فيها المسلم أو المسلمة أبعد ما يكون عن وسوسة الشيطان وإغوائه، فكيف بما كان خلاف العبادة والصلاة؟! وعن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (نعم. ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن، وأمرهن بالصدقة). قال الحافظ قوله: (ثم أتى النساء) يعني: بعدما خطب الرجال. فقوله: (أتى النساء) معنى ذلك أنه كان هناك فرق بين الرجال وبين النساء يشعر بأن النساء كن على حدة غير مختلطات بالرجال. وقوله: (ومعه بلال): فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه؛ لأن بلالاً كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم وكان متولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره، وعن ابن عباس

من صور الاختلاط المحذورة في الشرع

من صور الاختلاط المحذورة في الشرع نذكر بعض صور الاختلاط المحذورة شرعاً، والتي يتهاون فيها الناس خاصة في هذا الزمان، فمنها ما يدخل في طوقنا فهذا نحن مسئولون عنه أمام الله سبحانه وتعالى، ومنها ما عمت البلوى والفتنة به، فعلى كل مسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى في أن يتجنب مواضع الاختلاط بقدر استطاعته {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].

اختلاط الذكور والإناث في المضاجع

اختلاط الذكور والإناث في المضاجع أما ما في طوقنا اتفاقاً الاختلاط في البيت، اختلاط الأولاد الذكور والإناث ولو كانوا إخوة بعد سن التمييز في المضاجع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر) وليس معناه أنه لابد من أن تضربه، وإنما إذا احتاج للضرب، بمعنى أنك إذا بقيت معه من سن السابعة وأنت في حث وتوجيه، فما استقام على الصلاة حتى أتى سن عشر ولما يصلي فحينئذ يضرب بشروط محددة، قال: (وفرقوا بينهم بالمضاجع) أي: فرقوا بين الأولاد في المضاجع.

اتخاذ الخدم والخادمات

اتخاذ الخدم والخادمات ومن صور الاختلاط المحذور اتخاذ الخدم الرجال واختلاطهم بالنساء، يكون الخادم رجلاً أو سائقاً أو غير ذلك، ويختلط بالنساء، وتحصل الخلوة بينه وبين هؤلاء النسوة، فهذه -بلا شك- من الاختلاط المحرم، أن يتخذ خادماً رجلاً أو سائقاً -مثلاً- يدخل ويخرج وكأنه ممن ملكت أيمانهن، وهذا ليس رقاً، فالخادم حر وليس رقيقاً، فهذه أيضاً من الصور المحرمة، ومنها اتخاذ الخادمات اللاتي يبقين بدون محارم، وقد تحصل بهن الخلوة، والآن ظهرت الموضة الجديدة بعدما ذاقت بعض البلاد القريبة منا الويل من استجلاب الخادمات الفلبينيات ومن شرق آسيا، لقد أصبح ذلك نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، فالذي يريد أن يتفاخر يجعل عنده خادمات فلبينيات وسائقاً من شرق آسيا إلى آخر هذا الكلام! أصبحت هذه الظاهرة الآن من مظاهر النفاق الاجتماعي والرياء، بجانب الفساد الذي يحدثه هؤلاء في الأخلاق أو في خلوتهن بالرجال، أو في تربية الأولاد على التربية النصرانية، وبالذات الفلبينيات، والأسرة تفخر جداً بأن الولد سيتكلم بالإنجليزية ويتقن اللغة الإنجليزية بسبب احتكاكه بهذه المربية الكافرة، فلا شك أن هذا أيضاً من الفتن التي ظهرت، وبدأت تنتشر -للأسف- في بلادنا.

جلوس الخطيب مع خطيبته

جلوس الخطيب مع خطيبته أيضاً السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، ثم إلى ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف ودراسة أحدهما للآخر، وكأنه عقد قران في التساهل في الخلوة وفي الخروج وغير ذلك، فلا شك هذا من التعدي لحدود الله تبارك وتعالى وفتح ذرائع الفساد.

مخالطة المرأة أقارب زوجها الأجانب

مخالطة المرأة أقارب زوجها الأجانب من ذلك أيضاً استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب أو أصدقاءه في حال غيابه ومجالستهم، فالمرأة تقوم باستقبال الضيوف الأجانب أو رجل أجنبي صديق لزوجها أو جار له، وتمكث معه في البيت بدون وجود محرم، فهذا من البلايا ومن المصائب التي تجر الفساد.

الاختلاط في دور التعليم

الاختلاط في دور التعليم ومن ذلك -وهو من أقبح مظاهر الاختلاط للأسف الشديد، وعلى الإنسان أن يجتهد بقدر استطاعته في تقليل التورط في مثل هذا الاختلاط- الاختلاط في دور التعليم كالمدارس والجامعات والمعاهد، خاصة الدروس الخصوصية.

الاختلاط في الأماكن العامة

الاختلاط في الأماكن العامة ومن ذلك الاختلاط في الوظائف والأندية، والمواصلات، والأسواق، والمستشفيات، والزيارات بين الجيران في الأعراس والحفلات، والخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد، فلا يركب أبداً إنسان مع امرأة بمفردها في المصعد، فالتيار الكهربائي قد ينقطع، حتى لو لم ينقطع فإن الخلوة في حد ذاتها حرام ولو لم يرد في ذهن أي منهما أي فكرة محرمة، فإذا خلا بها فقد ارتكبا وزراً، وكذلك المكاتب، والعيادات، وغير ذلك من الأماكن التي ينبغي أن لا يخلو فيها الرجل بالمرأة خلوة بحيث يأمنا من دخول الناس عليهما، ولا شك أنه ينبغي أن نراجع أنفسنا، ونجتهد في اتقاء الخلوة والاختلاط والتبرج ما استطعنا، فإن الستر والصيانة هما أعظم عون على العفاف والحصانة، فاحترام القيود التي شرعها الإسلام في علاقة الجنسين هو تمام الأمن من الفتنة والعار والفضيحة والخزي، ويجب على المسلم أن يحفظ ويحرس أولاده وأهله من أجهزة الفساد السمعية أو البصرية التي تغزونا الآن في عقر دارنا، أليس الدور الذي يؤديه التلفزيون والفيديو والدش وهذه الأشياء يعطي أولادنا دروساً خصوصية بلا تكلفة؟! لا يقفون في طابور ولا يذهبون إلى سينما، وإنما هي دروس تأتي من أفسق فساق الأرض من كل أنواع الشياطين في شرق الأرض وغربها، يأتون إلى بيوتنا ويغزوننا، ويعلمون أولادنا هذه الفواحش وهذه المحرمات، فإذاً الفرق أن هذا جهاز جامد وتلك صورة حية، فإذا قالوا: حسبك من شر سماعه، فكيف برؤيته؟ إن على الرجال أن يصونوا بناتهم وأزواجهم من الاختلاط بالأجانب والتبرج أمامهم، يقول الشاعر: إن الرجال الناظرين إلى النساء مثل السباع تطوف باللحمان إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان وقال آخر: تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحامي فالأعراض إذا لم تصن بهذه الحصون وتلك القلاع، ولم تحصن بالأسوار والسدود والأسلاك الشائكة التي ذكرناها فستسقط -لا محالة- أمام هذه الهجمة الشرسة، ويقع المحذور ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة واللوم أولاً وأخيراً على ولي البنت الذي ألقى لها الحبل على غاربه، وأرخى لها العنان، فيداه أوكتا وفوه نفخ، يقول الشاعر: نعب الغراب بما كرهت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر ويقول الآخر: أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع فجعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة التي هي صفعة قوية في وجه كل من يجادل بعدما تبين، والإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة -بل صارخة- بخطر الاختلاط على الدين والدنيا، لخصها العلامة أحمد وثيق باشا العثماني كان رجلاً سريع الخاطر حاضر الجواب، وأحياناً الإنسان المغمور الذي بخر الهواء عقله يحتاج لصفعة قوية توقظه، فهذا الذي فعله أحمد وثيق باشا حينما سأله بعض معاشريه من رجال السياسة في أوربا في مجلس بإحدى تلك العواصم الأوربية، قال له رجل من الساسة الغربيين: لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشينهم؟ فأجابه في الحال -واضطر إلى أن يستعمل هذا التعبير القاسي الشديد كي يخرص هذا الإنسان المتبلد الحس- فقال له: لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن. وكان هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر، ولما وقعت فتنة الاختلاط التي سنها أول من سنها طه حسين في الجامعة المصرية وقعت حوادث يندى لها الجبين، وبما أنه هو الذي تآمر لفتح باب الاختلاط في الجامعة سئل عن ذلك، فرد طه حسين على الحوادث التي وقعت فقال: لا بد من ضحايا. ولكنه لا يبين بماذا تكون التضحية، وفي سبيل ماذا لا بد من ضحايا، فالمعروف أن الإنسان يضحي بشيء رخيص في سبيل شيء أغلى وأثمن، فيضحي بشيء تافه أو قليل، أو يمكن التغاضي عنه في سبيل ما هو أعظم وأثمن، فما هو الشيء الذي هو أسمى وأغلى من أعراض المسلمات بحيث نضحي بأعراضنا في سبيل مصلحة أكبر!! والله المستعان. وعلى أي الأحوال نستطيع بكل قوة أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها ولا جدل ولا شك، وهي أنك إذا وقفت على جريمة فيها نهش العرض، وذبح العفاف، وإهدار الشرف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي أنتجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها فإنك ستجد حتماً أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة الإسلامية بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان، وصدق الله العظيم {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:27 - 28]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الرؤيا واقع وضوابط

الرؤيا واقع وضوابط الرؤى المنامية أنواع: فمنها مبشرات، ومنها أحاديث نفس قد تصدق وقد لا تصدق، ومنها وساوس شيطانية يلبس بها على الناس. وللرؤى ضوابط، فما وافق الشرع منها فيستأنس بها، وما خالف الشرع منها فيجب طرحه وعدم الالتفات إليه، فهي ليست تشريعاً.

أنواع الرؤيا

أنواع الرؤيا الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأصدق الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. روى ابن ماجة بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الرؤيا ثلاثة: منها تهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة). وفي حديث عند الترمذي: (الرؤيا ثلاثة: فبشرى من الله، وحديث نفس، وتخويف من الشيطان). فالنبي صلى الله عليه وسلم يقرر في هذين الحديثين الشريفين أن الرؤى ثلاثة أنواع: الأول: حديث النفس، وهو الذي يسميه العلماء الماديون بالانعكاسات النفسية، أي: خواطر النفس والتطلعات التي يصبو الإنسان إلى تحقيقها في الحياة، فيراها في المنام، فهذه انعكاسات تشغل الإنسان عما يصبو إليه في يقظته، فهو يحلم بها أثناء النوم حيث لم يستطع أن يحققها في واقع الحياة. النوع الثاني: الرؤيا التي لم يفكر بها صاحبها يوماً ولم تخطر على باله، وهذه الرؤيا بعيدة كل البعد عن تفكيره، وقد يراها بصورة جلية ولا تحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل، وقد تكون هذه الرؤيا أمثالاً مضروبة أو أحداثاً مشبوكة تحتاج إلى علم وتقدير وفهم ثاقب ونظر بعيد، وما كل من رزق علماً رُزق فهماً بتأويل الأحلام والرؤى. فالرؤيا الحقة هي من الله سبحانه وتعالى وليست من الشيطان، وهي جزء من أجزاء النبوة، ومثل هذا العلم ليس عبثاً، بل هو علم له أهله المختصون به، ومن راجع سورة يوسف عليه السلام وجد دليل ذلك وبرهانه. إذاً: هذا النوع من الرؤى هي من الله سبحانه وتعالى، وهي بشرى للمؤمنين، وهي البقية الباقية من حقيقة النبوة، ولذلك كان بعض الناس إذا سُئل عن تفسير بعض الرؤى اعتذر عن التفسير، وإذا أنكر عليه الناس ذلك الاعتذار يقول: تريدونني أن أكذب في الوحي؟! باعتبار أن الرؤيا نوع من أنواع الوحي أو جزء من أجزاء الوحي، صحيح أن الوحي الإلهي قد انقطع، وأن النبوة قد ختمت بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لم يبق إلا هذه الرؤى وهي المبشرات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يبق إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري وزاد مالك من طريق عطاء بن يسار: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له) إما يرى الرؤيا بنفسه أو يراها له غيره. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) متفق عليه. وإذا كانت الرؤيا من الرسول أو من نبي من الأنبياء فهي حق لا يمكن أن يطرأ عليها كذب أبداً، بل هي في الحقيقة وحي إلهي، ورؤيا الأنبياء وحي، وقد بادر خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلى ذبح ولده عندما رأى في المنام أنه يذبحه؛ وما ذاك إلا لأنه يقطع بأن رؤياه وحي من الله سبحانه وتعالى، أما غير الأنبياء فقد تقع الرؤيا التي هي من أقسام الوحي كما ذكرنا.

حقيقة الرؤى وضوابطها

حقيقة الرؤى وضوابطها للرؤيا الحقة علامات وسمات، وتكون دلائل الصدق عليها بينة، إلا أننا لا نستطيع أن نجزم وأن نقطع بأنها رؤيا حق إلا إذا تحققت على النحو الذي رآه صاحبها في منامه. الحقيقة بين وقت وآخر نحن نضطر أن نتوقف عند بعض الظواهر المنتشرة الآن في وسط الشباب، كان المفروض أن نشتغل دائماً في البناء، وننهل من العلم النافع والعمل الصالح، لكننا نضطر بين وقت وآخر أن نتوقف وقفات يسيرة مع الأفكار التي تشيع، نظراً إلى الاتساع الأفقي الكبير في قاعدة الدعوة، والذي شكل نوعاً من التضخم على حساب المنهجية، وعلى حساب الاهتمام بالتربية، وتصفية المنهج السلفي؛ حتى عاد الانتساب للسلفية أحياناً مجرد اسم تحته مخلفات مصادمة لهذا المنهج، وليس هذا أمراً حديثاً لكنه وجد من قبل في حادثة الحرم المكي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، أحياناً يوجد عند بعض السلفيين نوع من انحرافات الصوفية، وقد كان من ذلك شيء في هذا الموضوع الذي نطرقه الآن، وهو موضوع الاستغراق في موضوع الرؤى دون ضابط ودون خطام ودون زمام، قد تقابل صديقاً أو قريباً فتراه في غاية الحزن والاكتئاب، فتفتش وتحاول أن تسبر غور نفسه حتى تعرف سر حزنه وكآبته، فتتعجب أشد العجب عندما تعلم أن سبب هذا الاكتئاب الذي يعلوه هي رؤيا مزعجة، أو رؤيا منذرة بخطر سوف يداهمه! وأحياناً تجده فرحاً منشرح الصدر باسم الثغر؛ وما ذلك إلا لأنه رأى رؤيا مفرحة أو مبشرة بحدث سار قادم! والحقيقة أن الرؤى كانت ولا تزال لها تأثير ليس على الأفراد العاديين فحسب، بل على النابغين والأذكياء، كم أقضت الرؤى مضاجع الجبابرة والملوك! وكم شغلت شعباً بأكمله يوماً من الأيام! وما رؤيا ملك مصر في عهد يوسف عليه السلام ببعيدة عن ذاكرتنا، حينما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، وكانت رؤيا حق، وهذه الرؤيا الحق نفعت الناس نفعاً عظيماً عندما وجد الشخص الذي أحسن تفسيرها وتأويلها. يقول الدكتور عمر الأشقر في كتابه (جولة في رياض العلماء): كثير من الناس اليوم يبادرون بالتكذيب بالرؤى والأحلام، وهؤلاء غالباً الذين يشتغلون بالأمراض النفسية وبالدراسات النفسية المادية التي تستقي من المصادر الغربية، ويزعمون أن أي شيء يراه الإنسان في منامه ما هو إلا انعكاسات لما يجول في فكره في حال اليقظة، وما يختزن في فكره الباطن أو في عقله الباطن كما يزعمون، فإذا استسلم للرقاد، وطاف في أودية الكرى، فإن عقله الباطن يعمل، فيحقق المرء في نومه ما لم يستطع تحقيقه في عالم اليقظة. نحن لا ننكر أن قسماً كبيراً من الرؤى ليس إلا انعكاسات لأحاديث الناس وخواطرها التي تمر بها في اليقظة، ويمكن أن نتطلع إلى ما يدور في عقل الإنسان الباطن من خلال التعرف على المنامات التي يراها، لكن هذا ليس في كل حال، وإنما في بعض المنامات التي يصدق عليها وصف حديث النفس أو الأحلام الشيطانية، لكنها لا يمكن أن تكون في حق الرؤيا التي هي حق من الله سبحانه وتعالى، فنرفض أن تكون جميع الرؤى انعكاسات نفسية، وهذا تحكم يعلم كذبه كل من تفكر في رؤاه التي مرت به، أو التي سمع الناس يروونها ويحدثون بها عن أنفسهم، كيف نفسر رؤيا امرأة رأت وليدها يسقط من سطح منزل، وفي الصباح يخرج فلا يعود؛ لأن سيارة دهسته وأودت بحياته؟! كيف نفسر رؤيا رجل يرى نفسه وقد سافر إلى بلد وسكن منزلاً عرف في هذا المنام معالمه، فلا تمضي شهور حتى يكون في ذلك المنزل الذي رآه في منامه؟! يوسف عليه السلام أخبر أباه عليه السلام بما رآه {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] فكم من السنوات الطويلة مضت ما بين رؤيا يوسف عليه السلام وبين أن تحققت، وقال قولته عليه السلام {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]. كيف نفسر رؤيا رجل رأى أنه سافر وتعطلت سيارته على صورة ما، وينسى الرؤيا ولا يذكرها إلا حينما يرى المشهد الذي رآه في المنام حقيقةً ماثلة؟! ليوفل فايس كان صحفياً نمساوياً يهودياً أسلم وحسن إسلامه، وله سيرة عطرة، وقد توفي منذ سنوات قريبة رحمه الله، تحدث في كتابه (الطريق إلى مكة) عن رؤيا رآها في منامه قبل إسلامه، وقام من منامه وسجلها، وقد تحققت فيما بعد على الرغم من طولها، وكثرة أحداثها! إذاً: ليس كل الرؤى انعكاسات لأحاديث النفس وخواطرها وهواجسها، بل الأمر أعمق من ذلك، والإنسان لا يقدر بعقله وفكره أن يصل إلى أعماق نفسه، ففي النفس الإنسانية خبايا يعجز الإنسان عن الإحاطة بها، على الرغم من أنها أقرب الأمور إليه. أكثر الناس من المؤلفين وغيرهم إذا تدبروا قوله تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يلتفتون إلى الناحية التشريحية في جسم الإنسان، ومن خلالها يطلعون على وظائف الأعضاء أو غير ذلك من آيات خلق الله سبحانه وتعالى، والعبر الموجودة في خلق الإنسان، ووظائف جسمه، وما يطرأ على جسمه، لكنهم يُغفلون آيات الله سبحانه وتعالى في تركيب هذه النفس التي هي قسيم ذلك البدن، والتي بدونه يكون ميتاً لا حراك به. عالم النفس عالم مستقل تماماً، وهو من الأمور المجهولة الغامضة التي حيرت الألباب، والحافلة أيضاً بآيات الله سبحانه وتعالى الناطقة بربوبيته وأُلوهيته عز وجل، والرؤى لها علاقة بالنفوس الإنسانية، والرؤى فيها جانب غيبي لا يخضع للعلم المادي المبني على النظر والتأمل والبحث المادي، وقد أغنانا النبي صلى الله عليه وسلم عن إتعاب النفس في هذا الموضوع، وقال لنا كلمة الفصل التي لا نحتاج معها إلى غيرها، وذلك أنها تمثل الحقيقة، وتفسر الأمر تفسيراً يدرك الإنسان صدقه عندما ينظر إلى رؤاه ورؤى الناس، وهو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (الرؤيا ثلاثة: منها: تهاويل من الشيطان -ليحزن الشيطان ابن آدم-ومنها: ما يهم بها الرجل في يقظته فيراه في منامه -حديث النفس-، ومنها: جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) وفي الحديث الآخر: (الرؤيا ثلاثة: فبشرى من الله، وحديث نفس، وتخويف من الشيطان).

فتن عظيمة بسبب عدم الانضباط في التعامل مع الرؤى

فتن عظيمة بسبب عدم الانضباط في التعامل مع الرؤى من أسباب افتتان كثير من الناس، وحدوث كثير من الفتن عدم الانضباط في موضوع التعامل مع الرؤى، نجد كثيراً من الإخوة تسير الرؤى حياته بصورة مذهلة، كل حياته تفسر عن طريق الرؤى، وتوجهاته وخططه في المستقبل واختياراته تربط بالرؤى بطريقة فيها مبالغة وفيها غلو شديد. ومن جملة الفتن العظيمة التي حصلت في هذه السنوات الأخيرة التي غُصت بالفتن فتنة الحرم المكي حينما قام رجل يُدعى محمد بن عبد الله القحطاني، وحوله من حرضوه بل وأجبروه على أن يقول: إنه هو المهدي، واعتمدوا على ذلك بصفة أساسية على ما زعموه من تواتر الرؤى المنامية، والشيطان اجتهد اجتهاداً شديداً في تغذية هذا الأمر عنده؛ لأن هذا الأمر فيه نوع من الجاذبية، والإنسان ينشغل به وهو حديث نفس أو من الشيطان، وأراد الشيطان أن يوقع فتنة إراقة الدماء، وقد حصلت -للأسف الشديد- داخل الحرم المكي في سنة (1400) للهجرة، كان الواحد من الناس يأتي ويقول: رأيت واحداً لابساً ثوباً لونه كذا، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول لي: هذا هو المهدي إلى آخر هذا الكلام، ويقولون: إن رجلاً جاء من أطراف الأرض، وآخر من مكان كذا، وأول ما رآه قال: هذا هو الذي رأيته!! فُتح هذا الباب، وخدعوا به، ولم ينضبطوا في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الرؤية في المنام وبين الواقع الذي نعيشه، لا بد من ضوابط تضبط مسالكنا مع الرؤية. يقول: الدكتور عمر الأشقر حفظه الله: لقد كان من أسباب افتتان بعض الناس ومتابعتهم لأولئك الذين احتلوا الحرم المكي واعتصموا به؛ تلك الرؤى التي رآها بعض الكبار والصغار والنساء والرجال، وهي في جملتها تشير إلى أن المدعو محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول الدكتور الأشقر: وقد تبين للناس اليوم أن تلك الرؤى لم تكن صادقة؛ لأن ذلك الرجل ليس هو المهدي، وإلا لو كان هو لم يقتل، ولبقي حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

علامات المهدي المنتظر

علامات المهدي المنتظر المهدي اسمه محمد بن عبد الله، هل هذه العلامة وحدها تكفي؟ لا تكفي، وإلا فكم من مدع ادعى أنه المهدي، وهو بالفعل اسمه محمد واسم أبيه عبد الله، وقد يأتي واحد اسمه أحمد بن إبراهيم ويدعي أنه المهدي، ويقول لهم: أحمد هو محمد وإبراهيم هو أبو النبي عليه الصلاة والسلام كما أن عبد الله أبوه، وهذا من باب التأويل. ولو كان الذي ادعى أنه المهدي من أهل البيت فإنه لا يكفي أيضاً: وأرجو أن تحفظوا هذا الكلام الذي سأقوله في ذاكرتكم، فقد تحتاجونه في يوم من الأيام: كن في غاية الاطمئنان، ولا تجزع ولا تقلق على المهدي، فهو إذا خرج وكان بالفعل هو المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فإن انتصاره أمر كوني قدري كائن كما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تقطع بأن فلاناً هو المهدي حتى تتحقق كل الصفات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهرها وأعظمها أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فبعدما يمكن له، وبعدما يملأ الأرض قسطاً وعدلاً اطمئن، وحينئذ نقول: هذا هو المهدي، بجانب الصفات الأخرى، أما قبل ذلك فاسكت، ولا تظن أنك قد خذلت المهدي، اطمئن على نفسك، ولا تخف عليه؛ فإن المهدي غير محتاج إليك. بعض الناس يستعجل ويقول: لماذا لا أكون من أوائل من ينصرون المهدي؟! وهذا هو الذي حصل في كل فتنة بنيةٍ صالحة وبعزم أكيد على التضحية في سبيل الدين، نجد أناساً يتسارعون إلى من يظنونه المهدي عن طريق الرؤى والمنامات ووجود بعض العلامات لا كل العلامات. قرأت في كتاب (حيلة الأولياء) هذه العبارة الرائعة عن حفص بن عياث قال: قلت لـ سفيان الثوري رحمه الله: يا أبا عبد الله! إن الناس قد أكثروا في المهدي فما تقول فيه؟ فقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إن مر على بابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه. وهذه النصيحة الذهبية أرجو ألا تنسوها أبداً، إن مر على بابك لا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه حتى يجتمع عليه العلماء والصالحون وعموم المسلمين، حينئذ تقول: هذا المهدي، قبل ذلك لا تجزع على نفسك، فهذا هو مفتاح السلامة والنجاة بالنسبة لهذه الفتنة بالذات، وإذا راجعت موضوع ادعاء خروج المهدي لوجدت عدم الاكتراث بهذه القاعدة التي أرساها سفيان الثوري كان السبب الرئيس في استفحال الفتن وإراقة الدماء، وما حصل من الفساد العظيم في الأرض. والقاعدة الرصينة: أن الشيطان يضل الإنسان على قدر بعده عن العلم، لكن كلما زادت بصيرته وزاد علمه كلما احتمى بهذا العلم من تلك الفتن، ولو كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعرّفنا بالرؤيا الباطلة إذا اشتبهت الأمور.

كيفية تأويل وتفسير الرؤى

كيفية تأويل وتفسير الرؤى كثير من الناس يظنون ما يرونه رؤيا حق، الصديق الأكبر رضي الله عنه -الذي هو الرجل الثاني في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل أولياء الله على الإطلاق- لما فسر رؤيا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) فكيف بمن دون الصديق رضي الله تعالى عنه؟! ونحن لسنا بمعصومين، فإن الرؤى تبقى في مجال الظن، ولا ترقى إلى اليقين والجزم، ما لم تتمثل في واقع مشهود، عند ذلك يوافق الواقع الخبر. إذاً: الأصل أن نجعل الرؤى تفيد الظن، ولا نقطع بالرؤيا حتى يقع ما رأيناه في هذه الرؤيا.

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حقيقتها وضوابطها وحكمها

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حقيقتها وضوابطها وحكمها قد يظن بعض الناس أن هناك نوعاً من الرؤية لا تحتاج إلى تبيين، فهي عندهم صادقة أبداً، وهي رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، نحن لا ننكر أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم حق وصدق، فقد ثبت في الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) وفي الحديث الآخر المتفق عليه يقول صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) لكن ينبغي أن نعلم أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم تكون حقاً إذا كانت الصورة المرئية له هي صورته الحقيقية التي كان عليها. كيف نطبق هذا الحديث؟! إذا كان هذا الشخص يُحصي يحفظ الصفات الخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم مثل: ملامح عينيه، ولون بشرته، وشعره، وكذا وكذا من شكله وهيئته، ورآه على صورته الحقيقية التي رآها الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فالشيطان لا يمكن أبداً أن يتمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقية، أما إذا رئي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة غير صورته الحقيقية فالأمر ليس كذلك، فالممنوع هو أن يتمثل الشيطان بالصورة الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم. كثير من الناس يبني خططه على أساس أنه يقول: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لي: افعل كذا وكذا وكذا، نقول: لا، لابد من التثبت ونقول له: صف لنا ملامح الشخص الذي رأيته، فإذا كانت الملامح دقيقة وواضحة بصورة تتوافق تماماً مع صفاته صلى الله عليه وسلم الخلقية فنعم، لكن لهذا ضوابط يجب الأخذ بها وسوف نذكرها. أما مجرد أن يقول: إنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام ويقطع بأنها رؤية حقيقية، فلابد من دليل على صحة رؤياه. إذاً: زعم الشيطان أنه هو الرسول عليه الصلاة والسلام وتمثله في صورة غير صورته لم ينفه الحديث، وهذا الاحتمال قائم وواقع، فينبغي أن نكون على حذر، كثير من الأحوال يأتينا شخص ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في المنام كذا ويخبر بكذا، لابد أن تكون الملامح في غاية من الدقة والوضوح مع ملامح النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المنفي من قدرة الشيطان على التمثل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإلا لا نأمن أن يكون هذا من الشيطان.

الرؤى الشيطانية المفزعة

الرؤى الشيطانية المفزعة أخبر الرسول علية الصلاة والسلام أن الرؤى المفزعة السبب فيها هو الشيطان، فإنه قد يُمثل للإنسان في منامه رؤية مفزعة تبلبل خواطره، وترهق نفسه، وتجعله حذراً متخوفاً، وفي الحديث: (الرؤية الصالحة من الله والحُلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يُحب فلا يحدث به إلا من يحب) المعنى: إذا رأى رؤية حسنة لا يقصها إلى على محب؛ لأنه إذا قصها على حاسد قد يحمله حسده على أن يؤولها تأويلاً سيئاً، لكن يخبر بها حبيباً لبيباً عاقلاً، عنده علم بالرؤى، ويستطيع أن يفسرها، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وشر الشيطان، وليتفل ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً فإنها لا تضره) وفي الحديث الآخر: (جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت في المنام أن رأسي قد قُطع قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إذا عبث الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس) رواه مسلم. نحن نعلم أن الشيطان عنده قدرة على الوسوسة في صدور الناس؛ وذلك لقوله عز وجل {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:4 - 5]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق) فله قدرة على أن يمثل للنفس في منامها أموراً تفزعها وتحزنها. إذاً: لا ضير على من يرى في منامه رؤية إذا اجتهد في تفسيرها، وإن كان عليه ألا يشغل فكره في هذه الأمور شغلاً يهدر وقته ويضيع طاقته، كما يحصل من بعض الإخوة في موضوع الرؤى، تجد الواحد منهم يهدر كل طاقته العقلية والذهنية في موضوع الرؤى بصورة مقيتة، وبصورة بعيدة عن سلوك السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

أصناف الناس في الرؤى المنحرفة وحكم كل صنف

أصناف الناس في الرؤى المنحرفة وحكم كل صنف الناس ينقسمون إلى طائفتين في الرؤى: صنف تكون رؤياه تلاعباً شيطانياً، فإذا بهذه الرؤيا الشيطانية تفسر تفسيراً خاصاً؛ لتوافق مخططاً يراد تنفيذه في واقع الحياة من قبل زعماء الكفر ودهاقنة الباطل، الذين يلعبون بمقدرات الأمم، فتجدهم يفسرون هذه الأحلام بهذه التفسيرات التي تخدم مصالحهم، لتبدو وكأنها قدر إلهي لا يجوز مغالبته ولا منازعته. الصنف الآخر هم الذين لا يرون في المنام شيئاً، ولكنهم يزعمون أنهم رأوا رؤية وتكون هذه الرؤية في العادة محبوكة حبكاً محكماً، وتذاع بين الناس بتفسيراتها، ويتعمد إشاعتها في الناس، ثم يجتهد هؤلاء في تنفيذ مخططاتهم المدمرة فتأتي وفق الرؤيا المزعومة، وما هي برؤية وإنما هي جزء من المؤامرة للتغرير بالبسطاء الذين لم يبلغ فهمهم إلى معرفة شياطين الإنس والجن. يقول الدكتور الأشقر في كتابه (جولة في رياض العلماء): وسأضرب على هذا مثالين قد يكون أصحابهم من الصنف الأول أو الثاني، نشرت جريدة السياسة الكويتية بتاريخ (12يناير 80م) أن حسن التهامي زعم أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في الحلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأن يسعى للصلح بين العرب واليهود. وحسبنا أن نعلم أن حسن التهامي كان في ذلك الوقت الذي زعم هذا الزعم نائباً للسادات ومستشاراً له، وكان يمهد للسفرة المشئومة التي قام بها السادات إلى القدس، لتكون بداية رحلة الذل والهوان التي أدت إلى ما أدت إليه من مآس، وحسبنا أيضاً أن نعلم أن التهامي هو الذي تفاوض مع ديان ليمهد الطريق أمام سفر السادات كما ذكرت ذلك جريدة السياسة في عددها بتاريخ (16يناير 80م). إذاً رؤية التهامي المزعومة هذه ثم استغلالها استغلالاً سيئاً وهي اختلاق لا أساس له من الصحة، قصد بها تحقيق أمرٍ يسعى هو وآخرون إلى تحقيقه، وحسبنا أن نعلم أن هذه الرؤية لو كانت حقاً لكانت موافقةً لتعاليم الإسلام لا مخالفةً لها. الحادثة الثانية: هي التي رآها ثلاثة من كبار الحاخامات اليهود المعروفين بعلمهم في التصوف اليهودي، رأوا في المنام في ليلة واحدة أن آخر معركة عظيمة على الأرض ستنشب في إبريل من هذا العام، وهي التي ستبشر ببداية العصر الألفي الذي سيملك فيه المسيح الأرض. وأنا أعجب أين السلفية المزعومة من بعض الناس؟ نجد أن الواحد منهم يكتب ويقول: في سنة 98م سيحصل كذا، وستحصل حرب جديدة مع كذا، والأمريكان يقولون: في 97م سيحصل كذا وكذا، ويرتبون على ذلك أشياء غريبة جداً، وهناك سلاسل من الكتب كثيرة جداً الآن تتناول هذا الموضوع، كتاب اسمه (الزلزال العظيم)، وكتاب (الحرب العالمية الثالثة) ظهر بعد حرب الخليج مباشرةً، وكتاب (عُمر الأمة المحمدية)، وهذا كتاب حديث جداً، وغير ذلك من الكتب، وآخر يقول لك: إن المسيح الدجال يغزو العالم من مثلث برمودا. ننتقل إلى موضوع قتال اليهود في ملحمة مع المسلمين، نحن لا ننكر ذلك، لكن الجديد في الأمر أنهم الآن يطبقونه على الواقع، مع أنها مجرد منامات، فنحن لا نأمن أن تكون هذه من الإسرائيليات التي يبثها اليهود من أجل تحقيق أهدافهم وأغراضهم، فيشيعون هذه الأشياء لإلقاء الرعب في نفوس المسلمين وإحباطهم. فما ينبغي أبداً أن ننقل مثل هذا الكلام، أين نحن من قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]؟ غاية ما عندهم إما الرؤى المنامية وإما الإسرائيليات المأخوذة من كتب اليهود والنصارى، مثل: يوحنا ورؤيا دانيال فتراهم يأتون من الأناجيل ومن التوراة نصوصاً تضبط الوقت بالسنة والشهر واليوم، وتحدد متى ستحصل هذه الأحداث. أما آن لنا أن ننضبط؟! إلى متى سنضيع وقتنا بهذه الطريقة؟! كثرت الكتب التي تكتب في هذا، وأصحابها لا يعتمدون إلا على أحد هذين الأمرين: إما المنامات وإما الإسرائيليات، فهم يعتمدون على ما في كتب اليهود والنصارى، ويحلون كلامهم أحيانا ً -كنوع من ذر الرماد في العيون- بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) صحيح حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، لكن ليس في مثل هذه الفتن، وفي مثل هذه الأشياء التي فيها قطع وجزم بحصول أشياء من الغيب. الإسرائيليات ثلاثة أنواع: ما وافق الحق قبلناه، وما خالفه رفضناه، وما لم نعرف موافقته ولا مخالفته فإننا نمسك عنه احتياطاً؛ لئلا نكذب بحق إن كذبنا به، ولا نصدق بباطل إن صدقنا به، هذا هو الموقف الصحيح من الإسرائيليات باختصار، فلا يجوز أن نأتي بهذه الحكايات التي تزيد من إضعاف نفوس المسلمين، كأن نقول: اليهود سيفعلون كذا وكذا. أكبر مشكلة أن هؤلاء الكتاب يأتون بأحاديث آخر الزمان ويحاولون أن يطبقوها على شخص بعينه، وهذا هو الخطأ؛ لأن أحاديث آخر الزمان القاعدة فيها أن نؤمن بها ونصدق بها ولا ننزلها أبداً على الواقع إلا بعد ما تحدث، يقول عز وجل: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] لكن قبل ذلك ليس من حقنا أن نرتب الأمور ونضع الخطط على أساس أن الذي سيحصل هو كذا وكذا. وبسبب عدم إحسان هذه القاعدة أثناء حرب العراق والكويت (حرب الخليج) كادوا أن يقطعوا بأن هذه هي الملحمة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تكون إرهاصات وقد لا تكون، نحن لا ندري متى سيقع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، أما أن نوافق هؤلاء القوم وما يشيعونه من أنه في سنة كذا ستحصل حرب، وتظهر الأمة الإسلامية كالريشة في مهب الريح، لا إرادة لها على الإطلاق، وكل القوة وكل القرارات هي في يد أعدائهم من اليهود، صحيح أن الأمة في حال من الاستضعاف والإذلال والقهر على يد أولياء اليهود وعلى يد اليهود، لكن الأمة لن تخلو من خير إن شاء الله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) فالله سبحانه وتعالى لن يضيع عباده المؤمنين، لابد أن نقوي اليقين في قلوبنا بنصر الله سبحانه وتعالى، وأن المستقبل قطعاً للإسلام، أما أن نكرر ما يقوله اليهود والنصارى، ونحطم من معنويات المسلمين بهذه الطريقة، فهذا يتنافى الإسلام. يقول الحاخامات اليهود: إنهم رأوا في المنام في ليلة واحدة أن آخر معركة عظيمة على الأرض ستنشب في إبريل من هذا العام، وهي التي ستبشر ببداية العصر الألفي السعيد الذي سيملك فيه المسيح الأرض. وقالت بعض التقارير: إن الحاخامات رأوا في منامهم أن المعركة بين يأجوج ومأجوج تعجل في وقوع المذبحة النووية بين القوتين الكبريين. وقالت تقارير أخرى عن هؤلاء: إن المسيح سيصل بطريقة سلمية، ويستشهد أحبار اليهود بالعلاقات التي تدل على قرب وصول المسيح، والتي ظهرت في العام المنصرم، وقالوا: إن وقع خطا المسيح كان مسموعاً في العام الماضي. هذا هو مضمون الخبر، كما تعلمون أن الأحداث التي تحصل الآن قد يكون لها علاقة وقد تكون إرهاصات وقد لا تكون، لكن الأوضاع العامة هي أوضاع غير طبيعية كما تلاحظون، إن الأوضاع التي نحن فيها الآن موضوع التحالفات من الحلف الأطلسي مع مصر وإسرائيل والأردن والمغرب وتونس، والتحالف العسكري، وكثير من الأشياء قد تكون إرهاصات وقد لا تكون، والله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما يكون في غدٍِ. إننا نؤمن بالنصوص، لكن تنزيلها على الواقع لا نقطع به إلا بعد أن تقع، أما قبل ذلك فلا، فعلينا أن ننظر إلى ما يلزمنا الشرع به في كل ظرف وفي كل موقف.

العالم ينتظر ثلاثة

العالم ينتظر ثلاثة العالم ينتظر ثلاثة أشخاص: ننتظر المهدي عليه السلام وهو رجل صالح من المجددين ليس نبياً ولا رسولاً، هو مجدد من الذين يجددون شباب هذا الدين، ورجل صالح يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وقد صحت به الأحاديث وتواترت كما هو معلوم. وننتظر أيضاً نزول المسيح عليه السلام من السماء، كما أخبر الصادق المصدوق وكما أشار إليه القرآن الكريم في أكثر من آية، إن المسيح سينزل إلى الأرض ويحكم بالإسلام ويحكم بالقرآن ويقاتل اليهود. الثالث: خروج المسيح الدجال مسيح الضلالة الذي حذر كل الأنبياء أممهم من فتنته، هذه هي عقيدة المسلمين، فهم يعتقدون خروج المهدي، ونزول المسيح من السماء، وخروج المسيح الدجال الذي سيقتله المسيح عليه السلام. واليهود أيضاً ينتظرون المسيح، ويستدلون ببعض النصوص التي تبشر بمقدم المسيح في كتبهم، مع أن هذا المسيح الذي بشروا به قد جاءهم بالفعل وكفروا به، وأرادوا أن يصلبوه كما هو معروف من شأن اليهود. الفاتيكان حينما برأ اليهود من دم المسيح كان صادقاً، فاليهود بالفعل أبرياء من دم المسيح عليه السلام؛ لأن الذي صلبوه ليس هو المسيح عليه السلام بالفعل، فاليهود يؤمنون بمجيء المسيح، وقد جاءهم المسيح وكذبوه، لكنهم الآن ينتظرون مسيح الضلال، الذي هو المسيح الدجال، وسوف يخرج معه سبعون ألفاً من يهود أصفهان، ويقاتلون مع المسيح الدجال المسلمين، فهذا هو الذي ينتظر اليهود. اليهود يعتقدون أن المسيح قادم، ومن أجله يريدون إعادة بناء الهيكل المزعوم؛ لكي يحكم الأرض، وهذا الكلام له أساس ديني وأساس اعتقادي، لكن من هو المسيح الذي سيلتفون حوله؟ إنه المسيح الدجال مسيح الضلال. أما النصارى فهم ينتظرون مجيء المسيح، لكنهم يزعمون أن المسيح سيأتي بصفته إله. والصحيح أن المسيح الذي سيأتي ليس إلهاً إنما سيأتي بصفته رسولاً متبعاً لشريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وليس مستأنفاً لشريعةٍ جديدة. فالواقع أن الثلاثة الأديان تنتظر هؤلاء الأشخاص، وقد أخبرنا الصادق المصدوق في الأحاديث بالتفصيل لما سيحصل، والله سبحانه تعالى سيعز الإسلام والمسلمين، وسوف ينتصر المسلمون على اليهود.

استغلال اليهود للرؤى المنامية في تحقيق مخططاتهم

استغلال اليهود للرؤى المنامية في تحقيق مخططاتهم اليهود الآن يخططون لحرب عالمية ثالثة يحكمون بعدها العالم، وهم يفسرون بقايا المعلومات الدينية التي سلمت من التغيير تفسيراً يوافق تطلعاتهم ومخططاتهم، كما هو ظاهر من تفسيرهم لحرب يأجوج ومأجوج، فالرؤية المزعومة تجعل من يأجوج أمة ومأجوج أمة أخرى، واليهود يكفرون بالمسيح عليه السلام، ويزعمون أن المسيح لم يبعث بعد، وهم ينتظرون قدومه ليحكموا العالم به، ولذا يتبعون المسيح الدجال عندما يجتاح العالم، ويتبعه -كما قلنا آنفاً- من يهود أصفهان سبعون آلفاً كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لظنهم أنه المسيح الموعود ملك اليهود المنتظر. إن هذه الرؤية تمهد لأحداث تخطط لها يهود في الخفاء، وهي تعطي تأثيراً معيناً عند من يقرأ الخبر، وإلا كيف يتسنى لثلاثة أشخاص في وقت واحدٍ في ليلةٍ واحدة أن يروا رؤية واحدة ذات مضمون واحد، فالرؤية لا تعد تشريعاً، وبعض الأفراد والجماعات تجعل من الرؤى والأفكار وأحاديث القلوب مصدراً تشريعياً ينافس القرآن والسنة، وقد يُقدم عليهما، والرؤية الصادقة ما هي إلا مبشر بأمر سار، وقد تكون دعوةً إلى الاستقامة، وقد تكون تثبيتاً على الحق، وقد تنفر من الباطل، لكنها لا تشرع شيئاً جديداً.

حكم الاستدلال بالرؤى المنامية

حكم الاستدلال بالرؤى المنامية جادلني رجل كان يسير على بدعةٍ لم يشرعها الله، إذ كان يقوم على القبور بعد أن يدفن أصحابها ليلقن الميت حجته، ويعرفه بما يجيب به رُسل ربه، جادلني هذا الرجل بأن هذا مشروع بدليل أنه رأى في منامه كيف يُفعل بالميت منذ نزع الروح إلى الدفن، واستدل على هذا التلقين بالرؤى، فقلت: إن ديننا تام كامل لا ينتظر شخصاً يكمله بالرؤيا والمنام، وكيف يكون جوابك عندما يأتيك رجل آخر يزعم أنه رأى خلاف ذلك؟! من الذي نتبعه أنت أم هو؟! كلا لا نتبع لا أنت ولا هو، بل نتبع من هديه خير الهدي وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أيضاً هناك أمر مهم جداً، هل هذا الشخص النائم هو في موقع تكليف؟! الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (رُفع القلم عن ثلاثة) وممن رفع عنه القلم النائم حتى يستيقظ، فبعض الناس يأخذ تكاليف وتشريعات من المنام، فحالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق، العلماء قالوا: لو أن الرجل في مجلس التحديث غلب عليه السِنة والغفلة والنوم وعدم التركيز لا يُقبل خبره ولا تقبل روايته، فما بالك بشخص استغرق في النوم كيف يُقبل خبره؟! بعض الناس يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لي: افعل كذا ولا تفعل كذا، واكتب هذه الورقة وانشرها، وإذا لم تنسخها سبعة وثلاثين مرة يصيبك كذا، ما هذا الكلام؟! ويقولون: إن تاجراً لم يفعل هذا فاحترق محله، ومات أولاده، وكل الكوارث أصابته، أما من نفذ الكلام فحصل على كذا وكذا، وتكثر مثل هذه الخطابات، وتُرسل لكثير من الطلبة من المسلمين أثناء فترة الامتحانات، وهذا شيء غريب! فالشاهد مثل هذه الأشياء التي تظهر بين حين وآخر نضع له ضابط وينتهي بهذه الطريقة، فنقول: النائم ليس في موضع التكليف، والنوم عذر من الأعذار التي تسقط الأهلية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) هذا عُذر. وإذا تقرر شيء في الشرع فلا يمكن أبداً أن يتغير بسبب رؤية منامية، وقد حكى الإمام النووي رحمه الله تعالى الاتفاق على ذلك، ومن الأمثلة على ذلك: ما رُوي أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: اذهب إلى موضع كذا فاحفره فإن فيه رِكازاً إما معادن وإما كنز فخذه لك، ولا خُمس عليك فيه، فلما أصبح ذهب إلى ذلك الموضع فحفره فوجد الركاز فيه، فاستفتى علماء عصره فأفتوه بأنه لا خُمس عليه لصحة الرؤيا ودليل صحة الرؤيا أنه بالفعل لقيه في هذا المكان، وأفتى العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى بأن عليه الخُمس وقال: أكثر ما ينزل منامه منزلة حديث صحيح، وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو حديث: (في الركاز الخمس) والقاعدة: أنه حينما يتعارض حديثان فمن طرق ووسائل الترجيح أن يكون أحدهما أقوى من حيث الصحة، فهذا أصح منه، ولا شك أن المنام سيكون دون ذلك، فيرد المنام ويُعمل بالراجح منهما.

حكم العمل بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

حكم العمل بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قد تكلم العلماء في قضية أن الإنسان لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بأمر هل يلزمه العمل بهذا الأمر ويكون قوله حجة؟ بعض أهل العلم -منهم أبو إسحاق الإسفراييني - ذهبوا إلى ذلك، وجمهور العلماء أبوا ورفضوا هذه الطريقة، واتفقوا على أن أي شيء مما ينتج عن الرؤية إذا خالف الشريعة فهو مردود، وإن وافقها فهو أمارة يستأنس بها، وإن لم يوافقها ولم يخالفها جاز العمل بها، وهاك بعض النصوص: قال النووي رحمه الله: إن الرائي وإن كانت رؤياه حقاً لكن لا يجوز إثبات حكم شرعي بما جاء فيها؛ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي، وقد اتفقوا على أن من شروط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظاً لا مغفلاً ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة، ولو كان الذي يرى الرسول عليه الصلاة والسلام فعلاً قد رآه حقاً، كأن يكون صحابياً. وقال الإمام ابن الحاج: إن الله لم يكلف عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (رُفع القلم عن ثلاثة) وعد منهم النائم حتى يستيقظ؛ لأنه إذا كان نائماً فليس من أهل التكليف، فلا يعمل بشيء يراه في نومه. وقال الشاطبي: لا يستدل بالرؤى في الأحكام إلا ضعيف العقل، نعم قد يأتي المرئي تأنيساً وبشارةً بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً، ولا يبنون عليها أصلاً، وهو الاعتدال في أخذها حسبما فُهم من الشرع فيها. إن الشرع الذي شرع الله لنا قد كمله الله عز وجل وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فشريعتنا شريعة تامة وكاملة وغير ناقصة، ولا تحتاج لأي إضافة، ولا تحتمل أي إضافة؛ لأنه لم يبق للأمة في أمر دينها شيء ناقص، وقد انقطعت البعثة بتبليغ الشرائع وإتمامها وبموت النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائمِ لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله حجةً عليه ولا على غيره من الأمة. وقال العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى: أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان. أُنبهكم جداً للاهتمام بهذا الأمر والانتباه له وأن نكون يقظين؛ لأن الشيطان لا ييئس، وقد يأتي إلى بعض الناس وقد يكون من الصالحين والمستقيمين على السنة، وقد يأتي ويدّعي أنه المهدي، وقد يأتي باختراع جديد وهو أنه ليس المهدي وإنما هو المنصور الخليفة الذي سيمهد للمهدي أو سيساعده أو شيء من هذا، وأحاديث المنصور كلها ضعيفة، أو يأتيه الشيطان في المنام ويقول: هذه وصية محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم. رأت إحدى المسلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مدينة كذا في وقت الشمس فيه ساطعة في السماء وبعد أن صلى بالمسلمين من أهل البلدة رجال ونساء، كتب الرسول عليه الصلاة والسلام وصية يقول فيها: وصية محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل المسلمين خذوا أميركم وقائدكم فلان بن فلان، وبعد أن انصرف رسول صلى الله عليه وسلم، وقف فلان هذا مكانه، وقال للمسلمين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران:103] إلى آخر الآية الكريمة. أيها المسلمون! إن وصية الرسول صلى الله عليه وسلم حق ويجب أن تعملوا بها، ففر الناس كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، لم يبق أحد ملتحٍ إلا صافح هذا الشخص بكلتا يديه، وقال: أقسم بالله أن وصية الرسول حق، وأنا أؤازرك وأُناصرك، فهذا الكلام ينبغي أن يغلق بابه، يكفي ما حصل في الحرم المكي. فواحد يأتي يقول: أنا المهدي، وواحد يقول: أنا المنصور، ويبدأ الشيطان يتلاعب بعقول البسطاء والسذج من حوله، نقول: هذه الرؤية من الشيطان.

ضابط ظهور المهدي ومناصرته

ضابط ظهور المهدي ومناصرته ذكرنا أن أحسن منهج في موضوع المهدي هو ما علمنا الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى بقوله: إذا مر ببابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع عليه الناس ولن يضيرك ذلك، أنت مسئول عن التصديق بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت مسئول عن التصديق بالأحاديث الصحيحة التي تخبر بحقيقة المهدي، لكن لن تحاسب أبداً إذا احتطت لدينك احتياطاً واجباً، بأن تمسك لسانك وتمسك يدك عن الخوض في أي فتنة من هذه الفتن، والإنسان يدعو إلى الله، ويدعو إلى الكتاب والسنة، فهذا خير. والشيطان قد يلبس حتى على الرجل الصالح لكي يخدع به الناس وتحصل فتن كما حصلت من قبل، فينبغي الانتباه لذلك، ولذلك قال بعض السلف: إن الشيطان إذا أراد أن يضل عبداً ويضل به الناس ألقى عليه الخشوع والبكاء والرقة وغير ذلك مما يجذب الناس إليه، فينبغي أن نحذر من تلبيس إبليس، ونقفل هذه الأبواب التي تفتح أبواب الفتن، وعندنا من الفتن ما يكفي. أخي في الله! انظر ما يلزمك به الشرع في الواقع الذي تعيشه، وافعل الواجب في كل حالة، التزم بذلك واعتصم بحبل الله سبحانه وتعالى إلى أن تلقى الله، حتى لو قالوا لك: خرج المهدي. وإذا خرج المهدي ولم يجتمع عليه المسلمون، فاعتبر أنك لست منهم في ذلك إلى أن يجتمع عليه المسلمون، فهذه علامة أنه المهدي الحقيقي، والمهدي الحقيقي سوف يؤيده الله سبحانه وتعالى بآيات صادقة، بخوارق للعادات كالخسف بالجيش الذي يقصده من تبوك أو من الشمال، فالله سبحانه وتعالى سوف يؤيده وسوف يؤازره، وإذا كان المهدي فسيتحقق فعلاً له التمكين، لا تقلق ولا تخف على المهدي، خف على نفسك، واحذر من تلاعب الشيطان بالناس في المنامات. نحن رأينا الفتن التي حصلت من قبل بسبب موضوع المهدي، حتى وصل الأمر ببعض الناس أنهم يكذبون بحديث المهدي من باب المثل: الباب الذي يأتي منه الريح سده واستريح، يقول لك: إن الأحاديث التي في المهدي أتت بفتن كثيرة، فنحن نسد هذا الباب وننكر المهدي أصلاً، وهذا منهج منحرف أيضاً. يقول الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: وأما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان؛ لأن المرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع المطهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكمل لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة قبل وفاته عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز لأحد أن يعتمد شيئاً من الأحلام في مخالفة شرعه عليه الصلاة والسلام، ثم إن المهدي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بالشرع المطهر، فكيف يجوز له ولأتباعه انتهاك حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين وحمل السلاح عليهم بغير حق؟!

هل نحن مكلفون بإيجاد أشراط الساعة؟

هل نحن مكلفون بإيجاد أشراط الساعة؟ الأمور الكونية القدرية في أشراط الساعة التي أخبر الصادق المصدوق عنها حتماً ستقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فهل نحن مكلفون بإيجاد أشراط الساعة؟ هل نحن مكلفون بإخراج المسيح الدجال أو طلوع الدابة أو طلوع الشمس من مغربها أو ظهور المهدي؟ هذه ليست في طاقتنا، نحن لم نكلف بهذا، لذلك الله سبحانه وتعالى جعل علامة المهدي الصادق أن يخسف بالجيش الذي يقصده، أما أن يؤتى برجل اسمه محمد بن عبد الله ويقال: إنه من قريش، فالله أعلم بصحة هذا، حتى وإن كان من قريش فليس شرطاً؛ لأنه يوجد آلاف الناس من أهل البيت ومن نسل الحسن رضي الله تعالى عنه، ولا يبعد أن يكون فيهم المئات اسمه محمد بن عبد الله، فوجود علامة من العلامات لا ينبغي الاعتماد عليها وحدها، فهؤلاء أتوا بالأحاديث التي في المهدي وكأنهم مسئولون عن إخراجها، فهذا الرجل الذي اسمه محمد بن عبد الله رفض أن يستجيب لهم في البداية، لكنهم ضغطوا عليه وقالوا: إن رفضك هذا دليل على أنك المهدي؛ لأنه يُخرج وهو كاره، وهذا من تلبيس إبليس فأكرهوه بالفعل على أن يخرج، ويقولون: يصلحه الله في ليلة، وهو مقلد للمذهب الحنبلي، ثم إن هؤلاء بايعوه بين الركن والمقام، فهل يعجز أحد أن يدبر هذه الأحداث؟ وهذا هو ما حصل بالفعل، أتوا وقت صلاة الفجر، وأغلقوا بوابات الحرم الشريف أثناء الصلاة، وأخرجوه، وأعلنوا: الله أكبر! ظهر المهدي، وبايعوه بين الركن والمقام، فقال الناس: هو المهدي؛ لأنه بويع بين الركن والمقام، فنقول: لا، هذه الأشياء يمكن تكلفها ويمكن اصطناعها مع غير المهدي، فلا يدل وقوعها على أنه المهدي، لتعوذه بطائفة في البيت كما في الحديث، وبيعته بين الركن والمقام، فهذا من الجائز عقلاً أن يقع بتدبير من البشر، كما أن المرائي المناميه يمكن أن تصدر عن حديث نفس أو وساوس شيطانية، أما الخسف بالجيش الذي يقصد المهدي فآية خارقة لا يمكن أن يدبرها إلا رب البشر سبحانه وتعالى، فهذه علامة على صدق المهدي، وتميزه عن غيره من الدجّالين أو المتأولين الذين يقعون فريسة لمكايد إبليس اللعين، فالحمدلله الذي لم يمتحنا بما تعيا العقول به. وكان ينبغي -حتى تكتمل الفائدة- أن كل حادثة من حوادث ادعاء خروج المهدي أن تؤخذ بالتفصيل، وتُستخلص منها العِبر، وهذا مما يعطينا مناعة حتى لا نضل بعد ذلك، لكن أرجو أن يكون هذا له وقت فيما بعد، وقد سبق شيء من هذا، فقد ناقشنا من قبل قصة المهدي السوداني، والمهدي القحطاني، لكن حتى لا نبعد عن منهجنا أكثر من ذلك نرجو أن تكون هناك فرصه أخرى لمناقشة هذه الأشياء، وأهم شيء ألا تكذب الأحاديث الصحيحة، بل تعتقد بما فيها، لكن لا تنزلها على فلان بن فلان إلا إذا وقعت مطابقة لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، والسلامة -خاصة في هذا الزمان- لا يعدلها شيء. موضوع المنامات اشتغل به كثير من الناس، وكذلك موضوع الخوض الكثير في الحرب التي تريد أن تشعلها إسرائيل، وأنه لم يبق إلا سنتان أو سنة ثم يحصل كذا وكذا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفي المسلمين شر اليهود وشر أوليائهم من أعداء الدين، وفي هذا عبرة وتذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بين يدي رمضان

بين يدي رمضان إن مما يحسن ويجدر بالمؤمن الصادق أن يعلم حقيقة هذه الحياة الدنيا وأنها دار عمل، وحينئذٍ سيقوم باستغلال الأوقات بالطاعات وما أكثرها! فما من عبادة إلا وحض الشرع عليها، وبيّن ما يكون بين يديها؛ حتى يستعد العبد لها استعداداً كاملاً لائقاً بها، ومن هذه العبادات صيام شهر رمضان، وشهر رمضان من أعظم مواسم الطاعات والقربات، ففيه تجتمع أغلب العبادات من صلاة وصيام وزكاة وذكر لله وقراءة قرآن واعتكاف وغير ذلك.

التأهب لقدوم شهر رمضان قبل استهلاله

التأهب لقدوم شهر رمضان قبل استهلاله الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة بما دفع عنهم من كيد الشيطان ورد أمله وخيب ظنه، إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجنده، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس مطمئنة، ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد قائد الخلق وممهد السنة، وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فإن حكمة الله جل وعلا اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعة للآخرة وميداناً للتنافس، وكان من فضله عز وجل على عباده وكرمه أنه يجزي على القليل كثيراً، ويضاعف الحسنة، ويجعل لعباده مواسم تعظم فيها الأجور، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام، وتقرب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] قال: من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب. أي: يستدرك في أحدهما ما يفوته في الآخر. ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلها شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، بل لا يعلم موسم تجتمع فيه أبواب الخير والطاعات أكثر مما تجتمع في هذا الشهر العظيم، ولهذا كان حرياً بالمسلم انطلاقاً من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (احرص على ما ينفعك) أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، ويفقه شروط وآداب هذه العبادة المباركة؛ لئلا يفوته الخير العظيم، ولئلا ينشغل بمفضول عن فاضل أو بفاضل عما هو أفضل منه. وندعو أنفسنا جميعاً الآن إلى أن يستحضر كل واحد منا لو أن أحب الناس إليه غاب عنه أحد عشر شهراً ثم بشر بقدومه وعودته خلال أيام قلائل، فكيف يكون استبشاره بقدومه وبشاشته عند لقائه؟! فمن أجل هذا المعنى كان أول الآداب الشرعية في هذه المناسبة وبين يدي رمضان التأهب لقدومه قبل الاستهلال، وذلك بأن تكون النفس بقدومه مستبشرة، ولإزالة الشك في رؤية الهلال منتظرة، وأن تستشرف لنظره استشرافها لقدوم غائب حبيب من سفره؛ لأن الاهتمام باستقبال رمضان والاستعداد له قبل دخوله من تعظيم شعائر الله، ومن تعظيم شعائر ومعالم هذا الدين، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. والناس في رمضان كغيره من مواسم الخير والطاعات يصدق فيهم قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] فيتباين الناس في استعدادهم لهذا الشهر الكريم حسب حظهم من الإيمان والصبر واليقين، فهم ما بين فرح مسرور بقدومه، وما بين مستثقل متضجر. وهناك من يستعد لرمضان بمجرد انطلاق رمضان الماضي، حيث نجد شياطين الإنس يستعدون لاستقبال شهر رمضان المقبل بما يعدونه من التمثيليات والأفلام والفوازير واللهو والعبث، وذلك لصد الناس عن هذا الموسم العظيم، أفلا يجدر بعباد الرحمن وأولياء الله عز وجل أن يستعدوا فيعلموا كيف يغتنمون هذا الموسم العظيم ويخططون له ويتأهبون له قبل قدومه؟!

استثقال شهر رمضان وأسباب ذلك وحكمه

استثقال شهر رمضان وأسباب ذلك وحكمه إن المستثقلين شهر رمضان هم أهل الغفلة الذين يعدونه إذا نزل بهم كالضيف الثقيل، يعدون أيامه ولياليه وساعاته منتظرين رحيله بفارغ الصبر، يفرحون بكل يوم مضى منه، حتى إذا قرب العيد فرحوا بدنو خروج هذا الشهر، وليس فرحهم من أجل العيد وإنما فرحهم لأنهم تخلصوا من هذا الشهر، وهذا الشعور السيئ عندهم يرجع إلى أسباب عدة: أولها: أنهم اعتادوا على التوسع في الملذات والشهوات المحرمة فضلاً عن التوسع في الشهوات المباحة، فهم يعلمون أن هذا الشهر سيقيدهم ويحجزهم عن الاسترسال فيها، فاستثقلوه حتى قال بعضهم أقوالاً تقشعر منها الجلود وتشمئز منها النفوس، كقول الشاعر ابن الرومي: ألا ليت الليل فيه شهر ومر نهاره مر السحاب ويقول الآخر: رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق حكي أنه كان لـ هارون الرشيد رحمه الله غلام سفيه، فلما أقبل رمضان ضاق الغلام به ذرعاً وأخذ ينشد: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر فأصيب بمرض الصرع فكان يصرع في اليوم عدة مرات، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر. كذلك من هؤلاء المتضجرين المستثقلين لهذا الضيف العزيز من يستقبل رمضان بالسفر أو بالهروب من بلاد المسلمين. ومنهم من يستقبله بإعداد خطط خاصة للطعام وألوان الشراب وغير ذلك. ومنهم من يستقبله فرحاً مسروراً لما يجده فيه من فرص اللهو والعبث أمام (التلفزيون) أو (الراديو)، أو مع أصدقائه وأترابه في اللعب واللهو. فهؤلاء جميعاً يستثقلون الشهر، وإذا فرحوا فلا يفرحون بمواسم الطاعات التي فيه، وإنما يبتهجون بمواسم اللهو والعبث التي تزيدهم عن الله عز وجل بعداً. نقل عن ابن حجر رحمه الله تعالى أنه قال: إن تمني زوال رمضان من الكبائر. إذاً: المؤمن المملوء بالصبر واليقين في بداية الشهر أو قبل بدايته قلبه يكاد يطير فرحاً بقدومه، ويتمنى أن يكون شعبان يوماً واحداً. كذلك إذا دخل رمضان فإنه يحزن جداً لكل ساعة أو لكل ليلة تمر منه؛ لأنه يعلم أن تمني زوال رمضان من كبائر الذنوب. وقال بعض العلماء معلقاً على كلام ابن حجر: ولعله إذا كان بغضاً للعبادة فربما يخشى منه الكفر. ومما يخالف تعظيم شعائر الله قول العوام: رمضان مريض، أو يخرج الروح، ونحو ذلك. وذكرنا آنفاً أن أحد أسباب استثقال رمضان عند من يستثقله توسع بعض الناس في الملذات والشهوات المحرمة فضلاً عن المباحة، ولا شك أن التعلق بهذه الشهوات يثقل على القلب العبادة المرتبطة بها، فمن تعلق مثلاً بالمال ثقل عليه عبادة الزكاة والصدقة، ومن تعلق بالأهل والأولاد ثقل عليه الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن تعلق بالطعام والشراب والشهوات ثقل عليه الصيام. واستثقال الأعمال الصالحة ناتج عن ضعف الإيمان وضعف محبة الله عز وجل في القلب. فقارن بين قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرحنا بها يا بلال) بقول من يقول بلسان حاله أو حتى مقاله: أرحنا منها! قارن حال هذا بحال أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقوله: (إيماناً واحتساباً) أي: تصديقاً بفرضيته، ورغبة في ثوابه، طيبة به نفسه، غير كاره ولا مستثقل لقيامه، ولا مستطيل لأيامه، لكن يغتنم طول أيامه لتعظيم الثواب فيه.

حال المستبشرين بقدوم شهر رمضان ومواسم الطاعات

حال المستبشرين بقدوم شهر رمضان ومواسم الطاعات أما الذين يفرحون ويستبشرون بقدوم رمضان فهم يحمدون الله عز وجل على أن بلغهم رمضان، ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات وزيادة الحسنات وهجران السيئات، وهؤلاء هم امتداد للسلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، الذين أثر عنهم أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر بعده أن يتقبله منهم. أولئك الفرحون المستبشرون بقدوم رمضان يبشرون بقول الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. إن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]. والذي يحمد من الاستبشار بالطاعات ومواسم العبادات والخيرات ما كان نابعاً عن محبة العبد لربه عز وجل، لا ما كان بسبب أن للنفس حظاً من تلك العبادة، فربما يحب الإنسان -مثلاً- مجالس الخير وهو لا يقصدها لذاتها، لكن يستأنس برفاقه وبأترابه وبما يسليه، فلا تنفعه تلك المحبة، لكن من أحب مجالس الخير وفرح بها لا لأنه سيقابل أصحابه ويتحدث معهم ويتناقشون ويسمرون ويسهرون وإنما ليفرح بقيام الليل؛ لأنه تعمير لبيت الله وإقامة لذكر الله عز وجل رغبة في ثواب الله فهو الذي يحمد عمله ويؤجر عليه. فمن أحب هذه المجالس المباركة وفرح بها لأنها محبوبة لله عز وجل فهو المفلح الذي تنفعه هذه المحبة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في). وبعض الناس قد يؤدي بهم الحذر من مثل هذا المزلق والتخوف من أن يخالط حظ النفس عبادتهم إلى أن يتركوا العبادة بحجة الخوف من حبوطها وعدم تقبلها، والصواب هو أن يثبت الإنسان ويستكثر من العمل الصالح، وفي نفس الوقت يجاهد نفسه ليكمل الإخلاص ويمحض النية لوجه الله عز وجل.

أسباب فرح الصالحين بقدوم رمضان

أسباب فرح الصالحين بقدوم رمضان

تهيئة الصالحين لأنفسهم وتوطينها على تحمل مشقة الصيام

تهيئة الصالحين لأنفسهم وتوطينها على تحمل مشقة الصيام لقد هيأ الصالحون أنفسهم ووطنوها على تحمل مشقة الصيام، فصاموا التطوع خلال الشهور الأخرى، خاصة في شهر شعبان، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم أكثر شعبان؛ استعداداً لشهر رمضان، فمن ألف الصيام في شعبان، واجتهد في تعمير شعبان بطاعة الله ودرب نفسه على عدم الالتفات إلى ما حرم الله مثل قول الزور والغيبة والنميمة فهذا يأتي عليه موسم رمضان وقد سهل عليه أمر الصيام وأمر سائر الطاعات من القيام وغيرها، فيستطيع أن يغتنمه في أحسن صورة ممكنة. وكان هذا شأن السلف، كانوا يحافظون على نوافل العبادات، ويحافظون على صيام التطوع، ويحافظون على الاجتهاد في الإكثار من صيام شهر شعبان استعداداً للقاء رمضان. باع أحد السلف جارية له لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان، كما يصنع كثير من الناس اليوم، أهم استعداد عندهم لرمضان هو الأطعمة والأشربة، وكيف سيصنعون بكذا وكذا، وإعداد المخللات والفواتح الشهية، فمنذ زمن بعيد يستعدون للقاء هذا الشهر لتعميره بهذه الأشياء، وكأن شهر رمضان هو شهر إثخان المعدة بالطعام، والتلذذ بالطعام والشراب، وإرهاق الميزانيات، حتى يقول بعض الناس في وصف حال الكثير من المسلمين -للأسف- في هذا الأمر: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأثقال، وتنامون الليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال. فقالت هذه الجارية لما وجدت سيدها يستعد بهذه الطريقة في استقباله شهر رمضان، قالت: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال شهر رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان، والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان، لا حاجة لي فيكم، ردوني إليهم. ورجعت إلى سيدها الأول.

الامتناع عن الشهوات لله من أجل الحصول عليها في الآخرة

الامتناع عن الشهوات لله من أجل الحصول عليها في الآخرة إن هؤلاء الصالحين الفرحين بقدوم رمضان يعلمون أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، فإن من كف نفسه عن شيء منعه الله منه فمن فضل الله وعدله أنه لابد من أن يعوضه الله عز وجل خيراً منه وأفضل. فإذا تأملنا مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب) عرفنا ذلك، وشتان بين خمر الدنيا وخمر الآخرة، فهذه تذهب العقول وتهين الإنسان، وأما تلك فليس فيها سوى مسك، وهي شراب طهور، كما وصفها الله بقوله: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46]، فمن شرب الخمر الذي منعه الله في الدنيا عوقب بأنه يحرم من شرب الخمر في جنة الرضوان. ومن تأمل -أيضاً- قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) أدرك ذلك، والحرير محرم على الرجال، فمن لبس الحرير منهم وتمتع به في الدنيا فإنه يعاقب بحرمانه منه في الآخرة. روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش) رواه البزار، وحسنه المنذري والألباني. ورواه -أيضاً- ابن أبي الدنيا بنحوه إلا أنه قال: (إن الله قضى على نفسه أن من عطّش نفسه لله في يوم حار كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر فيصومه ابتغاء ثواب الله الذي وعده به). وهناك -أيضاً- حديث صحيح في نفس هذا المعنى، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً). فثواب الله عز وجل لمن كفّ عن الشهوات المباحة طاعة لله وانقياداً لأمره أن يكافئه بهذه المكافأة يوم القيامة. إذاً: لا شك أن استحضار هذا النعيم وهذا الثواب يهون على الإنسان ما يلقاه من العناء في شهر الصيام.

الفرح عند تمام صيام رمضان بتوفيق الله وشكره على ذلك

الفرح عند تمام صيام رمضان بتوفيق الله وشكره على ذلك إن الصالحين الذين يستبشرون بقدوم ذلك الضيف الكريم، ويعلمون أن هذا الشهر هو أعظم مواسم الطاعات والتنافس في القربات، هؤلاء إذا جاءهم العيد فإنهم يفرحون، ولا يفرحون لأن رمضان ولى، وإنما يفرحون لأن الله عز وجل وفقهم لإكمال عدة هذا الشهر وإتمام صيامه، كما قال عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] يعني: تشكرون الله عز وجل على أن وفقكم لصيام شهر رمضان.

أصناف الناس عند دخول شهر رمضان

أصناف الناس عند دخول شهر رمضان يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] ونذكر حديثاً شريفاً مناسباً لمعنى الآية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه انقسام الناس إلى قسمين بسبب دخول رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، -أي: أقسم أبو هريرة بما حلف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر). وعنه رضي الله عنه من طريق آخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله؛ وذاك لأن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر)، وفي رواية البيهقي: (فهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر)، وهذا الحديث أخرجه البيهقي في السنن، والطبراني في الأوسط، وابن خزيمة، وسكت عنه المنذري، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح. فقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة) يعني: يعد المؤمنون لرمضان ما يقويهم على العبادة، فهم يدخرون ما ينفقونه على العيال قبل أن يدخل رمضان، وأيضاً كثير من الناس يخرجون زكواتهم في رمضان، وكثير من الناس يتهيئون لأداء العمرة في رمضان وغير ذلك، فتجدهم يخصصون ويتأهبون لقدوم رمضان قبل دخوله، فهم يعدون قبل دخول رمضان ما يحتاجونه حتى يتفرغوا لطاعة الله إذا دخل عليهم رمضان. أما قوله: (وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة) فيعني أن المؤمنين بسبب اشتغالهم بالعبادة في رمضان يمنعهم ذلك من تحصيل المعاش أو التقليل منه، فقيام الليل يستدعي النوم بالنهار، والاعتكاف يستدعي عدم الخروج من المسجد، وفي هذا تعطيل لأسباب المعاش، فهم يجمعون القوت وما يلزم لأولادهم في رمضان قبل حلوله ليتفرغوا فيه للعبادة وللإقبال على الله عز وجل ولاجتناء ثمرة هذا الموسم، فهو خير لهم مما أنفقوه؛ لما اكتسبوا فيه من الأجر العظيم والغفران العميم. قوله عليه الصلاة والسلام: (وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم) يعني أن هذا هو السبب في أن شهر رمضان شر على المنافقين، وما أكثر هؤلاء المنافقين من أعداء الله من قطاع الطريق إلى الله الذين يغتنمون فرصة التوبة والإنابة واستقامة الناس على طاعة الله وانفتاح أبواب الخيرات حتى يصدوا الناس عن ذلك الخير! وتراهم يجلبون بخيلهم ورجلهم ليل نهار، في النهار يريدون أن يفسدوا صيام الناس بالمعاصي بالأفلام وباللهو والعبث والفجور، وفي الليل بالسهر والعكوف أمام العجل الفضي (التلفزيون) وأمثاله. فهو شر لهم؛ لأنهم يحرمون أنفسهم من هذا الخير العظيم، ويخسرون هذه الفضائل الجليلة، ولأنهم بدلاً من أن تكون هذه الأوقات الفاضلة عامرة بالطاعات إذا بهم يعكسون مقاصد دين الله ويحولونه إلى موسم للهو والعبث والفجور، وتتكاثر شياطين الإنس من الممثلين والفنانين وأمثالهم، وتراهم يفكرون كيف يلهون الناس عن الطاعة، وكيف يصدونهم عن طريق الله، وكيف يضيعون عليهم هذه الفرصة، ولا شك في أن هؤلاء وزرهم مضاعف؛ لأنهم ضلوا أنفسهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله، وقطعوا الطريق إلى الله عز وجل على عباده التائبين. إذاً: المنافقون يستعدون قبل شهر رمضان لإيذاء المسلمين في دينهم ودنياهم؛ لأن المسلمين في هذا الوقت طائعون لله غافلون عن الدنيا منقطعون إلى الله عز وجل، فيأتي هؤلاء المنافقون فيستغلون فرصة انشغال الطائعين بطاعة الله فيتتبعون عوراتهم، والمنافقون عندما يتتبعون عورات المؤمنين يعتبرون ذلك غنيمة حاضرة وفوزاً عظيماً، فهم يتوهمون أن هذه غنيمة اغتنموها في نظرهم، ولكنها في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم وحرمانهم من فضله العميم، نعوذ بالله عز وجل من ذلك. قال عليه الصلاة والسلام في نهاية الحديث: (هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر) وفي رواية البيهقي: (فهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر) والمعنى أن الله عز وجل ينتقم من الفاجر ويذيقه العذاب الأليم لسوء فعله وإيذائه المؤمنين وتتبع عوراتهم، فيكون نقمة له، وأما المسلم فرمضان غنيمة له بما اكتسبه من صيام أيامه وقيام لياليه، والانقطاع إلى الله عز وجل بالعبادة فيه. وقوله: (أظلكم شهركم هذا) يعني: أشرف عليكم وقرب منكم (بمحلوف رسول الله صلى عليه وسلم) يعني: إني أحلف بما حلف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه -والإصر هنا الإثم والعقوبة- من قبل أن يدخله) أي: الله عز وجل يعلم ما كان وما سيكون، ولا حدود لعلمه سبحانه وتعالى. فالله عز وجل يكتب قبل دخول الشهر أن فلاناً سيجني من هذا الشهر كذا وكذا من الطاعات والعبادات، وفلاناً سوف يجني كذا وكذا من الشقاء والإثم والإصر والعقاب. فقوله: (إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله) معناه أن المؤمن يستعد ويتهيأ لاستقبال رمضان قبل دخوله -كما ذكرنا في إعداد النفقة وإعداد القوت وغير ذلك- حتى يتفرغ ويجتهد في طاعة الله عز وجل في رمضان، فإن الله عز وجل يكتب له أجره ونوافله، وما سيترتب على أعماله هذه من الثواب قبل أن يدخل عليه شهر رمضان. وقوله عليه الصلاة والسلام (ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم) معناه أن المنافق يعلم أن الناس مزدحمون في المساجد، فيستغل هذا المنافق اجتهاد عباد الله بالطاعات كالصلاة وغيرها فيسرق -مثلاً- أحذيتهم أو يسرق شيئاً من المسجد. فانشغال المؤمنين بطاعة الله هو مكسب وغنيمة للمؤمن، يغتنمه المنافق، أي: يغتنم المنافق وقت انشغال الصالحين بالعبادة، وذلك بتتبع عوراتهم واغتنام غفلتهم. فهذا الحديث ينبغي أن نستحضره، وذلك لأنه مهم جداً، وكم فرحت حين رأيت الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى قد صححه؛ لأن هذا الحديث هو عين ما نقصده الآن من التذكير به.

أهل الخير وأهل الشر بين نداء الفعل والترك

أهل الخير وأهل الشر بين نداء الفعل والترك ما أكثر ما يخبرنا الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم بكثير من الأحداث التي تقع في هذا الكون وفي هذا الوجود ونحن لا نراها ولا نسمعها! لكن يكفينا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاطلاع على حقائق هذه العوالم الغيبية. مثلاً: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من صباح إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً). ومن هذه الأحداث التي تقع في أول ليلة من رمضان ما أخبرنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين) وهذا يقع ويحدث في أول ليلة من شهر رمضان المبارك، كذلك الذي صح -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) وعند الإمام ابن خزيمة: (صفدت الشياطين مردة الجن) يعني أن الشياطين هم مردة الجن. ونريد أن نقف طويلاً عند هذا الخبر العظيم، خاصة عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وينادي مناد: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر) فهذا أنسب شاهد لما نحن بصدده من الكلام على انقسام الناس وتباينهم عند استقبال رمضان مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]. ففي هذا الحديث يبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هناك من يبغي الخير في رمضان، وهناك من يبغي اقتراف الشر والصد عن سبيل الله في رمضان. فمنذ بداية هذا الشهر يتكرر النداء العام ويختص بهذا الشهر (يا باغي الخير! أقبل) أي: أقبل فقد أعددت وخططت وتهيأت، وها هو قد فتح السوق، فمن أراد الغنيمة فلينتهز الفرصة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن)، أو: (صفدت الشياطين مردة الجن) وتصفيد الشياطين في شهر رمضان يحتمل أن يكون المراد به تصفيد الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع، ولذلك قال بعض العلماء: ألا تراه قال: مردة الشياطين. يشير إلى قوله تبارك وتعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7]؛ لأن شهر رمضان كان وقتاً لنزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب، كما قال عز وجل: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8]، فزيد التصفيد في شهر رمضان مبالغة في الحفظ، وهذا أفاده الإمام الحليمي، والله تعالى أعلم. ويحتمل أن يكون المراد من تصفيد الشياطين في زمان وأيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده أيضاً، والمعنى أن الشياطين في شهر رمضان لا يخلصون فيه من إفساد الناس إلى ما كانوا يخلصون في غيره؛ لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات التي تهذب النفس وتزكيها، قال رب العزة جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. فالحكمة من الصيام هي الوصول إلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهذا أمر ملموس، وهذا من بركة هذا الشهر حتى على العصاة، فإنك تجد عند ابتداء شهر رمضان همة الناس في إصلاح حالهم مع الله وفي الصلح مع الله تزداد، فالمحسن يرغب في زيادة الإحسان والمسيء تجده مقبلاً على الخير، وآية ذلك أن تنظر إلى المساجد في أول ليلة من رمضان، بل انظر إلى المساجد في صلاة الفجر في أوائل رمضان، ثم انظر إلى طبيعة أسئلة الناس في أوائل شهر رمضان أو قبل قدومه بأيام، تجد أن كل إنسان يراجع نفسه ويقول: أنا أفعل كذا وكذا فهل لي من توبة؟ أنا أريد أن أفعل كذا وكذا ولكن يمنعني كذا وكذا؟ وتجد العصاة يريدون أن يقصروا عن الشر وأن يتوبوا وأن يصلحوا حالهم مع الله تبارك وتعالى. ولذلك كانت مسئولية كل من يتبوأ مقام الدعوة في رمضان كما يصنع التاجر حين يغتنم الفرص حتى يروج سلعته ويفوز بالأجر العظيم ويغتنم الربح الوفير، فكذلك الداعية إلى الله عز وجل، وكل مسلم يجب أن يكون داعية إلى الله، فمن علم شيئاً عليه أن يدعو إليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية). فالواجب الاهتمام واغتنام هذه الفرصة العظيمة، فإن الناس يقبلون على الله سبحانه وتعالى أشد الإقبال، والشيطان قد توعد بني آدم -حسداً وحقداً- أن يفتنهم وأن يتفنن في إضلالهم، وأقسم في ذلك بعزة الله تبارك وتعالى، ومما يؤسف له -إذا نظرنا إلى واقع الناس عموماً على ظاهر الكرة الأرضية وإلى واقع المسلمين خصوصاً- أن إبليس وفى بقسمه وبر بعهده. فانظر وقارن بين أولياء الرحمن وبين أولياء الشيطان، تجد أن جنود إبليس في أجهزة الإعلام يحتشدون ويتجهزون لحرب الدين وأهله، وكأن الشيطان يبعثهم سرايا حتى يضلوا الناس ويضيعوا عليهم هذه الفرصة ويغلقوا عليهم هذه الرحمة الواسعة، وذلك بصدهم عن المساجد وإشغالهم باللهو والفسق والفجور، وصدهم عن طريق الله وقطع الطريق إلى الله عز وجل على عباد الله، وقارن بين الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هل بروا بالعهد الذي أخذه الله عليهم كما بر أولياء الشيطان وكما بر إبليس بعهده فتفنن في إضلالهم؟! إذاً: ينبغي الاعتناء باغتنام فرصة إقبال الناس على ربهم تبارك وتعالى، وينبغي تفويت الفرصة على أعداء الدعوة الإسلامية وعلى قطاع الطريق إلى الله الذين ينتهزون مواسم الخير ليعكروا صف المسلمين، وليمزقوا وحدتهم، وليحدثوا فيهم البلبلة والتشكيك، وكأن رمضان صار موسماً للمشكلات من أوله إلى آخره. فعلى الإخوة جميعاً أن يهتموا بهذا الأمر، ويجتهدوا في تفويت هذه الفرص على أعداء الدعوة. قوله: (ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

أعمال بغاة الخير خلال شهر رمضان وصفاتهم

أعمال بغاة الخير خلال شهر رمضان وصفاتهم نقف وقفة مع هذا المنادي الذي ينادي في الناس، ونحن لا نسمعه، ولكن الصادق المصدوق أخبرنا فكأننا سمعناه بأنفسنا، بل أبلغنا بقوله: (يا باغي الخير! أقبل ويا باغي الشر! أقصر) فهذا النداء يحض على التوبة وهي أعظم الخير، ولذلك سنتوقف عندها قليلاً.

العمرة في شهر رمضان

العمرة في شهر رمضان إن من الخير الذي يجنيه الصالحون في هذا الشهر، والذي من أجله يقول له الملك: يا باغي الخير! أقبل -أي: هلم إلى موسم الخير كله- من ذلك الخير العمرة في رمضان، فمن استطاع أداء العمرة في رمضان فلا يفرط في ذلك. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار اسمها أم سنان: ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: أبو فلان -تعني زوجها- له ناضحان حج على أحدهما والآخر نسقي عليه. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم -على سبيل المواساة لها-: فإذا جاء رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة فيه تعدل حجة -وفي لفظ: تعدل حجة معي-) وهذا الحديث متفق عليه. فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) يعني: إذا اعتمرت في رمضان فكأنك وقفت في عرفات مع الرسول صلى الله عليه وسلم وطفت بالبيت.

الحرص على تعمير المساجد بالطاعات

الحرص على تعمير المساجد بالطاعات إن من صور الخير تعمير المساجد والحرص على ذلك، جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق) فمن حرص على تطبيق هذا الحديث تغير حاله، واستقام شأنه، وزاد إيمانه، واقترب من الله عز وجل، وتضاعفت أعماله الصالحة. فالشرط الأول: (من صلى لله) أي: من صلى مخلصاً لله بأن يحافظ على صفة الإخلاص وعدم الرياء. الثاني: قوله: (أربعين يوماً) يعني: يحافظ على الصلوات الخمس لمدة أربعين يوماً متصلة. الثالث: (في جماعة) أي: يحضر صلاة الجماعة. الرابع: (يدرك التكبيرة الأولى) فلابد من أن يدرك تكبيرة الإحرام ولا يتخلف عنها. قوله: (كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق) براءة من النار باجتهاده في طاعة الله تبارك وتعالى وإقامة الصلاة في جماعة، وبراءة من النفاق لأنه تبرأ من سلوك المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، أما هذا فيستعد ويتأهب ويحرص على حضور تكبيرة الإحرام.

التوبة واستغلال شهر رمضان بسائر الطاعات

التوبة واستغلال شهر رمضان بسائر الطاعات نقول: لا بد من التوبة والندم على ما فات من التفريط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الندم توبة)، والخير الذي يبتغيه عباد الله الصالحون على رأسه الصيام والقيام وقراءة القرآن، والاعتناء بالعشر الأواخر وذلك بتعميرها بالطاعات، والاجتهاد في تحري ليلة القدر، وكذلك الصلاة في جماعة، والانشغال بذكر الله وبدعائه تبارك وتعالى، والعمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والاعتكاف في بيوت الله، وتفطير الصائم، وأداء زكاة الفطر وزكاة المال -أيضاً- كما يفعل كثير من الناس، فهم يجعلون رمضان وقت إخراج الزكاة توسعة على إخوانهم المسلمون، وكذلك الجهاد في سبيل الله، فإن رمضان هو شهر الجهاد، كان فيه غزوة بدر، وكان فيه فتح مكة، وكان فيه موقعة عين جالوت وغير ذلك من المعارك التي انتصر فيها المسلمون في شهر رمضان المبارك. وكذلك هو شهر الإنفاق والسخاء والجود وإكرام عباد الله تبارك وتعالى، وهو شهر الكف عن أذى الخَلْق، بل هو شهر حسن الخُلُق مع الناس، حيث إن الصائم لا يرفث ولا يفسق ولا يسخط، وهو شهر التوبة من كل معصية، ورمضان هو شهر التربية الجماعية للأمة جمعاء، وهذه في الحقيقة ما زالت غصة في حلوق أعداء الإسلام لا يستطيعون القضاء عليها، حتى الشخص الذي أغراه الشيطان بالإفطار إذا خرج إلى الشارع يجد فيه الصائمين، وإذا ركب وسائل النقل يجد الصائمين، وفي الكلية وفي المتجر وفي المصنع يجد الصائمين، فهذه التربية الجماعية تجعله يعود إلى عقله ويثوب إلى رشده، فعلى الأقل يستحيي من المجاهرة، إلا أن يكون قد فقد الحياء بالكلية من الله ومن الناس. إذاً رمضان مدرسة وفرصة ليصلح كل إنسان حاله مع الله تبارك وتعالى. وإذا كان التدخين عادة سيئة فرمضان أعظم فرصة للتوبة من هذه الخصلة القبيحة وغيرها مما ينبغي أن نتجنبه.

المكث بعد صلاة الفجر في المصلى حتى تطلع الشمس

المكث بعد صلاة الفجر في المصلى حتى تطلع الشمس إن من صور الخير الذي علينا أن نبتغيه ونقبل عليه ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه كان إذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس) فالإنسان إن كان قد قصر فيما مضى فإنه يحتاج إلى مجاهدة حتى تنقلب عادة الشر إلى عادة خير، ومن ذلك أن يجاهد نفسه على المكث في مصلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس لينال الأجر المترتب على ذلك الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة).

أعمال بغاة الشر خلال شهر رمضان وصفاتهم

أعمال بغاة الشر خلال شهر رمضان وصفاتهم أما الفريق الآخر بغاة الشر والسوء والصد عن سبيل الله فتجد الملك ينادي عليهم ويقول: (يا باغي الشر! أقصر) كما يقول العوام للشخص حينما يتمادى في الإساءة: أقصر. يعني: انته وكف عما تنويه من السوء في هذا الشهر العظيم.

تعمد الإفطار في نهار رمضان بغير عذر

تعمد الإفطار في نهار رمضان بغير عذر من صفات بغاة الشر في رمضان -وهي من أقبح المظاهر في الحقيقة- تعمد الإفطار بغير عذر. وهذه ظاهرة تجسد غربة الإسلام في هذا الزمان، فكثير من الناس انعدم عندهم الحياء من الله والحياء من المخلوقين، مع أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (استح من الله كما تستحي رجلاً من صالح قومك) ونجد كثيراً من المستهترين يجهرون بالتدخين ويجهرون بالإفطار ولا يبالون، ونجد أصحاب المطاعم يفتحون المطاعم في رمضان. ولو أن كل واحد منا عد نفسه مسئولاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حدود علمه لأغلق هؤلاء متاجرهم، لو أن هذا الفاسق الفاجر الذي يجهر بمبارزة الله سبحانه وتعالى بالطعام أو الشراب في نهار رمضان كلما قابل مسلماً قال له: اتق الله، إذا بليتم فاستتروا. أو ذكر له هذا الحديث الذي نذكره في وعيد متعمد الإفطار فلا شك أنه في المرة الأولى إذا لم يستجب فقد يستجيب في الثانية. فهذا العاصي لو قابله مسلم طائع لله وحذره وأنكر عليه فلا شك في أنه ستنتهي هذه الظاهرة، إذا دخلت إلى صاحب العصير أو المطعم وقلت له: اتق الله وارع حرمة هذا الشهر ونصحته فلعله ينزجر ويكف عن فسقه ومعاصيه، فلماذا نقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى هذا الحد؟ لو أن كل امرأة متبرجة وجدت من يقول لها: اتقي الله واستري نفسك وأنقذيها من النار أو غير ذلك لانكف الناس عن كثير من المنكرات. وبعض الناس يتسترون وراء فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقولون: لابد من أن يكون الإنسان عالماً وأن يكون كذا وكذا، ويذكرون عدة شروط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونقول: هناك قدر من المنكرات لا يجهلها أحد ولا تحتاج إلى فقه، مثل شرب الخمر وتضييع الصلاة والتبرج والربا، كل هذه المعاصي ظاهرة وواضحة، فيجب علينا متى ما استطعنا وفي كل فرصة أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر، ولا نتخذ فقه وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أداة نعلق عليها كسلنا وتراخينا في أداء واجبنا نحو ربنا ونحو ديننا. فكل إنسان مسئول ينبغي أن يبلغ بقدر استطاعته، وينكر على من يجهر بالمعاصي سواء في رمضان أو في غير رمضان. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواد الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم). فإذا تأملنا هذا الحديث فإن فيه وعيداً شديداً لمن يتعمد الإفطار في شهر رمضان. فقوله عليه الصلاة والسلام: (بينما أنا نائم أتاني رجلان) معلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، فهذا صورة من صور الوحي. قوله: (فأخذا بضبعي) يعني: أخذا بعضدي. قال: (فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد. فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواد الجبل إذا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً -وهي جوانب الفم- قال: قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم). تأمل جيداً قوله: (قبل تحلة صومهم) فمعناه أن هؤلاء يصومون لكنهم يفطرون قبل غروب الشمس، فإذا كان هذا عذاب من يتعجل الإفطار قبل أوانه قبل تحلة الصوم فكيف بمن لا يصومه كله؟! كيف بمن يفطر اليوم بل الشهر كله ولا حظ له في الصيام؟! أما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أفطر يوماً من رمضان متعمداً لا يجزئه صيام شهر وإن صامه) فهذا حديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضاً ثبت في الحديث الصحيح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أحلف عليهن) وذكر منهن قوله: (لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: من أفطر عامداً بغير عذر كان تفويته له من الكبائر. وحكي عن الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى أنه قال: وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا عذر أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه ويظنون به الزندقة والإخلال. وأحسن بعض إخواننا حيث كانوا يضمون هذه العبارة إلى عبارة الحافظ ابن القيم ويكتبونها بخط جميل على أوراق كبيرة مكبرة ويلصقونها ويعلقونها في المداخل والمخارج والأسواق وعند المحلات زجراً للناس عن هاتين المعصيتين: تعمد الإفطار، وترك الصلاة المكتوبة. فيا حبذا لو أحيا الإخوة هذه السنة وأعادوا تذكير الناس بهذه العبارات، ولا تعلق داخل المساجد؛ لأن هذا تحصيل حاصل، فالذي يأتي للمسجد يصوم ويصلي؛ لأن الذي يصلي لا يمكن أن يتصور أنه لا يصوم؛ لأن من حافظ على الصلاة سهلت عليه كل العبادات الأخرى، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. فيصعب أن تجد شخصاً يحافظ على الصلاة ثم لا يصوم، لكن قد تجد من يحرص على الصيام ولكنه -ولا حول ولا قوة إلا بالله- لا يصلي.

ترك الصلاة عمدا

ترك الصلاة عمداً إن بغاة الشر في رمضان للأسف الشديد كثيرون، ومن أسوئهم وأقبحهم هؤلاء الذين يضيعون أعظم فريضة في الإسلام، ألا وهي فريضة الصلاة التي هي عمود هذا الدين وثانية العبادات وناهية عن السيئات، يقول عز وجل {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فنجد من يترك الصلاة بالكلية ويحسب أنه على شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر). ودعنا من الخلاف بين العلماء هل تارك الصلاة كافر كفراً أكبر يخرج من الملة وأنه إذا مات مصراً على تركها فإنه لا يورث ولا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يجوز الدعاء له بالمغفرة، أو أنه مسلم عاص فاسق بفعله؟ وإنما أهمس فقط في أذن هذا الذي يترك الصلاة ويستأنس بقول من يقول له: إنك مسلم عاص. فهل تقبل أن يكون انتسابك إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى دين محمد صلى الله عليه وسلم موضع خلاف بين العلماء؟! فعالم يقول عنك: أنت مسلم فاسق شر من الزاني والسارق وشارب الخمر وآكل الربا وقاتل النفس التي حرم الله، أنت شر من هؤلاء كلهم ومعرض لسخط الله وعقوبته في الدنيا والآخرة، وآخر يقول: بل أنت مثل أبي جهل وأبي لهب وفرعون وهامان وقارون وإخوانهم من أعداء الله! فهل تقبل أن يكون انتسابك إلى الإسلام محل خلاف العلماء؟! ومن يقبل لنفسه هذا الوضع؟! يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم (الصلاة وحكم تاركها) في تحقيق هذه المسألة -وقد انتهى إلى تكفير تارك الصلاة كفراً أكبر- يقول رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة. فهذا متفق عليه بين جميع علماء المسلمين، ولا خلاف في ذلك أبداً. وقد تجد تارك الصلاة يتمدح بأنه يتعفف عن الزنا، أو أنه إذا اتهم بأنه سارق يشمخ بأنفه ويقول: كيف أكون سارقاً؟! ويغضب بسبب ذلك، أو غير ذلك من الذنوب كقتل النفس أو شرب الخمر أو غير ذلك، وهو لا يدري أن المصيبة التي ابتلي بها أشد من كل هذه المعاصي مجتمعة. نعجب لتارك الصلاة كيف يتمتع بنعم الله وبعافية الله وبرزق الله سبحانه وتعالى! فخير الله إليه نازل وشره إليه صاعد. فالإنسان من غير صلاة لا خير فيه، ولا خير في دين لا صلاة فيه. قال أمير المؤمنين: (ألا وإن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر). إذاً فشهر رمضان فرصة عظيمة جداً لبغاة الخير أن يأمروا بغاة الشر ممن يصرون على ترك الصلاة أن يفتحوا صفحة جديدة، وأن يتوبوا إلى الله عز ويؤدوا الصلاة لله تبارك وتعالى.

حكم منع إخراج الزكاة الواجبة وما يترتب على المنع

حكم منع إخراج الزكاة الواجبة وما يترتب على المنع جاء في الحديث السابق أن أسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة، وتكلمنا عن تارك الصلاة ومتعمد الإفطار في رمضان، والآن نمر مروراً عابراً على منع الزكاة. إن كثيراً من الناس يخرجون زكاتهم في هذا الشهر المبارك، فننتهز الفرصة، ونذكر بخطأ يفعله كثير من الناس في قضية إخراج الزكاة، فبعض الناس يتصور أن إخراج الزكاة هي زكاة الفطر فقط، وإذا قلت له: إن عليك زكاة في مالك بشروط وهي كذا وكذا يقول لك: أنا أتصدق بين وقت وآخر وأعطي الفقراء والمساكين وأجود عليهم وأنفق عليهم! ويظن أنه بذلك يكون قد أدى الزكاة، كلا، فأداء الزكاة عبادة من العبادات لابد فيها من نية إخراج فريضة الزكاة. ولابد من الالتزام بالمقدار المحدد لكل نوع من الأنواع الذي تجب فيه الزكاة، سواء في ذلك زكاة الذهب والفضة، وسواء في ذلك زكاة الحلي والأواني والصحف الذهبية والفضية، وخاصة ما اتخذ كنزاً للاقتناء، أو زكاة الثروة التجارية والزراعية، أو زكاة المستغلات كالعمارات والمصانع ونحو ذلك، أو زكاة الثروة الحيوانية كالإبل والبقر والغنم، وما إلى ذلك. فكل نوع له مقدار محدد من الزكوات ينبغي الالتزام به، أما العشوائية في إخراج الزكاة بأن تقول: أنا بين وقت وآخر أتصدق على الفقراء بما ييسر الله فهذا لا يصح، فلابد من أن تضبط الزكاة ضبطاً دقيقاً في مواعيد محددة وبمقدار محدد، وتلتزم بذلك، وإلا فقد ورد الترهيب الشديد لمنع الزكاة. يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) إلى آخر الحديث. وورد ضمن حديث طويل قال: (ولاوي الصدقة ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم). قوله: (لاوي الصدقة) يعني المماطل في أداء الزكاة، فإنه ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا كان لك مال استوفى شروط الزكاة كاملة فإن لله فيه حقاً، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] فهذا المال ليس ملكاً لك، بل حق الله عز وجل، فإذا لم تؤد الزكاة وبخلت بها فالله تبارك وتعالى قادر على أن يعاقبك أشد العقوبة. يقول عليه الصلاة والسلام: (مانع الزكاة يوم القيامة في النار)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين) والسنون جمع سنة، وهي الجدب والقحط وعدم نزول المطر، وقال في رواية أخرى: (ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر) وقال عليه الصلاة والسلام: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا). فمنع الزكاة معصية خطيرة جداً، ويخشى على الشخص الذي يمنع الزكاة أن تمحق بركة ماله لكفره بنعمة الله، فهذا المال الذي فيه حق الفقراء والمساكين من الزكاة ليس ملكك، فإذا أتى أوانه فهو حق هؤلاء الفقراء ولا ينبغي لك تأخيره أبداً، بل لا بد من أن تعجل بأدائه إلى أصحابه. وأذكر هنا قصة طيبة لأحد الناس: كان هناك رجل من الناس الطيبين في الإسكندرية، وهذا الرجل كان يتمتع بالصحة والعافية وفي خير حال، وقبل أن ينام مباشرة أنطقه الله تبارك وتعالى فقال لزوجته: هذا المال -وأشار إلى مبلغ معين من المال- هو الزكاة التي ستجب علي بعد يومين أو ثلاثة، فإذا أتى وقت الزكاة فأخرجوها، وحذار أن يقربها أحد منكم، فإن هذا ليس مالنا. ونام الرجل على وسادته ولم يقم من نومه، بل أفضى إلى ربه تبارك وتعالى في نفس تلك الليلة. فهذه -إن شاء الله- من علامات حسن الخاتمة. وهناك قصة حكاها بعض الشيوخ على عكس الأولى، أن أحد القضاة الشرعيين حدثه أن رجلاً جاءه في الحجاز يشتكي من أن صاعقة نزلت على غنمه فأتلفت منها أكثر من سبعمائة رأس من الغنم، وأتى إلى المحكمة وطلب تسجيل هذه الجائحة أو الواقعة كي يعوض فيما بعد عن خسائره، وأخذ هذا الرجل يتردد على المحكمة حتى يثبت هذه المصيبة التي وقعت به ويصرف له تعويض عن هذه الخسارة. وفي يوم من الأيام قال له القاضي ذات مرة: لعلك لا تخرج زكاة هذه الأغنام؟! قال القاضي: فرأيت الرجل لما قلت له ذلك قد تغير وظهرت عليه علامة التأثر مما قلت، ثم خرج من عندي ولم يعد بعدها إلى المطالبة بالتعويض. لأن هذه الكلمة وقعت في قلب هذا الرجل، وعلم أن ما أصابه من الصاعقة التي نزلت من السماء وأتلفت سبعمائة رأس من الأغنام إنما هي بسبب عدم إخراج الزكاة، فزهد في هذا التعويض الذي كان يسعى إليه؛ لأن هذا حكم عادل من الله تبارك وتعالى. إذاً: إذا بخلت ولم تخرج زكاة المال فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يتلف عليك كل هذا المال من أوله إلى آخره، ويبتليك بالمصائب والبلايا.

الآثار المترتبة على إخراج الزكاة الواجبة

الآثار المترتبة على إخراج الزكاة الواجبة إن الزكاة تنمية وبركة وتطهير للمال كله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره) وقال في حديث آخر: (داووا مرضاكم بالصدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) وقال عليه الصلاة والسلام: (ظل المؤمن يوم القيامة صدقته) وقال عليه الصلاة والسلام: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) فقوله: (صنائع المعروف) أي: الإحسان إلى الناس. وكما ذكرنا أنموذج شؤم عدم إخراج الزكاة نذكر أنموذجاً من بركة إخراج الزكاة على صاحبها. جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينا رجل في فلاة من الأرض إذ سمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان -والحديقة هي البستان إذا كان عليه حائط- فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة -والحرة: هي الأرض التي بها حجارة سود- فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله -والشرجة: هي مسيل الماء إلى الأرض السهلة- فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته -وهي المجرفة من الحديد- فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان. للاسم الذي سمع من السحابة. فقال له: يا عبد الله! لم سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، فما تصنع فيها؟) يعني: ما الذي تصنعه حتى استحققت به أن يقال للملك: اسق حديقة فلان، فأتت السحابة وأمطرت الماء في حديقتك أنت؟! قال: (فما تصنع فيها؟! قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثه) وهذا الحديث رواه مسلم.

دعوة إلى الإقبال على الطاعات والابتعاد عن المعاصي والمنكرات

دعوة إلى الإقبال على الطاعات والابتعاد عن المعاصي والمنكرات إن ما سبق ذكره هو من وجوه الخير، فمن كان باغياً للخير فليقبل على عملها، وأما باغي الشر الذي يضيع الصلاة أو الصيام أو الزكاة فليقصر، كما أُمر بذلك في بداية شهر رمضان المبارك. فعلى الإنسان أن يعقد النية والعزم على أن يستقبل هذا الشهر مقصراً عن المعاصي متخلياً عنها، متحلياً بالطاعات ومكثراً منها، فيتجنب كل ما يفتنه في دينه كالاختلاط، وكقراءة المجلات الخليعة والجرائد المؤذية. وكذلك إطلاق البصر من الشر، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم زنا العين فقال: (والعين تزني وزناها النظر) فالنظر إلى ما حرم الله مثل الأفلام الخليعة والمتبرجات والمذيعات كل هذا إفساد لثوابك وصد لك عن سبيل الله تبارك وتعالى، وتذكر حينما ترى هؤلاء الشياطين قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، فأولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28]. وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها أو يتقحمن في هذه النار، فجعل الرجل يذبهن بيده -أي: يطرد الفراشات التي يجذبها الضوء حتى لا تحترق-، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي) عليه الصلاة والسلام، كيف وقد قال الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] صلى الله عليه وآله وسلم. فالله عز وجل يريد أن يرحمنا ويريد أن يتوب علينا، وهؤلاء يريدون أن يهلكونا ويفسدوا علينا ديننا ويقطعوا علينا الطريق إلى ربنا عز وجل.

طرق معالجة ظاهرة تضييع صلاة الجماعة في رمضان وتضييع الأوقات

طرق معالجة ظاهرة تضييع صلاة الجماعة في رمضان وتضييع الأوقات مما يؤسف له أن في رمضان الذي هو موسم الطاعات نجد ظاهرة مؤسفة جداً، وهي أن الأذان لم يصبح اسمه أذاناً، بل صار بدله المدفع، كأن هذا المدفع هو ساعة الصفر لكي يبدأ الهجوم لاكتساح ما لذ وطاب من الطعام والشراب، مما جعلهم لا يلتفتون إلى الأذان، فالمؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، هلموا إلى طاعة الله وإلى تعمير بيت الله وإذا بهم في صلاة المغرب في كثير من المساجد لا يصلي إلا عدد أو نفر قليل جداً منهم، وذلك بسبب أنهم يجلسون على الموائد ويأكلون ويشربون ثم يضيعون صلاة الجماعة. فإذا كان رمضان وهو موسم الخير ومضاعفة الأعمال الصالحة يحصل منا فيه هذا الأمر السيئ والقبيح، وربما يكون سبب هذه الفتنة عند كثير من الناس أن شياطين الإنس عبر (التلفزيون) يجتذبون الناس مباشرة عقب ما يسمى بالمدفع ويفتنوهم عن دينهم بالفوازير وباللهو وبالعبث والفجور، حتى إن بعضهم قد يجمع المغرب مع العشاء جمع تأخير، أو يسهر إلى ما قبل صلاة الفجر أمام (التلفزيون) فإذا كان الأمر كذلك فأين ستكون صلاة الفجر في جدوله إذا كان يمكث من المغرب حتى الساعة السادسة صباحاً؟! هذا إن كان يصلي صلاة الفجر. فهذا إتلاف وإفساد للدين، فطهروا بيوتكم من هذا الجهاز الخبيث الذي يصدكم عن طاعة ربكم تبارك وتعالى ويفسد أخلاقكم وأديانكم، فهو شؤم في شؤم. وإذا أذن لصلاة المغرب فيحبذ أن يفطر الصائم على شيء خفيف جداً، على تمر أو شيء يسير، ويا حبذا لو كان الإفطار في المسجد حتى ينال الذين يحضرون الإفطار أجر تفطير الصائم، ومن يفطر في بيته ينبغي أن يكون أمامه مهلة عشر دقائق بين الأذان والإقامة، ثم تقام الصلاة بتمهل بعد إذهاب سورة الجوع التي قد تذهب بألباب بعض الناس حتى يصلوا صلاة المغرب باطمئنان؛ لأن أكثر الناس يصلون صلاة المغرب بسرعة ينقرونها نقراً ولا يقيمونها. وكون وقت الإفطار لمدة عشر دقائق بين الأذان والإقامة ثم تقام الصلاة بالميكرفونات حتى يحضر الناس من البيوت الذين لم يأتوا بعد أمر طيب. كذلك علينا أن نقوم بحملة كبيرة من أجل دعوة الناس إلى تعمير المسجد بصلاة المغرب وغيرها من الصلوات، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] فظاهرة تضييع صلاة الجماعة في المغرب خصوصاً منتشرة، فعلى الإخوة أن يتعاونوا في ذلك. والإفراط في السهر يؤدي إلى تضييع صلاة الفجر، وهذا -أيضاً- من الشر، وكذلك قول الزور والعمل به مما يفعله بغاة الشر، والمجاهرة بالفطر وقد ذكرناها، وأكل الربا، واللهو، والنميمة، والكذب إلى غير ذلك مما حرم الله تبارك وتعالى، فكل ذلك ينبغي الحث على تركه.

كيفية استقبال شهر رمضان

كيفية استقبال شهر رمضان إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل رمضان خطب في أصحابه رضي الله عنه منبهاً إياهم إلى هذا الموسم المبارك، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) وإنما كان ذلك في أول ليلة من شهر رمضان. أي: إذا ظهرت الرؤية وبان لنا أن هذه ليلة هي أول ليلة من شهر رمضان فينبغي لمن كان من بغاة الخير ويريد أن يصوم رمضان كله إيماناً واحتساباً حتى يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تقدم أن يحذر من أن يفوته قيام الليلة الأولى من رمضان، إذ أغلب الناس يعمرون المساجد بصلاة القيام غالباً في اليوم الثاني من رمضان. والغالب أن الرؤية لهلال رمضان تكون متأخرة، وربما تكون أحياناً بعد صلاة العشاء، فبعض الناس لا يسرعون إلى المساجد لصلاة القيام ولا يصلونها -أيضاً- في البيوت في الغالب، فيفوتون على أنفسهم هذا الثواب العظيم. فعلى الإخوة -أيضاً- أن ينبهوا الناس إذا ظهرت الرؤية وثبت هلال رمضان حتى يفزعوا إلى المسجد ويدركوا صلاة القيام حتى لا يفوتهم هذا الفضل العظيم.

ضرورة اغتنام التوبة والاستغفار والإنابة خلال شهر رمضان وغيره

ضرورة اغتنام التوبة والاستغفار والإنابة خلال شهر رمضان وغيره إن من أعظم الوظائف التي سنتكلم عنها باختصار -إن شاء الله- هي وظيفة التوبة إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن شهر رمضان موسم التوبة والاستغفار، وموسم الصلح مع الله عز وجل. والاستغفار يكون في افتتاح كثير من العبادات وخواتيمها، ففي استفتاح الصلاة تقول: (اللهم! باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم! اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) وهذا استغفار. كذلك في خطبة الحاجة في أول الكلام: (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره). وكذلك في خواتيم الأعمال، كما في كفارة المجلس تقول: (سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك). وفي خاتمة عمره الشريف صلى الله عليه وسلم أمره الله تبارك وتعالى به فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. وفي خواتيم أفعال الحج قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199].

إحسان الظن بالله والتوبة إليه والطمع في رحمته

إحسان الظن بالله والتوبة إليه والطمع في رحمته إن وظيفة العمر كله هي وظيفة التوبة والإنابة إلى الله تبارك وتعالى، ولن يعزم العبد على التوبة والاستقامة إلا إذا كان يحسن الظن بربه تبارك وتعالى، فيجب أن نقبل على هذا الشهر ونحن نحسن الظن بالله عز وجل في أن من عاد إليه وتاب إليه تاب الله عليه، ومن استغفره غفر له تبارك وتعالى. فمهما بلغ الإنسان من التقصير في طاعة الله عز وجل فلابد له من أن يغتنم هذا الموسم العظيم، وأن يطمع في رحمة الله طمعاً لا مزيد عليه، فإن خزائنه لا تنفد. يقول عز وجل {إِِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. وضرب بعض العلماء مثلاً في حسن الظن بالله تبارك وتعالى وفي رحمة الله عز وجل بعباده فقال: أرأيت لو أن ولداً كان يعيش في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القائم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجة، فخرج عليه عدو في الطريق فأسره وشد وثاقه، ثم ذهب به هذا العدو إلى بلاد الأعداء، وصار يعامله بعكس ما كان يعامله به أبوه، فكان كلما تذكر تربية أبيه وإحسانه إليه المرة بعد المرة تهيجت من قلبه لوعة الحسرات، وتذكر ما كان فيه من النعيم، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد ذبحه في نهاية المطاف إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريباً، فسعى إليه وألقى بنفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه، يا أبتاه، يا أبتاه! انظر إلى الولد وما هو فيه، والدموع تسيل على خديه، وهو قد اعتنق أباه والتزمه، وعدوه يشتد في طلبه، حتى وقف على رأسه وهو ملتزم بوالده ممسك به، هل تقول: إن والده سيسلمه في هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟! فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها إذا فر عبد إليه سبحانه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه، باكياً بين يديه، يقول: يا رب! ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا معين له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك، أنت معاذه وبك ملاذه، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك! كان أحد الصالحين يسير في بعض الطرقات، فرأى باباً قد فتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً أين يذهب؟ فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولم يجد من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام ودموعه على خديه، فخرجت أمه بعد حين فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت بنفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين ذهبت عني؟! من يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني على عقوبتك بخلاف ما جبلني الله عليه من الرحمة بك والشفقة عليك؟! ثم أخذته ودخلت. بل نتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أظلت امرأة من السبي ولداً لها، فلما رأته ألقت بنفسها عليه وأخذت تضمه إليها وتبكي، ثم قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقالوا: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). فالله تبارك وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويرحب بالعائدين إليه، فمن تاب إليه تاب عليه. فعلينا أن نستحضر هذا المعنى جيداً ونحن نستقبل هذا الشهر، ولا تصرفنا المعاصي والشهوات عن الطمع في رحمة الله تبارك وتعالى؛ فإن خزائنه لا تنفد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن) ومعنى هذا أن يكون عندنا علو في الهمة، فإذا طلبت فلا تستعظم على الله شيئاً، بل اطلب ما شئت من الله، فإذا سألت الله فاسأل الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأعظم وأشرف مقام في الجنة.

آيات الرجاء في القرآن

آيات الرجاء في القرآن يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. اختلف العلماء في أي آية في القرآن أرجى، حتى يتعلق بها العصاة ويأملوا في رحمة ويطمعوا في كرم الله عز وجل. ونشير إشارات سريعة إلى اختلاف العلماء في هذا الأمر. قال بعض العلماء: إنها قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] فقالوا: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العين؛ لأن الواو تشمل هؤلاء جميعاً، فهذه أرجى آية في القرآن. ومنهم من قال: إن أرجى آية في القرآن قوله تبارك وتعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال: لأن هذه الآية نزلت في مسطح لما خاض في حديث الإفك، فمنع أبو بكر عنه النفقة، فدلت هذه الآية على أن معصيته بقذف أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها لم تحبط هجرته في سبيل الله، فقالوا: هذه -أيضاً- من آيات الرجاء. ومن العلماء من قال: إن أرجى آية في القرآن هي آية الدين، وهي أطول آية في القرآن، وذلك لأن الله عز وجل أنزل فيها تلك الأحكام الجامعة العظيمة من أجل حفظ حق المسلم ورعاية مصلحته، فدل على أن عناية الله ورحمته بعبده في الآخرة أوسع وأعظم من هذا بكثير. وقال بعضهم: أرجى آية قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام سيشفع فيمن يستحق الشفاعة ويرضيه ربه تبارك وتعالى برحمتهم وإخراجهم من النار.

العزم الصادق على التوبة

العزم الصادق على التوبة يقول عزّ وجل في الحديث القدسي: (من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً)، وقال عز وجل: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). فالضمان الأكيد للتوبة الصادقة هي أن تستوفي الشروط الصحيحة، يقول الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب، فتجب التوبة من كل ذنب، ليس هذا فحسب، بل قال بعض العلماء: تسويف التوبة ذنب تجب التوبة منه. إن من رحمة الله عليك أن سد عليك باب اليأس وقرنه بالكفر، يقول عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] فهو سبحانه يسد عليك باب اللجوء إلى غيره ويفتح لك باب التوبة، ويأمرك بتعجيل التوبة حتى يعجل رحمته إياك. ويقول عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]. ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]. ويقول عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].

شروط التوبة

شروط التوبة الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب فوراً بلا تأجيل، بحيث يكون الانكفاف عن المعصية لله ولوجه الله تبارك وتعالى؛ لأن بعض الناس قد يترك الذنب لعدم القدرة عليه، أو يتركه خوفاً من كلام الناس، أو خوفاً على سمعته وجاهه، أو حرصاً على وظيفة، أو يترك الذنوب بنية حفظ صحته وقوته، أو خشية من الأمراض لا لوجه الله، فهذه لا تسمى توبة ولا يثاب عليها، أو يتركها لأنه صار مفلساً، أو يترك -مثلاً- أخذ الرشوة لأنه يخشى أن يكون هذا الشخص الذي سيعطيه الرشوة من قسم مكافحة الكسب المحرم. فهو لا يتركها لأنها حرام ولا يتركها لوجه الله، لكن يخشى أن يكون هذا مسلطاً عليه. إذاً: فأول هذه الشروط الإقلاع عن الذنب فوراً خشية من الله تعالى لا لسبب آخر. الشرط الثاني: الندم على ما فات، فلابد من أن يندم على ما مضى، أما أن يتذكر ما مضى من المعاصي بفرح وسرور وبدون أي شائبة من الندم فليست هذه توبة. فالندم توبة، فالعاجز المتمني بالقول مثل الفاعل، كما جاء في الحديث في شأن الرجل الذي يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما يعمل فلان، فقال عليه الصلاة والسلام:: (فهما في الوزر سواء). الشرط الثالث: العزم على عدم العودة، فيعزم عزماً أكيداً على أن لا يعود. الشرط الرابع: إرجاع حقوق من ظلمهم، أو طلب الإبراء منهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون ثم دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات). الشرط الخامس: أن تكون التوبة قبل حدوث الموت والغرغرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه). وقال عليه الصلاة والسلام: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه) ومن ثم استحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة التوبة، فصح فيها الحديث: (ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم ويتطهر ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين -في بعض الروايات: لا يسهو فيهما، وفي رواية أخرى: لا يحدث فيهما نفسه، وفي لفظ آخر: يحسن فيهما الذكر والخشوع- ثم يستغفر الله إلا غفر الله له -وفي رواية: إلا وجبت له الجنة-، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]). وهناك حديث -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يناسب المقام: (جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدعم على عصاً حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة -يعني: لا صغيرة ولا كبيرة- إلا أتاها -وفي رواية: إلا اقتطعها بيمينه- لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم -يعني: لأهلكتهم- فهل لذلك من توبة؟ قال: هل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن. فقال: وغدراتي وفجراتي! قال: نعم. قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. فلم يزل يكبر حتى توارى) فرحاً بهذه البشرى منه صلى الله عليه وآله وسلم. فلنبشر جميعاً بتوبة الله عز وجل إذا عزمنا على ذلك والتزمنا بشروط هذه التوبة، ولنهيئ أنفسنا ولنستغفر من الآن بكل ما أمكننا في كيفية استقبال هذا الشهر الكريم؟! وكيف نعمره بطاعة الله، وكيف نصل إلى مرحلة بحيث إذا انتهى رمضان وأخبرت أنك ستموت غداً، تقول: ما بقي شيء أستطيع أن أعمله، قد فعلت كل ما في وسعي. ولنعلم أنه بعدما يخرج رمضان وينقضي يذهب كل التعب والنصب والسهر والعطش والجوع ويبقى الأجر، أما أصحاب اللهو فيذهب اللهو ويثبت عليهم الوزر، والعياذ بالله. فالمقصود أنه ينبغي أن نذكر لهذا وأن نستعد له ونعد له العدة؛ حتى لا نفعل كما يفعل بعض الناس حين يندم على فوات الفرصة ويقول: إن شاء الله تعالى في السنة القادمة سيكون رمضان شهر طاعة وعبادة، وبالنسبة لي سأفعل كذا وكذا. ويسوف. نقول: الأماني هي بضاعة المفاليس والحمقى، لكن نحن الآن على وشك الدخول في شهر رمضان، وهب أن الأيام التي مضت كانت رمضان وكنت مقصراً فيها، فانو من الآن أنه إذا دخل رمضان بعد أيام قلائل فسوف تستعد له أتم الاستعداد. اللهم! أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وبأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

تحرير المرأة

تحرير المرأة إن المرأة المسلمة لها مكانتها في الإسلام، فحين جاء الإسلام رفعها من وحل الجاهلية إلى عز الكرامة والرفعة، فقد كانت توأد في الجاهلية، ولا تعطى ميراثاً، بل كانت تورث كبقية المتاع. ولقد ابتليت المرأة في هذا الزمان بمن يسمون دعاة تحرير المرأة، يريدون أن يسلبوا كرامتها وينزلوها من مكانتها، وقد نتج عن هذه الدعوة فساد الأخلاق وغياب القيم وغير ذلك من المفاسد، ولهذا يجب على كل المسلمين الحذر من هذه الدعوة الهدامة المستوردة من الغرب أعداء الإسلام.

احتفال دعاة تحرير المرأة بمرور مائة عام على تأسيس دعوتهم الهدامة

احتفال دعاة تحرير المرأة بمرور مائة عام على تأسيس دعوتهم الهدامة الحمد لله الذي جعل عز الكافرين بعز التوحيد والإسلام مطموساً، وأذل بقهره منهم أعناقاً ورءوساً، وصرف عن أهل طاعته بلطفه وإسعاده أذىً وبوساً، ورفع كيد شياطين الإنس والجن عن قلوب أهل الإيمان فأصبح عنها محبوساً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وعلى سائر التابعين مقصده، الصابرين من البلاء على أشده. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن هناك بعض مجموعة كتيبات لبعض الصحفيين بعنوان (سنة أولى سجن)، (سنة ثانية سجن) وهكذا، فحق لمحاضرتنا أن يعنون لها (سنة مائة تحرير)، أو بالأحرى (سنة مائة سجن)، أي: السنة المائة من استعباد المرأة وسجنها في هذه الدعوة المشئومة، وهذه هي المرة الأولى التي تحتفل فيها مصر أو أية دولة أخرى بمرور مائة سنة على صدور كتاب، ولم يحصل أن احتفل بمرور قرن على صدور كتاب، وهم يسمونه (الاحتفال بمرور مائة عام على تحرير المرأة) وهذا عنوان غير صحيح، إنما هو على صدور كتاب (تحرير المرأة)، فإذا كان عنوان المحاضرة (تحرير المرأة من البذر إلى الحصاد) فالمفروض أن نرجع قرنين إلى الوراء وليس فقط قرناً واحداً، وبالضبط إلى تاريخ (21/ 10/1798م) حيث كانت البذرة الأولى لتحرير المرأة كما سنبين إن شاء الله تعالى، فأقامت مصر جنازة حارة، أو بتعبير آخر: ذكرى حارة لصدور هذا الكتاب، وانضم عام (1899م) إلى قائمة الأعياد المقدسة في التقويم العلماني، وهو عام صدور كتاب قديس العلمانيين قاسم أمين فتنة الأجيال وداعية السفور في عهد الاحتلال، فهذه ذكرى مرور قرن كامل على بداية الطرح النظري لقضية تحرير المرأة في مصر وفي البلاد العربية، ولكن انتهت من الناحية العملية إلى كونها تغريباً للمرأة، حيث كانت هناك مطالب لإصلاح أوضاع المرأة في ذلك الوقت، لكنها لم تكن في تهور واندفاع قاسم أمين. وفي الحقيقة لقد تكلم كل من أراد أن يتكلم، فليس من الصواب تجاهل هذه القضية، وليس الهدف من الكلام تصفية حسابات مع أناس قد أفضوا إلى ما قدموا فحسابهم على الله سبحانه وتعالى، وإنما الهدف هو تقويم آثارهم التي تركوها، على حد قول الله سبحانه وتعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، لا سيما تلك الآثار التي امتدت بحيويتها وتأثيرها إلى واقعنا المعاصر. ومن الملاحظ واللافت للنظر أنه لم يكن من طقوس هذه الاحتفالية بمرور مائة عام على صدور هذا الكتاب ترتيل وإنشاد الكتاب المقدس لدى دعاة تحرير المرأة؛ لأنه ليس من مصلحتهم أن يتلى هذا الكتاب وأن يتعرف الناس على حقيقة محتوى كتاب تحرير المرأة؛ لأنه ربما لو تلي هذا الكتاب وأعلن للناس فلسوف يفضح مدى رجعية صاحب الجنازة، وسوف يوصف بأنه متطرف بالاصطلاح الحديث، وبأنه أصولي وبأنه رجعي، وذلك إذا قارنا محتوى كتاب (تحرير المرأة) بالتطور الكبير الذي لحق بالمذهب منذ تأسيسه، فـ قاسم أمين في محطته الأولى -أو بتعبير آخر: في المحطة الثانية له وهي كتاب (تحرير المرأة) - يعتبر من المتطرفين، حيث ينطبق عليه وصف التطرف؛ لأن قاسم أمين في كتاب (تحرير المرأة) جعل الكتاب كله يتمحور حول قضية أساسية، وهي كشف وجه المرأة مع احتفاظها بسائر ملامح الحجاب الإسلامي، فكل ما كان يدعو إليه هو كشف وجه المرأة، وكل المعركة التي قامت كانت من أجل أن يقنع الناس بأنه يجوز كشف وجه المرأة، وكان هذا الاعتقاد والتمسك بالحجاب الكامل للمرأة المسلمة بكل أبعاده وبكل معانيه ملمحاً رئيسياً في الهيئة الاجتماعية لمصر في ذلك الوقت، حتى كتب حافظ أمين معاتباً المصريين في شدة تمسكهم بالنقاب وبالحجاب الكامل للمرأة قائلاً: فلو خطرت في مصر حواء أمنا يلوح محياها لنا ونراقبه وفي يدها العذراء يسفر وجهها تصافح منا من ترى وتخاطبه وخلفها موسى وعيسى وأحمد وجيش من الأملاك ماجت مواكبه وقالوا لنا رفع النقاب محلل لقلنا صحيح ولكن نجانبه فلا شك أن هذا الشعر يعكس مدى شدة تمسك المصريين مع التجاوز عما يحتويه هذا الشعر من أمور فيها نظر، وقبل أن نستطرد في الموضوع فلو أراد أحد أن يحبط دعوة قاسم أمين وأن يثير ضدها أشنع دعاية وجهت لها على الإطلاق لما استطاع أن يحبط هذه الدعوة وأن يفضحها وأن يدمرها بمثل ما حصل في هذا المؤتمر الأخير الذي أقيم في ذكرى مرور مائة عام على تحرير المرأة. وباختصار: إذا أردنا أن نختزل هذه الرحلة التي امتدت لمسافة قرن وكانت بدايتها البذرة أو البذور التي سنذكرها فإن نهايتها وحصادها الذي جوهر به علناً جهاراً نهاراً في هذا المؤتمر هو أسوأ دعاية لدعوة تحرير المرأة، وبلغ من قبح هذه الدعاية وشؤم هذا الحصاد أن الذين تولوا الرد على ما حصل في هذا المؤتمر أناس كثيرون لا علاقة لهم بالمتطرفين ولا بالأصوليين، بل هم أناس من عامة الناس، حتى من الصحفيات المتبرجات، فهذه واحدة من الصحفيات في صحيفة الأهرام كتبت تقول: إن المرأة لا تحتاج إلى قاسم أمين، ولكنها تحتاج الآن إلى من يعلمها أن الدين كله حياء وغير ذلك مما سوف نذكره. وأحد هؤلاء الأساتذة -وهو أستاذ الأدب الانكليزي في جامعة القاهرة الدكتور محمد يحيى - يقول: إن الضجة التي نصبت لذكرى كتاب (تحرير المرأة) وتحويل هذا النص إلى عمل مقدس تخفي الحقيقة وتموه على تاريخ مؤلم وطويل من فرض خطاب علماني ومتغرب النزعة على الأمة بالقوة -يعني: لم يتم اختيار هذا المنحى بمحض الإرادة الحرة للمسلمين أو المسلمات- ليكون خطاب قمع وممارسة قهر ضد دينها وضد رجالها، ولكن ليس لصالح نسائها. يعني أنه في الحقيقة ليست دعوة تحرير المرأة لصالح النساء؛ لأنهم يدأبون على تقسيم الناس إلى قسمين: من وافق أهواءهم فهذا صديق المرأة، ومن خالف أهواءهم فهذا عدو للمرأة أياً كان، فما دام يخالف دعواتهم فإنه عدو للمرأة، وكان هذا التقسيم فعلاً رائجاً في وقت من الأوقات، وكان يتم تمييز الرجال والأدباء والمفكرين هذا عدو وهذا صديق على أساس موقفه من هذه الدعوة المشئومة. يقول: فالحقيقة أن هذا المذهب الذي فرض على الأمة المسلمة لم يكن لصالح نسائها على عكس ما يزعم له من أنه خطاب تحرير وخلاص وانعتاق، بل هو خطاب يزعم التحرير ويمارس القمع قولاً وممارسة، وهو خطاب يزعم تحقيق الخلاص، لكنه يحقق العبودية في الفكر وفي الممارسة وصولاً إلى العمالة الصريحة للقوى التي تنظم الاحتفال بالتحرير. انتهى كلام الدكتور محمد يحيى.

موضوع المرأة مرتبط بالعقيدة

موضوع المرأة مرتبط بالعقيدة وقبل أن نستطرد -أيضاً- نريد أن نبين وبمنتهى الصراحة والوضوح أننا من البداية عندما نناقش هذا الموضوع أنه لا ينفصل على الإطلاق من عقيدتنا وتمسكنا ورضانا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، فليست المسألة في موضوع المرأة مسألة قديم وجديد، وتطور وتخلف، بل القضية قضية إسلام وكفر، هدى وضلال، حق وباطل، وحي وهوى؛ فإنه لا يقابل الوحي إلا الهوى، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فالوحي يقابله الهوى، فهي إما هوى وإما وحي، أما أن نَّدعي الإسلام ونتستر وراء الإسلام ثم ننخر في جسد الإسلام ونحور ونغير مفاهيمه، فهذا غير مقبول؛ فإن كان لا يعجبك الإسلام فدعه وشأنه، ولك ما شئت، قال تعالى: {فمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، أمّا أن يدّعوا الإسلام ثم يحاولوا أن يسوغوا ضلالاتهم وانحرافتهم باسم الإسلام فهذا ما لا ينبغي أن يقبل أبداً. وأيضاً عند تناول هذه القضية -كما قلنا- يجب أن نعلم أنها قضية لها ارتباط بعقيدتنا، ولابد من أن نعلم أن هذا القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الإسلام حق، وأن ديننا هو الإسلام، وأن ربنا هو الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى أرحم بنا من أنفسنا، وأن الله يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وبناءً على كل هذه المسلمات نحن نقبل على الشرع بغاية الثقة في أنه يريد لنا الخير في الدنيا وفي الآخرة، وأننا ممتحنون في كل موقف وفي كل اعتقاد وفي كل تصرف، وممتحنون بموقفنا من هؤلاء: هل نواليهم في الله أو نبغضهم في الله، أم غير ذلك؟ ونرفض أيضاً النبرة الاعتذارية واللهجة التبريرية حين نناقش أمثال هذه القضايا، سواء قضية المرأة أو غيرها؛ فإن بعض المنهزمين يقبلون مبدأ أن الإسلام موضوع في داخل قفص الاتهام، وأنهم يقومون بالدفاع عنه دفاعاً هزيلاً ضعيفاً منهزماً، فهم يقرون أن الموضوع الفلاني كأنه تهمة، وأن الإسلام فعلاً أدخل القفص وأغلق عليه، وهم يدافعون كمحامين، ونحن لا نقبل هذا المبدأ على الإطلاق، هذا يمكن أن يصلح بين دين باطل ودين آخر باطل، وفي المذاهب الأرضية مع بعضها، أما بين الإسلام الحق الذي لا حق غيره في الوجود، والذي كل ما عداه كفر وبين غيره فلا، ولا نجعل هذا موازياً لذاك أو هذا سواسية مع ذاك، فهذا كمبدأ هو مبدأ مرفوض. فالقضية هي أن أحكام الشرع نازلة من عند الله، ومن طعن فيها فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً له من الملة، ولا نقاش في هذه البديهية، فنبرة الاعتذار ونبرة (من أجل أن يقولوا عنا: إننا معتدلون. ونحوز رضاهم، ونحوز كذا وكذا) غير مقبولة، ويجب أن يرفض مبدأ التنازل في مقابل أي شيء آخر، فلا مساومة ولا أنصاف حلول، ولكن ثقة في حكم الله سبحانه وتعالى وانقياد له؛ لأن هذا هو معنى الإسلام، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وأذكر هنا ما رواه الشعبي حينما قال: (لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان رضي الله عنه، فقال: ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علامَ تبايعني؟ فقال أبو سنان: على ما في نفسك)، فهو لا يطلع على ما في نفس النبي عليه السلام، ولكنه الانقياد والاستسلام والإذعان لشرع الله سبحانه وتعالى مهما كان أمر الله، فما دام الأمر صادراً من الله فلا نقاش، وينتهي الخيار تماماً، وهذا هو شأن المؤمن، أما المنافقون والزنادقة فلهم شأن آخر.

افتعال قضية المرأة وعدم وعي كثير من المسلمين

افتعال قضية المرأة وعدم وعي كثير من المسلمين نحن في قضية المرأة نحارب في المعركة، وقد زُجَّ بنا في معركة لا تخصنا من بدايتها إلى نهايتها، فهي معركة لا علاقة لنا بها في الأصل؛ لأن الإسلام ما ظلم المرأة، وما استعبد المرأة حتى تطالب بتحرير الحجاب، وليس الرجل الذي يعتبر عدو المرأة هو الذي فرضه عليها، ولكن الذي فرضه عليها هو الله سبحانه وتعالى خالقها، فما أكثر ما حارب المسلمون في معارك لا تخصهم وزج بهم فيها وهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل! وقد رأينا من قبل مئات الآلاف من المسلمين يجندون في الجيش البريطاني من مسلمي الهند وبدو الجزيرة العربية والأردن وسوريا في أثناء ما يسمى بالثورة العربية للشريف حسين، فكان الآلاف من المسلمين مجندين تحت قيادة الإنكليز يحاربون إخوانهم المسلمين الأتراك بزعم الثورة العربية الكبرى، وكان يفتخر لورانس بأنه قتل الآلاف من العرب في سبيل بريطانيا في حين أنه لم تنزف قطرة دم واحدة من جندي انكليزي، وكان يفخر بأنه فعل هذا لوطنه؛ لأنه أراق دماء مئات الآلاف من العرب، ولم ترق قطرة دم واحدة من جندي إنكليزي في سبيل بريطانيا، ومع ذلك نحن نرى اليوم رجالاً ونساءً يحاربون في مدارس الفكر الغربي وهم في الحقيقة يحاربون دينهم دون وعي منهم. وهذه المعركة المفتعلة ضد الرجل في قضية المرأة هي كما ضرب مثل أن رجلاً جاء في وسط الليل إلى أبرز شارع في العاصمة المزدحمة، ثم أتى بكم كبير من الأنقاض وفرغه في هذا الشارع أو في هذه الساحة، ثم صنع منه تلاً عالياً، ووضع على رأسه مصباحاً، فقال له الناس: لمَ أتيت بهذه الأنقاض؟ قال: لأرفع عليها المصباح، قيل له: لماذا تضع المصباح؟ قال: كي لا يصطدم الناس بالأنقاض! فالقضية أصلاً هي قضية مفتعلة، فإن المرأة ما عرفت ذلاً من الإسلام، وهناك انحرافات تقع في الواقع البشري في كل أمة وفي كل عصر وهي في الحقيقة ترجع إلى الانحراف عن الإسلام، وما سبب الإسلام أبداً أي مشكلة، ولا يمكن للإسلام أن يسبب ظلماً، ولا يمكن أن يصدق هؤلاء الدجالون العملاء الذين يزعمون أن الرجل عدو المرأة، فالرجل المسلم عدو أي مرأة؟ وأي امرأة هي التي يعاديها؟ هل هي أمه؟ أو أخته؟ أو بنته؟ أو زوجته؟ هذه هي المرأة بالنسبة لأي رجل، فلمَ يعاديها؟! وهل يؤتمن أحد على المرأة كما يؤتمن الأب الحاني أو الأخ الشفيق أو الزوج الرحيم أو الابن البار؟! وبعض الناس يمارسون موقفهم في هذه القضية ويتفاوتون، فبعضهم يمارس الفن المتلون الحربائي، ويراوغ ويلف ويدور ويقول لك: هذا هو روح الإسلام، ولا ينبغي أن نجمد عند النصوص، وإنما ننظر إلى روح هذه النصوص. وعلم الله أنهم ما يريدون إلا إزهاق روح هذه النصوص، ويقولون: الإسلام دين السماحة، لكنكم أنتم بعقولكم الذين تشوهون جماله. إلى آخر هذا الدجل الذي يروج على السذج. وبعضهم يكونون في غاية الصراحة، وهذا هو الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين الصحفي المعروف، فإنه في يوم من الأيام كتب: لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيداً عن اللف والدوران، وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيماً خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير، وأما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل ومن باب تنظيم حياة نزلت في مجتمع بدائي إلى حد كبير، ومن ثمَّ فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا!! إنها صراحة يحسد عليها في الحقيقة. وكذلك الرجل الذي جهر في جريدة الأهرام أثناء موضوع عباد الشيطان، حيث قال: بقدر ما أنا ضد الحجاب أنا ضد عبدة الشيطان! ونقول: بل أنت من عبدة الشيطان. فهم يتصورون أن عبادة الشيطان تقتصر على ما يفعله هؤلاء الشباب من طقوس عبادة الشيطان والأشياء التي فعلوها، والحق أنك إما أن تعبد الرحمن وإما أن تعبد الشيطان، ولا يوجد حل وسط، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، فكل من عبد غير الله فقد عبد الشيطان، وكل من صد عن سبيل الله فقد عبد الشيطان.

معنى الحرية والتحرير

معنى الحرية والتحرير وقبل أن نستطرد في الكلام في هذا الموضوع وذكر التاريخ من البذرة إلى الحصاد لابد لنا من وقفة مع كلمة (الحرية والتحرر)، فإنه يكثر الكلام في زماننا عن كلمة (الحرية والتحرير)، وكلمة التحرر هي الكلمة الرنانة والمحببة إلى النفس، ويدعي كثير من النظم والهيئات أنها تحقق الحرية، أي: حسب فهم كل لمبدأ الحرية. والإنسان فقير بذاته يتطلع بفطرته إلى الخضوع والذل والعبودية لخالقه وفاطره الغني بذاته سبحانه وتعالى، فالعبد من حيث كونه عبداً لابد أن يشعر بحاجة إلى هذه العبودية، وفيه شعبة لا يمكن أن يسدها إلا الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والفقر وصف ذات لازم لي أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي فالإنسان السوي المستقيم على الفطرة لا يستقيم حاله ولا يطمئن قلبه إلا إذا أوى إلى مولاه، وطرح نفسه على عتبته، وأمعن في العبودية الخالصة له عز وجل دون سواه، والعبودية لله عز وجل هي أرقى مراتب الحرية؛ لأن العبد إذا تذلل إلى مولاه وحده فإنه يتحرر من كل سلطان، فلا يتوجه قلبه ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السماوات والأرض، ولابد للإنسان من العبودية؛ إذ لا يمكن أن يوجد إنسان ليس عبداً، بل لابد من عبودية، فإن وضع العبد العبودية موضعها بأن عبد الله سبحانه وتعالى فهذه أشرف العبودية، وهذه أرقى درجات الحرية على الإطلاق، فإن لم يضع العبودية موضعها فإنه حتماً يتلطخ بالعبودية لغير الله عز وجل من الأنداد والشياطين، والمسلم يتحرر بإسلامه من سيطرة الهوى والشهوة والسلطان، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. إذاًَ هذه حرية في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تحرر حقاً إلا بتحقيق هذه العبودية، فإذا وضعت العبودية في موضعها تتحقق لك الحرية، وإلا كنت عبداً لعبيد مثلك، ونحن نعرف الشعار الذي رفعه الصحابة رضي الله تعالى عنهم حينما فتحوا البلاد، فلما سئل ربعي بن عامر من قبل قائد جيش الفرس حيث قال له: ما جاء بكم؟ قال: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. فهذا هو شعار هذه الدعوة وهذا الفتح (إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه وتعالى)، فالحرية في غير الإسلام تصبح جوفاء لا معنى لها، بل هي العبودية المذلة المهينة، حتى لو بدت في صورة الحرية، فالخضوع للطواغيت وللمناهج والقوانين التي بنيت على ما تهواه الأنفس بعيداً عن تشريع الخالق جل وعلا إنما هو عبودية لغير الله، كما يقول الشاعر: هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق الكفر والشيطان فإن لم تضع العبودية والرق في موضعه الصحيح -وهو العبودية لله- فلابد أن تبتلى برق الكفر والشيطان، فمفهوم العبودية لله في الإسلام هو الحرية في أرقى صورها وأكمل مراتبها. والعبودية لله إذا كانت صادقة فإنها تعني التحرر من سلطان المخلوقين والتعبد لهم، فالمسلم ينظر إلى هذا الوجود نظرة صاحب السلطان، فإن الله خلق كل ما فيه من أجلنا وسخره لنا، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، وما دام الأمر كذلك فالمسلم لا يمكن أن يخضع لمخلوق من المخلوقات في هذا الكون، ولا يعبدها؛ لأنها مسخرة له. إذاً فهي أقل منه شأناً، وهي مخلوقة لنفعه وصلاحه، والمسلم أيضاً لن يستعبده إنسان مثله؛ لأن الناس جميعاً عبيد الله، فإن حاول بعض المتمردين من بني الإنسان أن يطغى ويبغي وقف المسلم في وجهه يقول كلمة الحق ويذكره بأصله الذي منه خلق، ومصيره الذي لابد له منه، ويذكره بضعفه وعجزه عله يفيق أو يرجع، وبالعبودية لله يتحرر الإنسان من أهوائه، فالهوى شر وثن يعبد، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فالهوى قد يُجعل إلهاً معبوداً يسيطر على نفس صاحبه فلا يصدر إلا عن هواه، ولا يسعى إلا لتحقيق ما يبعثه إليه، فالإسلام يعتبر الخضوع لأهواء النفس التي تدعو إلى المحرمات والآثام عبودية لهذه الأمور. أما الالتفات عما تدعو إليه النفس من المحرمات حتى لو كانت النفوس تميل إليها فإنه يمثل في الإسلام الحرية الحقة؛ لأنه وإن قيدت حريته من جهة بأن ألزم بترك بعض ما يشتهي إلا أنه تحرر من سلطان الهوى من جهة أخرى، وانظر إلى تحرر المسلم أثناء الصيام من عبوديته للشهوات، مع أنها حلال، لكن الله حرم عليه الماء، حتى الماء صار حراماً على الصائم، وكل ما أحل الله سبحانه وتعالى يدعه المسلم في نهار رمضان؛ لأنه تحرر من أن تستعبده هذه الشهوات. فالذين يزعمون أنهم يستطيعون تحقيق مبدأ الحرية بعيداً عن الله سبحانه وتعالى وعن دينه مخطئون؛ لأن كل مخلوق سيبقى عبداً شاء أم أبى، إلا أنه إن رفض الخضوع لله اختياراً فسيخضع لمخلوق مثله لا يملك له نفعاً ولا ضراً، بل قد يخضع لمن هو أقل منه شأناً، فيكون استبدل عبودية بعبودية، ولم يخرج من العبودية إلى الحرية، بل خرج من عبودية الله إلى عبودية الطاغوت وثناً أو صنماً أو بشراً أو شمساً أو قمراً، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60]، فمما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى به جزاء تكذيبهم أن جعلهم عبيداً للطواغيت بعد أن كانوا عبيداً لله. ويزعمون أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت الحرية وأن هيئة الأمم المتحدة أقرت الحرية مبدأً، وليس الأمر كذلك؛ فإن ما فعله هؤلاء هو أنهم أخرجوا الناس من عبودية نظام وقانون وطائفة إلى عبودية نظام آخر وقانون آخر وطائفة أخرى، فالذين خرجوا من الشيوعية خرجوا إلى عبودية من نوع آخر، ولم يخرجوا من عبودية إلى حرية، فهم بقوا عبيداً وإن ظنوا أنفسهم أحراراً، ولن يحررهم من سلطان البشر ويخلصهم من العبودية الظالمة إلا أن يكونوا عبيداً لله يقصدونه وحده، فعند ذلك يتحررون من سلطان الآخرين حتى من أهواء أنفسهم التي تتردد في أجسادهم، فأخرجوا الناس من ظلمات متراكمة إلى ظلمات أشد، ومن عبودية إلى عبودية، ولن يكون من مخلص من العبودية لغير الله إلا بالإسلام، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، فكل من لم يرض بالإسلام ديناً وبحكمه حكماً فإنه غارق في قاذورات الجاهلية وأوحالها، والذين يرفضون أن يكون الله معبودهم فإنهم يوهمون أنفسهم بتعبيدها لمخلوقات أقل منها شأناً وأحقر منزلة، وهم في ذلك يهينون هذه النفوس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). وبالنسبة لهؤلاء الذين أطلقوا هذه الكلمة (تحرير المرأة) ومنهم قاسم أمين فإنه كان يقصد بذلك الإشارة إلى أنه يرى المرأة في حالة استعباد، وأنه أتى ليحررها من هذا الرق وهذا الاستعباد، كما سنرى إن شاء الله تعالى. ولو نظرنا في معنى مصطلح التحرير لرأينا أنه يترجم أحياناً إلى (ليبريشن) أو (إيمانسفيشن)، والاصطلاح الشائع في العالم كله بالنسبة لقضية تحرير المرأة هو اصطلاح: (إيما نسفيشن)، و (إيمانسفيشن) يساوي العتق، وليس التحرير، فالتحرير كلمة أعم، لكن الإيمانسفيشن هو المصطلح الذي يعبر عن تحرير المرأة بالعتق، فانعتاق المرأة أدق في تصوير المرأة المسلمة على أنها عبدة، وأنه مطلوب تحريرها بنفس المعنى الذي سوف نستنتجه من القصة التالية. فقد كان بشر -المشهور بـ بشر الحافي - في زمن لهوه في داره وعنده رفقاؤه يشربون ويطربون، فاجتاز بهم رجل من الصالحين فدق الباب عند أن سمع أصوات اللهو والمعازف، فخرجت إليه جارية فقال لها: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فقالت: بل حر. فقال: صدقتِ؛ لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب. فاستمع بشر محاورتهما فسارع إلى الباب حافياً حاسراً -حافي القدمين حاسر الرأس- وقد ولى الرجل، فقال للجارية: ويحك! من كلمك على الباب؟ فأخبرته بما جرى، فقال: أي ناحية أخذ الرجل؟ فقالت: ناحية كذا. فتبعه بشر حتى لحقه، فقال له: يا سيدي! أنت الذي وقفت بالباب وخاطبت الجارية؟ قال: نعم. قال: أعد علي الكلام. فأعاده عليه، فمرغ بشر خديه على الأرض فقال: بل عبد. بل عبد، ثم هام على وجهه حافياً حاسراً، حتى عرف بالحفاء فصار لقبه: بشراًً الحافي، فقيل له: لمَ لا تلبس نعلاً؟ قال: لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ، فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات. الشاهد من القصة قول الرجل للجارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ قالت: حر. فقال: صدقتِ؛ لو كان عبداً لخاف من مولاه. أو كما قال، يعني: لو كان محققاً معنى العبودية. فهؤلاء يريدون أن نكون أحراراً بهذا المعنى الذي هو التحرر من شرع الله ومن أوامر الله عز وجل، والخروج من عبودية الله إلى عبودية كفار الشرق وكفار الغرب، فالحقيقة أن هذه العبودية هي مما يفخر به المسلم. ففعلاً إنهم يريدون تحرير المرأة من عبوديتها لله، وهذه هي حقيقة دعوة قاسم أمين والشاذلي ومن استنوا بسنتهما، فنحن نفخر بأننا عبيد لله سبحانه وتعالى، كما يقول الشاعر: ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا والرسول صلى الله عليه وسلم أشرف صفة رفعت مقامه عند الله هي إمعانه في اتصافه بالعبودية، ولذلك فإن أعظم مديح تمدح به رسول الله عليه السلام أن تقول: عبد الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، ولما ج

أهداف دعاة تحرير المرأة، وذكر بعض أقوالهم

أهداف دعاة تحرير المرأة، وذكر بعض أقوالهم سنسلك مسلك من يبدأ من الأخير، وبعد ذلك الذاكرة ترجع وتأتي من البذرة، فسنبدأ بالحصاد ونقول: إن الإنسان أول ما يقرأ ردود الأفعال بشأن المؤتمر الأخير هذا -مؤتمر مائة عام على تحرير المرأة العربية- فأول كلمة يقولها الإنسان: آمنت بأن الله سبحانه وتعالى حليم صبور فلولا حلم الله سبحانه وتعالى لاندكت الأرض من تحتنا؛ لأن الإلحاد والكفر قد وصل إلى هذا المدى، والله سبحانه وتعالى حليم يعطيهم فرصة ويمهلهم لعلهم يتوبون ولعلهم يستعتبون، وكم كانت الحياة سعيدة هادئة مريحة قبل هذه الحركة النسوية المشئومة! وهذا المؤتمر انعقد ما بين (23 - 28 أكتوبر) يعني لمدة ستة أيام، عقد خلالها أكثر من ستين ندوة ومائة مائدة ومائدة مستديرة وجلسات شهادة، وحين تقرأ كلامهم تحس أن المتكلم حاقد على الدين حاقد على الإسلام. وقد أتت شاذات الآفاق من هؤلاء النسوة المنحلات، أتين من الشام ومن المغرب، ومن الشمال ومن الجنوب، أتين ليصفين حسابهن مع الإسلام ومع دين الله عز وجل! والحقيقة أنه تصدى لهن في المؤتمر ناس عاديون ليسوا متطرفين مثلنا، وبالعكس، فلقد قامت واحدة من الصحفيات وهي متبرجة تماماً في غاية التبرج فكتبت في الأهرام الأدبي تنتقد هذا المؤتمر؛ لأن الصاع اشتط والكيل طفح، إلى حد أن هؤلاء الذين لا يتهمون بالتطرف ولا بالأصولية ما أطاقوا هذا الفجور وهذا الانفجار. وقد كان هناك مؤتمر حصل أيضاً في اليمن قريباً، وكان عن جندرة اللغة، وجندرة اللغة يبدو من السياق أنهم يريدون بها عملية تأنيث اللغة، ويتهمون اللغة العربية بأنها منحازة للرجال، ووصل الإلحاد بإحدى الملحدات الكافرات من اليمنيات الخبيثات إلى أنها -والعياذ بالله- قالت كلاماً شنيعاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا في حكايته، لكن وصل إلى حد أنها تريد التعبير عن الله سبحانه وتعالى بغير لفظ (هو)! فرد عليها رئيس تحرير جريدة (عقيدتي) التابعة للحزب الوطني وغضب غضباً شديداً ووقف واعترض اعتراضاً شديداً، فهذا الإلحاد هو الحصاد! وقد كان الناس من زمن يكتبون ويقولون: سوف يحصل. والعلماء لما تصدوا لـ قاسم أمين كانوا يقولون: سدوا الذرائع. لأنهم أشفقوا من المستقبل، فكانت هذه الأمور متوقعة، أما الآن فنحن رأينا الحصاد ولمسناه بأيدينا. وقد حاول أحد الصحفيين أن يحتج بالنصوص الشرعية، وأن يذكرهم بقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، وبأحكام الحجاب وتطبيق الشريعة، فهاجمه الفنان التشكيلي عدلي رزق الله ووصفه بالجحش، وأنه جاهل؛ لأنه يستدل بآيات قرآنية! وقد هاجمت سلوى بكر تطبيق الشريعة في السعودية قائلة: إن محاولة إرهاب المواطنين -الحدود أصبحت إرهاباً- بقطع اليد عقاباً على السرقة وجلد الزاني والزانية هي أمور رجعية لم تعد صالحة لهذا العصر! وأتحدى أن يأتوا بعالم واحد على وجه الأرض لا يكفر من يقول هذا. والكاتبة الكويتية ليلى العثمان كانت هناك تعليمات بعدم التدخين فلم تستطع أن تستحمل وهي على المنصة، فأشعلت أول سيجارة وتبعها الباقي على هذه السنة، وقد كانت تحاكم في الكويت بتهمة الفجور والخروج على الأدب، فقالت: إن من حق المرأة أن تكتب عما يتعلق بالفواحش والسياسة والدين كما يفعل الرجل تماماً! وهذا الدكتور جابر عصفور يقول: الحجاب مسألة ثانوية لا نشغل أنفسنا بها، ومن حق المرأة أن تختار ما تريد بدون ضغط عليها! وهذا الدكتور محمد حافظ ذياب يقول: الحجاب أنواع: هناك الحجاب السلفي، والحجاب التكفيري، والحجاب الإخواني، هذا الحجاب يتعامل مع الجسد باعتبار أنه خطيئة، ويقول: إنه حجاب واسع فضفاض داكن يلائم كل الأغراض السياسية والاجتماعية، وأحياناً يتم استخدامه لتخبئة السلاح! وأنا حقيقة أختزل الكلام ولا أذكره بالنص؛ لأنه يوجد كلام لا أقوى على النطق به؛ لأنه كلام إباحي إلى أقصى مدى! وقد طالبت حياة الحضري -وهذه حذفت كثيراً من كلامها- بإلغاء إذن الزوج لسفر المرأة أو عملها، وإلغاء حق التأديب، والمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، وبين الزوج والزوجة ونحو ذلك!

المشكلة الحقيقية لدعاة وداعيات تحرير المرأة

المشكلة الحقيقية لدعاة وداعيات تحرير المرأة أقول: فتش عن العقد في حياة محررات المرأة فستجد أن المشكلة بالنسبة لهنَّ أنهن أفلسن ولم يفلحن في الحصول على رجل، هي هذه كل مشكلاتهن في كل الأجيال، فهو عبارة عن ثأر مبيت نتيجة ظروف في الغالب. وأنا أتكلم بتفصيل أكثر، وبالذات عن نوال السعداوي، فإنها بعثت من أمريكا -حيث تقيم الآن- رسالة للمؤتمر تقول فيها: مع تصاعد القوى السياسية الدينية في بلادنا اشتدت القيود على النساء. أي أنها تتهم الحكومة هنا بأنها متواطئة مع التيارات الإسلامية لتقييد حرية المرأة، وأن هناك خطة بين الاثنين من أجل هذا الأمر. وتقول: انتشرت ظاهرة التدين بين الرجال، وظاهرة الحجاب بين النساء، واشتدت عمليات التخويف من عذاب القبر والحرق بالجحيم وتعليق المرأة من شعرها يوم القيامة إن خالفت الله أو الأب أو الزوج! وهذا الدكتور شريف حتاتة يقول: إن الأصولية والعولمة والحداثة ضد تحرير المرأة؛ حيث إنها تتفق على أن المرأة جسد فقط دون عقل. وهذه الدكتورة نجلاء القليوبي تعلق على مطالب المؤتمرات وتقول: إنهن يطالبن بنوع آخر من الاستعباد، نوع تافه وهزيل. تعني: أنتم لا تريدون تحرير المرأة، بل أنتم تريدون استعباد المرأة ثم تقول: إن من أحلى ما سمعته من صديقة ارتدت الزي الإسلامي عندما سألتها: ما هو شعورك لما تحجبت؟ قالت: شعرت بالحرية.

دور أعداء الإسلام في الدعوة إلى تحرير المرأة

دور أعداء الإسلام في الدعوة إلى تحرير المرأة أذكر بالمناسبة قصة أخت أمريكية فاضلة تدعى حالياً شريفة كارلو مشهورة جداً الآن في النشاط الإسلامي، هذه المرأة أصلاً كانت شابة صغيرة تدرس في أمريكا، وكانت متحمسة جداً لدعوة تحرير المرأة وحقوق المرأة، فالتقطها مجموعة من الناس، تقول عنهم: إنهم موظفون ولهم مناصب كبرى في الحكومة الأمريكية. قالت: وبينهم عداوات شديدة جداً، ومختلفون على كل شيء إلا على شيء واحد فقط هو تدمير الإسلام والقضاء على الإسلام، فأتاها واحد من كبراء ووجهاء هذه المجموعة التي لها مناصب عالية في الحكومة الأمريكية وقال لها: نرى عندك كفاءة وهمة ونشاط وتحمس لقضية المرأة، وأنا أعدك إذا سلكتِ مسلكاً معيناً في الدراسة وتأهلت أعدك بمنصب في السفارة الأمريكية في القاهرة؛ لتذهبي بعدما تتأهلين لتعملي هناك وترتبطي بالداعيات إلى تحرير المرأة هناك وترفعي مطالب شأن المرأة إلى آخره. فهذه الأخت اجتهدت جداً في الدراسة حتى إنها حصلت تحصيلاً عالياً جداً في اللغة العربية وفي التاريخ الإسلامي وفي الفقه وفي القرآن وفي الأحاديث، وعلموها كيف تلوي الأدلة -كما تقول هي- وكيف تدخل الشبهات على المسلمين، وكيف تقنعهم بأن الإسلام ظلم المرأة، إلى آخر هذه الأشياء المقررة. وأثناء الدراسة بدأ الإسلام يغزو قلبها كما هو شأنه مع كثير ممن يحاولون قهره فيقهرهم، فبدأ الإسلام يغزو قلبها، أو بتعبيرها: باتت تهتز لما تعاملت مباشرة مع أحكام الإسلام وجمال الإسلام وشرائع الإسلام، فخافت على نفسها، فقالت: أنا هكذا سأفقد ديني، فأنا سأعالج الموضوع هذا بأن أذهب إلى متخصص في اللاهوت -قسيس- ويعلمني العقيدة ويثبت عقيدتي، فذهبت إلى دكتور في اللاهوت من جامعة هارفرد في أمريكا، وعنده دكتوراه في اللاهوت، ومتخصص في الدراسات النصرانية اللاهوتية، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الرجل ينتمي إلى فرقة معروفة، لكنها تكاد تكون مندثرة، وهي فرقة الموحدين من النصارى، وهؤلاء الموحدون لم يدخلوا في الإسلام، لكنهم مقتنعون تماماً بأن عيسى مجرد نبي، وأنه لم يصلب، وأنه لا يوجد ثالوث ولا شيء من الكلام هذا كله، لكنهم لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام، فوجدت أن له دراسات كثيرة جداً عملها في النصوص، وأنه فقد الثقة تماماً بالتراجم الموجودة للإنجيل والتوراة، فبحكم تخصصه في دراسة النصوص باللغة الأصل -وهي اللغة الآرامية، واللغة العبرية، واللغة اليونانية التي كان يترجم إليها الإنجيل وهذه الكتب- اطلع على نصوص فعلاً أثبتت التحريف القطعي في الكتب الموجودة عندهم والمترجمة. تقول: ما أن انتهيت من المقرر الذي درسته معه حتى أزال من قلبي آخر بقايا العقيدة النصرانية. أي أن الإسلام قضى في الأول عليها قليلاً وهو أجهز على كل ما عندها وغسل دماغها تماماً من أي ارتباط بهذه العقيدة، حينئذ بدأت تتصل بالمراكز الإسلامية في أمريكا، وتراسل بعض الإخوة هناك ويراسلوها، وتعاملوا معها، وفي يوم من الأيام اتصل بها أحد الإخوة من مدينة أخرى وقال لها: هذه الليلة سوف يحضر مجموعة من الإخوة المسلمين أرجو أن تقابليهم، وأظنهم حوالي عشرين أخاً ذهبوا إلى هنالك، وكان معهم عالم باكستاني متخصص جداً في هذا المجال وعلى علم كبير. تقول: رأيت عنده علماً لم أره عند أحد، وظل يناقشها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وبعدما أجاب عن كل أسئلتها وانشرح صدرها تماماً قال لها: لماذا لا تدخلين في الإسلام؟ ففوجئت بالسؤال، وقالت: إني كثيراً ما جودلت وعلمت حتى شتمت، ولكن لم يقل لي أحد: ادخلي في الإسلام. فتقول: صادفت هذه الكلمة وقت انفتاح قلبها للهداية، فشهدت الشهادتين في الحال، والآن اسمها: شريفة كارلو من أنشط الداعيات على مستوى العالم إلى الإسلام، ولها مقالات في الحجاب، وأنا أذكر لها مقالة باللغة الإنجليزية، ترجمت عنوان المقالة: بمجرد ما غطيت رأسي تفتح عقلي. أي أنها رأت النور ورأت الهداية بمجرد أن تغطت، لكن هؤلاء الدجالين يقولون: إن الحجاب حجاب على العقل، وإن الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها جسد فقط إلى آخر هذه الترهات. ولها مقالات كثيرة، والعجيب أني رأيت لها مقالات تتكلم فيها على أنواع التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، ومقالة أخرى في الشرك وكيف ظهر في العالم، وتتكلم على قصة طروء الشرك في عهد نوح عليه السلام، وأن سببه الغلو في الصالحين، وتنقل نقولاً باللغة الإنكليزية، وتقول: شيخ الإسلام ابن تيمية قال كذا وكذا؛ لأنها تضلعت من العلوم في أثناء فترة دراستها، فإنها تضلعت من هذه العلوم حتى تطعن في الإسلام في الصميم، والحقيقة أن هذا أنموذج من النماذج التي تبين كيف أن الله سبحانه وتعالى يفتح لهذا الدين قلوب الناس. وكما قلت: كتبت صحفية في الأهرام -وهي متبرجة تماماً- تستنكر قلة حياء المحاضرات، وتقول: على المرأة بعد مائة عام تحرير أن لا تطالب بـ قاسم أمين جديد، إنما بمن يعلمها الدين الذي كله حياء. وقد تفوهت كثيرات بعبارات تخدش الحياء، وبكلام قبيح للغاية، حتى قال سامح كريم في صحيفة الأهرام: هل كان الفيلسوف الألماني شوفن هاور على حق حين قال: إن الرجل أكثر حياء من المرأة؟ فبلا شك أن الرجل أكثر حياءً من أمثال هؤلاء النسوة. وكالعادة ليس من الممكن أن يفوتهن أنهن يشددن ثياب بعض وشعور بعض، وقد تشاجرن على المنصة وصرخن، حتى صرخت إحداهن في الجلسة الأولى بأعلى صوتها قائلة: نحن نريد قاسم أمين جديداً يحرر المرأة من المرأة! فالحقيقة أن المجتمع قفز من مرحلة كان الناس فيه يذمون المرأة ويقولون عنها: هذه وجهها مكشوف. وكانوا حينما يريدون أن يذموا امرأة بأنها ما عندها حياء يقولون: هذه وجهها مكشوف، كان في أيام البذرة، والحصاد الآن وصل إلى مرحلة تفكك لا يستطيع أحد أن ينكرها، بل وصل الأمر إلى حد أنه في إحدى الدول العربية قامت طالبات كلية الشريعة بالسباحة لابسات أقبح ما يمكن من أزياء السباحة، فهللوا لذلك وقالوا: هذه بداية مرحلة التنوير، وهذه بداية التغلب على الأصولية في هذه البلاد، وهؤلاء السابحات هن طليعة التنوير الإسلامي ورسولات الإسلام المستنير في هذه البلد! فهذا هو الحصاد، وهذه إشارة هذا الحصاد الذي رأيناه في مؤتمر (القاهرة) ثم في مؤتمر (بكين) الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تحطيم الأسرة تماماً، والقضاء على الأسرة، وإيجاد تعريف جديد للأسرة. ومن هذا الحصاد ما نعانيه الآن من القنوات الفضائية ذوات القصف الإعلامي المركز. وهكذا انتشار المجلات النسائية التافهة، فإذا أردنا أن نفتح كشف حساب ختامي لوضع المرأة في نهاية القرن الذي مضى فلا شك أن العاقبة في غاية المرارة، وأنه مما يغنينا عن إكثار الكلام في هذا الموضوع عن هذا المؤتمر وما حصل فيه؛ فإنه لا يمكن أن يفضح أحد دعوة قاسم أمين بمثل ما فعل هؤلاء الملحدات، حيث وقفت واحدة منهم تقول: أنا ملحدة، وأصر على أني ملحدة، وأرفض أن يصفني أحد بأني مسلمة! وبالنسبة لهذا الشر ليس جديداً علينا؛ لأننا الآن في عصر الغربة الثانية، كما قال النبي عليه السلام: (وسيعود غريباً كما بدأ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم. قلنا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، يعني: مَنْ غير اليهود والنصارى؟ فكل الشر يأتينا من أوروبا، ويأتينا من الكفار، ومن الشر الذي أتانا هذه الدعوة المشئومة، كما ورد إلينا منهم كثير من الشرور الأخرى.

الجذور الأوروبية لتحرير المرأة

الجذور الأوروبية لتحرير المرأة هذه مقدمة بسيطة تتعلق بجذور تحرير المرأة في الغرب: الجذور الثقافة الأوروبية أساساً ترجع إلى التراث اليوناني والروماني الوثني، وأصول الحضارة الغربية ترجع إلى التراث اليوناني والروماني الوثني، وفي الحقيقة هي تنبذ الدين وتنبذ التوراة والإنجيل. ومعلوم أن في هذا التراث أنَّ أفلاطون في دولته الخيالية التي افترضها جعل النساء متاعاً في طبقة الجنود، على أساس هذا التراث بنيت علاقات الرجال بالنساء، ولا شك أن هذا يصطدم تماماً مع الإسلام الذي يحرص على الستر وعلى العفاف، وقد تكلمنا من قبل مراراً على المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والتي منها صيانة العرض، وصيانة الشرف، وفي الإسلام العرض له قيمة عظمى جداً، وهكذا الشرف. أما اللغات الأوروبية فكلها تخلو من كلمة (العرض)، فلا تعرف كلمة (العرض) فضلاً عن المعاني الحقيقية لهذه الكلمة، فأصلاً الشرف والعرض والصيانة هذا مما لا قيمة له عندهم، والإسلام لأنه يعطيه قدراً عظيماً جداً وضع الاحتياطات الكفيلة بعدم المساس بهذه الأمور المصونة أو اختراق حجب الستر والعفاف، فعندهم حينما يحصل التحلل والاختلاط ونحوهما لا يخسرون شيئاً في تصورهم؛ لأنهم لن يصطدموا مع عقيدة، أما نحن فهذا يصطدم مع عقيدتنا، ولا يمكن لإنسان أن يكون مخلصاً وملتزماً بدعوة قاسم أمين إلا إذا خرج من الإسلام، فكما رأينا وصلوا إلى حد أنهم يقولون: تحرير المرأة هو المساواة بين الرجل والمرأة. أي: المساواة بينهما في الميراث وفي كل شيء. وهذا خروج من الملة، ويقولون غير ذلك من الكفريات التي وصلوا إليها. فأصل دعوة تحرير المرأة هو انعكاس لدعوة مماثلة شاعت في الغرب في القرن التاسع عشر، وهي أحد فروع التوجه العلماني الليبرالي الذي كان عدواً للنصرانية، فالنصرانية لها تصور عجيب جداً عن المرأة في فترة شباب النبي عليه الصلاة والسلام، حيث إنه في نفس الوقت عقد في فرنسا مؤتمر يناقش: هل المرأة لها نفس أم أنها حيوان وليس له نفس؟! واتفقوا في النهاية على أن لها نفساً، لكن لا ترقى إلى روح الرجل. فقد كانوا في غاية التخلف بالنسبة لموضوع المرأة، وتحرير المرأة نشأ في الغرب كرد فعل من موقف النصرانية واليهودية من المرأة. وهؤلاء استوردوا موضوع تحرير المرأة من الغرب، والغرب تبنى فكرة تحرير المرأة مضادة للكنيسة ومضادة للنصرانية، فعندما تستورد فلابد أن يحصل تغيير، فأصبح العدو هو الإسلام! إنه تعميم ظالم، كما حصل في قضية العلمانية، فأصبح العدو الذي يجب تحرير المرأة منه هو الإسلام، أو بالتعبير المموه: (العدو هو التفسيرات الخاطئة للإسلام) من أجل أن يهذبوها ويستطيعوا خداع الناس بها، وهذا التعبير المألوف والمطروح هو على سبيل التقية، مثل تقية الشيعة، فيدّعون أن الذي يدعون إليه هو سماحة الإسلام ويسر الإسلام، وأنه الإسلام الصحيح. وهذا الإسلام الصحيح يشترط أن العلمانيين وحدهم هم الذين أوتوا مفاتحه ولا يستطيع أحد أبداً أن يصل إلى الإسلام الصحيح إلا هؤلاء العلمانيون، وهؤلاء المتحررة، أما العلماء والفقهاء والمتخصصون فلا يتكلمون باسم الإسلام؛ لأنهم رجعيون! فالحقيقة أن الاشتباك مع الإسلام لم يكن؛ لأن الإسلام يعادي المرأة أو يقمع المرأة، ولكن لأن النبع الأم الذي استوردت منه هذه الفكرة كان يعادي دين النصرانية، فلابد أيضاً أن يعادي في بلادنا الدين الذي هو دين الإسلام. وهذه الدول الأوروبية التي احتلت معظم بلاد المسلمين سعت منذ اللحظة الأولى لإحلال نظام العلاقات الأوروبية بين الرجال والنساء محل العفاف والستر الإسلاميين، وعلى هذا كان موضوع تحرير المرأة وإحلال النظم الأوروبية -أو بتعبير أدق: الفوضى الأوروبية- في علاقات الرجال بالنساء محل العفاف والستر والصيانة الذي تتميز بها المرأة المسلمة، وكان هذا الإحلال يمثل ركيزة أساسية في مشروعهم للقضاء على هوية الشعوب المسلمة واستقلالها الاعتقادي والتشريعي والأخلاقي.

البذور الأولى لتحرير المرأة العربية

البذور الأولى لتحرير المرأة العربية كان المجتمع المصري قبل مقدم نابليون ملتزماً بالإسلام وأخلاقياته، وكان كل من خرج على هذه الأخلاقيات يلقى العقاب والردع، وكان الحجاب على رءوس النساء جميعاً حتى النصرانيات واليهوديات المصريات، ولم تظهر امرأة سافرة إلا زوجات القناصل الأوروبية في مناخ الاحتلال، وكان يحصل انتشار النساء الفرنسيات في شوارع القاهرة؛ لأن الحملة كان معها كمٌّ كبير من العلماء والباحثين؛ لأنها كان لها هدف خبيث جداً، وكان معهم مطبعة، وكان معهم أيضاً حوالي ثلاثمائة امرأة، وهؤلاء النسوة هن بذرة الفساد في مصر؛ لأنهن بدأن ينتشرن في الشوارع ويفسدن المجتمع بصورة فاحشة جداً، في تبذل وتبرج وفساد، وبدأت بعض النسوة غير المسلمات يحاكين أولاء النسوة، ولم يمر حوالي أربعة عشر شهراً حتى انقلبت الأوضاع رأساً على عقب. ومن الأمور التي ينبغي أن نلتفت إليها أنّ أول مواجهة حصلت حين ثار المسلمون في مصر ضد هذا الوضع، فقد كانت ثورة القاهرة الأولى في (21 أكتوبر 1798م) أي: منذ حوالي قرنين من الزمان، وكان السبب في ثورة القاهرة الأولى أساساً هو هذه الإباحية التي انتشرت وأرادت أن تحل محل العفاف. ومعروف أن ثورة القاهرة الأولى قادها أئمة المسلمين وعلماؤهم وطلبة الأزهر، وأحبطت الثورة بعد أن أطلقت المدفعية الحديثة على الأزهر والمساجد المختلفة، ودخلوا الأزهر وحولوه إلى إسطبل للخيول، وكل هذه القصص الوحشية التي فعلها الفرنسيون معنا معروفة، ومع ذلك يأتي الخونة ليحتفلوا بذكرى احتلال مصر على يد نابليون بونابرت، ويذكرونا بكلام طه حسين لما كان يستنكر على المسلمين المغاربة كيف يقاومون الاحتلال الفرنسي، ويقول لفرنسا: اصبري؛ فهذا عناء وثمن لابد أن تدفعيه في سبيل فرض الحضارة على هذه الشعوب المتوحشة! واندلعت ثورة القاهرة الأولى كرد فعل ضد الانحلال الذي كان يمارسه الفرنسيون، وهذا حقيقة هو فعلاً بدء البذرة الأولى لتحرير المرأة. وهذه البذرة الأولى التي وجدت في مصر جاءت مع الحملات الغربية بقيادة نابليون بونابرت، وحصلت ثورة القاهرة الأولى، ثم بعد خمسة أشهر تقريباً وستة أيام حصلت ثورة القاهرة الثانية وكليبر لم يجد بداً من قصف المدينة بالمدافع وتجويعها حتى تسلِّم. وفي الحقيقة هم يقولون: مرور مائة سنة على تحرير المرأة العربية، وهذا تعبير غير صحيح، فليست مائة سنة، بل هي مائتان، إلا إذا كانوا يقصدون صدور كتاب، أما البذرة الأولى فكانت نتيجة هذا الاحتكاك بالفرنسيين في الحملة الفرنسية، وهذا الكلام هو الذي قاله لويس عوض كما سنبين إن شاء الله، هذا أمر. الأمر الثاني: أن كلمة (المرأة العربية) كلمة غير صحيحة، فلم يكن المسلمون حينذاك يعرفون مصطلح (المرأة العربية)، وما عرفوا إلا المرأة المسلمة فقط، وقاسم أمين ما كان موجهاً دعوته إلى المرأة العربية ولا المرأة النصرانية ولا المرأة اليهودية، إلى المرأة المسلمة. ولويس عوض كتب يقول: إن تحرير المرأة بدأ (1800م) وأن الحملة الفرنسية كانت نقطة الانطلاق إلى تحرير المرأة من كل قيد بما فيه قيد الدين والخلق والحياء. وعام (1800م) هو عام هزيمة ثورة القاهرة الثانية حينما سبى جنود الاحتلال الفرنسي نساء مصر وبناتها وغلمانها! هذا هو عام تحرير المرأة المصرية في زعم لويس عوض. والجبرتي وصف بدايات حركة السفور، ووصف بداية حركة تحرير المرأة ووصف ما أصاب بعض نساء القاهرة من الانحلال نتيجة مخالطة المصريين للفرنسيين ومحاكاتهم في الزي وفي السلوك، والجبرتي يتكلم عن الأسافل من النسوة، وهو يسميها (ثورة نساء) أو (ثورة حريم) يعني أنهمن كن يقعن في الفاحشة والبغاء نتيجة الاختلاط بالجنود الفرنسيين، وبدأ ذلك ينتشر في المجتمع. فـ لويس عوض وهو تلميذ المدرسة الاستعمارية يصر على أن هذه كانت ظاهرة عامة ليست في الأسافل، كما يقول الجبرتي: إن الأسافل من الجواري والسفل من النساء هن اللائي كن يفعلن ذلك. فهو يرى أن هذه ثورة تحررية، ويجعل من انحطاط المرأة إلى حد التكسب بالفاحشة ثورة نساء وبداية تحرر المرأة، فـ لويس عوض يؤرخ بداية تحرير المرأة بثورة القاهرة الثانية؛ لأن الدليل عليها ما قاله الجبرتي -وهو كلام شديد-: أما الجواري فذهبن إليهم أفواجاً وفرادى وأزواجاً، فنططن الحيطان، وتسلقن إليهم من السيقان، ودلوهن على كذا وكذا إلى آخره. فيحكي أيضاً ما كان يحصل من الفواحش والتبرج والاختلاط بالفرنسيين ومصاحبتهم في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل بالفوانيس والشموع الموقدة إلى آخره. هذه هي بداية تحرير المرأة، ثم يأتون إلى الإسلام ويقولون: الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها كذا وكذا. فمن الذي يعامل المرأة على أنها سلعة؟! فالإسلام هو الذي كرمها، ومع هذا يأتي هذا الخبيث ويرى أن بداية تحرير المرأة هو هذا الفجور والفساد والتفسخ الذي حصل من سفلة النساء في مصر، وادعى أيضاً أن طبقات النساء اللواتي حاكين المتبرجات والعادات الفرنسية قد طرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واتسعت هذه الدعوة بتأثير سبايا الفرنسيين المتحررات من بنات بولاق. فرائدات تحرير المرأة في نظره هن هؤلاء السبايا المتحررات؛ لأنهن كنَّ يمارسن البغاء وهذه الأشياء، فانظر إلى العجب! وكيف لا تتعارض عنده (سبايا) مع (متحررات)؟! لأن الحرية التي يقصدها هنا هي الحرية الشهوانية بمعناها السوقي المبتذل، فيمكن في نظره أن تكون المرأة جارية سبية وفي نفس الوقت متحررة، بل طليعة ثورة تحررية؛ لأنها تتبرج في ثيابها وتخرج سافرة الوجه متأبطة ذراع محررها ومالكها في نفس الوقت، وأيضاً مع فصل كامل بين حرية المرأة المملوكة وحرية هذا الوطن الأسير! هذا هو ما يتعلق بموضوع البذرة الأولى لتحرير المرأة، وهو ثورة القاهرة الثانية التي قام بها المسلمون المجاهدون من علماء الأزهر ومن طلاب الأزهر ومن الطبقة الفقيرة من المجتمع المصري، قامت هذه الثورة ضد الحملة الفرنسية من أجل التصدي لهذا التفسخ وهذا الانحلال الذي يعتبرونه بداية تحرير المرأة.

مفهوم الحجاب الشرعي

مفهوم الحجاب الشرعي وبالنسبة لقضية الحجاب فإن كلمة الحجاب في العرف الذي استعمله قاسم أمين لم يقتصر المقصود به على ما نفهمه الآن، فالحجاب كانوا يفهمونه بالوضع الصحيح، أي أن كلمة (الحجاب) عبارة عن عنوان لمجموعة من الأحكام الشرعية التي تنظم وضعية المرأة في المجتمع الإسلامي، سواء فيما يتعلق بالثياب أو فيما يتعلق بالقرار في البيوت أو غير ذلك من الفروع في هذه القضايا. فالحجاب ليس المقصود به موضوع ملابس المرأة فقط، ولكن الحجاب بمعناه الأوسع -وهو المعنى الصحيح الذي كان يدركه قاسم أمين هو قرار المرأة في البيت وعدم مخالطتها للرجال، وعند خروجها أيضاً تلتزم بالحجاب الشرعي الكامل، هذا فيما يتعلق بهذا التعريف؛ لأننا سوف نحتاج إليه.

نمو حركة تحرير المرأة في مصر

نمو حركة تحرير المرأة في مصر وبالنسبة لبدايات الحركة -كما قلنا- كانت البذرة الأولى هي أول اصطدام وأول احتكاك حصل بين المصريين وأوروبا في خلال الحملة الفرنسية، ثم خففت هذه الدعوات، وبعد ذلك أصبحت البذرة تنمو أكثر وأكثر حينما بعث محمد علي باشا والي مصر المبعوثين إلى فرنسا ليتلقوا الخبرات والمهارات الفنية، وأخرج معهم شيخاً أزهرياً من أجل أن يحافظ عليهم هناك، ويصلي بهم، وهو المشرف الديني عليهم، وهو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، فأقام في باريس خمس سنوات، وما إن عاد إلى مصر حتى بدأ هو يبذر بذور كثير من الدعوات الدخيلة على البيئة المصرية. فـ رفاعة الطهطاوي هو أول من دعا إلى فكرة الوطنية القومية بمعناها المادي المحدود، فإن المسلمين قبل ذلك ما كانوا يعرفون إلا الرابطة الإسلامية، ولم يعرفوا قومية عربية ولا شعوبية ولا فرعونية، فأول من استورد فكرة الوطنية بمعناها الوثني المحدود وهو التمسك بقطعة معينة من الأرض وغير ذلك من المفاهيم المعروفة عن الوطنية والقومية هو رفاعة الطهطاوي، استوردها من فرنسا حينما رجع من واقع الحياة الفرنسية، وكذلك أخذ طبعة من فرنسا في قضايا جريئة جداً مثل موضوع الكلام على موضوع الطلاق واختلاط الجنسين، وقال: إن السفور والاختلاط ليس داعياً إلى الفساد. وطالب بأن نقتدي بالفرنسيين في إنشاء المسارح والمراقص، وقال: إن الرقص على الطريقة الأوروبية ليس من الفسق في شيء، بل هو عياقة وسلبنة. يعني: أناقة وفتوة. وكان يحرض عليها. فأول من أثار قضية تحرير المرأة هو رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر الميلادي، وسن بذلك أسوأ السنن، حتى إنه حاول أن يضع هذه الأفكار النظرية موضع التنفيذ، وحصلت مقاومة لهذا الأمر. والمحطة الثانية حصلت بعد ذلك في القرن التاسع عشر، فالقذيفة التي تليها كانت لقس مصري يدعى مورقس فهمي عام (1894م) بعد الاحتلال الإنكليزي بحوالي اثنتي عشرة سنة، فظهر أول كتاب في مصر أصدره هذا الرجل مورقس فهمي، وهو من أصدقاء كرومر، أظهره محتمياً بالنفوذ البريطاني، وكتابه هو (المرأة في الشرق)، دعا فيه صراحة -وللمرة الأولى في تاريخ المرأة المصرية- إلى تحقيق أهداف خمسة: أول هذه الأهداف: القضاء على الحجاب الإسلامي. ثانياً: إباحة اختلاط المرأة المسلمة بالأجانب عنها. ثالثاً: تقييد الطلاق وإيجاب وقوعه أمام القاضي. رابعاً: إباحة الزواج بين المسلمات والأقباط. خامساً: منع الزواج بأكثر من واحدة. وأصلاً هو نصراني، فلماذا يخاطب المسلمين ويطالبهم أن يتخلوا عن دينهم؟! وما له ولموضوع التعد؟ وهذا الكتاب أحدث ضجة عنيفة، ولم يفق المسلمون من الصدمة التي أحدثها هذا الكتاب حتى ظهر كتاب آخر لفرنسي يدعى الدوق داركير حيث ألف كتاباً اسمه (المصريون)، حمل فيه على نساء مصر، وهاجم المصريين، وتعدى على الإسلام، ونال من الحجاب الإسلامي، وهاجم المثقفين المصريين لأنهم يسكتون على هذه الأوضاع ولا يريدون أن يتمردوا عليها. ولجأ بعد ذلك الاستعمار الإنكليزي إلى الأميرة نضلي فاضل، وهي أم الملك فاروق، وطلب منها أن تساند مورقس فهمي من خلال صالونها الذي كانت تقابل فيه الرجال.

ترجمة قاسم أمين وكتابه تحرير المرأة

ترجمة قاسم أمين وكتابه تحرير المرأة قبل أن نذكر الدور الذي فعله قاسم أمين في هذه المرحلة نشير إلى أن قاسم أمين -للأسف الشديد- إسكندراني، ولد في (1 ديسمبر 1863) في الإسكندرية، والتحق بمدرسة رأس التين الابتدائية بالإسنكدرية، وكانت تقع بحي رأس التين، وقيل: إن أباه من أصل كردي. وقيل: إن الأصل للأسرة تركي. سافر إلى فرنسا ليتم تعليمه هناك، وتأثر جداً بالإقامة في فرنسا، حتى إنه صرح بأن أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة والتمثيل والتصوير والموسيقى، فبعدما كان الناس يقولون: مصر أم الدنيا. أصبح في باريس يقول: مصر خادمة الدنيا يعني أنها تستحق أن تسمى خادمة الدنيا، وتعرف على صديقة فرنسية تدعى سلافا، فكانت تصحبه إلى المجتمعات الفرنسية، وتقرأ معه في كثير من الكتب. وكان هناك حركة نسائية في ذلك الوقت تأثر بها قاسم أمين، ومن هنا بدأ يضطرب قاسم أمين، وكانت أول خطوات قاسم أمين -وهي المحطة الأولى- أنه تألم من كتاب داركير عن المصريين، فألف رداً باللغة الفرنسية في نبرة دفاعية تبريرية ضد هذا الكتاب، فكان فيه نوع من الاستخزال؛ حيث كان يخاطب هذا الرجل الفرنسي ويدافع عن الإسلام، فيقول له: إن الإسلام دين خلقي لا يقل عن المجوسية ولا عن المسيحية، وإن روح القرآن لا تختلف عن الروح الإنجيلية! يقول: ولهذا كان أمام مصر طريقان: العودة إلى تقاليد الإسلام، أو محاكاة أوروبا، وقد اختارت الطريق الثاني، إنها قد خطت اليوم بعيداً في هذا الطريق حتى ليصعب عليها الارتداد عنه، إن مصر تتحول إلى بلد أوروبي بطريقة تثير الدهشة، وقد أخذت إدارتها وأبنيتها وآثارها وشوارعها وعاداتها ولغتها وأدبها وذوقها وغذاءها وثيابها تتسم كلها بطابع أوروبي، لقد اعتاد المصريون قضاء الصيف في أوروبا كما اعتاد الأوروبيون قضاء الشتاء في مصر، فلعل أوروبا تقدر لمصر مسيرتها، ولعلها ترد لها يوماً بعض هذا الود الكبير الذي تكنه لها مصر! وقاسم أمين في أثناء الكتاب انتقد بعض النساء اللائي يخالطن الرجال ويبرزن أمام الرجال، فاصطدم في هذه الحالة بالأميرة نضلي فاضل؛ لأنه لم يكن في هذا الوقت من يتشبه بالنساء الأوروبيات ويخالط الرجال غيرها في صالونها الذي اتخذت منه مركزاً للتغريب، وإلى دعوة تحرير المرأة بصفة خاصة، وكان من رواد هذا الصالون سعد زغلول والشيخ محمد عبده وغيرهم. فغضبت جداً من كلام قاسم وقالت قولاً شديداً بعد أن تهددت وتوعدت، وأمرت جريدة المقطم الناطقة بلسان الإنكليز أن ترد على قاسم أمين وتفند أخطاءه، لكن اقتنع قاسم أمين بضرورة تصحيح خطئه، واتفق معه سعد زغلول ومحمد عبده على أن ينشر كتاباً يصحح فيه خطأه، ويؤيد فيه الدوق داركير، ويواصل مناصرته لكتاب (المرأة في الشرق) لـ مورقس فهمي. فهذه هي الظروف التي ولد فيها كتاب قاسم أمين (تحرير المرأة)، وكان الذي توسط بين الأميرة وبين قاسم أمين هو -للأسف الشديد- الشيخ محمد عبده! فتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى الأميرة وقبلت اعتذاره، وظل يتردد على صالونها، ووضع كتابه الأول الذي هو (تحرير المرأة)، وفي هذا الكتاب ألغى الأفكار الدفاعية التي دافع فيها عن الإسلام في كتابه (المصريون) واتجه منحىً آخر، فيقول مثلاً: فالتركي نظيف صادق شجاع، والمصري على ضد ذلك، إلا أنك تراهما رغماً عن هذا الاختلاف متفقين في الجهل والكسل والانحطاط، إذاً لابد أن يكون بينهما أمر جامع وعلة مشتركة هي السبب الذي أوقعهما معاً في حالة واحدة، ولما لم يكن هناك أمر يشمل المسلمين جميعاً إلا الدين ذهب جمهور الأوروبيين وتبعهم قسم عظيم من نخبة المسلمين إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخرهم عن غيرهم! وقد تناول في كتابه مسألة الحجاب، واشتغال المرأة بالشئون العامة، وتعدد الزوجات، والطلاق، وفي كل هذه المسائل يأخذ بما يذهب إليه الغربيون! وهو في المرحلة الأولى كانت النبرة عنده هادئة في قضية الحجاب، وجعل كل المعركة منصبة حول حكم كشف الوجه، وأنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها، فكان يقول في هذا الكتاب: الحجاب أصل من أصول الأدب يلزم التمسك به، ولكني أطالب بأن يكون منطبقاً على الشريعة الإسلامية. ثم قال: إن الشريعة ليس فيها نص يوجب الحجاب على الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت لهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها، وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين، والدين منها براء. وظل يتكلم كلاماً فقهياً، غير أنه من المعلوم والمشهور أنه كان ضحلاً جداً في الناحية الشرعية، ولم يكن عنده أي علم على الإطلاق، ولذلك اتفق كل من أرخ للكتاب على أن الفصول التي تناولت مناقشة القضايا الشرعية كتبها له الشيخ محمد عبده! وقد علق الشاعر أحمد شوقي على دعوة قاسم أمين فقال: في مطلب خشن كثير في مزالقه العثور ولك البيان الجذل في أثنائه العلم الغزير حتى لنسأل هل تغار على العقائد أم تغير؟ ما بالكتاب ولا الحديث إذا ذكرتهما نكير يقول قاسم أمين في بعض المواضع: في البلاد الحرة قد يجاهر الإنسان بأن لا وطن له، ويكفر بالله ورسله، ويطعن على شرائع قومه وآدابهم وعاداتهم، ويقول ويكتب ما شاء الله في ذلك، ولا يفكر أحد أن ينقص شيئاً من احترامه لشخصه متى كان قوله صادراً عن نية حسنة واعتقاد صحيح! يعني أن من يكفر بالله ورسله ويشتم الأنبياء ليس هناك مشكلة معه ما دام الاعتقاد عنده صحيحاً والنية حسنة! يقول: كم من الزمن يمر على مصر قبل أن تبلغ هذه الدرجة من الحرية؟ فنقول: لم تمر مائة سنة حتى سمعنا هؤلاء الذين يكفرون بالله ورسله. والغريب أن في نهاية كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" شاء الله تعالى أنه ختم آخر سطر في الكتاب بقوله: تم كتاب (تجريد المرأة)، وهو خطأ مطبعي، لكن معناه صحيح، وبعد ذلك حورب قاسم أمين وقوبل باعتراضات شديدة جداً، إلا أن سعد زغلول في هذه المرحلة وقف يسانده، واتهمه المعارضون بالهذيان، وهاجمه علماء الدين، وحكم الفقهاء بأنه خرق في الإسلام ومروق من الدين وضرب من المبالغة في تقليد الغربيين، وأنه يمالئ الإنكليز على ضياع البلاد، وأنه ينفذ أمنية من أماني الأمم الصليبية التي تريد أن تهدم الإسلام وتقوض البلاد والأخلاق. وفي الهند ترجم الكتاب، وانتشر فيها انتشاراً كبيراً جداً. وممن ناصروا قاسم أمين وبادروا إلى تأييد دعوته في كتاب "تحرير المرأة" جورجي نيقولا باذ، حيث ألف كتابين يؤيد فيهما قاسم أمين هما: "إكليل الغار على رأس المرأة" والآخر " النسائيات".

بعض الذين ردوا على قاسم أمين

بعض الذين ردوا على قاسم أمين ولم يكتف دعاة الحق بالمقالات العنيفة، بل ألفوا حوالي مائة كتاب رداً على كتاب "تحرير المرأة" منها: "السنة والكتاب في حكم التربية والحجاب" لـ محمد إبراهيم القاياتي، و"الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس" للبولاقي، و"خلاصة الأدب" لـ حسين الرفاعي، و"نظرات في السفور والحجاب" للغلاييني، و" قولة المرأة" لـ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، و"رسالة في نشرات الحجاب" لـ مصطفى ندى، و"رسالة الفتى والفتاة" والعديد من هذه الكتب والرسائل التي يتعمد إخفاؤها. وهناك شخصية مشهورة جداً قامت مع تأييد الحجاب، وهو محمد طلعت حرب الاقتصادي المعروف الذي اقترن اسمه -للأسف الشديد جداً- بشئون الاقتصاد الربوي، فإنه ألف أول كتاب في الرد على قاسم أمين، واسم الكتاب (تربية المرأة والحجاب) استنكر عليه دعوته وقال: إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا من قديم الزمان لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوروبا في العالم الإسلامي. ثم يقول: إنه لم يبق حائل دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق ولا في مصر وحدها إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل، بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق. وهناك شخصية أخرى هامة جداً في هذا الموضوع، وهذا أيضاً مما يتعمد إخفاؤه، ونحن نحفظ من المدرسة عند أن كنا ندرس كتب التاريخ عيوب مصطفى كامل، فمن المشهور من عيوبه أنه كان يدافع عن الرابطة بالدولة العثمانية، وينادي ببقاء مصر ولاية عثمانية تحت حكم الخلافة العثمانية، هذا هو العيب المشهور عنه، لكن له عيب ثانٍ إن جاز التعبير، وهو أنه كان أشد أنصار الحجاب على الإطلاق في الساحة السياسية، ولم يتصد أحد لدعوة قاسم أمين بمراحله المختلفة مثلما فعل مصطفى كامل رحمه الله وعفا عنه، حيث كان مصطفى كامل يتحسس الأصابع الإنكليزية وراء حركة قاسم أمين التي يديرها النادي المشبوه، وهو صالون الأميرة نضلي، والذي كان يضم أذناب الاستعمار الإنكليزي، وقد قاوم مصطفى كامل هذه الدعوة المسمومة بشدة، حتى إنه أعلن عن فتح جريدة، وجعل صدر صحيفته (اللواء) منذ أول ظهورها لكل من يريد أن يطعن على قاسم أمين وأفكاره، وكان ينشر أي رد على قاسم أمين.

قاسم أمين يعزز دعوته بكتاب المرأة الجديدة

قاسم أمين يعزز دعوته بكتاب المرأة الجديدة والشعراء كان لهم موقف، فهذا الشاعر محرم كان له قصيدة جميلة جداً يقول فيها: أغرك يا أسماء ما ظن قاسم أقيمي وراء الخدر فالمرء واهم تضيقين ذرعاً بالحجاب وما به سوى ما جلت تلك الرؤى والمزاعم سلام على الأخلاق في الشرق كله إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم قاسم لا تقذف بجيشك تبتغي بقومك والإسلام ما الله عالم لنا من بناء الأولين بقية تلوذ بها أعراضنا والمحارم أسائل نفسي إذ دلفت تريدها أأنت من البانين أم أنت هادم؟ ولولا اللواتي أنت تبكي مصابها لما قام للأخلاق في مصر قائم نبذت إلينا بالكتاب -كتاب"تحرير المرأة". نبذت إلينا بالكتاب كأنما صحائفه مما حملن ملاحم ففي كل سطر منه حتف مفاجئ وفي كل حرف منه جيش مهاجم إلى أن يقول رداً عليه: لنا في كتاب الله مجد مؤثل وملك على الحدثان والدهر دائم إذا نحن شئنا زلزل الأرض نابنا ودانت لنا أقطارها والعواصم هممنا بربات الحدالي نريدها أقطيع ترعى العيش وهي سوائم وإن امرأً يلقي بليل نعاجه إلى حيث تستن الذئاب لظالم وكل حياة تثلم العرض سبة ولا كحياة جللتها المآثم أتأتي الثنايا الغر والطرر العلا بما عجزت عنه اللحى والعمائم فلا ارتفعت سفل الجواء بصاعد إذا حلقت فوق النسور الحمائم عفا الله عن قوم تمادت ظنونهم. يعني الذين يحسون الظن بـ قاسم أمين. عفا الله عن قوم تمادت ظنونهم فلا النهج مأمون ولا الرأي حازم ألا إن بالإسلام داءً مخامراً وإن كتاب الله للداء حاسم. وهذا الشاعر جواد الشبيبي أيضاً رد مستنكراً هذه الدعوة الآثمة يقول: منع السفور كتابنا ونبينا فاستنطق الآثار والآيات تلك الوجوه هي الرياض بها ازدهت للناظرين شقائق الوجنات كانت تكتم في البراقع خفية من أن تمس حصانة الخطرات واليوم فتحها الصبا فتساقطت بعواصف الألحاظ والقبلات صوني جمالك بالبراقع إنها ستر الحسان ومظهر الحسنات ويقول الشاعر أيضاً: أولم يروا أن الفتاة بطبعها كالماء لم يحفظ بغير إناء من يكفل الفتيات بعد ظهورها مما يجيش بخاطر السفهاء ومن الذي ينهى الفتى بشبابه عن خدع كل خريدة حسناء نص الكتاب على الحجاب ولم يبح للمسلمين تبرج العذراء ماذا يريبك من حجاب ساتر ميز المهاة وطلعة الزلفاء ماذا يريبك من إزار مانع وزر الفؤاد وظلة الأهواء ما في الحجاب سوى الحياء فهل من التهذيب أن يهتكن ستر حياء هل في مجالسة الفتاة سوى الهوى لو أصدقتك ضمائر الجلساء شيد مدارسهن وارفع مستوى أخلاقهن لصالح الأبناء أسفينة الوطن العزيز تبصري بالقعر لا يغررك سطح الماء ويقول أيضاً الشاعر حسيب علي حسيب شاعر سوداني -أيضاً- راداً على قاسم أمين بقوله: دعوا في خدرها ذات الدلال فقد أرهقتموها بالجدال رأيت شعورها الحساس مضنى على هذا الجمود عن المعالي تذوب وقد تناظرتم حياءًَ بفحش اللفظ أو هجر المقال ويعلو خدها خطر ينادي أيا للنساء من الرجال! زعمتم تعشقون لها صلاحاً فظني أن ذا عشق الجمال ومسألة السفور غدت قديماً لدى الكتاب مشكلة النضال وما أحد لها يدعو فماذا يريد الناس من قيل وقال أحباً في مناجاة الغواني ترى أم ذاك زهداً في المعالي بلى فالعلم عندهم كريم ولكن المتيم غير تالي دعوها فهي تؤلمها كثيراً سهام المصلحين بالاعتدال عجبت لحلمهم في كل خطب وإن ذكر البنات دعوا نزال أي أنه يتعجب ويقول: المصائب عندما تنزل بالأمة تكونون حلماء لا تحركون ساكناً، ولكن إذا جاءت دعوة تحرير المرأة وخروج المرأة وتبرجها دعوا نزال -أي: المعركة- كي يخوضوا فيها.

الهدف الحقيقي من دعوة قاسم أمين

الهدف الحقيقي من دعوة قاسم أمين ولم يلبث قاسم أمين حينما أحرج بهذه المواجهة الصارمة أن أسفر عن وجهه الحقيقي وكشف في جرأة وصراحة عن أهدافه المغرضة، فأظهر في العام الثاني مباشرة قاسم أمين كتاباً رفع فيه شعاراً في غاية الصراحة (خير الهدي هدي أوروبا) وهو لم يقلها باللفظ لكن هذا معنى كلامه، وهو كتاب "المرأة الجديدة" بدت فيه بصمات الفكر الغربي واضحة، حيث حمل فيه على المدنية الإسلامية، وادعى أنه لا سبيل إلى الإصلاح الاجتماعي سوى اقتفاء آثار الغرب وقطع الصلة بماضي أمتنا. يقول: لأن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعاً لمحاربتها؛ لأنه ميل إلى التدني والتقهقر، هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس له من دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها! وفي الكتاب السابق كان متمسكاً بالحجاب، لكن يقول بكشف الوجه، وفي هذا الكتاب قطع بأن الحجاب عادة لا يليق استعمالها في عصرنا. وحاله كما قال الشاعر: يرمرم من فتات الكفر قوتاً ويلعق من كئوسهم الثماله يقبل راحة الطاغوت حيناً ويلثم دونما خجل نعاله وقد حصلت ردود فعل شديدة جداً بالنسبة للكتاب الثاني الذي هو (المرأة الجديدة)، حيث تصدى له من جديد مصطفى كامل، وكتب يقول: هذا الكتاب أخرجه أخيراً قاسم أمين ليدعم به أمر كتابه الأول، ويفتح به آفاقاً جديدة لتحلل المسلمين من دينهم وأخلاقهم. وفي هذه الحال أيضاً أعلن الخديوي عباس حلمي عن رأيه في مسألة الحجاب، وصدر بيان من الخديوي يقول: يرى الجناب العالي حفظه الله في مسألة الحجاب وإطلاق حرية النساء ما يراه الشرع الشريف، ويأمر به. ولما حضر قاسم أمين إلى المعية السنية، والتمس تقديم الكتاب إلى سموه أبى الخديوي قبول كتاب "المرأة الجديدة"، وفي نفس الوقت قبل كتاب "الاحتجاب" لأحد العلماء الذين يدعون إلى الحجاب، وأعرب عن عظيم امتنانه لنشره إلى آخره، وأصدر الخديوي أمراً بمنع قاسم أمين من دخول القصر في أية مناسبة.

دور الإنكليز في الدعوة إلى تحرير المرأة

دور الإنكليز في الدعوة إلى تحرير المرأة وفي عام (1908م) مات قاسم أمين، فأوحى الإنكليز إلى شيعته أن يقيموا له ما يسمى بحفل تأبين، وأرادوا أن لا تنقطع الدعوة بموته. وفي المقابل قام الرجال في الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل فأقاموا احتفالاً كبيراً بالدعوة إلى الحجاب، ولإبراز أصابع الإنكليز في فتنة السفور. وبعد ذلك حصلت طفرة شديدة جداً بالنسبة لقضية تدمير المرأة، وهي قيام ثورة التاسع عشر، فكانت أكبر طفرة حصلت في حركة تحرير المرأة؛ لأن المرأة خرجت للمظاهرات وشاركت فيها، ولا أدري ما هي علاقة المرأة بموضوع المظاهرات، وهل الإنكليز هم الذين فرضوا عليها الحجاب؟ وهل هي تقاوم الإنكليز من أجل أنهم هم الذين أمروها بالحجاب؟ الحجاب فرض عليها منذ ثلاثة عشر قرناً فما هي علاقة خروج النساء في مظاهرات ضد الإنكليز، ويهتفن ضد الإنكليز. وهذا هو فن صناعة الأبطال، فواجب على البطل أن يكون له مجد وله مآثر وله إنجازات من أجل أن يبرز الناس هذه السموم التي يريد أن يبثها.

محمود عزمي وسعد زغلول في الدعوة إلى تحرير المرأة

محمود عزمي وسعد زغلول في الدعوة إلى تحرير المرأة ومن ضمن التعبيرات الخطيرة جداً تلك التي صرح بها رجل يدعى محمود عزمي حيث قال: تأثرت بكتب قاسم أمين تأثراً عجيباً جعلني أمقت الحجاب مقتاً شديداً، ويرجع إلى اعتبار خاص هو اعتبار أن الحجاب من أصل غير مصري، ودخوله إلى العادات المصرية كان عن طريق تحكم بعض الفاتحين الأجانب. قال: فكان حنقي على أولئك الأجانب الفاتحين الإسلاميين يزيد. وكما قلت في البداية: القضية هي صراع بين إسلام وكفر، هدىً وضلال، حق وباطل، وحي وهوى، ولا يوجد خط وسط أبداً بين الاتجاهين. وكان لزوجة سعد زغلول صفية مصطفى فهمي دور خطير في هذا الوضع، فحينما رجع سعد زغلول من المنفى قامت صفية زغلول بإلقاء الحجاب من على وجهها، وهذه هي مكافأة المرأة من أجل أنها شاركت في مقاومة الاحتلال، فتدخل علي الشمسي وواصف بطرس، حيث اعترض واصف بطرس غالي وقال لـ سعد زغلول: هذا سيعمل رد فعل شديد في المجتمع، كيف تكون صفية زغلول تكشف وجهها؟ فرد عليه سعد زغلول وقال: المرأة خرجت إلى الثورة بالبرقع، ومن حقها أن ترفع الحجاب اليوم، فرفعت صفية زغلول الحجاب، وطلبت من النساء رفع الحجاب فرفعت الحاضرات الحجاب. هذه كانت بداية الطفرة في موضوع تحرير المرأة، ولا شك أن كشف الوجه كان ذريعة إلى كثير من المفاسد التي حصلت بعد ذلك، كما ذكرت الأشعار التي تبين أنه كان المصريون في غاية التمسك بالحجاب، كما يقول حافظ إبراهيم: فلو خطرت في مصر حواء أمنا. لأنه يدعي أن حواء كانت سافرة، وكذلك يدعي أن مريم كانت سافرة، فيقول حافظ إبراهيم: لو جاءت حواء كاشفة وجهها ومريم عليها السلام وجاء معهما موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام وجيش من الأملاك ماجت مواكبه، وكل هؤلاء قالوا لنا: رفع النقاب حلال لقلنا لهم: صحيح، لكن سنتجنبه ولن نعمله. فيقول: فلو خطرت في مصر حواء أمنا يلوح محياها لنا ونراقبه وفي يدها العذراء يسفر وجهها تصافح منا من ترى وتخاطبه وخلفهما موسى وعيسى وأحمد وجيش من الأملاك ماجت مواكبه وقالوا لنا رفع النقاب محلل لقلنا لهم حق ولكن نجانبه

هدى شعراوي وتحرير المرأة

هدى شعراوي وتحرير المرأة وبعد ذلك خطا الناس إلى أبعد مما نادى به قاسم أمين، فـ قاسم أمين ادعى أنه يريد الوقوف بالحجاب إلى حيث أمرها الله بكشف الوجه والكفين فقط، وكل المعركة في المرحلة الثانية التي هي كتاب "تحرير المرأة" كانت متعلقة بكشف الوجه والكفين، والذي كتب له هذا الكلام هو محمد عبده كما ذكرنا، فلم يدع في هذه المرحلة قط إلى كشف العورات كالأذرع والسيقان وغيرها، ولم يدع إلى الاختلاط بالرجال ومراقصتهم ولا إلى شيء من ذلك. بل زوجة قاسم أمين كانت محجبة حجاباً كاملاً، بل إنها ظلت ترتدي البرقع والحدرة وقاسم كان ينادي بفكرته، لكنه لم يطبقها في أسرته إلا على النشأ الجديد، ثم قالت زوجة قاسم أمين: إن بنات الجيل الحالي وشبابه قد أخطئوا فهم هذه الدعوة وتجاوزوا مداها، فالمظهر الذي تظهر به الفتاة في هذا العصر ليس سفوراً، بل بهرجة فظيعة لم تخطر على بال قاسم أن ينادي بها أو يدعو إليها، وإنما كان قاسم ينادي بالسفور الشرعي، أي: كشف الوجه، فكلمة السفور تعني الكشف الذي لا يزيد على إظهار الوجه واليدين والقدمين، ولا يتجاوز إلى إظهار العورات وإلى اختلاط المرأة بالرجل بالشكل الحاصل الآن. تقول: وإني أعتقد أن قاسم بيك لو كان حياً لما رضي عن هذه الحال، بل لانبرى إلى محاربتها. وقد أخذت الأمور تتطور بسرعة شديدة، وقد شل جسم الحياء من المرأة فأفضت تحدث وتجالس وتصافح وتختلط وتضاحك عامة الناس وأصدقاء وأقارب الزوج وإن بعدوا وإن سفلوا، وألقت المرأة بعد ذلك ملاءتها بعيدا ًعن ساحة الحياء، وخرجت في ملابس ملونة ومزخرفة أخذ المقص يجور عليها حتى خرجن كاسيات عاريات. وقد تتابعت التطورات في سرعة مذهلة، ولم تدع فرصة للمعارضة، وأعان على اندفاعها جو الثورة التي تلت الحرب وما كان يوحي به من جرأة ومن تمرد على كل قديم. وفي عام (1919م) حصلت مظاهرة قامت بها النسوة، وكان عددهن ثلاثمائة، وفي بعض الكتب الوثائقية صورة للنساء في هذه المظاهرات. وكانت هدى شعراوي في صراع شديد مع زوجها لأنها تذهب إلى المظاهرات، وكان يقول لها: هل أنت ستحرجين الإنكليز إذا عملت مظاهرة؟! وإذا ضربوك بالنار تقولين: يا لهوي! ويا لهوتي! وكذا، تقول: فتركته وانصرفت لألحق بزميلاتي الذي كن ينتظرنني في الخارج. وقد تهكم منهن حافظ إبراهيم حيث يقول في وصف هذه الغزوة: خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه وضللن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنه وأخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهنه يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعورهنه وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه وإذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه وإذا المدافع والبنادق والصوارم والأسنه والخيل والفرسان قد ضربت نطاقاً حولهنه والورد والريحان في ذاك النهار سلاحنه فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الأجنه فتضعضع النسوان والنسوان ليس لهن منه ثم انهزمن مشتتات ال شمل نحو قصورهنه فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهنه فكأنما الألمان قد لبسوا البراقع بينهنه وأتوا بهند نبرج مخـ تفياً بمصر يقودهنه فلذاك خافوا بأسهن وأشفقوا من كيدهنه وقد تردت أوضاع المرأة بعد ذلك إلى وضع لم يكن يحلم به قاسم أمين، حيث قامت حركة هدى شعراوي، وكان لها تأثير سيئ جداً، وقد سافرت إلى باريس وأمريكا، وحصل منها تصريحات واجتماعات تدعو فيها إلى تحرير المرأة. وفي هذه المرحلة أيضاً كتب الشاعر محمد عبد المطلب قصيدة جميلة جداً يصف أحوال المرأة في ذلك الزمان يقول فيها: ما في بنات النيل من أرب لذي غرض نبيل أصبحن عاباً في الزمان وسوءة في شر جيل ما هذه الحضرات تهفو في الخمائل والحقول نكر العفاف ذيولها ومن الخنا قصر الذيول إن ينتسبن إلى الحجاب فإنه نكد الدخيل يختلن أبناء الهوى بالدل والنظر الختول من كل خائنة الحليل تهم في طلب الخليل ما لابنة الخدر المصون وربة المجد الأثيل أودى كثيف نقابها بكرامة الأم البتول يعني: يشتكي من أن النقاب شفاف، هي هذه المشكلة كلها. يقول: وعلا رنين حجولها أسفاً على الذيل الطويل فإذا مشت هتك النقاب محاسن الوجه الجميل ولقد ينم عبيرها فتحسه من نحو ميل ترتاد خائنة العيون بلحظ فاتنة قتول ثم يعرض بـ قاسم أمين فيقول: يا هل درى ذاك الغيور بما جرى ويح الجهول أهي التي فرض الحجاب لصونها شرع الرسول جعل الحجاب معابها من ذلك الداء الوبيل يا منزل القرآن نوراً للبصائر والعقول عميت بصائر أهل وادي النيل عن وضح السبيل ذهلوا عن الأعراض لو يدرون عاقبة الذهول

هل يستجيب دعاة السفور إلى ما تستلزمه دعوتهم من منكرات

هل يستجيب دعاة السفور إلى ما تستلزمه دعوتهم من منكرات وقد اندفع تيار السفور والتبرج ولم يستطع أحد أن يوقفه، فهذا شكيب أرسلان كتب مقالة يقول فيها: عند إعلان الدستور العثماني سنة (1908م) قال أحمد رضا بيك من زعماء أحرار الترك: ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة التركية على جسر غلطة أو بلطة -الذي يربط بين آسيا وأوروبا- وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية. وكانت هذه هي المرحلة الأولى، يقول شكيب أرسلان: وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب رفقي بيك الذي كان كاتباً عند جمال باشا في سوريا كتب: إنه ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت ولو كان من غير المسلمين، بل ما دامت لا تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلماً كان أو غير مسلم فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياً. هذه هي المرحلة الثانية، يقول شكيب أرسلان: فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور، ولا هي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل بعضها ببعض لابد أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها، فإذا كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة فعليه أن يقبلها بحذافيرها، أما أن نجمع بين حرية المرأة وعدم حريتها، وأن نطلق لها الأمر تذهب حيث أرادت وتحادث من أرادت وتضاحك من أرادت وتغامز من أرادت ثم إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا فذهبت وساكنته وكان بينها وبينه ما يكون بين الرجل وزوجه أقمنا القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا: يا للحمية! يا للأنفة! يا للغيرة! يا للعرض! فهذا لا يكون، وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون. ثم يقول: والنتيجة التي نريدها قد حصلت، وهي أن سلوكنا مسلك الأوروبيين حذو القذة بالقذة في هذه المسألة له توابع ولوازم لابد أن نقبلها، ولا يبقى معها محل لكلمة (أعوذ بالله) كلا! لا يوجد هناك: (أعوذ بالله) بل تلك مدنية وهذه مدنية، تلك نظرية وهذه نظرية، فعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: (أعوذ بالله)! ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى ارتفع صوت الصحفي الكاثوليكي إبراهيم المصري في مصر فكتب مقالة سنة (1925م) يقول فيها: إننا لم نخط بعد الخطوة الحاسمة في سبيل تطبيق روح الحضارة العصرية على عاداتنا وأخلاقنا وأساليب حياتنا، إن نساءنا العصريات المتعلمات اللواتي يطالعن الصحف ويقرأن القصص ويغشين المسارح ودور السينما لا يزال يحال بينهن وبين الظهور في المجتمعات البيتية أمام رجل غريب، فنحن قد سلمنا بمبدأ تعليم نسائنا، ولكنا لم نسلم بعد بقدرة هؤلاء النساء على الانتظام في حفل كبير يضم عدداً مختاراً من أفراد الجنسين، ويتألف منه مجتمع مصري مختلط أشبه بالمجتمعات الأوروبية التي نشهدها في مصر، ونحسد الأجانب عليها! يقول: إن هذا راجع إلى أن ثقة الرجل المصري بالرجل المصري لا تزال معدومة، وقد تركز على ذلك أنك أصبحت ترى امرأة صديقك السافرة في الشارع وفي المحل التجاري وفي دار المسرح أو السينما، ثم لا تستطيع أن تراها في بيتها لتتفهم حقيقة شخصيتها، وتعرف كيف تعيش وكيف تشعر وكيف تفكر، أصبحت تبصرها في الحياة العامة وتعجب بها، ولكنك متى أردت تهذيب عواطفك وصقل إحساساتك ومشاعرك بالجلوس إليها والتحدث معها وإشراكها في المسائل التي تشغل عقلك وعقل باطنك حيل بينك وبينها، واتهمت بفساد النية وسوء القصد! ثم يقول: إن المجتمع المختلط هو الذي يقرب مسافة الخلف بين الجنسين، ويقيم علاقات الرجل والمرأة على قاعدة التفاهم الفكري العاطفي! ثم يقول: على المصريين أن يخرجوا من عقولهم، فالاعتقاد الشرقي الشائع بأن الرجل والمرأة متى التقيا فلابد أن ينهض الشيطان بينهما وينفث في نفسيهما سموم الرذيلة والشر هذا هو سر تأخرنا، وهو بقايا عصور الجهل والخوف والظلام! ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول الإمام ابن دقيق العيد: من عذيري من معشر هجروا العقل وحادوا عن طرقه المستقيمة لا يرون الإنسان قد دان حظاً من صلاح حتى يكون بهيمة

ردود بعض الشعراء على دعاة التحلل والسفور

ردود بعض الشعراء على دعاة التحلل والسفور

من شعر مصطفى الرافعي عن الحجاب

من شعر مصطفى الرافعي عن الحجاب وأيضاً الشاعر الكبير الأديب العملاق مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى كان له دور رائع في الرد على هذه الدعوى كعادته حيث يقول: أراك تريدين الذي لست أهله وما كل علم إبرة وثياب كسا الزهر ما تندى به راحة الصبا وهم الندى بين السيول حساب وما أحمق الشاة استثرت بظلفها إذا حسبت أن الشياه ذئاب فحسبك نبلاً قالة الناس أنجبت وحسبك فخراً أن يصونك باب لك القلب من زوج وولد ووالد وملك جميع العالمين رقاب ولم تخلقي إلا نعيماً لبائس فمن ذا رأى أن النعيم عذاب دعي عنك قوماً زاحمتهم نساؤهم فكانوا كما حف الشراب ذباب تساووا فهذا بينهم مثل هذه وسيان معنىً يافع وكعاب وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب

قصيدة النجدي في بيان مفاسد السفور

قصيدة النجدي في بيان مفاسد السفور وهناك قصيدة أخرى رائعة للشيخ محمد حسن النجدي يقول فيها: زعم السفور والاختلاط وسيلة للمجد قوم في المحالات أغرقوا كذبوا متى كان التعرض للخنا شيئاً تعز به الشعوب وتسبقُ أيكون كشف السوأتين فضيلة فيذيعها هذا الشباب الأحمق ما لهم والبنت قد فتنت بما قالوا وحل بها الجنون المطبق وبدت مقاتل عرضها لرماته حتى لهمّ به الجبان الأخرق والقول أصبح في الخروج لها فلا كف تكف ولا ركاب يغلق كرهوا الزواج بها وباتت سوقها بعد التبذل عندهم لا تنفق ما خطبهم كلفوا بنزع حجابها وتكلفوا فيه البيان ونمقوا وتناولوا بالضعف من حاجاتنا واللين ما هو بالصرامة أخلق أغدت مشاكلنا الكبيرة كلها ذيلاً يجرجره السفور المطلق أم أنهم ضلوا السبيل وغرهم بتاريخه هذا الجديد المخلق أشبابنا المرجو صيحة جازع أغرى بها هذا البلاء المحدق ونطيحة يسدي برائع سرها لقوام نهضتنا محب مشفق لا ترهفوا سمع الحفي لقالة أبداً بها بوم البطالة تنعق لم يقصدوا خيراً بها لكنهم رأوا القوي يصيبها فتملقوا ولربما اجترح القوي خطيئة فمضى الضعيف بمدحها يتشدق قوا أهلكم ونفوسكم عاراً إذا لم تتقوه بغيركم لا يعلق وتناولوا بالجزر حمراً كلما هيجت إلى متع الإباحة تنهق كيف التمدن أن نرى روح الحيا بيد الخلاعة كل يوم تزهق والبنت يدفعها براحتها الهوى فتروح تهوى من تشاء وتعشق لكنه العلم اهتدى بضيائه غرب البسيطة حين ضل المشرق

ما قاله سعيد الجابري

ما قاله سعيد الجابري يقول الشيخ سعيد الجابري: رفع النقاب وسيلة إن حبذت ضمت إليها للفجور وسائل فالاختلاط فمرقص فتواعد فالاجتماع فخلوة فتواصل

أبيات أخرى تدعو إلى الحجاب وتحذر من السفور

أبيات أخرى تدعو إلى الحجاب وتحذر من السفور ويقول آخر: يا أخت سابغة البراقع في الأباطح والوعور قري ببيتك حيث لا تؤذيك ناطحة الهدير ودعي الجنوح إلى السفو ر وخففي ألم العشير النمر لو لزم الشرى من كان يطمع في النمور والطير تأخذها خباث الصيد في ترك الوكور

ابن الخطيب يرد على دعاة السفور

ابن الخطيب يرد على دعاة السفور وهذا جميل صدقي الزهاوي ألف قصيدة يقول فيها: أخر المسلمين عن أمم الأرض حجاب تشقى به المسلمات ونقول: هل لما تعرت المرأة المسلمة تقدمنا وحلت المشاكل؟ A لا. بل الحصاد هو كما رأينا، وقد رد عليه ابن الخطيب قائلاً: بئسما يدعي فلاسفة العصر من أن السفور فيه الحياة وهو حق إذ إن أسلافنا الـ أعراب من فرط من يحبون ماتوا يعني أنه يقول: السفور فيه الحياة. ونقول: هذا صحيح؛ لأن أسلافنا العرب كان منتشراً عندهم الحجاب الكامل، ولم يكن هناك سبيل لرؤية المرأة، بل كان الرجل إذا عشق امرأة يموت؛ لأنه لا يستطيع أن يراها، كما يقول الشاعر: ما كان أغناني عن حب من من دونه الأستار والحجب فيقول ابن الخطيب: بئسما يدعي فلاسفة العصر من أن السفور فيه الحياة وهو حق إذ إن أسلافنا الـ أعراب من فرط من يحبون ماتوا يا خليلي! حدث عن الشرق قدماً حين كانت تعظم المعجزات حين كان القرآن يرجى ويخشى والقوانين آيه البينات حين كان الحديث يتلى ولا ير ويه إلا ذوو العقول الثقات إننا في الزمان نلفي أناساً في التوضي علومهم قاصرات أي أن هؤلاء الدعاة إلى تحرير المرأة لا يعرفون كيف يتوضئون أصلاً، ولا يعرفون كيفية شرح الوضوء والطهارة. وهمُ بعد يدَّعون علوماً أنكرتها عصورنا الخاليات ليت شعري ماذا يريدون منا وصنوف الأذى بنا محدقات بنت مصر هاتي سفورك واغشي كل ناد ولتمل منك الجهات عرفي نفسك الغداة وطوفي لا تفكي الأسواق والحانات ثم أمي مجالس القوم وادعي هم إلى حيث لا تمل الدعاة علناً بالسفور نبني حصوناً شامخات بها ترد العداة وعسانا نرى البرايا سدوداً لابن مصر وقد علاه السبات ولعمري لقد بكى الدين حزناً حين قال الخطيب يا سيدات إشارة إلى السنة التي كان يحلم بها قاسم أمين، حيث قال: متى يأتي اليوم الذي أرى فيه النساء مختلطة بالرجال والخطيب يقول: سيداتي آنساتي سادتي! فهذه كانت أمنية يحلمون بها، ولهذا فالشيخ ابن الخطيب رحمه الله يقول هنا: ولعمري لقد بكى الدين حزناً حين قال الخطيب يا سيدات

واقع المرأة التي أريد لها التحرر والتطور

واقع المرأة التي أريد لها التحرر والتطور لقد فقدت المرأة التي كان يلوح لها أنصارها بسعادة التحرر والتطور وجودها كامرأة، ولو قبضت على دينها لقبض الله عنها السوء وبسط لها الحلال، ولكنها ابتذلت وأهينت على يد أصدقائها وأنصارها وكانوا هم أول من زهد فيها. لقد انحسرت المرأة وغادرت حجابها وغادرت حصنها وعصت ربها، فماذا جنينا؟! لقد خالطت الرجال واختلط الحابل بالنابل، فهل زالت العقد النفسية؟ وهل استقر ما في دواخلهما؟ وهل جنينا سوى الثمار المريرة! ولن نطيل في وصف الهاوية التي تردت إليها المرأة المتحررة بفضل أنصارها وأصدقائها الكذابين؛ لأن الواقع حولنا يكفينا مؤنة هذه الإطالة، إنه واقع مرير نستطيع أن ندرك عواقبه وآثاره في كل مكان وفي كل بيت وفي كل طريق وفي كل وظيفة، ولو كنا نقول هذا توقعاً للمستقبل، أو قلناه قبل قرن مضى لاتُهمنا بالتحامل والمبالغة، لكنه واقع أليم تخبرك عنه هذه المرأة الضحية وهؤلاء الأنصار والأصدقاء إن صدقوا.

خصائص دعوة تحرير المرأة

خصائص دعوة تحرير المرأة من خصائص دعوة تحرير المرأة أنها منذ نشأتها وهي تدور دائماً في فلك الاستعمار، فالعمالة صفة أساسية لأغلب دعاة تحرير المرأة، وقضايا الحجاب كلها اختلطت منذ البداية بعجلة الاستعمار، وهناك علاقة وثيقة تربط دعاة تحرير المرأة والقوى المعادية للإسلام وعلمائه ودعاته. ومن خصائص هذه الدعوة: أن هؤلاء النسوة القائمات عليها لا يُعرفن بدين ولا بخلق ولا بمبدأ، ويُعرفن في الغالب بالعداء للإسلام، وهذا هو القاسم المشترك بينهن كما لاحظنا، والحال أن أعمى يقود بصيراً، فمن الذي يحرر الآخر؟! ومن هو الإنسان الذي يحررها؟ فهذه المتبرجة المحررة -أو هذه الأسيرة بالمعنى الصحيح- هي التي تحتاج إلى أن نحررها، فإن الإسلام هو الذي يحرر المرأة ويخرجها من هذه العبودية، أما أن المسلمة تقتدي بهؤلاء النسوة فهذا لا ينبغي، كما قال الشاعر: فأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطا حمالة الحطب ومن خصائص هذه الدعوة الخبيثة: أن موضوع تحرير المرأة انقلب فيه الميزان، حيث كانت علامة الفرق بين الحرة والأمة في عهد النبوة وفي عهد السلف أن الحرة تحتجب حجاباً كاملاً، وأن الأمة هي التي تكشف؛ وهذا يدل على أن الحجاب كان علامة على الحرية، وأما الآن فأصبح العهر والتبرج هو علامة الحرية في عرف هؤلاء القوم. ومن خصائص هذه الدعوة أيضاً أنها تتبنى مبدأ القومية النسائية، حيث يحاولون أن يظهروا أن النساء كلهن على وجه الأرض حزب واحد، لهن قومية اسمها (قومية نسائية). إن المرأة في كل مكان قضيتها واحدة، وهي الصراع ضد الرجل ومحاولة التحرر من سلطان الرجل، فكان دأب دعاة تحرير المرأة منذ البداية قضية تحرير المرأة فقط، ثم صارت هناك قومية خاصة اسمها (القومية النسائية) تربط المرأة المسلمة بالمرأة النصرانية واليهودية وعابدة الأصنام والأوثان والمشركة الملحدة، حتى رأينا من المتحررات من تفاخر بنساء الفراعنة عابدي الملوك والأحجار، وكأن قضيتهن واحدة ومطالبهن واحدة وأهدافهن واحدة ومعتقداتهن واحدة، وكلما تطابقت صورة المرأة مع المرأة الغربية زاد الإعجاب بها وتقريظها بأنها لا تفترق عن الأجنبية، حتى سقطت المرأة المسلمة فيما لم تسقط فيه عابدة البقر التي ظلت معتزة بزيها الخاص ومتميزة بالنقطة الحمراء بين عينيها. وهناك دور شهير جداً بالنسبة لبعض النسوة المشهورات، مثل بنت النيل التي هي درية شقيق، فقد أنشأت حزباً اسمه (بنت النيل) وقد كانت في العمالة للإنكليز في غاية الصراحة، وكانت تحرض الإذاعة البريطانية، وتشتكي مصر لبريطانيا، وتذهب إلى الإذاعة وتعمل حملات على مصر، وهكذا، وهذا أيضاً من ملامح هذه الدعوة كما ذكرنا. ولا شك أنه قد حصلت بشائر عظيمة جداً في السنوات الأخيرة، ولكن حصل مزيد انحطاط بفضل هذا المخلوق الذي قال: إنني كما أنا ضد الحجاب فأنا ضد عبدة الشيطان! فبفضل ما فعله هذا الإنسان أو هذا المخلوق حصل من جهوده وجهود أمثاله نوع من التراجع في ظاهرة الحجاب، ولا شك في ذلك، وهذه الظاهرة في غاية الخطورة، لكن نرجو أن تكون سحابة وتنقشع، ويكشف الله سبحانه وتعالى عن الأمة هذه الكربة. يقول صحفي ألماني عاش فترة في مصر: لقد عشت في القاهرة كمراسل صحفي من سنة ست وخمسين إلى سنة إحدى وستين، ومنذ هذا التاريخ كانت طبيعة عملي وراء حضوري إلى المنطقة بين الحين والحين، وكنت أفضل دائماً الإقامة بجوار النيل، إن التغيير الهائل الذي طرأ على القاهرة عاصمة الملايين معروف للجميع، فقد انتقلت هذه المدينة الضخمة من الطابع الشرقي حيث كانت النساء يرتدين الأحجبة والرجال يرتدون الطربوش إلى عاصمة كبرى، ولم تعد الفتيات اللواتي يرتدين البنطلونات والملابس العصرية يلفتن نظر أحد أو يقابلن بدهشة واستغراب، وأصبحت العلاقة بين الجنسين علاقة سوية لا تتخللها رواسب الجاهلية التي استمرت فترات طويلة في الشرق، ويكفي أن تعلم أنه منذ عشرين عاماً فقط كان (90%) من الرجال في القاهرة يرتدون الجلباب، وكانت كل النساء تقريباً يرتدين الحجاب، أما اليوم فإن القاعدة العامة هي البدل العصرية وعلى أحدث الموضة في الغرب، وبالنسبة للنساء فإنه حتى في أكثر المناطق شعبية لم نعد نرى الحجاب! فرح ذلك الصحفي الألماني، لكنها فرحة لم تتم، فقد فرح لأنه لم يبلغه رأي أخيه بلاكوت وزير المستعمرات الفرنسي في الجزائر، فقد حصلت قصة أثناء الاحتلال الفرنسي في ذكرى مرور مائة سنة على احتلال فرنسا للجزائر، حيث وقف الحاكم الفرنسي في الجزائر يقول: يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم. وقامت فرنسا من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر بتجربة عملية، فتم انتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، وأدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً، وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخرج رائعة، دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذاً بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً من الاحتلال؟ أجاب بلاكوت وزير المستعمرات الفرنسي قائلاً: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟! فسبحان الله! هم يكيدون كيداً والله يكيد كيداً، يمكرون والله خير الماكرين، فقوة الإسلام ليست في جهود أتباعه؛ لأن أتباعه مقصرون ومستضعفون أيضاً، بل قوته في أنه هو دين الله الحق، ولو أن ديناً آخر جوبه بعشر معشار ما واجهه الإسلام في خلال رحلته الطويلة خلال أربعة عشر قرناً لما بقي له ذكر، ولكان قد حرف كما حرفت أديان أخرى، ولقضي عليه واندثر كما اندثرت مذاهب أخرى، لكن الحافظ له هو الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فقوة الإسلام في الإسلام ذاته، حيث إنها قوة كامنة فيه، فتجد -مثلاً- الكلام على تعدد الزوجات والطعن في أحكام الإسلام وهذا الإلحاد الذي يقوله هؤلاء المنحلون، ومع ذلك لم يضروا الإسلام شيئاً. وفي يوم من الأيام قالت أمينة السعيد: كيف نرجع إلى فقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟! أين هي الآن؟ فقد كانت تسخر من الحجاب، وتهاجم الإسلام، ثم مُسحت كل هذه الجهود وكل هذه الميزانيات، قال عز وجل: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، فقطعاً أن العاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين.

انحسار السفور وامتداد الحجاب بين الجامعيات

انحسار السفور وامتداد الحجاب بين الجامعيات تقول جريدة الأهرام في تاريخ (26/ 4/1977م): مر واحد وسبعون عاماً على وفاة قاسم أمين الذي دعا إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب. يقول الكاتب: الغريب أنه بعد مرور واحد وسبعين سنة على وفاته وفي نفس الوقت الذي نحتفل فيه بذكراه تقوم الدعوة إلى رجوع المرأة إلى البيت وحجبها عن المشاركة في الحياة العامة. وهذا مصطفى أمين يعلن قلقه عن سبب انتشار المد الإسلامي بين الفتيات في مصر خاصة في الجامعات وبين أعلى الطبقات ثقافة، حيث يقول مصطفى أمين: حارب الأحرار -العبيد وليس الأحرار- في هذا البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها، ويظهر أن بعض الناس يريدون العودة بها إلى الوراء، وقد يحدث هذا في أي مكان، لكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر! وقال أحدهم في مجلة (صباح الخير) وقد تلقى بعض الردود المفحمة من فتيات محجبات عن آرائهن في الحب والعشق، فلم ترقه إجابات هؤلاء الأخوات، فعلق قائلاً: أي جامعة هذه، -يعني أن الجامعة لابد من أن تكون ملحدة وإلا فلا تكون متطورة- وأي طالبات جامعيات هؤلاء في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث المرأة مساوية للرجل وتصعد إلى الفضاء؟ إن كل ما يفعله المجتمع وكل ما تفعله الحكومة من تعليم البنت وتشغيلها، وما تفعله زعيمات النشاط النسائي في مصر لتأكيد هذه المساواة وتربية المرأة المصرية على الخروج على عقلية الحريم، تهزمه مثل هذه الأساليب في التربية والرعاية في المدن الجامعية للطلاب. وفي مجلة (أكتوبر) نشرت صحيفة (كرستيان ولسن) بحثاً عن الإنجازات التي حققتها المرأة المصرية في ميادين العلم والدراسات الاجتماعية، وقالت الصحيفة (كرستيان ولسن): شيء غريب في مصر، لقد كانت الأمهات من جيل هدى شعراوي أكثر تحرراً وتقدماً من بعض الفتيات في مصر الآن. أي: الفتيات المحجبات ومعنى ذلك أن هدى شعراوي وجيلها كن أكثر تحرراً وتطوراً من فتيات اليوم، والمتحدث يتحسر على الأموال والميزانيات والجهد الجهيد الذي بذل، ويرى أن هذا كله ذهب مع الريح. لأنه هكذا الباطل، ولابد أن الحق ينتصر في النهاية، وليس هناك شك في هذا. وجريدة (الأهالي) كانت تتابع ظاهرة الحجاب في قلق وفي غيظ، وكانت تفرد لها بحثاً في أثنائها على لسان الدكتورة زينب رضوان، وقد كان الناس من قبل يعيرون المرأة ويقولون لها: يا رجعية أنت لا تريدين أن تتعلمي إلى آخره، وأما في هذا الوقت فمن الذي يمنعهن من دخول الجامعات؟ ومن الذي يمنعهن من دخول المدارس؟ فأصبح الآن الموضوع ليس إقناعاً ولا حجة ولا حرية، وإنما هو قهر وإكراه. تقول زينب رضوان: انتشر الحجاب بين الطبقة المثقفة قبل العوام، وهذا على عكس ما هو متعارف عليه، ونفس هذه الطبقة المثقفة هي التي رفضت الحجاب في زمن هدى شعراوي وخلعته وداسته، هي ذاتها التي عادت تنادي به وبالعودة إلى الأصالة، بالإضافة إلى أن الغالبية العظمى من المحجبات من الطبقة الوسطى وهي الطبقة التي تقود التغيير في أي مجتمع، صحيح أنه انتشر أيضاً بين الطبقة الأرستقراطية، ولكن بنسبة أقل. وأمينة السعيد كانت تقول: الحجاب ثياب ممجوجة، فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها زي إسلامي، لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لبس أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء! وتقول منى رمضان في صحيفة (أكتوبر): عاد الحجاب مرة أخرى كظاهرة على وجوه الفتيات والسيدات في مصر، وهذه ليست آخر صيحة في عالم الموضة كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه نوع من الحشمة وإحياء التقاليد الإسلامية التي تطلب من النساء أن يدنين عليهن من جلابيبهن -تعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، وهذه آية قرآنية وليست تقاليد- والحشمة هنا نابعة من المرأة، وعلى أساسها فصلت هذه الثياب. وهذا زكي نجيب محمود يتباكى على تبرج الجاهلين الذي انقشع أمام الصحوة الإسلامية فيقول في مقالة بعنوان: (ردة في عالم المرأة) -أي أنه يسمي الرجوع إلى أحكام الإسلام ردة-: أصابت المرأة المصرية في أيامنا هذه نكسة ارتدت بها إلى ما قبل، هناك اليوم عشرات الألوف من النساء المرتدات ينزلقن تطوعاً إلى هوة الماضي، والمأساة أن المرأة اليوم تتبرع سلفاً بحجاب نفسها قبل أن يأمرها بالحجاب والد أو زوج، إن أبشع جوانب الردة في حياة المرأة المصرية ليس أن أحداً يتدخل في شئون حياتها، أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى فيمنعها أحد؛ لأن أحداً لا يمنعها من ذلك، وليس هو أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد؛ لأن أحداً لا يقفل في وجهها أبواب العمل، وإنما الجانب البشع من تلك الردة هو أن المرأة اليوم تريد أن تجعل من نفسها وبمحض اختيارها حريماً يتحجب وراء الجدران أو يتستر وراء حجب وبراقع! ثم يتحسر على زمن السفور فيقول: ذلك زمن أوشك على الذهاب مع رائدات الجيل الماضي. ثم يقول: إن في طائفة كبيرة من نساء هذا الجيل وبناته نكوصاً على الأعقاب بالقياس إلى الطموح الذي تميزت به أمهاتهن في الجيل الماضي، وإنها لمفارقة شديدة في أي مجتمع أن ترى الجيل الأصغر منه سلفياً لدرجة تزيد على المألوف، وترى الجيل الأكبر منه أقل سلفية، وبينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة، رأينا ثورة شبابنا تحتج هي أيضاً على أوضاع الحياة الراهنة وتدعو بها إلى نموذج السلف، وهذه مصيبة! حيث إنه يدعو الشباب إلى الرجوع إلى نموذج السلف. ثم قال في صحيفة (تتشن): حتى في الجامعات العبرية في إسرائيل بدأ الطلاب العرب والمسلمون يبدون اهتماماً متزايداً بالعودة إلى دينهم، وبدءوا يمارسون ضغوطاً على السلطات اليهودية بالسماح بفتح كليات للثقافة الإسلامية والشريعة الإسلامية في الجامعات اليهودية، كما بدأ العديد منهم يطلقون لحاهم، ويؤدون العبادات الإسلامية في الجامعات اليهودية، في حين بدأت الفتيات المسلمات في ارتداء الزي الشرعي. تقول الصحيفة أيضاً: في جامعة القاهرة يزيد عدد الطالبات بالزي الشرعي، وقد يأتي يوم لا تبقى فيه طالبة مصرية واحدة إلا وقد ارتدت الزي الشرعي الإسلامي. وهذا ليس بعيداً على الله سبحانه وتعالى، والحقيقة أن موضوع دعوة تحرير المرأة قد تلقى كثيراً من الصفعات، منها ما ذكرناه آنفاً من إقبال الفتيات على الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. والعملية ليست عملية قديم وجديد، بل العملية عملية حق وباطل؛ لأنه دين الله سبحانه وتعالى، فهم لا يستطيعون أن يستوعبوا حقيقة أن العاقبة للتقوى، وأن كلمة الله هي العليا.

الصفعات التي تلقتها دعوة تحرير المرأة

الصفعات التي تلقتها دعوة تحرير المرأة وهناك صفعات كثيرة تلقتها دعوة قاسم أمين، وأقوى صفعة هي المؤتمر الأخير هذا؛ لأنها عند من يعقل كشفت سوأة هذا المذهب المدمر. ومن هذه الصفعات التي تناسب أن نوردها هنا إسلام كثير ممن هم مفتونون بهم من الغربيين، سواء أكانوا رجالاً أم نساءً، بل وأصبحوا ممن يلتزم بالإسلام ويلتزم بالحجاب وبالنقاب، وصاروا يدعون إلى الإسلام في غاية النشاط، وممن دخل في الإسلام منذ سنوات سفير ألمانيا الغربية في المغرب: (مراد هوفمان، وألف كتباً في ذلك، مثل كتاب (البديل الوحيد)، أي أن الإسلام هو البديل الوحيد للبشرية، ومن ضمن ما يقول في كتابه وهو يرد على الذين يقولون إن الأحكام في الإسلام أحكام قديمة وعتيقة. لنقل إن الإسلام في تمسكه بالفضيلة عتيق، نعم هو عتيق، ولنا أن نعتز بذلك، فنؤكد أن الإسلام فخور بهذا. أي: ما دام أن فيه الفضيلة. ومن الصفعات التي تلقتها دعوة تحرير المرأة أيضاً: أن هدى شعراوي كانت تعد كوادر للمستقبل، فكان من ضمن التلميذات التي كانت تعدهن للمستقبل الأستاذة زينب الغزالي، فكانت ترسم لها -باعتبارها تلميذة وهي صغيرة- طريقاً، وشاء الله سبحانه وتعالى لها طريقاً آخر، وكانت زينب الغزالي طالما وقفت وجادلت علماء الأزهر من أجل الدفاع عن هدى شعراوي، لكن شاء الله سبحانه وتعالى أن تتعرض لحادثة حريق، وأثناء مرضها دعت الله سبحانه وتعالى أن يشفيها، وعاهدته على ارتداء الحجاب من هذه اللحظة، فلما استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءها تخلت عن الاتحاد النسائي بقيادة هدى شعراوي، فتلقت هدى شعراوي صفعة شديدة من هذه التلميذة النجيبة. فلم تستسلم هدى شعراوي، وطلبت مقابلتها، ولما حضرت أخذتها بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها وقبلتها، ثم بكت وقالت لها: يا زينب! كنت أريدك أن تكوني خليفتي من بعدي في الاتحاد النسائي. فردت زينب الغزالي: لقد اخترت واختار الله، فأنا مع اختيار الله، وأسست جمعية (السيدات المسلمات) التي كانت تنافس وتضاد اتجاه الاتحاد النسائي لـ هدى شعراوي، وبدأ الانفصام بين الاتجاهين يزداد، لكن عند مرض موت هدى شعراوي طلبت زينب الغزالي، فذهبت إليها ووافتها المنية وهي بجانبها. وهكذا توبة الفنانات والفنانين، فالفن هو سلاح الشيطان في محاربة الإسلام والصد عن سبيل الله تعالى وإلهاء الشباب، لكن موجة التوبة والاستقامة التي حصلت في جنود إبليس وانضمامهم إلى حزب الرحمن كانت من الصفعات الشديدة لدعوة التحرير.

الصراع بين الحق والباطل سنة كونية

الصراع بين الحق والباطل سنة كونية إن أعداء الحق في كل عصر هم على وتيرة واحدة، وقلوبهم متشابهة فيما يرد عليها من الخواطر والشئون، فالمعركة والصراع بين الحجاب والسفور، وبين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال لن تنقطع، فإن التاريخ يعيد نفسه، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه، كما قال سبحانه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]. فنحن مبتلون، والقضية أن وراءنا جنة وناراً، ووراءنا حساباً، وليست القضية قضية مذهب دنيوي يصارع مذهباً دنيوياً، أو مذهب سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك، بل القضية أن أعداء الله يجتهدون في إطفاء نور الله عز وجل وتشويهه وصد الناس عنه، فالصراع مستمر، والصراع ما دام قائماً فهو علامة صحية؛ لأنه يدل على التمايز بين الفريقين، وزوال الحد الفاصل بين الحق والباطل هو الخطر الحقيقي الذي يهدد ذاتية وهوية هذه الأمة، فسنة الله لن تتخلف ولن تتغير؛ لأنها دنيا، والدنيا دار الابتلاء، كما يقول الشاعر: ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات فلا تطلبن من عند يوم ولا غد خلاف الذي مرت به السنوات اللهم! من أراد الإسلام وأهله بسوء فأدر عليه دائرة السوء، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره. اللهم! اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

حرمة العلماء

حرمة العلماء حث الإسلام على مكارم الأخلاق ورغب فيها، ومن تلك الآداب إكرام الكبير وصاحب العلم وحامل القرآن، حيث ورد الترغيب في ذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين أعظم قدوة في ذلك؛ إذ ضربوا في هذا الباب أروع الأمثلة، فما أحوج المسلمين إلى الأدب مع أكابرهم وعلمائهم!

حب النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب رضي الله عنه

حب النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب رضي الله عنه الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراًًً ونذيراًَ بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، اللهم! صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. أما بعد: فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزىً له فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً فاطلبوه. فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: قتل سبعة ثم قتلوه! هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه. قال: فوضعه على ساعديه -ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى عليه وسلم- قال: فحُفر له ووُضع في قبره. ولم يذكر غسلاً) رواه مسلم في فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والحديث يرويه أبو برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزىً له)، يعني: كان في سفر غزو. ويفهم من ذلك أنه كان في هذا السفر ومعه جليبيب رضي الله تعالى عنه. (فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناًً وفلاناً وفلاناً. ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلاناً وفلاناًَ وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه). وجليبيب اسم لهذا الصحابي الجليل، وجليبيب تصغير جلباب، وقوله: (فطلب في القتلى)، أي: بحث عنه في القتلى: (فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه) أي: سبعة من المشركين قتلهم وحده رضي الله تعالى عنه، ثم بعد ذلك كأنه كان فيهم بقية روح فاجتمعوا عليه حتى قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (قتل سبعه ثم قتلوه! هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) والمقصود بهذا التعبير المبالغة في اتحاد طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق جليبيب رضي الله تعالى عنه، واتفاقهما في طاعة الله تعالى في مقابلة قوله في الجهة الأخرى في بعض المعاصي والذنوب: من فعل كذا فليس مني كما في قوله -مثلاً-: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) أما هنا فمبالغة في بيان شدة انتمائه إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (هذا مني وأنا منه) وكأنه قطعة من جسده أو بضعة من لحمه، قال: (فوضعه على ساعديه) نال جليبيب هذا الشرف، أن حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه الشريفتين: (ليس له -أي: ليس لـ جليبيب - سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحُفر له ووُضع في قبره)، وفي رواية: (ثم وضعه في قبره ولم يذكر غسلاً) لأن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه.

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب امرأة من الأنصار

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب امرأة من الأنصار وعن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار) وهذا الخبر مما يطلعنا على بعض من سيرة جليبيب وشدة محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، فرغم أن جليبيباً كان في وجهه دمامة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبه؛ لأن الله ورسوله لا ينظران إلى الصور والأشكال، وإنما إلى القلوب والأعمال، فمن ثم كان له هذه المكانة الخاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه خطب على جليبيب امرأة من الأنصار: (فلما حدث في ذلك أباها قال: حتى أستأمر أمها. فقال النبي صلى عليه وسلم: فنعم إذاً. فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها، فقالت: لا هاالله! إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟) (لا هاالله!) تعني: هذا يميني فكلمة (لا) هي لنفي كلام الرجل الذي أبلغهم هذا أو زوجها، و (هاالله) الهاء بالمد والقصر، بمعنى واو القسم، ولفظ الجلالة مجرور بها، و (إذاً) جواب القسم: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟) وإنما قالت المرأة ذلك لأن جليبيباً رضي الله عنه كان في وجهه دمامة. تقول: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟! وقد منعناها من فلان وفلان! قال: والجارية في سترها تستمع) أي أن الجارية كانت في الخدر أو في الستر تستمع لهذا الحوار من وراء الستر، قال: (فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟! إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه) جعلتهم يفيقون من هذا المسلك الذي يسلكونه لرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وفي رواية أنها قالت: (ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني) أي: ما دام هذا هو اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نسمع له ونطيع: (فكأنها جلت عن أبويها) يعني: فكأنها كشفت وأوضحت أمراً خفي عليهما، حتى كأنهما أفاقا من هذه الغشاوة التي جعلتهما يكادان يقعان في معارضة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل أجابا في الوقت، وقالا لها: (صدقت. فذهب أبوها إلى النبي صلى عليه وسلم، فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضينا. قال: فإني قد رضيته، فزوجها، ثم فزع أهل المدينة) يعني: حصل بعد ذلك أن أخافهم العدو (فركب جليبيب) يعني: كان جليبيب في أول من خرج في مواجهة هؤلاء المشركين: (فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم). قال أنس: (فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة) يعني أن هذه المرأة التي تزوجها جليبيب رغم أنها كانت ثيباً بعد الزواج لكن مع ذلك كانت من أنفق بيت في المدينة، وكلمة أنفق هنا مأخوذة من النَّفاق -بفتح النون- وهو ضد الكفاف، ويقصد بالنفاق الرواج، كما جاء في الحديث: (إن الحلف ينفق ثم يمحق) أي أن التاجر حينما يحلف على بضاعته فإن هذا يروجها وينفقها، لكنه يمحق البركة بعد ذلك. فالمقصود أنها كانت أعظم امرأة أيم في بيوت المدينة، بحيث كان يتسابق إليها الخطاب بعد قتل جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها. وهذا الحديث الأخير صحيح على شرط الصحيحين، رواه أحمد وأبو يعلى مختصراً، ويشهد له حديث أبي برزة السابق عند مسلم. وفي رواية قال ثابت: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها). وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً فقال: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (اللهم! صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً كداً) قال: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها) والأيم: المرأة التي ليس لها زوج بكراً كانت أم ثيباً. والشاهد من الحديث الوارد في شأن جليبيب رضي الله تعالى عنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) ففي هذا إشارة -كما ذكرنا- إلى اتحاد طريقهما، وأنهما كانا كأنهما جسد واحد، فقوله: (هذا مني) أي: كأنه قطعة مني أو بضعة مني (وأنا منه) مبالغة في بيان اتحاد الطريق والسبيل، ولهذا التعبير عن اتحاد الطريق بهذه العبارة نظائر، منها: ما روى أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم) متفق عليه.

إشارة الحديث إلى ميزان الولاء والبراء

إشارة الحديث إلى ميزان الولاء والبراء إن ذلك التعبير الذي يعطينا ميزان المولاة أو ميزان الحب في الله يعطينا أيضاً من الجهة الأخرى ميزان البغض في الله، وميزان البراءة ممن حاد الله ورسوله، وهو التعبير المشهور (من فعل كذا فليس منا)، أو (ليس منا من فعل كذا) فهكذا نصب الشارع علامات يعرف بهذه العلامات كون المعصية كبيرة من كبائر الذنوب، ومن هذه العلامات التعبير عن هذا الفعل بأن صاحبه ليس منا، أي: ليس من أهل سنتنا، وليس على طريقتنا الإسلامية. وذلك أن الله تعالى قال للمؤمنين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وليس المراد بهذا التعبير الإخراج الحقيقي من الدين، وإنما المراد الزجر عن هذه المعاصي، كما في قوله: (ليس منا من تشبه بغيرنا) وقوله: (لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)، وقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)، وذلك لأن سنة غيرنا منسوخة بشرعنا، وفي الجهة المقابلة يقول عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم)، أي: يصير منهم وليس منا. ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ويقول: (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه من النساء بالرجال)، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو تَسحر أو تُسحر له) ويقول أيضاً: (ليس منا من حلف بالأمانة) لأن الحلف بالأمانة حلف بغير الله، ويقول: (ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) (خبب) يعني: أفسد. ومنها قوله: (ليس منا سلق ومن حلق ومن خرق) (من سلق) أي: رفع صوته عند المصيبة بالبكاء (ومن حلق) أي: حلق شعره جزعاً على المصيبة (ومن خرق) أي: خرق ثوبه جزعاً على الميت. ومنها -أيضاً- قوله صلى عليه وسلم: (ليس منا من غش)، وقوله: (من غشنا فليس منا). ومنها: قوله: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، (دعا بدعوى الجاهلية) كما تفعل المرأة النائحة حينما تقول: واكهفاه. واجبلاه. إلى غير ذلك من عبارات الجزع عند نزول المصيبة، أو أن المقصود بدعوى الجاهلية أنه كان من عادتهم في الجاهلية أن الرجل إذا غلب في الخصام نادى بأعلى صوته: يا آل فلان. يا لبني فلان. فيبادرون لنصرته ظالماً كان أو مظلوماً؛ لأنه استغاث بهم، فيفزعون إليه ماداموا من قبيلته ومن عنصره. وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) والمقصود بالعصبية هنا معاونة الظالم، فالشخص العصبي هو الذي يغضب لعصبيته، ويحامي عنها بقبيلته أو عائلته أو غير ذلك مما ينتمي إليه، فالرسول عليه السلام يبغض إلينا هذا الداء الوبيل، داء الحزبية الجاهلية، وداء العصبية ومناصرة الشخص بمجرد أنه من حزبك أو قبيلتك أو عائلتك، لا لكونه على حق أو غير ذلك، وهذا الفعل القبيح قد شاع وذاع، خاصة بين بعض الجماعات الإسلامية، والذي يعتبر جرم الجماعات الإسلامية هو الحزبية البغيضة الجاهلية؛ حيث إنها تجعل الإنسان لا يحترم هذه القواعد في الولاء والبراء، وإنما يوالي في الحزب، ويعادي في الحزب، وليس مولاة في الله ومعاداة في الله عز وجل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بين بهذا الحديث أن تعصب الرجل لطائفة مطلقاً فعل أهل الجاهلية محذور مذموم، بخلاف منع الظالم وإعانة المظلوم من غير عدوان، فإنه حسن، بل واجب. فلا منافاة بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وبين قوله: في نفس الحديث: (أن تحجزه عن الظلم، فذاك نصرك إياه). ومن هذه الأحاديث أيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، كما لاحظنا في حديث جليبيب رضي الله تعالى عنه كيف أن هذه الجارية حينما استجابت وتأدبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفعها هذا الأدب، بحيث كانت رغم قتل زوجها رضي الله عنه أنفق أيم في المدينة كلها، وحظيت بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخير كله، فهذه إحدى ثمرات التزام الأدب مع الشرع المطهر ومع صاحب الشرع، وانظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلي شأن الأدب، إلى حد أنه كان يستعمل هذا التعبير الذي فيه بيان تنافي طريقه مع طريق من يسيء الأدب، وأن من يسيء الأدب ليس من المسلمين، وليس على طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قال: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).

مكانة الأدب في الإسلام

مكانة الأدب في الإسلام ومن هذا الحديث ندلف إلى موضوعنا، وهو الحديث عن حقوق المسلم، وصيانة عرضه، والتحذير من الغيبة ومن إطلاق اللسان في أعراض المسلمين بغير حق، ونحن لا نستوفي حقوق المسلم على المسلم، وإنما نقتصر -فقط- على التنبيه فيما يشيع التقصير فيه بين الناس في مثل هذا الزمان، فهذا الحديث الشريف يبين لنا كيف عظَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدب، حتى إنه عبر عمن لا يراعي الأدب، سواء أكان أدب الكبير مع الصغير في الرفق أم أدب الصغير مع الكبير بالاحترام والتوقير، أم أدب طالب العلم مع شيخه في أن يراعي حق هذا الشيخ عليه، فكل من لم يراع هذه الآداب فإنه متوعد بهذا التعبير الشديد الهول، وهو قوله: (ليس منا). وقد اهتم السلف الصالح رحمهم الله تعالى بباب الأدب اهتماماً عظيماً، ليس بمجرد التصديق، وإنما أيضاً بسلوكهم وواقعهم، كما سنذكر إن شاء الله تعالى. فالأدب اهتم به علماء المسلمين، حتى إنهم أفردوا فيه كتباً، ولا تكاد تجد كتاباً من الكتب الجوامع في السنة إلا وتجد كتاب الأدب جزءاً أساسياً من أبوابه ومن أغراضه ومقاصده، فهناك (كتاب الأدب) في صحيح البخاري، ومع ذلك الإمام البخاري أفرغ الأدب بكتاب آخر، وهو كتاب (الأدب المفرد)، وكذلك مَحضَّ بعض المصنفين بعض مصنفاتهم فقط للأدب، كما فعل السفاريني في كتابه المرسوم بـ (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) أو بـ (شرح منظومة الآداب)، وكما فعل الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى الذي كان يقول له شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية: إنك لست ابن مفلح، وإنما أنت مفلح. وهو صاحب كتاب (الآداب الشرعية) بخلاف ما صنف من الكتب في الآداب واقتصر مؤلفه على جزء في باب واحد من أبواب الأدب، وذلك مجرد عبور على أبواب الأدب الغالبة المنتشرة في مصنفات علماء المسلمين، وبهذا نجد خطورة مجال الأدب وخطورة هذا الحقل من حقول الأخلاق الإسلامية، ونجد هناك كلاماً في الأدب على النية وآداب النية، والأدب مع الله سبحانه وتعالى، والأدب مع القرآن الكريم، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدب مع الملائكة، والأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والأدب مع النفس بالتوبة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والأدب مع الخلق باختلاف أنواع هؤلاء الخلق، والأدب مع الوالدين، والأدب مع الأولاد، والأدب مع الإخوة، والأدب فيما بين الزوجين، والأدب مع الأقارب، والأدب مع الجيران، والأدب مع أخيك المسلم، حتى الأدب مع الكافر أفردوه بالكلام، وذكروا الآداب الشرعية التي ينبغي أن يلتزمها المسلم مع الكافر، بل تكلموا حتى في الأدب مع الحيوان ومع البهائم. وفي الكلام على حقوق الأخوة والأدب مع الإخوان في الله ذكروا آداب المجالس، وآداب الأكل والشرب، وآداب الضيافة، وآداب الاستئذان، وآداب السفر، وآداب اللباس، وخصال الفطرة، وآداب النوم، وآداب المسجد، وآداب حلق العلم، والأدب مع المشايخ، والأدب مع حاملي القرآن، والأدب مع كبير السن، وغير ذلك. وربما يتصور بعض الناس أن الآداب فقط هي أشياء من باب المروءة أو أشياء مستحبة ونوافل، وهذا ليس بصحيح، بل من الآداب ما هو فرض متحتم وواجب أكيد على كل مسلم، كما سنبين إن شاء الله تعالى.

احتفاء السلف بوظيفة الأدب

احتفاء السلف بوظيفة الأدب وقد بلغ من احتفاء السلف بوظيفة التأديب أن الأدب كان وظيفة من الوظائف التي يُرصد لها إنسانٌ خبيرٌ بها، فكما يتعلم الإنسان العلم وكما يحفظ القرآن كذلك كان يُجعل له مؤدب يؤدبه، حتى إن الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى كان يلقب (مؤدب أولاد الخلفاء) فكان هناك وظيفة شخص اسمه (المؤدب) يتولى تهذيب الطفل من صغره ومنذ نعومة أظفاره، ويربيه على مكارم الأخلاق وعلى تعظيم الدين، وغير ذلك من هذه الآداب الشرعية. ومما يعكس خطورة موضوع الأدب والتربية أهميته بالنسبة للأولاد؛ لأن الأدب أعظم ما ينفع إذا بدأ منذ صغرهم ومنذ نعومة أظفارهم، وقد جاء أن بعض الخلفاء كان قد سجن بعض خصومه، فلما أفرج عنهم وأطلقهم من السجن قال: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فاتنا من تأديب أولادنا. ولم يقولوا: ما فاتنا من حرياتنا أو من كذا أو كذا. وإنما قالوا: ما فاتنا من تأديب أولادنا. والكلام في باب الأدب كلام يطول جداً، لكننا سنجتزئ -كما أشرنا من قبل- أهم المهم من عيون هذا الموضوع.

نماذج من أدب الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

نماذج من أدب الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رجعنا إلى سلوك الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأدبهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنرى من ذلك نماذج عظيمة وكبيرة، حتى إن الكافر الذي أوفده المشركون في صلح الحديبية حينما رجع كان من أشد ما أثر فيه أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه قال لإخوانه من المشركين: لقد وفدت على قيصر وعلى كسرى فما وجدت أحداً يعظم أحداً مثلما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمداً، ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، ولا توضأ وضوءاً إلا تقاتلوا عليه يعني أنهم كانوا يتبركون بوضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال رويم بن أحمد البغدادي لابنه: يا بني! اجعل عملك ملحاًًَ وأدبك دقيقاً. قال له هذا مع أن المعروف أن نسبة الملح تكون قليلة حتى يصلح الطعام، فقوله له: اجعل عملك ملحاً يعني: قليلاً. لكن اجعل أدبك هو الدقيق، قال: اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً. يأمره بالاستكثار من الأدب، حتى تكون نسبة الأدب في سلوكه من حيث الكثرة كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه، وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من كثير من العمل مع قلة الأدب. وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتأسف على فوته. وقيل للعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (هو أكبر مني، وأنا أسن منه) حاله كما قال الشاعر: أدب كمثل الماء لو أفرغته يوماً لسال كما يسيل الماء وقيل لـ أبي وائل: أيكما أكبر أنت أم الربيع بن خثيم؟ قال: أنا أكبر منه سناً وهو أكبر مني عقلاً. ودخل عروة بن مسعود الثقفي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، فجعل يحدثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده السيف، فكان عروة بن مسعود يسيء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه كان يشير إليه بيده، حتى يلمس لحية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف، فكلما أهوى أو أشار بيده إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب يده بالسيف ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو: اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك. يهدده أن يقطع يده إذا امتدت ثانية إلى لحية رسول الله صلى الله وعليه وسلم وهو يكلمه، فقبض عروة يده. ويكفي في ذم سوء الأدب أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب الجفاة الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه من وراء الحجرات -وسورة الحجرات تسمى سورة الآداب؛ لما اشتملت عليه من الآداب الشرعية- فوصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين لم يراعوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] فنفى عنهم العقل لعدم مراعاتهم الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

اهتمام السلف بباب الأدب

اهتمام السلف بباب الأدب السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يولون باب الأدب اهتماماً عظيماً، كما روي عنهم أنهم كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، ولم يكونوا يقتصرون على تحصيل العلم النظري، وإنما أيضاً كانوا يمحضون نياتهم ويوجهونها نحو الاقتداء بالهدي وبالسمت الحسن. ولذلك يقول إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه. وقال ابن سيرين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) فلابد أن يدقق الإنسان أولاً قبل أن يتلقى العلم، وأن ينظر في سمت وحال من يتلقى منه العلم. وذلك هو ما فعله الإمام مالك رحمه الله تعالى، حيث يقول: رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم، فكان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه. أي أنه كان رقيق القلب شديد التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان يسمع كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبكي، وليس بكاءً عادياً، وإنما كان يتمادى في البكاء، حتى إن من يجالسونه كانوا يرحمونه ويشفقون عليه لشدة تأثره وشوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإذاً ما كانوا يقتصرون على تلقي العلوم النظرية حتى يضموا إلى ذلك أدب النفس، ومن ثم يقول الفراء الحنبلي: أدب النفس ثم أدب الدرس. وقال بعضهم لابنه: يا بني! لأن تتعلم باباً من الأدب أحب من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم. وقال مخلد بن الحسين لـ ابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. وذكر البرهان البقاعي أنه سأله بعض العجم أن يقرأ عليه فأذن له، فجلس متربعاً، فامتنع من إقرائه وقال له: أنت أحوج إلى الأدب منك إلى العلم الذي جئت تطلبه. أي: لأنه جلس أمامه متربعاً، ولم يجلس جلسة المتعلم التي وردت في حديث جبريل عليه السلام. وعن الأمام أبي حازم الأعرج رحمه الله تعالى قال: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا. يعني: أقل ما نتعارف عليه من الأخلاق التواسي فيما بيننا. أي: يعطي بعضهم بعضاً مما رزقه الله. يقول: وما رأيت في مجلسه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا. وفي الحقيقة هذا ليس في المقام الأول مدحاً لهؤلاء الطلبة، لكنه مدح لنهج شيخهم الذي رباهم على ذلك، ولذلك صدر الكلام بقوله: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين -ما كانوا يعرفون الجدل والمراء- ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا. وقال خالد بن نزار: سمعت مالكاً يقول لفتى من قريش: تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم. والأدب خير وسيلة لاستدرار علم الشيخ، فقد قال ابن جريج: لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به. فمن هنا لا نستبعد ونستغرب ما قاله بعض الشعراء: ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب فكأن العلم والأدب هما الأب والأم، وإذا فقدهما صار يتيماً.

أدب سحرة فرعون مع موسى عليه السلام

أدب سحرة فرعون مع موسى عليه السلام ذكر الله تعالى أدب السحرة مع موسى عليه السلام حينما قالوا: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115] فذكر الزمخشري أنهم تأدبوا مع موسى عليه السلام، ثم ذكر أن هذا الأدب مع موسى نفعهم بأن هداهم الله سبحانه وتعالى إلى الإيمان. وقد قص القرآن الكريم علينا كيف أن العجماوات نفسها راعت الأدب مع نبي الله سليمان حينما قالت نملة: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] وهذا من حسن الظن والأدب مع مقام سليمان عليه السلام، حيث قالت: إن سليمان وأصحابه لا يتعمدون قتل النمل، لكنهم سيقتلونكم دون أن يشعروا بذلك. وفي هذا تأدب مع نبي الله ومع أصحابه أيضاً.

أدب ابن أم مكتوم مع النبي صلى الله عليه وسلم

أدب ابن أم مكتوم مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مواضع الإشارة إلى هذه الآداب في القرآن الكريم قول الله سبحانه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:8 - 10] فقوله: (وأما من جاءك) فيه أن العلم يؤتى، ثم قال: (يسعى) ولم يقل: من جاءك يمشي. إنما قال: (يسعى) لشدة حرصه على التعلم. وقوله: (وهو يخشى) أي: يخشى الله سبحانه وتعالى.

الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام

الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام ومن المواضع التي يستفاد منها كثير من الأدب في القرآن الكريم -وما أكثر الآداب في القرآن الكريم- قصة موسى والخضر عليها السلام، حينما قال موسى للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] فهذه الآيات في هذا الموضع في القرآن الكريم تبين لنا أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، فمادمت تريد أن تتعلم وأن تستفيد فلابد من مراعاة هذه الآداب: أحد هذه الآداب أنه جعل نفسه تبعاً له، فقال له: (هل أتبعك) بخلاف من يذهب إلى الشيخ وإذا به يناطحه رأساً برأس وكلمة بكلمة، ويجلس متربصاًً كي يقذف سهام الاعتراض والتجاوز على شيخه، لكن انظر كيف أن نبي الله موسى كليم الله يرحل هذه الرحلة الشاقة التي يقول في شأنها: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، وذلك في سبيل طلب العلم، ففي في سبيل طلب العلم رحل موسى هذه المسافة الكبيرة. فلما لقي الخضر عليه السلام قال له: (هل أتبعك)، فموسى جعل نفسه تبعاً لمن يريد أن يتعلم منه. ومن هذه الآداب أيضاًَ أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، ولم يقل له: أنا تابع لك. وإنما تلطف واستأذن فقال: (هل أتبعك) يعني: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وبلا شك أن هذه مبالغة عظيمة في التواضع من موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وأيضاً قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف:66] فهذا يتضمن الإقرار على نفسه بالجهل، وإقراراً لأستاذه بالعلم، فهناك عالم وهناك متعلم مفتقر إلى هذا العلم ولذلك قال موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] فأثبت أنه طالب علم مفتقر إلى ما عنده من العلم، ثم قال: {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] و (من) هنا للتبعيض، يعني: من بعض ما علمك الله سبحانه وتعالى. فهذا أيضاً -بلا شك- مشعر بالتواضع، وكأنه يقول له: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً من ماله. وأيضاً قال موسى عليه السلام: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:66] إشارة إلى الاعتراف بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه ذلك العلم، وفي ذلك نسبة الفضل إلى صاحبه والمفيض به وهو الله عز وجل، وقوله: {رُشْدًا} [الكهف:66] هذا طلب منه للإرشاد والهداية، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل للإنسان لحصلت له الغواية والضلال. وقوله: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:66] طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، ولم يقل: أن تعلمن مما تعلمت. أو: تعلمن مما عندك من العلم. وإنما أشار إشارة عظيمة جداًَ هنا فقال: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:66] وفي هذا إشارة في غاية التهذيب والأدب والتواضع، أي أنه كما علمك الله فعلمني مما علمك الله. يعني: عاملني بجنس ما عاملك الله به، فبما أن الله أفاض عليك بهذا العلم فقابل أنت هذه النعمة بالشكر بأن تفيض علي أيضاًًَ مما علمك الله. ولعل هذا هو حكمة قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:66] وعدم قوله: مما عندك من العلم. أو: مما تعلمت. وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم، ولهذا شاع في العبارة المشهورة على ألسنة الناس: أنا عبد من تعلمت منه حرفاً. أو: من علمني حرفاً صرت له عبداً. وطبعاً ليس معناها العبودية التي هي عبودية من دون الله، لكن المقصود العبد الرقيق، يعني أنه يملكني كالعبد أو الرقيق. كما أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: (لا إله إلا الله) فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة، فلا تكون متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة؛ لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها، وإنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا إنما أتينا بها لأجل أنه صلى الله عليه وسلم أتى بها، ولا جرم حينئذ أننا يصدق علينا الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا مختصون بتبعيتنا له، قال عز وجل: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وفي هذا أمر لنا بالاتباع. فقول موسى عليه السلام: (هل أتبعك) يدل على أنه سيأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها، وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض فيما لا يصادم الشرع مصادمة صريحة. كذلك قوله: (أتبعك) يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء. وأيضاً ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أنه من بني إسرائيل؛ لأن موسى لما أتى إلى الخضر عليه السلام قال له: من أنت؟ قال: موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ فالخضر عرف أن الذي يحادثه هو من بني إسرائيل، وأنه موسى صاحب التوراة، وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة، وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به؛ لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد؛ لأنه يعرف قيمة العلم. وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أدبني الدهر فأراني نقص عقلي كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي وكذلك في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف:66] أثبت كونه تبعاًً له أولاً، ثم طلب ثانياً منه أن يعلمه. وكذلك قال موسى عليه السلام: (هل أتبعك على أن تعلمن)، فلم يطلب على تلك المتابعة شيئاً غير التعليم، كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه، ولا غرض لي إلا طلب العلم. وهذا هو محصل ما ذكره الفخر الرازي في هذا الباب، حيث ذكر الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام.

احترازات السلف في باب الأدب في مقام التعليم

احترازات السلف في باب الأدب في مقام التعليم السلف رحمهم الله تعالى كانوا يهتمون بهذا الباب أيما اهتمام، بل كانوا يحترزون احترازاً شديداً حتى في أبسط العبارات، فقد كان طالب العلم -وهذا محكي عن بعض المتأخرين- إذا جلس في مجلس الشيخ وقرأ عليه، فإذا كان في نص الكتاب الذي يقرؤه: (اعلم أن الموضوع الفلاني حكمه كذا وكذا)، إذا أتى إلى هذه العبارة في الكتاب الذي يقرأ فيه لم يخاطب شيخه بكلمة (اعلم)، بل يحولها إلى قوله: (ليعلم)؛ تنزهاً من أن يكون هو في مقام التعليم لشيخه، فبدل أن يقرأها (اعلم رحمك الله أن العلماء قالوا كذا وكذا أو اختلفوا في كذا)، يقول: (ليعلم)، ويبدل الكلمة تنزهاً من أن يخاطب شيخه بهذا التعبير.

الأدب من الكبير

الأدب من الكبير في الحقيقة باب الآداب باب واسع، ويستغرق أوقاتاً كثيرة جداً، ونحن ننبه على بعض الآداب التي يشيع التهاون والاستهانة بها، وحينما نناقش هذه القضايا نرجو أن يكون كل منا يطلع عليها لغرض التطبيق والامتثال لآداب الشرع الشريف، ومعالجة ما يشيع بيننا من التقصير في هذه الجانب. فندلف إلى أدب من هذه الآداب، وهو أدب مراعاة حق كبير السن، فمن يكبرك في السن فعليك أن تراعي حقه، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نعطي كل ذي حق حقه، بل أمر الله عز وجل بذلك في قوله: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] وصحيح أنها واردة في حوار شعيب مع قومه في بخس المال، لكن قد يكون معنى قوله: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]، يعني: كل ما يستحقونه، ومنها الحقوق الأدبية بالاحترام والتوقير، وليس أدل على ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) أي: ليس من المسلمين، ولا أخلاقه أخلاق المسلمين، ولا أدبه أدب المسلمين؛ لأن المسلمين خير أمة أخرجت للناس. فيجب أن نعرف هذه الحقوق، وأن نعطي الأكابر حقوقهم كاملة غير منقوصة، وأن نبذلها لهم عن طيب خاطر، وأن نخفض الصوت بحضرتهم، وأن نحرص على الانتفاع بخبرتهم، والالتقاط من جواهر علومهم، وإفساح المجال لهم، وتهيئة الموضع اللائق بشيبتهم، ووضع جواهر علومهم في صدورنا كما توضع الدرر الكبار في العقد المنضود، فإذا أراد إنسان أن ينظم عقداً فإنه يضع الحبات الكبرى في صدره وفي مركزه، فالصدر للصدر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا) يدل على ذلك؛ فإنه إذا أمرنا بحسن الخلق مع الصغير فأولى ثم أولى أن تَحسُن أخلاقنا مع الكبير، وإذا أمرنا بالرفق مع الجاهل فيكف بالعالم؟ وإذا أمرنا الله عز وجل بحسن الخلق مع الكافر فكيف بالمسلم؟ وذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وهذه تعم اليهودي والنصراني، وقضية الولاء والبراء قضية أخرى من الثوابت التي لا تنازل فيها، لكن لا يعني أنك تعتز بدينك أن تكون سيئ الخلق ولو مع الكافر ولو مع البهائم، فأنت مطالب بمراعاة هذه الآداب، بل إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وأخاه هارون عليهما السلام إلى فرعون أمرهما بالقول اللين، وموسى عليه السلام هو كليم الله الذي كتب له التوراة بيده، وخصه بتلك الخصائص، وليس هذا فحسب، بل ضم إليه أخاه هارون وزيراً، فهما رسولان كريمان أرسلا إلى أشقى خلق الله في زمانه وهو فرعون، ومع ذلك قال الله سبحانه وتعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فأمرهما بأن يقولا له قولاً ليناً. إذاً لين القول والموعظة الحسنة والحكمة والأدب في الحوار لا يعني أنك تتنازل عن دينك، وسوء الخلق والتجاوز في التعبيرات لا يعني أنك قوي في الحق، إنما الفتوة أن تجمع بين الثبات على الحق مع حسن الخلق وفي نفس الوقت؛ لأنه ليس المقصود التشفي من هذا الإنسان الهالك، وإنما المقصود هدايته واجتذابه إلى الحق، وهذا ما التزمه موسى، بقوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:18]، فانظر إلى التلطف في عبارة موسى مع فرعون وهو من هو؟ ففي قوله: (هل لك إلى أن تزكى) تلطف، ولم يقل: هل لك إلى أن أزكيك، لكن قال: (هل لك إلى أن تزكى)، وكأنه هو الذي يزكي نفسه، ولم يقل له: هل لك إلى أن أزكيك، أو تعال أعلمك أو أزكيك، بل قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:8 - 19]. فإذا كان هذا مع الكافر فكيف به مع المسلم؟! وإذا كان مع الصغير فكيف به مع الكبير؟! وإذا كان مع الجاهل فكيف به مع العالم؟!

مكانة إكرام ذي الشيبة المسلم

مكانة إكرام ذي الشيبة المسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) رواه أبو داود. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله) يعني: من تبجيل الله وتعظيم الله، ومن العلامات التي تبين أن هذا الإنسان يعظم الله سبحانه وتعالى الآتي: أولاً: (إكرام ذي الشيبة المسلم) أي: الذي شاب رأسه ولحيته في التوحيد وفي العبادة وفي الصيام وفي طاعة الله سبحانه وتعالى وفي ذكره عز وجل. فهذا لا شك أنه تتضاعف حرمته بسبب هذا النور الذي جعله الله في شعره، وهو نور المسلم كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الشيبة توجب له حقاً زائداً على من هو دونه، فإن من تعظيم الله أن تعظم من شاب رأسه ولحيته في التوحيد. ثانياً: (وحامل القرآن)، أي: ومن علامات تعظيم الله سبحانه وتعالى تعظيم الشخص الذي شرفه الله سبحانه وتعالى بحمل القرآن، بشرط أن لا يكون غالياً فيه ولا جافياً عنه، والغلو فيه هو المبالغة في التجويد، أو الغلو فيه بالإسراع في بالقراءة، بحيث يمنعه الإسراع عن تدبر معانيه، أو الغلو فيه مجاوزة الحد فيه من حيث لفظه أو من حيث معناه بتأويل باطل، ولهذا قال: (غير الغالي فيه ولا الجافي عنه) والجفاء في القرآن: أن يتركه بعد علمه، وأن ينساه بعد حفظه، وأن يتباعد عن العمل به وإتقان معانيه، فهذا شرط حامل القرآن. ثالثاً: (وإكرام ذي السلطان المقسط) يعني العادل، سواء أكان حاكماً أم دون ذلك من ذوي السلطان، فما دام عادلاً مقسطاً فإن إكرامه من إجلال الله سبحانه وتعالى، ومن ثم نجد علماء المسلمين في متون العقيدة ينصون على هذا، وهو أن خلفاء المسلمين الحاكمين بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمقيمين العدل بين الناس هؤلاء يتعبد بتعظيمهم، بل تعظيمهم من علامة تعظيم الله عز وجل.

أهمية تقديم الكبير وإجلاله

أهمية تقديم الكبير وإجلاله جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من الشباب فأقاموا عنده، فلما قاربوا الانصراف قال لهم: (وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم) رواه البخاري. فكبر السن أحد الأسباب التي تعطي حق الأولوية في الإمامة بعد أسباب أخرى، فإن قيل: لماذا هذه المجموعة خصت بقول النبي عليه الصلاة السلام: (ثم ليؤمكم أكبركم)؟ ف A جاء في أول الحديث أنهم قالوا: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون) أي أنهم كانوا شباباً متقاربين في السن، وأتوا في وقت واحد، وتعلموا نفس العلم، فبالتالي يغلب عليهم أنهم حفظوا نفس الحفظ، فمعنى ذلك أنهم كانوا مستوين في قراءة القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم) وهؤلاء الشباب كانت هجرتهم في وقت واحد، وكانوا شباباً متقاربين في السن، فمن ثمَّ قال لهم في هذا الحديث: (وليؤمكم أكبركم). ولما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر وشرع أصغرهم في الكلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر الكبر) والكبر: جمع أكبر، يعني: احترم الكبار. فعندما يكون هناك صغار وكبار فعلى الصغار أن يتركوا الكبار أولاً يتكلمون. ومثل هذه الآداب لا ينبغي لنا أن ندع أبناءنا يتلقونها جزافاً، وبصورة غير مقصودة، بل لابد من أنك تفرد مجالس مع أبنائك بأن تلقنهم تلقيناً هذه الآداب، وتلح على ذلك، وتحاسب أحدهم إذا قصر، بحيث تترسخ هذه الآداب في نفسه منذ صغره، وتسهل عليه عند كبره، ومن ثمَّ لم يدع الرسول عليه السلام هذا الموقف يمضي دون أن يلقن الطفل هذا الأدب الشرعي المهم، فلابد من أن تلقنهم ذلك وتوجهه توجيهاً مباشراً. فلما شرع أصغرهم في الكلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر الكبر) يعني: قدم للكلام من هو أكبر سناً منك. فهذا أحد حقوق كبير السن أنه لا يتقدم بالكلام بين يديه. وجاء في بعض الروايات: (الكبر الكبر) بالنصب على الإغراء.

أدب ابن عمر رضي الله عنهما مع الأكابر

أدب ابن عمر رضي الله عنهما مع الأكابر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، لا تحت ورقها. فوقع في نفسي أنها النخلة، فكرهت أن أتكلم وثمَّ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما لم يتكلما قال النبي صلى عليه وسلم: هي النخلة. فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبت! وقع في نفسي أنها النخلة. قال: ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا. قال: ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت). متفق عليه. فانظر إلى أدب عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، يقول النبي عليه السلام في هذا المجلس: (أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم)، وقد ضرب الرسول عليه السلام للمسلم أمثلة كثيرة، كما في قوله: (مثل المؤمن مثل النحلة، إذا أكلت أكلت طيباً، وإذا وضعت وضعت طيباً، وإذا وقعت على عود نخر لم تكسره) يعني: حتى لو أن المسلم ينصح فاسقاً أو فاجراً فإنه -أيضاً- يكون متأدباً في النصيحة ولا يجرح. ولذلك قال: (وإذا وقعت على عود نخر لم تكسره) بل تفيد الناس. والشاهد أن هذا الحديث -أيضاً- فيه ضرب مثل آخر للمؤمن، وهو أن المسلم مثله مثل النخلة؛ لأن المسلم يدين بالسلام أو بالسلامة لا غير، ولا يأتي منه إلا كل سليم وكل سلامة وعافية وخير. وفي الحديث: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، فالمسلم هو من سلم الناس من أذيته، ولا يأتي إلا بالخير. والشجرة التي مثلها مثل المسلم: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25]، أي: تعطي ثمرها كل حين بإذن ربها. وقوله: (لا تحت ورقها) يعني: لا تسقط ورقها. يقول ابن عمر: (فوقع في نفسي أنها النخلة) أي: عرف أن جواب هذا السؤال هو أنها النخلة، قال: (فكرهت أن أتكلم وثمَّ -أي: هناك- أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنها، فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي النخلة). فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبت! وقع في نفسي أنها النخلة، قال: ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا). ثم انظر كيف أن ابن عمر أعطى أباه المبرر أو المسوغ لعدم كلامه، وهو مراعاة احترام من هو أكبر منه سناً في المجلس، فقال: (ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت).

أهمية إجلال وتقديم صاحب العلم، وذكر نماذج من هدي السلف في ذلك

أهمية إجلال وتقديم صاحب العلم، وذكر نماذج من هدي السلف في ذلك يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ وإن كان قد بلغ من العلم مبلغاً فآيس من خيره؛ فإنه قليل الحياء. فقوله: (إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ) يعني المشايخ العلماء الذين هم أكبر منه في العلم وفي السن، ثم مع ذلك تراه يتكلم بين يديهم، فإذا سأل الشيخ سؤالاً يبادر هو إلى الجواب، ولا يراعي هذا الضابط، أو لا يراعي هذا الأدب، يقول: إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ وإن كان قد بلغ من العلم مبلغاً فآيس من خيره؛ فإنه قليل الحياء. أي: لا تضع فيه أملاً بأنه يأتي منه خير؛ لأن هذا قليل الحياء، ولو كان عنده حياء لاستحيا أن يتكلم في حضور من هم أكبر منه. وقال خلف: جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه. والإمام أحمد هو إمام أهل السنة والجماعة، فاجتهد خلف في أن يجلس الإمام أحمد على مكان مرتفع، فالإمام أحمد أبى إلا أن يجلس جلسة المتعلم منخفضاً عند المحدث خلف. يقول: فاجتهدت أن أرفعه بأن ألح عليه أن يرتفع في المجلس فأبى، وقال: لا أجلس إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. وكان القاضي أحمد بن إبراهيم بن حماد المالكي مع كونه كبير القضاة إلا أنه كان يتردد إلى الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي يسمع من تصانيفه، واتفق مجيء شخص لاستفتاء الطحاوي عن مسألة والقاضي عنده، أي أن الرجل جاء يسأل الإمام الطحاوي في مجلسه وكان كبير القضاة موجوداً في هذا المجلس، فلما سأل الرجل الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى عن هذه المسألة قال الطحاوي: مذهب القاضي -أيده الله- كذا وكذا. ولم يقل: مذهبي. وإنما حكى مذهب القاضي الجالس في المجلس، فقال له السائل: ما جئت إلى القاضي، إنما جئت إليك! فقال: يا هذا! هو كما قلت. فأعاد السائل، فقال له القاضي: أفته -أيدك الله- برأيك. فقال له الطحاوي: إذاً حيث أذن القاضي أيده الله أفتي ثم أفتاه. وقال أبو زكريا العنبري: شهدت جنازة حسين القباني سنة تسع وثمانين ومائتين، فصلى عليه أبو عبد الله -يعني محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي شيخ أهل الحديث في عصره -فلما انصرف قدمت دابته، فأخذ أبو عمرو الخفاف بلجامه، وابن خزيمة إمام الأئمة بركابه، وجعل الجارودي وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه، فمضى ولم يكلم واحداً منهم. وهذا موقف عابر، لكن إذا تأملت وحللت هذا الموقف تجد شدة احترام هؤلاء لأكابرهم ولعلمائهم، فمجرد أن صلى الإمام البوشنجي رحمه الله تعالى على الجنازة فلما انصرف قدموا له الدابة التي يركبها، وكان الذي احتف به يخدمه هم أئمة المسلمين في ذلك العصر وفي ذلك البلد، فهذا أبو عمرو أخذ بلجامه، والإمام ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة رحمه الله تعالى أخذ بركابه، والجارودي وإبراهيم بن أبي طالب جعلا يسويان عليه ثيابه، فمضى ولم يكلم أحداً منهم رحمهم الله تعالى أجمعين. وعن حكيم بن قيس بن عاصم أن أباه أوصى عند موته بنيه، فقال: اتقوا الله! وتوجوا أكبركم؛ فإن القوم إذا توجوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا توجوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم. فقوله: (اتقوا الله وتوجوا أكابركم) يعني: راعوا حق الكبير وقدموا الكبير. (فإن القوم إذا توجوا أكبرهم) يعني: جعلوه سيدهم (خلفوا أباهم) يعني: قاموا مقام أبيهم في حسن الفعال. (وإذا توجوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم) فالأكفاء سوف ينظرون إليهم بازدراء، فعدم احترامك للكبير يجعل من يراك من بعيد ينظر إليك بازدراء؛ لأن في هذا نسبة لك إلى سوء الأدب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (البركة مع أكابركم، البركة مع أكابركم). وعن عبد الله بن مغول قال: كنت أمشي مع طلحة بن مطرف، فصرنا إلى مضيق -أي: إلى مكان ضيق لا يتسع إلا لمرور شخص واحد فقط- فتقدمني -يعني أنه كان يعرف أنه أكبر منه في السن فسارع هو إلى التقدم- ثم قال لي: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك. وعن الفضل بن موسى قال: انتهيت أنا وعبد الله بن المبارك إلى قنطرة، فقلت له: تقدم. وقال لي: تقدم. فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين. يعني أنهما -حتى يحسما الخلاف- ظلا يحسبان عمر كل منهما. قال: فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين. فيفهم من ذلك أن الذي تقدم هو الأكبر. وعن يعقوب بن سفيان قال: بلغني أن الحسن وعلياً ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي. يعني أنهما توأمان ولدا في وقت، ومعلوم أنه لا يخرج التوأمان في وقت واحد، وإنما يكون هناك فرق بينهما قد يكون دقائق أو أكثر أو أقل، ومع ذلك يقول هنا: بلغني أن الحسن وعلياً ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي -أي أنه أكبر منه بدقائق- فلم ير قط الحسن مع علي في مجلس إلا جلس علي دونه، ولم يكن يتكلم مع الحسن إذا اجتمعا في مجلس. مراعاة لهذا الفارق البسيط في السن بينهما، وهو عبارة عن لحظات؛ لأنهما توأمان، فالله المستعان. ويقول يحيى بن معين الإمام الجليل رحمه الله تعالى: إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي مسهر فيجب على لحيتي أن تحلق. يعني: إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي مسهر فهذا سوء أدب، وبالتالي ينبغي أن أعزر وأعاقب بحلق لحيتي. وهو لا يحصل منه ذلك، وإنما هذا مجرد ضرب مثل، وإلا فبعض الأمراء الذين لم يكن عندهم فقه كانوا إذا أرادوا تأديب الرجل والتشهير به حلقوا له لحيته، فهذه العقوبة كانت من التعزير، ولذلك العلماء نصوا في كتب الفقه على أنه لا يجوز التعزير بحلق اللحية؛ لأنها معصية، والتعزير لا يكون بالمعاصي، لكن الشاهد من هذا الموقف مراعاة الأدب مع من هو أجل وأكبر. وعن الحسن بن علي الخلال قال: كنا عند معتمر بن سليمان يحدثنا إذ أقبل ابن المبارك، فقطع معتمر حديثه، فقيل له: حدثنا. فقال: إنا لا نتكلم عند كبرائنا. وانتهى أبو منصور وإبراهيم إلى زقاق، فقال له إبراهيم: تقدم. فأبى أن يتقدم، فتقدم إبراهيم، ثم قال: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمت. وهذا غير القصة التي ذكرناها قبل. وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: إذا تكلم الحدث -يعني: صغير السن- في الحلقة عندنا أيسنا من خيره، وقلنا: هذا لا يفلح؛ لأنه سيء الخلق قليل الحياء. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى: رأيت أبي إذا جاء الشيخ والحدث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم، فيكونوا هم يتقدمونه، ثم يخرج من بعدهم. وقال المروزي: رأيته جاء إليه مولى ابن المبارك، فألقى إليه مخدة وأكرمه. يعني: عظم الإمام وأحمد مولى ابن المبارك وخادمه أو عبده تعظيماً لـ ابن المبارك نفسه. يقول: رأيته -يعني الإمام أحمد - جاء إليه مولى ابن المبارك فألقى إليه مخدة وأكرمه، وكان إذا دخل عليه من يكرم عليه يأخذ المخدة من تحته فيلقيها له. وقال المروزي: كان أبو عبد الله -يعني الإمام أحمد رحمه الله- من أشد الناس إعظاماً لإخوانه ومن هم أسن منه، لقد جاءه أبو همام راكباً على حمار، فأخذ له أبو عبد الله بالركاب، ورأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ. وكان بكر بن عبد الله المزني يقول: إذا رأيت من هو أكبر منك فعظمه، وقل: إنه سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح، وإذا رأيت من هو أصغر منك فعظمه وقل في نفسك: إني قد سبقته إلى الذنوب.

إجلال حامل القرآن وتقديمه

إجلال حامل القرآن وتقديمه وأيضاً من هذه الحقوق حق حامل القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح أن خيرنا هم أهل القرآن، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فهذا بيان لطبقة عليا من طلبة العلم، وأن أشرف طلبة العلم وخير العلماء والمتعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن الكريم؛ لأن خير الكلام كلام الله، فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل بكلام الله عز وجل مريداً بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، فلأهل القرآن شرف عظيم بهذه الشهادة على لسان رسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وقد خص الشرع الشريف أهل القرآن بكثير من الفضائل، فإنهم يتقدمون بحسب اهتمامهم بالقرآن الكريم، وبحسب حظهم من حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم حينما استعرض قوماً وكان بصدد تأمير أمير عليهم فسألهم عما يحفظ كل منهم، فلما رأى أحدهم قد قرأ سورة البقرة قال له: (أنت أميرهم)، فأمَّره لحفظه سور البقرة. وقال عليه الصلاة السلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). رواه مسلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً) رواه البخاري. أي: كان القراء -حفاظ القرآن- هم الذين يقدمهم عمر، بغض النظر عن سنهم، سواء أكانوا كهولاًُ أم شباباً ما داموا حافظين للقرآن، فكان يشكل منهم مجلس مشورته ومصاحبته. وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن لله أهلين. قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته). وكان صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟) أي: يجمع بينهما في الدفن، ويقدم أحدهما قبل الآخر، وهذا التقديم يتم على أساس حفظه للقرآن الكريم، فكان يقول: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد) رواه البخاري. وبهذا نكون قد مررنا على بعض الحقوق العامة الشاملة التي تتعلق بحق المسلم عموماً، وفيما يتعلق بحفظ غيبته وعدم انتهاك حرمته بالغيبة، فضلاً عن البهتان، وكذلك مراعاة الأدب مع كبير السن، وكذلك الأدب مع حامل القرآن الكريم، والقاعدة أن الحرمة تتضاعف بتعدد جهات الانتهاك، أي أن بعض المعاصي إذا حصلت في المخالفة من جهة واحدة فهذا ذنب، ويتعاظم هذا الذنب وهذا الوزر إذا تعددت جهات الانتهاك. فمثلاً: لو أن إنسان له جار، فله حق الجوار وله حق المسلم، ولو كان قريباً فله حق زائد وهو حق الرحم، فأذية مثل هذا الجار لا يكون وزرها مثل أذية الشخص الأجنبي أو الجار الكافر، وهكذا، فكل ما مضى من كلام كان تمهيداًً وتوطئة لأعظم الناس حقاً في المسلمين، وهم أهل العلم وأهل البصيرة في الدين، فهم يشتركون مع كل من مضى في هذه الحقوق: حق الإسلام، وحق كبر السن، وحق حمل القرآن الكريم، ثم بعد ذلك حق العلم الذي شرفهم الله سبحانه تعالى به، فإن هذه الحقوق جميعاً -وخاصة حق العلم- تفرض علينا التزامات تجاههم، وحينما نتكلم عن أهل العلم فنحن لا نقصد زمناً معيناً أو مكاناً معيناً، وإنما نقصد جميع أهل العلم ابتداء من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى عصرنا الذي نعيشه، فللعلماء حرمة وحقوق وآداب ينبغي أن نلتزمها معهم. والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طول الأمد

طول الأمد لقد نهانا الله عز وجل عن أن نتشبه باليهود الذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وطول الأمد تنتج عنه أمور: منها البعد عن الله وعدم العمل بالقرآن، وترك تحكيم شرع الله، ولكن على الإنسان أن يبحث عن علاج لهذه الأسباب والأمراض التي بدأت تستشري في قلوب كثير من الناس وإلا وقع في المصيبة، نسأل الله العافية.

أهمية الالتزام وتجديد الإيمان

أهمية الالتزام وتجديد الإيمان الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخي المسلم! نحن نعرف أن كلمة (ملتزم) شاعت في بداية الصحوة الإسلامية كمهرب يهرب به الإخوة من وصف الناس بالكفر، وأيضاً للتمييز بين المسلم الذي يدخل في اسم عموم الإسلام مع أنه مقصر ومفرط في دينه، فكأنها صارت تعبيراً عن مسلم حسن إسلامه، فراراً من تكفير المسلمين بالمعاصي والتقصير، وفراراً أيضاً من وصف المسلم العام الذي يفرط ويقصر في دينه، والذي كنا جميعاً نلحظه أن كلمة (ملتزم) هذه كانت كلمة لها شأن عظيم جداً؛ لأنها كانت تعبر عن نقطة تحول كاملة في كل السلوك الحياتي والفكري والحد الفاصل بين ما مضى وبين الأمس، وبين اليوم وبين الغد، كانت نقطة تحول يتحول الإنسان فيها ويعيد تخطيط حياته كاملةً في ضوءِ ما يمليه عليه دينه الذي جدد العهد مع الله تبارك وتعالى أن يلتزم به، وينبغي أن نشتغل بدعوة الناس عموماً إلى الالتزام بدينهم، وأن نقوم بتحسين إسلامهم، ويتوجب علينا بين الحين والآخر أن لا ننسى أنفسنا، فنحن محتاجون إلى تصحيح إسلامنا وتجديد إيماننا، مع الاهتمام بالفقرة العددية والانتشار الأفقي في ساحة الدعوة، وربما كان هذا على حساب التغذية الفردية والسلوكية في بعض الناس، وخاصة إذا ضممنا إلى ذلك أن إنساناً يكون في أغلب عمره قد قضى هذا العمر من طفولته إلى صباه إلى أوائل شبابه طبقاً لنظام معين في المجتمع، وفي تعاملاته وأخلاقه وسلوكه، فإذا أراد تغيير بعض الصفات في الكبر فإنه يكون فيه شيء من الصعوبة، وربما حمل الإنسان على فعل ما كان عليه من قبل هذا الالتزام أو أن يترخص فيما لا يجوز له فيه الترخص أنه لم ينشأ على طاعة الله منذ الصغر، فنرجو أن تكون الأجيال القادمة بإذن الله أسعد حظاً منا. وأكثر ما نعانيه الآن أنه بطول الأمد وبمرور الوقت يحصل فينا تغير وتحول، وهذا التحول الذي بقي يصيب المظهر أحياناً، وليس في الأمر كبير خطورة، لكن المشكلة أن هذا التحول مع الوقت يصيب الجوهر لا المظهر فقط، وينفذ إلى الصفات، ويعدل القيم والموازين التي ما كنا نتصور أنه في يوم من الأيام أن نتنازل عنها أو نمعن التفكير فيها. أيضاً التحول في ترتيب الأولويات التي تشغل الإنسان في حياته، فبعد أن كان الأخ يعاهد الله تبارك وتعالى حينما يلتزم على أنه إذا تزوج سيفعل كذا، وأنه إذا رزق بأولاد سيربيهم على كذا، وسيجعلهم يحفظون القرآن في سن كذا إلى آخر هذه الخطط والآمال إذ أنه يغير هذا كله، والواقع أننا نكون قد تنازلنا عن هذه الأشياء أو قصرنا أو فرطنا، وربما تغيرت نظرة الناس إلى أشياء كثيرة حتى يجوز أن يسمى حالهم بالافتتان، وقد قال بعض السلف في حد الفتنة: أن تستحل ما كنت تراه حراماً. يحمل هذا على أن الإنسان يترخص في شيء كان يراه حراماً، ولا يكون تحوله هذا عن زيادة علم ورسوخ في الفقه، وإنما مجرد جريان وراء الهوى والشهوات، وضعف أمام الفتن والمغريات، فنحن الآن ينبغي أن نلتفت إلى ضرورة أن نسعى لتحقيق صحوة جيدة أو زيادة الصحوة، فتوبتنا تحتاج الآن إلى توبة، والتزامنا يحتاج إلى التزام، وعلينا أن نجدد العهد مع الله تبارك وتعالى، وليس في هذا معرة أو أي نقص، وإنما هذه طبيعة البشر، إننا في الطريق إلى الله بصفتنا البشرية قد نتعثر، وليس الخطأ أن تتعثر ولكن الخطأ أن تتخذ الحفرة التي وقعت فيها مستقراً ومقيلاً، وتأوي إليها، وتخضع وترضخ لهذا الأمر، والواجب على الإنسان أن ينهض من العثرة ويجدد التوبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً، إذا ذكر ذكر) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ونفس هذا المعنى الذي يشير إليه عبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حتى لا ينزعج بعض الناس من هذا التعبير الذي نقوله، وهو أننا ينبغي أن نبحث عن تحقيق الصحوة، وتجديد الإيمان، وتحقيق الالتزام من جديد، وتجديد التوبة، وقد ألفنا خيراً من شيخ الإسلام ومجدد شباب الإسلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى، حكا عنه ابن القيم رحمه الله في أواخر حياته المباركة يقول: هذا كلام شيخ الإسلام: والله منذ أن احتلمت وبلغت وعقلت إلى الآن ما أعلم أني أسلمت إسلاماً جيداً، وإني أجدد إسلامي إلى الآن. فما هناك شك في أن أمثالنا أحوج إلى تصحيح الإسلام وتجديد العهد مع الله تبارك وتعالى من وقت إلى آخر.

الدعوة إلى التوبة من المعاصي والغفلة

الدعوة إلى التوبة من المعاصي والغفلة الله تبارك وتعالى أمرنا بتجديد هذا الإيمان والإسلام، والتقصير طبيعة البشر، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، ولما سأله بعض الصحابة الوصية قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) مع أنه سيحرص على تحقيق التقوى، لكن لا يمنع أنه يقع في تقصير، والمهم أنه لا يستسلم للشيطان، ينهض من العثرة، ويجدد توبته، ويستأنف المسير إلى الله عز وجل. (وأتبع الحسنة السيئة تمحها) لأن الإنسان غير معصوم، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، وقال عز وجل في مدح المؤمنين {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:135] ولم يقل: هم معصومون من فعل المعاصي. لكن قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) شبههم بالقمع، وهو الذي يوضع فيه السائل فيخرج من أسفله، فمعنى ذلك أن هؤلاء لا ينفعلون بالنصيحة، وإنما تدخل فيهم من أعلى وتخرج من أسفل كأنها لا فائدة منها، وكأنهم لا يستفيدون ولا ينتفعون بها، والله تبارك وتعالى هو الذي يأمرنا أن نستجيب له فقال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:47 - 48]، والله عز وجل ينادينا إلى التوبة، وهو أرحم بنا من أنفسنا تبارك وتعالى، ليس هذا فحسب، بل هو يأمرنا بالمبادرة والمسارعة والمسابقة، فيقول: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] هذه هي الروح التي ينبغي أن تحكمنا في مسيرنا إلى الله، أننا نحقق في قلوبنا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فنفر من الله إلى الله (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) كما كان يدعو صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، ويقول عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] هذه دعوة الله، هذه هي دعوة الحق، فهو يدعو إلى دار السلام. وقال عز وجل في شأن المشركين: (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، ويقول تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في تنبئه في فتن آخر الزمان: (دعاةٍ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ونحن اليوم تتخطفنا دعوات الشر من كل جانب، ومن كل حدب وصوب، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ومثل هذه الفتن التي تحيط بنا من كل مكان ليس لها من دون الله كاشفة، فينبغي أن نعتصم بالله عز وجل، ونجتهد في النجاة، ولا تغرنا تلك القوافل أو الكتل التي تهوي إلى جهنم وهي غافلة عن هذا المصير ولا تهتم به، ولا تنظر فيما يكون فيما بعد الموت أو بعد الحياة. ومما يقوي همتنا على ذلك أن الله عز وجل عظم ثواب التدين في وقت غفلة الناس وانخراطهم عن دين الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فكما أنه بالقدر الذي تعاني من الفتن حولك وتصبر لوجه الله بقدر ما يعظم ثوابك عند الله، كما قال عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نفقتك ونصبك) فبقدر ما تعاني في طريق الاستقامة في سبيل الله بقدر ما يعظم أجرك عند الله تبارك وتعالى، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ) الذي يعبد الله وقت الهرج ووقت الفتن ووقت اختلاط أمور الناس وكثرة القتل ووقت انصراف الناس عن الدين إلى الدنيا، فإن هذه هجرة تكون في القلب، فهو ربما يعجز، إذ قد لا توجد طريق للهجرة إلى دار إسلام أو إلى بلد أخف شراً، فإذا عمت الفتن فليهاجر الإنسان بقلبه، ويهجر السوء وأهله إلى الخير وأهله، يكون ثوابه حينئذ كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعظم ثواب التدين وقت الغفلة، لذلك لما سئل أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] فقال للسائل: سألت عنها خبيراً، أنا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلاً فقال: (مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم هوىً متبعاً، وشحاً مطاعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه عليكم أنفسكم، لا يضركم ضلال غيركم) لا تغتر بكثرة الهالكين، كما قال الفضيل بن عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة! ولا تغتر بكثرة الهالكين.

أسباب طول الأمد

أسباب طول الأمد

إهمال الجانب السلوكي والتربوي

إهمال الجانب السلوكي والتربوي أيضاً من هذه الأسباب التركيز على الجانب العقلي أو الجانب النظري مع إهمال الجانب السلوكي والتربوي، إهمال الروح والنفس مع أن تزكية النفس من أعظم الوظائف التي بُعث رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم من أجل تحقيقها، يقول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: النفس {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10]. ويقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] فالفلاح منوط بالتزكية، وهي تطهير القلب بالتوحيد والعقيدة الصحيحة، أي: مراعاة حرمات الله واجتناب ما يسخطه عز وجل. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإيمان ليَخلقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم). اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا. فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الإيمان ليخلق) يعني: يبلى (كما يخلق الثوب) إذا كان عندك ثوب فيه ألوان أو خطوط فمع كثرة الغسيل والمواد الكيماوية وتعرضه للشمس والاستعمال تجد الثوب يدرس وجهه وتنمحي معالمه رويداً رويداً، فيخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بهذه الحقيقة، وينبغي أن نصدق بما يخبرنا عليه الصلاة والسلام. (إن الإيمان يَخلقُ في جوف أحدكم) أي: يضعف، ومع طول الوقت تنمحي معالمه كما يخلق الثوب. ويرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسباب معينة لا بد من أن نلاحق بها هذا البِلى، فلا بد من أن يحصل عامل مضاد نواجه به هذا البِلىَ وهذا الانجراف، ويذكر هنا عليه الصلاة والسلام دعاءً معيناً لزوال هذا المرض، فهذا هو المضاد لعملية ضعف الإيمان في القلوب (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) يعني: حتى لا يبقى في قلوبكم رغبة في غير الله عز وجل.

موت الغيرة على الحرمات في القلوب

موت الغيرة على الحرمات في القلوب أيضاً من أسباب طول الأمد موت الغيرة على الحرمات في القلوب؛ لأنه كلما كان الإنسان منكراً للمنكر آمراً بالمعروف يبقي قلبه حياً حساساً إزاء المنكرات، فبعض الناس يكون عندهم حساسية من نوع من الأدوية، فإذا أخذه تحصل له هذه الحساسية، كذلك قلب المؤمن إذا رأى المنكر ينفعل ويثور دمه ويغلي، وكان عليه الصلاة والسلام لا يغضب إلا لله، كان لا ينتصر لنفسه صلى الله عليه وآله وسلم، فكذلك الإنسان على الأقل فيما يخص نفسه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في إحدى علامات حياة القلب التي يجد فيها الإنسان حلاوة الإيمان: (أن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) فتكره الكفر والمعاصي، فالفساد ينبغي أن تكرهه وتبغضه بقلبك؛ لأن الله يبغضه فضلاً عن أن تفتن به أو تستجيب لفتنته، فالإنسان يكره ويبغض بقلبه ما يكرهه الله تبارك وتعالى، حتى يتحقق فيه قوله عز وجل: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]، فهل الإيمان وأفعال الإيمان مزينة في قلبك؟ هل الذي لا يغض بصره يعرف أن الله مطلع عليه وأن الله يبغض منه هذه المعصية حين ينظر إلى ما حرم الله؟! وهل هذا يكره المعصية كما يكره أن يقذف في النار؟ كلا.

التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأسباب التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعلل بحجج باردة لا تغني عن صاحبها شيئاً، والإنسان إذا قصّر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة إذا وجب عليه فهذا يضعف الغيرة في القلب على الحرمات، فالشيطان يلبس على الناس فيقول المرء: أنا آمر وأنهى ولم أتعلم علماً كثيراً من العلم. لكن تستطيع أن تأمر وتنهى فيما هو معلوم في الدين من الضرورة وما أكثره في مجتمعنا! رجل يضيع الصلاة هل هذا يحتاج إلى أن تتفقه عشر سنوات حتى تأمره بصلاة الجمعة التي يهجرها أو صلاة الجماعة أو الصلاة أصلاً إذا كان تاركاً للصلاة؟ والربا والخمر ونحو هذه الأشياء لا يسع مسلماً أن يجهلها، ولا تحتاج إلى مراجع كبيرة وسنوات كثيرة حتى تتعلمها لتنكرها، والتبرج والتهتك الذي يحصل من النساء، كل هذه الأشياء لا بد للإنسان من أن ينكرها، وكلما مررت على المنكر ولم تنكره أو المعروف ولم تأمر به ففي هذه الحالة لا تظن أن قلبك في حالة سكون، لا بد أن يتأثر بكل ما يراه، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) يعني: الفتن تعرض على نفس الشكل على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً. ولم يقل: تُعرض على العين وإنما: على القلوب. وربما تكون الوسيلة هي العين وربما تكون هي الأذن، لكن في النهاية تصل إلى القلب ويتأثر شئت أم أبيت، ومعنى (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير) أنه إذا نام الإنسان وقد كشف جنبه على الحصير فبعدما يستيقظ يجد أثراً لهذا الحصير في جنبه على هيئة خطوط في لحمه وجلده، فهذا هو عرض الحصير، فمعنى ذلك أن الفتن مثل الحصير، والجنب مثل القلب، فما دام الإنسان يتعرض للفتن ويعيش في جو فيه فتن لا بد أن قلبه سيتخذ موقفاً من هذه الفتنة، ويتأثر سلباً أو إيجاباً، زيادةً أو نقصاناً، فإن القلب يتأثر بالفتن كما يتأثر الجنب بالحصير إذا نام عليه، ولا بد أن ينطبع في قلبك شيء إزاء كل فتنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلبٍ أُشربها-تشرب بها وقبلها- نُكتت فيه نكتةٌ سوداء) إذا مرت عليك فتنة لم تنكرها بدرجة الإنكار الواجبة عليك سواء الإنكار باليد إن كنت قادراً على ذلك وبشروطه، أو الإنكار باللسان أو الإنكار بالقلب الذي هو فرض عين على كل مسلم، أما إنكار المنكر بالقلب فليس فرض كفاية، وليس بعده شيء اسمه استطاعة، والحديث فيه: (فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) ولم يقل: (فإن لم يستطع) بعد إنكار القلب؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، حتى الإكراه، فقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فالقلب إذا رضي بالمنكر فإنه يموت ويخرج منه الإيمان؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبةٍ من خردل)، فينتفي الإيمان من القلب في هذه الحالة. (وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين) تنقسم القلوب بعد حصول هذه الفتن والتعرض لها إلى نوعين: قلب أسود مرباد - معكر- كالكوز مجخياً. أي: كالكوز المنكوس المقلوب الذي قاعدته إلى أعلى فلا يستوعب الخير، فإذا وضعت فيه أي شيء كسائل أو حبوب فإنه سيقع لأنه منكوت، كذلك هذا القلب إذا ابتلي -والعياذ بالله- بالاستجابة وقبول الفتن وتشربها فإنه يمرض ويعتل، ولا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من الهوى. وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، فإذاًَ الشيطان يزين للإنسان كما يزين لبعض الناس الجهلة، يقول: أنا سأحج لكن حين يقوى إيماني، وسألتحي لكن لما يقوى إيماني قليلاً، وتقول المرأة: سأتحجب لكن لما يقوى إيماني. كلا، الطاعة هي التي تقوي الإيمان، والإيمان يزيد وينقص كما هو مقرر عند أهل السنة، يزيد بأسباب وينقص أيضاً بأسباب، فعليك أن تأخذ بهذه الأسباب وتستعين بالله، وتجتنب أسباب النقص، فيزيد الإيمان بالطاعات وينقص بالمعاصي، فمن أعظم الطاعات التي ترضي الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] كل إنسان دب على وجه هذه الأرض فهو في خسر، فهذه قاعدة {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] حتى الإنسان ولو كان مقصراً فإنه يجب عليه -ما دام يستطيع- أن ينهى عن المنكر، يقول بعض العلماء: فرض على شاربي الكئوس أن يعظ بعضهم بعضاً، فالذين جلسوا في منتزه يشربون الخمر عليهم وزران: الوزر الأول: أنهم يشربون الخمر. الوزر الثاني: وزر ترك الإنكار؛ لأنهم مجموعة، والواجب أن يتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر على هذا الحق، فهم يقصرون أولاً بمعصية شرب الخمر، ويقصرون ثانياً أنهم لم ينه بعضهم بعضاً عن هذا المنكر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] لماذا؟ لأنهم لم ينه بعضهم بعضاً عن المنكر، فبعض الناس يقول: كيف أنهى وأنا مقصر؟ نعم أنت مأمور بالأمرين: أن لا تقصر وأن تنهى عن المنكر، لكن أن تضيع أمراً واحداً أهون من أن تضيع أمرين، ولعلك إذا أخلصت النية لله ونويت فلعل الله يقوي إيمانك، وببركة هذا الإخلاص لوجه الله يصلح الله حالك وقلبك، ويعالجه من علله، ففي هذه الحالة تكون فيه بركة عظيمة، فلو لم يوعظ إلا من كان نقياً من الذنوب فمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سيعظ الناس؟ من كان سيحمل رسالة الإسلام ويجاهد في سبيلها؟ فالإنسان لا يستسلم للشيطان بسبب ذنوبه وتقصيره، لكن عليه أن ينهض من العثرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يسوف. ولا يؤجل، ولا يعتذر بالتقصير والمعاصي بقوله: حينما يقوى إيماني سأنهى عن المنكر. كلا، إذا أردت أن تقوي إيمانك فمن أعظم أسباب قوة الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآن وأنت خارج من المسجد، وأنت تسير في الشارع توجد منكرات -والعياذ بالله- كثيرة، فجرب نفسك أسبوعاً كاملاً، إذا رأيت منكراً تُنكر باللسان، وسوف تحسها في نفسك، وتجد حلاوتها في قلبك، فأنت منتفع على كل الأحوال، أنت لا يحاسبك الله بأن تحول قلوب الناس {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22] يعني: لا تصطدم ولا تيأس ولا تفتر وتضعف همتك إذا لم يستجب الناس لك، وإذا آذاك الناس، وإذا ردوا عليك رداً سيئاً. ومع ذلك كثير من الناس ما زال فيهم خير لا يؤذون من يأمرهم وينهاهم، لكن نحن الذين نقصر ونبتعد عن الناس، وربما الإنسان عندما يقرأ في بعض الجرائد أو المجلات الإسلامية قصص توبة بعض هؤلاء الملقبين بالفنانين والممثلين والمغنين يعجب، فعلى ما هم فيه من الغفلة لا نتصور أن فيهم شيئاً من الخير أبداً، لكن عندما تسمع القصص والحوار، وكيف بدأت توبة فلانة وتقول مثلاً: أول من هنأتني على التوبة فلانة وفلانة وفلانة. وتذكر أسماء أناس كانوا رواد الفسق والمعاصي والتمثيل، إذاً تحس من خلال واقع هؤلاء التائبين أن هناك تقصيراً من الدعاة، لكن ضالة الداعية إلى الله الشخص الكافر، وإلا يكون الأمر تحصيل حاصل إذا كان من نخاطبهم ونوصل دعوتنا إليهم هم الملتزمون، فهذه ليست ضالة الداعية، ضالة الداعية هو الفاسق والمقصر والعاصي، تبحث عنه وتزين له بضاعتك كما يزين التاجر بضاعته، اصبر على أذى الذين يرفعون شعار (الزبون دائماً على حق) لماذا؟ حتى يحصل على مال، وحتى يحسن علاقته مع الزبون، ويخاف العمال الذين يعملون في المتجر من أن يسيئوا أخلاقهم مع الزبائن، فهذا أسلوب منفر، فيرفع شعار (الزبون دائماً على حق)، ويزين المحل، ويعمل له ديكوراً في الخارج، ويعلن عن تخفيض الأسعار، ويعمل كل شيء من أجل أن يزين بضاعته ولا ينفر منها من يدعوه إلى الشراء، ولماذا نحن نقصر في هذا؟ لماذا لا نزين دعوتنا للناس؟ لماذا لا نحاول أن نبحث عن أفضل ثوب ونعرضها فيه؟ لماذا لا نصبر على من يؤذينا؟ التاجر يصبر لأجل العيش وأنت تصبر وتقول: أريد الجنة التي هي أوسع من السماوات والأرض، هذا عرضها فكيف بطولها؟ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة! {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فلماذا سلعة الله تريدها وأنت مقصر ومفرط؟! فالشاهد أنك تسلك هذا المسلك بل تكون أعظم اجتهاداً؛ لأنك تريد أعظم مما يريده ذلك التاجر.

هجر القرآن والمخاصمة فيه

هجر القرآن والمخاصمة فيه كذلك من هذه الأسباب هجر القرآن والمخاصمة فيه، فهجر القرآن على أنواع، فهناك هجر القرآن بعدم الإيمان به، وهجر القرآن بترك التحاكم إليه، وعدم تصديق شريعة القرآن، وهجر القرآن بهجر تلاوته حتى تتراكم عليه أكوام الأتربة، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].

الانفتاح على رفقاء السوء

الانفتاح على رفقاء السوء ومن هذه الأسباب أيضاً الانفتاح على رفقاء السوء وهجر الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى؛ لأن الصالحين حتى لو لم يتكلموا تنتفع برؤيتهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكر الله) وربما يمشي الإنسان أحياناً في الطريق ويكون غافلاً عن ذكر الله، فيجد رجلاً ماشياً في الطريق يذكر الله، أو له هيئة تدل على الصلاح والسمت الصالح، أو بمجرد أن تقع عينك عليه تتذكر وترى فمه لا يفتر عن ذكر الله فتقتدي به، وإذا رأيته تذكر الله، فهذا رجل ممن يذكرون الله، فتجد بركته تعود على كل من يقترن به ويتحقق فيه الدعاء أو الوصف: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] ينتفع به الناس حيث كان، فهؤلاء هم الذين إذا رءوا ذُكر الله تبارك وتعالى، فالإنسان يهجر إخوانه الصالحين الذين ينبهونه إذا غفل، ويذكرونه إذا نسي، وكثير من الناس يقول: أنا أريد أن أعتزل الإخوة؛ لأن فيهم عيوب كذا، وفيهم أناس يقصرون في كذا. لكن ما من شك أن الملتزمين بدينهم أقرب إلى الحق من غيرهم، الخير غالب عليهم، وبعض التقصير الذي يوجد في أحد من الناس لسبب أو لآخر إنما هو من آثار صفة البشرية، فهم ليسوا معصومين، والإنسان إذا هجر إخوانه الذين يعينونه على العلم وطاعة الله، وذكر الله، وصلاة الجماعة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما من شك أن هؤلاء كالماء بالنسبة للسمك، إذا خرج منه ربما لا تبقى فيه حياة، فهذه حقيقة الأخوة في الله تبارك وتعالى، فإذا هجر إخوانه هل سيذهب ويعتزل في الجبال أم ينغمس تماماً في مجتمع كل ما فيه يبعده عن الله ويقصيه عن طريق الله؟! فإذا استبدل صحبة الخير بأناس لا يعظمون الدين فينضح ذلك عليه، ويضعف التزامه إذا أحاط نفسه بمن لا يعظمون ما يعظمه الله تبارك وتعالى. أيضاًَ ضعف الهمة والفتور الذي يصيب الناس بمرور الوقت، وهذا سنزيده إيضاحاً إن شاء الله فيما بعد.

التأثر بالحرب الإعلامية ضد المتدينين

التأثر بالحرب الإعلامية ضد المتدينين من أسباب ظاهرة طول الأمد وضعف التدين عند كثير من الناس التأثر بعمليات الحملات الإعلانية التي لا ييأس أعداء الله في وسائل الإعلام ليل نهار من التشويه والتحريض على المتدينين ووصفهم بالصفات المنفرة، كالتطرف والتزمت والرجعية وغير ذلك، خاصة إذا كان الإنسان يُعرض نفسه لهذه الإشعاعات المدمرة، ولو أنه جعل بينه وبين وسائل الإعلام الخبيثة سوراً لحمى نفسه من تأثيرها، لكن إذا كان يلتفت إليها فلا شك أنه سوف يتأثر برؤية وجوه الظالمين، وبرؤية وجوه العصاة والمجرمين، ألا ترى إلى قصة جريج العابد حينما نادته أمه وهو يصلي ثلاثاً فلم يجبها، وكان في كل مرة يقول: أي رب! أمي وصلاتي! فيقبل على صلاته، فدعت عليه أن لا يموت حتى يعاقب بعقوبة معينة، فقالت: (اللهم! لا تمته حتى يرى وجوه المومسات) أي: الزانيات من النساء. فهذه عقوبة أن تقع عين الإنسان على هؤلاء المجرمين والمجرمات، فكيف بتعمد ذلك؟! وهكذا القلب السليم يحس بذلك، فنحن الآن ندفع الأموال حتى نجلب سخط الله ونشتري النار بالنقود، عذاب وفقدان مال، نشتغل بالأفلام والفيديو والتلفاز، ونجلس أمامه خاشعين صامتين كأننا في محراب العبادة والتبتل، وبأنفسنا نجلب ما يغضب الله ويسخطه، ونفتح على المجلات والجرائد، وننظر إلى ما حرم الله عز وجل النظر إليه، ثم نقول: إننا من أحسن الناس، وليس بعد التزامنا التزام. فمن آثار هذه الظاهرة استجابة بعض الناس وخضوعهم أمام هذه الحملات، وتأثرهم بها، خاصة الأوساط المنفرة، فإن من أساليب الشيطان وأوليائه أن ينفروا من الحق بتغيير الألفاظ والتعبير عن الحق بالألفاظ المنفرة القبيحة المذمومة، يقول الشاعر: تقول هذا مجاج النحلِ تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فيعبرون عن الحق ويلبسونه ثوباً منفراً، حتى يصدوا به الناس عن دين الله تبارك وتعالى، فما هو التطرف؟ التطرف: الأخذ بأطراف الأمور. أي: الابتعاد عن الوسط. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. الحق وسط، والأمة هذه هي أمة الوسط، والدين هو دين الوسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] عدولاً، وخير الأمور الوسط، لكن أي وسط؟ ما هو المقياس الثابت؟ وما هو هذا الوسط؟ الوسط: هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن حاز عنه يمنةً أو يسرةً فهذا هو المتطرف الذي انحرف عن الميزان الوسط المعتدل القوام، فالشخص الذي ينحرف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإفراط أو تفريط بغلو أو جفاء هو المتطرف، ففي الحقيقة هم المتطرفون حينما يستحلون ما حرم الله، وحينما يزينون المعاصي للناس، وحينما يخالفون هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أيضاً من هذه الأسباب التي أضعفت إلى حدٍ ما التزام كثير من الناس أن هناك بعض الجماعات المنسوبة إلى الدعوة الإسلامية تقدم للناس نماذج ممسوخة لهذا الالتزام، إرضاءً لأهواء الناس، وربما تكثيراً للأعداد دون مبالاة بالكيف والتربية، فيحصل التسيب الفقهي، ويحصل الاستهتار ببعض الأشياء من السنة أو من الدين، فما من شك أن الإنسان إذا فرط في الشيء الصغير أو اليسير فالصغير إلى الصغير يصيره كبيراً كما قال الشاعر: لا تحقرن شيئاً من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يعود كبيراً إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مفصل تفصيلاً وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الأعمال! فإن لها من الله قالباً) وقال أنس: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات).

حب الدنيا

حب الدنيا وهناك أسباب لهذا المرض كما أن هناك علاجاً له، فما من شك في أن أعظم أسباب طول الأمد وضعف الدين وقسوة القلوب هو (حب الدنيا)، كما جاء في بعض الآثار أن حب الدنيا سبب كل خطئية، تأمل في أي ذنب يمكن أن الإنسان يقع فيه تجد أصله وأسه هو (حب الدنيا) كما قال عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21]، وقال عز وجل: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، فمن أحب شيئاً شغل به وقدمه على غيره، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فالناس إذا أصبح الصباح وردت إلى أبدانهم الأرواح ينقسمون إلى قسمين: هناك إنسان يبيت على عد الأموال وحسابها، وهناك إنسان يبيت على الخصومات التي بينه وبين الآخرين، وهناك إنسان يبيت على الشهوات والمعاصي ويصحو أيضاً على طلب الدنيا، والإنسان إذا أراد أن يعرف ما هو أحب شيء إليه فلينظر ما هو الشيء الذي يقفز إلى ذهنه عندما ينام، أحب شيء إليك هو الشيء الذي عندما تأوي إلى فراشك تجده قد طغى على تفكيرك حتى تنام وأنت مشغول به. كذلك الشيء الذي هو أحب الأشياء إليك، والشخص الذي هو أحب الأشخاص إليك هو من يخطر في ذهنك بمجرد أن تنتبه، كما يقول الشاعر في حق من يحبه: وآخر شيء أنت في كل هجعةٍ وأول شيء أنت عند هبوبي فكذلك من كان مشغولاً بالآخرة وكان محباً لله عز وجل أو رسوله حباً صادقاً أكثر من حبه لأهله وماله وولده وكل شيء في الدنيا قفز إلى قلبه دائماً حُب الله وحُب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحب ما يحبه الله ويرضاه، إذا أصبح يقفز إلى قلبه هم الآخرة فيصحو على ذكر الله، وينام على ذكر الله، ويشغل قلبه دائماًً: ما الذي يرضي الله؟ فإذا نظر حكّم شرع الله: هل النظر هذا حلال أم حرام؟ وإذا لبس حكّم شرع الله، وإذا أكل وإذا شرب وإذا عمل، في كل حركاته وسكناته يبحث عما يرضي الله، فهذا هو الشخص الذي يكون من أصحاب الآخرة، كل شيء في الدنيا يذكره بالآخرة، وهذا هو العاقل، فإن الله تبارك وتعالى ما جعل كل ما في الدنيا إلا لكي ينبهنا على الآخرة، الدنيا لذاتها لا تشتهى ولا تطلب، فإن نعيمها عذاب، ولا بد أن يكون نعيم الدنيا مخلوطاً بالآفات والمكدرات، كما يقول الله عز وجل في شأن أصحاب الجنة: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] (وأتوا به متشابها) نعيم الدنيا إنما خلق لكي يذكرك بالآخرة، وما في الجنة من الدنيا إلا الأسماء، فعنب الجنة ليس كعنب الدنيا، وثمر الجنة ليس كثمر الدنيا، إنما هو الاتفاق في الأسماء للتقريب فقط، أما الإنسان إذا حرم تماماً في الدنيا من النعيم فلن يستطيع أن يتخيل نعيم الآخرة، فمثلاً يحس بعينيه متعة النظر إلى الجمال الذي بثه الله تبارك وتعالى في هذا الخلق وفي الأشجار والحدائق والثمار ونحو ذلك، فهذا الشخص الذي فقد نعمة البصر لن يستطيع أن يتذوق نعمة النظر، وإذا كان الإنسان ليس له لسان -جدلاً- لن يحس بطعم ما يأكله، فأعطانا الله هذا النعيم في الدنيا لا لذاته، ولكن لينبهنا على نعيم الآخرة، ولكن خلط كل نعيم في الدنيا بالمكدرات والشوائب، فلا يوجد نعيم إلا ولا بد أن يكون مكدراً من عند أقل الأشياء إلى أكثرها. فمثلاً: إذا كان يحب أنواعاً معينة من الفواكه كالبطيخ والبرتقال فإنه يجد ما يكدره عليه، فالقشرة يجب أن تزيلها أولاً، ولا بد في البذر أن تتضايق فتجد بعض التعب في تخليصه، وربما إذا أسرفت فيه يترتب عليه أضرار صحية، وهكذا حتى النكاح، فتجد المكدرات والعناء الشديد، وأما في الآخرة فإنه لا يوجد شيء من هذا، لكن وجدت هذه الأمور في الدنيا، وقصّر الله عز وجل وقتها وخلطها بالآفات تنبيهاً على أنها ليست مقصودة بذاتها، إنما المقصود أن نتنبه إلى ما يكون في الآخرة من النعيم الذي لا يضاهى ولا يقارن بما في الدنيا، هذا في جانب النعيم. أيضاً في جانب العذاب، وقد نص القرآن على ذلك كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:71 - 74] فبين الله عز وجل من خلق النار أمرين: الأمر الأول -وقدمه لأنه أهم-: (نحن جعلناها) يعني: خلقناها (تذكرة ومتاعاً للمقوين) والمتاع معروف، تستدفئون بها وتطبخون بها الطعام، وتستضيئون بها، أما الهدف الأول من خلق النار في الدنيا فهو أن تكون تذكرة، إذا رأيتموها ذكرتم نار الآخرة فتعوذتم بالله منها، وحرصتم على أن لا تقعوا فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)، وألوان العذاب متنوعة ليست كما يتخيل الناس أن العذاب فقط بالحرارة المرتفعة التي هي سبعون ضعفاً من نار الدنيا، فهناك عذاب بالبرد الشديد الذي لا يقارن ببرد الدنيا وهو الزمهرير، وهذا أيضاً من أنواع ما يعذب به، يعذبون بالبرد كما يحرقون بالنار، والشاهد في قوله عز وجل: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] النار خلقت كي نتذكر بها نار الآخرة، ونتعوذ بالله إذا رأيناها، ونتخيل ما يصيبنا إذا وقعنا فيها، والزيارة إلى عنبر الحرائق في أي مستشفى يفسر للشخص معنى (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين)، فهذا أول إنذار من حب الدنيا وانشغالنا بها، وانصراف قلوبنا عما خُلقت له من محبة الله ورجاء الله والخوف من الله، صارت الدنيا تغلب وتطغى على قلوبنا حتى صرنا من أصحاب هم الدنيا، وصاحب هم الدنيا يعاقب بتشتيت همه فيعامل بنقيض قصده؛ لأن الله لما فتح عليه باب الخير والعلم الشرعي وباب العمل بطاعة الله فآثر الهوى على ما يرضي الله عوقب بعكس مراده، فأنت تريد الراحة في الدنيا، وتريد أن تجد لنفسك الراحة بدلاً من أن يقولوا: متطرف وتصبح الحكاية نكداً في نكدٍ، تتهاون قليلاً وتترخص وتبحث عن زلة عالم هنا ورخصة هناك، وتفتش في الكتب لعلك تجد شيئاً يثبت ما تفعله، نتعامل مع البنوك، نترخص في الكلام مع النساء، أو أي شيء من هذه الأشياء التي يستدرجنا الشيطان بها رويداً رويداً حتى يخلعنا من الدين، فإذا حصل مثل هذا وهو يريد الراحة فيعاقب بالتعب والنكد، لا في الدين فقط، لكن في الدنيا يعامل بنقيض قصده، والجزاء من جنس العمل، لما هان الله عليك هنت عليه وتركك ونفسك، ورفع عنايته عنك، وأرسلك للشيطان، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وأصلح لي شأني كله) الله عز وجل وهو مدرك الحال، وهذا يقين عند كل إنسان راسخ في قلبه، فالله لو تخلى عنك طرفة عين ما أفلحت أبداً، فالشاهد في هذا كله أن من أراد الدنيا وأصبحت الدنيا هي همه وشغله الشاغل وقدمها على الدين انحصر التعارض، فهذا يعاقب كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله) وما أدراك ما تشتيت الشمل! لا تقضى له حاجة، لا يستريح، فهو في نكد وهم وذل دائم في الليل والنهار. (وجعل فقره بين عينيه) هو يريد الدنيا، وقدمها على الدين حتى يغنى ويجمع المال، لكن عومل بنقيض قصده، فلو جمع الملايين فهو فقير؛ لأن الغنى غنى القلب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الغنى بكثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فإذا احتجت إلى شيء فأنت فقير إليه. وينبغي أيضاً أن يكون الإنسان على يقين من هذا المعنى، أن الغنى ليس بكثرة العرض، والراحة لا تكون بالمال، إنما الراحة بطاعة الله تبارك وتعالى، والسعادة في ذلك، فرب رجل غني تقي -أعني غني النفس- قانع بما يعطيه الله يبارك الله له في هذا القليل، وإذا أوى إلى فراشه يبيت هادئ البال حتى لو نام على صخرة، ما ينام على ريش النعام، ولا على الفرش الوثيرة، ولا القصور الفخمة، لكنه ينام ولو على قش ولو على صخرة يتوسدها هادئ البال مرتاحاً، بينما تجد ملوك ورؤساء الدنيا إذا نام أحدهم يهُم بالليل ويهُم بالنهار، وربما يكون اجتلاب النوم عنده شيء عسير جداً، حتى لا يستطيع أن ينام، وربما يتعاطى المنومات حتى ينعم بلحظات الراحة، ورب رجل معه المال الكثير سلطه على هلكته في الباطل والمعاصي، فهو ما بين شراء الفيديو والتلفاز والأفلام والمسرحيات وأكل الحرام وشرب الخمر والمخدرات والربا، ويسلط الله عليه الأمراض، فمعه مال كثير لكن ليس فيه بركة، وأما الرجل الفقير التقي الصالح الغني فبالعكس من ذلك، فأولاده فيهم بركة يحفظون القرآن، ويطيعون الله. فالشاهد أن من آثر الدنيا على الآخرة عوقب بنقيض قصده، وحرم من الدنيا، وأيضاً حرم من الآخرة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:45]، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. وأما من جعل همه الآخرة فإنه يجعل الله

تحذير الله سبحانه وتعالى من طول الأمد

تحذير الله سبحانه وتعالى من طول الأمد حذرنا الله من طول الأمد فقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] يعني أن طول الأمد وطول العهد يقسي القلب، فتعود قلبه أن يسمع الأحاديث والآيات ولا ينفعل بها، وتعود أن يعرف أدلة غض البصر وأدلة وجوب الحجاب وتحريم مصافحة الأجنبية ثم نتيجة كون السلوك ينفصم عن الالتزام بهذه الأشياء تجد قلبه يموت، فهل ينفع الضرب في حديد بارد؟ لا ينفع، لا بد من أن ينصهر هذا الحديد ويلين، فهذا القلب القاسي لا ينتفع بالمواعظ، ولا ينفعل بها، والموعظة مثل الصقر لا يسقط على جيفة بل لا بد من أن يصطاد الشيء الحي، فكذلك الموعظة لا تسقط إلا على القلب الحي فينتفع بها، فلذلك من أخطر الأشياء مرض القلب، والإنسان لا بد أن يتحرى أسباب مرض القلب ويقوم بعلاج هذا القلب، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسياً لهذه القاعدة: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ويقول عليه الصلاة والسلام (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وقال: (التقوى هاهنا التقوى هاهنا) ويشير إلى صدره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه). ويقول تبارك وتعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] يعني: الذنوب تغطي القلب وتحول بينه وبين الهدى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران)، أي: الذي ذكره الله تعالى فقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. فالشاهد أن هذا هو أثر الذنوب، فلا بد من أن القلب يتأثر، ولا يعرف القلب حالة السكون أبداً، إما أن يكون في ازدياد، وإما أن يكون في نقص حسب تجاوبه مع ما يعرض عليه من الفتن، حسب القاعدة التي ذكرها الله عز وجل في سورة الرعد (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فإذا وصل الإنسان إلى حالة الرضا عن نفسه والقناعة بما هو فيه لن يسمح أبداً إلى إحداث تغيير في حياته وقلبه، فأول البداية أن الإنسان يفيق قلبه ويبعث من جديد وتدب إليه الحياة، لذلك بعد ما رغب الله عز وجل المؤمنين في التوبة قال تبارك وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] كذلك الله يحيي القلوب بعد موتها، فالله يحيي موتى الأبدان ويحي الأرض بدبيب الحياة فيها من جديد فينزل عليها المطر، ويحي القلوب أيضاً بعد موتها وهو على كل شيء قدير. وهناك أسباب لابد من أن يسلكها الإنسان، والإنسان مادام غير راضٍِ عن نفسه فإنه يوجد فيه بقية من خير، لذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن المؤمن قال: (إذا غرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن) فهذا اختبار للقلب، فننظر هل يفرح بالسيئة ويمرح وتزين له أم أن القلب يتألم ويكتئب ويحزن ويندم على ما فرط، (إذا غرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن) لأن هذه علامة أن القلب ما زال حيَّاً ينفعل بالخير ويكره الشر، وكما قال تبارك وتعالى في شأن أهل الكهف: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] (قاموا) في قيام للقلب، أي: انتباه ويقظة من الغفلة. هذا الانتباه في حد ذاته قد يأتي من أسباب، وقد يلقيه الله في قلب العبد فتتحول حياته تماماً إلى طريق الله عز وجل.

السعي في تغيير الواقع علاج لمرض القلب

السعي في تغيير الواقع علاج لمرض القلب ليس المطلوب أن لا ترضى عن الواقع الذي أنت فيه، ليس هذا فحسب بل تسعى إلى تغييره: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] أتريد أن يغير الله ما بك من ضعف في الإيمان، ومن تقصير وتفريط؟ اشرع أولاً بأن تبحث وتفكر في نفسك: ما الذي فعلته؟ وما التقصير الذي ارتكبته؟ واجتهد في إرضاء الله عز وجل وتحريك خطة من جديد لتجديد الإيمان وتصحيح الإسلام حتى يأتيك وعد الله فيتغير حالك إلى أحسن حال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) ويقول تبارك وتعالى في بعض المصائب التي ألمت بالمسلمين في بعض الغزوات: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. ويروى أن بعض الناس لما أتى إليه أحد السلف وفتح له الباب آذاه أذية شديدة بالكلام، فقال له: أستاذنك برهة يسيرة. ثم دخل إلى بيته فسجد لله عز وجل، وأخذ يتوب ويستغفر، ثم عاد إلى هذا الرجل فقال له: ما أخرك عني؟ قال: علمت أن الله سلطك علي بذنب أحدثته. رحمهم الله أجمعين، يقول: إن الرجل إذا عصى الله عرف ذلك في خلق زوجته ودابته. فعقوبة المعاصي تنعكس عليك وتجدها مع الناس من تسلطهم وتجرئهم عليك، كل هذا من الذنوب والمعاصي، فبعض السلف كان يقول: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق زوجتي ودابتي. حتى الحمار الذي يركبه يستعصي عليه لأنه مسخر، والعقوبات تتنوع، فهناك عقوبات شرعية، وعقوبات كونية قدرية كالزلازل وكالمسخ إلى آخر هذه العقوبات التي ينزلها الله تبارك وتعالى، أما العقوبات الشرعية فمعروفة، كقطع يد السارق، ورجم الزاني، وجلد الشارب وهكذا، فهذه عقوبات شرعية. والعقوبة قد تتغلظ وقد تخف، وقد تظهر وقد تخفى، وأخطر أنواع العقوبات هي العقوبة الخفية، وضربة العقوبة الخفية هي التي يعاقب بها الإنسان وهو لا يشعر أنه معاقب، بل زُين له سوء عمله: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37]، فإذا وقع إنسان في هذا فإنه يكون فرحاً جداً، فهو يفرح بأن المعاصي ميسرة له، وهو مسرور وسعيد لما هو فيه، فلا يرى القبيح قبيحاً والحسن حسناً، بل تنعكس وتنقلب في قلبه هذه الموازين، وهذه أخطر عقوبة يعاقب الله بها العبد؛ لأن هذا العبد -أولاً- راضٍ عن نفسه، وهو بعكس المؤمن، أي: تسره سيئته وتسوءه حسنته، وينقبض من ذكر الله، فإذا ذكر الله اشمأز قلبه {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج:72] إذا ذكرته بالله سخط وغضب واشمأز، وإذا ذكر غير الله فدعوته إلى المعاصي وإلى اللهو والفساد ينشرح صدره ويهم، وإذا دعوته إلى الطاعة يحزن ويبطر ويقول ما لا ينبغي. فالشاهد أن هذا الإنسان الذي زين له سوء عمله لن يتوب، ولذلك جاء في بعض الأحاديث (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فكيف يتوب المبتدع؟! المبتدع أصلاً زُين له سوء عمله، هو يرى أن السيئ حسناً والحسن قبيحاً، فلا يتوب إلا إذا شاء الله هداية قلبه بأسباب أخرى، فكذلك هذا الإنسان المفرط العاصي الذي زُين له سوء عمله يحب المعاصي ويفخر بها، فهذا معاقب بأشد أنواع العقاب، أشد من الزلازل، وأشد من الخسف، وأشد من الصيحة، وأشد من الصاعقة، وأشد من قطع اليد، وأشد من الرجم، وأشد من الجلد، فهذا معاقب بأشد عقوبة يعاقب الله بها عبده، وهي أن يسلط الله الغفلة على قلبه {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] لما نسوا الله وضيعوا أمر الله عاقبهم الله بأن نسيهم، أي: تركهم فلا يفيقون من غفلتهم، بل يستمرون على الغفلة حتى يختم لهم -والعياذ بالله- بسوء الخاتمة، وقال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] أنساهم أنفسهم فلا يتفكرون في عاقبتها ومصيرها، وكيف ستكون الحياة الخالدة فيما بعد الموت أو في الدنيا.

من علاج مرض القلب وقسوته لزوم تقوى الله

من علاج مرض القلب وقسوته لزوم تقوى الله الله تبارك وتعالى وصانا بوصية هي وصيته للأولين والآخرين، وصيته التي وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، كان الواحد من السلف إذا قيل له: اتق الله يصفر وجهه، لا كما يحصل الآن، إذا قيل لإنسان: اتق الله يركبه الشيطان ويقول: أنا أتقي الله أحسن منك. فتقوى الله معناها أن يراجع الإنسان نفسه وينزجر، فإذا قيل له: اتق الله لا يكون كمن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فقد أمرنا بتقوى الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ولم يوصنا فقط بتقوى الله، بل اشترط معها شرطاً آخر، وهذا الشرط هو أن تتقي الله وتثبت على هذه التقوى حتى الموت، فالتقوى أمر والثبات عليها إلى الموت أمر زائد، ويمكن التعبير عنهما بعبارة واحدة هي (الاستقامة) كلمة تركب من معنيين: التقوى والثبات على التقوى، فكل عمل حتى يكون مقبولاً عند الله عز وجل لابد فيه من النية والإخلاص وحُسن الخاتمة، فإنما الأعمال بالخواتيم، وأدلة هذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) إلى آخر الحديث المعروف، فنحن أمرنا بملازمة التقوى، قال بعض السلف رحمهم الله: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة. وليس أعظم الكرامة أن يطير الإنسان في الهواء ويمشي على الماء وتخرق له العادات، بل كان السلف يخافون من مثل هذا، فربما يكون لهذا تأثيراً سيئاً على الإيمان، والكرامة العظمى التي هي أعظم كرامة ينالها ولي الله هي الثبات حتى الممات، والوفاة على الإسلام، هذه التي هي كانت دعوة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أمر الله عز وجل بهذا الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] قال ابن مسعود: (أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يطاع فلا يعصى) فقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أمر بالتقوى والثبات على التقوى حتى الممات. وقد ذكرنا من قبل أن الموت على الإسلام والوفاة على الإسلام وختم الحياة بكلمة الشهادة ليس أمراً إرادياً، وإنما هو محض توفيق من الله تبارك وتعالى، إذاً Q ما الحكمة في أن الله أمرنا بشيء هو ليس في أيدينا؟ و A إن الله عز وجل يقول لنا: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وهذا التوفيق ليس بأيدينا، فالله هو الذي يوفق، وإنما تأخذ بالأسباب التي شرعها الله عز وجل حتى يمن عليك بحسن الخاتمة والثبات على الدين حتى الممات، فهذا يتضمن الأخذ بأسباب الثبات حتى الممات، فالقلب الذي يقنع ويرضى بالله عز وجل حاله كحال ذلك القلب الذي سئل عنه بعض السلف: أيسجد القلب؟ قال: نعم. يسجد لله سجدةً لا يرفع بعدها رأسه أبداً. فبدن الإنسان قد يسجد أحياناً وقد لا يسجد، أما القلب الصادق في تقوى الله الثابت على طريق الله فإنه لا يحيد ولا يتحول ولا ينصرف إذا ذاق حلاوة الإيمان، قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك) احفظ أوامر الله يحفظك الله بأن يثبتك على دينه حتى الممات، ولذلك جاء في بعض الآثار أن العبد إذا استقبل القبلة في الصلاة، وتوجه بقلبه وبوجهه إلى الله عز وجل وإلى القبلة، فإذا التفت في صلاته قال الله عز وجل: إلى خير مني؟ فهل هناك شيء خير من الله حتى تلتفت عن الله إليه؟ لا شيء أبداً خير من الله عز وجل، فلذلك هذه الكلمة نفسها نقولها لمن يحيد عن الطريق إلى الله، لمن كان يرى الأمر حراماً بالأمس ويستبيحه اليوم، لمن كان يقبض على الجمر واليوم رضي بجنة الدنيا التي هي مثل جنة المسيح الدجال من يدخلها يجدها ناراً، ويفتن بهذا المظهر الخادع ولا يلتفت إلى حقيقته. من ترك صلاة الجماعة، وقصر في غض البصر، وتهاون في تعاطي الربا وغير ذلك مما حرمه الله بعد ما جرب وذاق حلاوة الطريق إلى الله هل وجد ذلك خيراً وأفضل من طريق الله؟ كلا. كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعاء السفر: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور) يعني: من أن تبدل أحوالي في الدين والطاعة إلى انفكاك هذه العروة والتفريط في حق الله عز وجل. وأصل ذلك مأخوذ من تكوير العمامة، عندما يدور الإنسان العمامة على رأسه حتى تكبر وتمسك برأسه فهذا هو التكوير، فإذا نقض هذه العروة وحلها فهذا هو الحور بعد الكور، أي: فك العمامة بعد تثبيتها. فهذه هذا المقصود بهذا التعبير، يعني: انحلال عرى الدين، وضعف وازع الإيمان في قلب الإنسان بعد أن كان ثابتاً وبعد أن كان قوياً، كان يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) ولذلك قال السلف: لا تعجب ممن يحور، ولكن اعجب ممن يستقيم. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في دعائه أيضاً: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا) لماذا؟ لأن مصيبة الدين لا تجبر، بعكس كل مصائب الدنيا، فإن فيها عوضاً، وقد يخلف الله عليك ما فاتك، لكن مصيبة الدين لا تعوض، وجرح الدين لا يعالج إلا أن يشاء الله، كما يقول بعض الشعراء: من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعته عوض فلا يوجد شيء يعوضك عن الله، لكن الله يعوضك عن كل شيء، لذلك يقول بعض الصالحين: فليتك تحلو والحياة مريرةً وليتك ترضى والأنام غضاب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب ويقول شريح: إني أصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى أربع مرات، أحمده إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده، إذ وفقني لاسترجاع ما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني. وقال حاتم الأصم: مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا -وحاتم الأصم رجل مشهور من السلف-، ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف، وفاتتني صلاة الجماعة فلم يعزني أحد. وكان السلف إذا الواحد منهم فاتته صلاة الجماعة تدفق المسلمون وأهل المسجد إليه يعزونه في هذه المصيبة.

أسباب الثبات على دين الله

أسباب الثبات على دين الله

عدم الاغترار بما عليه الكفار

عدم الاغترار بما عليه الكفار كذلك من هذه الأسباب أن الإنسان لا يغتر بما عليه الكفار: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]، لا يغتر بما عليه الكفار من الزينة والبغي في الأرض والعلو فيها، ينبغي أن يستحضر دائماً أن العاقبة للتقوى وللمتقين {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. كذلك استجماع الأخلاق المعينة على الثبات، خصوصاً خلق الصبر على دين الله تبارك وتعالى.

الحرص على وصية الرجل الصالح

الحرص على وصية الرجل الصالح كذلك من هذه الأسباب الحرص على وصية الرجل الصالح حتى تنتفع بها وقت المحنة، والإمام أحمد لما حمل إلى المأمون في الأغلال وقد توعده المأمون وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه في الأغلال، حتى قال القادم للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! إن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وإنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف. لما حصل ذلك قفز أهل البصرة إلى الإمام أحمد يثبتونه في هذه المحنة، يقول أبو جعفر الأنباري: لما حمل أحمد إلى المأمون أخبرت فعبرت الفرات فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر! تعنَّيت -أي: أتعبت نفسك حتى أتيت- فقْلت: يا هذا! أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لأن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك لا بد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله! ثم قال: يا أبا جعفر! أعد فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله! وقال أيضاً الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: سرنا إلى الرحبة ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل: إنه هذا. فقال للجمال: على رسلك انتظر. ثم قال: يا هذا -يخاطب الإمام أحمد! - ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة! ثم قال: أستودعك الله فمضى، ثم سألت عنه فقيل: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له جابر بن عامر يذكر بخير. أيضاً يقول الإمام أحمد: ما سمعت كلمةً منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة سوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً. يقول: فقوي قلبي. حتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد ساهموا في تثبيته في وقت المحنة، فقد قال الإمام أحمد مرةً في الحبس، لست أبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط، فسمعه بعض أهل الحبس فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سلي عنه رحمه الله، فعلى الإنسان أن يحرص على طلب الوصية من الصالحين ومن أهل العلم والصلاح حتى ينتفع بها خصوصاً في وقت المحن إذا خشي أن يقع منه تفريط في دينه أثناء الابتلاء.

استحضار الغاية الذي من أجلها خلقنا

استحضار الغاية الذي من أجلها خلقنا كذلك من هذه الأسباب استحضار الهدف، ما هو الهدف؟ الجنة هي الهدف، فلا تطلب الالتزام بالدين لأن تنال الراحة في الدنيا، ولا تطلب الدنيا نفسها، فالصحابة لما بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام ما بايعهم على أن يقسم عليهم المناصب، أنت ستكون وزيراً، وأنت رئيس وزراء، وأنت سنعطيك كذا. كان الثمن الجنة، بايعوه على أن يبنوا له هذا الدين ويكون الثمن الجنة، قالوا: (وما لنا إن نحن فعلنا ذلك؟ قال: الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل) لن نطلب منك أن ترفض هذا العهد، ولن نقبل منك إذا طلبت أن نقيلك، فربح البيع. فالإنسان إذا أخبره الطبيب الكافر النصراني -مثلاً- أن حياته مهددة وأنه لا يوجد أمل أن يبقى في الحياة إلا إذا بترت ساقه -مثلاً- والطبيب أكثر خبرة منه بالعافية التي ستحصل فإنه يسلم نفسه للطبيب يخدره ويقطع رجله، ويصبر على الألم بكل أنواعه من أجل هذه العافية، وهو خبر رجل كافر، فكيف إذا أتانا الخبر من الله عز وجل ومن رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام أن العاقبة للتقوى، وأن العاقبة للمتقين، وأن الآخرة خير وأبقى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4]، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يعد الصحابة بأن الوطن هو الجنة وليس غير الجنة موطناً، لذلك مر بآل ياسر وهم يعذبون، فبماذا ثبتهم؟ بأن يلمحوا حلاوة العافية فيما بعد، فهو ألم قليل ومرارة ساعة خير من الخلود الأبدي في العذاب: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وأيضاً قال للصحابة والأنصار رضي الله عنهم: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) موعدنا هناك، فالإنسان إذا تأمل القبر وما يكون في القبر وأهوال الحشر والحساب والميزان والصراط ومنازل الآخرة، ولمح حلاوة العافية في الآخرة والثبات على الدين فلا شك يهون عليه ما يعانيه. كذلك كثرة ذكر الموت من أعظم ما يعين على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكره عبد في ضيق إلا وسعه عليه، وما ذكره في سعة إلا ضيقها عليه). هذا بعض ما تيسر من أسباب الثبات على هذا الدين، نقولها كي ننتفع بها ونعمل بها ونجتهد في تحصيلها، فإذا كنا صادقين وكنا نحرص على أن نغير أحوالنا فلا بد من أن نغير أولاً ما بأنفسنا، فيجدد كل واحد من الآن ولا يسوف ولا يؤجل، ويعاهد الله عز وجل فيما يأتي من أيامه على أنه لن يجد موطناً فيه رضاً لله إلا فعله، ولا موطناً فيه شيء يسخط الله إلا اجتنبه، وأنه سيعود ويستأنف الطريق إلى الله عز وجل مجدداً التوبة، ناهضاً من الكبوة، قائماً من هذه العثرة، حتى لو وقع في عثرة في الطريق من جديد سوف ينهض من جديد إلى أن يثبته الله تبارك وتعالى حتى الممات، ويتوفاه على الإسلام. اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا -اللهم- بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم! يا ولي الإسلام وأهله! مسكنا الإسلام حتى نلقاك عليه، يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك وطاعة رسولك، ربنا! لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك. اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم! إنا نسألك أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم! صلِّ على محمد وعلى آل محمدٍ كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الثقة بالطريق التي يسلكها العبد

الثقة بالطريق التي يسلكها العبد كذلك من هذه الوسائل أن تكون واثقاً من الطريق الذي تسلكه، وأن تعرف أنك لست وحدك في هذا الطريق، فقد سلكه من قبلك أُناس كثيرون منهم الأنبياء والرسل والصالحون والعلماء، لا في الأمة المحمدية فقط ولكن في كل الأمم، فإن في كل أمة من الزمان فرقة ناجية وفيها فرق ضالة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113] إلى آخر الآيات، أن تستشعر أن الله عز وجل من عليك واصطفاك بأن وفقك ودلك على هذا الطريق: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].

ممارسة الدعوة إلى الله تعالى

ممارسة الدعوة إلى الله تعالى كذلك من أعظم وسائل زيادة الإيمان والثبات عليه أن تمارس الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ولا تقصر في ذلك، فإن الارتباط بالدعوة وسيلة من وسائل تثبيت الإيمان وزيادته باستمرار، فتحمد الله عز وجل أنه لم يخلقك جماداً ولا خشبة ولا شجرة ولا حيواناً بهيمياً، وإنما كرمك وجعلك إنساناً، ثم بعد ذلك كرمك بأن جعلك مسلماً وامتن عليك بأعظم نعمة وهي نعمة الإسلام، وليس هذا فحسب، بل إنه عصمك من البدع والضلالات التي اشتهر بها بعض المسلمين، ودلك على طريق أهل السنة والجماعة، ثم جعلك داعياً إلى الله تبارك وتعالى، فتستحضر هذه النعمة وتشكر الله حتى يعينك بالثبات عليها.

مجالسة الصالحين

مجالسة الصالحين كذلك من هذه الأسباب أن تبحث عمن يعينك على هذا الطريق وهذا الدين وتستمسك بغرزه، فهؤلاء الناس الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) ابحث عن الذين هم مفاتيح الخير من أهل العلم والدعوة والعبادة والنسك، وتمسك بهم والتف حولهم.

الثقة بنصر الله تعالى

الثقة بنصر الله تعالى كذلك من هذه الأسباب أن تكون واثقاً بنصر الله، وأن المستقبل للإسلام، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا شكا له أصحابه ما يعانون من أعداء الله يثبتهم بأن المستقبل للإسلام، وهذا في أشد أوقات المحنة، كما يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل يُحفر له حفرة في الأرض، ثم يوضع فيها، ثم يوضع المنشار في مفرق رأسه ويشق نصفين، ويمشط بأمشاط من حديد ما دون لحمه وعظمه وما يرده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، فلابد من تبشير الناس باستمرار بأن المستقبل للإسلام حتماً شئنا أما أبينا، كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) وبشر النبي صلى الله عليه وسلم أن القسطنطينية ستفتح، وأن روما أيضاً ستفتح، ووقعت البشارة الأولى بعد ما يزيد على سبعمائة سنة من نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، أما الثانية -وهي فتح روما- فهي حادثة بلا شك في ذلك: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، ولا شك في ذلك أن الإسلام سوف يصل إلى كل ما طلعت عليه الشمس كما أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن هذا التبشير وتلاوة هذه النصوص تثبت الناس خصوصاً في وقت المحن والغربة وتزيل وحشة هذه الغربة، وهي مما يجدد لهم بأن دعوتهم ونشاطهم لا بد من أن يكون له أثر حتى ولو ظهرت ثمرته بعد أمد يعلمه الله تبارك وتعالى.

التربية الإيمانية العلمية الواعية

التربية الإيمانية العلمية الواعية أيضاً من وسائل الثبات على الدين التربية الإيمانية الواعية العلمية المتدرجة، فالتربية الإيمانية العلمية الواعية هي التي تكون بصيرة بأعداء الإسلام وحيل شياطين الإنس والجن، وهي التي تثمر وقت المحن الثبات على دين الله تبارك وتعالى، تربية لا تقوم على الإمعية ولا على التقليد المذموم للآخرين، إنها تربية واعية تعرف سبيل المجرمين فكشف سبيل المجرمين، وفضح خطط أعداء الإسلام هدف أو غاية من غايات هذه البعثة وهذه الرسالة: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، فالإنسان لا يكن مغفلاً، لا بد أن يعايش عصره بأن يدرك ويكون واعياً لخطط أعداء الإسلام ووسائلهم في استدراجه إلى طريق الشيطان، وكلما ثقلت جرعة التربية وطال أمدها رجي منها الثبات أكثر عند المحن، لذلك تجد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الصحابة الذين تربوا على العقيدة وحصلوا على أكبر قدر من التربية النبوية كانوا أكثر ثباتاً من غيرهم، بخلاف حديثي العهد بالإسلام كما حصل -مثلاً- في غزوة حنين، هؤلاء الذين نفروا وفروا كانوا من حديثي العهد بالإسلام، لم يحظوا بقدر وافر من تربية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن انظر إلى بلال وإلى خباب وإلى آل ياسر وإلى مصعب بن عمير، فـ خباب بن الأرت كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عارياً فلا تنطفئ الأسياخ إلا من ودك ظهره -أي: شحم ظهره- حين يسيل وينصهر، فما الذي جعله يصبر على هذا كله؟ ما الذي جعل بلالاً يصبر في الرمضاء، وسمية تصبر في الأغلال والسلاسل على العذاب؟ هو أنهم حظوا بقدر أكبر من تربية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حنين -كما ذكرنا- الذين انهزموا كانوا ممن هم حديثوا عهد بالإسلام؛ لأنهم لم يكونوا قد حظوا بقدر أكبر من هذه التربية، ولذلك مدح الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

الدعاء

الدعاء من أعظم وسائل تثبيت الإيمان في القلب الدعاء، يحافظ الإنسان على ورد ثابت من الدعاء يخلو فيه بربه، ويكثر من دعاء الله عز وجل، خاصة الأدعية التي فيها سؤال التثبيت على الدين، فالدعاء من أنفع الأسباب في حصول هذه الثمرات، كمثل قوله تبارك وتعالى حين علمنا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [البقرة:250]، {رَبَّنَاْ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250]. وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) فسأله الصحابة عن كثرة دعائه وسؤاله هذا السؤال فقال علية الصلاة والسلام: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء) حتى رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو بهذا الدعاء (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)! وفي الدعاء الآخر: (يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك)، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو أيضاً: (يا ولي الإسلام وأهله مسكني الإسلام حتى ألقاك عليه)،وهذا أيضاً سؤال في الثبات على الدين، فالإنسان يثابر قدر استطاعته على الأعمال الصالحة، ويغتنم أوقات الإجابة وأماكن الإجابة وساعات الإجابة الكثيرة، وهي معروفة، سواء في جوف الليل أو في يوم عرفة مثلاً أو في يوم الجمعة؛ لأن في يوم الجمعة حديثاً يرجح أن ساعة الإجابة ترجى في آخر ساعة بعد صلاة العصر، وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخبر أن هذه الساعة هي آخر ساعة بعد صلاة العصر وقال: (إن في هذا الوقت ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي إلا أجاب الله دعوته) ومعنى الحديث (قائم يصلي) ليس المراد به صلاة النافلة -مثلاً- بعد العصر؛ لأنه معروف الخلاف في ذلك وأن هذا وقت الكراهة، لكن (يصلي) أي: يدعو. ولذلك كان بعض السلف يستحبون أن يمكث الإنسان في المسجد أو في المصلى ويدعو الله تبارك وتعالى في هذه الساعة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعةً من ولد إسماعيل، ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة).

كثرة ذكر الله تعالى

كثرة ذكر الله تعالى كذلك من هذه الأسباب كثرة ذكر الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال:45].

تصحيح العقيدة

تصحيح العقيدة كذلك من هذه الأسباب أن يحرص الإنسان على أن يصحح عقيدته، وأن يهتم جداً بتصحيح العقيدة، وأن يستقيم قلبه على عقيدة السلف الصالح رضي الله عنهم، لا يحيد عن ذلك قيد أنملة، فالإنسان لأن يصاب بمعصية أو يقصر في طاعة أو يرتكب شيئاً مكروهاً أهون من أن يؤول صفة من صفات الله، فهذه مصيبة عظيمة، يؤول صفة من صفات الله ويجحد الخبر، ويلحد في أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى، وتلوث عقيدته بأي مظهر من مظاهر انحراف العقيدة، فهذا أخطر بكثير من الوقوع في المعاصي، وأكثر الناس إذا ذكر الالتزام أمامهم تلتفت أذهانهم إلى ترك المعاصي لا إلى هذه الشبهات، فتنقية القلب من العقائد الفاسدة الخربة من أعظم أسباب التثبيت، والدليل أنك إذا تأملت حال أهل البدع الذين انحرفوا عن منهج الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- تجدهم في حالة تقلب وتلون، تجد الواحد يتنقل من فرقة إلى أخرى، كل يوم يتلون، لكن نادر جداً -أو لا يكاد يوجد- أن تقف على واحد عرف طريق أهل السنة والجماعة عن علم وخبرة ووعي ثم حاد عنه وآثر عليه غيره، ونفس هذه الخصلة صفة أهل الحق في كل زمان، وآية ذلك أن هرقل سأل أبا سفيان عن أتباع النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل: كذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. فالشاهد أن الإنسان إذا تنقل بين أهل الفرق والضلال خارج دائرة أهل السنة والجماعة فإنه يخشى عليه سوء الخاتمة وعدم الاستقامة والثبات، يقول بعض السلف: أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام. فتجد أهل البدع يتنقلون، ثم ينتهي بهم الأمر أن يكونوا ساخطين على كل شيء تعلموه، أما أهل الحق فبخلاف ذلك، فعلى الإنسان أن يسلك سبيل المؤمنين.

تدبر قصص القرآن

تدبر قصص القرآن من بركات قراءة القرآن تدبر قصص الأنبياء، ودراستها للتأسي والعمل، يقول تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، فإذا تأمل الإنسان قصة إبراهيم عليه السلام وتخيل الموقف: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70]. فيتساءل: ماذا فعل إبراهيم لما ألقي في النار؟ إذا هدد الإنسان بالقتل أو التعذيب ماذا يفعل؟ ويتذكر إذا كان يقرأ القرآن قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] نفس الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، لقد قال: حسبي الله ونعم الوكيل. يعني: الله سوف يكفيني شركم. وإذا تدبر الإنسان موقف موسى عليه السلام لما حصلت المطاردة بين موسى وقومه وفرعون وجنوده، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لأنه ما بقي شيء يمشون عليه، فقد انتهوا إلى ساحل البحر فقالوا: (إنا لمدركون)، و (إن) فيها توكيد، وفي (اللام) أيضاً توكيد أنهم هالكون لا محالة، فماذا قال موسى عليه السلام الذي وعده الله بقوله: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]؟ الله معه، وهو يعلم أنه لا بد من فرج، وكما قال في مناسبة أخرى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، فهو واثق أن الخير نزل، لكنه فقط يريد تيسير السبيل إليه، فانظر: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]. فعند البحر يقول تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فأمره الله أن يشق البحر بالعصا، وهذا الأمر عجيب لو أن الإنسان تخيله! فالبحر لم يوضع جسر عليه فوق الماء حتى مشوا عليه، لا، الذي حصل أن البحر انفلق: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] صار الماء من الجانبين مثل الجبل العالي، فالماء بقدرة الله وقف وانكشف قاع البحر، فمشوا على قاع البحر، ووقف الماء بقدرة الله في الجانبين، ومشى موسى وقومه، وفرعون الغبي حينما رأى ذلك كان ينبغي أن يعرف أن هذا لا يكون إلا بقدرة الله، لا يكون إلا بقوة الله الذي خلق هذا السبب، ولكن أعماه الله عن أن يدرك هذه الحقيقة: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس:90] فأطبق الله عليهم البحر فغرقوا وهلكوا. أيضاً الإنسان لو تأمل موقف فرعون -لعنه الله- حينما توعد المؤمنين: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] ماذا أجاب المؤمنون؟ وكم كان عمر إيمانهم؟ كان عمر إيمانهم لحظات، فأجابوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. كذلك الإنسان لو تأمل قصة مؤمن آل ياسين أو أصحاب الأخدود وغير ذلك من المواقف، كل ذلك مما يعين على الثبات.

المحافظة على الأعمال الصالحة

المحافظة على الأعمال الصالحة أيضاً مما يعين الإنسان على الثبات على دين الله تبارك وتعالى التزام الشرع، والمحافظة علي الأعمال الصالحة، والمثابرة عليها، يقول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. وبعض الناس تنطلق أذهانهم إلى أن التثبيت فقط يكون عند الموت، ولا يتأملون أن التثبيت حال الحياة مطلوب أيضاً، فقوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا) عام، فيثبتهم وهم أحياء بالأعمال الصالحة (بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين)، قال قتادة: أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر. ويقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] فما توعظ وتؤمر به من الأعمال الصالحات خير لك، ويثبتك على دين الله تبارك وتعالى، فإذا أطلت الفتنة برأسها فهل يثبت الكسالى القاعدون المفرطون في حق الله؟ لا، لا يثبت إلا من ثابر على العمل الصالح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، وكان أحب الأعمال إليه أدومه وإن قل، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ على ثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة) وهي السنن الرواتب في اليوم والليلة، قال: (من حافظ) يعني: ليس من عملها يوماً وقطعها شهراً، لكن من واظب، وهذا هو معنى الاستقامة، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (قال الله تبارك وتعالى: ولا يزال -تفيد الاستمرار والثبات- عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) إلى آخر الحديث. فانظر إلى كلمة (ولا يزال) فهي تفيد الثبات والاستمرار على ذلك.

الإقبال على القرآن الكريم

الإقبال على القرآن الكريم نمر مروراً سريعاً على بعض هذه الأسباب كما ذكرها فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد في محاضرة له بنفس هذا العنوان (وسائل الثبات على دين الله تبارك وتعالى)، أولها: الإقبال على القرآن الكريم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو فيقول: (أسألك -اللهم- أن تجعل القرآن ربيع قلبي) يحيي قلبي كما تحيا الأرض بالمطر حين ينزل عليها، فأنت تدعو وتقول: (اللهم! إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي) فكيف يكون ربيع قلبك وأنت لا تعرض قلبك لهذا المطر، بل جعلت حاجزاً وسقفاً بين قلبك وبين المطر؟! كيف سيرتوي أصل القلب؟! ولنفرض أن شخصاً ذهب إلى الطبيب، فكتب له الدواء، وجمع مجموعة من الأدوية النافعة بإذن الله، ثم إنه وضع بروازاً من المجوهرات الثمينة مزخرفاً وغالي الثمن، فعطره بأطيب العطور، ووضع الدواء في هذا البرواز الأنيق الجميل، فحفظ الأدوية داخل هذا لبروازه؛ فهذا إنسان سفيه ناقص العقل؛ لأن الدواء ينبغي أن يتعاطاه بجرعات منتظمة، وبطريقة محددة حتى يؤثر مع مرور الزمن، كذلك القلب القرآن دواؤه وشفاؤه، لكن شفاء لمن يتعاطاه، فكونك تقصر في تعاطي الدواء هذا جهل منك وتفريط، فهو دواء، وكل دواء ينبغي أن تتعاطاه، ولن يعالج قلبك دفعةً واحدة، لا بد من توالي القطرات على القلب حسب قوة المرض، وبحسب ما تحتاج إليه من الزمن في التداوي على جرعات مستمرة حتى تؤثر في القلب، ألا ترى أنك لو أتيت إلى عشرين لتراً من الماء ثم صببته على هذه الصخرة دفعة واحدة لا يؤثر فيها شيئاً، لكن لو أن نفس هذا الماء موجود في صفيحة، وفيها ثقب من أسفلها، وينزل منها نفس الكمية من الماء على هيئة قطرات متوالية فإنك تجد مع الوقت أن الماء يحدث فيها تأثيراً، كذلك القلب لا يتأثر ولا يتحول إلا بتوالي العلاج باستمرار لفترة طويلة، وهناك نقطة ضعف عند الناس في الرقية، فعندما يعالج بالرقية يتصور أن الرقية لا تؤتي ثمرتها حتى يقف الذي يدعو ويرقي المريض على رجليه وانتهى كل شيء، كلا، هناك أسباب مطلوبة كأي دواء، فلا بد من الاستمرار في الرقية والصبر عليها والمداومة حتى يحصل الانفعال بهذا الدواء. وأعظم وسيلة لتثبيت الإيمان في القلب وزيادته هي التعامل باستمرار مع القرآن الكريم، فهو أعظم دواء وشفاء لما في الصدور و (ما أنزل الله داءً إلا وأنزل معه دواء)، و (داءً) نكرة في سياق النفي تعم كل الأدواء، سواء أدواء القلب أو أدواء البدن، والقلب دواؤه القرآن، فهو شفاء ينبغي أن تتعاطاه دائماً، فما أنزل الله القرآن حتى نضعه في السيارات، ويهديه الرؤساء والملوك والوزراء والمسئولون بعضهم لبعض ثم يظن أن هذا هو تكريم القرآن! تكريم القرآن تصديقه والعمل به وتلاوته، وعدم هجره وهجر أحكامه: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس:70]، وما أُنزل لنتلوه على المقابر أو على الموتى في التراب، ثم نمضي وننصرف وكأن شيئاً لم يكن، ما أًُنزل القرآن لأجل هذا، إنما أُنزل ليكون منهاجاً في حياتنا، بين الله تبارك وتعالى أن الغاية التي من أجلها أنزل القرآن مفصلاً منجماً مقسماً على نجوم وأجزاء أنها هي تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] القرآن يزرع في النفس الإيمان، ويحيي القلوب بعد موتها، فالقلب تنزل آيات القرآن عليه برداً وسلاماً فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله، ولن يتقرب الإنسان إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه وهو كلامه تبارك وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. كذلك نحن نعيش في جو مليء بالفتن والشبهات، وبطعن أعداء الإسلام وحملات الإعلام وغيره، فهذه الفتن مع تكاثرها إن لم نتعاط ما يضاد هذه السموم والشبهات والشهوات ستطغى علينا. والقرآن هو المحطة التي تأتيك بالوقود باستمرار، فإذا قطعت الصلة بينك وبين هذا المصدر -مصدر التزويد بالمفاهيم الصحيحة- فلا شك أنك ستنفعل لهذه الفتن وتؤثر في قلبك شئت أم أبيت، فاستمرار القرآن يعطيك المقاييس حتى تحكم على الأشخاص أهل المبادئ ولا تقع في الاضطراب. أيضاً القرآن يرد على شبهات الكائدين للإسلام وأعداء الإسلام من المنافقين والكافرين بكل ألوانهم، فالارتباط بالقرآن يحبط كيد أعداء الله تبارك وتعالى، فإنه يكسر طعن أعداء الإسلام وتشويه مفاهيم المؤمنين في قضية الولاء والبراء، وفي قضية أن النصراني أخو المسلم فيما يسمى بالوحدة الوطنية، فهذه المفاهيم الوثنية المضللة الإنسان يتعرض لها ليل نهار على لسان علماء السوء قطع الله ألسنتهم، ودعاة السوء من الشرق والغرب في كل مكان، في الجرائد، في الإذاعة، في كل شيء. فنحن سنتأثر بهذا إن لم نرتبط بالقرآن، وآية واحدة من القرآن كفيلة في أن تحبط كل كيد هؤلاء: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] هذا خبر الله، ونحن نصدق خبر الله عز وجل، وهكذا تجد آية واحدة من القرآن تحبط كل كيد هؤلاء المجرمين. فمثلاً: حينما يكثر التشويش على تعدد الزوجات والطعن في هذا الحكم الإلهي أو التطاول عليه فإن المسلم الموحد الذي يتلو كتاب الله ويحافظ على الصلة الوثيقة بينه وبين القرآن آية واحدة في كل ختمة يقرؤها تكفي لأن يتلاشى كل هذا كأن لم يكن، وهي قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] إلى آخر الآيات، آية واحدة تكفي، ولا ينشغل الإنسان بعد ذلك بالمحاورة والمجادلة في حيل أعداء الله تبارك وتعالى، والأسماء فقط هي التي تتغير، لكن جنس المنافقين والكائدين للدين ما زال قائماً، نعم لقد مات أبو جهل ومات أبو لهب ومات أبي بن خلف ومات فرعون ومات قارون ومات النمرود، لكنهم يتجددون ويظهرون الآن في صور أخرى وتحت أسماء مختلفة، والحقيقة واحدة، فالقرآن يخاطب هؤلاء كما خاطبهم من قبل، ويخاطب أمور التزامنا كما كان يخاطب الذين مضوا من أهل الإيمان، فتجد الشخص إذا ربط حياته بالقرآن وأقبل عليه تلاوة وحفظاً وتدبراً تجد أن ذلك ينعكس في حياته، بعكس ذلك الذي قطع الصلة بينه وبين القرآن، وحرم من هذا المصدر العظيم من مصادر الطاقة، والوقود الذي يحفظ عليه إيمانه.

فضائل الأذكار

فضائل الأذكار ليس شيء أعظم من ذكر الله سبحانه وتعالى، ولذا دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على فضل الذكر، ولا يكون العبد ذاكراً لله سبحانه حتى يكون غالب وقته متعلقاً بالله، والله سبحانه عند ظن عبده به، وهو معه إذا ذكره، والجزاء من جنس العمل.

الأحاديث الواردة في فضل الذكر

الأحاديث الواردة في فضل الذكر

حديث: (ما جلس قوم يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء)

حديث: (ما جلس قوم يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء) الحمد لله الذي جعل ذكره عدة للمتقين، يتوصلون بها إلى خيري الدنيا والدين، وجنة واقية للمؤمنين سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين من طوائف الخلق أجمعين، وصلى الله على خير البشر الذي أنزل عليه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]. فبين للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار ما ملأ الأسفار، وعلى من صاحبه ووالاه وسلم تسليماً كثيراً لا يدرك منتهاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات)، هذا الحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط، والإمام أحمد في مسنده، وأبو يعلى، والبزار، وحسنه الألباني. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل) قوله عليه الصلاة والسلام: (يذكرون الله) لا ينحصر في وظيفة معينة من الوظائف المشهورة بأنها هي ذكر الله سبحانه وتعالى، فلا شك أنه يدخل في ذكر الله التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والحوقلة، وقراءة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك، والأذكار لا تنحصر في هذا، بل كل عامل لله بطاعة لله فهو ذاكر لله عز وجل، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى، وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام. أي: كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج، وأشباه هذا، فأشرف مجالس الذكر على الإطلاق هي مجالس العلم التي فيها يتعلم الإنسان علوم الحلال والحرام، وكيف يراعي حدود الله تبارك وتعالى. ويقول الحسن: ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب العلم فلا حج ولا عمرة، ولا جهاد، ولا صدقة ولا عتق، قال: ولو كان العلم صورة لكانت صورته أحسن من صورة الشمس. وقال يحيى بن أبي كثير: درس الفقه صلاة. وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب، قال لهم هذا الشاب: قولوا سبحان الله والحمد لله. فغضب الشيخ أبو السوار وقال: ويحك في أي شيء كنا إذاً؟ فالعلم أفضل من مجرد الذكر، كما هو معلوم من تفضيل طلب العلم على صلاة النافلة، فيقدم طلب العلم على صلاة النافلة. فمعرفة الحلال والحرام واجب في الجملة على كل مسلم، أما ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان فأكثره يكون تطوعاً، لكن العلم والفقه يعلمك كيف تجتنب الحرام، وكيف تؤدي الواجبات، وما هي شروطها، وما هي المكروهات، وما هي المستحبات، فحدود الله تبارك وتعالى إنما تعلم عن طريق مجالس العلم، فلذلك مجالس العلم هي أفضل مجالس الذكر على الإطلاق، فهي حلق ذكر. أما ما يرد إلى الأذهان حينما تقام حلقة ذكر -خاصة في الوسط الصوفي- فيها من الرقص والطبل والمزمار والقفز والصياح وهذه الأشياء التي يفعلونها فهذه ليست حلقة ذكر، بل حلقة غفلة وحلقة نسيان لله، وليس ذلك ذكراً لله سبحانه وتعالى، فهذا نسيان وإعراض عن الذكر الحقيقي الذي هو طلب العلم وقراءة القرآن وغير ذلك من الأذكار التي أشرنا إليها. ويدل على هذا المعنى الذي قاله عطاء رحمه الله تعالى قوله تبارك وتعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]. أما هذا الذكر الذي أحدثه بعض الصوفية ولزموه مع هجران العبادات اللازمة التي هي من حقوق الإسلام وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق النفس، ثم ينظرون إلى أهل العلم في مجالس الدرس نظرة حقارة وازدراء فهذا ليس بذكر كما قلنا، بل هو نسيان لله سبحانه وتعالى، ونسيان لأمره ونهيه، فما أقبح هذا الذكر الصوفي! وما أحراه بتسميته النسيان والغفلة والإعراض عن الله تبارك وتعالى! وقد ثبتت جملة من الأحاديث في فضائل الذكر بعد جملة عظيمة من الآيات، كقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42]. قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: و {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] قال: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر. فكل عبادة لها وقت وحدود معينة، مثلاً: الصلاة في أوقات تباح، وفي أوقات تكره أو تحرم، وكذلك الصيام، فالفريضة وقتها في شهر رمضان، وصيام التطوع في أيام معينة منهي عنه، كأيام التشريق أو يوم العيد، فكل عبادة لها حدود ولها وقت، ولها ابتداء وانتهاء، ولها أحوال يعذر من تركها فيها. أما ذكر الله سبحانه وتعالى -كما روى علي بن طلحة عن ابن عباس - فلم يجعل الله له حداً معلوماً، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، يقول تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103] أي: بكل أحوالكم في الليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:42] فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، فهذه هي العبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار فيها بلا حدود في كل الأحوال، حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحواله، طاهراً أم غير طاهر، جنباً أم غير جنب، نائماً أو قائماً أو قاعداً، في كل أحواله يذكر الله تبارك وتعالى. ولذلك نلاحظ في القرآن الكريم الأمر بالإكثار من الذكر، قال تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] وفي هذا الحديث الذي رواه أنس رضي الله تعالى عنه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم). والذكر هنا أعم من أن يكون مخصوصاً بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة وغير ذلك، فأي مجلس علم يتعلم فيه حدود الله سبحانه وتعالى فهو مجلس ذكر، ويستحق أهله هذا الفضل الذي ثبت في هذا الحديث: (إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم) يعني: إذا انتهى المجلس وقمتم بعد انتهائه فتقومون حال كونكم (مغفوراً لكم) فبعض العلماء يقولون: هي الصغائر. وبعضهم يقولون: الصغائر والكبائر إذا كان مع حضور مجالس الذكر توبة صحيحة من الكبائر، يعني: لا يكون الرجل الذي ارتكب كبيرة مصراً عليها، فإذا تاب منها -أيضاً- يغفر له الكبائر والصغائر؛ لأن الكبائر لا بد لها من توبة خاصة، فذنب معين يرتكبه عليه أن ينوي أن يتوب منه، وبالتالي يغفر له الكبائر والصغائر. وليس المراد من قوله: (قوموا مغفوراً لكم) أن هذا المنادي يناديهم ويقول لهم: قوموا واتركوا الذكر والقيام. وإنما المراد حين يريدون الانصراف، وليس المقصود أن المنادي يناديهم آمراً لهم أن يتركوا مجلس الذكر ويقوموا عنه.

حديث (سبق المفردون)

حديث (سبق المفردون) صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). قوله: (المفردون) يعني الذين ذهب جيلهم الذي كانوا فيه وبقوا وهم يذكرون الله سبحانه وتعالى، يقال: (فرد الرجل) إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. فهنا قوله عليه الصلاة والسلام: (سبق المفردون) يعني هؤلاء الذين يثبتون على ذكر الله، ويشتغلون به عما عداه، حتى إن جيلهم الذي كانوا يعيشون فيه انخرم كله، وبقوا هم يذكرون الله عز وجل. وعرفهم النبي عليه الصلاة والسلام لما قيل له: وما المفردون يا رسول الله؟ فقال: (الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

حديث (إذا أيقظ أهله من الليل فصليا ركعتين)

حديث (إذا أيقظ أهله من الليل فصليا ركعتين) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات). واختلف العلماء فيمن يستحق هذا الوصف، فقال الإمام أبو الحسن الواحدي: حكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قوله: المراد: يذكرون الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله عز وجل، فمن حافظ على هذه الأذكار المرتبطة بهذه الوظائف كان في تفسير ابن عباس من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. فهم يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً -أي: أذكار الصباح والمساء- وفي المضاجع عند النوم وأثناء النوم، وإذا تقلب أو رأى رؤيا فاستيقظ، وكلما استيقظ من نومه وغدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى، فهذا الذي يحافظ على هذه الأذكار يعد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، يعني: في كل أحيانه وأحواله. وقال عطاء: من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] أي: من صلى الصلوات الخمس في جماعة بخشوع، مراعياً حقوقها وحدودها يدخل -أيضاً- في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. ومعنى ذلك أن الإنسان يجتهد في حفظ الأذكار الثابتة الصحيحة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كافة الوظائف الشرعية الثابتة، وأن يلم بذلك، وهذا الباب اهتم العلماء به رحمهم الله تعالى أعظم اهتمام، حتى أفردوه بالتصنيف، فهو باب من أبواب العلم، فكما أن هناك باباً للفقه، وهناك علم الحديث، وهناك التفسير، وهناك أصول الفقه، وهناك علوم اللغة بأقسامها، وكما أن الفقه فيه أبواب الطهارة ونحوها، فكذلك هذا علم وباب مستقل من أبواب العلم، ويسمى عمل اليوم والليلة، وهو عبارة عن محاولة إحصاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأذكار الموظفة أو الأذكار المطلقة؛ فإن الأذكار نوعان: أذكار مطلقة كقراءة القرآن، فإنه تستحب القراءة في كل وقت، وليست مقيدة بزمن معين. كذلك من الأذكار المطلقة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكالاستغفار والحوقلة، والتسبيح والتهليل، والتكبير والتحميد وغير ذلك من الأذكار. النوع الثاني: أذكار موظفة بوقت معين، وبوظيفة معينة، كالأذكار التي تقال في الركوع والسجود، وعند الاستيقاظ من النوم، فهي مرتبطة بوظيفة، ففي وقت هذه الوظيفة يكون التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الذكر الموظف أفضل من غيره من الأذكار المطلقة، أما خارج وقت الوظيفة فأفضل الأذكار المطلقة على الإطلاق هو تلاوة القرآن الكريم، يقول الإمام الشوكاني في كتابه تحفة الذاكرين: لا شك أن صدق هذا الوصف -أعني كونه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات- على من واظب على ذكر الله تعالى وإن كان قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر الله كثيراً من غير مواظبة. وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) وورد عنه صلى الله عليه وسلم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، كما جاء في بعض الروايات. فالشاهد أن الإمام الشوكاني رحمه الله يبين أن هذا الوصف -وصف الذاكرين الله كثيراً والذاكرات- يصدق على من يداوم على ذكر الله، حتى لو كانت المداومة على قدر قليل، فيقول ذكرين أو ثلاثة مثلاً عند النوم، وذكراً واحداً قبل أن ينصرف من التشهد، أو ذكراً واحد عند الاستيقاظ، أو ثلاثة أذكار في الصباح والمساء، وهكذا شيء قليل تداوم عليه أفضل من أن تذكر الله كثيراً مرة واحدة ثم تنقطع مدة طويلة وتعود، فالمداومة مع قلة الأذكار أفضل من كثرتها مع الانقطاع عنها. يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أذكاراً وأدعية عند الأحوال المختلفة، وفي الأوقات المتنوعة، كالنوم واليقظة، والأكل والشرب واللباس ونحوها، ووردت لكل حال من هذه الأحوال وفي كل وقت من هذه الأوقات أذكار متعددة، وكذلك وردت أدعية فوق الواحد والاثنين، فمن أخذ بذكر أو دعاء من الأذكار والأدعية المأثورة وأتى به في ذلك الحال والوقت فقد طبق عليه وصف الإكثار من الذكر إن داوم عليه في اليوم والليلة، ولم يخل به في ساعاته من النوم واليقظة، وأما من واظب على جميعها وأتى بها ليلاً ونهاراً وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه، فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى به إلا من صنع مثل صنيعه أو أكثر أو زاد عليه. فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف لتصدق عليك هذه الأوصاف، وإلا فلا تكن. أي: يدعو عليه بأن يموت، فهو يقول: إما أن تكون ممن يذكرون الله قليلاً لكن يداومون، أو كثيراً مع المداومة، أو لا تكن. يعني: تكون كأنك ميت إذا خلوت عن أحد هذه الأوصاف.

حديث (ثلاثة لا يرد دعاؤهم)

حديث (ثلاثة لا يرد دعاؤهم) وعن عطاء بن يسار قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط). أي: الإمام الحاكم العادل. فمن أكثر ذكر الله سبحانه وتعالى لا يرد الله سبحانه وتعالى دعاءه، فهذه فضيلة من أعظم الفضائل، وأن هذا سبب كونك ودخولك فيمن لا يرد الله سبحانه وتعالى دعاءهم، وإذا كان ممن لا يرد دعاءهم فأي خير سيتخلف عنه من خيري الدنيا أو الآخرة؟! فكلما سأل ربه استجاب دعاءه، فهذه من أفضل وأعظم فضائل الأذكار.

حديث: (ألا أخبركم بخير أعمالكم)

حديث: (ألا أخبركم بخير أعمالكم) وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الورق والذهب) يعني التصدق بالذهب والفضة (وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله).

حديث (مثل البيت الذي يذكر الله فيه)

حديث (مثل البيت الذي يذكر الله فيه) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت) وفي رواية: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت).

حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا)

حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا) وعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر يحيى بن زكريا عليهما السلام أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات) منها: ذكر الله عز وجل. وفي نص الحديث: أن يحيى قال لهم: (وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أسره) يعني: أعداؤه لحقوه، وأخذوا يطاردونه بسرعة شديدة (فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه) فدخل الحصن وأغلق الأبواب جيداً وأوثقها وأحكم إغلاقها، وتحصن بذلك من هذا العدو الذي كان يريد أن يفتك به، يقول: (فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، فإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى) فهذا أعظم ما يحمي الإنسان من كيد الشيطان، سواء بستويل المعاصي، أو بالوساوس، أو غير ذلك من الآفات والأمراض التي تفسد على الإنسان حياته، فإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى.

حديث: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)

حديث: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) وهذه المعية معية خاصة، وليست المعية العامة التي تكون مع البشر أجمعين، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] بعلمه وسمعه وبصره، وإنما هذه هي المعية الخاصة التي هي معية النصر والتأييد والتسديد والتوفيق، مثل قوله تبارك وتعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، ومثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فمعنى (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه): أنا مع عبدي زمان ذكره لي مادام يذكرني، فأنا معه بالحفظ والكلاءة. وليس المقصود أن الله سبحانه وتعالى يحل حيث يحل العبد، وإنما المقصود أن الله معه بالحفظ والكلاءة والحراسة والحماية.

حديث: (طوبى لمن طال عمره وحسن عمله)

حديث: (طوبى لمن طال عمره وحسن عمله) وعن عبد الله بن بسر المزني رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله). فهذه من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى، أن يمد في عمر الإنسان فيعمره بالطاعات والأعمال الصالحة، أما من طال عمره وقبح وساء عمله فطول العمر في حقه مصيبة عظمى؛ لأنه كلما ارتكب معاصي أكثر استوجب عقاباً أكثر، فطول العمر لمثل هذا وبالٌ عليه. وجاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أحدهما قائلاً: (أي الناس خير؟ قال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، وقال الآخر: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله).

حديث: (لا يزال لسانك رطبا بذكر الله)

حديث: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) وعنه رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيء أتشبث به ولا تكثر علي، فأنسى فقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تبارك وتعالى)، وفي رواية: أن الرجل قال: (إن شرائع الإسلام قد كثرت، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى. فقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تبارك وتعالى).

حديث: (من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة)

حديث: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة). ومعنى الترة لغة: النقص، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. يعني: لن ينقصكم، لكن المقصود بالترة هنا في هذا الحديث التبعة، يقال: وترك الرجل يترك ترة، على وزن: وعدك يعدك عدة. يعني: إلا كانت عليهم تبعة. أي: حسرة ومسئولية يسألون عنها ويحاسبون عليها. يقول عليه الصلاة والسلام: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) وفي رواية: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم). ففي هذا الحديث وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر الله في أي مجلس يجلسه الإنسان، فإذا جلس الإنسان مجلساً -سواءٌ مع إخوانه في درس علمي أو محاضرة في أي موضوع- فإنه يجب أن يراعى هذا الأدب، والدليل على وجوبه قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم) وهذا لا يقال إلا في الواجب، قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة) يعني: كأنهم كانوا يجلسون في وليمة يأكلون فيها جثة حمار منتنة متعفنة يتعاطونها ويأكلونها. فهذا مثل كل من يجلس مجلساً لا يذكر الله تبارك وتعالى فيه، وما أكثر هذه المجالس -للأسف- في هذا الزمان! مجالس أمام الفيديو والتلفاز، وفي المسارح والسينماء وعلى المقاهي، وفي أماكن كثيرة جداً كما نعلم يجلسون فيها لا يذكرون الله سبحانه وتعالى، وليتهم يكتفون بعدم الذكر إن لم يكن فيها اللغو والآفات الأخرى من آفات اللسان.

حديث الثلاثة الذين أسلموا فكان آخرهم موتا أكثرهم أجرا

حديث الثلاثة الذين أسلموا فكان آخرهم موتاً أكثرهم أجراً وعن عبد الله بن شداد: (أن نفراً من بني عذرة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يكفنيهم -يعني من يقوم بضيافتهم-؟ قال طلحة: أنا. قال: فكانوا عند طلحة ضيوفاً، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً، فخرج فيه أحدهم فاستشهد، قال: ثم بعث بعثاً فخرج فيه آخر فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم في منزلة أعلى من منزلتهم، ورأيت الذي استشهد أخيراً يليه، ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم). فالأول سبق إلى الشهادة، والثاني كان يليه في الشهادة، والثالث مات على فراشه ولم يكن شهيداً في الجهاد، فكيف بهذا الثالث الذي مات على فراشه يكون في منزلة أعلى من منزلة أخويه؟ يقول: (فدخلني من ذلك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟) يعني: ما الذي أثار استغرابك؟ ولماذا تتعجب؟ قال: (وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله) يعني أن الثاني استشهد بعد الأول بفترة، وهذه الفترة عمرها بذكر الله، فزادت في ميزان عمله من تسبيح وتكبير وتهليل وقراءة قرآن وصلاة وذكر، فهذه ثقلت ميزانه حتى تفوق على أخيه الذي استشهد أولاً بسبب أنه عاش عمراً أطول منه، فعمره بذكر الله فارتفع على درجة أخيه الذي مات دون هذا الوقت، وليس هذا فحسب، بل إن الثالث الذي مات على فراشه ولم ينل الشهادة في سبيل الله أثناء القتال بلغ من استثماره لوقته بعد موت الأول والثاني أنه -أيضاً- عمر هذا الوقت بذكر الله سبحانه وتعالى، فارتفعت درجته على مقام الشهيدين اللذين سبقاه، مع أنه مات على فراشه، وهذا لفضيلة الذكر. فالذكر عبادة أجرها عظيم جداً فوق ما نتصوره، ولا تستطيع أن تتخيل أبداً فضيلة الذكر، ولو أن البشر كشف لهم الحجب واطلعوا على ما يترتب على الكلمات السهلة الخفيفة على اللسان الثقيلة في الميزان لقطعوا أنفسهم حسرة على كل ساعة غفلوا فيها عن ذكر الله عز وجل، كما يقول عليه الصلاة والسلام: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم). ومثلاً: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة) وكيف يكون البيت في الجنة؟ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومع ذلك انظر كيف يكد الإنسان ويكدح في هذه الدنيا من أجل أن يحصل على شقة مكونة من غرفتين! يكد ويكدح ويجمع المال ويهتم وينشغل جداً حتى يبني بيتاً يستقر فيه، فكيف نضيع ذكر الله إن كان عندنا يقين بأن هذا خبر الصادق المصدوق، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى؟! هذا خبر حقيقي، وعندما تنكشف الحجب يقطع أناس أنفسهم من الغم والهم والحسرة على أنهم لم يغتنموا هذه اللحظات. ويقول عليه الصلاة والسلام: (من بخل بالمال أن ينفقه، وبالليل أن يكابده، فعليه بسبحان الله وبحمده). شيء سهل جداً، تقول: سبحان الله وبحمده. ولا أحد يعطلك عن شيء، تذكر الله وأنت تمشي في الطريق، وربما إذا ما ذكرت الله في الطريق ورآك رجل غافل فرأى شفتيك تتحرك بذكر الله فإنه يذكر الله اتباعاً لك واقتداءً بك، فتأخذ ثوابه أيضاً، وكل من رآك واستفاد بمنظرك وأنت تذكر الله سبحانه وتعالى انتبه من الغفلة وفعل مثلك، فأنت تثاب هذا الثواب، ولذلك هذه كانت من أعظم علامات أولياء الله، ولما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أولياء الله قال: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله سبحانه وتعالى). فإذاً لا ينبغي أن يقصر عاقل أبداً في الذكر، والله سبحانه وتعالى يمد في عمر الإنسان ويقبض روحه في كل يوم وليلة، فأنت تتوفى وتخرج روحك من بدنك، وصحيح أنها ليست مفارقة كبرى كالموت، لكنه أخو الموت، وكم من رجل وضع خده على الوسادة وما استيقظ ثانية، فأرواحنا لا تكون بأيدينا، فهي تعود إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يعيدها إلينا، فهذه نعمة متجددة -أيضاً- نحن في غفلة عنها، فمن أعظم النعم أن يعطيك الله سبحانه وتعالى عمراً أطول: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فهنا هذا الصحابي - طلحة - لما حكى هذه الرؤيا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (فدخلني من ذلك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله).

فضائل حلق الذكر

فضائل حِلق الذكر هناك فضائل عظمى لحلق الذكر، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك -يستحلفهم بالله ما جلسوا إلا لذكر الله-؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا. فقال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة). وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً) والباع مسافة ما بين اليدين ممدودتين يميناً وشمالاً. فإذا بسطت ذراعيك فما بين الأصابع هو الباع، (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). يعني: أسرع من مجيئه. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل). والسر في قوله: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة) السر في التفضيل على هذا العدد أن المفضل هو مجموع أربعة أشياء، فما هي هذه الأشياء المفضلة؟ ذكر الله، والقعود له، والاجتماع عليه، والاستمرار فيه إلى الطلوع وإلى الغروب. وخص بني إسماعيل لشرفهم وإنافتهم على غيرهم، وقربهم منه، ومزيد اهتمامه بحالهم صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى الإنسان أن الله سبحانه وتعالى ييسر له أمر الذكر فعليه أن يستشعر أن هذه نعمة من الله عز وجل، فتوفيقك للذكر هو نعمة جديدة تحتاج إلى شكر لله سبحانه وتعالى. فعلينا أن نحمد الله سبحانه وتعالى أن سخرنا لطاعته، واستضافنا في بيته؛ لأنه إذا كنت ضيفاً لله في حلق الذكر في المساجد فحق على المزور أن يكرم زائره، وإذا ذهبت إلى رجل كريم وزرته في بيته أليس يكرمك ويقدم لك النزل؟ فإذا كان هذا في حق بشر فكيف في حق الله سبحانه وتعالى؟! فأنت ضيف الله، فأحسن الظن بالله فإنه حق على المزور أن يكرم زائره، وفي حين أن الله سبحانه وتعالى هيأ لك أن تكون في المساجد في حلق الذكر وفي حلق العلم ففي نفس الوقت خذل الله سبحانه وتعالى قوماً آخرين هم في نفس اللحظة أو في نفس الساعة إما موجودون في داخل السينما أو في البارات أو النوادي يلهون ويلعبون، أو أمام التلفاز في بيوتهم، أو غير ذلك من أماكن الفساد، كمن يشتغل بالمقهى، أو بالشطرنج، أو بلعب الورق ونحو ذلك من هذه الآفات، فالله سبحانه وتعالى عافاك من أن تكون في مجالس اللغو واللهو والمعصية حين أدخلك المسجد. ولقد رأى ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه قوماً في المسجد يتعلمون، فقال رجل: علام اجتمع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه: على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسمونه. يقتسمون ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، فما هو ميراث محمد؟! إنه العلم والذكر، وقراءة القرآن والأحاديث وغير ذلك. وخرج أبو هريرة إلى السوق فقال لأهل السوق: تركتم ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسم في المسجد وأنتم هاهنا! فهرعوا إلى المسجد يظنون أنه ميراث مال أو شيء من هذا، فما وجدوا إلا حلقة ذكر، فبين لهم أن هذا هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الأنبياء لا تورث إلا العلم والحكمة والذكر، كما قال تبارك وتعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل:16].

حث الشارع على حضور مجالس الذكر وهجر مجالس اللغو

حث الشارع على حضور مجالس الذكر وهجر مجالس اللغو

قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور)

قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور) كما حث الشارع على حضور مجالس الذكر فقد حذر من مجالس الخاطئين، حيث يقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] فقوله تعالى: (يَشْهَدُونَ الزُّورَ) يعني: يحضرون (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) يعني: لا يحضرون مجالس اللغو. وضرب العلماء أمثلة لمجالس الزور التي ينبغي أن لا نشهدها، فمنها -مثلاً- أعياد المشركين، فلا تحضر أبداً أعياد المشركين، ولا تحضر صلواتهم التي يشتمون فيها الله سبحانه وتعالى، ولا تجلس مع الغافلين اللاهين العابثين الصادين أو المصدودين عن ذكر الله تبارك وتعالى. وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) يفهم منه أن من يمر باللغو ويتعاطى منه شيئاً فقد أهان نفسه، لكن الكريم يمر دون أن يؤذي نفسه بسماع هذا اللغو والفساد، فلا ينبغي حضور مجالس الكذابين أو الخاطئين أو العصاة ولا قربها تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينك عما يشينه؛ لأن مشاهدة الباطل فيه شركة، فبحضورك مجالس الباطل تصير شريكاً، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، ويقول تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28]. فانظر في هذا الذي يدعوك إلى مجلسه، أو الذي يدعوك إلى النادي، أو إلى السينما، أو المسرح، أو إلى مشاهدة التلفاز أو غير ذلك هل هذا الشخص الذي يدعوك إلى هذه المجالس ينطبق عليه أنه قد أغفل الله قلبه عن ذكره؟ وتأمل في حال هذا الشخص: هل هو ممن ينطبق عليه قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] أم أن قلبه عامر بذكر الله سبحانه وتعالى ومتبع للشرع لا للهوى؟

قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله)

قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) ويقول تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] إذا نسيت الله أنساك نفسك، وإذا ذكرت الله ذكرك بالخير وفتح عليك هذه الأبواب. {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] وفي الآية الأخرى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] يعني: تركهم. ومعنى: {أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] أغفل قلوبهم عن ذكره تبارك وتعالى، وألهاهم عن ذكر الله، وشغلهم بغير ذكر الله، فهم لا يلتفتون إلى ما هم فيه من القبائح، ولا يسعون في إصلاح أحوالهم مع الله سبحانه وتعالى، فالواحد منهم لا يفكر في التوبة؛ لأنه عوقب بأن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فمم يتوب؟! وإذا كان الإنسان يرى حياته كما يقال: أعيش حياتي بالطول والعرض. ويتمتع بكل شيء يريده من الدنيا، ويرى أن هذه هي العصرية والمدنية، وهذا هو التقدم والحضارة فقد زينت له هذه الأشياء في عينه وهي ليست قبيحة، ويراها شيئاً من أعظم الإنجازات، ويفرح جداً إذا يسرت له المعصية. فأخطر عقوبة يسلطها الله سبحانه وتعالى على عبد من عباده أن ينسيه نفسه، فلا يسعى في إصلاحها ولا يشعر بالندم؛ لأنه يرى القبيح حسناً، كما قال عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104] وهذا مشاهد وواقع يحكيه القرآن ويصفه، فأهل الباطل والفساد في كل مجال الآن تجد أنهم فرحون بما هم عليه، سعداء به، حريصون على أن لا يحرفهم أحد عن هذا المنهج، وكل منهم يقول قولة فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]. وفرعون نفسه الذي كان يدعوهم إلى عبادته يقول: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فموسى في نظر فرعون هو المفسد، وفرعون يخاف من نشر الفساد في الأرض! وأي فساد بعد أن دعا قومه لعبادته من دون الله تبارك وتعالى؟! وأي فساد بعد أن يقول هذا الذي كان ينام ويأكل ويشرب ويقضي حاجته: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24]؟! بل يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] بصيغة تنكير! أنساه الله نفسه، ولو أراد الله به خيراً لنبهه من غفلته. ولذلك فالشخص الذي يتمادى في المعاصي والبعد عن الله سبحانه وتعالى لعله إذا أراد الله به خيراً يجعله يفيق بمصيبة تحصل له أو حادثة، أو أي شيء ينبهه فيفيق وينتبه، وإذا به يراجع نفسه ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى، فالعقوبات على الذنوب تتفاوت، فهناك العقوبات الكونية القدرية المعروفة مثل القذف والخسف والزلازل وغير ذلك من العقوبات العامة المعروفة. وهناك عقوبات شرعية كقطع يد السارق، ورجم الزاني أو جلده، وجلد شارب الخمر، وغير ذلك من حدود الله سبحانه وتعالى الشرعية. لكن أخطر عقوبة على الإطلاق يعاقب الله سبحانه وتعالى بها عبداً من عباده أن يسلط الغفلة على قلبه؛ لأن العقوبة الخطيرة هي التي لا يحس بها صاحبها حين يعاقب، فلا يصل إلى التنبيه ولا التحذير، فهذا هو داء السرطان، والسرطان إذا بدأ في بعض خلايا الجسم فإنه ينمو ويكبر بصورة مذهلة والمريض لا يشعر بألم، فهو يرى ورماً ولا يشعر بأي ألم، وما يكون فيه أية مشكلة، حتى إنه لا يسعى في العلاج؛ لأنه يرى شيئاً طبيعياً، لكنه قد يفيق بعدما يكون قد فات الأوان وانتشرت الخلايات السرطانية إلى سائر أجزاء الجسد، وبالتالي لا يبقى أمل في نجاته. فكذلك هذا الداء خطورته أنك لا تحس به، فالغفلة إذا سلطها الله سبحانه وتعالى على قلب عبد لا يسعى في إصلاح حاله، بل يتمادى ويتلذذ بمزيد من الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، فهؤلاء هم الذين نسوا الله فنسيهم، أي: أنساهم أنفسهم كما بينتها الآية الأخرى، فلا يسعون في إصلاح حالهم، ولا يفكرون في توبة، فمم وكيف يتوب؟! إنه يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً، والتدين تطرفاً ورجعية وتزمتاً وإرهاباً، فينظر إلى طاعة الله سبحانه وتعالى بهذه الصفات المنفرة، وينظر إلى المعاصي على أنه إنسان يعيش حياته ويتمتع بها، وينفتح على الناس ولا يكون معقداً، وغير ذلك من تلبيس الشيطان وتسويله لهؤلاء القوم.

قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)

قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] معنى ذلك: لا تحسبن أن من أعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى وهرب من مشقة التكاليف والانقياد لأمر الله عز وجل بحثاً وراء السعادة في الحياة الدنيا ووراء الفرحة والتمتع بالدنيا لا تحسب أن هذا سوف يصفو له عيشه، بل بالعكس، سينغص الله عيشه، فقد قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً محكماً لا يرد أن من آثر عليه غيره عذبه الله به ولا بد، وكل من أحب شيئاً ضد محبة الله سبحانه وتعالى، أو فضل شيئاً على محاب الله لا بد من أن يجعل الله نفس هذا الشيء سبباً في عذابه، فمثلاً: من أطاع زوجته في معصية الله كي يرضيها وكي لا يتكدر عيشه، فإذا طاوعها في معصية الله عز وجل فإنه يعاقب بأن الله سبحانه وتعالى يجعلها سبباً في عذابه ونكده. كذلك من آثر مصلحة أو محبة ولده على محبة الله عز وجل يجعل الله ابنه هذا سبباً في عذابه، من أحب أو عشق امرأة بحيث أفسدت عليه دينه ودنياه كما هو معلوم ومتواتر فتكون نفس هذه المحبوبة سبباً في شقائه وعذابه، وصده عن سبيل الله تبارك وتعالى، فكل من أحب شيئاً غير الله عذب به ولا بد. كذلك من سعى وراء الدنيا ليسعد بها تجد نفس الدنيا تكون سبباً في شقائه، فكم من رجل سعى إلى زواج ابنته مثلاً بالحسب والنسب والتفاخر بمظاهر الدنيا، فيزوج ابنته -مثلاً- برجل من عائلة كبيرة جداً، ثم يشاء الله سبحانه وتعالى أن تحصل الخلافات، ويذوق الويل والدمار والوبال على يد نفس هذه العائلة، وتكون قوة هذه العائلة ومراكزها وجاهها سبباً في زيادة النكال حينما يحصل بينهم خصومة. فالشاهد أن الإنسان إذا أعرض عن ذكر الله بنية أن يتمتع بالدنيا أكثر ويأمن أكثر فإنه لن ينال الأمن ولا الراحة، ولا السعادة، ولا ينال إلا المعيشة الضنك كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:124]. أي: القرآن {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:125 - 126]. وقال سبحانه وتعالى في المنافقين: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].

آداب ذكر الله تعالى

آداب ذكر الله تعالى هناك في الحقيقة كثير من الآداب التي ينبغي مراعاتها عند التلبس بذكر الله عز وجل.

طهارة مكان الذكر

طهارة مكان الذكر أول هذه الآداب: أن يكون المكان الذي يذكر الله سبحانه وتعالى فيه نظيفاً خالياً؛ لأن التنزه عن ملابسة النجاسة مطلقاً مندوب إليه في كل الأحوال، فتدخل حالة الذكر والدعاء تحت ذلك دخولاً أولياً، والإنسان إذا أراد ذكر الله فينبغي أن يكون في مكان خال طيب لا نجاسة فيه ولا قاذورات. وصحيح أنه لم يرد دليل يدل بخصوصه على هذا الحكم، لكن هذا الذكر -بلا شك- عبادة للرب سبحانه وتعالى، والنظافة على العموم ورد الشرع بالترغيب فيها، كما قال عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:4 - 5] فمن هنا مدح الذكر في المواضع الشريفة وفي المساجد، فعن أبي ميسرة رضي الله عنه قال: (لا يذكر الله تعالى إلا في مكان طيب) أي: لا يذكر الله تعالى باللسان إلا في مكان طيب. ولذلك فإن من الآداب أن الإنسان في الخلاء لا يذكر الله بلسانه، وإنما يذكر الله بقلبه، ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك). وبعض العلماء قالوا: يستغفر لتوقف لسانه عن الذكر في هذا الوقت؛ لأن هذا المكان لا يليق أن يذكر فيه الله سبحانه وتعالى. كذلك يكون المكان الذي يذكر الله فيه خالياً عن كل ما يشغل البال ويحصل من وجوده الوساوس والأشغال، فذلك أقرب إلى حضور القلب، وأبعد عن الرياء والمباهاة، وأكثر عوناً على تدبر ما يذكر الله سبحانه وتعالى به، فهذه الحالة -بلا شك- هي أكمل مما يخالفها.

كمال طهارة الذاكر

كمال طهارة الذاكر ثانياً: ينبغي أن يكون الذاكر على أكمل الصفات، فيكون فمه نظيفاً، فإن كان في فمه تغير أزاله بالسواك؛ لأن الذكر عبادة لسانية، فتنظيف الفم عند ذلك أدب حسن، ومن هنا جاءت السنة المتواترة بمشروعية السواك للصلاة؛ لأجل تنظيف المحل الذي يكون الذكر به في الصلاة، وهو الفم. وعن أبي الجهيم رضي الله عنه قال: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الجدار فمسحه بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام) لأنه ما كان يستطيع أن يتوضأ في ذلك الوقت، فأراد أن يخفف الحدث بالتيمم، فاتجه إلى الجدار وتيمم، ثم رد عليه السلام حتى يكون على ما يستيطعه من طهارة ليذكر الله في السلام، ولأن السلام اسم من أسماء الله، ولفظ (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته) فيه ذكر لفظ الجلالة، فاستحب لذلك أن يكون على طهارة بقدر المستطاع، فإذا كان هذا في مجرد رد السلام فلم يرد عليه حتى تيمم عليه الصلاة والسلام فكيف بذكر الله سبحانه وتعالى الذي هو أولى بذلك؟! وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل: (كرهت أن أذكر الله إلا على طهر).

استقبال القبلة

استقبال القبلة الأدب الثالث: أن يستقبل القبلة، فإنها الجهة التي يتوجه إليها العابدون لله سبحانه وتعالى والداعون له والمتقربون إليه، وقد ورد النهي عن أن يبصق الرجل إلى جهة قبلته، معللاً بمثل هذه العلة، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: لو ذكر الله على غير هذه الأحوال لجاز. لأنه لو ذكرت الله وأنت غير متوضئ أو في مكان فيه شيء يشغلك فهذا ذكر جائز بلا شك، لكن ليس هو الأكمل، قال: ولا كراهة في حقه، لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل. والدليل على عدم الكراهة قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191] يعني: في كل أحوالهم. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن). وفي رواية: (ورأسه في حجري وأنا حائض). وعنها رضي الله عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه).

من آداب الذكر التدبر والتعقل

من آداب الذكر التدبر والتعقل من الآداب -أيضاً- أن يتدبر ما يقول ويتعقل معناه، وإن جهل شيئاً تبين؛ لأن المقصود بالذكر هو حضور القلب، ولا سبيل إلى حضور القلب إلا إذا كنت تفقه هذا الذكر الذي تقوله وتتدبره، يقول علي رضي الله عنه: (لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا قراءة لا تدبر فيها). يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: لا ريب أن تدبر الذاكر لمعاني ما يذكر به أكمل؛ لأنه بذلك يكون في حكم المخاطب والمناجي، وإن كان أجر هذا أتم وأوفى فإنه لا ينافي ثبوت ما ورد الوعد به من ثواب الأذكار لمن جاء بها، فإنه أعم من أن يأتي بها متدبراً لمعانيها. حتى لو كان لا يستطيع أن يتدبر معانيها فإنه ينال الثواب أيضاً، وأيضاً الشخص الذي لا يتدبر ولا يكون حاضر القلب تماماً فهو -أيضاً- لن يحرم من الثواب؛ فإنه لم يرد دليل يشترط أو يقيد هذا الثواب بحصول التدبر والتفهم، يقول الشيخ صديق حسن خان في (نزل الأبرار) معلقاً على كلام الشوكاني: وهذا تقرير حسن، فيه توسيع دائرة الرحمة التي وسعت كل شيء.

تنبيهات ونصائح تتعلق بذكر الله تعالى

تنبيهات ونصائح تتعلق بذكر الله تعالى نذكر بعض التنبيهات والفوائد التي تتعلق بذكر الله عز وجل:

الإخلاص لله تعالى

الإخلاص لله تعالى أولها: الإخلاص في ذكر الله عز وجل، يقول تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. وقال عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] أي: النيات والإخلاص، فهذا الذي يصل إلى الله سبحانه وتعالى. وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) يقول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. فقوله: (ترك العمل لأجل الناس رياء)؛ لأن بعض الناس يفتح عليه بالذكر أو قراءة القرآن فيقول: لا؛ أخشى إن فعلت ذلك أن أكون مرائياً. فـ الفضيل هنا يقول: إنك إذا تركت العمل خوفاً من الرياء فهذا هو عين الرياء؛ لأنك راعيت رؤية الناس لك، ونظرهم إليك، فضيعت هذه الوظيفة العظيمة أو الشريفة. (والعمل لأجل الناس شرك)، كذلك إذا فعلت العمل الصالح حتى يراك الناس فهذا هو الشرك الأصغر، أما الإخلاص فهو أن يعافيك الله منهما، فلا تضيع العمل خوفاً من الناس أن يظنوا بك الرياء أو أن ترائي الناس، ولا تعمل العمل مراءاة للناس، لكن الإخلاص أن يعافيك الله منهما. فافترض أنك الوحيد في هذا الوجود المكلف باتباع الحق وبذكر الله، ولا تبال بالناس، ولا تلق لهم بالاً، فإن الإنسان لو فتح على نفسه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم لانسد عليه أكثر أبواب الخير؛ لأنه لا يمكن إرضاء جميع الناس أبداً، فإنك إذا أرضيت فئة تسخط فئة أخرى، وإذا أسخطت هذه الفئة رضيت تلك، وإرضاء الناس غير مطلوب، فهذا شيء أنت غير مكلف به، فلم يأمرك الله أن ترضي الناس. ثانياً: لم يحصل أبداً أن العبد يرضي الناس ويجتمع عليه الناس، فالأنبياء ما اجتمع البشر عليهم، فأنت اجعل همك هماً واحداً، وهو إرضاء الله سبحانه وتعالى، ولا تبال بالناس، فإنه سيرضى الله سبحانه وتعالى عنك بعد ذلك. فالإنسان لا يفتح على نفسه باب ملاحظة الناس، ولو فتح الإنسان على نفسه باب ملاحظة الناس والاحتراز من ظنونهم لانسدت عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليست هذه طريقة الصالحين، فإذا أراد الإنسان أن يذكر الله تبارك وتعالى باللسان مع القلب فليس له أن يمتنع من ذلك خوف الرياء، بل يذكر الله بهما جميعاً، ويقصد بذلك وجه الله سبحانه وتعالى وحده.

الجهر والإسرار بالذكر حسب الأحوال

الجهر والإسرار بالذكر حسب الأحوال التنبيه الثاني: أنه قد وردت أحاديث تقتضي الجهر بالذكر وأحاديث تقتضي الإسرار به، والجمع بينهما أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، إلا إذا أتى دليل ينص على الجهر أو على الإسرار، أما حيث لا دليل يطلب فإن الجهر أو الإسرار حسب الحال. فقد يكون الإسرار في بعض الأوضاع أبعد عن التكلف والرياء والتصنع، فإذا كان الإنسان يخشى على نفسه فيذكر الله سراً، فإن لم يكن في الجهر ما يشوش على شخص آخر كمصل -مثلاً- فالجهر أفضل؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته أيضاً تتعلق بغيره، فلو أن إنساناً يقرأ القرآن وبقراءته هذه أوقظ شخصاً نائماً -مثلاً- ليزيد نشاطه في القراءة ويقوم فيفعل مثلك، ويكون القارئ سبب إحيائه لذكر الله عز وجل، أو شخص يراك بطالاً أو غافلاً أو ناسياً فيذكر الله سبحانه وتعالى ليذكرك، فإذا كان بهذه النوايا الحسنة فلا حرج في الجهر، وإذا حضرك شيء من هذه النيات فالجهر أفضل، فإذا اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر، وبكثرة النيات تزكو أعمال الأبرار وتتضاعف أجورهم. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه. يعني بذلك الأذكار حتى تنال ثوابها؛ لأن معناها يدل على أن التلفظ باللسان مطلوب، وليس معنى ذلك أن يقولها بقلبه فقط أو يمرها على خاطره، فإن قوله: (من قال سبحان الله وبحمده فله كذا) يعني: يقولها باللسان. وإلا فإنه لا ينال الثواب الموعود في الحديث، ويقول الجزري في (العدة): ولا يعتد له بشيء مما رتبه الشارع على قوله حتى يتلفظ به ويسمع نفسه. فقوله: (من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة) فلفظ (قرأ) يعني: باللسان، لكن لو أن إنساناً قرأها بقلبه فهذا يعتبر محروم الأجر، والشخص الذي امتثل الحديث بأن تلفظ ونطق بالقرآن الكريم وقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات فله الثواب الموعود في الحديث. أما من ذكر الله في نفسه فثوابه أنه يذكره الله في نفسه: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)، لكن هل ينال نفس الثواب الموجود في الحديث؟ لا. فهذا باب وموضع آخر، فلا تعارض بين الحديثين.

الحرص على قراءة الأذكار مجودة

الحرص على قراءة الأذكار مجودة أيضاً من الآداب الشرعية أن يجتهد الإنسان في قراءة الأذكار مجودة، أن يجتهد في التجويد، فبعض الناس إذا سمع بعض الشيوخ يقرأ حديثاً في صحيح البخاري أو مسلم مجوداً يستنكره ويقول: فلان يقرأ الأحاديث تماماً كما يقرأ القرآن! فهذا قصور في الفهم، فإن التجويد أصلاً من الصفات الأساسية للحروف في اللغة العربية، فالعرب ما نطقت حرفاً إلا مجوداً، حتى في الشعر، وكلامهم العادي كان كله مجوداً، وليس ذلك من الأمور التحسينية أو التكميلية، بل هو من الصفات الذاتية للحروف العربية. فقولهم: وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا نجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل وأمثاله كانوا يقولونه مجوداً. وهكذا كانت هذه اللغة العربية، والأصل في اللغة العربية أن تنطق مجودة؛ لأن العرب ما نطقت كلاماً إلا مجوداً، فبالأولى إذا نطقت الأحاديث أن تقرأها أيضاً مجودة، وإذا ذكرت الله سبحانه وتعالى فأكمل الأحوال أن تكون في ذكرك مراعياً قواعد التجويد في ذكر الله سبحانه وتعالى، يقول الشيخ عطية الأجهوري في حاشيته على شرح الزرقاني للمنظومة البيقونية: فائدة: قال الإمام محمد بن محمد البديري الدمياطي في آخر شرحه لهذه المنظومة المباركة ما نصه: وأما قراءة الحديث مجودة كتجويد القرآن من أحكام النون الساكنة والتنوين والمد والقصر وغير ذلك فهي مندوبة كما صرح به بعضهم، لكن سألت شيخي خاتمة المحققين الشيخ علي الشبراملسي تغمده الله تعالى بالرحمة حالة قراءتي عليه صحيح الإمام البخاري عن ذلك فأجابني بالوجوب -شيخه أفتاه بوجوب التجويد- وذكر لي أنه رأى ذلك منقولاً في كتاب يقال له: (الأقوال الشارحة في تفسير الفاتحة)، وعلل الشيخ حينئذ ذلك بأن التجويد من محاسن الكلام، ومن لغة العرب، ومن فصاحة المتكلم، وهذه المعاني مجموعة فيه صلى الله عليه وسلم، فمن تكلم بحديثه صلى الله عليه وسلم فعليه مراعاة ما نطق به صلى الله عليه وسلم. وقال العلامة القاسمي رحمه الله تعالى في قواعد التهذيب: ولا يخفى أن التجويد من مقتضيات اللغة العربية؛ لأنه من صفاتها الذاتية، ولأن العرب لم تنطق بكلمة إلا مجودة، فمن نطق بها غير مجودة فكأنه لم ينطق بها، فليس هو في الحقيقة من محاسن الكلام، بل من الذاتيات له، فهو إذاً من طبيعة اللغة، لذلك من تركه وقع في اللحن الجلي؛ لأن العرب لا تعرف الكلام إلا مجوداً. ونحن لا نطالب الإخوة في كلامهم العادي أن يراعوا التجويد حتى في الحوار العادي، لكن على الأقل يجودون الأحاديث والأذكار، فضلاً عن قراءة القرآن الكريم، أو على الأقل لا ينكر على من يفعل هذا ويصور كأنه يأتي ببدع من الأمر.

مراعاة العدد في الذكر المقيد بالعدد

مراعاة العدد في الذكر المقيد بالعدد هناك بعض الأذكار تأتي مقيدة بعدد، فهذا يقتضي أن الأجر المذكور لفاعلها يحصل بفعلها، فإن نقص من ذلك العدد نقص ذلك من أجره بقدر ما ينقص من العدد؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع عمل عامل، وإن زاد على العدد حصل له الأجر بالعدد، واستحق ثواب ما زاد. وقيل: إنه لا يستحق الأجر المرتب على العدد إلا إذا اقتصر عليه من غير زيادة ولا نقصان، وليس ذلك بصواب إلا فيما ورد النهي عن الزيادة عليه، كزيادة عدد غسلات الوضوء ونحو ذلك.

جواز قضاء الأذكار إذا فاتت

جواز قضاء الأذكار إذا فاتت ينبغي لمن كان له وظيفة من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقيب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتداركها إذا أتت له عوائق، فمثلاً: لم تقل أذكار الصباح ما بين صلاة الفجر والشروق، فهل معنى ذلك أن تضيع الأذكار ولا تقضيها؟ لا. بل تقضيها حتى ولو بعد ذهاب وقتها، فيأتي بها إذا تمكن منها، ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة لها لم يعرضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سهل عليه تضييعها في وقتها. فهذا نوع من تربية النفس حتى لا تتساهل، فإن الشيطان يأتي يقول لك: ليست مهمة، فأخرجها عن وقتها، واقضها، فإذا تساهل في الأداء فإنه يتساهل في القضاء فيضيعها أصلاً في وقتها، وتصير عادة سيئة له، فينبغي على الإنسان إذا فاتته الأذكار أن يأتي بها حتى ولو بعد وقتها، لأجل أن يصدق عليه أنه مديم للذكر مواظب عليه، وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يقضون ما فاتهم من الأذكار التي يفعلونها في أوقات مخصوصة، فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه) وهو ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة، وأصله في اللغة النوبة في ورود الماء، قال: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل) فهو يعتاد كل ليلة أن يقرأ جزءاً أو جزئين أو يصلي عدد ركعات معينة، ففي يوم أو ليلة من الليالي فاته ذلك حيث نام ولم يستيقظ، فيفتح له باب بديل عنه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فمن يفوته العمل في الليل يخلفه النهار حتى يعوض فيه ما فاته، فهنا يقول عليه الصلاة والسلام: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل). وفي تفسير عبد بن حميد وغيره من التفاسير المسندة عن الحسن في قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] قال: من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب -فرصة أخرى يعوض ما فاته-، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب. وعن قتادة قال: إن المؤمن قد ينسى بالليل ويذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فوائد في صلاة الجماعة

فوائد في صلاة الجماعة من نعم الله تعالى علينا أهل الإسلام أن شرع لنا الصلاة في جماعة، وهي مليئة بالحكم والفوائد الدينية والدنيوية، ففيها يتعارف المسلمون ويتراحمون، وفيها يجتمعون ويتعلمون، فأمرها عند الله تعالى عظيم، ويكفي في بيان عظم أمرها أن الله تعالى توعد من تخلفها بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، فكيف بمن أعرض عنها كلية، ولم يرفع بها رأساً.

وعيد الشرع وتهديده للمتهاونين بصلاة الجماعة

وعيد الشرع وتهديده للمتهاونين بصلاة الجماعة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى)، هذا الحديث رواه أبو داود في سننه، وهو -بلا شك- ينذر بالعاقبة الوخيمة لمن يتعمد التخلف عن صلاة الجماعة بعد أن يسمع النداء. يقول عليه الصلاة والسلام: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر) فقاطعه الصحابة قبل أن يكمل الحديث وقالوا: (وما العذر؟) قال: (خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى). وعنه رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)، والنداء: الأذان لصلاة الجماعة. وهذا رواه الحاكم وصححه. وعن أبي الدرداء رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا في بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة)، وهذا -أيضاً- رواه الحاكم في المستدرك، والجماعة في هذا الحديث هي صلاة الجماعة، كما هو أحد معاني الجماعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة، فقال: (هذا في النار) رواه الترمذي في سننه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) رواه مسلم في صحيحه. قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى: وأجمعوا على أن صلاة الجماعة مشروعة، وأنه يجب إظهارها في الناس، فإن امتنع من ذلك أهل بلد قوتلوا عليها. فصلاة الجماعة من شعائر الإسلام الظاهرة التي ينبغي أن تكون ملمحاً بيناً من ملامح المجتمع المسلم، وإذا أذن للصلاة فعلى الناس أن يخرجوا من بيوتهم زرافات ووحداناً، فالمحلات تغلق، والذي يمشي بالسيارة يتوقف، ويهرع الجميع إلى المسجد كما نلحظ ذلك في المجتمعات التي ما زالت متمسكة بهذه الشعيرة الإسلامية، فمن خصائص المجتمع الإسلامي تعظيم صلاة الجماعة، وجعلها من شعائر وخصائص وملامح وسمات هذا المجتمع. يقول ابن هبيرة: (وأجمعوا -أي: الفقهاء- على أن صلاة الجماعة مشروعة، وأنه يجب إظهارها في الناس) يعني: لابد من أن تظهر في المجتمع، قال: (فإن امتنع من ذلك أهل بلد) أو تواطأ أهل بلد على الامتناع من صلاة الجماعة، وأصروا على الصلاة في بيوتهم وعدم المناداة بصلاة الجماعة والجهر بها في الناس (قوتلوا عليها)، فالإمام أو الحاكم عليه أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى إظهار صلاة الجماعة. وينبغي أن يعلم أن العبارات في هذا السياق إنما يخاطب بها الإمام الممكن، ولا تخاطب آحاد الناس. وللصلاة عموماً منزلة عظيمة جداً في الإسلام، ولصلاة الجماعة خصوصاً مرتبة عالية وفوائد جمة، ولذلك شدد الإسلام في النكير على من يفرط فيها، وهدد الذين يتهاونون بها ويتساهلون فيها، وأنذرهم بالعواقب الوخيمة، واعتبر صلاتهم في البيوت كـ (لا صلاة) كقوله عليه الصلاة والسلام: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى). فبإذن الله تبارك وتعالى في هذا الموضوع الحيوي المهم نتناصح فيه من باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الدين النصيحة!) بل من باب قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، وسوف نناقش -إن شاء الله- ونستعرض بالتفصيل أحكام صلاة الجماعة ومتعلقاتها.

الحكمة من مشروعية الصلاة في جماعة

الحكمة من مشروعية الصلاة في جماعة من الملامح البارزة جداً للتشريع الإسلامي أن كثيراً من العبادات تشرع في مكان اجتماع المسلمين، وتظهر وكأنها مؤتمرات وتجمعات إسلامية، وذلك لإظهار شعائر الله سبحانه وتعالى وتعظيمها، فيتلاقى المسلمون ويتعارفون ويتشاورون في أمورهم، ويتعاونون في حل مشكلاتهم، ويتداولون الرأي فيما بينهم، فلا شك أن هذه التجمعات فيها من المنافع العظيمة والفوائد الجمة ما يفوق الحصر، أعني بركات التجمعات، سواء في صلاة الجماعة في المساجد، أو الأعياد، أو الحج، وغير ذلك من العبادات التي تؤدى في جماعة، فإن في ذلك منافع عظيمة جداً، سواء التجمعات التي هي في الأفراح أو التجمعات التي هي في مواساة المسلمين في آلامهم.

تعليم الجاهل وإظهار عز الإسلام

تعليم الجاهل وإظهار عز الإسلام إن الجاهل يتعلم ببركة الجماعات، كما يعلم ذلك قطعاً في دروس العلم، فهذه من المواضع التي يستحب لها الاجتماع، ومن بركاتها بل -أعظم بركاتها- تعليم الجاهل، وإظهار السنن، ومساعدة العاجز، وتليين القلوب، وإظهار عِزِّ الإسلام، حتى إذا كثر في المجتمع المنافقون والملاحدة والزنادقة واليهود والنصارى إذا وجد هؤلاء فلا شك في أن وجود المسلمين بهذا الشكل خاصة مع إظهار التكبير كما في صلاة العيد أو غير ذلك لا شك أن في هذا إظهاراً لعز الإسلام مهما حاول أعداء الدين طمس هذه المعالم وإخفات صوت الإسلام في هذا المجتمع. وقد جاء الخطاب الإلهي مقراً هذا الوضع، فلم يتجه للفرد وحده في الأمر والنهي، لكن نلاحظ أن الأوامر تأتي للجماعة، لذلك نلاحظ قوله مثلاً: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، والكلام إذا احتمل التأكيد والتوكيد يترجح حمله على التأكيد، فقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، ويحتمل أن يكون (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) يساوي قوله: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)، فيكون هذا التكرار للتأكيد. ولكن يحتمل -أيضاً- احتمال آخر، وهو أن (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مختلف تماماً عن قوله: (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، فهذا إقامة للصلاة في حد ذاتها، أما (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فهو إيجاد صلاتها في جماعة، كما قال تعالى في حق مريم عليها السلام: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43].

إقامة الجماعة لما لا يقيمه الفرد

إقامة الجماعة لما لا يقيمه الفرد إن هذه العبادات التي تؤدى في جماعة أشار القرآن إلى وجود تجمع المسلمين من أجل أدائها؛ لأن الجماعة تقيم ما لا يقيمه الفرد، فمثلاً: يقول تبارك وتعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112]، فهذه أمور تتم في جماعة. كذلك أيضاً يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} [الحج:77] أمر بصيغة الجمع، {وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:77 - 78]، فإذا وقف المسلم بين يدي الله ليناجيه ويتضرع إليه لم تجر العبادة على لسانه كفرد منفصل عن إخوانه، بل كطرف من مجموع متفق مرتبط، فجميع المسلمين كل واحد منهم كأنه يتحدث بلسان كل من معه من إخوانه المصلين فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ولا يقول: إياك أعبد. وإنما تكون في جماعة. ثم يسأل الله سبحانه وتعالى من خيره وهداه، فلا يختص نفسه بالدعاء، وإنما يعم جميع إخوانه، ويطلب رحمة الله له ولغيره {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].

إزالة الفوارق الاجتماعية

إزالة الفوارق الاجتماعية صلاة الجماعة -أيضاً- من أهم وأعظم حكمها: اشتمالها على الوسائل التي تحطم الفوارق الاجتماعية، يقول فيلسوف فرنسي يدعى رينان: إنني كلما رأيت المسلمين وهم يصطفون صفوفاً في صلاة الجماعة تحسرت على أنني لست بمسلم. أو كلاماً هذا معناه، ونقول له: وما كان يمنعك وباب الإسلام مفتوح؟! وكثير من الكفار إنما يسلمون بسبب منظر المسلمين في صلاة الجماعة، ولذلك تلاحظ الإعلام الغربي إذا أراد أن يسخر من المسلمين أو أن يشنع عليهم تجد المصور يتحرى تجنب الصورة الحقيقية للصلاة، فهم يتعمدون تشويه صورة الصلاة عند المسلمين، كأن يظهروهم بصورة من يؤدي حركات لا معنى لها وبصورة منفرة جزئية في نظرهم. بينما أي إنسان عاقل إذا رأى هيئة صلاة المسلمين يعلم أن الله لا ينبغي أن يعبد إلا بهذه الطريقة؛ إذ كلها تعظيم وخشوع ومناجاة لله سبحانه وتعالى، بل أعظم أسباب إسلام العدد الغفير من الكفار أنهم رأوا المسلمين وهم يصلون في صلاة الجماعة، وقد نغفل نحن عن التأمل في هذه الحكم، أما هؤلاء فيتأملونها بدقة. ولقد كان يصلي معنا في شهر رمضان مضى شاب يوناني لا يعرف كلمة واحدة من اللغة العربية، وكان يصبر مع الإخوة إلى الساعات الأخيرة من القيام، ولما سألوه عن سبب إسلامه قال: رأيت المسلمين يصلون فأحسست أن هذه هي الطريقة التي لا يعبد الله إلا بها. فبدأ يصلي، وما دعاه أحد، فلما بدأ يركع ويسجد ويفعل مثلما يفعل المسلمون شعر بالراحة وشعر بسمو روحه وبمعانٍ عظيمة جداً، فأداه ذلك إلى الإسلام، وهو لا يتقن من اللغة العربية أي شيء على الإطلاق! كما أنه دعى غيره للإسلام، وكان مما فعل أنه زار بعض أقاربه اليونانيين في الإسكندرية، فذهب إلى هناك ليدعو إحدى قريباته من النساء إلى الإسلام، فقلت له: ماذا قلت لها؟ قال: أنا ما قلت لها أي شيء، إنما فعلت ما حدث معي، قلت لها: لا تجادلي كثيراً، لكن جربي وصلي مثلما يصلي المسلمون، وانظري كيف ستشعرين؟ والعجب أيضاً أن شقيقته أسلمت بنفس الطريقة لما دعاها إلى الإسلام، فهذا مذهبه في الدعوة إلى الإسلام أن يقول: ادخل في الصلاة مثلنا، وانظر كيف ستشعر؟! والقصص في ذلك كثيرة جداً. ففي صلاة الجماعة والهيئة التي يصطف بها المسلمون تحطيم للفوارق الاجتماعية بين الناس التي لا يجعل لها الإسلام ميزاناً إلا {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فتجد الوزير بجانب الملك وبجانب الخادم وبجانب العامل، كلهم الغني مع الفقير، والشاب مع الشيخ يصطفون في صفوف واحدة متساوين أمام الله سبحانه وتعالى. أيضاً لا فرق بين لون ولون، ولا بين جنس وجنس، ولا بين عنصر وعنصر، ولا بين مكان ومكان. فركعتا الفجر أو ركعات الظهر لا تنقص أو تزيد شيئاً عندما يؤثر المرء أداءها في جماعة على أدائها في عزلة، فهي أربع في المسجد وبنفس الهيئة وبنفس تفاصيل الصلاة التي في البيت، ولكن مع ذلك ضاعف الإسلام أجرها بضعاً وعشرين مرة أو يزيد عندما يقف الإنسان مع غيره بين يدي الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن هذا فيه إغراءً شديداً للانضواء داخل هذه الصفوف، ونبذ العزلة والانسلاخ من المجتمع المسلم، ودعوة إلى اختلاط المسلم بإخوانه والامتزاج بهم.

معرفة أحوال الناس وقدرهم

معرفة أحوال الناس وقدرهم إن الإنسان إذا ألف أن يرى إخوانه دائماً في المسجد فإذا ما تخلف أحدهم اكتشف تخلفه، فربما مرض أو أصابته أي مصيبة وما شعر به أحد، فما هو المقياس الذي يعرفون حاله به؟ إنه صلاة الجماعة، فإذا تخلف فهناك شيء ما، فيبدءون يسألون عنه ويتتبعون أحواله، وإذا أراد الشيطان أن يغتاله وينفرد به ويقصيه عن إخوانه يحس إخوانه بذلك من البداية فيتداركون ذلك بزيارته ونصيحته وغير ذلك. وفي هذا التجمع يعرف الكبير في المجتمع الإسلامي فيقدر، والفقير فيعطى، والعالم فيسأل، والجاهل فيتعلم. وفي صلاة الجماعة يعرف من كان في صلاته أي نوع من التقصير أو الخلل، فيجد من ينصحه من إخوانه ويعلمه كيفية الصلاة الصحيحة، كذلك المتكاسل ينبه إلى نبذ هذا التكاسل. كما أن أحد مواضع إجابة الدعاء هي مواضع تجمع المسلمين، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإخراج العواتق وذوات الخدور في صلاة العيد، وقال عن الحُيِّض: (يعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين)؛ لأن هذه المواضع التي يجتمع فيها المسلمون من مواطن إجابة الدعاء. وكذلك تنزل البركة حيث يجتمع الموحدون والمصلون خاصة في مجال الذكر، وحلق العلم، وهذه العبادات المباركة تنزل فيها البركات والرحمات من عند الله سبحانه وتعالى، فتنشأ بهذه التجمعات الوحدة والمحبة والإخاء بين المسلمين، وتجعل منهم كتلة متراصة تنشِّئ فيهم المواساة والتراحم وائتلاف القلوب، وتربيهم على النظام والانضباط، والمحافظة على الأوقات.

تاريخ مشروعية صلاة الجماعة

تاريخ مشروعية صلاة الجماعة إن الصلوات المكتوبة في جماعة شرعت في مكة بعد فرضية الصلاة، ولكنها لم تكن مؤكدة، فالاجتماع للصلاة المكتوبة كان في أول الأمر غير واجب، ثم بعد أن فرض الله جل ذكره الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج أرسل جبريل عليه السلام صبيحة تلك الليلة، ففرض الصلاة ثم في صبيحة تلك الليلة أرسل الله عز وجل جبريل ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أوقاتها وكيفية أدائها؛ حيث أَمَّ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين، مرة صلى فيها الظهر حين زالت الشمس، وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: (لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به فيها لم يرعه إلا جبريل يتدلى حين زاغت الشمس) ولذلك سميت صلاة الظهر الصلاة الأولى (فأمر فصيح في الناس بـ: (الصلاة جامعة))، ولم يكن شرع الأذان بعد. صيح في الناس: (الصلاة جامعة) أي: هيا اجتمعوا. فاجتمعوا، فصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وطول الركعتين الأوليين ثم قصر الباقيتين، ثم سلم جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم النبي صلى الله عليه وسلم على الناس. أي أن جبريل لما قال: (السلام عليكم)، كان يقصد بذلك السلام على الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (السلام عليكم) كان يسلم على الناس. ثم في العصر ففعلوا كما فعلوا في الظهر. ثم نزل أول الليل فصيح: (الصلاة جامعة) فصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، فقرأ في الأوليين وطول وجهر -أي: في العشاء- وقصر الباقيتين -يعني: صلاهما بالفاتحة فقط- ثم سلم جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم على الناس. قال السهيلي في (الروض الأنف): أهل الصحيح متفقون على أن هذه القصة -يعني قصة إمامة جبريل- كانت في الغد من ليلة الإسراء، وذلك بعد ما نبئ بخمسة أعوام، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الجماعة مع بعض أصحابه في مكة في بعض الأحيان، والغالب أنه لم يكن يصلي بهم جماعة، وصلى بـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دار الأرقم، ومع أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وذلك بعد إمامة جبريل له عليه الصلاة والسلام. ومع وقوع صلاة الجماعة بهذه الصورة لم تكن مشروعيتها متأكدة، إنما أوجبت بالمدينة وصارت فيها شعيرة بارزة من شعائر الإسلام، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها -أي: يترقبون مواقيت الصلاة ويصلون، ولم يكن هناك نداء للصلاة- فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود. فقال عمر: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فناد بالصلاة). وروى أبو داود في سننه بسنده عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كيف يجمع الناس لها؟)، أي: ما هي الطريقة التي يجمع بها الناس كي يحضروا صلاة الجماعة؟ (فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً. فلم يعجبه ذلك) لأن هذا سيبنى على حاسة البصر فقط، الذي يرى الراية سيعرف وقت الصلاة، فلابد من أن يكون الإنسان متوجهاً إلى المسجد حتى يرى الراية، أما الاعتماد على السمع فالإنسان حتى لو لم يكن ناظراً للمسجد فإنه سيسمع، والسمع مجاله أرحب وأوسع من البصر، فالمهم أنه لم يعجبه ذلك عليه الصلاة والسلام (فذكر له القمع) أي: بوق اليهود. فاليهود- ينادون لصلاتهم في بوق، (-وقال زياد: شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، وقال: من أمر اليهود) حتى لا يتشبه باليهود (قال: فذكر له الناقوس - أي: الجرس - قال: هو من أمر النصارى. فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: يا رسول الله! إني لبين نائم ويقظان -كنت في حالة بين النائم واليقظان- إذ أتاني آت فأراني الأذان. قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال! قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله) يعني: سيلقنك ألفاظ الأذان التي أريها في منامه، فافعل مثلما يقول لك. قال أبو بشر: (فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً له)، وهذا الحديث قال الحافظ عن إسناده: صحيح الإسناد. وبهذا يتبين أن الصلاة لم يكن ينادى لها منذ فرضت في مكة حتى بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان المسلمون في تلك الفترة يتحينون أوقات الصلاة فيجتمعون ويصلون بدون أن يجمعهم جامع. ثم إن النداء للصلاة بألفاظ الأذان المشروعة إنما استقر الأمر عليه بعد الرؤيا التي رآها عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه، وشرع الأذان للصلوات الخمس بصوت إنسان داعية للصلاة لا راية ولا نار ولا ناقوس ولا بوق، وإنما هو منطق بشر يجلجل في الآفاق فيميز المسلمين بمظهر مستقل؛ لأن النداء للصلوات في الأديان الأخرى هو كما عند النصارى بالجرس الآلة جامدة، وعند اليهود بالبوق، وعند غيرهم بالراية، لكن الإسلام جعل نداء الصلاة صوتاً يصدر من بشر يجهر بتكبير الله سبحانه وتعالى وتوحيده حتى يتميز المسلمون في هديهم عن سائر الأديان في كل شأنهم. فعلى المسلم حين يسمع النداء للصلاة أن يلبيه مهما كان الوقت من ليل أو نهار، وعليه أن يجيب داعي الله مهما عرضت له الأعذار.

تعظيم شعائر الدين وتقديمها على ما عداها من أمور الدنيا

تعظيم شعائر الدين وتقديمها على ما عداها من أمور الدنيا في هذا الكلام أقوى وأوضح رد على هؤلاء الضالين الذين يعطلون شعائر الله سبحانه وتعالى، بل يمتحنون الناس ويبتلونهم في دينهم بسبب محافظتهم على شعائر صلاة الجماعة، فنجد أن بعض الكليات -والعياذ بالله- وجدت في الأسبوع كله وقتاً تعقد فيه امتحانات البكالوريوس إلا ساعة صلاة الجمعة، قلوب منكوتة، وفطر منسوخة، ضاق عليهم الوقت ولم يبق إلا وقت صلاة الجمعة، كما يحصل في كلية التجارة أو غيرها في مصر، ويقول الجاهل منهم: إن العمل عبادة فهل العمل عبادة والصلاة ليست عبادة؟! ففي غير مواعيد الصلاة عندك ساعات كثيرة في اليوم يمكن أن تنظم فيها أمورك، فلماذا تزاحم حقوق الله سبحانه وتعالى؟ والله تبارك وتعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:36 - 38]. فالشاهد أن العمل عبادة باعتبار معين، أما الاعتبار المطلق فالعبادة هي الصلاة والصيام وذكر الله، وهكذا. انظر كيف أثنى الله عليهم، إن الذي يسميه أولئك عبادة لم يلههم عن تعمير مساجد الله، بل قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:18]، فجعل تعمير المساجد علامة الإيمان بالله واليوم الآخر، وغير ذلك من شعائر الإسلام. وانظر أيضاً إلى قوله تبارك وتعالى في سورة الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فنحن أغنياء عن هذه العبادة، وما يصح البيع ساعة صلاة الجمعة، ويأثم الإنسان إذا اكتسب مالاً من بيع أو شراء ساعة صلاة الجمعة (وَذَرُوا الْبَيْعَ)، فهذا هو حكم الله سبحانه وتعالى، فأولئك يسمونها عبادة والله يقول: اتركوا هذه العبادة وانبذوها وهلموا إلى العبادة الحقيقية. ثم قال تبارك وتعالى بعد ذلك {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]، فهذا جواب مجمل على هؤلاء الضالين. فهم يقولون: العمل عبادة. وهذه الكلمة كأنها آية منزلة في القرآن يتواصون بها ويلقونها في آذان بعضهم، ويرددونها بلا فهم وبلا وعي، فالعمل عندهم عبادة، وكأن الصلاة ليست عبادة! وأصبح العمل عبادة والصلاة ليست عبادة، فلماذا لا تنظمون الأمور بحكمة حتى لا تتعارض مع دين هذه الأمة، فهذه الأمة أغلبها -ولله الحمد- مسلمون، فلماذا لا نحترم دين هذه الأمة؟ لماذا لا نحترم عباداتها؟ لماذا لا توضع جداول للجامعات والمصانع والشركات والمستشفيات وكل شيء؟ لماذا لا ترتب طبقاً لمواعيد الصلاة حتى لا يفتن الناس في دينهم؟ فلا يصل الأمر إلى إهمال هذا الأمر عند التخطيط لهذه الأشياء، بل يصل إلى حد معاقبة من يتخلف عن الطوابير أحياناً أو عن شيء من هذه الأنشطة التي يسمونها عبادة، ويعاقب وقد يفصل ويمتحن ويوضع في هذه الفتنة الشديدة، وإلا فما الذي يعنيه دخول إنسان لامتحان ما في ساعة صلاة الجمعة، والعياذ بالله، قلوب سوداء رانت عليها الذنوب والمعاصي. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً طبع الله على قلبه) والعياذ بالله! ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً) رواه البخاري.

اهتمام السلف بصلاة الجماعة

اهتمام السلف بصلاة الجماعة اهتم السلف أعظم الاهتمام بصلاة الجماعة، سواء في ذلك في الحضر أو السفر، في العسر أو اليسر، في المنشط أو المكره، مع أن الله سبحانه وتعالى عذر المرضى، كما جاء في الحديث: (خوف أو مرض) هذا هو عذر التخلف عن صلاة الجماعة، ومع أن الأبدان قد عذرت ولكن القلوب لم تطق أن تحرم نفسها من صلاة الجماعة. فنجد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: (ولقد رأيتنا يجاء بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) يعني أن الرجل المريض كان يحمل من بيته حملاً على رجلين، ويسند إلى أن يقام في الصف لشدة حرصه على صلاة الجماعة، مع أنه مريض ومعذور؛ لأن قلبه لم يطق ولا يتحمل أن يتخلف عن صلاة الجماعة. يقول ابن مسعود رضي الله عنه وهو يصف الرعيل الأول من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة) أخرجه مسلم. ويقول الفقيه الكوفي إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كان الأسود بن يزيد إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه، علق النعلين بيديه وتتبع المساجد حتى يصيب جماعة. لأن السنة للإنسان أن يصلي في مسجد قومه ولا يتتبع المساجد البعيدة، لما فيه من سلبيات كثيرة، منها -مثلاً- أن الإمام قد يظن أنك تفسقه أو تكفره أو تبدعه، فكونك تتجاوز المسجد إلى مسجد آخر بدون عذر شرعي فهذا مما يذم. فـ الأسود بن يزيد -وكان من الصالحين رحمه الله تعالى- كان إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه علق النعلين بيديه؛ لأنه إذا مشى حافي القدمين فهذا يكون أسرع له، ثم يظل يتتبع المساجد ويبحث عن مسجد لم تصل فيه الجماعة بعد حتى يدرك الجماعة. وقال بعض السلف: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة. يعني: حظي بنصيب وافر جداً من الثواب العظيم والجزيل. ويقول الحافظ الجهبذ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه الحافل (سير أعلام النبلاء) وهو يترجم للإمام الرباني أبي الحارث عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي المدني قال: قال مصعب: سمع عامر المؤذن وهو يجود بنفسه -وهو يحتضر- فقال: خذوا بيدي، أسندوني حتى أذهب إلى المسجد وأصلي في الجماعة. فقيل: إنك عليل -أي مريض-! قال: أسمع داعي الله فلا أجيبه! فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمه الله تعالى. يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة؛ فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلى صلاة ثوابها ثواب جزء من سبعة وعشرين جزءاً منها إلا مغبون. فلو أن أحداً يبيع سلعة يكسب فيها جنيهاً واحداً، ونفس السلعة يمكن أن يبيعها في مكان آخر ينتقل إليه بسبعة وعشرين فلا شك أن التاجر الذي يضحي بمثل هذا المكسب الوفير لأجل انتقال يسير جداً من محله إلى مكان قريب لا شك أنه مغبون، وإنسان خاسر بكل المقاييس، فما بالك بمن يفوت سبعة وعشرين ضعفاً من الصلاة ويصلي في بيته ويضحي بهذا الأجر العظيم. لذلك كان بعض السلف إذا تخلف عن الجماعة تكون بالنسبة له مصيبة كبيرة، ويأتي إخوانه من أهل المسجد يعزونه في هذه المصيبة، ويبدو أنه بعد ذلك حصل تراخٍ في هذا الأمر، حتى إن بعض السلف أنكر على أصحابه حينما قال: لو مات لي ولد فعزاني لعزاني عشرة آلاف إنسان، وفاتتني تكبيرة الإحرام فلم يعزني أحد. فهو يستدل بذلك على أنهم ليسوا فقهاء، وليسوا معظمين لأمر الله سبحانه وتعالى. يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة؛ فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلى صلاة ثوابها ثواب جزء من سبعة وعشرين جزءاً منها إلا مغبون، ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية بمثل هذا لكان مستحقاً لحجره عن التصرف في ماله. فلو أن تاجراً ضحى في تجارته بمثل هذا الربح لاعتبر سفيهاً؛ لأنه يضيع سبعةً وعشرين ضعفاً من سعر السلعة! فإن أعطي المال ليتاجر به لقال له المالك: أنت سفيه لا تصلح، كيف تفوت علي سبعة وعشرين ضعفاً من الربح؟! وربما يحجره عن التصرف في ماله. يقول: ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية بمثل هذا لكان مستحقاً لحجره عن التصرف في ماله لبلوغه من السفه إلى هذه الغاية، والتوفيق بيد الرب سبحانه وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، فهذه من السفاهة، فما بالك بمن يفوت سبعاً وعشرين درجة من درجات الآخرة؟!

فضل صلاة الجماعة

فضل صلاة الجماعة

مضاعفة أجرها وصلاة الملائكة عليه

مضاعفة أجرها وصلاة الملائكة عليه لا شك أن صلاة الجماعة في المساجد من أوكد العبادات، وإقامتها في بيوت الله سبحانه وتعالى من أجل الطاعات، والمحافظة عليها في الحضر أو السفر من أعظم القربات، ولذلك وردت الأحاديث النبوية الصحيحة تترى مبينة ما أعد لشاهدها من أجر عظيم، وثواب جسيم، ونعيم مقيم، جاءت هذه الأحاديث تشحذ همم السالكين، فتبعث في نفوسهم روح العبادة واليقين، من هذه الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة) وهذا من آداب الخروج للمسجد، وهذه أكمل الأحوال، لئلا يكون الدافع وراء خروجك إلى المسجد أي شيء آخر غير الصلاة، وليس معنى هذا أن الإنسان إذا خرج ليصلي وليؤدي بعض الأشياء أنه آثم، لكن نقول: أكمل الأحوال أن تجرد نيتك لمحض التعبد، لما في بعض الروايات: (ما تنهزه إلا الصلاة)، يعني: ما يريد أن يذهب للمسجد ليقابل أحداً أو يقضي بعض الحاجات في الطريق، ولا لأي غرض آخر، بل يخرج تعظيماً لأمر الله، وتلبية لداعي الصلاة. يقول صلى الله عليه وسلم: (وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة، تقول الملائكة: اللهم! صل عليه -وفي بعض الروايات-: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه ما لم يحدث فيه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)، ومن طريق أخرى بلفظ: (ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث). فقال رجل أعجمي: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: الصوت. يعني الضراط، وهذا الحديث متفق عليه.

كثرة حسنات خطاه وبقاؤه في حكم المصلي حتى يرجع

كثرة حسنات خطاه وبقاؤه في حكم المصلي حتى يرجع وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه -أو قال: كاتبه-) يعني الملك الذي يكتب الحسنات، قال: (كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة -يعني القاعد في المسجد ينتظر الصلاة- كالقانت) والقنوت يطلق على عدة معانٍ، يطلق على السكوت، والدعاء، والطاعة والتواضع، وإدامة الحج والغزو، والقيام في الصلاة وهو المقصود هنا. (والقاعد يرعى الصلاة كالقانت) يعني الشخص الذي يصلي ويطيل الصلاة وقراءة القرآن في الصلاة، قال: (ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه)، وبالنسبة للحديث المتقدم الذي ذكرناه في مضاعفة أجر صلاة الجماعة فإن حكم صلاة الجماعة موضوع ومضاعفة الثواب موضوع آخر، فالأفضلية لا تنافي الفرضية، أي أن أفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو سبع وعشرين درجة لا تعارض بينها مع كونها فريضة، فليس معنى ذلك أنه يباح للإنسان أن يترك الجماعة بدون عذر، فلا منافاة بين الأفضلية والفرضية والوجوب.

مغفرة الذنوب

مغفرة الذنوب وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه)، والمقصود بإسباغ الوضوء ليس المبالغة في الوضوء، فبدلاً من أن يغسل إلى كعبيه يغسل إلى ركبتيه، أو أمر بأن يغسل إلى المرافق فيغسل إلى الكتف، فهذا ليس إسباغاً، الإسباغ المقصود به أن تصل بالمياه إلى الحدود الشرعية التي حدها النبي صلى الله عليه وسلم، أو تزيد قليلاً كأن تشرع في العضد مثلاً، أو فوق الكعب بقليل، لكن أن تبالغ فهذا مخالفة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام، فإسباغ الوضوء هو مثل الثوب السابغ الذي يغطي الجسم تماماً، قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه)، رواه مسلم.

تبشبش الله جل جلاله إلى المصلي في جماعة

تبشبش الله جل جلاله إلى المصلي في جماعة وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه فيسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته) يعني: لو أن إنساناً له حبيب أو قريب سافر عنه وغاب غياباً طويلاً ثم أتى إليه فجأة، أو وجد الأب ابنه أو أحب الناس إليه فجأة أمامه فكيف تكون فرحته؟ لا شك أنه يتبشبش له أهله، ويسرون به سروراً عظيماً، فالله سبحانه وتعالى يكون منه ذلك -كما يليق به جل جلاله- مع المؤمن الذي يأتي إلى المسجد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه -أيضاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قال: إسباغ الوضوء على المكاره) يعني: على الرغم من المكاره. وهي ما يكرهه الإنسان ويشق عليه، مثل شدة البرد حين لا يوجد إلا ماء بارد، وفي شدة البرد قد يضطر إلى أن يتوضأ به، فرغم وجود هذا المكروه لكنه يسبغ الوضوء لوجه الله سبحانه وتعالى، هذا مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط) رواه مسلم.

إعداد الله تعالى النزل للذاهب إلى المسجد غدوا أو رواحا

إعداد الله تعالى النزل للذاهب إلى المسجد غدواً أو رواحاً وعنه أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)، والنزل هو ما يعد للضيف من الإكرام والطعام وغيره. فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من غدا إلى المسجد) يعني: ذهب إلى المسجد في وقت الغدو الذي هو صلاة الفجر، (أو راح) في العشي (أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح). وحينما نذكر كلام الرسول عليه الصلاة والسلام في فضائل الأعمال لابد من أن نستحضر القلوب؛ لأننا نسمع قول رسول الله عليه الصلاة والسلام لا كلام شخص عادي، فهذا مبلغ عن الله، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] فليس قوله مجازاً ولا ضرب أمثال، ولا تقريباً للأفهام، ولا مجرد ترغيب ولا ترهيب، كلا، بل هو حقيقة يخبرك عنها الصادق المصدوق، فلابد من أن تستحضر أن هذا واقع قطعاً؛ لأن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فكل ما ينطق به هو حقيقة لا بد أن تستحضرها، فتستحضر أنك إذا توضأت في البيت وأسبغت الوضوء ومشيت إلى المسجد لتصلي صلاة فريضة تستحضر تماماً وأنت في طريقك إلى المسجد أن الله يتبشبش لك ويسر بمجيئك في بيته كما يسر أهل الغائب بطلعته عليهم. وتستحضر أن مشيك هذه الخطا إلى المسجد وأنك إذا استوفيت هذه الأفعال المذكورة في الأحاديث فإن الله قد أعد لك نزلاً في الجنة كلما غدوت أو رحت إلى المسجد.

البشارة بالنور التام يوم القيامة للمشائين في الظلم إلى المساجد

البشارة بالنور التام يوم القيامة للمشائين في الظُلَم إلى المساجد وعن بريدة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) ولو أن رجلاً كريماً وعدك بهبة أو هدية، أو بشيء عظيم يعطيك إياه فقال لك أحد أصدقائك: هذا الشيء كثير، فهل يعقل أن يعطيك هذا؟! فإنك تقول له: هذا إنسان كريم لا يخلف وعده، ولا يرجع عن كلمته. فمن أصدق من الله حديثاً؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، فاستحضر دائماً أن كل هذه الوعود سيعطيك الله سبحانه وتعالى إياها إذا استوفيت هذه الشروط؛ لأن الله لا يخلف الميعاد. فالكريم يخلف وعيده لكن لا يخلف وعده، كما يقول الشاعر في حق ابن عم له: وإني إذا وعدته أو أوعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالكريم يخلف الوعيد الذي هو العذاب، ومن كرمه أن يعفو عنك، لكن الوعد لا بد من أن ينجزه. وهنا انظر إلى هذه البشرى العظيمة واستحضرها كلما خرجت إلى المسجد في الظلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين) و (المشاء) صيغة مبالغة من الماشي، فالمراد هنا مدح من يكثر المشي إلى المساجد ويصير ذلك عادة له، ولا يصدق هذا الحديث ولا تتحقق هذه البشرى لمن اتفق له المشي مرة أو مرتين، وإنما من يدمن المشي إلى المساجد ويكثر الخطا إلى بيوت الله تبارك وتعالى، والظاهر أن هذا الحديث في فضيلة صلاتين: صلاة العشاء وصلاة الفجر؛ لأنهما الصلاتان اللتان تؤديان في ظلمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) والجزاء من جنس العمل، فكما مشوا في الظلام ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى مع احتمال وجود آفة في الطريق تؤذيهم لكن مع ذلك أصروا على الذهاب إلى المساجد بشرهم بأن يبدلهم الله سبحانه وتعالى هذه الظلمة نوراً كاملاً يوم القيامة.

الحصول على أجر الحاج والكتابة في عليين

الحصول على أجر الحاج والكتابة في عليين وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى -يعني: خرج كي يصلي صلاة الضحى- لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)، فإذا استطعت أن تحافظ على أن تصلي صلاة فريضة عقب صلاة فريضة بشرط أن لا ترتكب أي نوع من اللغو ما بين هذه الصلاة والتي تليها، إذا حافظت على هذا يكتب لك كتاب في عليين وهي الجنة، وغالباً هذا اللغو لا يحصل ولا يكون احتماله أكثر إلا عند كثرة المخالطة، أو المخالطة نفسها في بعض الأوقات تكون هي سبب وقوع اللغو، فإما أن تسمع كلمة لا داعي لها، أو تتكلم أنت بكلام أنت في غنىً عنه. فلذلك الإنسان إذا أراد أن يحقق مثل هذا الحديث فعليه أن يذهب إلى المسجد في صلاة المغرب ويمكث بنية انتظار صلاة العشاء؛ لأنه إذا مكث بنية انتظار صلاة العشاء سيكون مرابطاً ويؤجر كأنه لا يزال يصلي، ويجتنب محادثة الناس، ويقرأ القرآن، ويذكر الله سبحانه وتعالى إلى أن تأتي الصلاة التي تليها دون أن يرتكب لغواً بينهما، حينها ينال هذا الثواب العظيم. يقول عليه الصلاة والسلام: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة؛ فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى -والنوافل تسمى تسبيحاً- لا ينصبه إلا إياه؛ فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين).

الضمان على الله بالرزق والكفاية ودخول الجنة

الضمان على الله بالرزق والكفاية ودخول الجنة وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة)، فالله سبحانه وتعالى يضمن لك ويؤمن لك هذا، فإن عشت ترزق وتكفى الهم، ويبارك لك في الرزق، وإن مت يضمن الله لك الجنة، قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله) فهذا فيه استحباب أن يسلم الإنسان على أهله إذا دخل بيته، (ومن خرج إلى المسجد -يعني: ليصلي- فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله -يعني: في الجهاد- فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى).

الحصول على حق الزيارة والبراءة من النار والنفاق

الحصول على حق الزيارة والبراءة من النار والنفاق وعن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر). وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تبارك وتعالى ليعجب من الصلاة في الجمع) يعني: في الجماعة. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق)، فمن أراد أن يكتب له براءة من النار وبراءة من النفاق فليجتهد في تحقيق هذا الحديث، لكن الحديث بشروط: أولاً: (من صلى)، فأول شيء أن تكون صلاة فريضة. ثانياً: (من صلى لله) وهذا شرط إخلاص النية، أي: لا يكون رياءً ولا سمعةً، وإنما لله. ثالثاً: (أربعين يوماً في جماعة) يعني: يصلي أربعين يوماً متصلة دون انقطاع في صلاة جماعة. رابعاً: (يدرك التكبيرة الأولى) فلابد من أن يكون حاضراً وقت تكبيرة الإحرام. وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان؟) و (شاهد) بمعنى: حاضر (قالوا: لا. قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين -يعني: صلاة العشاء والصبح- أثقل الصلوات على المنافقين). يقول ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور. يعني: الداعي إلى ترك الحضور قوي، والصارف عن الحضور أيضاً قوي، فهي فتنة من الجانبين. يقول: إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور، أما العشاء فلأنها وقت الإيواء إلى البيوت، والاجتماع مع الأهل، واجتماع ظلمة الليل، وطلب الراحة من متاعب السير بالنهار. وأما الصبح فلأنها وقت لذة النوم، فإن كانت في زمن البرد ففي وقت شدته لبعد العهد بالشمس لطول الليل، وإن كانت في زمن الحر فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس لبعد العهد بها، فلما قوي الصارف عن الفعل ثقلت على المنافقين، وأما المؤمن الكامل الإيمان فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة، فتكون هذه الأمور داعية له إلى الفعل كما كانت صارفة للمنافقين، فهي تصرف المنافقين عن الحضور، وهي -أي: نفس الأسباب- تدفع المؤمن إلى الحضور لما يرجو من ثواب الله سبحانه وتعالى. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما فيهما - يعني: من الأجر والثواب- لأتوهما ولو حبواً) يعني: لو يعلم المنافقون الثواب الذي يترتب على صلاة الفجر والعشاء لأتوا إلى المساجد ولو حبواً، أي: يخرج أحدهم من بيته إلى المسجد حبواً كما يحبو الطفل الرضيع على يديه وركبتيه، ولحرصوا على تحصيل هذا الثواب الكبير إذا كشف لهم عظم هذا الثواب. ولذلك المؤمن لا يأتي حبواً لكن يأتي اشتياقاً لهذا الأجر العظيم، فيكون هذا الأجر داعية له إلى تحصيله لما عنده من يقين من حصول هذا الأجر، ويستحضر أنه سينال وعد الله سبحانه وتعالى. وانظر إلى ذي القرنين، قال تعالى عنه: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ * إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:86 - 88] فالمؤمن لا يطلب ثواباً في الدنيا {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:88] يعني الجنة في الآخرة، فالمؤمن قدم ثواب الآخرة، وهذا هو المحرك والدافع لعمله {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88] أما في الدنيا فسنقول له قولاً حسناً. فهكذا المؤمن يحركه ويدفعه دائماً الطمع فيما عند الله سبحانه وتعالى من الثواب في الآخرة. والصحابة لما بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام ما بايعوه على وظائف أو مناصب، أو دنيا، وإنما بايعوه على الجنة، وقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب؛ فإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه -يعني: لتسابقتم عليه- وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل)، فإذاً: هذه أحد مرجحات صلوات الجماعة إذا تعددت في الحي الذي أنت فيه. وهناك مرجحات عديدة، منها: أن يكون المسجد أقدم. ومنها: أن يكون المصلون أكثر عدداً، فكلما كثر العدد كلما زادت البركة ونزلت الرحمات، فلذلك هنا في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل)، فأحد المرجحات كثرة عدد المصلين في المسجد.

الحصول على أجر قيام الليل بشهود صلاتي العشاء والفجر

الحصول على أجر قيام الليل بشهود صلاتي العشاء والفجر وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) يعني الصبح نصف والعشاء نصف، فإذا صلى العشاء جماعة والصبح في جماعة يجتمع النصفان فكأنه قام الليل كله. وفي لفظ: (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار، وكتب في وفد الرحمن)، وهذا في صحيح الترغيب برقم أربعمائة وستة عشر.

مصلي الفجر في ذمة الله

مصلي الفجر في ذمة الله وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) يعني: في أمان الله وعهده. وفي بعض الأحاديث: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، فما معنى هذا؟ معناه أن من صلى صلاة الصبح في جماعة في المسجد فهو في حماية الله وفي جوار الله وفي جناب الله، فإياك أن تؤذي رجلاً صلى الصبح في جماعة لأنه في حماية الله، فأنت إذا آذيته أو اعتديت عليه أو ظلمته فإن الله سينتقم له منك (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، وهذا فيه تعظيم حرمة المسلم الذي يصلي الفجر في جماعة فأي واحد يؤذي من يصلي الفجر في جماعة فسوف يطلبه الله لأنه نقض عهد الله، واعتدى على من هو في حماية الله وفي جوار الله سبحانه وتعالى.

مباهاة الله تعالى ملائكته بالماكثين في المساجد بعد المغرب

مباهاة الله تعالى ملائكته بالماكثين في المساجد بعد المغرب وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب -يعني: تأخر من تأخر- فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً قد حفزه النفس -يعني: أتعبه النفس من شدة جريه وسعيه- قد حسر -أي: كشف- عن ركبتيه، فقال: أبشروا أبشروا! هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى)، فهذا الحديث في فضل الرباط والمكث في المسجد بعد الانتهاء من صلاة انتظاراً للصلاة التي تليها، وهو من أعظم الأعمال الصالحة، وأغلب الناس في هذا الزمان في غفلة عن هذا الثواب العظيم. وانظر إلى انفعال الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه البشرى، وكيف أتى يبشر أمته على هذه الهيئة؟ وتخيل مشهده عليه الصلاة والسلام وهو يبشرهم؛ إذ إنه كان رءوفاً رحيماً بهم عليه الصلاة والسلام! فقوله: (قد حسر عن ركبتيه) أي: كشف ركبتيه من شدة احتياجه لأن يكشف عنهما حتى يستطيع الجري بسرعة أكثر، يبشر الذين تخلفوا بعد صلاة المغرب؛ لأن الناس انقسموا إلى فريقين: فريق انصرف بعد الصلاة وفريق ظل ماكثاً يذكر الله إلى أن تأتي صلاة العشاء. والآن لو نكلم الناس بهذه الأحاديث فإنهم يقولون: نحن في زمن السرعة، والعمل عبادة. وهم يقضون الساعات الطوال أمام التلفزيون والمسرحيات والأفلام، ويقرءون الجرائد التي تكاد أن لا يكون فيها حرف يُقرأ، ويقول لك أحدهم: إن العمل عبادة. فهو لا يعرف أن العمل عبادة إلا إذا أمرته بذكر الله. فيبشر الرسول الصحابة: (أبشروا أبشروا! هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى). وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح -يعني: لم يحضر صلاة الفجر- وأن عمر غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح؟! فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. قال عمر رضي الله عنه: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة).

الأسئلة

الأسئلة

حكم حلق اللحية بسبب مرض ما

حكم حلق اللحية بسبب مرض ما Q أعاني من (حب الشباب) وهو يظهر تحت لحيتي، ويسبب لي الكثير من الألم، وذلك لأن هذه الحبوب تمتلئ بالصديد الكثير، فأقوم بحلق اللحية كي أعالجها، فعندما أترك لحيتي مرة أخرى تعود الحبوب كما كانت من قبل، وتكرر ذلك الوضع أكثر من مرة بل كثيراً، فما حكم حلق اللحية بالنسبة لي؟ A نقول: ما يدريك أن حلق اللحية هو الذي يسبب هذه التقيحات وهو الذي يلوث هذه الجروح؟ لكن لو ابتلي الإنسان بمرض جلدي معين علاجه في حلق اللحية. فهذه من الرخص النادرة، ويجوز له أن يحلق لحيته للتداوي، ويحرم حلق اللحية إلا لتداو كما قال بعض العلماء، ففي حالة التداوي إذا كان لا سبيل للتداوي إلا الحلق كانت هذه حالة خاصة. والشيء يذكر بالشيء، ولا بأس أن يكون بين وقت وآخر شيء من العتاب لبعض منا، فلو أن أخاً ما ضعف إيمانه أو التزامه بالدين، أو تعرض لضغوط وحلق لحيته، فنجد الشكوى من سوء المعاملة له، ونجد نفوراً شديداً منه، ويصل الأمر إلى إعانة الشيطان عليه، وبالتالي يعتزل تماماً من مجتمع الإخوة حتى يتجنب هذه الأذية. فلنفرض أن الأخ عنده عذر، وقد حصل أن أحد إخواننا -عافاه الله سبحانه وتعالى- ابتلاه الله سبحانه وتعالى بمرض، فبدأ شعر لحيته يتساقط، فما بين قائل له: (نعيماً) وقائل له غير ذلك من السخرية والاستهزاء، والأخ حسن الخلق، فصبر وصبر حتى بلغ السيل الزبى، وكاد أن يهجر جميع المساجد حتى يتجنب هذه الأذية. فالإنسان يكون حسن الخلق، فـ (الكلمة الطيبة صدقة)، حتى مع الكافر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، حتى مع فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] قال تعالى لموسى أشرف الأنبياء في زمنه عليه السلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فأين الرفق؟ فينبغي مراعاة آداب الإسلام، فأخ لك له حرمة إذا وقع في حفرة هل توسع له الحفرة وتدفنه فيها أم تأخذ بيده وتجذبه إليك وتنقذه؟! والذي يحصل كأنه تواطؤ من كثير من الإخوة، فالسخرية، والاستهزاء، والاكفهرار في وجهه، والتنفير، وإعانة الشيطان عليه، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام لما كان ذلك الرجل الذي يلقب حماراً -وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام- كان يؤتى به قد شرب الخمر، وكان الشيطان يغلبه أحياناً بمعصية شرب الخمر -والعياذ بالله- فكان يقيم عليه الحد، ففي إحدى المرات قال أحد الصحابة بعدما جلد هذا الرجل رضي الله عنه قال: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)، وقال: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) فلا تنضم بجانب الشيطان ضد أخيك. والذي يسخر من أخيه أو يؤذيه أو يقاطعه أو يكفهر في وجهه وهل قد جرب أن يأخذه على انفراد وينصحه برفق ولين ويذكره لعل عنده عذراً خفياً كما كان حال هذا الأخ؟ فاحمد الله على أن عافاك من البلاء، وإذا كان الله ابتلاه وعافاك فلا تظهر هذه الأذية، فلا تأمن أن يعاقبك الله ويذيقك من نفس هذه الكأس، والجزاء من جنس العمل. فنرجو من الإخوة أن يراعوا هذه الآداب، وإذا ضعف الأخ فلابد من أن نأخذ بيديه وننصحه. فنرجوا التزام هذا الخلق مع الناس، وأنا ألاحظ أحياناً -ولله الحمد- أن بعض أناس يأتون لأول مرة أو غير ملتحين، فأول ما أرى أخاً غير ملتحٍ أقول: يا رب! استر. حتى لا ينفره أحد الإخوة ويشتد عليه وينفره. وبفضل الله نلاحظ كثيراً من المسلمين يسمع أحدهم كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام فنلاحظ مع الوقت كثيراً منهم بدون أن يحصل له أي ضغط أو إرهاب يلتزم بالهدي الظاهر كله، لكن خطوة خطوة؛ لأن الصراع على أشده، وأهل الفساد والإلحاد والزندقة يحاربون ويصدون الناس عن سبيل الله بكل الطرق، حتى إن فيلم (الإرهابي) يصدرونه لكل الدول العربية، ولا توجد دولة ترفضه غير الأردن، وأصدر وزير الثقافة الأردني بياناً يقول فيه: إن هذا الذي تسمونه إرهاباً هو دين الإسلام نفسه، فكيف تسبون الإسلام؟ والهيئات في الأردن كلها كتبت معترضة على مثل هذا، وأنه طعن في الإسلام نفسه وليس طعناً في الإرهاب، وأيضاً لبنان النصرانية ترفضه، وبقية الدول العربية تقبله، وحسبنا الله ونعم الوكيل! فنحن نتصارع مع أعداء الناس لإنقاذهم، فهم يشدون من ناحية ونحن نشد من الناحية الثانية. وأيضاً توجد بعض التصرفات التي كثرت الشكوى بشأنها في الحقيقة، فنحن إذا لم نتصارح بهذه الأشياء سنتمادى فيها، ونحن -المسلمين- أسرة واحدة، فالمفروض أن يكون أحدنا للآخر كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، أو كالمرآة ترى فيها عيبك، فهناك أشياء نسمعها ولا نكاد نصدقها، فآخر ما سمعت أن أختاً تزوجت من رجل قد طلق زوجته، فكتبت الأولى خطابات تشتمها وتسخر منها، وتقول: يا خاطفة الرجال. وألفاظاً بذيئة وكلاماً سيئاً جداً، ثم صورت نسخاً من الخطاب، ووضعته أمام كل أبواب الشقق في العمارة، وأخذ أحد النصارى الأوراق وذهب بها لزوج الأخت ليريه ما صنعت، ويقول له: هذه أخلاقكم أيها المسلمون؟! فهل هذا تصرف؟ وهل هذه أخلاق الإسلام؟ نحن محتاجون إلى أن نراجع أنفسنا في أشياء كثيرة جداً، في التقصير في طلب العلم والعبادة، وغير ذلك من أشياء لا أكاد أصدقها فأخت تمضغ العلك -الذي هو اللبان- داخل الصلاة، فتنصحها أخت بأن هذا لا يجوز داخل الصلاة فتجيبها بجواب بارد! وأخت تمشي من آخر المسجد إلى أوله وهي في الصلاة، وتفتح الحقيبة وتدخل أشياء وتخرج أشياء، فهذه الأشياء ما عهدناها مع الملتزمين، فأي التزام هذا؟ فنرجو التخلص من هذه الآفات والالتزام بآداب الإسلام وتحسين صورتنا؛ لأن هذا مما نعاقب عليه، والصد عن سبيل الله بسوء الخلق ذنب، وإذا تأملنا الآية في سورة النحل: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94] فمعنى الآية: لا تستغلوا اسم الله سبحانه وتعالى وتحلفوا بالله وأنتم تنوون الخديعة. {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل:94] يعني: للإفساد. فماذا يحصل إذا الإنسان حلف وعاهد ثم غدر أو أخلف أو أساء الخلق؟ قال تعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل:94]، تكون أنت مذنباً في نفسك، وبعدما كنت ثابتاً على الطريق زللت عنه، فهذا انحراف في نفسك أنت، فأنت تعاقب على هذا أولاً، ثم {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل:94]، إذا فعلتم هذه الأخلاق فإنكم تتسببون في تشويه صورة الإسلام، وبالتالي الكفار الذين عاهدتموهم ونقضتم العهود وخدعتموهم باليمين هؤلاء سيقولون: لو كان في دينهم خير لمنعهم من الإخلاف بالوعد. فمدرب نادي الاتحاد الألماني الذي يدعى سيو بكير كانت المشكلة الوحيدة عنده كلما نكلمه عن مبادئ الإسلام ومفاهيم الإسلام وندعوه إلى جمال الإسلام وروائع الإسلام أنه يقول: فأين هذا فيكم؟ أنتم فيكم الكذب والغش والخداع وكذا وكذا. وأكبر من هذا أنهم لما أرادوا أن يتعاقدوا معه أتوا به إلى مبنى الأستاد الرياضي، وقالوا له: هذا مبنى الفريق. فأعجب به جداً، ويبدوا كذلك أنهم أتوا له بفريق آخر يلعب أمامه، وأوهموه أن هذا هو الفريق، وعلى هذا الأساس وقع العقد معهم. فالشاهد أن مثل هذه التصرفات لها أبعاد خطيرة. وأنا أريد أن أقول: سلوكك هو عنوان لهذا الدين وعنوان الالتزام به، فأنت -شئت أم أبيت- ستحاسب على هذا التصرف {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل:94]، فلا تصد الناس عن سبيل الله، فإن بعض الأخوات لا يأتين المساجد خوفاً من تصرفات الأخوات، فنرجوا من الأخت التي تمارس هذه الأشياء أن تمسك عليها لسانها، ولا تأمر إلا بعلم ولا تنه إلا بعلم. ومن شواهد ذلك في القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] فسلوكهم بأكل أموال الناس بالباطل يتسبب في صد الناس عن سبيل الله، فكل هذه شواهد على اعتبار حسن الخلق وأهميته، وأنك تراعي تصرفاتك وأنت تعطي صورة للدين وللالتزام، فحافظ على هذه الصورة، وحتى لا تبوء بإثمك وإثم هؤلاء الذين تصدهم عن سبيل الله تبارك وتعالى.

حكم إقامة رحلات مستقلة للنساء

حكم إقامة رحلات مستقلة للنساء Q هل يجوز سفر مجموعة من النساء بغير محرم لكل واحدة منهن، مثل: الرحلات التي تتم في الجامعة، فهم يعملون رحلة للطلبة والطالبات، وهناك سيارة مستقلة للطلبة وأخرى للطالبات، والرحلة إلى القاهرة والفيوم، فهل يجوز ذهاب الطالبات؟ A لا يجوز بلا شك، فكيف تسافر المرأة بدون محرم؟ والنبي عليه الصلاة والسلام حرم على المرأة المؤمنة أن تسافر بدون محرم أبداً حتى ولو كانت امرأة كبيرة في السن. وحاصل المسألة أن بعض العلماء اجتهد فأجاز سفر المرأة في حج الفريضة في صحبة آمنة، في حج الفريضة فقط، وليس في أي سفر، فالقاهرة أو الفيوم ومثل هذه البلاد مسافات سفر، فلا يجوز أبداً أن تسافر المرأة إليها بدون محرم.

محو الأمية التربوية

محو الأمية التربوية قد يفهم كثير من الناس بكافة مستوياتهم الثقافية معنى الأمية التعليمية، لكن الخطأ المشترك بين كل هؤلاء، والذي يقع فيه حتى عِلية القوم من المثقفين، هو جهلهم بمعنى الأمية التربوية، ولذلك يمارسون مع أبنائهم أساليب تربوية خاطئة، سواء كانت تنتهج القسوة أو التدليل، وسواء كانت موروثة أم مستوردة، ولهذا فالواجب على كل أب أن يتعلم أسس التربية، ويلتزم الطريقة الصحيحة في ذلك.

اهتمام الإسلام بتربية النشء

اهتمام الإسلام بتربية النشء الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن الإسلام كالبناء الجميل، من أي النواحي أتيته أعجبت بجماله وبهائه وروعته؛ فسواء نظرت إليه من جهة عقيدة التوحيد التي تميز بها، أو كمال التشريعات التي شرعها، أو النظام الاقتصادي في الإسلام، أو النظام السياسي، أو الإعجاز العلمي، أو بلاغة وآداب القرآن وهكذا. ومن الجهات التي إذا طرقناها بالنظر والتأمل نجد أن هذه الجهة وهذا الموضوع هو موضوع التربية والاهتمام بتنشئة الأطفال والأجيال التي تشكل الحاضر والمستقبل، ويتميز المنهج التربوي الإسلامي بوسائل معينة توصل إلى أهداف محددة. أما الهدف فهو إنقاذ هذه الذرية من النار، وأن يشبوا أبناء صالحين يعملون لدينهم ودنياهم، ويسعدون في الدارين بالصلاح والتقوى والإيمان والتوحيد. وقد وضح الله سبحانه وتعالى ذلك حينما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، قال علي بن أبي طالب: علموهم وأدبوهم. والمعنى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، بالتربية والتعليم والتأديب والتهذيب، فيكفي في بيان خطر هذه المسئولية: أن الخلل فيها يؤدي إلى عقوبة النار. وحينما كانت امرأة من الأسرى تجد في البحث عن ولدها، فحينما رأته بعد بحث وعناء ألصقته ببطنها في حنان شديد، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله عز وجل أرحم بعباده من هذه بولدها)، فالله سبحانه وتعالى وضع الرحمة في قلوب الآباء الأسوياء، ومن ثم لم تكثر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي توصي الآباء بالأبناء، وإنما رأينا العكس، فكثير من النصوص توصي الأبناء بالآباء؛ لأن الله عز وجل تكفل بوضع هذه الرحمة الذي تضمن لهم هذا المعين الذي ينبض بالحب والحنان والعطف. وقد جعل الله سبحانه وتعالى من دعاء الصالحين وعباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فحينما يراهم صالحين أتقياء فلا شك أنهم يكونون قرة أعين للعبد الصالح. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يجني الأب على ولده، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا لا يجن والد على ولده)، رواه الدارقطني. وهناك كثير من النصوص فيما يتعلق بإعطاء الإسلام أهمية كبرى لموضوع التربية، فتربية الإسلام للطفل ليست كأي تربية أخرى، إنما هي تربية لغاية ولمقصد ولمستقبل في الدارين، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام للأطفال: (ارموا فإن الرمي أنكأ للعدو)، فمن أول طفولتهم يخاطبهم بهذا الخطاب. فحينما رأينا الإسلام العظيم ربط الهدف التربوي بهذه الغاية العظمى، وهي سعادة الدارين، في نفس الوقت وجدنا جميع تعريفات التربية في المفهوم الغربي الذي يلهج به كثير من المسلمين تركز على إعداد الطفل ليكون قادراً على تحقيق رغباته الدنيوية، بغض النظر عن كون التعريف بالتربية علمانياً ينفصل تماماً عن التربية الإسلامية. وقد اهتم المسلمون اهتماماً شديداً بموضوع تربية الطفل، والحفاظ على نفسيته من التشويه والإعاقة النفسية، أذكر مثالاً عارضاً لذلك: كان المسلمون الأوائل يوقفون الأموال على الأطفال أو العبيد الذين إذا أرسلهم آباؤهم لشراء شيء معين وضاعت منهم الأموال، فمن أجل حماية هؤلاء الأولاد من العقوبة أو القتل التي قد يتعرضون لها أوقفوا أموالاً ليعوض هؤلاء الأطفال من هذه الأموال، حماية لهم من قسوة الآباء الذين قد يعاقبونهم بشدة بسبب ضياع المال منهم.

مفهوم الأمية التربوية الضائع

مفهوم الأمية التربوية الضائع لا نتصور أن مثل هذه القضية التي هي غاية في الخطورة يمكن أن تناقش وتعطى حقها في هذا الزمن القليل، فليكن كلامنا مجرد مدخل ومقدمة لسلسلة تستمر -إن شاء الله تعالى- فيما بعد عن هذا الموضوع. بالنسبة لمفهوم الأمية التربوية لابد أن يتداعى الناس بين وقت وآخر للحديث عنها، والإعلان عن مراكز محو الأمية وأهمية محو الأمية، بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، لكننا قل أن نجد من يلتفت إلى نوع آخر من الأمية، وهي الأمية في مجال التربية، فضلاً عن أن يفكر في محوها، وسلوك منهج علمي دقيق في محو هذه الأمية.

الفرق بين الأمية التربوية والأمية بالقراءة والكتابة

الفرق بين الأمية التربوية والأمية بالقراءة والكتابة هناك فرق شديد بين أمية القراءة والكتابة وبين أمية التربية؛ إذ أمية القراءة والكتابة من حيث آثارها أخف بكثير جداً من أمية التربية، أما أمية التربية فقد تخرج أجيالاً مشوهة نفسياً تعاني وتتعذب وتنحرف في كل مظاهر الحياة. الأمية في القراءة والكتابة قد نجدها تتفشى في طائفة معينة من الناس، ولكن الأمية التربوية لا ترحم، فإنها قد تتفشى كالداء الوبيل، وقد نجدها في أعلى الناس من حيث المستوى العلمي، كأستاذ الجامعة، أو حتى خواص الناس وليس عوامهم، فهؤلاء بلا شك أعلى الناس من حيث تنزههم عن أمية القراءة والكتابة، ولكن مما يؤسف له: أن الأمية التربوية متفشية فيهم بصورة مؤلمة جداً على أعلى المستويات، بل على مستوى الوزراء وغيرهم من علية القوم، وهذه الظاهرة نلمسها في مناهج التعليم، أو وسائل الإعلام كل هذه تعكس وتشير إلى مدى الأمية التربوية؛ هذا مع حسن الظن بهم! الأمية بالقراءة والكتابة قد تكون ظاهرة، أما الأخرى فهي تتخفى، ثم تظهر لنا فيما بعد آثارها الخطيرة على الأبناء والأولاد، أي: يمكن أن يكون الرجل خبيراً وقائداً في التربية وهو رجل فقير لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك تجد سلوكه مع أولاده سلوكاً راقياً مهذباً مستنيراً يخرج الأولاد الأصحاء، وقد يكون رجلاً على النقيض من ذلك، ومع ذلك يكون غارقاً في الأمية التربوية. إذاً: ليس المقصود من محاضرتنا هذه محو الأمية التربوية كما هو العنوان، ولكنه تحت عنوان مضمر: أهمية محو الأموية التربوية؛ فإن المحو لهذه الأمية يحتاج زمناً طويلاً وجهوداً مكثفة، والمقصود هو أن ننقل هذه القضية إلى دائرة الاهتمام ليسلط الضوء عليها، ونعطيها القدر الذي تستحقه.

عوائق معالجة الأمية التربوية

عوائق معالجة الأمية التربوية كان ينبغي معالجة هذه القضايا منذ زمن بعيد، لكن هناك عوائق وعقبات أمام ذلك، وأكبر عقبة أنه كان يفترض في هذه القضايا التربوية أن يقسم الناس فيها إلى شرائح عمرية، ويوجه لكل طائفة كلام غير الكلام الذي يوجه للطائفة الأخرى، إلا أن مشكلاتنا في مجتمع المسجد أنه تتواجد فيه جميع الفئات العمرية من الجنسين، ولا شك أن هذا توجد معه بعض الصعوبة من حيث اختلاف مستويات الناس في فهم الأشياء. أيضاً الكلام الذي يقال للأطفال غير الذي يقال للشباب المراهقين، وهو غير الذي يقال للناضجين، وهو غير الذي يقال للشيوخ، كذلك ما يقال للبنات غير ما يقال للبنين؛ علاوة على أن هناك قضايا لابد من طرقها لكن لا يناسب طرحها بصورة مكشوفة أمام كل هذه المجموعات العمرية، لأنها تناسب طائفة معينة؛ فهناك من الشباب مثلاً من له بعض المشكلات الخاصة جداً التي لا يناسب أن تذكر أمام الجميع، أو تناقش بانفتاح أمام هذه المجموعات كلها. أيضاً: يحتاج هذا الموضوع لتوعية نفسية وصحية، ونحن وإن كنا قد أغنانا الله سبحانه وتعالى بنور القرآن ونور السنة وهدي السلف الصالح، لكننا في نفس الوقت نحتاج لتوعية نفسية وصحية في قضايا لا تكون كالقضايا التي نعتاد على دراستها في المسجد، لكننا نرجع فنذكر أنفسنا بأن المسجد طالما كان له دور شامل لجميع مقاصد الحياة، ويشمل كل مجالات الحياة، فلا حرج على الإطلاق إن شاء الله تعالى من تناول هذه الأشياء، من باب تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك)، كما أن هذه الأمور النافعة تفيدنا ديناً ودنيا، فلا حرج إن شاء الله تعالى من ذكرها. أيضاً مما يتخوف منه الإنسان: أن بعض الناس يسيء أحياناً فهم الكلام، وبالتالي تطبيق الإرشادات، لكن مع التفصيل والإيضاح نأمل تجاوز هذه المخاطر. ما دمنا نتكلم عن التربية فمحور هذه القضية هو أهم شريحتين في الأمة: الأطفال والشباب؛ لأنهما الطائفتان القابلتان للتربية والتوجيه، وكلما تقدم السن كلما كان الأمر أصعب.

بعض مظاهر الخلل في التربية

بعض مظاهر الخلل في التربية من المناسب أن نبدأ بإظهار بعض مظاهر الخلل، وموقفنا نحن من موضوع التربية.

إهمال التربية أو تبني التربية المخالفة للإسلام

إهمال التربية أو تبني التربية المخالفة للإسلام إذا قلت لشخص: ما هذا؟ فقال: لا أدري، فهذا جهل، لكن لو قلت لآخر عن كوب: ما هذا؟ فقال: هذا كتاب، فقد أخطأ، فهو لا يعرف الكتاب من الكوب، فالخطأ في العلم نوع من الجهل، وقد يكون أخطر من الجهل العادي الذي يعني انعدام العلم. أقصد بذلك أن عندنا بعض الناس لا يخطر الموضوع لهم على بال، والبعض الآخر يتبنى مناهج تربوية خاطئة؛ لأنها مصادمة للمنهج الإسلامي الصحيح والسوي، فهذا أيضاً نوع من المرض والانحراف ينبغي أن يعالج، وأن تقتلع المفاهيم المنحرفة؛ لأنها لا تخرج عن حيز الجهل؛ لأنها مناهج خاطئة تصادم المنهج الصحيح. نحن أقسام: إما أن بعضنا غافل تماماً عن شيء يسمى تربية، فيمارس نوعاً من اللامبالاة، والموضوع لا يخطر له على بال، وكل نظره يتجه إلى نمو الطفل: أنه الآن يحبو الآن بدأ يتكلم الآن كذا وكذا مضغة لحم تنمو وتكبر ويتلهى بها، ويغفل أنواعاً أخرى من النمو ينبغي أن يعتنى بها، وأن يعطى الطفل احتياجاته فيها. فالوعي التربوي لدى أغلب الناس وعي منخفض جداً حتى عند المثقفين منهم، فالتربية لا تأخذ عندهم مأخذاً جاداً كعلم يكتسب، ومهارة تحتاج إلى تدريس، وإنما ينظر إليها أغلب الناس على أنها شيء تلقائي يدركه الفرد بإحساسه العفوي، فإن أراد الاجتهاد فإنه يضيف شيئاً من خبراته المكتسبة وراثياً عن طريق ما تعلمه من الآباء. وغالبية الناس يجهلون كيف يتعاملون بالأسلوب السليم مع أولادهم في هذا العصر الذي صعبت فيه التربية جداً؛ لأنه عصر يكتظ بالمتناقضات، وتتزاحم فيه الأضداد، وأصبح الإنسان تتنازعه جوانب عدة واتجاهات مختلفة؛ فلا يجد الفتى أو الفتاة سوى التخبط والضياع عندما لا يكون هناك من هو كفؤ لقيادته إلى الطريق الصحيح في هذا الخضم المتلاطم من الأفكار والنزعات.

الحديث عن التربية من أبراج عالية لا تناسب بسطاء العقول

الحديث عن التربية من أبراج عالية لا تناسب بسطاء العقول بعض الناس يتكلمون كثيراً عن التربية لكنهم يتكلمون من برج عاجي، أو دراسات أكاديمية معقدة لا يفقهها إلا من كان على هذا المستوى الأكاديمي، وكما نلاحظ في الدراسات المتخصصة فإنها لا تعطينا وجبة سهلة قابلة للتطبيق، لأن كل الكلام على مستوى أكاديمي يناسب المتخصصين ويستغلق على الإنسان العادي، وربما عقدت بعض المؤتمرات لمناقشة بعض المشكلات، وقد حضرت مرة مؤتمراً يناقش مشاكل المراهقين، وتطرق أساتذة كبار في كلية الطب إلى هذه المشاكل؛ فوجدت أن الكلام كله يدور في إطار مشاكل طبقة المترفين، وفيه تفاصيل لا تمت للأغلبية من الناس بصلة. أيضاً بعض الناس افتتن بالمنهج التربوي الغربي وأراد إسقاطه عشوائياً على بيئتنا، وهذا كقصة المثل الذي يحكي أنه كان هناك سمكة جرفها السيل، وأخذ يدفعها أمامه، وهناك قرد أراد أن ينقذ هذه السمكة، فأخرجها من الماء حتى ينقذها، نحن إذا تم التعامل معنا على أساس ثقافة غير ثقافتنا ومذهب غير ديننا فإن هذا لا يناسبنا؛ لأن صلاحنا لا يكون إلا بما صلح به أمر أول هذه الأمة. وبعض الناس يرون التربية الحسنة، في أن يوفر الأب لأولاده أحسن ملبس وأحسن مأكل، ووسائل الترفيه، والبعض يسلك مسلك التربية القاسية المتسلطة، حتى إن منا من يستحسن ذلك حين يحكي عن شخص أنه حين ينظر لابنه بعينيه فإن الولد يرتجف، فينظر إلى هذا الأب على أنه مرب جيد، وأن هذا الولد متربٍ، وعلى الجهة الأخرى نجد التدليل المفرط الذي يدمر الأطفال ويسيء إليهم.

تطبيق طريقة الآباء الخاطئة في التربية أو إيكالها إلى الخادمات

تطبيق طريقة الآباء الخاطئة في التربية أو إيكالها إلى الخادمات من مظاهر الخلل في هذه التربية أيضاً: اعتزاز بعض الناس -إلى حد التقديس- بالطريقة التي ربي هو بها منذ صغره ويعتبرها جزءاًً من كيانه لا يستطيع أن يتخلص عنه، وبالتالي يريد أن يحاكي هذه الطريقة ولا يخضعها أبداً للنقد أو التمحيص أو النقاش أو إعادة النظر فيها. أما مشاكل المترفين: فهم يتركون زمام التربية لغيرهم، كحال الخادمات، فقد أصبحن في هذا الوقت ظاهرة جديدة، حيث يستقدمن من شرق آسيا كافرات لا يعرفن العربية، ويسلطن على الأطفال لتربيتهم، وهذه مصيبة ما بعدها مصيبة؛ لأن لهؤلاء الخادمات دوراً مدمراً لهوية الأطفال الإسلامية.

ندرة وجود المعلم التربوي

ندرة وجود المعلم التربوي من هذا أيضاً: تسليم زمام التربية لمعلمات غير تربويات، ولا حظ لهن على الإطلاق في التربية، فنجد بعض المسالك من المعلمة التي لا تعرف شيئاً في التربية؛ لأن هناك فرقاً بين التربية وبين التعليم، فالتعليم جزء من التربية، كما يقول المثل الصيني: إذا أتاك مسكين من أجل أن تتصدق عليه فأن تعطيه شبكة وتعلمه كيف يصطاد السمك أفضل من أن تتصدق عليه بسمكة. فالمدرس الذي يدرس الرياضيات قد يحل لهم المسألة بسهولة، وهو في هذه الحالة ليس معلماً فقط لكنه يكون مربياً إذا علم التلميذ أو الطالب كيف يفكر ويحلها، وكيف يستقل بالإبداع في هذه المجالات؛ فالتربية أعم من التعليم، فقد يوجد معلم لكنه لا يكون مربياً كما لاحظنا، والأمثلة مؤلمة جداً.

تسليم زمام التربية لوسائل الإعلام المفسدة

تسليم زمام التربية لوسائل الإعلام المفسدة الآن ينتزع زمام التربية ويعطى لوسائل الإعلام التي تدمر الأبناء تدميراً، وفي مقدمتها التلفاز بسلوكه الخطير على نفسية الأطفال بإجماع جميع العقلاء في كل العالم، وفي أمريكا يوجد اقتراح لمنع الفساد عبر أجهزة التلفزيون والفيديو وغيرها، فانضم لهذه الحملة رئيس أمريكا وطالب الناس أن ينضموا ليطالبوا الوسائل التلفزيونية بالحد من النشاط الإجرامي الذي يفسد الأطفال. هذا وهم كفار غير مسلمين، فما بالك بالمسلمين، فلا نشك أن التربية الموازية والمضادة للتربية الإسلامية التي تسلط على الأطفال صباح مساء تصعب المهمة جداً في واقعنا الذي نعيشه.

أهمية التربية المبكرة

أهمية التربية المبكرة من المناسب أن نبدأ بإظهار بعض مظاهر الخلل، وموقفنا نحن من موضوع التربية.

تحذير الشريعة من إهمال التربية

تحذير الشريعة من إهمال التربية إن العملية التربوية عملية في غاية الخطورة، ويكفي أن الخلل فيها يؤدي بنا وبأهلينا وأولادنا إلى النار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] إلى آخر الآية. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، أي أنه واقف أمام الله، وسوف يسأله الله، فاسم مسئول من سأل، فسوف يسأل ويحاسب ويعاقب إن قصر، ويثاب إن أحسن. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته). فلا تظنوا أن عملية التربية نوع من الكماليات أو الرفاهية، أو نوع من الترف العلمي أو الثقافي بل هي مسئولية في غاية الخطورة، (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهله بيته) فسوف تسأل وتحاسب بين يدي الله سبحانه وتعالى عن سلوكك مع أولادك وتربيتك إياهم. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، يعني: لا إثم أعظم من ذلك. فمن القصور أن نتصور أن التضييع إنما يكون بالنفقة، لأن التضييع يكون بأمور هي أخطر من النفقة؛ سواء تركه مع صحبة سيئة، أو توفير أجهزة الفساد له بسهولة، أو سلوك مسالك مدمرة لنفسيته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فلابد من إتقان التربية وإحسانها، والاستعانة في ذلك بالله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].

كلام الغزالي على أهمية التربية المبكرة

كلام الغزالي على أهمية التربية المبكرة يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش؛ أي أنه مثل العجينة الطرية يمكنك أن تشكله كما تشاء بإذن الله، فإذا أحسنت تشكيله خرج لك قرة عين، وخرجت لك ذرية صالحة، أما إذا أهملتها فهذا ما يبينه الغزالي فيقول: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعُلِّمَه نشأ عليه؛ فسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فالشر طارئ لكن الفطرة البشرية سليمة وقابلة للخير، وإلى هذا أشار أبو العلاء بقوله: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحجىً ولكن يعلمه التدين أقربوه فالنبي صلى الله عليه وسلم حمل الوالدين مسئولية تربية الأبناء؛ لأن بعض الآباء قد تحصل ظروف معينة في أسرته تجعله يقرر أن يهرب من هذه المسئولية، فيكون مثله كمثل ربان السفينة في وسط البحر إذا غضب من بعض البحارة فترك لهم المركب، وأخذ قارباً ولن يستطيع القيادة إلا هو، وقد يكون الأمر أخطر لو تخيلنا أنه قائد الطائرة وينزل بالمظلة، فهل يخلو مثل هذا من المسئولية بضياع هذه الأسرة وهؤلاء الأولاد؟ لا. بل سوف يحاسبه الله عز وجل، ويكون حسابه أشد إذا كان سلبياً أو فرر من مواجهة هذه المسئولية.

حث الشريعة على حقوق الأبناء والاهتمام بتربيتهم

حث الشريعة على حقوق الأبناء والاهتمام بتربيتهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، إلى آخر الحديث. ويروى في بعض الآثار: أن داود عليه السلام قال: إلهي كن لبني كما كنت لي، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! قل لابنك يكن لي كما كنت لي، أكن له كما كنت لك. يقول الغزالي في رسالته: أيها الوالد! إن معنى التربية يلزم عمل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحصل نباته ويكمل ريعه. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده. أي: فكما أن للأب على ابنه حق فللابن على أبيه حقاً، كما قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]. وقال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. وقال علي بن أبي طالب في تفسيرها: علموهم وأدبوهم. وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم). وقال الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]. فإذاً وصية الله سبحانه وتعالى للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، والدليل من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31]، فهنا وصية لاحترام هذه الروح، وهذه النفس، وهي نفس الأولاد قبل أن يصبح هذا الطفل مكلفاً ببر والديه، ومنذ أن كان جنيناً نفحت فيه الروح والله سبحانه وتعالى يشرع له من الحقوق ما يحمي له حياته ويصونها، ويجعل لها حرمة، والأحكام في ذلك كثيرة كما سنشير إن شاء الله تعالى. يقول ابن القيم: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى؛ فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه؛ فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت! إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً. ويقول سعيد بن العاص: إذا علمت ولدي القرآن وحججته وزوجته فقد قضيت حقه، وبقي حقي عليه.

غفلة الآباء عن التربية المبكرة للأبناء

غفلة الآباء عن التربية المبكرة للأبناء تربية الأولاد تبدأ مبكرة جداً عما نتخيل؛ لأن أغلب الناس تنظر إلى الطفل من ناحية نموه الجسدي، وكثير من الناس يستصحب موقفه هذا مع الطفل الصغير منذ أن يحبو حتى يكبر وهو ما زال ينظر إليه بهذه النظرة. والإسلام في الحقيقة نبه إلى موضوع التربية، وبعض الناس لا يلتفت لها إلا بعدما يكبر الولد ويتعدى الثانية عشرة من عمره، وهذه خسارة ما بعدها خسارة؛ لأن نفسية الطفل وشخصيته تتشكل وتوضع البذرة الأولى لها في الخمس السنوات الأولى، فهذه أخطر مرحلة تشكل كل مستقبل الطفل فيما بعد ذلك، والله تعالى أعلم. وهذه المرحلة حقها أن تحظى بأكبر قدر من العناية، لكنها تحظى بأكبر قدر من اللامبالاة، واللامبالاة لا تساوي عدم التربية، بل تساوي تربية خاطئة، فاللامبالاة في حد ذاتها إساءة.

بداية التربية من اختيار الأم الصالحة

بداية التربية من اختيار الأم الصالحة لا ينظر للتربية على أنها تبدأ عندما يكلف الطفل، فهذا غير صحيح، ولن أقول: إنها تبدأ من ساعة خروجه من بطن أمه، لكنها تبدأ من حين اختيار الأب لزوجته؛ هذه هي البداية الصحيحة، أي: أن حق الأولاد يتقرر في عنقك منذ اختيار أمهم؛ لأن هذا الاختيار يكون له أعظم الأثر فيما بعد على الأولاد، وهذا موضوع في غاية الأهمية، لكننا سنختزله ونذكر أهم ما فيه، فأقول: إن من المهم اختيار الأبوين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نبهنا إلى كلا الأمرين حينما قال في الرجل: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، وقال في المرأة: (فاظفر بذات الدين تربت يداك). فإذاً من حق الولد إحسان اختيار أمه حينما يريد أباه أن يتزوج، ولا خير ولا أحسن من المرأة الصالحة كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: إن البيت قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولابد أن تكون قلعته متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، كل فرد منها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وإلا تكن كذلك سهل اقتحام العسكر من داخل قلاعه؛ فلا يصعب على طارق، ولا يستعصي على مهاجم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم؛ فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم).

أهمية حنان الأم في تربية الطفل وتميز نساء قريش بذلك

أهمية حنان الأم في تربية الطفل وتميز نساء قريش بذلك حينما امتدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم نساء قريش قال: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش) يعني: الصالحات المتدينات من نساء قريش، ثم ذكر المؤهلات اللاتي استحققن بها هذا الثناء من النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)، فهن أكثر الناس حناناً على أولادهن، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ لأن الطفل يحتاج إلى الحنان حاجة ماسة، ومع كل وجبة إرضاع ينبغي أن تقدم الأم للطفل وجبة حنان وحب وعطف، وكل هذه الأمور من الاحتياجات الأساسية للطفل. الطفل ينمو، وكما ينمو في جسمه تنمو روحه وعاطفته وإدراكاته، فمما يحتاج إليه الطفل باستمرار: وجبة الحنان، وإلا سهل جداً الإرضاع. فقد تقوم به الزجاجة، أو الخادمة، لكن المرأة التي ترضع ولدها يشتد الالتصاق بينها وبينه، ووجودها أساسي جداً في الإشباع العاطفي والوجداني الذي ينعكس انعكاساً كبيراً عليه، لذا فإن أخطر السنوات في تشكيل شخصية الطفل هي السنوات الخمس الأولى، ثم يليها الثلاث السنوات التالية، فينبغي أن يهتم بتربيته وقتها أشد الاهتمام. إن الأم التي إذا أرادت أن ترضع ولدها تصرخ فيه، وترضعه بطريقة ميكانيكية آلية قد حرمته من وجبة الحنان، وهي تظن أنه قطعة لحم لا يحس بشيء، ونحن نقول: إن الطفل يحس بكل شيء، يحس بأمه وهو في بطنها، فيحس بها إذا كانت سعيدة أو كئيبة، ولذلك فإن الأم أثناء فترة الحمل محتاجة إلى توجيهات كثيرة جداً؛ لأنها تختزل فترة من فترات تربية الطفل عن طريق أنها تكلمه وتقوم بعمل حركات معينة على بطنها بحيث يألفها ويحفظ صوتها، وربما سمعتم أن بعض الأمهات الفاضلات كانت دائماً تسمع القرآن الكريم، والطفل في بطنها، فسرعان ما حفظ القرآن مبكراً جداً؛ وذلك لأن الطفل ليس في غفلة، بل يحس بأشياء كثيرة نتغافل عنها، ونحقر من إمكاناته، والحقيقة غير ذلك تماماً. الشاهد: أن هذا وسام وشرف وضعه النبي عليه الصلاة والسلام على نساء قريش، وكافأهن بهذا المديح العظيم على لسانه صلى الله عليه وسلم وذلك لسببين. أحدهما: (أحناه على ولد في صغره)، وهذا فيه لفت نظر إلى أهمية الحنان، والأطباء أو الأخصائيون النفسيون حينما يدرسون حالة من حالات الانحراف عند المريض يكون هناك سؤال أساسي جداً: هل الرضاعة تمت في صغرك بطريقة طبيعية أم بطريقة صناعية؟ لأنه لو حرم من الرضاع فسوف ينعكس هذا على نفسه، وهذا نوع من الحرمان. ثم الفطام: كيف فطمت من الرضاع؟ وأغلب الناس لا يتذكر؛ لكن لو أمكن اجترار هذه المعلومات من الأقارب أو الأم فإنها تكون مفيدة. فالأزمات النفسية توضع جذورها في السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل، ثم بعد ذلك تليها في الأهمية مرحلة أخرى تستمر إلى ثمان سنين، ثم تنتهي تقريباً عند سن الثامنة عشرة، إلى هنا تكون كل مقومات الشخصية قد تكونت لديه، وما يستقبل فهو انعكاس لما مضى في خلال هذه الفترة، والتجارب التي مر بها، والأسلوب الذي ربي به. هذه لفتة عابرة لخطورة العملية التربوية.

تربية الطفل النفسية من وجهة نظر إسلامية

تربية الطفل النفسية من وجهة نظر إسلامية بعض الباحثين وهو طبيب نفسي له كتاب اسمه (تربية الطفل رؤية نفسية إسلامية) كتب كلاماً جيداً في موضوع الأولاد، يقول فيه: من أجل ذرية صالحة لابد للزوج من زوجة صالحة، ولابد للزوجة من زوج صالح، هو يظفر بذات الدين، وهي تتزوج ممن ترضى دينه وخلقه، لكن بعد هذه المرحلة تأتي أهمية وضوح الغاية من أن يكون عندنا أولاد، وبصورة أخرى: ما هي النية من وراء إنجاب الأولاد؟ هل ننجب الأولاد ونتعب في تربيتهم السنين الطويلة حتى يكونوا لنا عوناً عندما نبلغ الشيخوخة؟ ربما كنا مرحومين فكان أولادنا بارين بنا، وعوناً لنا عندما نحتاج إليهم، لكن قد لا يكونون كذلك؛ فيذهب جهد السنين في العناية بهم بلا مقابل. وقد نربي الولد السنين الطويلة، ثم يموت أو يبتلى بعاهة وإعاقة دائمة، وقد وقد كل ذلك يجعل الإنجاب والتربية كوسيلة تأمين ضد الشيخوخة مشروعاً أقرب إلى الخسارة منه إلى الربح، وقد ينجب الأولاد لأنهم مثل الأموال زينة في هذه الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، والنفس البشرية تحب امتلاك الزينة، لكن العاقل الذي يدرك مدى المسئولية في ذلك، ومدى العبء الذي يحمله الأبوان في تربية أولادهما، فقد لا تعجبه هذه الزينة؛ لأنها باهظة التكاليف. وقد ننجب لنجبر كسر زواج على حافة الطلاق، ولكن زواجاً محطماً لا يستحق العناء الذي يتطلبه الأولاد، والأولاد قد يزيدون الأمور سوءاً، وقد يعجل ذلك بالطلاق ولا يؤجل. بقي أن ننظر إلى أولادنا على أنهم مشروع رابح، يقول: إن تربية الأولاد ينبغي أن تكون النية والهدف من وراء تربية الأولاد لله، فيقول: إن ما كان لغير الله ينقطع وينفصل، وما كان لله فإنه يدوم ويتصل، فإن أردت بالأولاد مالاً ربما خانوك وضيعوك، وإن أردت زينة فهي مكلفة، وإن أردت كذا إلى آخر هذه الاحتمالات. ثم قال: بقي أن ننظر إلى الأولاد على أنهم تجارة لن تبور، وذلك إذا اتبعنا فيها شرع الله سبحانه وتعالى، يقول: بقي أن ننظر إلى أولادنا على أنهم مشروع رابح لكسب الأجر والثواب، وارتفاع الدرجات عند الله، ولحفظ جهدنا من الضياع؛ لأن الجهد الذي نضيعه على أولادنا قاصدين بذلك تنشئتهم على الإيمان بالله وتوحيده وطاعته جهد باق لا يزول عندما تزول الجبال، ولا يختفي عندما تكور الشمس، أو تكشط السماء، أو تسجر البحار، إنه جهد أودع في إنسان، والإنسان ضمن الله له الخلود بعد أن يبعثه يوم القيامة إلى حياة لا موت بعدها، بينما تزول كل المعاني المادية العظيمة من حولنا، إلا تربية الأولاد. بهذه النية يكون لدينا مشروع لا احتمال للخسارة فيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك). وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بني؟ فقال: نعم. لك أجر ما أنفقت عليهم). أي أن هذا عن المال الذي تنفقه في تربية الأولاد لن يضيع سدى، بل تثاب عليه أعظم الثواب، فما بالنا بالجهد الدءوب والتعب وسهر الليالي بعد الحمل وهناً على وهن، أيعقل أن يكون أجر ذلك كله دون أجر المال الذي ينفقه الأب؟ هل ثواب الأم التي تعاني ما تعاني في تربية الطفل يكون دون ذلك؟ يقول تبارك وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]. وعندما يكبر أولادنا صالحين مؤمنين فيكون لنا -بإذن الله- من الأجر مثلما يكون لهم كلما صلوا صلاة أو صاموا صياماً، أو عملوا عملاً صالحاً ما عاشوا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، والولد من سعي أبيه، أي: أنك إذا ربيته على الطاعة فكل عمل صالح يفعله يكون لك مثل ثوابه، فإذا ذكر الله سبحانه وتعالى وأثيب على ذلك فأنت أيضاً لا تَقِلُّ عنه في شيء، وهكذا إذا صلى أو صام أو فعل أي شيء؛ لأنك أنت الذي تسببت فيه وجوده؛ فإنه لا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]؛ لأن من سعيه إنجاب وتربية هذا الولد. يقول: هذه الطمأنينة على أعمالنا أنها لن تضيع سواء أحسن إلينا أولادنا أو لم يحسنوا عندما يكبرون؛ تجعلنا نبذل ونربي بحماسة ورضا، وعندما نشعر أن أولادنا نعمة من الله لأنهم وسيلتنا إلى زيادة حسناتنا؛ فكم منا من له الجلد والمثابرة على الصلوات الكثيرة في جوف الليل، وكم منا من إذا صلى كانت صلاته كلها خشوع، وكم منا من له الصبر على صوم أكثر الأيام، إن أولادنا وسيلتنا لكسب الأجر العظيم الذي نعجز عن كسبه عن طريق النوافل الكثيرة صلاة وصوماً وصدقة وحجاً وذكراً، فبإخلاص النية لله يصبح سهر الأم على رعاية رضيعها عبادة، ويصبح عمل الأب في مصنعه أو متجره عبادة، والولد الذي يحفظه الله لنا فيعيش يكون مستودعاً يحفظ الله لنا فيه أعمالنا ليكافئنا عليها يوم القيامة، أما الذي يميته الله طفلاً فنصبر فإنه يقف على باب الجنة لا يدخلها حتى يدخل أبويه. أوليس تربية أولادنا على الإسلام تجارة لن تبور إن شاء الله؟ لابد من استغلال الفرص لتحقيق أكبر الأرباح. ثم يلفت النظر إلى أمر في غاية الأهمية، وهو: الدعاء بالصلاح للذرية، يقول الله سبحانه وتعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]. وقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:89 - 90]، إلى آخر الآية. يقول: نحن في حياتنا اليومية إذا أردنا شراء قطعة أثاث أو سيارة أو غير ذلك ذهبنا إلى السوق، وحصلنا على ما تمكننا نقودنا القليلة من شرائه، لكن الثري فينا لا يفعل ذلك، فممكن أن يتصل بشركة مرسيدس في ألمانيا ويطلب سيارة فيها كذا وكذا وكذا، ويدفع فيها الملايين؛ لأنه ثري يمكنه أن يبذل هذا المال ليحصل على سيارة حسب مواصفات معينة يرغب فيها، ثم ترسل إليه خصيصاً مقابل ثمنها. أما إذا أردنا ولداً بمواصفات معينة: أن يكون مقيماً للصلاة، صالحاً، قانتاً، خاشعاً، حتى لو أردنا شيئاً من الدنيا أيضاً، فما علينا إلا أن نرفع أيدينا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا ذلك، وأن نكثر من الدعاء سائلين الله أن يرزقنا ولداً صالحاً ذكياً سوياً جميلاً، والولد قد يكون صبياً وقد يكون بنتاً فندعوه عز وجل ويكون دعاؤنا من هذه الأسباب، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، فالدعاء يمكن أن تحصل به أغلى وأثمن الأشياء سواء في الدنيا أو الآخرة، ولا يكلفك سوى أن تخلص النية لله سبحانه وتعالى، ثم ترفع يديك متذللاً سائلاً، فهذا باب سهل جداً للمؤمن، ولذلك ذم النبي عليه الصلاة والسلام من يزهد في الدعاء بقوله: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما يمنع أحدكم أن يقول حين يجامع أهله: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا)، فهذا كله من الإحسان إلى الأطفال، فليس الدعاء وسيلة العاجز، إنما هو سبب من الأسباب التي يحب الله سبحانه وتعالى أن نأخذ بها، فنؤجر على الدعاء نفسه، ثم يتقبل الله سبحانه وتعالى منا هذا الدعاء. بعث بعض الخلفاء إلى بعض الناس ممن كانوا محبوسين في السجن وطال بهم المقام فيه، فأرسل إليهم وسألهم: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا، وكان السلف يهتمون جداً بموضوع التربية حتى وجدت وظيفة اسمها: المؤدب، وكان الإمام ابن أبي الدنيا يلقب بـ: مؤدب أولاد الخلفاء.

حضانة الأم التربوية

حضانة الأم التربوية مما يجسد خطورة التربية في المراحل الأولى: أن الله سبحانه وتعالى جعل الحضانة حقاً للأم، ورتب على الإرضاع أن جعل الأم من الرضاع تماماً كالأم الحقيقية: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، وقال عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). فموضوع مراعاة حق الطفل في رعاية أمه أمر في غاية الأهمية، وانفصال الطفل عن أمه، أو تقصيرها في هذا الأمر يجرنا إلى اليتيم، هل اليتيم هو من كان فقيراً أو من ليس معه مال؟ لا. اليتيم يمكن أن يكون غنياً لكنه يتيم؛ لأنه حرم من أبيه أو من أمه؛ فقد ييتم الآباء أبناءهم وهم على قيد الحياة، كما قال الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً ولا يمكن أن يقوم بديل عن الأم في هذه الوظيفة الخطيرة، فالشارع لما جعل حق الحضانة للأم ما قال: يمكن أن تقوم بها دور الحضانة أو الخادمة أو غير ذلك، فعملية هروب المرأة من وظيفتها المقدسة -تربية الأولاد- إلى العمل مصيبة، وأصل هذه العملية إقحامها في حياة المسلمين بطريقة متكلفة، وأصبحت تسمى المرأة: امرأة عاطلة وامرأة عاملة، فالعاطلة ربة بيت، والأخرى عاملة منتجة، أو نصف المجتمع إلى آخره، هذه هي المرأة العاملة التي تمارس هذه الوظيفة المقدسة وهي العاملة بالفعل لأشرف عمل، أما الأخرى فهي هاربة من الوظيفة، وهاربة من العمل إلى الشوارع والمصانع والمحلات إلى آخره. طبيب أمريكي كان كلما جاءته أم بطفل مريض يشتكي، يكتب في كل الإرشادات الخاصة به: العلاج هو العودة إلى الأم الحقيقية، وهذا كاف، فقد كان يرى أن المرض هو نتيجة عن هذا الخروج. وكما أشرت فإن الأم الحقيقية ليست عاطلة، ووظيفتها أصعب من أي موظف في العالم؛ لأن أي موظف يشتغل ثمان أو عشر أو خمس عشرة ساعة في اليوم أو فترة معينة ثم يستريح بعد ذلك، لكن الأم التي تحضن الأطفال وتراعيهم والزوج والأولاد والصغار والكبار، تشتغل أربعاً وعشرين ساعة، وممكن أن تستدعى بصراخ الرضيع في أي وقت، وقد تسهر معه إلى نصف الليل أو معظم الليل كي ترعاه وتحرسه، فهل هذه تسمى عاطلة؟! فموضوع إقحام قضية المرأة العاملة كان لغرض يراد بالمسلمين على يد اشتراكية عبد الناصر، وكان الكلام فيه متكلفاً، وضربوا له مثلاً فقالوا: مثل ذلك كمثل عامل يأتي في الليل بأنقاض بناية متهدمة ويضعها في الشارع فيسد الميدان بالأنقاض، ويرفع عليها مصباحاً، فيأتي من يسأله: لماذا أتيت بهذه الأنقاض؟ فيقول: لأرفع عليها المصباح، فيقال: ولماذا أتيت بالمصباح؟ فيقول: حتى لا يصطدم الناس بالأنقاض، وهذا مثل قضية عمل المرأة، فهي قضية متكلفة زرعت زرعاً وأقحمت إقحاماً لكي يتم إخراج المرأة من قلعتها الحصينة، ولشلها عن هذه الوظيفة المقدسة. قد يقول بعض الناس: نحن نكثر الكلام عن التربية وأهميتها، فهل درس السلف هذه العلوم؟ فنقول: السلف حققوا النموذج العملي الراقي في كل مجالات الحياة، وليس فقط في مجال التربية، لكن الأمر كما في علم النحو والصرف واللغة والبيان والبديع وغيرها، فهل السلف درسوا النحو والصرف وغيره؟ فنقول: لا، ومع ذلك كانوا أفصح الناس؛ لأن ذلك كان عندهم بالسليقة وبالاستعدادات الفطرية بجانب تهذيب الوحي الشريف لهم، كذلك التربية هم مارسوها بالفعل؛ لكن ضبط هذه الأشياء وتبسيطها وتقنينها لا يمكن أن يتصادم مع هذا.

مشاكل تواجه استمرار العملية التربوية للطفل

مشاكل تواجه استمرار العملية التربوية للطفل هذا مهم جداً ومما ينبغي أن نلتفت إليه، وهو: أن العملية التربوية هي عملية مستمرة ومتجددة، فلا يوجد وقت معين للتربية بل كل حياتك مع أولادك تربية كل سلوك وكلمة وحركة وسكنة وتعليق وإيماء وتصرف هو تربية، والطفل يقتبس منك ويتمثل كل ما يراه. فإذاً التربية هي علم له قواعد وأصول وله سنن تحكمه، فكل ما يحصل منك هو نموذج عملي يحتذيه الطفل، ويتأثر به طوال حياته، ولا يوجد وقت معين يقول الأب للأولاد: سنعطيكم حصة تربية أربيكم فيها، لا يحصل هذا، فكل تصرف منك هو تربية، فالتربية عملية تستمر آناء الليل وأطراف النهار، التربية عملية تفاعل وتأثر بالبيئة المحيطة، وسنذكر أمثلة لمدى خطورة التصرفات التي لا نتفطن إليها على الإطلاق.

نشوء الطفل على سلوك خاطئ

نشوء الطفل على سلوك خاطئ الطفل إذا نشأ في بيئة تحتقر المرأة وتزدريها وتستخف بها؛ فيرى أباه يضرب أمه ويشتمها ويسبها ويفعل بها كذا وكذا؛ فإن هذا يزرع في قلبه أن هذا هو الوضع الطبيعي للمرأة، ثم بعد ذلك يتقمص هذا السلوك حينما يصير زوجاً، ويكرر ما تشربه منذ الطفولة. طفل أمه تضربه بالحذاء، مؤكد أنه سيعيش إنساناً مهدر الكرامة، فكيف يكون عنده كرامة حينما يكبر؟ وكما قلنا: أخطر مرحلة هي السنوات الثمان الأولى، وبخاصة الخمس الأولى منها، ومع ذلك أغلبنا لا يلتفت إليها، ولا ينتبه لها. الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله تعالى أتاه رجل فقال له: قد رزقت بنتاً، وأريد أن تعلمني كيف أربيها، قال له: كم عمرها؟ قال: سنة، قال: فاتك الخطاب، هو في الحقيقة ما فاته، ولكن هذا تجسيد من رجل بصير بفن التربية؛ لخطورة إهمال التربية التي يجب أن تبذل للطفل في وقت مبكر.

إهمال الاضطرابات النفسية للطفل

إهمال الاضطرابات النفسية للطفل الوقاية من الاضطرابات النفسية أفضل من العلاج؛ لأن العلاج إما ميئوس منه، وإما نسبة النجاح فيه قليلة، وبالتالي فالوقاية تكون بأن ينشأ الطفل سوياً نفسياً من الصغر، وهذا أعظم أسلوب للتعامل مع الاضطرابات النفسية التي قد تحصل إذا حصل خلل في هذا الأمر. فنحن بدلاً من البحث عن حل للمشاكل عند الأطفال نفر من مواجهة ذلك، فمرة نقول: محسود، ومرة: مصروع عليه جن، أو مسحور؛ وهذا كله هروب. فنحن بجانب الأذكار الشرعية والرقية، نراجع أنفسنا ونقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في تربيته ومعاملته للأطفال؛ فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي أشار إليه الله سبحانه وتعالى في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، أي في كل مجال من مجالات الحياة فهو أب وابن وقائد وزعيم. وفي قصة الصحابي الذي أدبه النبي عليه الصلاة والسلام في أحد المواقف، فقال: (فوالله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو المعلم الأول، والنموذج الأكمل لكل البشرية. أكرر: أخطر مراحل التربية هي التي تحظى عندنا بأكبر قدر من اللامبالاة التربوية، وأكرر أيضاً: إن اللامبالاة لا تعني عدم التربية، لأنه لا يمكن أن تتوقف التربية، وسلبيتك في حد ذاتها أو هروبك هو نوع من التربية التي سوف تنعكس على هذا الطفل.

إخراج العلاج النفسي كعامل في العلاج التربوي

إخراج العلاج النفسي كعامل في العلاج التربوي إذاً: اللامبالاة لا تعني عدم تربية، أو توقفاً عن التربية، وإنما تساوي تربية سيئة مدمرة لهذا الطفل. تألمت جداً حينما كنت أقرأ بعض الأوراق في مقالة بالإنجليزية، وكان يتكلم هذا الرجل التربوي الأمريكي عن معالجة موقف معين من المواقف، فيقول: في هذه الحالة لا يوجد لهذا حل، فقد عملت خطأ جسيماً لا يكفي لحله أن نكتب كلمتين في ورقة، فإما أن تذهب إلى الأخصائي الاجتماعي في المدرسة، وإما إلى رجل من رجال الكنيسة. انظر كيف ساوى رجل الكنيسة بالأخصائي النفسي؛ لأن هؤلاء يهتمون جداً بدراسة النواحي النفسية، والثقافة التربوية، ولذلك ساوى بين رجل الدين وبين الأخصائي النفسي؛ لأنه يدرس هذه الأشياء. ولذلك أقول: إن كل من ينتمي إلى الدعوة بل كل أب، يحتاج إلى أن يفقه في الجانب النفسي في التربية أعظم الفقه، ونحن أولى من الكفار بأن نهتم بهذه الأشياء، بل أحياناً تحدث بعض التصرفات التي تلفت النظر في الأطفال، وكلما انتبهنا إليها مبكراً سهل علاجها. نحن ننكر الحقيقة كي لا نواجهها، كشخص عنده أعراض مرض السكر، والدكتور يقول له: أنا أشعر أن عندك سكراً، فعليك بإجراء تحليل للدم، فلم يجر التحليل، ويقول: أنا خائف أن يكون عندي سكر، وهل هذا سيقطع عنك البلاء؟ لماذا لا تأخذ بالأسباب، وتحرص على ما ينفعك؟ ومفهومه: اجتنب ما يضرك. فالشاهد أنا عندنا مفهوماً في غاية الخطورة، وهو النظر إلى الطب النفسي على أنه وصمة عار، فمن ذهب للأخصائي النفسي لابد أن يختفي عن الأنظار، ويظن من يراه هناك بأنه مجنون. ومن علامات تخلف المجتمعات في هذا العصر، ينظر أن الإنسان هذه النظرة لأناس أفنوا أعمارهم في دراسة هذه الأشياء، والتعامل معها بأساليب علمية لا تتصادم مع ديننا على الإطلاق. لكن ينبغي أن يذهب الإنسان إلى من هو متدين من هؤلاء الأخصائيين لأننا نظل نتهرب ونتهرب، ونضطر بعد ذلك مرغمين إلى اللجوء للطبيب النفسي بعد استفحال الاضطراب في الأطفال، فأي شيء يلفت النظر، ونحن لسنا بغنى عن الاسترشاد بكلام الأخصائيين في هذه الأبواب. في الحقيقة إذا كان هذا الكلام يعم جميع الناس، فإن المسئولية على الملتزمين مضاعفة، فموضوع التكيف مع الواقع أو مع البيئة من حولنا مهم جداً، والناس الذين لا تهمهم معاناة أبنائهم لا يعانون كثيراً، ولكن الإخوة الذين يريدون أن يحافظوا على دينهم وعلى ذريتهم في عصر الغربة الثانية تتضاعف عليهم المسئولية؛ لأنك ستحارب بمجرد خروجك من البيت إلى الشارع، وفي كل مكان تذهب إليه، فما بالك بالطفل أو الصبي أو الشاب الغض الطري الذي يواجه المتناقضات حيثما حل، ويواجه الغربة، فأنت مع الوقت أصبح عندك مناعة من التأثر بالنقد والألفاظ المؤثرة كالمتطرفين والإرهابيين وكذا وكذا، أما هذا الطفل فيحتاج بلا شك إلى عناية خاصة كي يمر بسلام إلى شاطئ الالتزام الحقيقي بالدين، فنحن نواجه كما قلت: صعوبات كثيرة في الواقع، أما الدارسات التربوية والمنهج التربوي فإن الكلام كله أكاديمي لأناس متخصصين، فلا نستطيع أن نتعامل معه.

انشغال الآباء بالكسب عن التربية

انشغال الآباء بالكسب عن التربية هذه مشكلة أخرى، وهي أن الآباء يشتغلون بالكسب الحلال للقمة العيش، وبالتالي لا يؤدون أي واجب تربوي، والأم قد تعمل وتهمل أولادها، وكلا الأبوين أو أحدهما جاهل تماماً بأصول التربية، وفاقد الشيء لا يعطيه. وأخطر هذه العقبات وجود اتجاهات شتى تتنازع تربية الطفل وتربيه تربية مباينة، وكل ما تبنيه أنت يهدمه الآلاف، ثم نعاتب أنفسنا حينما يشب الأولاد غير ملتزمين، ونريد أن نقهرهم قهراً على الالتزام، ونحن لم نلتفت للخطورة من البداية. ولو أنك بدأت بداية صحيحة، وكنت يقظاً وراعياً، فإن هذا إن شاء الله تعالى يكون سبباً لسلامة ابنك من الافتتان بهذه الفتن من حوله، لكن أنت لا تؤدي أي دور، بل ربما تحطم هذا الولد بمسالك خاطئة، ثم بعد ذلك تريد منه أن يصمد! كيف يصمد وأنت لم تبذل له ما يقيه ويحميه من هذه التربية الموازية التي هي أشد تأثيراً فيه من تأثيرك أنت؟ سواء الإعلام الفاسد، أو الأقارب وغير ذلك مما يوجد تعارضاً بين تربية الأبوين وتربية الإعلام مثلاً.

الرسائل المتضادة من البيئة المحيطة

الرسائل المتضادة من البيئة المحيطة الصراع الذي يحس به هذا الإنسان؛ صراع في البيت، مع أن المفروض أن جميع المؤسسات التربوية في الدول المحترمة تكون وحدة متكاملة، كالمدرسة مع البيت، وفي البيت نفسه لابد من سياسة تربوية موحدة بين الأبوين، فلا يظهران الخلاف أمام الأولاد، ولا التناقض في التربية. فالواقع أننا نرى كل محضن يسير في طريق معاكس للآخر؛ فالمدرسة بمناهجها الفاسدة المدمرة في طريق، والعلوم الإسلامية في طريق، والإعلام في طريق الشهوات، والتعليم في طريق الشبهات، والأبوان لا توجد عندهما سياسة تربوية متفق عليها، بل قد نجد أن الأب يتعارض مع الأم، الأم تقول: افعل، والأب يقول: لا تفعل، ويتشاجران أمام الولد، ويصير محتاراً في هذه الرسائل المزدوجة، ثم إن الأم نفسها قد تقول له عن شيء: هذا غلط، ثم في وقت آخر تمارسه هي، فأصبح نفس المربي يعطي رسائل متضادة وقدوة متناقضة تحير هذا الابن. في المدرسة أيضاً ما بين المناهج المدمرة والفاسدة، وما بين هيئة التدريس؛ فيوجد تقصير شديد عند كثير من المدرسين من ناحية الاهتمام بالنواحي التربوية، ويكفي أن أذكر مثلاً عابراً لذلك: مراقب في لجنة امتحان الثانوية العامة يغشش الأولاد ويقول لهم: أنا سأقفل لكم الباب، لتتعاونوا مع بعض، وسوف أنبهكم عند حضور أحد، فهذا في حد ذاته نموذج مدمر للسلوك. ثم أيضاً التناقض بين ما توجهه أنت إن كنت توجهه وبين الأصدقاء في الشارع أو النادي أو المدرسة، وهؤلاء يكونون أشد تأثيراً عليه منك، ويتلقن منهم أكثر مما يتلقن منك أنت والمجتمع ككل، فلا شك أن الصراع الذي نعيش فيه يولد كثيراً من الإحباط إذا لم نتخذ معه نوعاً من التوعية والفهم، وكيف نتكيف تكيفاً صحيحاً يحفظ لنا ديننا، ويجعل الأولاد يقتنعون بالرسالة التي نحملها كي يحملوها هم من بعدنا؟ إن لم ندرس هذا الأمر ونتعامل معه بطريقة علمية، فبلا شك أن هذا الصبي أو هذا الشاب يكون أضعف بكثير من أن يصمد أمام هذه التيارات كلها.

أمثلة تطبيقية لسوء معاملة الطفل تربويا

أمثلة تطبيقية لسوء معاملة الطفل تربوياً البيت هو أخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق، صحيح أن الكل يدمر، لكن تربية البيت هي أخطر ما تكون؛ للأسباب التي أشرنا إليها من قبل. أكبر الأخطاء التي نرتكبها مع أولادنا وأطفالنا تنشأ عن شيء مهم جداً، وهو أننا ننظر إلى الأولاد ونعاملهم ونحاكمهم بعقليتنا نحن. وهذا التصور ينتج عنه كثير من الأخطار، منها أننا نكلفه بشيء فوق طاقته، والصواب أن نعامل ونحاسب هذا الطفل على تصرفاته بعقليته هو، ونراعي أنه ينمو كما كنت أنت تماماً في سنه. مثلاً: الولد في سن معينة يكون له خيال واسع جداً، فيقول لك: أخي رقبته طارت، وطلعت الرأس ونزلت، والتحمت ثانية في الجسم. هذه عبارة عن خيال واسع وليست كذباً، فلا تقل: إنه يكذب، وهو لا يتعمد هذا؛ بل هو نوع من الخيال الواسع، كما سنفصل إن شاء الله تعالى فيما بعد. مثلاً: طفل نشاطه زائد عن المعتاد بصورة ملفتة للنظر، لا تقل: هذا الطفل قليل الأدب، أو أهله لم يربوه، بل عليك أن تعلم أن هذا يلفت النظر إلى أنه يحتاج إلى إرشاد وتوجيه للأبوين للبحث وراء أسباب هذه الظاهرة، أما الولد فليس له ذنب، وإنما هو ضحية لمسالك غير صحيحة من الأبوين، فلا تعاتب الأبوين ولا تعاتب الطفل، واحمد الله على أن عافاك، لأن هذا البلاء قد يأتيك أنت، ففي هذه الحالة لا تقل: هذا قليل أدب بل هو يتفاعل مع ظروف معينة تواجد فيها بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب. من هذه الأشياء: كل كلمة تتكلم بها مع الطفل، فأنت تطبع فيه انطباعاً معيناً، سواء شعرت أم لم تشعر، فأحياناً نكون نحن من نمسك الفئوس ونحطم بها أولادنا، وكما قلت: السنوات الأولى بالذات يكتسب فيها الانطباع الذي يبقى معه -والله تعالى أعلم- إلى ما شاء الله، وإلى أن يكبر ويصير رجلاً.

أمثلة على غرس العجز والخذلان والسلبية في نفس الطفل

أمثلة على غرس العجز والخذلان والسلبية في نفس الطفل ذكر بعض الباحثين في هذا المجال مثالاً فقال: ولد تصطحبه أمه في سوبر ماركت أو محل البقالة، ويسلك سلوكاً غير صحيح بطريقة معينة، أو يصرخ أو يعمل أي نوع من السلوك الغير مرضي، فتقول له أمه: إذا لم تتوقف عن ذلك سوف أتركك. وفي موقف آخر: ولد أمه عملت له شيئاً أعجبه (كيكة)، ثم أكلها كلها، فتقول له: من المفروض أن تخجل من نفسك لهذه الفعلة! في الحالة الأولى أو الثانية كلاهما تريد السيطرة على سلوك الولد وتقويمه وتهذيبه، وهي تظن أنها تؤدي رسالة التوجيه والتربية، لكنهما قد أحدثا جرحاً نفسياً لم تكن آلته السكين ولا الموس، وإنما كانت الكلمات. الكلمات التي نتواصل ونتعامل بها مع الأولاد حرجة إلى أقصى حد، وذات تأثير بالغ على نظرته إلى نفسه وثقته بها، وعلى صحته العاطفية، وقوته الشخصية، فهناك رابطة لا يمكن أن ننكرها بين الكلمات التي نستعملها مع الأولاد وبين المواقف والنواتج التي تحدثها تلك الكلمات في حياتهم، فالكلمة قد تدعمه وتقويه، وقد تحطمه وتجرحه قد تربيه، وقد تشعره بالعار قد تشجعه، وقد تثبطه قد ترفعه، وقد تضعه فلا يوجد أب على الإطلاق يستيقظ الصباح، ثم يفكر كيف يتآمر على أولاده: كيف أستطيع أن أحطم نفسية ابني، وأطيح بثقته أرضاً، وأجعله يشعر بالتبعية لي والاعتماد علي، وأفقده القدرة على ضبط نفسه. لا يمكن أن يقصد ذلك أب أو يسعى له مسبقاً، وإنما يفعله بعض الآباء غالباً وبدون قصد؛ لأنهم لا يفهمون الانطباع الكلي الذي تطبعه كلماتهم في أبنائهم.

المثال الأول على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبيا

المثال الأول على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً المثال الأول: إذا لم تتوقف عن هذا الضجيج سوف أمضي وأتركك هنا. هذه كلمة عابرة جداً. أما التخويف بالغيلان والجن فهذا كلام الآباء الإرهابيين. والطفل الصغير أخوف ما يخافه، وأسوأ شيء يؤثر على نفسيته: أن يترك وحيداً غير آمن، وإحساس الطفل بالأمان ليس محل نقاش، فالمصيبة التي يفعلها بعض الآباء الجهلة: أنه يطرد الولد من البيت، وهذا شيء عجيب جداً، والمصيبة الأكبر: أنه لم يطرده بسبب سرقة أو كذا أو كذا، وإنما يهدد ابنه بالطرد من البيت، أو بأنه سوف يطلق أمه أو غير هذه المسالك المدمرة؛ من أجل أن يفرض رأيه عليه، ولما كان فاسداً وغير ملتزم ما كان يبالي بما يفعل من صلاح أو فساد، لكن لما التزم بدين الله سبحانه وتعالى إذا به تأتيه هذه الأشياء. الشاهد: أن تهديد الطفل بالعزف على وتر: سوف أتركك وأذهب، يعتبر وسيلة للتلاعب بهذا الطفل، ودفعه إلى السلوك الذي نحن نريده بهذه الطريقة نية حسنة، لكن الوسيلة التي وصلنا إليها تدل على أن هذا الأب في غاية الجهل والأذية لابنه. ما البديل؟ نحن نريد أن يقوم سلوكه، لا تقل له: يا فلان إذا أصررت على هذا السلوك فسأتركك، ولكن قل له: إذا أصررت فسوف نعود إلى البيت، لكن إذا اخترت أنك تتكلم بصورة سليمة وطبيعية سنبقى هنا، ونكمل الشراء، وأنت الذي تقرر! هذا هو المسلك الصحيح. والفرق بينهما: أن الطريقة الأولى تدمره؛ لأنها تشعره بعدم الأمان، لكن السلوك الصحيح هو أن تناديه باسمه: يا فلان! إذا أصررت على هذا التصرف سنرجع إلى البيت كلنا، ولكن إن تراجعت عن هذا فلن نرجع، وسنكمل شراء الحاجيات. فبهذه الطريقة أنت تقوده إلى الاختيار، ولأنه يريد الشوكلاته واللعبة سوف ينصاع لكلامك. بديل آخر: أن تتوقف وتستريح؛ لأن ربما كل واحد منكم يحتاج إلى هذه الراحة.

المثال الثاني على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبيا

المثال الثاني على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً المثال الثاني: الولد أخطأ وأتى ليعترف، فتقول له: أنت المفروض تخجل من نفسك، وأيضاً أتيت لتخبرني. فهذه النوعية من الكلام تخلق فيه الشعور بالذنب؛ لأنك تظن أنه لم يشعر بالذنب وسيخجل ويتوقف عن هذا السلوك. صحيح هذا المسلك قد ينفذ لنا الغاية التي نريدها، وهي إشعاره بالذنب حتى لا يكرر هذا السلوك، ولكن الذي يدفع الثمن هو أنه تترسخ فيه اعتقادات جوهرية تزرع في نفسه عن طريق هذه الكلمة: (المفروض تخجل من نفسك!) فأنت تزرع فيه أن يقول: أنا مخطئ، وغير كفؤ، وعاجز، ولا أقدر أن أقوم بأي شيء بنجاح، وكل من تربى بهذه الطريقة يقول لك: لا أقدر أن أعمل، ودائماً يهرب من أن يتحمل المسئولية، ويحكم على نفسه مسبقاً بالفشل؛ لأنه تعود على أن يعامل بأنه غير كفؤ، وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً؛ لأننا عاملناه بالسلوك الذي يشعره بالذنب؛ فإذا شعر بالخجل فسوف يجلب له ذلك مزيداً من الخجل، فإذا حصل له مزيد من الخجل فمعناه أنه فاشل أكثر، ويعجز عن أداء المهام، فيظل في دائرة مضطربة لا تتوقف.

المثال الثالث على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبيا

المثال الثالث على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً المثال الثالث: كلمة عادية جداً ممكن أن تقولها الأم الجاهلة أمام الصديقات أو القريبات في المجالس النسائية المعروفة: هذا الولد حاولت جهدي أن لا يأتي ولكن قدر الله له أن يولد! هي تتلكم بهذا في مجلس دردشة، ولا تدري مدى خطر هذه الكلمة على نفسية طفلها؛ فهو يظن أنه زيادة غير مرغوبة، وأن أمه حاولت بكل وسيلة أن تتخلص من إنجابه، ولكن فشلت كل المحاولات في التخلص منه. الأم لا تعلم أنها تزرع فيه مفاهيم خطيرة، مثلاً: أنت بالذات كنا غير راغبين فيك على الإطلاق، ما كنا نريدك بصورة أو بأخرى، وكأنها تقول لهذا الولد: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما أنجبتك! هذه الجمل لا يمكن أن تغتفر في العملية التربوية، حتى لو كان الطفل ما عمل أي شيء، أو رفع صوته، أو تكلم بطريقة غير صحيحة؛ فإن هذه ردود الأفعال الأبوية غير مناسبة بالكلية؛ لأن من المهم جداً بالنسبة للطفل أن نتقبله كما هو، لا تقل له: كنا نريد بنتاً بدلاً عنك، معنى هذا: أن مجيئه كان ضد رغبتكم، وأنكم كارهون لوجوده. وهذا التصرف في غاية الخطورة على نفسية الطفل، ولابد من الرضا بقضاء الله، والرضا باختيار الله سبحانه وتعالى، ولا يخفى ما بين الاثنين من البعد. عبارة أخرى من ضمن هذه العبارات: أن تخاطب الأم الولد: إننا سوف ننفصل وأنت السبب في ذلك! أي: إن أباه سوف يطلق أمه بسببه، وفي الواقع أن الطفل لن يكون هو السبب، ولا يمكن أن نتوقع أن الطفل يتحمل مثل هذه الكلمة، وحتى لو نفينا عنه تماماً أنه السبب فإنه قد يشك في ذلك!

المثال الرابع على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبيا

المثال الرابع على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً المثال الرابع: المقارنة بين الأطفال: يا ابني أخوك جيد، وأنت لا تريد أن تكون مثله، لم لا تعمل مثل أخوك، أو مثل أختك؟ فعملية: (لماذا لا تكون مثل أخيك؟ لماذا لا تكوني مثل أختك؟) هذه المقارنة خطيرة جداً، فحينما يعقد الوالدان مقارنة لفظية بين الأشقاء معنى ذلك أن هناك أفعال تفضيل، وأنه يوجد مفضل ومفضل عليه، فالمفضل عليه لا شك أنه سيبدو أنه ناقص، وأنه دون أخيه! فهذه كلمات نقولها لكنها رسالة تترسخ في أعماقه، رسالة ترسلها إليه مضمونها: أنت مهمل. وذلك إن كنت تمدح الثاني بأنه منظم. أخوك ذكي وأنت غبي. أخوك أدق منك أو غير ذلك من الصفات، فهذه الرسائل تستقر داخل نفسه كعقيدة أساسية، وتساهم في إنشاء سلوك غير مرغوب به في المستقبل. وبعض الناس الجهلة يعقدون مقارنة بين الأخوة مواجهة: أنت ما لك شكلك هكذا وأختك هكذا، أوليست أمكم واحدة؟ وأنا أعتذر من النساء الجاهلات؛ لأن هذه الكلمة ستسمعها الطفلة أو سيسمعها الولد عشرات المرات ما دام الجاهلات كثيرات، والأطفال سوف يشعرون بعدها بالضعف والنقص. فإذاً: ينبغي أن يكون عندنا وعي، وألا نقع في هذه المقارنات، خاصة وأن الأطفال يكون بينهم تنافس، فلا شك أن هذا الكلام سوف يزيد روح التنافس والخصام بين الأشقاء، وسيزيد نسبة التشاحن بالنسبة للوالدين، فالمقارنة تدمر العلاقة بين الأشقاء عن طريق تغذية مشاعر الانتقام بين هؤلاء الأولاد، وهذه فيما بعد قد تولد قطيعة الرحم وغير ذلك من هذه الأشياء. إذاً: ما البديل؟ البديل أن تقبل كل واحد بشخصيته، والله سبحانه وتعالى يميزه بميزة غير موجودة في الثاني، فأنت تسلط الضوء على الميزة التي أعطاه الله إياها: فلان صوته جميل في القرآن، فلان خطه حسن، فلان شكله كذا. وهكذا، فتركز على الصفة الإيجابية في هذا الابن وتقبل شخصيته كما هي، فإن كل شخص له مواضع قوة خاصة به، وله إمكانات واحتياجات، فلابد أن نساعد الأبناء على أن يشاهدوا جمال تلك الصفات التي ميزهم الله سبحانه وتعالى بها، عن طريق التركيز على كل واحدة على حدة بدون عقد مقارنات بينهم.

المثال الخامس على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبيا

المثال الخامس على معاملة الطفل بما يؤثر على سلوكه سلبياً المثال الخامس: الأهل سيذهبون في نزهة، والولد يلبس حذاءه ويتعارك هو والرباط، ويقعد في الأرض، ويأخذ وقتاً كبيراً وهم مستعجلون، فيقول له أحد الأبوين: تعال أنا سأربطها لك هذه المرة. هذه عبارات نقولها دون أن نشعر بأنها تزرع العجز في نفسية الأولاد، فلا تحاول ذلك في شيء يستطيع الطفل فعله، ستأتي فترة من الفترات يزرع الله سبحانه وتعالى فيها في هذا الطفل محاولة أن يستقل بعمله، وذلك يبدأ في أواخر السنة الثانية، فهو يحاول أن ينمو، ولابد أن يتمرن ويخطئ، فمثلاً يريد أن يأكل بالملعقة بنفسه، أو يشرب من الكوب بنفسه، وأنت تقول له: ستتسخ ثيابك، أو سيقع الكوب على الأرض. وهذا إحباط له؛ لأن الفطرة تكلفه أن يتمرن على الاعتماد على نفسه في أداء بعض الوظائف، فيتحمل الخسارة بأن تتقذر ثيابه، أو يقع على الأرض بعض الرز أو العصير؛ لأن هذا له فائدة كبيرة ستحصل بأن ينمو، ولابد له لكي ينجز هذه المهام أن يتمرن عليها بنفسه في الأول بالمساعدة، ثم بعد ذلك يستقل بها، فتنمي فيه هذه النزعة الاستقلالية ولا تشعره بالعجز، واتركه ما دام يحرص على هذه الاستقلالية، ولا تعطه ما يكون سبباً في تخاذله، وفي أن ينظر إلى نفسه دائماً على أنه عاجز وغير قادر وضعيف. فإذا قلت: بأنك سوف تعمل له الوظيفة التي من المفروض أن يعملها هو مثل لبس الحذاء مرة أو مرتين، فقد اتبعت نموذج التعجيز، ولو ساعدته مرة ثالثة فقد أوجبت هذه الكوابيس الجديدة؛ لأنه سيتعود الاعتماد عليك في هذا الموضوع إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى. من هذه العبارات الخطيرة: أنه عندما يتناقش مع أمه أو أبيه، قد يسأل عن السبب فيكون الرد: لأن هذا ما قلته لك! فهذه ألفاظ تقال ببساطة لكنها رسالة للطفل، مضمونها: أنا كبير وأنت صغير، أنا ذكي وأنت بليد، أنا قوي وأنت عاجز، وظيفتي أن آمرك ووظيفتك أن تطيع وتنفذ، وهذا ينشئ عند الطفل استياء وصراعاً داخلياً. وبدلاً عن هذا عامله بطريقة فيها نوع احترام لشخصيته؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما كان جالساً وبجواره طفل صغير، فشرب وكان الطفل على يمينه، وكان في المجلس أشياخ كبار من أصحابه، فاحترم الرسول صلى الله عليه وسلم حق هذا الطفل وعامله باحترام، وقال: (لو تأذن لي أن أعطي الكبار؟ فقال له: لا أوثر بحظي منك أحداً)؛ لأن الصحابة كانوا يتبركون بشرب سؤر النبي عليه الصلاة والسلام. وكذلك كانت معاملته بالاحترام عندما كان يقابل الأطفال ويسلم عليهم، وكان الطفل يأخذه ويمشي به حتى يقضي حاجته. فالشاهد: عامل طفلك باحترام، ولا تعوده على أن يهان، وأن تهدر كرامته. خلاصة الكلام: أن اللغة لها تأثير كبير جداً، والكلمات التي ننتقيها في التعامل مع الابن لابد أن تكون بناءة لا هدامة، مثلاً: موضوع ثقته بنفسه لا تقل له: طول عمرك خائف. أنت لا فائدة منك. ولن تتغير. لأن هذا كله تحطيم، وليست هذه وظيفة الأب؛ لأن هذا يدمر ابنه ويفقده ثقته بنفسه، ويزرع فيه الفشل والعجز والهوان.

بعض الأخطاء الشائعة في التعامل مع الأطفال

بعض الأخطاء الشائعة في التعامل مع الأطفال نمر مروراً سريعاً على بعض الأخطاء التي تشيع لنختم بها الكلام. الإرضاع: الأم التي تتعامل بآلية وميكانيكية مع عملية الإرضاع، فلا تضم الطفل إليها ولا تربت عليه ولا كذا وكذا، والله سبحانه وتعالى قد فطر الأم على أن تعطي وجبة الحب والحنان مع وجبة الطعام للطفل.

الكذب على الطفل

الكذب على الطفل من هذه الأخطاء: الكذب على الطفل: الطفل لا ينساها، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ما فاته هذا التنبيه، لما كانت المرأة تقول للطفل: (تعال أعطيك فاكهة، فقال: ماذا ستعطيه؟ قالت: أعطيه تمراً، قال: أما إنك لو لم تعطه لكتبت عليك كذبة)، فهي كذبة حتى مع الطفل الصغير، فينبغي الاحتراز من الكذب؛ لأن هذا له تأثير في فقد الثقة، كما أنك تعطيه نموذجاً يقتدي به في سلوكياته. لما يطرق الباب طارق فيقول له الأب: قل له: أبي غير موجود، فالولد يقول له: أبي يقول لك: هو غير موجود! فهذا أنموذج للتحطيم، حتى حال استعمال التعريض قد يدمر الولد؛ لأنه لن ينتبه أن هذا تعريض، فلا تدفع الثمن بأن يتعلم ابنك الكذب؛ لأن أهم صفة على الإطلاق، لو أردنا اختصار كل هذه المحاضرة في كلمة واحدة هي: علمه الصدق، والدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً). فهذه عملية تدريب، أنت تقدم له النموذج وسوف يحتذي بك، وأنت أول واحد سيكذب عليه إذا أنت علمته هذا الكذب. مثلاً: الأم تقول له: اشرب الدواء، وتصفه بأنه حلو، فيجده مراً! فمن ثم سيفقد الثقة في أمه، ولن يصدقها بعد ذلك. مُدرِّسة تقول للأولاد: ذاكروا، عندكم امتحان في يوم كذا، ثم يأتي هذا اليوم، فتقول: أنا كنت أضحك عليكم، وكنت أريد أن تذاكروا فقط. وهي لا تدرك أن هذا أنموذج مدمر لسلوكهم، والكذب شيء ينبغي أن يكون أمامه حاجز قوي جداً. أيضاً أخصائي اجتماعي يدخل إلى الصف فيقول: من آخر واحد على الفصل؟ من آخر واحد في الترتيب؟ وهذه المسالك كثيرة أيضاً.

التهديد بالطرد أو البغض له

التهديد بالطرد أو البغض له أمر مهم جداً ينبغي الحذر منه في التعامل مع الأطفال، يقول: لو عملت كذا لن أحبك. وهذا أخطر ما يكون، لأن موضوع الحب مما ينبغي أن يكون فيه تأمين؛ لأن الطفل يصبح عنده شعور بالأمان عندما يشعر أن أباه وأمه يحبانه لا لشيء إلا لأنه ابنهما، فلابد من تأمين الشعور بالحب، ولا تستعمل الحب أبداً للتهديد. لذلك نجد أن الطفل يخاف جداً على موضوع الحب، فإذا وجدك غضبان -حتى ولو من أمر آخر- يقول لك: هل تحبني؟ لأنه ينزعج عندما يرى غضبك ويخاف ويشفق أن يؤثر ذلك على حبك له؛ لأن الحب كالأمان بالضبط، والإحساس بالأمان شيء أساسي في الأسرة. ومن ذلك طرد الولد من البيت، أو تهديده بالطرد من البيت، طفل صغير يبلغ من العمر سنوات معدودات يطرد من البيت، فيلتقطه في الشارع أصحاب المخدرات، أو يتعرض لحادثة مثلاً. فهذا أمر في غاية الخطورة، والطرد غير وارد على الإطلاق، ولا ينبغي أن يذكر أبداً. كذلك موضوع الحب يقول عنه الدكتور محمد كمال الشريف: لاحظ العلماء أن بعض الأطفال يعيشون في قلق دائم، نتيجة إحساسهم أن والديهم لا يحبونهم إلا إذا كانوا متفوقين في دراستهم ومطيعين ومهذبين، فصار الطفل يحرص على المثابرة في المدرسة، وعلى تنفيذ أوامر والديه، خشية أن يفقد حبهما، وهما بالنسبة له كل شيء، وكيف له أن يعيش دون حبهما؟ الوضع الصحيح المتوازن هو: أن نفصل بين الحب وبين التأديب للأطفال، فلا نعاقبهم إن أخطئوا بتهديدهم بأننا لن نحبهم بعد الآن، أو بسحب حبنا لهم فعلاً، بل نعاقبهم إن هم أخطئوا، ونطمئنهم في الوقت نفسه إلى أننا ما زلنا نحبهم، وإن كنا سنحبهم أكثر لو كانوا مستقيمين مهذبين، وأننا لا نكرههم الآن إنما نحن غير راضين عما فعلوا. فلابد أن نشعر الأطفال أن التأديب هو مظهر من مظاهر الاهتمام بهم، وليس مظهراً للكراهية، أو لأنهم خيبوا آمالنا، وتسببوا لنا في الإحباط. فهذا أيضاً أمر مهم جداً، وهو عدم استعمال سلاح الحب لتهديد الأطفال، يعني: لا تقل له: أنا لن أحبك إذا عملت كذا، لكن قل: أنا أحبك لكن لا أحب هذا التصرف.

التخويف بالغيلان والوحوش

التخويف بالغيلان والوحوش من هذه المظاهر والسلوكيات التي نعملها ولا نلتفت إلى أنها تصنع المشاكل: موضوع الخوف أو الرعب: فالأم مثلاً رأت صرصوراً فقامت تصرخ وتصعد فوق السرير أو فوق الكراسي وتجمع الناس؛ لأنها رأته! هذا نموذج عملي، والطفل إنما يتعلم منها الخوف مما تخاف هي منه. مثلاً أول ما يقترب من النار ننادي عليه بسرعة: انتبه سوف تحرقك، فإذاً: يتعلم أن يخاف من النار، لكن أن يرى الحشرة ويرى أمه تفزع منها هذا الفزع، فهذه حالة غير مرضية -والله المستعان- فموضوع الخوف من الحشرات بهذه الطريقة الفظيعة ستنتقل تلقائياً إلى الطفل، ويقلد نفس هذا المسلك، فالمفروض أن هذه الأم تحتاج إلى علاج. ومن الخوف المبالغ فيه: الظلام، أو التخويف من الظلمة، سوف أتركك في الغرفة، سأحبسك في الغرفة المظلمة التي فيها الفئران، والتي فيها كذا، كما يصنع في بعض المدارس أحياناً للأسف، أو الغول، أو أن الأم تحكي للطفل قبل النوم قصة مرعبة لكي تخوفه وينام، أو تهدده بالوحوش أو الغول، فهذا أمر مهم جداً، موضوع الخوف يجب أن تعالج الأم منه لكي لا ينعكس على الأطفال.

الفطام الرضاعي والفطام النفسي

الفطام الرضاعي والفطام النفسي أيضاً هذه مشكلة شائعة، وعندما تبدأ تدرس حالة نفسية لرجل كبير تقول له: كيف تم الفطام؟ لأن موضوع الفطام الشائع الآن في مجتمعنا للأسف الشديد يجري بطريقة مؤلمة. الفطام باختصار شديد لا يبدأ بعد سنة أو سنتين، لكن يبدأ منذ الشهور الأولى من الإرضاع، بمعنى أنه لابد أن يكون بطريقة متدرجة، فتبدأ الأم تعطيه بجانب الرضاع الطبيعي وجبات معينة معروفة بطريقة معينة تدريجية، بحيث إنه وقت الفطام يكون قد قل عدد مرات الرضاع، وفي نفس الوقت يستغني عن الرضاع الطبيعي، ولا تشكل له مشكلة حياته، لكن المصيبة كلها في الفطام المفاجئ، وهذه تسبب أزمة نفسية حادة بالنسبة للطفل، وتعتبر إساءة بالغة للطفل، والأشد إساءة من ذلك: الطريقة الوحشية التي يستعملها البعض حينما يضعون نبات الصبار البالغ المرارة في الموضع الذي يرضع منه، لكي يصطدم الصبي صدمة نفسية قاسية تمنعه من أن يرضع لأنه سيكره هذا الفعل، وهذا تصرف بدائي ومتخلف وفي غاية الأذية للطفل، يسبب له صدمة شديدة، والطفل ينفعل بهذه الأشياء، ولا أريد أن أطيل في هذه القضية حتى لا نخرج عن الموضوع. الفطام النفسي من المفروض أن يحصل للكبار؛ وهذه أيضاً من المشاكل، فالأب والأم لابد أن يحذرا من النظرة الدائمة إلى الطفل على أنه صغير، وهذه نظرة خطيرة كنا نستخدمها في المجتمع من غير أن نلتفت إلى ضررها؛ فمن رأى طفلاً في الابتدائي أو قبل الابتدائي تظل تلك الصورة مرتسمة في ذهنه فلا يريد أن يعترف بأنه الآن قد صار رجلاً، ودائماً يصطحب هذه الصورة ولا يريد أن يلغيها من مخيلته، فلابد من الحذر من هذا الطفل، كان رضيعاً ثم ها هو شاب قوي يافع، فلا ينبغي أن تعامله على أنه طفل، وهذه مشكلة توجد في كثير من التعاملات الخاصة بين الوالدين، وبالتالي هذه أذية له؛ لأنهم لا يساعدونه على النمو الطبيعي حيث الشعور بالمسئولية والاستقلال. فالفطام النفسي بمعنى: أنه لا يحصل له الاستقلال الوجداني عن الآخرين، ويشعر أنه أسير لإرادة الأبوين، فلا يستطيع أن يوجه عواطفه، أو يأخذ قراراته، أو يستقل عن الآخرين، وهذه قد تكون أكثر ظهوراً مع الأم، حيث تحدث عملية اندماج وجداني وعاطفي يؤثر على الأولاد. فعملية التعلق الشديد بالأولاد خاصة من جهة الأمهات، وكأنهم في سنة أولى في المدرسة، فتذهب معهم إلى لجنة الثانوية العامة، وتتابع الخطوات معهم، وتصحبهم من البيت إلى باب المدرسة، وتقف أمام باب المدرسة تبكي وكأن ابنها مازال طفلاً لا يمكنه أن يذهب بنفسه إلى الامتحان ويصمد في اللجنة. ما هذه الطفولة؟ ما هذه الحماية الزائدة؟ أصبح رجلاً ويدرس في الجامعة ولا زالت تمشي معه لكي توصله إلى اللجنة، ثم تقف حتى ينتهي. هذا سيؤثر على نفسية الشاب الذي دخل الامتحان. أو مثلاً يريد أن يعبر الشارع فيأخذ بيده لكي يعبره، ويكون ابنه قد بلغ عشرين سنة أو أكثر. هذه حماية زائدة، وهذا خطأ في التربية، وهذا مما يعكس عدم الثقة به، ويمدد فترة الطفولة بالنسبة لهذا الشاب. فالأم تظل علاقتها بالابن أو البنت وكأنه يرضع، هذا معنى الفطام النفسي، لا تريد أن تنفطم عنه وتعترف بأنه قد أصبح له كيان مستقل، وهذه تأخذ تفاصيل كثيرة، بالذات بعد ما يتزوج الابن وتحصل بعدها عملية الفطام النفسي، وتسبب له مشاكل كثيرة، مثلاً: التدخل في تفاصيل الحياة، وطلب تقرير مفصل عن كل تصرفات هذا الرضيع الذي لم يفطم حتى الآن فطاماً نفسياً، فالتدخل في أخص الخصوصيات، والتقارير مستمرة عن كل تصرفاته، ولا يزال التصرف هو نفسه جارياً وحتى الآن منذ كان طفلاً رضيعاً. صورة أخرى من مظاهر انعدام الفطام النفسي: الإغداق على الابن بالأموال الطائلة في سبيل أن يرضيه، فهذا أيضاً من مظاهر التعلق المرضي. ومن مظاهر عدم التمتع بالفطام النفسي عند الوالدين: أن هذا الحب الشديد لو انقلب لكراهية يأتي بأمور لا تحمد عقباها. عدم الفطام النفسي بالنسبة للوالدين أو بالنسبة للولد نفسه يجعله يمشي بشخصية اعتمادية على الآخرين، ودائماً لا يقدر أن يتحمل مسئولية نفسه، وهذا غالباً ينتج عنه الفشل في الزواج؛ لأنه لم يصعد إلى مستوى الفطام النفسي، فهو لا يشعر أنه انفصل عن البيت الذي خرج منه، ويولد أيضاً مشاكل أخرى في العلاقة الزوجية تحصل نتيجة عدم الفطام النفسي. ومن المظاهر: التوقف عن اتخاذ أي قرار لانعدامية الاستقلال الذهني أو الوجداني، لابد أن تكون نتيجة هذه التربية الخاطئة هكذا. أيضاً: سهل جداً عليه أن ينخدع بالكبار؛ لأنه دائماً تعود الاعتماد عليهم، وألا يأخذ القرارات بدونهم؛ فالبتالي ممكن أن يسرق بسهولة من قبل النصابين والمحتالين وغيرهم. خلاصة الكلام: أنه حتى يحرز الوالدان الفطام النفسي لابد أن يقفا على الفروق لمراحل العمر المختلفة، وكل مرحلة لها خصائصها، فينبغي أن يخف هذا التعلق كلما تقدم الابن في النمو، ويبدأ الأب والأم بنفسيهما فإذا انفطموا هم عن هذا الولد، فلابد أن يفهم هو أيضاً أن الحب الحقيقي للولد هو أن يصنع منه رجلاً يستطيع أن يأخذ قراراته ويتمتع بحرية الاختيار.

بعض مظاهر الخلل في التربية العملية

بعض مظاهر الخلل في التربية العملية هناك العديد من مظاهر الخلل في التربية لذا سنذكر بعضها فيما يتعلق بمعاملة الآباء للأبناء.

التفرقة بين الأولاد

التفرقة بين الأولاد خاصة بين البنات والذكور، وهذا موجود للأسف الشديد، قال الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (اعدلوا بين أولادكم، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء).

حرمان الطفل من الترفيه واللعب

حرمان الطفل من الترفيه واللعب اللعب بالنسبة لك أنت لعب، لكنه بالنسبة للطفل عمل، وهو أمر مهم جداً، وقد أصبح الآن علماً وفناً ووسيلة علاجية وتشخيصية. فاللعب بالنسبة للطفل أمر مهم جداً، ويجب أن يتم بطريقة علمية مدروسة، إذ كل سن له أشياء تعلمه خبرات في الحياة والفكر والتفكير، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يأتي إلى عائشة وهي تلعب بالعرائس فيتركها تلعب بها؛ لأن هذه تربية مبكرة على فطرة الأمومة، ومن أجل ذلك رخص لهن في لعب البنات، وهذا موضوع سنفصله إن شاء الله فيما بعد.

الإلحاح على الترهيب

الإلحاح على الترهيب من الخلل أن تكلم الطفل الصغير، ويدور كل الكلام على أن الله إن عصيته سينتقم منك، ويقطع يديك، ويدخلك النار، والنار فيها ملائكة تعذب بكذا، وفيها كذا إلخ. فهذا هو الإلحاح على الترهيب: أنت إذا كذبت ستدخل النار. وهذا غير صحيح؛ لأنه غير مكلف أصلاً: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: وعن الصبي حتى يحتلم). إذاً: أنت تكذب عليه؛ فلا داعي للإلحاح على موضوع الترهيب بهذه الطريقة، وهو سيستوعبها بطرق أخرى، فإذا حضر معك في مجلس العلم أو الدرس أو قراءة كتاب، فسيعرف أن الذي يكذب عاقبته كذا وكذا، فلا تقل له: أنت ستدخل النار أو ربنا سيعذبك، بل اجعل التركيز على حب الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى جدير بأن يحب لاتصافه بصفات الكمال والجلال والجمال ولما يغدقه علينا من النعم، وهكذا؛ لأن الطفل لو عمل عملاً صالحاً بنية فإنه يثاب عليه، لكن إذا عمل المخالفات لا يعاقب عليها.

القسوة الصارمة

القسوة الصارمة يقسو بعض الآباء قسوة صارمة وشديدة، ومن الأمهات من تسخن ملعقة وتعاقب الطفل بالإحراق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو يضرب الأب مثلاً ابنه حتى يصيبه العمى، فيكون هذا الطفل حاقداً عنيداً طول عمره، لأنه تسبب في عماه، أو يضرب ابنه حتى يبتر يديه بعد أن يربطهما بحبل شديد. كل مشاكلنا تبدأ حينما نجعل عقولنا مثل عقول الأطفال. عليك أن تعلم أنه طفل وأنت رجل عاقل، وما أحسن العبارة التي عنون بها أحد الأخصائيين الصينيين في كتاب اسمه: (طفلك ليس أنت)، فلابد أن تراعي التفاوت في العقل بينك وبين هذا الطفل. والراجح أن الضرب عقوبة للتأديب؛ فهو دواء، ولهذا الدواء شروط؛ إذ معنى الدواء: ما كان سيأتي بالنتيجة المطلوبة. وأكثر الآباء ينظر للضرب على أنه وسيلة لتفريغ شحنة الغضب المتراكمة في قلبه، فيستمر في الضرب حتى يخرج كل ما بداخله من شحنة الغضب، وهذا عدوان صارخ على حرمة الطفل. إن قيام الأب القوي المتين بأن يضرب طفلاً غضاً طرياً حتى يكسر عظمه، ثم يذهب به إلى المستشفى للعلاج، يعد من الوحشية؟ ثم يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اضربوهم لكذا وكذا. والضرب حتى وإن كان مشروعاً؛ لكن لابد أن نفهم أن الضرب ليس مقصوداً به الانتقام من الطفل، بل تأديبه والإحسان إليه، وليس المقصود منه تفريغ شحنة الغضب حتى لا يتوقف الضرب إلا بعد فراغها، فالأب الذي يفعل هذا ظالم معتدٍ، مخالف للشرع الشريف. فالضرب وسيلة تأديبية بشروطها.

الدعاء على الأولاد

الدعاء على الأولاد فالأم تدعو: الله يبتليك بسيارة تصدمك ونحوها من هذه الدعوات التي تدعو بها بعض النساء على الأولاد! وهذا فيه مخالفة صريحة لنهي النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، لعلها أن تصيب ساعة إجابة فيستجاب لكم) أي: فيندم الإنسان بعد ذلك: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] وبعض الآباء عندما يختلف مع طفله يتمنى أنه يموت، وكأنه ليس له حق في الحياة، أليست هذه روحاً محترمة لها حرمة ولها حق في الحياة؟ هل ترضى أنت لنفسك أن يدعو عليك أحد بحرمان هذا الحق، أو يقتلك كي يحرمك منه؟ فهذا الطفل له حق في الحياة مثلك تماماً، بل هو أحوج إلى الحياة منك؛ لأنك أخذت فرصة، أما هو فمقبل على الحياة، فكيف تدعو عليه بالموت؟ جاء رجل إلى ابن المبارك يشكو إليه عقوق ولده، فقال له: هل دعوت عليه أم لا؟ فأجاب بأنه قد دعا عليه، فقال: أنت أفسدته بالدعاء عليه.

التربية بالثواب والعقاب

التربية بالثواب والعقاب هناك التربية بالثواب والتربية بالعقاب، أو التأديب بالعقاب، ولكي نختصر ذلك نقول: إن الإنسان عندما يكافئ الولد على شيء حسن لابد أن تكون المكافأة في الحال وليست مؤجلة. كذلك العقوبة: إذا أخطأ فلابد أن تكون هناك عقوبة فورية ولا تكون مؤجلة.

ضرورة توحيد السياسة التربوية

ضرورة توحيد السياسة التربوية أمر آخر من الأمور التي نريد أن نلفت النظر إليها: تشاجر الوالدين أمام الأطفال، لا يجوز أبداً ولا ينبغي أن يختصم الأب والأم أمام الأولاد مهما كان الداعي، فلا من التوفيق وتوحيد السياسة التربوية بين الأب والأم، لأن الأطفال قد يفسدون بسبب التصادم التربوي. بعض الآباء يحزبون الأولاد في البيت، فهذا تبع الأم وهذا تبع الأب، والولد يلعب على الحبلين. هذا تدمير للأولاد، ولو أن هذين الأبوين عاقلان لما أظهرا أي اختلاف أمام الأبناء، فعلى الأم أن تعطي الأب مكانة لها احترام، وتحافظ على هيبة الأب، ولا تعمل أي تصرف فيه خدش لهذه الهيبة، وتخوفهم بأبيهم: إذا فعلت كذا سأخبر أباك بما صنعت. والكثير من المشكلات والأمراض النفسية تنشأ بسبب الأم المسترجلة التي تريد أن تفرض كلمتها، ولا تريد أن تخضع لزوجها أبداً، فهذه الأم المسترجلة تشقى ويشقى أولادها. ويعتبر الغرب تشاجر الأبوين أمام الطفل نوعاً من الإساءة تستدعي القبض عليهما، وإيداعهما في المصحة النفسية للتأديب والتهذيب والإصلاح الحقيقي، وإذا تكرر هذا السلوك أخذ منهما الطفل ليربى في مؤسسة تابعة للدولة ليصبح ابن الدولة. انظر كيف انتبهوا إلى هذا الموضوع، حتى وصل بهم الأمر إلى اعتبار أن رفع صوت الأبوين أمام الطفل يعتبر انتهاكاً لحق الطفل في الاستقرار النفسي. الصراع بين الأبوين في غاية الخطورة على الطفل، وإياكم أن تظنوا أن الطفل لا يدرك، بل هو يدرك جيداً كل ما يحصل ويترجمه ويختزنه، ويهدد شعوره بالاستقرار، ولذلك يقول علماء النفس: إن الطفل الذي تطلق أمه وتنفصل عن أبيه حالته أقل تعرضاً للخطر من الطفل الذي يعيش مع الأبوين وهما في حالة شجار دائم؛ لأنه في حالة الطلاق سيصطدم مرة واحدة، ويتكيف بعد ذلك مع الحياة الجديدة، لكنه في الحالة الأخرى لن يشعر بوجود الاستقرار ولا بسلام نفسي. يقول الدكتور محمد خليل موضحاً لهذه الجزئية: والطفل يترجم ما يدور حوله ترجمة صادقة دون تحريف أو تزييف، وقد يخطئ الآباء والأمهات في تقدير سلوكيات الطفل لصغر سنه، فلا يتورعون عن النقاش الحاد والجدل ورفع الصوت أثناء مناقشة مشاكلهم، وغاب عنهم أن هذا كله يصل إلى الطفل بمفهوم عاطفي، ويترجم النقاش والجدل والحدة عندما تصل إلى سمعه على أنها رياح قطيعة أو بذور خلاف، ويتأكد ذلك لو أحس ببرود العلاقة بين أبيه وأمه. أي أن هذه المشاعر تصل إلى الطفل بشفرتها العاطفية النفسية، خصوصاً إذا صاحب ذلك اختلاف واضح في معاملة الأم، أو قلة اهتمامها بالأب، أو انصرافها عنه، حتى لو كان ذلك بتغير في نبرات صوتها أو في حرارة حديثها، فهذه التغيرات قد لا تشعر بها الأم، ولكن الطفل يقيسها بترمومتر عاطفي حساس لا يخطئ، فيطوي نفسه على الألم والحسرة، وتقل اهتماماته، ويفقد شهيته، وقد يلفظ ما في جوفه تعبيراً عن رفضه لما حدث. فإذا تكررت المواقف فإن الأعراض تنتهي إلى الأسوأ، فربما تصل إلى الانطواء والخجل والتردد والتلعثم أو التبول اللاإداري؛ إنها رموز مرضية توضح تأثر الطفل بالخلافات لو استمرت بين الأزواج، وكأن الطفل بما يحدث له من أعراض يقول بمفهومه العاطفي النفسي: لا للخصام بين الأزواج لا للقطيعة بينهم. فإذاً لابد أن يكون هناك اتفاق على سياسية تربوية بين الأبوين، فإن كانوا سيختلفون فبصوت منخفض لا يسمعه الأطفال، أو في مكان منعزل، ولا يوجد تعارض في الأوامر بين الأب والأم. وكما أشرت إلى موضوع تحزيب الأولاد إذا كبروا قليلاً، حيث تبدأ الأم بذلك، فهذا لا ينبغي حتى لو انفصل الأبوان، لأن من المفروض ألا تحدث إثارة حقد في نفس الطفل على أبيه، ولا ينبغي إدخال الطفل في صراعات بين الأبوين، ولا أن تتعمد الأم هدم احترام الأب أمام الأولاد، ففي غيابه مثلاً تسخر منه، أو تجرئهم عليه. هذا كله تحطيم للأولاد أنفسهم قبل أن يكون تحطيماً لغيرهم.

موضوع الجهل بصحة الطفل

موضوع الجهل بصحة الطفل الجهل بصحة الطفل، والمحافظة عليه من الأخطار التي تنشأ نتيجة الجهل، وقد تمس العقيدة أحياناً. أعني أن الطفل عندما يصاب بالتهاب الغدد يأتون بصليب، ويضعون عليه الرماد الأسود حتى يشفى والعياذ بالله. وهذا التصرف في غاية الخطورة، وهي مسألة تمس العقيدة، فهم يظنون أن الكفر يكون شفاء، وليس مناسباً نحن نخوض في مثل هذا. كما أن الأم بعدما تلد تفرز من صدرها شيئاً يسمى في العربية: اللبأ، وهو سائل شفاف، وهو هدية من الله سبحانه وتعالى إلى هذا الطفل يحتوي على كمية من المضادات الحيوية وأجسام المناعة وفيتمينات وبروتينات عالية جداً لحماية الطفل، فالأم الجاهلة تهدره أو ترميه، وهذا حرمان للطفل من سلاح طبيعي يعطيه الله إياه وقد منَّ الله علينا الآن بالعلوم الحديثة والتطعيمات واللقاح لحماية الطفل، والأم الجاهلة تغير تاريخ الميلاد أسبوعين أو ثلاثة خوفاً من أن يشرحوا جلده بالحقن أو نحو هذا، فشفقة عليه تمنع التطعيم، والتطعيم من مصلحته، وممكن أن يحصل له مرض شديد في هذه الفترة نتيجة عدم المناعة، أي: نتيجة الجهل. فهو الوالد يفهم أحسن من الأطباء، وسيمنعه من الأطباء الوحوش حتى لا يوخز من قبلهم بالمشرط والإبرة. ومن ذلك: إذا أصيب الطفل بالتهاب في اللوز، يقال له: ابلع بيضة مسلوقة! وكأنه ثعبان سيبلع بيضة! ومنذ مدة قريبة وجد شاب صغير كان عنده التهاب في اللوز، فقال له جاهل من أمثال هؤلاء الأمهات الجاهلات: ابلع بيضة مسلوقة فبلعها، فوقفت في صدره حتى اختنق ومات! وهذه جريمة قتل بسبب الجهل. هذه الأشياء ليس هذا وقت الكلام عنها، لكن الموضوع صعب، ونحن نتناوله بصورة شاملة، وحتى لم ندخل بصورة منهجية في قضية واحدة، فكل قضية مما ذكرنا تحتاج لتأصيل علمي في ضوء علوم الشرع الشريف، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام الذي هو خير معلم وخير مرب على الإطلاق، وفي ضوء العلوم الحديثة التي هي مبنية على ملاحظات حسية ودراسات علمية، لا شك أنها في كثير من الأحيان تكون مصيبة. أرجو أن أكون قد أفلحت في إيصال رسالتي إليكم، وهي: أن نلتفت إلى أهمية محو الأمية التربوية، هذا هو كل ما أريد أن أوصله بهذا الحديث الطويل، فهناك تربية، وهناك منهجية في التربية، وهناك أمية نعاني منها كلنا، وندفع ثمنها باهظاً.

الأسئلة

الأسئلة

علاج تدهور العلاقات بين الزوجين

علاج تدهور العلاقات بين الزوجين Q لي زوج يضايقني ويعتدي على حقوقي إلخ، فأرجو أن تجد لي حلاً لذلك؟ A يبدو أنها صرخة استغاثة من إحدى الأخوات، خلاصتها: يظهر أنها في مشكلة مع زوجها الذي يضايقها، ويجازي الحسنة بالقهر والإذلال وبالقوة والإجبار. وهذه من المشاكل الاجتماعية؛ لأنها أمور واقعية كلها، وتحتاج إلى توجيه، وأنا لا أحب أن أتناول هذه المشاكل بصورة جزئية؛ لأنها تحتاج إلى شيء من التفصيل، لكن عليها بدعاء الله سبحانه وتعالى أن يصلح حاله. وأيضاً: هذه الشكوى من هذه الزوجة التي تعاني من زوجها، لابد أن يعترف الزوج رغماً عنه بها؛ لأنها ليست أمة عنده، بل هي آدمي له حقوقه وله حرمته، فإذا كان الزوج يقوم بحق الزوجة، صائناً لها، مراعياً لواجباته نحوها، فليس للأب أو للولي أن يتدخل، لكن إذا حصل خلل ولم يفلح الزوج في حل مشاكله، فمن حقها أن تشتكي إلى ولي أمرها ليتدخل في رفع عنها الظلم. وبعض الناس يتعامل مع الزوجة على أنها أمة، وبعض الناس يتصور أنه بالزواج أصبحت المرأة شجرة يقتلعها من جذرها من بيت أهلها، ولابد أن تقطع الصلة تماماً بأهلها. بعض الإخوة عندهم قابلية للتطرف، ولديهم غلو شديد في التعامل، وأنا تكلمت مراراً وتكراراً أن العلاقة بين الزوجين لا تحكمها المعادلات الرياضية؛ إذ ليس الموضوع أن هذه حقوقي وواجباتي وتلك حقوقك وواجباتك، بل التعامل أساساً يبنى على التراحم: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، فمن المعروف الإحسان، ومن أفضل نساء العالمين فاطمة عليها السلام، فلما تزوجت قسمت الأعمال بينها وبين أم علي رضي الله تعالى عنه، فكان عليها وظائف البيت، وأمه لها وظائف خارج البيت، وهي بنت أشرف خلق الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك هل قالت: أنا بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يليق بي هذا؟ فالمفروض أن الأساس في التعامل بين الزوجين هو التسامح والتراحم والتغافر والإحسان. والرسول الذي هو أشرف خلق الله كان في خدمة أهله، وكان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويخدمهم في البيت، فإذا جاءت الصلاة كأنه لا يعرفهم ولا يعرفونه، تعظيماً لأمر الله! البيت ليس محكمة، ولا قسم شرطة، ولا ثكنة عسكرية يجتمع فيها جندي وضابط وعسكري، بل التراحم والتسامح والتساهل في التعامل، هو الأصل عند التنازع في الحقوق والواجبات. فنوصي الإخوة بأن يرحموا الأخوات، ويتقوا الله سبحانه وتعالى فيهن، ويراعوا أن المرأة لها تركيباتها العاطفية والنفسية والعقلية المخالفة للرجل، ولها خصائص ينبغي أن تراعى، وأن يرحمها حتى تكون العاقبة إن شاء الله أن يرى ذلك في أولاده فيما بعد.

طبيعة الطفل ومراحل نموه

طبيعة الطفل ومراحل نموه Q كيف يمكن معاملة الأطفال وهم صغار، وفي المراحل المختلفة من أعمارهم، ونأمرهم بالصلاة؟ A إذا فهمنا طبيعة كل مرحلة من مراحل نمو الطفل نستطيع أن نفهم كيف نوصل له الرسالة التي نريد أن نوصلها إليه بما يطيقه، فالطفل في السنوات الأولى يكون تفكيره متحجراً، فهو تفكير مادي حسي لا يدرك إلا الأمور المحسوسة، وإذا نظرنا إلى الدراسات التربوية الحديثة ونتائجها التي يفرح بها الغرب جداً، ثم تأملنا في هدي النبي عليه الصلاة السلام، فإننا سنجد مظهراً جديداً من مظاهر الإعجاز وصدق النبوة. فالطفل في المراحل الأولى إلى سن سبع سنين أو قبل ذلك يدرك الأمور بالطريقة الحسية، ولو حدثته عن الجمال والعدل والنزاهة وغيرها من المعاني المجردة التي لم يدركها، لكن يدرك الأمور التي يراها بعينه، يراك تصلي فتجده راكعاً أو ساجداً على الأرض يعمل مثلك من غير أن تكلمه، فهو يتقمص شخصية الأب ويقلده؛ لأنه يتأثر بالأمور الحسية، البنت ترى أمها تستتر من الرجال فتعمل مثلها تماماً، ثم حينما تصلي تضع الحجاب وهكذا. فالأمور الحسية التي يراها أو يسمعها يدركها، لكن أمور المعاني لا يدركها، فلذلك الصلاة في المراحل الأولى ستلاحظ الطفل إذا كنت تحافظ على الصلاة أمامه سيحاول يقلدك، وبعد سبع سنين يبدأ الإنسان في أمره بالصلاة، حتى يتعود عليها، وبعد ذلك تتابع عليه الأوامر، لكن يربطه بالمسجد من غير قهر أو عقاب، بل نجعل له الصلاة مكافأة، فنقول له: إذا عملت الشيء الفلاني فسوف آخذك معي إلى المسجد، أعني: أن تحببه إلى المسجد. موضوع الضرب أيضاً يفهمه الناس خطأ: (واضربوهم عليها لعشر) فلنفرض أنه أمره إلى العاشرة، فهل يبدأ بالضرب؟ لا يبدأ بالضرب، وكما قلت: الضرب له شروط سنناقشها بالتفصيل إن شاء الله.

كيفية التعامل مع أب يطرد أبناءه

كيفية التعامل مع أب يطرد أبناءه Q أب غير ملتزم يصل به العنف إلى حد الطرد من المنزل بالأسابيع، وعدم قبوله في المنزل مع عدم الكلام، ولا يأكل معه، ويصرح له دائماً بأنه يكرهه، والابن أحياناً يحاول التقرب إلى أبيه فيزيد ذلك من حدة المعاملة، ولسوء معاملته فالابن يفر دائماً من الالتزام؟ A المفروض أن يذهب هذا الأب لأخصائي نفسي ويأخذ استشارة منه، ولا أريد أن أقول: علاجاً؛ لأن ليس معنى الذهاب والتعامل مع أخصائي نفسي أنه سيعمل لك العلاج مباشرة، وليس معناه أنك مجنون، فهذا من الفهم المتخلف لموضوع الخبرة النفسية. والمفروض أن أولى من يمارس العلاج النفسي هم الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم أكفأ الناس وأقدرهم عليه، خاصة أنهم يعملون في ضوء الوحي الإلهي بجانب هذه العلوم المرتبة والمنسقة، لكن الواقع أن معظمنا عنده تقصير في هذا الجانب. أو يذهب إلى طبيب نفسي ملتزم ومتدين، وأضع عشرة خطوط تحت متدين أو ملتزم؛ لأنه يكون ذا خبرة حقيقية في هذه المجالات. المشكلة في هذا الأب وليس أولاده، فهو محتاج إلى استشارة نفسية، وإلى أن يعترف بأخطائه؛ لأن أول علاج أن نعترف بالخطأ، ومشكلتنا أننا ننكر ذلك دائماً، يظل الأب يضرب ويطرد ثم يتصور أن هذه هي التربية، وأن التربية أن يضرب وتهدر كرامته، وتحطم نفسيته حتى يكون رجلاً. وهذا تفكير عجيب جداً، فمثل هذه المشاكل الأب محتاج فيها إلى العلاج، ويحتاج إلى أن يذهب إلى أخصائي نفسي للاستشارة النفسية، ويعترف بكل سلوكياته مع أولاده. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

منثورات من أطايب الكلام

منثورات من أطايب الكلام يمر المرء أثناء قراءته في كتب أهل العلم بحكَم ومواعظ، وحكايات وأشعار ممتلئة بالفوائد، والعجائب، والمواقف النادرة، والعبر الباهرة، وهذا الدرس فيه منثورات من ذلك، وهذه المنثورات تختلف موضوعاتها، وتتفق في أنها من الحكمة والأدب.

فضل انتقاء أطايب الكلام

فضل انتقاء أطايب الكلام الحمد لله، والصلاة ولاسلام على رسول الله، وبعد: هذا الدرس ليس هو كتاباً نشرحه أو نلخصه، وليس موضوعاً بعينه، ولا تصنيفاً لمؤلف باسمه، وليس مرتباً في أفكاره، وإنما هو بدعة تكون حسنة إن شاء الله، وليست بدعة شرعية مذمومة، وهو في الحقيقة تكرار لما سنه بعض الأئمة مما ينبغي أن نقتدي بهم فيه، وهو أن يتشبه الإنسان بمن يغوص في أعماق البحار ويستخرج اللآلئ والأشياء الثمينة، أو من يطوف في بستان ويقتطف من الثمار أفضلها وأنضجها وأنفعها، فيجمعها ويقدمها لإخوانه وأحبائه. وهذا المعنى عبر عنه بعض السلف بقوله: لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا يوماً واحداً: ظمأ الهواجر -الصيام في الأيام الحارة-، وقيام الليالي الباردة، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر. فكان من سنة السلف أنهم ينتقون النصائح التي تؤثر في القلوب أكثر من غيرها، وقد تعودت منذ سنوات طويلة أني متى وقفت على فائدة في أي موضوع من الموضوعات، فإني أدونها في قصاصة وأجعلها في صندوق خاص بالفوائد. نحن معشر البشر نشترك في الإحساس بالمعاني، ولكن قد لا نوفق جميعاً إلى المستوى الأدبي الراقي أو البديع الذي يعبر عن هذه المعاني ويصوغها في هذه العبارات كسمط اللآلئ المنظومة. وأنا أنصح جميع الإخوة أن يكون لهم مثل هذا الصندوق يضعون فيه قصاصات، فأي فائدة من حديث عبرة كلمة طيبة تحب أن تحفظها كي تتمثلها وتنتفع بها تلقيها فيه، ثم تدونها بعد ذلك في كراسة إن تيسر لك ذلك. فهي أفكار غير مرتبة كما ذكرنا لكن إن شاء الله يكون فيها نفع.

القصص عبرة

القصص عبرة هذه قصاصة فيها قول بعض العلماء: الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه، قال: وشاهده قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]. هذه إشارة إلى فائدة الحكايات والقصص الحق الذي ليس بكذب، مثل قصص القرآن الكريم والقصص الذي جاء في السيرة النبوية، فهذه الحكايات هي جنود من جنود الله سبحانه وتعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه. ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم. أي: فمن خلالها نعرف نطالع آداب السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وشاهد هذا قوله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، كيف نقتدي بهم إن لم نطلع على آدابهم؟ وقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]. وقال سفيان بن عيينة: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. وقال أبو محمد التيمي كأنه يشير إلى أدب يناسب ذكر الصالحين، وهذا الأدب ينبغي أن يحفظه كل طالب علم مع شيخه ومؤدبه ومن يستفيد منه حتى من اللاحقين، يقول: يقبح بكم أن تستفيدوا منا ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا. أي: يقبح أن تستفيدوا من دروس العلماء ونصائحهم أو من كتبهم التي صنفوها، ثم تقولوا: قال الإمام فلان؛ دون أن تقولوا: رحمه الله، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فقابل ذلك بالدعاء له برحمة الله تبارك وتعالى.

مقياس المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم

مقياس المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم هنا فتوى فيها إشارة إلى معنى عظيم جداً، وأنا لما قرأت هذه الكلمة دعوت لهذا الإمام الذي أفتى بهذه الفتوى، وقلت: فرج الله عنك؛ كما دعا له من أجاب هو سؤالهم، وأرجو أن من ينتفع منكم يدعو لي بنفس هذه الدعوة، فقد سأل رجل الإمام أسد بن الفرات عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يكون الرجل مؤمناً حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله وماله والناس أجمعين)، فقال ذلك الرجل للإمام أسد بن الفرات: أخاف ألا أكون كذلك؟ فقال له الإمام أسد بن الفرات: أرأيت لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقرب ليقتل، أكنت تفديه بنفسك؟ قال: نعم، قال: وبأهلك وولدك؟ قال: نعم، قال: فلا بأس، فقال الرجل: فرجتها عني فرج الله عنك! فأعطاه هذا المقياس؛ لأن قلب المؤمن الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا يمكن أبداً أن يخلو من أصل محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالعلامة الحية والبارزة على هذا هو ما ذكرناه هنا، وهي مشار إليها في القرآن في قوله تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، أي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أولى بك من روحك ونفسك التي بين جنبيك، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه هذا الرجل في جوابه، وقال تبارك وتعالى: {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَفسِهِ} [التوبة:120] لذلك قال له الرجل: فرجتها عني فرج الله عنك، فقد أتاه بالميزان الذي يثبت له فعلاً وجود هذه المحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فائدة أخرى: يقول بعض العلماء في تعليل تمتعه وتلذذه بذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته: لم أسم في طلب الحديث لسمعة أو لاجتماع قديمه وحديثه لكن إذا فات المحب لقاء من يهوى تعلل باستماع حديثه يعني: إذا كانت مقابلة رسول الله عليه الصلاة والسلام قد فاتتني فأنا أتمتع بسماع حديثه كأني قابلته. أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا يعني: صحبوا أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم.

القبول للمتقين

القبول للمتقين هذه نصيحة من ضيغم العابد يقول: إن لم تأت الآخرة للمؤمن بالسرور، لقد اجتمع عليه الأمران هم الدنيا وشقاء الآخرة، فقيل له: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعب في دار الدنيا ويدأب؟ فقال: وكيف بالقبول وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح عمله يجمع ذلك كله يوم القيامة ثم يضرب به وجهه، ومن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].

عظم نعم الله

عظم نعم الله وجاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً من حاله ومعاشه واغتماماً بذلك، فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟ فالرجل جاء يشكو أنه لا يجد القوت ولا الطعام وكثرة العيال وهم الدنيا والفقر، فشكا إليه ولم يذكر نعم الله عليه ولم يحمد الله سبحانه وتعالى، ولم يعدل في القضية؛ لأنه إذا سلب منه شيء أو ضيق عليه في باب فقد وسع عليه في أبواب كثيرة من النعم التي لا تحصى، فجاء هذا الرجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً من حاله ومعاشه فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟ يعني: أيسرك بدل بصرك مائة ألف دينار؟ قال: لا. قال: فبسمعك؟ قال: لا، قال: فبلسانك؟ قال: لا، قال: فبعقلك؟ قال: لا، ثم قال يونس: ألا أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة! أي: عندك مئات الآلاف وأنت تشكو الفقر. كثير من النعم لا نحس بها؛ لأننا مغمورون فيها ولم نبتل بفقدها، فلنذكر نعمة قد لا يستحضر أحد أنها نعمة، وهي خروج البول والغائط من الإنسان، كما جاء أحدهم لأحد الملوك وقد أصيب باحتباس البول فقال له: كم تدفع في سبيل أن أعالجك حتى تخرج هذه البولة؟ فذكر له الأرقام الفلكية التي تليق بالملوك والرؤساء. هو يقول: أنا مستعد أن أتنازل عن جميع ملكي في سبيل أن أعالج من هذه الحالة، فقال: اتق الله في ملك لا يساوي مثل هذا الشيء الذي يخرج من بدنك، فهذه نعمة، لكن قل من يستحضرها إلا إذا ابتلاه الله سبحانه وتعالى.

إخلاص العمل واتباع الأمر

إخلاص العمل واتباع الأمر يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور. إذا تقربت إلى الله سبحانه وتعالى بعمل صالح، وبالتالي لم تجد في قلبك حلاوة وفي صدرك انشراحاً، فعملك هذا فيه آفة؛ لأن عملك إذا سلم من الآفات فإن الله سبحانه وتعالى شكور، يشكر لمن يتقرب إليه بهذه الطاعات، فإذا كان عملك بلا آفة وتقبله الله منك فلابد أن يعقبك حلاوة في قلبك بسبب هذه الطاعة وانشراحاً في صدرك، فبما أن الله لم يوجد في قلبك ذلك فهو لم يقبل منك هذا العمل، أو هناك آفة في عملك، فراجع نفسك. وعن شمر عن رجل قال: كنت عريفاً في زمن علي فأمرنا بأمر فقال: أفعلتم ما أمرتم؟ قلنا: لا، قال: والله لتفعلن ما تؤمرون به أو لتركبن أعناقكم اليهود والنصارى. وقال ابن طاهر المقدسي الحافظ: سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول: عرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت. فانظر إلى هذه الشجاعة الأدبية لأئمة المسلمين.

أشعار فيها مناجاة

أشعار فيها مناجاة هذه بعض الأشعار فيها مناجاة لله سبحانه وتعالى، وبعض المعاني الطيبة، فهذا أحد العلماء الأفاضل يتكلم على وجوب الإخلاص في العمل لله سبحانه وتعالى وإلا فإن العمل يذهب هباء منثوراً، يقول: سهر العيون لغير وجهك ضائع وبكاؤهن لغير فقدك باطل ويقول آخر: إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب ويقول آخر: إلهي يا كثير العفو عفواً لما أسلفت في زمن الشباب فقد سودت بالآثام وجهاً ذليلاً خاضعاً لك في التراب فبيضه بحسن العفو وجهي وسامحني وخفف من عذابي ويقول آخر: لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد وقلت يا عدتي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد وقد مددت يدي والضر مشتمل إليك يا خير من مدت إليه يد فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد وآخر يقول في مناجاة جميلة هي من أروع ما تكون المناجاة: يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى في الشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لجودك أن تقنط عاصياً فالفضل أجزل والمواهب أوسع ويقول آخر: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرم أدعوك رب كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم ويقول آخر: قدمت بين يدي نفساً أذنبت وأتيت بين الخوف والإقرار وجعلت أستر عن سواك ذنوبها حتى عييت فَمُنَّ لي بستار

أشعار في الاتعاظ بالموت

أشعار في الاتعاظ بالموت هذه أيضاً جملة من الأشعار في الاتعاظ بالموت وبالقبور يقول: قدم لنفسك ما استطعت من التقى إن المنية نازلة بك يا فتى أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى أحباب قلبك في المقابر والبلى ويقول آخر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دماً وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى ووجد مكتوباً عن على قبر سيبويه أستاذ النحاة: ذهب الأحبة بعد طول تزاور ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا تركوك أوحش ما تكون بقفرة لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا قضي القضاء وصرت صاحب حفرة عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا ويقول آخر: وقفت على الأحبة حين صدفة قبورهم كأفراط الرهان فلما أن بكيت وفاض دمعي رأت عيناي بينهم مكاني ويقول آخر: ستنقلك المنايا عن ديارك ويبدلك الردى داراً بدارك وتترك ما عنيت به زماناً وتنقل من غناك إلى افتقارك فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك ويقول آخر: يا من سينأى عن بنيه كما نأى عنه أبوه مثل لنفسك قولهم جاء اليقين فوجهوه وتحللوا من ظلمه قبل الممات وحللوه ويقول آخر: لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الفراق قليل وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خليل ويقول آخر: إن كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعه ويقول آخر: نموت وننسى غير أن ذنوبنا وإن نحن متنا لا تموت ولا تنسى ألا رب ذي عينين لا تنفعانه وهل تنفع العينان من قلبه أعمى ويقول آخر: نراع إذا الجنائز قابلتنا ويحزننا بكاء الباكيات كروعة ثلة لمغار سبع فلما غاب عادت راتعات أي: مثل ثلة من الناس أغار عليهم سبع فارتاعوا لذلك، فلما غاب عنها السبع عادت ترتع من جديد وتعبث وتلهو وكأن السبع لم يهددها. ويقول آخر: أذان المرء حين الطفل يأتي وتأجيل الصلاة إلى الممات بيان أن محياه يسير كما بين الأذان إلى الصلاة يقول: إن الوقت بين ميلاده وموته وقت سريع وخاطف كالوقت بين الأذان والإقامة، وبيان ذلك أن الأذان يؤذن في أذنه حين يولد، أما صلاة الجنازة فتكون بعد خروج روحه، فحياة الإنسان شبيهة بالوقت الذي بين الأذان والصلاة.

من مواقف الأئمة

من مواقف الأئمة

مالك والملبسون

مالك والملبسون عن سعيد بن بشير قال: كان مالك إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم وأنه يريد المغالطة -أي يظن أنه يريد المغالطة والتشكيك والجدل والتعنت، ولا يقصد الاستفهام ولا الرغبة في العلم- فكان الإمام مالك يزجره بهذه الآية: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]. وقال قتادة: لما احتضر عامر بكى فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.

عبد الرحمن بن أبان يجمع بين الدين والملك والشرف

عبد الرحمن بن أبان يجمع بين الدين والملك والشرف وقال موسى التيمي وهو يصف عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان: ما رأيت أحداً أجمع للدين والمملكة والشرف منه. وقيل: كان يشتري أهل البيت من الرقيق، فيكسوهم ويعتقهم، ويقول: أستعين بهم على غمرات الموت، فمات وهو نائم في مسجده. وقيل: كان كثير العبادة والتأله، رآه علي بن عبد الله بن عباس فأعجبه نسكه وهديه، فاقتدى به في الخير.

الشافعي يرشد تلاميذه

الشافعي يرشد تلاميذه وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث الضغائن. والمراء هو: الجدل في الدين. وعن المزني: إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فـ الشافعي. يشير المزني إلى أن هناك بعض الوساوس في التوحيد كان ترد عليه أحياناً من الشيطان، فما استطاع أحد أن يعالجه من هذا الأمر إلا الشافعي، فحكى القصة قال: صرت إليه وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد فعلمت أن أحداً لا يعلم علمك، فما الذي عندك؟ فغضب الشافعي وقال: أتدري أين أنت؟ يشير إليه أنت الآن في بلدة مصر. قلت: نعم، فقال له الشافعي: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون، أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت: لا، قال: هل تكلم فيه الصحابة؟ قلت: لا، قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا، فكوكب منها تعرف جنسه وطلوعه وطوله ومم خلق؟ قلت: لا، قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه. ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه فلم أصب في شيء منها، فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله وإلى قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة:163 - 164] إلى آخر الآيات -يرشده إلى التفكر في مخلوقات الله- فاستدل بالمخلوق على الخالق ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك، قال: فتبت.

إمام سني يدمغ شبهة المعتزلة

إمام سني يدمغ شبهة المعتزلة وعن المرتجي بالله محمد بن الواثق العباسي قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، فأتي بشيخ مقيد، فقال: ائذنوا لـ أبي عبد الله وأصحابه، يقصد بذلك أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة الضال. قال: فأدخل الشيخ الذي سيقتل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فقال: لا سلم الله عليك فقال: يا أمير المؤمنين، بئسما أدبك مؤدبك! قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]. فقال ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم! أي: يبدو أن عنده قدرة على الجدل والمناظرة. فقال له: كلمه، فقال أحمد بن أبي دؤاد للشيخ: ما تقول في القرآن؟ قال: لم ينصفني ولي السؤال، قال: سل، قال: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق! قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه؟ قال: شيء لم يعلموه، فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم علمته أنت؟! فخجل، فقال: أقلني. قال: المسألة بحالها، قال: نعم علموه، قال: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم، قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟ قال: فقام أبي فدخل مجلساً واستلقى وهو يقول: شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت، سبحان الله! شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم أمر برفع قيوده وأن يعطى أربعمائة دينار ويؤذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن أحداً بعدها.

الروافض شر من الخوارج

الروافض شر من الخوارج حكى الذهبي أن بعض علماء السنة اتفقوا مع الخوارج على مواجهة الدولة العبيدية الفاطمية الملحدة هنا في مصر، فقال: وعوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني؛ حضرت عقداً فيه جمع من أهل السنة والمشارقة، وفيهم أبو قضاعة الداعي، فجاء رئيس فقال كبير منهم: إلى هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسول الله -يعني بذلك أبا قضاعة - فما نطق أحد. وخرج أبو إسحاق الفقيه مع أبي يزيد وقال: هم من أهل القبلة وأولئك ليسوا أهل قبلة، وهم بنو عدو الله، فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد؛ لأنه خارجي.

لا تكن إمعة

لا تكن إمعة وعن أبي الأحوص عن عبد الله يعني ابن مسعود قال: لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً فإن آمن آمن وإن كفر كفر، وإن كنتم مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. وقال عبد الله: لا تكونن إمعة قيل: وما الإمعة؟ قال: يقول: أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس ألا يكفر. وعن مطرف قال: كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول: يا عباد الله أكرموا وأجملوا، فإنما وسيلة العبادة إلى الله بخصلتين الخوف والطمع، فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتاباً فنسقوا كلاماً من هذا النحو: إن الله ربنا، ومحمداً نبينا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا وكنا، ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا، قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلاً رجلاً فيقولون: أقررت يا فلان؟ حتى انتهوا إلي فقالوا: أأقررت يا غلام؟ قلت: لا، قال: -يعني: زيداً -: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول يا غلام؟ قلت: إن الله قد أخذ علي عهداً في كتابه، فلن أحدث عهداً سوى العهد الذي أخذه علي، فرجع القوم من عند آخرهم ما أقر منهم أحد، وكانوا زهاء ثلاثين نفساً.

مواقف من التقوى

مواقف من التقوى وعن الشافعي قال: ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، ولا قبله إلا هبته واعتقدت مودته. وعن سحنون قال: كان بعض من مضى يريد أن يتكلم الكلمة ولو تكلم بها لانتفع بها خلق كثير، فيحبسها ولا يتكلم بها مخافة المباهاة، وكان إذا أعجبه الصمت تكلم، ويقول: أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً. وعن أبي الأحوص قال: قالت بنت لجار منصور بن المعتمر: يا أبه! أين الخشبة التي كانت في سطح بيت منصور قائمة؟ قال: يا بنيه! ذاك منصور كان يقوم الليل، فكانت البنت ترى منصوراً من كثرة قيامه الليل كأنه خشبة قائمة على السطح؛ ولكن لأن البيت بعيد فما كانت تتحقق في ملامحه، فهذا يعني أن السلف ما كان يتدخل أحد فيما لا يعنيه، فسألت لما فقدت الخشبة، كما يقول بعض الشعراء في هؤلاء الفضوليين: ما يريد الناس منا ما ينام الناس عنا لو سكنا باطن الأر ض لكانوا حيث كنا إنما همهم أن ينشروا ما قد دفنا وعن عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء لم ينقص فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل! وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعت الفضيل يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك.

الشجاعة في الحق والتضحية في سبيله

الشجاعة في الحق والتضحية في سبيله

قاض يصلب لإصراره على الحق

قاض يصلب لإصراره على الحق وقال الذهبي في ترجمة قاضي مدينة برقة محمد بن الحبري: أتاه الأمير فقال: غداً العيد، قال: حتى نرى الهلال ولا أفطر الناس وأتقلد إثمهم، فقال: بهذا جاء كتاب المنصور. يقول الذهبي: وكان هذا من رأي العبيدية يفطرون بالحساب ولا يعتبرون رؤية، فلم ير الهلال، فأصبح الأمير بالطبول وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي، فأمر الأمير رجلاً خطب وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه فأحضر، فقال له: تنصل وأعفو عنك، فامتنع، فأمر به فعلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلم يسق، ثم صلبوه على خشبة؛ فلعنة الله على الظالمين. وعن أبي عبد الرحمن العمري قال: إن من غفلتك إعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى خوفاً ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً.

علي بن أبي الطيب وابن سبكتكين

علي بن أبي الطيب وابن سبكتكين وقال الذهبي في ترجمته للإمام علي بن أبي الطيب: إنه حمل إلى السلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه، فلما دخل جلس بلا إذن، وأخذ في رواية الحديث بلا أمر، فتنمر له السلطان، فأمر غلاماً فلكمه لكمة أطرشته، فعرفه بعض الحاضرين منزلته في الدين والعلم، فاعتذر إليه وأمر له بمال فامتنع، فقال يا شيخ: إن للملك صولة وهو محتاج إلى السياسة، ورأيت أنك تعديت الواجب، فاجعلني في حل، فقال: الله بيننا بالمرصاد، وإنما أحضرتني للوعظ وسماع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللخشوع، لا لإقامة قوانين الرياسة، فخجل الملك واعتنقه.

عبد الله بن حذافة وملك الروم

عبد الله بن حذافة وملك الروم وعن أبي رافع قال: وجه عمر جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا له: إن هذا من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي، قال: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب ما رجعت عن دين محمد طرفة عين، قال: إذاً أقتلك، قال: أنت وذاك! فأمر به فصلب، وقال للرماة: ارموه قريباً من بدنه، وهو يعرض عليه التنصر وهو يأبى، فأنزله، ودعا بقدر فصب فيها ماء وأوقدت تحتها نار حتى احترقت ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم بكى عبد الله بن حذافة، فقيل للملك: إنه بكى، فظن أنه قد جزع، فقال: ردوه! ما أبكاك؟ قال: قلت: هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله. فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، فقال له عبد الله: وعن جميع الأسارى؟ قال: نعم، فقبل رأسه وقدم بالأسارى على عمر قال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ، فقبل رأسه؛ رضي الله عنهم أجمعين!

من أخبار الجهاد

من أخبار الجهاد

موقف أبي عقيل الأنصاري يوم اليمامة

موقف أبي عقيل الأنصاري يوم اليمامة وعن جعفر بن عبد الله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جرح أبو عقيل، رمي بسهم فوقع بين منكبه وفؤاده في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن له شقه الأيسر في أول النهار، وجر إلى الرحل، فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: يا للأنصار! الله الله والكرة على عدوكم! قال عبد الله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قَوْمَةً، فقلت: ما تريد؟ ما فيك قتال أنت مجروح! قال: قد نوه المنادي باسمي. قال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار! ولا يعني الجرحى؟ فقال أبو عقيل: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حبواً، قال ابن عمر: فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي يا للأنصار! كرة كيوم حنين! فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً فالمسلمون دريئة دون عدوهم. فاجتمعوا حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم، قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب، فوقعت إلى الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة. قال ابن عمر: فوقفت على أبي عقيل وهو صريع في آخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل! فقال بلسان ملتاث: لبيك لمن الدبرة؟ يريد أن يطمئن قبل أن يغادر الدنيا من الذي انتصر؟ قلت: أبشر! قد قتل عدو الله، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات رحمه الله.

رجل يدفع نفسه للجهاد دفعا

رجل يدفع نفسه للجهاد دفعاً وعن عبد الله بن قيس أبي أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر العدو، فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس! ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك! فأطعتك ورجعت، ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك! فأطعتك ورجعت، والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك، فقلت: لأرمقن هذا الرجل أنظر كيف يفعل. فرمقته، فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا، فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم، قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته أكثر من ستين طعنة.

المجاهد بالدعاء

المجاهد بالدعاء وقال الأصمعي: لما صاف قتيبة بن مسلم بالترك وهاله أمرهم؛ لأن الجيش قوي جداً بالنسبة لجيش المسلمين، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء، -أي: من شدة الإلحاح في الدعاء- فقال قتيبة بن مسلم: تلك الإصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير! وذلك لأنه يطمع أن يستجيب الله سبحانه وتعالى دعاء هذا الرجل الصالح، فينصر المسلمين بدعائه.

أبو بكر النابلسي وجهاد العبيديين

أبو بكر النابلسي وجهاد العبيديين وقال الذهبي في ترجمته لـ أبي بكر النابلسي: قال أبو ذر الحافظ: سجنه بنو عبيد الفاطميون الملاحدة، وصلبوه على السنة. يقول: سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، يعزي نفسه بقضاء الله سبحانه وتعالى، ويصبر نفسه بذلك. قال أبو الفرج ابن الجوزي: أقام جوهر الصقلي القائد لـ أبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة، أنت تحرض الناس على قتال الفاطميين، قال: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نوراً إلهياً. فشهره ثم ضربه، ثم أمر يهودياً فسلخ جلده.

رب محنة خير من منحة

رب محنة خير من منحة وعن عثمان بن الهيثم قال: كان رجل بالبصرة من بني سعد، وكان قائداً من قواد عبيد الله بن زياد، فسقط عن السطح فانكسرت رجلاه، فدخل عليه أبو قلابة يعوده فقال: أرجو أن تكون لك خيرة، فقال له: يا أبا قلابة وأي خير في كسر رجلي جميعاً؟! فقال: ما ستر الله عليك أكثر. فلما كان بعد ثلاث ورد كتاب ابن زياد: أن يخرج فيقاتل الحسين، فقال للرسول: قد أصابني ما ترى، فما كان إلا سبعاً حتى وافى الخبر بقتل الحسين، فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة! لقد صدق إنه كان خيرة لي. فالإنسان لا يدري أين يكون الخير، فهو لما دخل عليه قال: لعل هذا خير لك، فكان هذا عذراً في تخلفه عن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه، فكان خيراً له كما قال أبو قلابة. وقال أبو بكر بن عياش للحسن بن الحسن بالمدينة: ما أبقت الفتنة منك؟ فقال: وأي فتنة رأيتني فيها؟! قال: رأيتهم يقبلون يدك ولا تمنعهم.

احذروا صاحب الكساء

احذروا صاحب الكساء عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا مع رجاء بن حيوة فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحد يقوم بشكر نعمة! يعني: يشكو من حال الناس أنهم لا يشكرون الله سبحانه وتعالى على النعم. قال: وخلفنا رجل على رأسه كساء، فقال: ولا أمير المؤمنين؟ فقلنا: وما ذكر أمير المؤمنين هنا، وإنما هو رجل من الناس؟! قال: فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: أتيتم من صاحب الكساء، فإن دعيتم فاستحلفتم فاحلفوا. أي: لكم رخصة بأن تحلفوا حتى على الكذب. قال: فما علمنا إلا بحرسي قد أقبل فقال: هيه يا رجاء يذكر أمير المؤمنين ولا تحتج له، قال: فقلت: وما ذاك؟ قال: ذكرتم شكر النعم فقلتم: ما أحد يقوم بشكر النعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين؟ فقلت: أمير المؤمنين رجل من الناس، فقلت: لم يكن ذلك، قال: آلله، قلت: آلله، قال: فأمر بذلك الرجل الساعي -لأنه يعرف أن هؤلاء صالحون لا يكذبون- فضرب سبعين سوطاً، يقول: فخرجت وهو متلوث بدمه فقال: هذا وأنت رجاء بن حيوة تكذب، قلت: سبعين سوطاً في ظهرك خير من دم مؤمن، قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس يتلفت ويقول: احذروا صاحب الكساء!

من مواقف الأبرار

من مواقف الأبرار

التربية على السنة

التربية على السنة عن محمد بن سويد الطحان قال: كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة، وأحمد بن حنبل يضرب، فجعل عاصم يقول: ألا رجل يقوم معي فنأتي هذا الرجل فنكلمه، قال: فما يجيبه أحد؟ ثم قام، قال ابن أبي الليث: أنا أقوم معك يا أبا الحسين، فقال: يا غلام خفي! يعني: أحضر خفي. فقال ابن أبي الليث: يا أبا الحسين أبلغ إلى بناتي فأوصيهم، فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط ثم جاء، فقال: إني ذهبت إليهن فبكين، قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط: يا أبانا إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل فضربه على أن يقول: القرآن غير مخلوق، فاتق الله ولا تجبه، فوالله لأن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت.

الورع في الدماء

الورع في الدماء وعن الشعبي قال: كان مسروق إذا قيل له أبطأت عن علي وعن مشاهده -أي: يعاتبونه على عدم الخوض في القتال الذي جرى بين الصحابة- فيقول: أرأيتم لو أنه حين صف بعضكم لبعض فنزل بينكم ملك فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] أكان ذلك حاجزاً لكم؟ قالوا: نعم، قال: فوالله لقد نزل بها ملك كريم على لسان نبيكم، وإنها لمحكمة ما نسخها شيء. وقال أيوب: قال مطرف: لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إلي من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير، يعني: أن أقعد عن الخروج وأنا واثق من سلامة موقفي في القعود، أحب إلي من أن يغرر بي أن هذا جهاد ولا يكون جهاداً، ومعنى ذلك: أنه لا يخرج لقتال أو جهاد إلا إذا كان واثقاً أنه جهاد في سبيل الله، أما إذا كان هناك احتمال التغرير به أنه قتال فتنة فلا. وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية -الخوارج- مطرف بن عبد الله يدعونه إلى رأيهم، فقال: يا هؤلاء! لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدى أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها.

البر بالأم

البر بالأم وعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة من عهد عثمان بن عفان ألف درهم -يعني ارتفع ثمنها حتى وصل ألف درهم- قال: فعمد أسامة إلى نخلة فعقرها، فأخرج جمارها فأطعمه أمه فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم، قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا أعطيتها.

دعاء الأم

دعاء الأم وذكر عبد الرحمن بن أحمد عن أبيه أن امرأة جاءت إلى بقي فقالت: إن ابني في الأسر ولا حيلة لي، فلو أشرت إلى من يفديه فإني والهة. قال: نعم، انصرفي حتى أنظر في أمره، ثم أطرق وحرك شفتيه، ثم بعد مدة جاءت المرأة بابنها فقال الابن: كنت في يدي ملك، فبينا أنا في العمل سقط قيدي، قال: فذكر اليوم والساعة فوافق وقت دعاء الشيخ، قال: فأفلت من العدو، قال: فصاح علي المرسم بنا، ثم نظر وتحير من الذي أخرج هذه القيود بهذه الطريقة، ثم أحضر الحداد وقيدني، فلما فرغ ومشيت سقط القيد، فبهتوا ودعوا رهبانهم، فقالوا: ألك والدة؟ قلت: نعم، قال: وافق دعاؤها الإجابة! فانظر كيف عرف النصارى وهم كفار أن دعاء الأم يستجاب، ثم قالوا: قد أطلقك الله فلا يمكننا أن نقيدك، فزودوني وبعثوا بي.

البر بالصاحب

البر بالصاحب وعن مصعب بن أحمد بن مصعب قال: قدم أبو محمد المروزي إلى بغداد يريد مكة وكنت أحب أن أصحبه، فأتيت واستأذنته في الصحبة فلم يأذن لي في تلك السنة، ثم قدم سنة ثانية وثالثة فأتيته فسلمت عليه وسألته فقال: اعزم على شرط أن يكون أحدنا الأمير لا يخالفه الآخر، فقلت: أنت الأمير، فقال: لا، بل أنت، فقلت: أنت أسن وأولى، فقال: فلا تعصيني؟ قلت: نعم. فخرجت معه، وكان إذا حضر الطعام يؤثرني، فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشرط عليك ألا تخالفني، فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يلحق نفسه من الضرر، فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد ونحن نسير، فقال لي: يا أبا محمد اطلب الميل -الميل علامات كانت توضع في الطريق توضح مراحل السفر والمسافات بين المدن، فينصب لذلك ميل على الجدار- فاتجه إلى هذا إلى الميل، ثم قال لي: اقعد في أصله، فأقعدني في أصله، وجعل يديه على الميل وهو قائم قد حنا علي وعليه كساء قد تجلل به يظلني من المطر، حتى تمنيت أني لم أخرج معه لما يلحق نفسه من الضرر، فلم يزل هذا دأبه حتى دخل مكة رحمة الله عليه. فهذا خلق نادر من الإيثار الذي كان عليه السلف رحمهم الله تعالى.

وصية تغني عن كثير من العلم

وصية تغني عن كثير من العلم وقال ليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر: أن اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم؛ فافعل! يعني: أن هذا يغنيك عن كثير من العلم. وعن ابن النجمي قال: سمعت سفيان يقول: كان ابن عياش المنتوف يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر فقال: يا هذا لا تفرط في شتمنا وأدخل الصلح موضعه، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.

من وصايا الشافعي ليونس

من وصايا الشافعي ليونس وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة. وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يا يونس! إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه، فإياك أن تبادره بالعداوة وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن القه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، لا تزيدن على ذلك شيئاً، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهاً لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك وجهاً لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى وأبلغ في الكرم؛ لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، فإن نازعتك نفسك بالمكافأة ففكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها، ثم اذكر له إحساناً بهذه السيئة، ولا تبخس باقي إحسانه السالف لهذه السيئة فإن ذلك الظلم بعينه. يا يونس! إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل.

الجرح والتعديل

الجرح والتعديل وقال أبو الربيع محمد بن الفضل البلخي سمعت أبا بكر الرازي سمعت علي بن الحسين سمعت يحيى بن معين يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة. يعني: أن ضرورة الكلام في الجرح والتعديل لحفظ سنة النبي عليه الصلاة والسلام تضطرهم إلى أن يكونوا صادقين في شهادتهم، وإن كانوا قوماً صالحين كما قال بعض العلماء أيضاً: إنا لنرد شهادة أقوام ونحن نرجو شفاعتهم يوم القيامة، فيقول هنا يحيى بن معين: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة. قال ابن مهرويه: فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب، وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية. وعن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلاً قد أسبل فقال: ارفع إزارك! فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، فقال: إن بساقي حموشة وأنا أؤم الناس، فبلغ ذلك عمر فجعل يضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود.

عزة العلم

عزة العلم وقال إبراهيم ابن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألون عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لبنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود. وكان إبراهيم الحربي رجلاً صالحاً من أهل العلم بلغه أن قوماً من الذين كانوا يجالسونه يفضلونه على أحمد بن حنبل، فوقفهم على ذلك، وقال: أقلتم هذا أم لم تقولوا؟ فأقروا به، فقال: ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لا أشبهه ولا ألحق به في حال من أحواله، فأقسم بالله لا أسمعكم شيئاً من العلم أبداً، فلا تأتوني بعد يومكم. وعن معاذ بن سعيد قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه قاطعه، فقال عطاء: سبحان الله ما هذه الأخلاق، إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم منه به، فأريه أني لا أحسن منه شيئاً. وعن عثمان بن الأسود قال: قلت لـ عطاء: الرجل يمر بالقوم فيقذفه بعضهم، أيخبره؟ قال: لا، المجالس بالأمانة، يعني: لا يخبره.

سبعك بين لحييك

سبعك بين لحييك وقال ابن السماك: سبعك بين لحييك تأكل به كل من مر عليك، وقد آذيت أهل الدور في الدور، ولم تكتف بهذا حتى تعرضت لأهل القبور، فما ترثى لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى أن نبشهم أخذ الخرق عنهم، هل تحسب أن نبش الموتى هو أن تسرق الأكفان من فوق جثثهم؟ كلا، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك، ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك، أما سمعت: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك؟!

البخاري يرجو ألا يكون قد اغتاب أحدا

البخاري يرجو ألا يكون قد اغتاب أحداً وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً. الإمام البخاري وهو صاحب التاريخ وصاحب الكلام الكثير في تعديل الرواة وجرحهم، وهو أمير المؤمنين في الحديث رحمه الله، ومع ذلك يتوثق من كل كلمة أخرجها ويكون قد أعد لها الجواب أمام الله سبحانه وتعالى، قال الذهبي: صدق رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه، فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث سكتوا عنه فيه نظر ونحو هذا، وقل أن يقول: فلان كذاب، أو كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر فهو متهم واهن، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً، وهذا هو والله غاية الورع.

منثورات شعرية وحكم دينية

منثورات شعرية وحكم دينية نعود لبعض الفوائد الأخرى: يقول بعض الشعراء: يا صاحب البغي إن البغي مصرعة يعني: مهلكة يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فاعدل فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوماً على جبل لاندك منه أعاليه وأسفله وهذه فائدة عن الغيرة: يقول بعض العلماء: العاقل يغار في المواضع التي شرعها الله ولا يتعداها، وكل غيرة خارجة عن حد الشرع فهي هوى. وقال خالد بن نزار: سمعت مالكاً يقول لفتى من قريش: تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم، وأوصى بعض السلف ولده فقال: يا بني اجعل علمك ملحاً وأدبك دقيقاً. وعن أبي الحسن عمران بن نمران: أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر فيقول: ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، بادلوا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات. وقال ثابت البناني: قال أبو عبيدة: يا أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه، يعني: أن أكون أنا الذي في جلده أو في ثيابه. وقال سفيان الثوري: كان يقال: إذا عرفت نفسك لم يضرك ما قيل فيك. يقول الشاعر: إن إلهي لغني حميد في كل يوم منه رزق جديد الحمد الله الذي لم يزل يفعل بي أكثر مما أريد هذا أبو عبيدة بن الجراح يقول: وددت أني كنت كبشاً فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي. وذلك خوفاً من حساب الله سبحانه وتعالى. وقال عمران بن حصين رضي الله عنهما: وددت أني رماد تسفيني الريح. وقال عمر بن ذر: كل حزن يبلى إلا حزن التائب عن ذنوبه. ويقول بعض السلف: سلاح اللئام قبيح الكلام. ويقول آخر: مواعيد الأحبة وإن اختلفت فهي تؤنس، يعني: حتى لو أخلفها المحبون فهي تؤنس وتوجب الإلف والسرور. وقال ابن المنكدر: بت أكبت رجل أبي، وبات آخر يصلي التهجد، ولا يسرني ليلته بليلتي، أي أنه يعتقد أن ثوابه أعظم من ثوابه؛ لأنه يبر أباه. وقال معاوية بن إسحاق: عن عروة قال: ما بر والده من شد الطرف إليه، يعني: ثبت عينه في النظر إليه، لأنه من العقوق. وعن عمر رضي الله عنه قال: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين. وقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. وهذا رواه مسلم. ويقول الشافعي: إنك لا تقدر أن ترضي الناس كلهم، فأصلح ما بينك وبين الله ثم لا تبال بالناس. وقال همام: مثل الذي يريد أن تجتمع له الدنيا والآخرة كمثل عبد له ربان لا يدري أيهما يرضي. وقيل لـ معاوية بن قرة: كيف ابنك لك؟ فقال: نعم الابن كفاني أمر دنياي، وفرغني لآخرتي.

منثورات أدبية

منثورات أدبية هذا شعر ذكره بعض العلماء في اعتذاره عن حضور وداع أحبابه، كانوا في سفر فلم يحضر الوداع فذكر هذا الشعر يذكر السبب، يقول: صدني عن حلاوة التشييع اجتناب مرارة التوديع لم يقم أنس ذا بوحشة هذا فرأيت الصواب ترك الجميع ويقول آخر في نفس الموقف: ولما أن تفرقنا وحالت نوب الدهر رأيت الشهد لا يحلو فما ظنك بالصبر وقيل لـ شريح: ممن أنت؟ قال: ممن أنعم الله عليه بالإسلام وعدادي في كندة. هم يقصدون القبيلة، فاعتز وافتخر بانتمائه إلى الإسلام. كقول الشاعر: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم وكان إذا قيل لـ شريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضاب. يعني لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. هذا شاعر يقول: تمنيت أن الشيب عاجل لمتي وقرب مني في صباي مزاره لآخذ من عصر الشباب نشاطه وآخذ من عصر المشيب وقاره يقول الشافعي: يا يونس! الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط. ويقول الشافعي أيضاً: يا راكباً قف بالمحصب من منى واهتف بساكن خيفها والناهض سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي

قاعدة في التوبة

قاعدة في التوبة هذه قاعدة يذكرها العلماء: أن الإنسان إذا ارتكب بعض المعاصي، مثل ممثلة تتوب من الفسق والفجور وتتبرأ من الأفلام والفساد الذي فعلته من قبل، وتحاول أن تقضي عليه فلا تستطيع، حيث يعمد الشياطين إلى إخراج تلك الأشياء السيئة وإذاعتها في الناس، فهل هي تحمل هذا الإثم بعد أن استفرغت وسعها في التبرؤ من ذلك؟ فالقاعدة: أن كل من تاب من شيء تعاطى سببه فقد فعل ما هو واجب عليه، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الإنسان إلا بما في وسعه، يقول الشاعر: من تاب بعد أن تعاطى السبب فقد أتى بما عليه وجب وإن بقى فساده كمن رجع عن بث بدعة عليها يتبع أو تاب خارجاً مكان الغصب أو تاب بعد الرمي قبل الضرب يقول بعضهم: كل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش. أمستوحش أنت مما جنيت فأحسن إذا شئت واستأنس

المحافظة على الحقوق

المحافظة على الحقوق استعار عبد الله بن المبارك قلماً من رجل بالشام، وحمله إلى خراسان ناسياً، فلما وجده معه رجع إلى الشام حتى أعطاه لصاحبه. سلام على تلك النفوس فإنها مسلمة من كل عار ومأثم رجع من خراسان إلى الشام حتى يعيد القلم وقد نساه صاحبه معه، فانظر إلى تعظيم السلف لحقوق الآخرين. وقال مالك بن دينار: قولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى. أي إن لم تكن صادقاً في طاعة الله فلن تستفيد من هذا العناء. قال أبو العالية: قال لي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم: لا تعمل لغير الله فيكلك الله عز وجل إلى من عملت له. يقول ابن عمر رضي الله عنه: لو وضعت إصبعي في خمر ما أحببت أن تتبعني، من شدة بغض المعاصي والعصاة. أي: لو أن هذه الإصبع دخلت داخل خمر لوددت أنه تنفصل وإذا سحبتها يكون قد بتر منها هذا الإصبع الذي لمس الخمر، فكيف بمن يشربه والعياذ بالله أو يحمله؟ وقال عثمان بن حيان: سمعت أم الدرداء تقول: إن أحدهم يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن الله لا يمطر عليه ذهباً ولا دراهم، وإنما يرزق بعضهم من بعض، فمن أعطي شيئاً فليقبل، فإن كان غنياً فليضعه في ذي الحاجة، وإن كان فقيراً فليستعن به. وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد. ما معنى التقوى لغة؟ أصل كلمة التقوى في اللغة: قلة الكلام، فهنا يقول عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد، أي وإن قدر عليه، فحتى لو كان قادراً على أن يبطش مثلاً بالناس فإن التقوى تحجزه؛ وبعض الناس لا يمتنع إلا عما عجز عنه، فإذ عجز عن النصب والاحتيال وسرقة حقوق الناس وخداعهم، فهذا هو حرام عليه، لكن متى تمكن فهو الحلال عنده، أما التقي فعند القدرة تلجمه التقوى عن أن يفعل ما يريد. ويقول بعض السلف: من أشرقت بدايته أشرقت نهايته. ويقول بعضهم: خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة، فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبداً. وقال مالك رحمه الله: لو أعلم أن قلبي يصلح للجلوس على كنافة لذهبت حتى أجلس عليها، يعني: في سبيل إصلاح قلبه.

سوأة الشهوة والمعصية

سوأة الشهوة والمعصية يقول بعض الشعراء: واسوأتى لفتى له أدب يضحي هواه قاهراً أدبه يأتي الدنية وهو يعرفها فيشين عرضاً صائناً أربه فإذا ارعوى عادت بصيرته فبكى على الحين الذي سلبه يقول: ما أعظم سوأة هذا الرجل الذي هو فتى عاقل عنده أدب وعنده خلق وحياء من الله سبحانه وتعالى، لكن يلوح له الهوى، فإذا بالهوى يقهر ما عنده من الأدب والحياء من الله. واسوأتى لفتى له أدب يضحى هواه قاهراً أدبه يأتي الدنية وهو يعرفها فيأتي الدنايا والمعاصي وهو يعرف أنها مما حرمه الله. فيشين عرضاً صائناً أربه يعني: يصون أربه وشهوته وفي نفس الوقت يشين عرضه بفعل هذه الدنية. فإذا ارعوى عاد بصيرته إذا ارعوى وانكف وانزجر عنها تعود إليه البصيرة. فبكى على الحين الذي سلبه فيبكي على الحين الذي سلب فيه هذا الأدب. ويقول أبو مسهر: ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنه متاع قليل والزوال قريب ويقول آخر: لا تكثرن تأملاً واحبس عليك عنان طرفك فلربما أرسلته فرماك في ميدان حتفك يعني لا تكثرن النظر إلى ما حرم الله.

المطلوب من العلم العمل

المطلوب من العلم العمل وعن نجيد الترمذي قال: كنت عند مالك وعنده محمد والمأمون يسمعان منه الحديث، فلما فرغا قال أحدهما إما المأمون وإما محمد: يا أبا عبد الله أتأمرني أن أكتبه بماء الذهب؟ قال: لا تكتبه بماء الذهب، ولكن اعمل بما فيه. يهدي بعضهم لبعض المصاحف المذهبة والمزخرفة وهم ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم! وقال الشافعي: كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء يجادله، قال: أما أنا فإني على بينة من ديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. أي: أنا على يقين أن هذا هو الحق، وأنه منهج أهل السنة والجماعة، أما أنت فصاحب بدع، فاذهب لتبحث عن شكاك أو مرتاب مثلك يجادل بعضكما بعضاً، أما أنا فلست محتاجاً إلى جدلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول: لا، بملء فيه. وعن سفيان بن عيينة قال: دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بـ سالم بن عبد الله بن عمر فقال له: يا سالم سلني حاجة، فقال له: إني لأستحيي من الله أن أسأل في بيت الله غير الله، وكان داخل الكعبة، فلما خرج في أثره قال له: الآن قد خرجت فسلني حاجة، فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، فقال له سالم: ما سألت من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها. ويقول أبو حنيفة رحمه الله تعالى: من طلب الرياسة في غير حينه لم يزل في ذل ما بقي. وذكر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كان والله أفضل من أن يَخدَع، وأعقل من أن يُخدَع. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية

نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين تفضيلاً عظيماً، ولا عزة ولا نصر للأمة إلا بالجهاد، وهو ماضٍ إلى قيام الساعة، إلا أنه قد استعمل في هذا العصر في غير محله، وأطلق على أمور ليست منه ولا تمت إليه بصلة، وما ذلك إلا للبعد عن معرفة أحكام الشرع الحنيف، وعدم الرجوع إلى الكتاب والسنة.

شرح حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه)

شرح حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه) الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبة من نفاق) رواه مسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه) (لم يحدّث) بالتشديد أي: لم يكلم، (به) أي: بالغزو، (نفسه) أي: لم يعزم على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولم يقل: يا ليتني كنت مجاهداً. وقيل: معناه: لم يرد الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل، وعلامته في الظاهر إعداد آلته، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46]، ويؤيده قوله: (مات على شعبة من نفاق) أي: نوع من أنواع النفاق، أي: من مات على هذا فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد، و (من تشبه بقوم فهو منهم). قال بعض العلماء: إن هذا كان مخصوصاً بزمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال القاري في مرقاة المفاتيح: والأظهر أنه عام، وأنه يجب على كل مؤمن أن ينوي الجهاد، إما بطريق فرض الكفاية، أو على سبيل فرض العين، وإذا كان اللفظ عاماً فيصير الجهاد فرض عين، ويستدل بظاهره لمن قال: الجهاد فرض عين مطلقاً، وهذا سنناقشه إن شاء الله بالتفصيل. وفي شرح مسلم للنووي: قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: نرى أن ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي: أن هذا كان خاصاً بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمل، وقال غيره: إنه عام، والمراد أن من لم يحدث نفسه بالغزو، فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في سبيل الله عز وجل في هذا الوصف؛ لأنهم يتخلفون كما قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] والسياق في المنافقين، فترك الجهاد أحد شعب النفاق. وفيه: أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعلها، لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه على من مات ولم ينوها، وهذه فائدة علمية، فلو أن رجلين ماتا، وقد ضيعا أو تركا عبادة معينة، وقد نوى أحدهما أن يفعلها فمات قبل أن يفعل ما نوى عليه، والآخر لم ينو فعلها، فلا يستوي من نوى أن يؤديها وعزم على فعلها، مع من مات وهو لم يعزم على فعلها. يقول النووي: اختلف أصحابنا فيمن تمكن من الصلاة في أول وقتها، فأخرها بنية أن يفعلها ومات، أو أخر الحج كذلك، قيل: يأثم فيهما، وقيل: لا يأثم فيهما، وقيل: يأثم في الحج دون الصلاة. هذه بعض الفوائد المتعلقة بهذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق).

أهمية الكلام حول موضوع الجهاد والتيارات الجهادية

أهمية الكلام حول موضوع الجهاد والتيارات الجهادية هناك عوامل كثيرة تحتم مناقشة هذه القضية، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن طُلب مني الكلام في هذا الموضوع، فجاء الطلب موافقاً لما في النفس، وهذه القضية لا شك أنها مهمة وشائكة، لكنها مثل كثير من القضايا لا يجدي معها التجاهل والإعراض، خصوصاً وأن لها كثيراً من الآثار والأبعاد. وهناك أسباب كثيرة تمنع الإنسان من الكلام المباشر والمفصل في قضية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وما يطلق عليه الجهاد في سبيل الله الآن في عصرنا؛ لأنه طرأ في السنوات الأخيرة فهم جديد لكلمة (الجهاد)، وهناك مد وجزر في الكلام في هذه القضية؛ لأن فيها حساسية شديدة. أول عوامل الامتناع من الكلام فيها: أن الإنسان يشفق دوماً أن يقف في خندق واحد مع أعداء الإسلام، فالذين يواجهون التيارات الجهادية في أغلبهم أعداء الإسلام من الداخل ومن الخارج، من المنافقين، والملاحدة، وغيرهم من أعداء الله عز وجل في كل مكان، وهم يقفون في مواجهة من يسلك هذا السبيل لإعزاز كلمة الله تبارك وتعالى بما يراه طريقاً إلى تحقيق هذا الهدف، فبلا شك أن في الأمر حرجاً شديداً، لكن المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى كبيرة، فهناك حرمات تنتهك، فينبغي أن تستبعد العواطف إذا كان الإنسان يبحث المسألة بحثاً موضوعياً مجرداً. وقد يحصل أحياناً اتحاد في الموقف، كما حدث عند اندلاع ثورة إيران، فكنا نعاير بنفس الشيء، كيف تحذرون من ثورة إيران؟ وكيف تنكرون عليها وأعداء الإسلام -أمريكا والغرب كله- يهاجمها؟ فنحن نقف معهم في خندق واحد، وفي الحقيقة أن التمادي مع هذه السياسة له ثمار غير محمودة، وله عواقب غير حميدة. وقد يحصل اتفاق مع الكفار في المواقف من بعض النواحي، لكن إذا كان المنطلق مختلفاً فلا حرج في هذه الحالة، فالكفار ينطلقون من منطلق الحقد على الإسلام، والعداوة للإسلام، والمسلمون يتناصحون فيما بينهم؛ حرصاً على الإسلام، وعلى مصلحة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فالمنطلق مختلف، فإذا كانت الشيوعية مثلاً تحارب الربا، والإسلام يحارب الربا، فهل معنى ذلك أننا نقول: الإسلام هو الشيوعية؟! لا، فالمنطلق مختلف، وحين نتدارس هذه القضية سنتدارسها من منطلق مختلف عما ينظر من خلاله أعداء الله تبارك وتعالى. وكنا نترقب بين وقت وآخر، ونقول: ننتظر حتى تمر هذه العاصفة، وسنتكلم بعد ذلك، فما تكاد تأتي عاصفة إلا وتأتي أخرى أشد منها. وما من شك أن من العوامل المؤثرة والفعالة في تهييج هذه الأوضاع -بالذات في السنوات الأخيرة- أن الذين وقفوا ضد الصف الإسلامي داعين إلى النار، صدر منهم ظلم وأذية لعباد الله، وللدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وانتهاك لحرمات المسلمين، مما أدى إلى حصول رد فعل في المقابل، وهو ما يطلقون عليه: الإرهاب والإرهاب المضاد، وإن كنا نتحرج كثيراً من استعمال هذه المصطلحات الخبيثة، لكن كثيراً من المنصفين من خصوم الإسلام يقرون بأن هذا المسلك إنما هو رد فعل لمن تعدوا كل الحدود، وتفلتوا من كل الضوابط، وتخلوا عن كل القيم، فسلكوا مسالك الجبابرة والظالمين في تعاملهم مع المسلمين.

تنبيه التيارات الجهادية إلى الاستفادة مما يحدث للمسلمين عبر التاريخ

تنبيه التيارات الجهادية إلى الاستفادة مما يحدث للمسلمين عبر التاريخ رصيد الدعوة دائماً يزيد من الخبرة، ومن التجارب، وما من شك أن هناك كثيراً من التجارب التي كان ينبغي أن نستفيد منها جميعاً، وكل من ينتمي إلى الصف الإسلامي لابد أن يستفيد من هذه التجارب؛ كي تكون رصيداً جديداً، ففي الحقيقة أن الدعوة قد مرّت منذ بداية هذه الصحوة إلى الآن بكثير من التجارب التي كان من المفترض أن يستفاد منها، وتستخلص منها العبر، لكن البعض لا يتعظون، ويصرون على سلوك مسلك معين، على أمل أن يؤدي إلى هدف مقصود. نحن اعتبرنا بلا شك خلال فترة الصحوة الأخيرة، ومن ذلك وضوح ما يسمى بـ (التجربة البرلمانية)، ومحاولة إعزاز الإسلام وإقامة حكم الله سبحانه وتعالى عن طريق سراب الديمقراطية الموهوم، وما أرى القوم يفعلون إلا كما كان يفعل المشركون في الجاهلية، فيعتبرون الديمقراطية إلهاً يعبدونه من دون الله، ولكنها كأصنام العجوة التي كانوا يصنعونها من التمر فإذا جاعوا أكلوها!! وهذه الديمقراطية التي يعبدونها ويسبحون بحمدها الآن إذا احتاجوا إليها أكلوها والتهموها، كما حصل في مصر، وكما حصل في الجزائر، فالمتعلق بمثل هذا الخيط الواهي يعتبر متعلقاً بسراب لا شيء وراءه ولا طائل تحته. وما من شك أننا مررنا بكثير من التجارب التي كان ينبغي أن نستفيد منها، وأن نطلق لعقولنا ولأفكارنا العنان؛ حتى نستخلص أقصى ما نستطيع من العبر من خلال هذه المعاناة، ابتداء من حادثة الفنية العسكرية، وغيرها من الأحداث في مصر، إلى هذا المسلسل الأخير الذي نعيشه الآن، فهو علامة بارزة جداً في تاريخ الحركة الدعوية المعاصرة، كأحداث حماس وما أدراك ما حماس! وغير ذلك من الوقائع التي كان ينبغي أن يحصل نوع من التحليل لها، والانتفاع بها، وأن يكون من جرائها رصيد يضاف إلى تجربة العمل الإسلامي، خصوصاً وأننا نتعمد أحياناً أن نغلق أعيننا وآذاننا عن التطلع من خلال نافذة التاريخ. وهذا أمر من مكامن النقص الخطيرة جداً في بعض الدعاة في هذا الزمان، فينبغي الاطلاع من خلال الرصيد التاريخي العظيم الموجود، والذي يفيدنا كثيراً في تحليل هذه الظواهر، وللتجربة أثر حتى في استنباط الأحكام، كما استقر إجماع أهل السنة والجماعة على عدم الخروج على الحاكم المسلم الجائر، وقد كانوا اختلفوا في أول الأمر، ثم استقر إجماعهم بعد ذلك على عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم الجائر أو الظالم أو الفاسق ما دام أنه في دائرة الإسلام، وما دام يحافظ على الإسلام، قالوا: قد جربنا، ورأينا في الصدر الأول عمليات خروج على الحكام في الدولة الأموية وغيرها، ثم استقر إجماع السلف على منع ذلك، ونصوا عليه في متون العقيدة، كما ترون في متن الطحاوية وغيرها من متون العقيدة، فالعلماء ينصون على هذه القضية لخطورتها، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى بالتفصيل. إذاً: الاطلاع من خلال نافذة التاريخ أمر مهم جداً، وهناك دراسة طويلة فيها نوع من التحليل والاستنباط الذي نحن محتاجون إليه، وهي دراسة حركة النفس الزكية: محمد بن عبد الله بن الحسن للشيخ محمد العبدة، عمل فيها دراسة تطبيق فعلي لحركة من هذه الحركات، وما أكثر حركات الخروج، وما أكثر العبر التي ينبغي استخلاصها منها!

أهمية التبصر في الأمور والنظر في العواقب قبل الإقدام

أهمية التبصر في الأمور والنظر في العواقب قبل الإقدام العواقب المترتبة على مسلك الخروج على الحكام خطيرة جداً، لكننا نلاحظ على من يفكرون في بعض هذه الاتجاهات أن هناك حدة في طريقة التفكير، وبعض من يتصدرون للإفتاء في هذه الأشياء يغلب عليهم عدم تقدير العواقب على الإطلاق، وليس عندهم نظر إلى العواقب غالباً، مما قد يشكك في أهلية بعض هؤلاء للإفتاء في مثل هذه الأمور الجسيمة، فسواءً في ذلك بعض الأحداث المحلية التي تحصل كعملية العلاقة مع الأخلاط أحياناً، وبعض أفعال الاستثارة، أو تصعيد بعض التصرفات من خلال دول أخرى، ونحن نرى الآن ما يحصل من التضييق على الدعوة الإسلامية في الخارج، منذ التفجير في مركز التجارة العالمي في نيويورك، مع أننا لا نستطيع أن نقطع بمن فعل ذلك، لكن هو لا يبعد عن طريقة تفكير بعض الإسلاميين، ولا يبعد أنهم فعلاً سلكوا هذا المسلك، والله تعالى أعلم، ونرجو أن يكونوا مبرئين من ذلك. لكن الشاهد: أن من يفعلون أفعالاً لها مثل هذه الأصداء الكبيرة والواسعة، لا يضعون في الحسبان مثل هذه العواقب، يهملونها تماماً، ومن الشواهد ما يحصل من التصعيد في الخارج لأقل حادثة تحصل بين المسلمين والأقباط، وكيف أنها توظف كي تضم في رصيد يبرر فيما بعد كثيراً من المخاطر التي تهدد الأمة بأسرها. الآن يوجد رجل في خراسان يدعى أبا عبد الله محمد بن أحمد بن خليفة الحسيني المهدي، لا نقول: المهدي، بل أمير المؤمنين، فهو نصب نفسه أميراً للمؤمنين، وهو الآن موجود، وقصته طويلة، ولن نخوض الآن في تفاصيلها، لكن الشاهد أنه يقول: ستتحرك كتيبة الموت من خراسان عما قريب، وتمر عبر إيران تحمل راية سوداء، وإياكم أن تتعرضوا لهذه الراية السوداء، وحذار أن يقاومها أحد، فتمر هذه الراية السوداء التي تحملها كتيبة الموت من خراسان إلى إيران، إلى العراق، إلى الأردن، إلى القدس في فلسطين. وقد كنت مسافراً في الخارج، وقرأت بيانات أحد أتباعه، يقول في أخرها: أنا لن أشعلها ناراً في بقعة واحدة، سأشعلها ناراً في العالم أجمع! فإذا كانت مثل هذه الأحداث الطفيفة يترتب عليها هذا الكم الهائل من الآثار الخطيرة، فكيف إذا تكررت في كل موقع؟! وما من شك أن بعضنا يؤدي خدمات جليلة لأعداء الإسلام الذين يحرصون أشد الحرص على تضخيم هذه الأشياء، وتشويهها، وتوظيفها في التنفير عن دين الله تبارك وتعالى. فالشاهد من الكلام: أن هذه الأشياء تكون لها عواقب، والملاحظ أن كثيراً من الناس لا ينظرون في هذه العواقب، ولا يقدرونها حق قدرها.

ثوابت متفق عليها بين الفصائل الإسلامية

ثوابت متفق عليها بين الفصائل الإسلامية قبل أن نتكلم في الموضوع مباشرة نقول: إننا ننطلق بالكلام في هذا الموضوع من داخل الصف الإسلامي، ونحن لا نتكلم من نفس منطلق أعداء الإسلام وأعداء الدعوة الذين هم معروفون في بلادنا أو في خارجها، لكنا نتكلم على أننا من داخل العائلة الإسلامية، ومن داخل الصف الإسلامي الذي يجمع على ثوابت لا نقاش فيها، ومن أهم هذه الثوابت: أننا جميعاً لا نرضى بواقع الأمة الحالي. ثانيها: أننا جميعاً مؤمنون بحتمية تغيير هذا الواقع، انطلاقاً من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، حتى وإن حصل بعد ذلك اختلاف في طريقة التغيير، وهذا هو الذي يتعلق بموضوعنا الآن إن شاء الله تعالى.

أمور تبين أهمية الحوار الصريح حول موضوع الجهاد

أمور تبين أهمية الحوار الصريح حول موضوع الجهاد مما يبين أهمية هذا الحوار الصريح الذي نحتاجه أمور كثيرة: أولها: أن الإنسان لابد أن يتبصر، أي: لا يمشي ثم ينظر، بل ينظر أولاً قبل أن يمشي، ولا ينبغي أن ينظر فقط تحت قدميه؛ بل ينبغي أن تكون نظرته للأمور وتقديراته للعواقب دقيقة؛ لأن ديننا يحتم علينا النظر في عواقب الأمور، دون التفات إلى الثمرات العاجلة أو العاطفية؛ بل لا بد أن تنظر إلى مدى أبعد، وأن تأخذ بما استطعت من علم وفهم في تقدير الأمور، والتفكير فيها. ففي أي تصرف تسلكه لا بد أن تتذكر أن الدنيا دار ابتلاء، وأن الآخرة هي دار ظهور النتائج، فلا تتصرف في هذه الدنيا على أساس أن النتيجة الآن بارزة أمامك؛ لأنك لست نبياً معصوماً يوحى إليه، بحيث تقطع بأن مسلكك هو الحق الذي لا خفاء فيه، ولا مرية فيه. فهذه الدنيا دار ابتلاء، ونحن لا ننسى أبداً أننا في دار امتحان وابتلاء، والنتائج تظهر هناك، وبالتالي فالإنسان قبل أن يخطو خطوة لا بد أن يستفرغ كل وسعه في أن يتأكد أن هذا -فعلاً- يقوده إلى الجنة، وإلى رضوان الله تبارك وتعالى. فمهما كانت العواطف تسيطر أحياناً على بعض الناس، وتكون هذه العواطف متأججة، فلا اعتبار لها ولا وزن، وإن كان لها اعتبار بحسن النية، والنية بينك وبين الله سبحانه وتعالى، لكن لابد من الإصابة في العمل، نحن لا نتناقش مع أحد في حسن نيته، وما نظن أن أحداً من إخواننا الذين يسلكون هذه المسالك يريد غير وجه الله عز وجل، ولكن نقول: كم من مريد للخير لا يبلغه، ونقول: إنه لابد من استفراغ الجهد في التأكد من أن هذا العمل يرضي الله عز وجل، فقد حصلت محن كثيرة للدعوة، وما نظن أحداً دخل في هذه المحن إلا وكان مخلصاً، مثل فتنة أحداث الحرمين سنة ألف وأربعمائة هجرية، حين ادعى بعضهم ظهور المهدي. وحصلت أحداث أخرى كثيرة جداً، وكان العمود الذي تقوم عليه هو العاطفة فحسب حسن النية فحسب، بدون بصيرة، وبدون تقدير للأمور. وهناك أمر مهم جداً، وهو: أنه يحصل في ساحة العمل الإسلامي -أحياناً- نوع من التجاوزات، كما رأينا أمثلته كثيراً في جماعة التكفير، فإن المبتدع أو الإنسان المنحرف يشعر بالوحشة؛ لأنه يشذ عن منهج الفرقة الناجية، فيفزع أحياناً إلى بعض الأعمال لإرهاب المخالف؛ كي يكثر عدد من معه حتى تزول عنه هذه الوحشة، وهو يستوحش إذا رأى رجلاً على علم ليس معه ولا يوافقه، فلذلك رفع هذه القاعدة التي يساء استغلالها: من لم يكفر الكافر فهو كافر، أي: إذا لم توافقه في تكفير هذا الشخص فأنت أيضاً تكون كافراً. ولسنا في مقام الرد على هذه القاعدة أو سوء استعمالها. فينبغي لمن أراد وجه الله سبحانه وتعالى، ومن أراد النصيحة للمسلمين في مثل هذه القضايا الحساسة، ألا يضع أي اعتبار لأي نوع من الضغوط، سواء كانت هذه الضغوط من داخل الصف الإسلامي، أو من خارج الصف ممن ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا ضد دين الله، وضد دعوة الله تبارك وتعالى، فالمسلم لا يخضع لأي ضغوط من أي طرف من هذه الأطراف؛ لأنهم دائماً يلوحون بالاتهام وسوء الظن، كقولهم: من لم يشاركنا في هذا المنهج فهو من المنافقين، أو نحو هذا الكلام.

عدم التأدب مع العلماء وازدراؤهم من قبل بعض تيارات الجهاد

عدم التأدب مع العلماء وازدراؤهم من قبل بعض تيارات الجهاد نلاحظ ملمحاً خطيراً جداً في بعض هذه التيارات، وهو: ازدراء العلماء، والنظر إليهم بتحقير وازدراء وتنقص، علاوة على سوء الظن بهم، وقد يصل الأمر إلى تكفيرهم، كما هو معلوم في بعض البقاع، والإنسان عندما يخرج إلى الخارج يرى هذه الأشياء منتشرة هناك، وكل من أراد أن يقول شيئاً قاله، ولا أحد يمنعه، فمثلاً: هذا الذي يدعي أنه أمير المؤمنين في خراسان يكفر الشيخ علي بلحاج فرج الله كربته، ويقول عن الشيخ ابن باز: أنا -تورعاً- لا أكفره، ولكن هو للكفر أقرب منه للإيمان!! ونلاحظ على بعض هذه التيارات أنهم يبدءون دعوتهم بتشويه سمعة العلماء، وهز الثقة بهم، وما أكثر ما يستغلون أزمة الخليج، وما صدر من بعض أفاضل المشايخ من اجتهادات، ولنفرض -على أسوأ الفروض- أن هذا اجتهاد خاطئ، فكان ماذا؟! اجتهد فأخطأ، فما المشكلة؟! ألم يجتهد الصحابة من قبله فأخطأ بعضهم، وحصل بينهم القتال؟! ومع ذلك كلٌ مثاب على اجتهاده، وكل يريد مصلحة الإسلام والمسلمين، فهؤلاء يريدون أن يحطموا العلماء ليكونوا هم المفتين، ويكونوا هم أهل الحل والعقد في هذه الأمور، بعد تحطيم العلماء، وتشويههم، وازدرائهم. ومن مرجحات هذا الحوار الصريح: حصول نوع من الخلط بين الأوراق بطريقة سيئة جداً، كما سيأتي في ظاهرة خلط الأوراق، ووضع الأسماء لغير مسمياتها، فهذا أمر شاع، ونحتاج إلى توضحيه. كما ننبه على ضرورة الحذر من موضوع التأويل؛ فما من فتنة في تاريخ الإسلام كله، وما من دم أريق، ولا بدعة ظهرت، ولا فساد حصل في الأرض؛ إلا بسبب التأويل الفاسد الذي هو عدو الدين. فهذه الملاحظات نضعها بين يدي الكلام في هذا الموضوع، ولابد أن نتذكر ونحن نبحث هذا الموضوع أننا في دار ابتلاء، والنتائج هناك في الآخرة، فينبغي للإنسان أن يتبصر كثيراً قبل أن يضع قدمه في أي طريق، وينظر في العواقب، ليس العواقب العاجلة فقط، ولكن ينظر إلى العواقب على المدى البعيد، وينظر إلى الآفاق، أما النظر تحت القدمين، أو في العواقب العاجلة والفرح بها؛ فهذا ليس من شأن العقلاء والمنصفين.

التحذير من الكتب الجهادية

التحذير من الكتب الجهادية ومما يتعلق بهذه القضية التي سنتكلم فيها إن شاء الله تعالى: أن هناك بعض المطبوعات تحوي مغالطات جسيمة، وقد اطلعت على بعض المطبوعات تكلم فيها أحد المؤلفين على أحد العلماء الأفاضل، وأنا أتحرج من ذكر اسم العالم؛ لأن الشتم الذي وجه إليه شتم فظيع، وكلام العالم قد يكون غير صحيح، قد ننكر عليه هذا الكلام، اجتهد فأخطأ، فليست هناك مشكلة، لكن الرجل -بعدما حكى كلام العالم- قال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله الذي عافاني مما تقوله هذه الأنعام! فهل يمكن أن يكون في مثل هذا الإنسان خير؟! هو يتطاول على عالم من علماء المسلمين، ولم يحترم حتى شيبته، فضلاً عن العلم والخدمات الجليلة التي قدمها لهذا الدين. وهذا المنهج الذي أوله ازدراء للعلماء، لاشك أن عاقبته غير حميدة، وهذا الذي نلاحظه، فما وجدنا أحداً ممن يطيل لسانه في أهل العلم إلا وتكون عاقبته سيئة والعياذ بالله، كما قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه فيهم بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. أو كما قال رحمه الله تعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، لماذا؟ لأن تعظيم العلماء من شعائر الله؛ بل هي من علامات وجود التقوى في القلب، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. فاحترام العلماء، والتأدب معهم، ليس هو احتراماً لأشخاصهم؛ بل هو احترام لشعائر الله، فالعلماء من شعائر الله التي يجب أن توقر، وأن تحترم، وألا تنتهك محارمها، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن أهون الربا مثل أن ينكح الرجل أمه! وإن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)، فإذا كان هذا في المسلم العادي، فكيف بالعالم الجليل؟! ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي أي: إذا لم يكن العلماء هم أحق الناس بولاية الله فليس لله أولياء؛ لأنهم أجدر وأولى الناس بولاية الله تبارك وتعالى، فهم الأدلّاء عليه، والمنافحون عن دين الله تبارك وتعالى.

أمور يحصل فيها خلط كبير عند التيارات الجهادية

أمور يحصل فيها خلط كبير عند التيارات الجهادية لاشك أن فيما تضمنته هذه المطبوعات التي أشرنا إليها غلطات علمية جسيمة، وهي منشورة، وأحياناً يطلع عليها الكثير من الناس، فيحصل الخلط، فمن خلال (حوار العلم) نرى بعض ما تضمنته هذه الأوراق من شبهات، فمثلاً: الاستدلال على جواز قتل الجنود المسلمين أو بعض المسلمين المدنيين بمسألة التترس، وسنبين -إن شاء الله- الفرق في ذلك، ونبين أنه لا يجوز في أي حال من الأحوال الاستدلال بهذا على ما يحصل الآن من تصرفات.

الخلط بين أحكام الجهاد وأحكام الخروج على الحكام

الخلط بين أحكام الجهاد وأحكام الخروج على الحكام فمن أشد الأمور جسامة: الخلط بين أحكام الجهاد وبين أحكام الخروج على الحكام، فصارت كلمة الجهاد الآن تطلق على الخروج على الحكام، في حين أن هذا الباب مستقل تماماً في الفقه عن باب الخروج. إذا أطلق الجهاد في سبيل الله فإنما ينصرف إلى قتال الكفار لنشر دين الله سبحانه وتعالى، والذب عنه، والمعاونة على ذلك، فهذا هو الجهاد اصطلاحاً، ولا يمكن أن يستعمل استعمالات أخرى، فالجهاد عند الإطلاق ينصرف إلى هذا المعنى، فهذا باب، وموضوع الخروج على الحكام باب آخر، ولا يمكن أبداً أن يذم الجهاد في حال من الأحوال، فالجهاد في سبيل الله عز وجل ممدوح في كل الأحوال، ما دام أنه مستوفٍ للشروط الشرعية. أما الخروج فهو نوعان: الأول: خروج على الحاكم الجائر، والثاني: خروج على الحاكم الكافر، والحاكم فيه تفصيل: أما الحاكم الجائر فقد أجمع العلماء على عدم جواز الخروج عليه، وأما الحاكم الكافر فاتفقوا على جواز ذلك، لكن بشروط دقيقة جداً، فقد يذم هذا الخروج أحياناً، وقد يمدح أحياناً. أما إطلاق الجهاد مطلقاً عليه، فنشبهه بما يحصل من بعض الجماعات الأخرى في تطويع الحقائق الشرعية لمسميات لا تماثل بينها وبين هذه الحقائق الشرعية، كما تفعل جماعة التبليغ، فهم لم يكتفوا في بيان فضل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالآيات والأحاديث الواردة في فضيلة الدعوة إلى الله عز وجل، وهي تكفي، لكنهم عمدوا أيضاً إلى النصوص الواردة في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى في القرآن والسنة، فحولوها وصرفوها إلى الخروج للدعوة معهم، وكلمة الخروج اصطلاح خاص عند جماعة التبليغ، حتى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يجعلونها للخروج معهم؛ بناء على المنام الذي رآه شيخهم محمد إلياس كما يزعمون! وكذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، فيجعلون الخروج في هذه الآية حسب الاصطلاح الخاص بجماعة التبليغ، وهكذا يعمدون إلى نصوص الجهاد ويطلقونها ويطبقونها على هذا النوع من الخروج، كما فعلت الصوفية حينما صرفت نصوص الجهاد إلى جهاد النفس، ويستدلون بالحديث الموضوع: (رجعت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس). كذلك فعلت بعض هذه التيارات حين أطلقت مصطلح الجهاد على شيء لا يكون تحت اسم الجهاد، والفرق كما بينا: الجهاد في كل الأحوال ممدوح، كما سنفصل ذلك إن شاء الله، أما الخروج فقد يمدح وقد يذم، بالنظر إلى الشروط والضوابط التي وضعها العلماء.

اعتقاد أن آية السيف نسخت كل ما يدل على الدعوة بالحكمة والرفق

اعتقاد أن آية السيف نسخت كل ما يدل على الدعوة بالحكمة والرفق ومن الخلط للمفاهيم ما يحصل أحياناً -للأسف الشديد- من أناس لا علم عندهم ولا بصيرة ولا فقه في آيات الله تبارك وتعالى، فيقولون: إن آية السيف نسخت كل ما قبلها من الأمر بالدعوة بالحكمة، والرفق في الدعوة، واللين، والصبر على المشركين، والإعراض عنهم، وغير ذلك من المراحل التي سبقت آية السيف وآية الجهاد، فهذا من الخلط الشديد، فهو يفهم أن قول بعض السلف: نسخت براءة كل موادعة، أنها نسخت كل دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويفهمون أن كلمة (النسخ) مثل نسخ الخمر مثلاً بحيث يحرم تماماً امتثال الحكم المنسوخ، وهذا في الحقيقة من أخطر مواضع الزلل والضعف في تفكير القوم؛ نتيجة سوء فهم آيات الله تبارك وتعالى، ولذلك كان السلف يشددون جداً فيمن يتصدر للكلام في الدين أو لتعليم الناس، حتى يمتحنوه في جملة من العلوم، ومن أهمها: الناسخ والمنسوخ، وسنزيد هذا الأمر إن شاء الله تعالى إيضاحاً، لكننا الآن نذكر رءوس أقلام تتعلق بظاهرة خلط الأوراق. إذا كان هذا الخلط سيترتب عليه آثار في الواقع بعيدة المدى أو أبعد بكثير مما نتصور؛ فحينئذ نحتاج إلى مثل هذه الوقفة.

تكفير الجنود والقول بأن بلاد المسلمين بلاد كفر

تكفير الجنود والقول بأن بلاد المسلمين بلاد كفر ومن مظاهر هذا الخلط: إطلاق القول بتكفير الجنود الذين في الجيش أو الشرطة، وبالتالي استحلال دمائهم، وبعضهم يتورع ويقول: أنا لا أكفر الجنود، لكن أكفر القادة. ومن مظاهر هذا الخلط: إطلاق القول بأن بلاد المسلمين بلاد كفار، وقد ناقشناه من قبل حينما ناقشنا كتاب الغلو في الدين، وإن كنا سنحتاج إلى الرجوع إليه إن شاء الله باختصار. قال بعضهم: إن بلاد المسلمين ديار كفار، ثم يأتي بكتب الفقه الحنفي بالذات، ويأخذ أحكام دار الكفر، ويطبقها على أوضاع بلادنا اليوم، مع أن موضوع تقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام غير موجود في القرآن والسنة، وإنما اضطر العلماء في عصر الفتوحات إلى هذا التقسيم؛ كي ينظموا ويكيفوا العلاقة بين المسلمين وبين الأمم الكافرة، مثل ما يكاد يحصل من تعاملات، وارتحال بين البلدان، وتبادل الأسرى، فهذه الأحكام صيغت في وضع العزة والقهر والتمكين، حين كان المسلمون قاهرين للكفار في كل بقاع الأرض، فهذه الأحكام لها ارتباط وثيق جداً بموضوع الغلبة والعزة والقوة، ومن الخلط قيام البعض بأخذ الأحكام من الكتب، وتطبيقها على واقعنا بلا أدنى بصير. ومن الملاحظات المهمة في هذا الباب -الذي سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى-: تضرر القائمين في ساحة الدعوة من الأخطاء الصادرة من بعض مسالك الجماعات الأخرى، فنقول: إن شروط إنكار المنكر معروفة، ومن ضمن هذه الشروط: ألا يحصل ضرر متعد إلى من لا يوافقك على هذه الأعمال، فإن ساحة الدعوة مشتركة، وإذا استأثرت جماعة معينة بتصرف فإن آثاره تمتد إلى غيرها، ولا شك أن هذا يخالف الأصول والقواعد الفقهية المعروفة، وهذا سنزيده تفصيلاً إن شاء الله.

أحكام مهمة تتعلق بالجهاد

أحكام مهمة تتعلق بالجهاد نذكر أسساً مهمة جداً فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهي: حكم الجهاد في الإسلام، وما هو الجهاد؟ للجهاد حالتان: أولاً: إذا كان للمسلمين دار وسلطان وقوة ومنعة، ففي هذه الحالة ينقسم الجهاد إلى نوعين: الأول: جهاد الطلب والغزو. الثاني: جهاد الدفاع. ثانياً: إذا لم يكن للمسلمين دار ولا سلطان ولا منعة ولا استطاعة، ففي هذه الحالة ننظر في مراحل تشريع الجهاد، ونبحث عن أقربها إلى واقعنا، ونستنبط الحكم منه. فمن المعلوم أن تشريع الجهاد مر بأربع مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة الكف عن المشركين، والإعراض عنهم، مع الاستمرار في دعوتهم إلى الحق. المرحلة الثانية: مرحلة إباحة القتال من غير فرض. المرحلة الثالثة: مرحلة فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط. المرحلة الرابعة والأخيرة: قتال جميع الكفار ابتداءً، حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. وهناك نصوص عن علماء المذاهب الأربعة في إثبات هذه المراحل السابقة. ونحتاج إلى بيان قضية مهمة جداً، وهي قضية الجهاد والنسخ، فموضوع النسخ في مراحل الجهاد من أهم الموضوعات، وسنذكر أقوال بعض العلماء، وننظر هل هناك نسخ في مراحل الجهاد أم لا؟ ثم نذكر الآثار المترتبة على سوء فهم قضية الناسخ في مراحل الجهاد. وكما ذكرنا من قبل فالجهاد في سبيل الله عز وجل لا يختلف العلماء في مشروعيته، ولا خلاف في مشروعية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وإنما تكمن المشكلة في إطلاق مصطلح (الجهاد) على تصرفات خاطئة ليس لها علاقة بالجهاد. وقد يكون الخلاف في مدى تحقق مشروعية الجهاد في واقع معين وظروف معينة، وينبغي أن يراعى في هذا الأمر الفرق بين ماضي الأمة وحاضرها، وسنذكر شروط الجهاد الشرعي، ونبين أنه لا يجوز ذم الجهاد بحال من الأحوال، فإن الجهاد فريضة وعبادة لا تُذم أبداً بأي حال من الأحوال، فلا يجوز أبداً أن يوصف الجهاد بالعنف، أو التطرف، أو الإرهاب، أو ما إلى ذلك من المسميات؛ لأن الذي ينكر هذا سينكر القرآن الكريم، وبالتالي يخرج من ملة الإسلام والعياذ بالله. فآيات الجهاد في القرآن الكريم أكثر وأوضح من أن نحتاج إلى إيرادها في مثل هذا السياق، فالجهاد الذي هو الجهاد الشرعي الاصطلاحي يمدح في جميع الأحوال كما سبق، لكن ما يهمنا هو مناقشة أشياء يطلق عليها جهاد، وهي لا تندرج تحت باب الجهاد، وبالتالي فهناك فرق في الأحكام بين هذه الأمور، فإن هناك تصرفات تسمى جهاداً في هذا الزمان، وهي إما أن تدخل تحت باب النهي عن المنكر، أو الأمر بالمعروف، أو تحت باب الخروج على الحاكم، ولا يعترض أحد ويقول: هذا يسمى جهاداً، نعم، يسمى جهاداً، نقول: لكن ليس على الإطلاق؛ إذ ليس هذا هو الجهاد الاصطلاحي، بل يدخل تحت الجهاد العام، الذي يطلق على سائر أنواع العبادات، كما أن العبادة جهاد، ومدافعة الشهوات جهاد، وذكر الله جهاد، والزكاة جهاد، وأي طاعة لله فهي جهاد؛ لأنه عبارة عن بذل الجهد والمشقة في سبيل تحصيل الطاعة، وهذا سنناقشه إن شاء الله بالتفصيل فيما بعد.

حكم الجهاد

حكم الجهاد ما حكم الجهاد إذا كان للمسلمين دولة وسلطان وقوة على الجهاد؟ الجهاد نوعان: النوع الأول: جهاد الطلب والغزو. النوع الثاني: جهاد الدفاع.

جهاد الطلب

جهاد الطلب فجهاد الطلب: هو تطلب الكفار في عقر دارهم، ودعوتهم إلى الإسلام، وقتالهم إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام، وحكم هذا النوع أنه فرض على مجموع المسلمين، أي: فرض على أمة المسلمين ككل، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36]. وقوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] إلى غير ذلك من الآيات. ومن السنة: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله). وقوله صلى الله عليه وسلم: (اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم). ويقول صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق). وقد أجمع علماء المسلمين على أن جهاد الكفار، وتطلبهم في عقر دارهم، ودعوتهم إلى الإسلام، وجهادهم إن لم يقبلوه أو يقبلوا الجزية؛ فريضة محكمة غير منسوخة. قال ابن عطية في تفسيره: واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين. فهذا إجماع من جمهور العلماء أن جهاد الطلب والغزو فرض كفاية، إذا قام به جماعة من المؤمنين فيهم غناء لأهل الإسلام أو لنشر الإسلام والدعوة إليه، فليس على كل مسلم أن يخرج معهم، ما داموا يؤدون المهمة، فالباقون لا يأثمون. واستدل الجمهور بالأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في هذه الآية: الجهاد ليس على الأعيان، وهو فرض كفاية؛ إذ لو نفر الكل لضاع مَن وراءهم من العيال، فليخرج فريق للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون، أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم. الدليل الثاني: قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95]. فقوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ) إلى آخر الآية، يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، أي: ما دامت الكفاية تحصل بهؤلاء المجاهدين. الدليل الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان: ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) رواه مسلم. الدليل الرابع: قال عليه الصلاة والسلام: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) رواه مسلم. وفي هذا: أن من قعد، ولم يخرج للجهاد، فإنه لا يأثم، ما دام الخارجون تحصل بهم الكفاية. ومن الأدلة على أنه فرض كفاية: فعل النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، فقد كان يخرج في الغزو تارة، ويبقى تارة، ويؤمر غيره على السرية، ولم يكن يخرج جميع أصحابه، بل بعضهم، وهذا أمر واضح مستفيض، كما في غزوة مؤتة وغيرها.

جهاد الدفع

جهاد الدفع أما النوع الثاني من أنواع الجهاد -وهو جهاد الدفاع- فحكمه فرض عين على المسلمين عموماً، حتى يندفع شر الأعداء، وهذا بإجماع المسلمين. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: إذا تعين الجهاد لغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله العقرى، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم، كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم، وعلم أنه يدركه ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها، سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها؛ لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو، ولا خلاف في هذا. إذاً: لا خلاف في أن جهاد الدفاع فرض عين على الجميع كما أشرنا. وهنا تنبيه مهم جداً فيما يتعلق بهذين النوعين: (جهاد الطلب) و (جهاد الدفاع)، فقد ذكر العلماء أنه لا خلاف في أن أحكام الجهاد المتقدمة تقع إذا كان للمسلمين دار وسلطان، وكان بهم قوة على الجهاد، وأما إذا لم يكن لهم قوة ولا دار ولا سلطان، فهذا ما سنوضحه -إن شاء الله تعالى- فيما بعد، في البحث حول مراحل تشريع الجهاد، ونكتفي الآن بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

نساء عدن إلى الله

نساء عدن إلى الله إنّ طاعة الله تعالى هي حياة الأرواح، وزاد القلوب، وهي الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والنديم في السمر. فقد سعى إليها الأولون سعياً حثيثاً، وشمروا لها تشميراً؛ رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً، وقد حفظت لنا كتب التراجم أخبار نساء عابدات قانتات سبقن كثيراً من الرجال، فما أحوجنا إلى معرفة أخبارهن؛ لتكون لنا زاداً في طريق سيرنا إلى الله تعالى.

الحث على طاعة الله تعالى

الحث على طاعة الله تعالى الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي! ثار عن فراشه ووطائه ومن بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي. ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه). هذا الحديث قال عنه المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه من رواية ابن مسعود، والحديث حسنه الألباني، وقال الشيخ شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح. قوله: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه) (ثار) أي: نهض ووثب بعلو همته، كما قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، والوطاء هو الفراش، واللحاف هو ما يتغطى به (من بين حبه) أي: حبيبه (إلى صلاته) أي: ينهض إلى الصلاة والتنفل والقيام لله تبارك وتعالى، (فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي! ثار عن فراشه) أي: نهض وقام عن فراشه (ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقه مما عندي) أي: رغبة فيما عندي من الجنة (وشفقة مما عندي) أي: خوفاً من عذابه تبارك وتعالى. والثاني يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع) أي: علم ماذا ستكون عقوبته عند الله عز وجل إن هو فر من الأعداء، وعلم -أيضاً- ما له من الثواب الجزيل إذا رجع يقاتل ويجاهد هؤلاء الأعداء، (فرجع حتى أهريق دمه) أي: فرجع يحتسب نفسه عند الله، وقاتلهم منفرداً حتى أهريق دمه، (فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه). وهناك أحاديث أخرى في نفس معنى هذا الحديث، منها: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم، -وذكر أولهم- رجل إذا انكشفت فئة قاتل وراءها، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا، كيف صبّر لي نفسه؟!) أي: حبس لي نفسه، فقوله: (انكشفت فئة) يعني: انهزمت في أثناء القتال، وقوله: (قاتل وراءها) أي: قاتل بنفسه منفرداً حتى يردها ابتغاء وجه الله عز وجل، (فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول -أي: يقول الله عز وجل-: (انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي نفسه؟!). ثم قال: - (ورجل له امرأة حسنة، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول) - أي: فيقول الله تبارك وتعالى: (يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد! ورجل كان في سفر، وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء) يعني: يذكر الله تبارك وتعالى، ويثني عليه، ويصلي له في ضراء وسراء. هذا الحديث رواه الطبراني في الكبير وقال: إسناده حسن، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات، وحسنه الألباني. هؤلاء الثلاثة يضحك الله إليهم، اثنان منهم قاما الليل، أحدهما قامه وسط أهله وترك زوجته الحسناء وفراشه الوثير، والآخر قامه في سفر بعد أن كابد السفر وهوله، ومن ضحك الله إليه لا يمكن أن يدعه من الإنعام والإكرام. (فهؤلاء ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم: أحدهم الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي نفسه! والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول الله تعالى: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد! والذي كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء). ومن هذا الباب -أيضاً- قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله) أي: يبغضهم الله تبارك وتعالى (الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم) والسرى هو المشي ليلاً حتى يحبوا أن يمسّوا الأرض. أي: يحبون أن يناموا على الأرض من شدة الإرهاق في السفر، قال: (فينزلون، فيتنحى أحدهم) أي أنه يشاركهم في الإرهاق والتعب وعذاب السفر، ومع ذلك إذا هجعوا وناموا فإنه يتنحى ولا ينام طمعاً فيما عند الله (فيتنحى أحدهم، فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن) والظعن هو الانتقال أو السفر (والذين يشنؤهم: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان). هذا الحديث عزاه السيوطي في (الجامع) للإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر، ورواه الموطئي -أيضاً- بلفظ آخر بإسناد جيد، وقال الألباني: رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن المبارك وابن نصر وابن أبي شيبة والطحاوي، وصححه الألباني. قوله: (والذين يشنؤهم: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان) (يشنؤهم) أي: يبغضهم الله تبارك وتعالى (التاجر الحلاف) أي: الذي ينفق سلعته ويروجها بالحلف الكاذب، فيصدق الناس قوله بسبب حلفه بالله تبارك وتعالى، ويغفل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة) فالحلف قد ينفق السلعة، لكنه يمحق بركة هذا المال الذي جاء بالحلف. وقوله في الحديث: (التاجر الحلاف) فيه ذم للشخص الذي يكثر الحلف حتى ولو كان صادقاً، وأما من يحلف أحياناً وهو صادق، وأحياناً لا يحلف فإنه لا يكون كثير الحلف، فالتاجر الذي يبالغ في الحلف ويكثر منه يبغضه الله تبارك وتعالى ولو كان صادقاً، أما إذا كان كاذباً فهو حلف يهلكه ويغمسه في النار، ومن كان صادقاً لا يخلو من الذم؛ لأنه ينبغي للإنسان أن لا يكثر من الحلف، وإنما يجعل الحلف لعظائم الأمور، أو يقلل منه بشرط أن يكون صادقاً. وهناك أيضاً رواية ثالثة قريبة من هذه الروايات، وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ذر في رواية أخرى: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم) أي: سألهم بالله أن يتصدقوا عليه، ومعلوم أن الإنسان إذا سئل بالله وجب عليه أن يعطي السائل، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سألكم بالله فأعطوه)، ويقول الله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] فالسائلون والناس لو عرفوا هذا لانتفعوا كثيراً، فمن سألك بالله وجب عليك أن تعطيه أيَّ شيء، ولا ترده على الإطلاق. فهذا الرجل أتى هؤلاء القوم، وسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم (فمنعوه) أي: فمنعوه الصدقة ولم يجيبوه (فتخلف رجل بأعقابهم) أي: تخلف في نهاية القافلة أو القوم، وكان رجلاً صادقاً في طاعته لله تبارك وتعالى، فأراد أن لا يُرى أنه تصدق (فتخلف رجل بأعقابهم، فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه) فهذا يحبه الله (وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به وضعوا رءوسهم، فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي)، فهذه فضيلة ظاهرة لقيام الليل خاصة في السفر ومع شدة المشقة (ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له، والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم). فهذه بعض الأحاديث التي فيها الحث على طاعة الله تبارك وتعالى، والاجتهاد في ذلك مع إخلاص النية.

حث الرجل أهله ومن يعول على طاعة الله تعالى

حث الرجل أهله ومن يعول على طاعة الله تعالى هناك أحاديث أخرى فيها الترغيب على أن يحث الرجل أهله ومن يلوذ به على طاعة الله عز وجل، وتُعلي همته في ذلك، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته) فهذا فيه أنّ من فعل ذلك دخل في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (رحم الله رجلاً! قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم، وصححه -أيضاً- النووي وغيره. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أبت) أي: إن أبت زوجته (نضح في وجهها الماء)، وأيضاً (فإن أبى) أي: أبى زوجها (نضحت في وجهه الماء) والمقصود الماء أو ما يقوم مقامه، فإذا كان سينفعل ويثور إذا نضحت في وجهه الماء البارد فيمكن أن تستبدله بأي عطر أو طيب أو أي شيء له رائحة طيبة، بحيث لا يستفزه ذلك وتعين الشيطان عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل، وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً، كتبا ليلتئذٍ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات). وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإيقاظ نسائه ويقول: (أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة). وجاء في الحديث الآخر أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ على ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فأمرهما بقيام الليل، فأجابه علي رضي الله عنه قائلاً: (يا رسول الله! أرواحنا بيد الله، يبعثها متى شاء) فانصرف صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذيه ويقول: ({وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).

الحث على طاعة الله تعالى في المواسم المباركة

الحث على طاعة الله تعالى في المواسم المباركة إنّ هذه الأحاديث هي مقدمة هذا الموضوع الذي سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى، وهو موضوع الحث على طاعة الله تبارك وتعالى والاجتهاد فيها، خاصة في هذا الموسم العظيم، وهو موسم يغفل عنه أكثر الناس مع أنه لا يقل أهمية عن رمضان أو عن العشر الأواخر من رمضان. وهذا الموسم هو عشر ذي الحجة، والناس في هذا الموسم على قسمين: فمنهم من ييسر الله له الرحيل إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ومنهم من يعذر ولا يستطيع الذهاب، فربما رحل بقلبه، وهذا الفريق الثاني الذي لم ييسر الله له السفر إلى بيت الله الحرم قد أقام الله عز وجل له موسماً للطاعات فيه ثواب جزيل جداً إذا اغتنمه، فعلى الإنسان أن يعمره بالصلاة والصيام والصدقة وذكْر الله عز وجل، وقراءة القرآن، وسائر أنواع الخير، وأن يجتهد في ذلك، وينبغي الاستعداد لهذا الموسم قبل مجيئه، وأن يفرغ الإنسان نفسه لطاعة الله عز وجل حتى لا يكون من الخاسرين في هذا السوق العظيم. يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من أيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه يجاهد في سبيل الله عز وجل فلم يرجع من ذلك بشيء). لقد أقسم الله تعالى بليالي عشر ذي الحجة فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] وهي ليالي العشر من ذي الحجة، والعمل في أيام العشر ثوابه العظيم، فهذه فرصة من الفرص النادرة التي يكون فيها الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى، فنحتاج إلى إيقاظ الهمم حتى تسمو نفوسنا إلى طاعة السابقين واجتهادهم، فإن العلماء يذكرون أن أعظم طريقة في إصلاح القلوب وتزكية النفوس هي أن يعايش الإنسان إنساناً أو شيخاً أو قدوة يقتدي به في أحواله، ويعرف السنن من سلوكياته، فإذا عَزَّ هذا -كما في هذا الزمان الذي نعيشه- فإن البديل هو أن يكثر الإنسان من مطالعة أحوال الصالحين، خاصة في القرون الخيِّرة الأولى وما تلاها من حياة من تبعوهم بإحسان، فيطالع أخبارهم حتى يستثير همته، ويكون له فيهم أسوة، فهذا الذي يخرج الأمة المجاهدة، والأمة العابدة، والأمة العاملة لدينها، والتي تحقق العبودية لله وتعرف ما هو هدفها من هذه الحياة، وكيف تستثمره، لا الأمة التي جعلت هدفها هي الأهداف التي يحققها لاعبو الكرة، ولا الأمة التي هدفها أن تصير الأولى في العالم في اللعب واللهو وتنسى الجهاد في سبيل الله.

انشغال المسلمين بالدنيا واللهو ونسيانهم قضايا الأمة الكبيرة

انشغال المسلمين بالدنيا واللهو ونسيانهم قضايا الأمة الكبيرة مما يؤسف له أنّه حصل موقف يتحسر فيه المرء على حال المسلمين، فقد قال مراسل الـ ( B. B. c) يصف القاهرة: القاهرة من أكثر عواصم العالم ازدحاماً، سواء أكان ذلك في ليل أم في نهار. ويقول: أنا مع طول مكثي في القاهرة ما رأيت العاصمة قبل ذلك على هذه الهيئة، فقد ظهرت عاصمة مصر على حالين متناقضين تماماً: الأولى: أثناء إذاعة المباراة باتت الشوارع وكأن المدينة قد فرض عليها نظام حظر التجول. والصورة الأخرى التي تضادها تماماً هي ما كان من الناس بعدما حصل الفوز العظيم والنصر المبين، وكأن القدس قد استعيدت، وفلسطين قد رجعت، وكأن أفغانستان قد عادت، وكأن شرع الله قد طبق، وكأن كل الأهداف التي تعيش لها هذه الأمة الغافلة اللاهية التي صارت أضحوكة الأمم قد حققت، فترى أفرادها أوائل في اللعب واللهو، أما الجهاد والعيش للهدف الذي خلقنا الله من أجله وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فيسمى تطرفاً. وفي نفس هذا اليوم -أعني يوم الفوز العظيم الذي حققه المجاهدون في ميدان الكرة- أعلن نائب رئيس الأركان الإسرائيلي أن إسرائيل تعتقد حتمية قيام حرب رابعة أو حرب جديدة مع عدة دول عربية، ذكر منها مصر وسوريا والأردن والعراق. وهل ذكر السعودية؟ إنني غير متأكد من ذكر السعودية، ولو ذكرها لكانت المصيبة أكبر؛ لأنهم يطمعون في المدينة المنورة، وفي نفس هذا اليوم الذي صدر فيه هذا التصريح يخرج المحدث المصري يرتعد من الخوف ويقول: كيف هذا؟! هذا يتعارض مع السلام الذي نحن عليه وكذا وكذا، وفي نفس هذا اليوم -أيضاً- خنق ستون طفلاً فلسطينياً في مستشفى الأطفال في محاضنهم من تأثير الغازات المسيلة للدموع التي ألقاها اليهود -لعنهم الله- عليهم، أفنحب أن يكون في كل بيت مأتم؟! فما الفرق بين أن يكون هؤلاء الأطفال إخوانك أو أبناؤك؟! كيف يحصل هذا الانتصار الشعوري، فنحن في نشوة وانتصار كأن فلسطين قد فتحت، وكأن القدس قد عادت، ومثل هذا من التفاهات واللهو واللعب يحصل. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، وكم في مصر من المضحكات! ولكنه ضحك كالبكاء. ترى الناس يبكون وكأنهم يبكون من خشية الله، إنّا نعيش مأساة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالمقصود أن التربية هي التي تنشئ هذه الأمة المجاهدة، وأنا أريد أن أسأل الإخوة المجاهدين الذين يمكثون أمام التلفزيون الساعات الطوال، وربما تخلفوا عن صلاة الجماعة ببسب هؤلاء الشياطين المجرمين فأقول: لو كان بينكم الآن أبو بكر أو عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد أو سعد بن أبي وقاص أو عبد الرحمن بن عوف أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو صلاح الدين الأيوبي هل كانوا سيمكثون أمام اللعب واللهو وينظرون إلى هذا الجهاز الجديد؟! إنّ هذه صورة جديدة من الجهاد تحشد لها أمة بكاملها، وتحشد لها الملايين وتنفق عليها. فهل تسأل -يا من تسأل وتكثر السؤال-: هل النظر إلى المباريات حلال أو حرام؟ هل عرضت على قلبك هذا السؤال؟! هل كان عمر سيمكث هذه الساعات أمام هذا الباطل وأمام هذا اللغو؟! الله المستعان! إننا نوبخ أنفسنا بمقارنة أحوالنا وأحوال السابقين، فلن نقارن بين رجالنا ورجالهم، بل سنقارن بين رجالنا ونسائهم، ونردد قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أحب الصالحين ولست منهم علي أن أنال بهم شفاعة وأبغض من تجارته المعاصي إن كنا سواء في البضاعة ونقول: أما لك في الرجال أسوة؟! أتسبقك وأنت رجل النسوة؟! وبين أيدينا نماذج من نساء السلف اجتهدن في طاعة الله تبارك وتعالى.

نماذج من نساء السلف العابدات

نماذج من نساء السلف العابدات فنقول: إن المرأة المسلمة التي رباها القرآن والسنة قد فقهت عن الله تبارك وتعالى أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من حشمتها، وتجافى جنبها عن مضجعها، وتناءى قلبها عن المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة باكية نائحة، وقد حفل التاريخ الإسلامي بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الجد عن علم ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة، كما تجد في كثير ممن وصفن بالنسك والتصوف، تجد في دواوين الإسلام أخباراً كثيرة عن النساء العابدات، بدءاً من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفتخ والقرط والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال رضي الله عنه، وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن)، وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين، وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18]. لقد كان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة وحسن الأحدوثة، فأصبح بالإسلام مما تفيض منه الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضات الله عز وجل.

أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها

أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها وفي قمة هؤلاء العابدات نساء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهن، ويتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين وآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى رأس هؤلاء جميعاً أم المؤمنين أم عبد الله الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سموات، حبيبة خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء على الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد. وقال القاسم: كانت عائشة تصوم الدهر. ويحمل هذا على أنها كانت تصوم ما سوى الأيام المنهي عن صيامها، كأيام الحيض، وأيام التشريق، ويوم العيد. وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم. وعن القاسم أنها كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر. وقال عروة: كنت إذا غدوت -يعني: خرجت في الصباح- أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح -أي: تصلي النافلة، ولعلها كانت تصلي الضحى والله أعلم- وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام -أي: وقف ينتظرها حتى مل القيام والوقوف- فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي. وعن عروة قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به، فقال عروة: بعث معاوية رضي الله عنه مرة إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف درهم، فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت. وعنه أيضاً قال: إن عائشة تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها. وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة -وكانت تغشى عائشة وتتردد عليها- قالت: بعث إلى عائشة ابن الزبير بمال في غرارتين -قالت: أراه ثمانين ومائة ألف-، فبعث بطبق -وهي صائمة يومئذ- فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري -أي: أحضري فطوري-، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت -مما قسمت اليوم- أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟! قالت: لا تعنتيني، لو كنت أذكرتيني لفعلت. وعن عبد الواحد بن أيمن الحبشي قال: حدثني أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطر ثمنه خمسة دراهم، وقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي فانظر إليها، فإنها تزهى أن تلبسه في البيت -أي: أنّ الجارية كانت تستنكف أن تلبس مثل هذا الثوب الذي على عائشة وهي في البيت- وقد كان لي منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين في المدينة إلا أرسلت إلي تستعيره. أي: يستعرنه في المناسبات كي يلبسنه. وعن عبد الله بن أبي مليكة أنه جاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن. وذلك حينما كانت تحتضر رضي الله عنها. ولا يخفى على مسلم مكانة عائشة رضي الله عنها ومقامها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يحبها إلا من كانت أمه فهي أم المؤمنين، ومن أبغضها فليس من المؤمنين. وفضائل عائشة رضي الله عنها كثيرة جداً تحتاج لدروس كثيرة مستقلة، ويكفي في فضلها وشرفها رضي الله تبارك وتعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان على وشك أن يفارق الدنيا اختار حبيبه لخلافته في الصلاة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واختار المكان الذي يقبض فيه وهو بيت عائشة رضي الله عنها، وهي ابنة أبي بكر رضي الله عنه، فتباً وسحقاً للرافضة الذين يلعنونهما ويتقربون إلى الله ببغضهما، فهم المطرودون المبعدون. فحينما كانت أم المؤمنين رضي الله عنها في وقت احتضارها وهي تشرف على الموت قال لها عبد الله بن أبي مليكة: هذا ابن عباس يستأذن -يعني: يستأذن على أم المؤمنين- فقالت: دعني من ابن عباس. تعني: لا تدخلوا ابن عباس؛ لأنّها كانت تعلم شدة حب ابن عباس لها، ولعله إذا دخل عليها جعل يمدحها ويرجيها، كما هي السنة أنك إذا حضرت رجلاً يحتضر فلا يناسب أن تكثر من ذكر الخوف؛ لأنّ ذكر الخوف قد يخرج به إلى القنوط، فذكر الخوف ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو باعث ومحرك حتى تعمل، وحتى تسعى إلى العمل، أما إذا انقضت المهلة ولم يبقَ وقت تعمل فيه فإن الخوف مع عدم إمكان العمل قد يؤدي إلى القنوط، والله تعالى يقول: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] لذا فإنّ المستحب إذا حضرت شخصاً مسلماً يحتضر أن تذكره بما فعل من الأعمال الصالحة، وأن تذكره بأعماله الطيبة، مثل أن تقول: لقد كنت تصلي جماعة، وكنت تكثر من ذكر الله، وكنت تتقي الحرام، ويذكره بالأعمال الصالحة حتى يدخل في الرجاء ويقبل على الله تبارك وتعالى وهو يحسن الظن به. فالمقصود أن أم المؤمنين قالت: دعني من ابن عباس. فقال لها: يا أماه! إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلم عليك ويودعك! فقالت: ائذن له إن شئت. فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد -لأنه كان يؤمن أنها زوجته في الجنة رضي الله عنها- كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل. وهذه القصة هي أنه حينما سقطت قلادتها أوقف الرسول عليه الصلاة والسلام جميع الجيش الذين معه ليبحثوا عن قلادة عائشة رضي الله عنها ليلة كاملة، فغضب منها أبو بكر رضي الله عنه لما علم أنهم أنما حبسوا بسببها، فأتاها ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذها، فجعل أبو بكر يطعن في خاصرتها ويقول: حبستينا. فكانت تتألم جداً من هذا الضرب، ولكنها لم تتحرك حتى لا يستيقظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانت تثبت في مكانها رغم شدة هذا الطعن الذي كان يطعنها به أبو بكر رضي الله عنه في خاصرتها، ويوبخها بأنها تسببت في حبس المسلمين، فأصبح الناس وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]. فحينئذ تيمموا، وأرادوا أن يرحلوا فإذا بالقلادة تحت جملها الذي كان باركاً. فالشاهد أن ابن عباس قال لها في ضمن مناقبها رضي الله عنها: وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل، فأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]، وكان ذلك بسببك. ولذلك قال أسيد بن حضير لها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أي: ليست هي أول بركتكم على الأمة، فإن لكم بركات كثيرة. قال ابن عباس: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح وليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه إلا تتلى فيه آناء الليل وآناء النهار. فردت أم المؤمنين رضي الله عنها: يا ابن عباس! دعني منك ومن تزكيتك، فو الله لوددت أني كنت نسياً منسياً.

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم امرأة صناعاً، وكانت تعمل بيدها، وتجمع المال من هذه الصنعة التي كانت تعملها، ولعلها كانت تغزل أو تفعل شيئاً من هذا القبيل، فكانت تجمع المال ثم تتصدق به كله في سبيل الله تبارك وتعالى، وكانت صالحة صوامة قوامه بارة، وكان يقال لها: أم المساكين. وفيها قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين توفيت: لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل. كانت زينب مفزع اليتامى والأرامل، يفزعون إليها حتى تفرج كرباتهم رضي الله عنها. وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: حبل لـ زينب) أي أنها تصلي فإذا فترت تعلقت به حتى تواصل الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) وفي رواية قالوا: (زينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد). وعن عبد الله بن رافع عن برة بنت رافع قالت: لما جاء العطاء -وهو المال الذي كان يوزعه الخليفة على المسلمين في كل سنة- بعث عمر إلى زينب رضي الله عنهما بالذي لها -أي: بنصيبها من المال- فلما دخل عليها قالت: غفر الله لـ عمر! لغيري من أخواتي كان أقوى على قسم -أي: توزيع- هذا مني. قالوا: هذا كله لك -وهي ظنت أن عمر أرسله إليها حتى توزعه- فقالت: سبحان الله! واستترت دونه بثوب -أي أنها خافت من هذا المال وابتعدت عنه واستترت بثوب- فقالت: صبُّوه، واطرحوا عليه ثوباً، فصبوه وطرحوا عليه ثوباً، فقالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي به إلى آل فلان وآل فلان من أيتامها وذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برة: غفر الله لك! والله لقد كان لنا من هذا حظ -أي: كان الأصل أن تبقي لنا حظاً من هذا المال- قالت: فلكم ما تحت الثوب، فرفعنا الثوب فوجدنا بضعة وثمانين درهماً، ثم رفعت يدها وقالت: اللهم! لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، قال: فماتت رضي الله عنها. وعن محمد بن سعد قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم -هكذا كانت تُعطى في كل سنة- فحُمل إليها فقسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة حتى أتت عليه، فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فوقف على بابها وأرسل بالسلام، وقال: قد بلغني ما فرقت، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها على نفسها، فسلكت بها طريق ذلك المال. وروي عنها أنها حين حضرتها الوفاة قالت: إني قد أعددت كفني، ولعل عمر سيبعث إلي بكفن، فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما، فإن استطعتم -إذا أبليتموني- أن تصدقوا بحقوتي فافعلوا. وزينب رضي الله عنها هي التي كان يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) يعني أن أول أمهات المؤمنين ستموت بعده صلى الله عليه وسلم أطولهن يداً، ففهمنها على ظاهرها، فكانت أمهات المؤمنين يقسن أيديهن على جدار، فترفع كل واحدة منهن يديها حتى يقسنَ وينظرن من منهن أطول يداً؟ فبعد ذلك حينما توفيت زينب فهمن أن مقصود الرسول عليه الصلاة والسلام كان طول يدها في المعروف وأسرعهن صدقة. قالت عائشة رضي الله عنها: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً، وكانت زينب تعمل وتتصدق بما يأتيها من المال. وقالت عائشة رضي الله عنها: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها تساويني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تتقرب به إلى الله تعالى، ماعدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة. فانظر إلى هذا المدح والوصف من ضرتها؟!

أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها

أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها وأم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله الهلالية كانت -أيضاً- تدعى أم المساكين، وهي غير زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت كثيرة المعروف، ولذلك كانت تلقب بأم المساكين.

أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنها

أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنها أما أم المؤمنين حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقد كانت أيضاً تسامي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في منزلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عابدة خاشعة قانتة لله تبارك وتعالى، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم راجعها بأمر الله تعالى له بذلك، فقد أتاه جبريل عليه السلام فقال له: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة) فجعل كثرة صيامها وقيامها سبباً في أمر نبيه أن يراجعها ولا يطلقها، وفي أنّها تكون زوجته في الجنة إذا ماتت وهي زوج لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي شهادة وتزكية لـ حفصة رضي الله عنها بعد شهادة وتزكية الله تبارك وتعالى لها من فوق سبع سموات؟!

أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها

أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها أما أسماء بنت أبي بكر بن عبد الله بن أبي قحافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين فهي أم عبد الله القرشية التيمية والدة الخليفة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وأخت أم المؤمنين عائشة، وهي المعروفة بـ ذات النطاقين، وقد كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات، قال ابن أبي مليكة: كانت أسماء تصدع -أي: يصيبها الصدع- فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي، وما يغفره الله أكثر. وعن فاطمة بنت المنذر قالت: إن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها. وعن محمد بن المنكدر قال: كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما سخية النفس. وعن الركين بن الربيع قال: دخلت على أسماء بنت أبي بكر وقد كبرت وهي تصلي وامرأة تقول لها: قومي، اقعدي، افعلي، من الكبر. أي: من شدة طعنها في السن.

أم الدرداء الصغرى رحمها الله تعالى

أم الدرداء الصغرى رحمها الله تعالى وأما أم الدرداء الصغرى: فهي السيدة العالمة الفقيهة هجيمة بنت حيي الأوصابية زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه، عرضت القرآن -وهي صغيرة- على أبي الدرداء رضي الله عنه، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد. قال عون بن عبد الله: كنا نأتي أم الدرداء فنذكر الله عندها. وقال يونس بن ميسرة: كن النساء يتعبدن مع أم الدرداء، وإذا ضعفن عن القيام تعلقن بالحبال. وعنه أيضاً قال: كنا نحضر أم الدرداء فتحضرها نساء عابدات يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.

السيدة سكينة بنت الحسين رحمها الله تعالى

السيدة سكينة بنت الحسين رحمها الله تعالى أما السيدة الشريفة العفيفة التقية النقية سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فكانت شهمة سخية كريمة، وكانت تجود بكل ما لديها من مال، فإن لم يكن مال فبشيء من الحلي الذي تلبسه.

السيدة نفيسة بنت الحسن رحمها الله تعالى

السيدة نفيسة بنت الحسن رحمها الله تعالى أما السيدة المكرمة الصالحة نفيسة فهي بنت الحسن بن زيد بن السيد سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي العلوية الحسنية رضي الله عنها، وهي السيدة نفيسة المدفونة في القاهرة، وللأسف أنه يفعل بقبرها من الشرك ما الله ورسوله والمؤمنون منه براء، وهي -أيضاً- بريئة منه، كانت -رحمها الله وأكرمها- من الصالحات العابدات، زاهدة تقية نقية، تقوم الليل وتصوم النهار، وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل، حتى قيل لها: ترفقي بنفسك. لكثرة ما رأوا منها، فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟! وقد حجت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن حكى أنها دخلت مصر مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر الصادق فأقامت بها، يقول ابن كثير: لما دخلت مع زوجها أقامت بها، وكانت ذات مال، فأحسنت إلى الناس والجذامى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير، ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه، وكان ربما صلى بها في شهر رمضان، وحين مات أمرت أن تُدخل جنازته إليها، فأُدخل جثمانه رضي الله عنه عليها فصلت عليه. ولها أخبار طيبة، منها أنها لما قدمت إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق، -وقيل: مع أبيها الحسن - هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون ويجأرون إليها من ظلم أحمد بن طولون، فقالت: متى يركب -تعني موكبه متى يكون موعده-؟ قالوا: في غد. فكتبت رقعة ووقفت في طريقه في الموكب، وقالت: يا أحمد بن طولون! فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه -أي: نزل في الحال عن الفرس- ومشى على رجليه، وأخذ منها الرقعة، وقرأها فإذا فيها: ملكتم فأسرتم- من الأسر- وقدرتم فقهرتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة، لاسيما من قلوب أفزعتموها، وأكباد روعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] فعدل لوقته أي: رجع عن الظلم في الحال. وقد قيل: إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سمع منها الحديث من وراء حجاب، وطلب منها أن تدعو له. وحضرتها الوفاة رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها أن تفطر، فقالت: واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائماً أأفطر الآن؟! هذا لا يكون، وخرجت من الدنيا وهي تقرأ القرآن، وكانت آخر آية قرأتها قبل أن تقبض روحها: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] رحمها الله ورضي عنها.

أم البنين بنت عبد العزيز رحمها الله تعالى

أم البنين بنت عبد العزيز رحمها الله تعالى انظر كيف كان حال الأقارب؟! فحين تنظر إلى القرابات بين نساء السلف ورجال السلف تجد المرأة منهن زوجة فلان، وعمها فلان، وخالها فلان، وابنها فلان، وزوجها فلان، فكانت القرابات التي تجمعهم هي الأعمال الصالحة، ولم تكن المناصب وظلم الناس، وإنما تجد الوسائل والروابط بين الأسر والأقارب مسخرة لطاعة الله سبحانه وتعالى، فهذه أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز، وماذا تتوقع من شقيقة عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمهما الله تعالى؟! كانت مضرب المثل في الكرم والجود، كانت تقول: لكل قوم لهنة -واللهنة: الشهوة أو الرغبة في شيء- ولهنتي في الإعطاء، أي: شهوتها في الإعطاء والنفقة في سبيل الله، كانت تعتق كل يوم جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، تشتري فرساً ليجاهد عليه في سبيل الله، وتقول: أف للبخل، لو كان قميصاً لم ألبسه، ولو كان طريقاً لم أسلكه.

عجردة العمية رحمها الله تعالى

عجردة العمية رحمها الله تعالى وأما عجردة العمية فهي من المعدودات المشهورات من نساء السلف، فعن آمنة بنت يعلى بن طرير قالت: كانت عجردة العمية تغشانا، فتظل عندنا اليوم واليومين، فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت، ثم قامت إلى المحراب فلا تزال تصلي إلى السحر، ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر، فقلت لها -أو قال لها بعض أهل الدار-: لو نمت من الليل شيئاً! فبكت وقالت: ذكر الموت لا يدعني أنام، وكانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر، فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك -يا إلهي- أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني إليك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء يا كريم. ثم تخر ساجدة، فيسمع لها شهيق، ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.

حبيبة العدوية رحمها الله تعالى

حبيبة العدوية رحمها الله تعالى وعن عبد الله المكي أبي محمد قال: كانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت على سطح لها، وشدت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: إلهي! قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر قالت: إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها علي فأعزى، وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت -أي: لو تركتني ما غادرت الباب- لما وقع في نفسي من جودك وكرمك.

جارية الحسن بن صالح رحمها الله تعالى

جارية الحسن بن صالح رحمها الله تعالى وكان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباعها لقوم، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار! قوموا، يا أهل الدار! صلوا، فقالوا لها: نحن لا نقوم حتى نصلي الفجر. فجاءت إلى الحسن بن صالح وقالت: بعتني لقوم ينامون الليل كله، وأخاف أن أكسل من شهود ليلهم -أي: خشيت على أخلاقها أن تتغير بمعاشرتهم-، فردها الحسن إليه رحمة بها ووفاء بحقها.

عابدة بني عبد القيس رحمها الله تعالى

عابدة بني عبد القيس رحمها الله تعالى وهذه عابدة من بني عبد القيس كانت إذا جاء الليل توضأت، ثم قامت إلى المحراب، وكانت تقول: المحب لا يسأم من خدمة حبيبه، وكانت تقول: عاملوا الله على قدر نعمه عليكم وإحسانه إليكم، فإن لم تطيقوا فعلى قدر شكره، فإن لم تطيقوا فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا فعلى الرجاء بثوابه، فإن لم تطيقوا فعلى خوف عقابه.

امرأة الهيثم بن جماز رحمها الله تعالى

امرأة الهيثم بن جماز رحمها الله تعالى أما الهيثم بن جماز فيقول: كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش علي الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها، وتقول: ألا تستحي من الله؟! إلى كم هذا الغفوف- تعني: الشخير-؟! قال زوجها: فو الله إن كنت لأستحيي مما تصنع. أما لك في الرجال أسوة؟! أتسبقك وأنت رجل النسوة؟!

العابدة شعوانة رحمها الله تعالى

العابدة شعوانة رحمها الله تعالى قال يحيى بن بسطام: كنت أشهد مجلس شعوانة -وهي إحدى العابدات- فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب لها: لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها، فقال: أنت وذاك، قال: فأتيناها فقلت لها: لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئاً، فكان لك أقوى على ما تريدين، قال: فبكت، ثم قالت: والله لوددت أنى أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي دماً حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأنى لي بالبكاء؟! وأنى لي بالبكاء؟! فلم تزل تردد: (وأنى لي بالبكاء؟) حتى غشي عليها. وكانت تقول في دعائها: إلهي! ما أشوقني إلى لقائك، وأعظم رجائي في جزائك، فأنت الكريم الذي لا يخيب إليك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي! إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عملي فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟! وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك؟! إلهي! قد جرت على نفسي في النظر لها، وبقي لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي! إنك لم تزل بي براً أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي! كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي؟! إلهي! إن كانت ذنوبي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني، فتول من أمري ما أنت أهله، وعد بفضلك على من غره جهله، إلهي! لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعني بما له هديتني، وأدم لي ما به سترتني. وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كانت شعوانة قد كمدت -أي: أصابها الحزن الشديد -فكانت لا تتنفل من شدة الحزن والذهول حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال: أذري جفونك إما كنت شاجية إن النياحة قد تشفي الحزينينا جدي وقومي وصومي الدهر دائبة فإنما الدأب من فعل المطيعينا فأصبحت وأخذت في الترنم والبكاء، وراجعت العمل. وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتُبكي النساك معها، تقول: لقد أمن المغرور دار مقامه ويوشك يوماً أن يخاف كما أمن وعن روح بن سلمة قال: قال لي مضر: ما رأيت أحداً أقوى على كثرة البكاء من شعوانة، ولا سمعت صوتاً قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشدت ثم نادت: يا موتى! وبني الموتى! وإخوة الموتى! وقال أبو عمر الضرير: من استطاع منكم أن يبكي فليبك، وإلا فليرحم الباكي؛ فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه. وعن الحارث بن المغيرة قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين: يؤمل دنيا لتبقى له فوافى المنية قبل الأمل حثيثًا يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجل وعن الفضيل بن عياض قال: قدمت شعوانة فأتيتها، فشكوت إليها، وسألتها أن تدعو بدعاء، فقالت: يا فضيل! أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب لك؟! قال: فشهق الفضيل وخر مغشياً عليه.

معاذة العدوية رحمها الله تعالى

معاذة العدوية رحمها الله تعالى أما أم الصهباء معاذة بنت عبد الله العدوية زوجة صلة بن أشيم فهي تلميذة مباركة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت -رحمها الله- إذا جاء النهار تقول: هذا يومي الذي أموت فيه. فما تطعم حتى تمسي-أي: تصوم- فإذا جاء الليل تقول: هذه الليلة التي أموت فيها، فتصلي حتى تصبح، ومن أقوالها: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة الكهوف. وإن كان مثل هذا التعبير فيه نظر؛ لأنّ المكوث في القبر لا يوصف بأنه رقاد أو نوم، كما يقول بعض الصوفية حين يتكلمون عن القبر ويقولون: وقت النوم في القبر طويل، فنحن لا ننام في الدنيا كثيراً. لأن المكث في القبر ليس نوماً، وليست المعيشة في القبر تكون نوماً، وإنما هي عذاب أو نعيم، وما هي بنوم، كما قيل: فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حَيٍّ ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شَيٍّ كانت معاذة تصلي الليل الطويل، يكل الرجال وهي لا تكل، وكانت إذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق؛ حتى يمنعها البرد من النوم، ولما بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها صبرت، وكان زوجها خرج ماضياً هو وابنه في سبيل الله تبارك وتعالى، فقال صلة لابنه: يا بني! إلى أمك -أي: ارجع إلى أمك كي ترعاها- فقال ابنه: يا أبت! أتريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجعة؟! أنت -والله- كنت خيراً لأمي مني. قال: أما إذ قلت هذا فتقدم، فتقدم فقاتل حتى أصيب، واجتمع عليه الكفار، فرماهم صلة عن جسده، وظل يرميهم حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل رحمهما الله تعالى، فلما بلغها نبأ استشهاد ابنها وزوجها أتت النساء يواسينها في مصابها، فقالت لهن: إن كنتنّ جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن، ولم تتوسد فراشاً بعد مقتل زوجها رحمها الله تعالى لكثرة قيامها وصلاتها.

العابدة بريرة رحمها الله تعالى

العابدة بريرة رحمها الله تعالى قال ابن العلاء السعدي: كانت لي ابنة عم يقال لها: بريرة، تعبدت، وكانت كثيرة القراءة في المصحف، فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت، فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء، فقال بنو عمها: انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها- أي: نلومها- في كثرة بكائها، قال: فدخلنا عليها فقلنا: يا بريرة! كيف أصبحت؟ قالت: أصبحنا أضيافاً منيخين بأرض غربة، ننتظر متى ندعى فنجيب، فقلنا لها: كم هذا البكاء! قد ذهبت عيناك منه. قالت: إن يكن لعينيّ عند الله خير فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا، وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا، ثم أعرضت، فقال القوم: قوموا بنا، فهي -والله- في شيء غير ما نحن فيه!

أخوات بشر الحافي رحمهم الله تعالى

أخوات بشر الحافي رحمهم الله تعالى وذكر الخطيب أنه كان لـ بشر الحافي -الزاهد المشهور- أخوات ثلاث: مخة ومضغة وزبدة، وكلهن عابدات زاهدات ورعات مثله أيضاً، فذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت: إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر، فهل علي عند البيع أن أميز هذا من هذا؟ فقال: إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري. وقالت له مرة إحداهن: ربما تمر بنا مشاعل لـ ابن طاهر في الليل ونحن نغزل، فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك، فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار، وهو المقدار الذي كانت تغزله في ضوء مشاعل هؤلاء الذين كانوا يمرون بالليل بالمشاعل، وفي بعض الروايات أنه قال لها: من أنت عافاك الله؟ فقالت: أخت بشر الحافي، فبكى الإمام أحمد رحمه الله وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها. وسألته أيضاً عن أنين المريض في إحدى المرات، أفيه شكوى؟ فقال: لا، إنما هي شكوى إلى الله عز وجل، ثم خرجت فقال لابنه عبد الله: يا بني! اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة، قال عبد الله: فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته مخة.

جارية عبد الله بن الحسن رحمهما الله تعالى

جارية عبد الله بن الحسن رحمهما الله تعالى وقال عبد الله بن الحسن: كانت لي جارية رومية وضيئة، وكنت بها معجباً، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي، فانتبهت فالتمستها فلم أجدها، فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة، وهي تقول: بحبك لي -يعني: أتوسل إليك بحبك أنت لي­، وهي امرأة على الفطرة- قالت: بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي. أي: أسألك بحبك لي أن تغفر لي ذنوبي. تناشد الله عز وجل المغفرة، وتتوسل بحبه هو لها، فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك. وهذا توسل بالعمل الصالح، فتتوسل بعملك أنت، فإن كنت تحب الله تقول: اللهم! إني أسألك بحبي لك، وهذا جائز ومشروع؛ لأنه من الأعمال الصالحة التي يجوز التوسل بها، قال: فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك. فقالت: لا يا مولاي، بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام.

العابدة سرية اليمانية رحمها الله تعالى

العابدة سرية اليمانية رحمها الله تعالى وقال أبو هاشم القرشي: قدمتْ علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها: سرية، فنزلت في بعض ديارنا، قال: فكنت أسمع لها من الليل أنيناً وشهيقاً، فقلت يوماً لخادم لي: أشرف على هذه المرأة فانظر ماذا تصنع؟ قال: فأشرف عليها فما رآها تصنع شيئاً غير أنها ما ترد طرفها عن الصلاة، وهي مستقبلة القبلة، فسمعها وهي تقول: خلقتَ سرية، ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال، وكل أحوالك لها حسنة، وكل بلائك عندها جميل، وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوكل على معاصيك فلتة بعد فلتة، أتراها تظن أنك لا ترى أفعالها وأنت عليم خبير، وأنت على كل شيء قدير؟!

واعظة ذي النون المصري رحمها الله تعالى

واعظة ذي النون المصري رحمها الله تعالى وقال ذو النون المصري: خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل علي وهو يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] ويبكي، فلما قرب مني السواد إذا هي امرأة عليها جبة من صوف وبيدها ركوة، فقالت وهي فزعة مني: من أنت؟ فقلت: رجل غريب، فقالت: يا هذا! وهل يوجد مع الله غربة؟! قال: فبكيت لقولها، فقالت لي: ما الذي أبكاك؟! قلت: قد وقع الدواء على داء قد قرح فأحسن في نجاحه، قالت: فإن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: يرحمك الله! والصادق لا يبكي؟! قالت: لا، قلت: ولم ذاك؟ قالت: لأن البكاء راحة القلب. وسكت متعجباً من قولها.

العابدة رحلة رحمها الله تعالى

العابدة رحلة رحمها الله تعالى وقال الخواص: دخلنا على رحلة العابدة، وكانت قد صامت حتى اسودت، وبكت حتى عميت، وصلت حتى أقعدت، وكانت تصلي قاعدة، فسلمنا عليها، ثم ذكرناها شيئاً من العفو ليهون عليها الأمر، قال: فشهقت، ثم قالت: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم كبدي، والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، ثم أقبلت على صلاتها رحمها الله تعالى.

العابدة عفيرة رحمها الله تعالى

العابدة عفيرة رحمها الله تعالى أما عفيرة العابدة -وهي أيضاً من مشاهير العابدات- فكانت رحمها الله لا تضع جنبها على الأرض في الليل، وتقول: أخاف أن أؤخذ على غرة وأنا نائمة، وكانت لا تمل من البكاء، فقيل لها: أما تسأمين من كثرة البكاء؟ فقالت: كيف يسأم إنسان مِنْ دوائه وشفائه؟! وكانت تقول في مناجاتها: عصيتك بكل جارحة مني على حدتها، والله لئن أعنت لأطيعنك ما استطعت بكل جارحة عصيتك بها. وجاء أخ لها طالت غيبته، فبشرت به فبكت، فقيل لها: ما هذا البكاء؟! اليوم يوم فرح وسرورا فازدادت بكاء، ثم قالت: والله لا أجد للسرور في قلبي مسكناً مع ذكر الآخرة، ولقد ذكرني قدومه يوم القدوم على الله فمن بين مسرور ومكدور. ودخل عليها قوم فقالوا: ادعي لنا. فقالت: لو خرص الخطاءون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من نبق الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال، وحفظ علينا الإيمان إلى الممات، وهو أرحم الراحمين. وقالت أيضاً: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف يقدر على النوم من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ونهاراً؟!

العابدة الحبشية رحمها الله تعالى

العابدة الحبشية رحمها الله تعالى وقال بعض الصالحين: خرجت يوماً إلى السوق ومعي جارية حبشية، فجعلتها في موضع بناحية السوق، وذهبت في بعض حوائجي، وقلت: لا تبرحي حتى أنصرف إليك، قال: ثم رجعت فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي، فقالت: يا مولاي! لا تعجل علي، إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكراً لله تعالى، فخفت أن يخسف بذلك الموضع. فعجبت لقولها، وقلت لها: أنت حرة. فقالت: ساء ما صنعت، كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما!

العابدة آمنة بنت أبي الورع رحمها الله تعالى

العابدة آمنة بنت أبي الورع رحمها الله تعالى وكانت آمنة بنت أبي الورع من العابدات الخائفات، وكانت إذا ذكرت النار قالت: أُدْخِلوا النار، وأكلوا النار، وشربوا من النار فعاشوا! ثم تبكي وكأنها حبة على مقلى، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت رضي الله عنها.

العابدة مليكة البحرانية رحمها الله تعالى

العابدة مليكة البحرانية رحمها الله تعالى وأما مليكة بنت أبي طارق البحرانية فكانت إذا هجم عليها الليل تقول: بخ بخ يا نفس! قد جاء سرور المؤمن، فتقوم في محرابها، فكأنها الجذع القائم حتى تصبح. وعن أم عمار بنت مليك البحراني قالت: بت ليلة عند مليكة ابنة أبي طارق فما زالت على هذه الآية ترددها وتبكي: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].

رحلة العابدة تعظ المشفقين عليها

رحلة العابدة تعظ المشفقين عليها وأما رحلة العابدة -وهي مولاة معاوية - فقد دخل عليها نفر من القراء فكلموها في الرفق بنفسها، فقالت: مالي وللرفق بها، فإنما هي أيام مبادرة -أي: مسابقة- فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله -يا إخوتاه- لأصلين ما أقلتني جوارحي، ولأقومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي، ثم قالت: أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر فيه؟ وقامت حتى أقعدت، وصامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم قلبي، والله! لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، وكانت تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله تعالى.

غصنة وعالية رحمهما الله تعالى

غصنة وعالية رحمهما الله تعالى وأما غصنة وعالية فكانتا من عابدات البصرة، يقول أبو الوليد العبدي: ربما رأيت غصنة وعالية تقوم إحداهما من الليل، فتقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف في ركعة.

العابدة غندكة رحمها الله تعالى

العابدة غندكة رحمها الله تعالى وأما غندكة -وهي من عابدات البصرة- فكانت تصلي عامة الليل، ثم تقول: أعوذ بالله من ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإذا قضت صلاتها قالت: هذا الجهد مني وعليك التكلان. وأما امرأة أبي عمران الجوني فكانت تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق، فيقول لها زوجها أبو عمران الجوني: دون هذا يا هذه! فتقول: هذا عند طول القيام في الموقف قليل، فيسكت عنها.

العابدة هنيدة رحمها الله تعالى

العابدة هنيدة رحمها الله تعالى ومن العابدات أيضاً هنيدة، فعن عامر بن أسلم الباهلي عن أبيه قال: كانت لنا جارية في الحي يقال لها هنيدة، فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه، فتوقظ ولدها وزوجها وخدمها، فتقول لهم: قوموا فتوضئوا وصلوا فستغتبطون بكلامي هذا، أي: فسوف يصيبكم السرور يوم القيامة بما آمركم به، فكان هذا دأبها معهم حتى ماتت، فرأى زوجها في المنام: إن كنت تحب أن تزوجها هناك فاخلفها في أهلها بمثل فعلها. فلم يزل دأب الشيخ حتى مات، فأُتيَ أكبر ولده في منامه فقيل له: إن كنت تحب أن تجاور أبويك في درجتهما من الجنة فاخلفهما في أهلهما بمثل عملهما. قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات، فكانوا يُدعون القوامين.

الورع في حياة نساء السلف

الورع في حياة نساء السلف ومن ورع نساء السلف ما حكاه الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله- أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها -وهي تعجن- موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء. أي أن مال الرجل إذا توفي انتقل وصار ملكاً لورثته الشرعيين، فلم يصبح لها وحدها، فلذلك رفعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء. وأخرى كانت تستصبح بمصباح -أي بالزيت أو شيء من هذا- فجاءها خبر زوجها فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء. أي: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به. فيا ويل من يأكلون أموال اليتامى ظلماً وينفقون أموال الطفل اليتيم في السرادقات والتفاخر، وهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى من أكل أموال اليتامى ظلماً، ويتلفون أموالهم في أشياء حرم الله أن تنفق فيها كالمباهاة والفخر.

العابدة الواعظة ميمونة بنت شاكونة رحمها الله تعالى

العابدة الواعظة ميمونة بنت شاكونة رحمها الله تعالى ومنهن -أيضاً- ميمونة بنت شاكونة الواعظة، التي كانت للقرآن حافظة، فقد ذكرت يوماً في وعظها أن ثوبها الذي عليها -وأشارت إليه- له في صحبتها -أي: تلبسه- منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها، ثم قالت لتلامذتها: والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعاً. وقال ابنها عبد الصمد: كان في دارنا حائط يريد أن ينقض، فقلت لأمي: ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار؟ فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئاً، ثم أمرتني أن أدعها في موضع من الجدار، فوضعتها، فمكث على ذلك عشرين سنة لم ينقض ولم ينهدم، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة: ((إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا))، اللهم! ممسك السموات والأرض أمسكه.

العابدة مريدة وابنتها رحمهما الله تعالى

العابدة مريدة وابنتها رحمهما الله تعالى وعن أبي عياش القطان قال: كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها: مريدة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن ربما رآها وتعجب من عبادتها على صغر سنها، فبينا الحسن ذات يوم جالساً إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت، فوثب الحسن فدخل عليها، فلما نظرت الجارية إليه بكت، فقال لها: يا حبيبتي! ما يبكيك؟! قالت له: يا أبا سعيد! التراب يحثى على شبابي، ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد! انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لابنتي قبراً واسعاً، وكفنها بكفن حسن، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، فكيف وأنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها وبيت الظلمة والدود؟!

العابدة التيمية رحمها الله تعالى

العابدة التيمية رحمها الله تعالى وقال وضاح بن حسان الأنباري: حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كانت امرأة من التيم مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاثٍ مرة -يعني: تصوم ثلاثة أيام وتفطر الرابع-، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة، فقال لها إبراهيم التيمي: صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي، ففعلت فلزمت بيتها، فلم تزدد إلا خيراً.

القرشية والتقوى

القرشية والتقوى عن ابن سماك قال: أذنب غلام امرأة من قريش ذنباً، فسعت إليه بالسوط -أي: لتضربه به؛ لأنه عمل خطأً- فلما قربت منه رمت بالسوط، وقالت: ما تركت التقوى أحداً يشفي غيظه.

العابدة فاطمة بنت نصر العطار رحمها الله تعالى

العابدة فاطمة بنت نصر العطار رحمها الله تعالى أما فاطمة بنت نصر العطار فكانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، وكانت من العابدات المتورعات المخدرات -أي: اللائي يلزمن الخدور، وهو مكان يكون في أقصى البيت تستتر فيه العذراء حتى لا يراها أحداً-، يقال: إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات، وقد أثنى عليها الخليفة وغيره، قاله الحافظ ابن كثير.

العابدة رابعة العدوية رحمها الله تعالى

العابدة رابعة العدوية رحمها الله تعالى ومن هؤلاء الناسكات اللائي يحكى عنهن اجتهاد في العبادة رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، فقد كانت مضرب المثل في وله القلب واحتراق الكبد حباً لله وإيثاراً لرضاه، وكانت تواصل صيامها وقيامها، وتتابع زفراتها، وتدفق عبراتها، وتستقل كل ذلك في جنب الله. قال يوماً شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: واحزناه. فقالت: لا تكذب، بل قل: واقلة حزناه. لو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس. ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال -وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها- قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، وكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس! كم تنامين؟! يوشك أن تنامي ليلة لا تقومين منها إلا بصرخة يوم الفزع. وقد سبق التنبيه على أن هذا التعبير غير صحيح؛ لأن القبر ليس فيه ليل، وليس فيه نوم، ويا ليته كان نوماً! بل فيه حياة دائمة، إما نعيم وإما عذاب. قالت عبدة: وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعتني فقالت: يا عبدة! لا تؤذني بموتي أحداً -أي: لا تخبري أحداً-، وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون. ومن قولها: ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً. ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم. وعن أزهر بن مروان قال دخل على رابعة رياح القيسي وصالح بن عبد الجليل وكلاب فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذمونها، فقالت رابعة: إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتم فيه. قال خالد بن خداج: سمعتْ رابعة صالحاً المري يذكر الدنيا في قصصه، فأرسلت إليه: يا صالح! من أحب شيئاً أكثر من ذكره. فالإنسان ينشغل دائماً بما يطغى على قلبه، ويحبه قلبه، فمن أحب قوماً حشر معهم، فمن أحب الممثلين يخشى عليه أن يحشر معهم، ومن أحب الظالمين يخشى عليه -أيضاً- أن يحشر معهم، ومن أحب اللاهين اللاعبين الكافرين فهذا -أيضاً- يخشى عليه. وقال بشر بن صالح العتكي: استأذن ناس على رابعة ومعهم سفيان الثوري، فتذاكروا عندها ساعة وذكروا شيئاً من الدنيا، فلما قاموا قالت لخادمتها: إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه فلا تأذني لهم، إني رأيتهم يحبون الدنيا. وعن أبي يسار مسمع قال: أتيت رابعة فقالت: جئتني وأنا أطبخ أرزاً، فآثرت حديثك على طبيخ الأرز، فرجعت إلى القدر وقد طبخت. وعن حماد قال: دخلت أنا وسلمان بن أبي مطيع على رابعة فأخذ سلمان في ذكر الدنيا، فقالت: إنما يذكر شيء هو شيء، أما شيء ليس بشيء فلا. قال أبو سعيد بن الأعرابي: أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما ما يدل على بطلان ما قيل عنها من قولها: ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه. يقول الحافظ الذهبي معلقاً على النسبة السابقة: قلت: فهذا غلو وجهل، ولعل من نسبها إلى ذلك حلولي يحتج بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: (كنت سمعه الذي يسمع به) يعني الحلوليين. وقال ابن كثير رحمه الله: وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحة، وصيام نهار، وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، والله أعلم. وقال أيضاً: أثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر، والله أعلم بحقيقة الأمر.

نماذج من نساء الخلف العابدات

نماذج من نساء الخلف العابدات فنقول: إن المرأة المسلمة التي رباها القرآن والسنة قد فقهت عن الله تبارك وتعالى أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من حشمتها، وتجافى جنبها عن مضجعها، وتناءى قلبها عن المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة باكية نائحة، وقد حفل التاريخ الإسلامي بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الجد عن علم ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة، كما تجد في كثير ممن وصفن بالنسك والتصوف، تجد في دواوين الإسلام أخباراً كثيرة عن النساء العابدات، بدءاً من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفتخ والقرط والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال رضي الله عنه، وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن)، وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين، وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18]. لقد كان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة وحسن الأحدوثة، فأصبح بالإسلام مما تفيض منه الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضات الله عز وجل.

الصالحة عصمة الدين خاتون رحمها الله تعالى

الصالحة عصمة الدين خاتون رحمها الله تعالى وأما زوجة الملك الصالح الذي قيل فيه: إنه لا يُعلم ملك صالح بعد عمر بن عبد العزيز سوى الملك الصالح نور الدين محمود بن زنكي الذي قهر الصليبيين وهزمهم فزوجته عصمة الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين كانت رحمها الله كثيرة التهجد، وأحسن النساء في عصرها وأعفهن، وأكبرهن طبقة، وكانت تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها، فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين الملك عن غضبها، فذكرت له نومها الذي فوت عليها وردها، يقول ابن كثير: فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى ضارب الطبلخانة أجراً جزيلاً وجراية كثيرة، وقد تزوجت هذه المرأة الصالحة بعد وفاة الملك نور الدين تلميذه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى.

الصالحة فخرية بنت عثمان البكرية رحمها الله تعالى

الصالحة فخرية بنت عثمان البكرية رحمها الله تعالى وأخيراً فخرية بنت عثمان البكرية، وقد كانت من أسرة عظيمة الجاه، موفورة الغنى، ولكن ذلك لم يطب لها، فخرجت وتزهدت وتنسكت، وقلبت الراحة والمنام إلى الصلاة والقيام، وقنعت من العيش برغيف وقدح ماء، فذلك قوتها كل يوم، وكانت أشبه الناس بـ رابعة في الوحدة والدنيا والتزلف، هاجرت إلى بيت المقدس، وأقامت أربعين عاماً تقف الليل كله بباب المسجد الأقصى تصلي حتى يفتح الباب، فتكون أول داخل وآخر خارج. وبعد: فإننا نهدي هذه الصور من سير النساء إلى إخواننا المسلمين ونقول: فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال ونقول: أما لك في الرجال أسوة أتسبقك وأنت رجل نسوة وقد قيل: فذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي نسأل الله عز وجل أن يجعلنا بالخير موصوفين، ولا يجعلنا له -فحسب- وصافين، وأن يرزقنا سهراً في طاعته ومناجاته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

خير البقاع على وجه الأرض

خير البقاع على وجه الأرض Q قرأت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (إن بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)، وإني لأظن -والله أعلم- أن هذه البقعة يجب أن تكون خير بقعة على الأرض، ولكن ذكرتم أنَّ خير بقعة على الأرض هي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك فما حكم الكعبة المشرفة أيضاً؟ A هذا الحديث غير صحيح، والذي يثبت هو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، وأما اللفظ السابق فلا يصح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم أين يكون قبره، بل كان ذلك المكان في حياته هو حجرة عائشة، ثم صار قبراً له بعد موته، فلعل بعض الرواة غير المتقنين رواه بالمعنى فأخطأ في ذلك. أما ظنك أن هذه البقعة يجب أن تكون خير بقعة على الأرض فليس بأمانيكم، فهذا خبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام في شرف هذا المكان، فأنا نقلت عن العلماء أنهم -رغم اختلافهم في المفاضلة بين مكة والمدينة- متفقون على أن أفضل بقعة على وجه الأرض هي التي تضم جسد خير من وطئ هذه الأرض، وهو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فخير بقعة على وجه الأرض هي التي تضم جسده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد ذلك يختلفون هل مكة أفضل من المدينة أم المدينة أفضل من مكة، والذي يظهر -والله أعلم- أن مكة أفضل من المدينة، ويكفي في فضل مكة المكرمة أن الصلاة في المسجد الحرام فيها بمائة ألف صلاة فيما سواه. وهذا لا يعني أنّ الكعبة ليست مشرفة، أو أن مكة ليس لها شرف، وإنما هذه الترتيب النسبي ليس إلينا، ولكنه فضل الله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].

دخول المعاصي في خلق الله تعالى

دخول المعاصي في خلق الله تعالى Q قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] هل يدخل في قوله: (مَا خَلَقَ) الأعمال التي يعصى الله سبحانه وتعالى بها؟ A نعم تدخل فيما خلقه الله تعالى، فمعنى (شَرِّ مَا خَلَقَ) أي: شر ما خلقه الله عز وجل، فهي تعم ما خلقه الله تبارك وتعالى، فالشر هنا أضيف إلى المخلوق، ولا يضاف الشر إلى الله، كما قال عليه الصلاة والسلام في الدعاء: (والشر ليس إليك)، وكقوله تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10]. فأتى بصيغة المبني للمعلوم في الخير فقال: (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)، أما في الشر فقال: (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ)، وقال الله تبارك وتعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96]، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ومن ذلك أفعال العباد، لكن كون الله يخلق هذا كله لا يعني أنك تحتج بالقدر.

حكم العمل في المحاماة

حكم العمل في المحاماة Q هل يجوز العمل في المحاماة؟ A مهنة المحاماة الغالب عليها الشر، وتعلم القوانين الوضعية الكافرة التي تخالف شرع الله تبارك وتعالى، وقد يكون فيها إعانة الظالمين، ويكون هَمّ المحامي في الغالب -إلا من عصم الله وقليل ما هم- أن يأخذ الدراهم المعدودة مقابل إنجاء هذا الرجل، سواءٌ كان ظالماً أم مظلوماً، فقد يتسبب في أن يكون من المجادلين عن الخائنين أو المجرمين، ويجوز من الناحية الشرعية التوكيل في الخصومة والنقاش والجدال والدفاع عن النفس، فيمكن أن أوكل شخصاً عنده هذه الكفاءة عني ليخاطب باسمي إذا كان أكفأ مني في ذلك، ففكرة المحاماة هي فكرة التوكيل في الخصومة من الناحية الشرعية، لكن يشترط في ذلك أن تكون في حق، أما أن يستعمل براعته الإنشائية والخطابية في هذه الأمور من أجل أن ينصر الظالم فلا شك أن هذا من التعاون على الإثم والعدوان.

البيع بالتقسيط

البيع بالتقسيط لقد أحل الله البيع وحرم الربا، والبيع والشراء أمر مهم في الحياة البشرية، وبه تقوم كثير من أمور الحياة، وقد حث الله تعالى العباد على السماحة في البيع والشراء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى). وقد شاع في عصرنا هذا ما يسمى ببيع التقسيط، وهذا البيع اختلف في حكمه أهل العلم، ومعرفة حكم هذا البيع من المهمات.

شرح حديث قصة بلال في نفقة النبي عليه الصلاة والسلام

شرح حديث قصة بلال في نفقة النبي عليه الصلاة والسلام إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد روى الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في سننه بسنده عن عبد الله الهوزني قال: (لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً يأمرني فأنطلق فأستقرض، فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال! إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما أن كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار، فلما أن رآني قال: يا حبشي! قلت: يا لباه! فتجهمني وقال لي قولاً غليظاً، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع، فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي: كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني، فخرجت حتى إذا أتيت منزلي، فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي، حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو يا بلال! أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت حتى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن، فاستأذنت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر، فقد جاءك الله تعالى بقضائك، ثم قال: ألم تر الركائب المناخات الأربع؟ فقلت: بلى، فقال: إن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداهن إلي عظيم فدَكَ، فاقبضهن واقض دينك، ففعلت، فذكر الحديث، ثم انصرفت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد، فسلمت عليه، فقال: ما فعل ما قبلك؟ قلت: قد قضى الله تعالى كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء، قال: أَفَضَل شيء؟ قلت: نعم، قال: انظر أن تريحني منه، فإني لست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منه، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني فقال: ما فعل الذي قبلك؟ قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقص الحديث، حتى إذا صلى العتمة -يعني: من الغد- دعاني قال: ما فعل الذي قِبَلك؟ قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله! فكبر وحمد الله؛ شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى إذا جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته، فهذا الذي سألتني عنه). هذا الحديث رواه الإمام أبو داود في سننه في باب: في الإمام يقبل هدايا المشركين في كتاب الخراج، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ولم يروه بهذا التفصيل إلا أبو داود، وقد رواه بسنده عن عبد الله الهوزني قال: (لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب)، حلب هي بلدة بالشام، (فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له شيء) أي: أن هذا الرجل كان يسأل بلالاً رضي الله تعالى عنه عن تفاصيل نفقة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان ينفق، وكيف كان يفعل؟ (فقال: ما كان له شيء) أي: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم شيء من المال، (كنت أنا الذي ألي ذلك منه) أي: كنت أنا الذي أتولى أحواله المالية ونفقاته، وأشرف عليها (منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي، وفي رواية: حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم). قوله: (وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً) أي: ليس عليه شيء، (يأمرني فأنطلق فأستقرض) أي: فأستدين لذمة النبي عليه الصلاة والسلام ولحسابه، (فأشتري له البردة، فأكسوه، وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين) أي: حتى عرض لي رجل من المشركين، فقال: (يا بلال! إن عندي سعة) أي: إن عندي مالاً كثياًر، وأنا متيسر (فلا تستقرض من أحد إلا مني) أي: إذا احتجت إلى الاستقراض فلا تستقرض من أحد غيري قال: (ففعلت) أي: كنت أقترض منه عند الحاجة، وفي هذا جواز أن يحصل هذا النوع من التعامل حتى مع المشركين، (فلما أن كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار) أي: أقْبل ذلك المشرك الذي قال لـ بلال: لا تستقرض من أحد إلا مني، في عصابة من التجار، أي: في جماعة من التجار، (فلما أن رآني قال: يا حبشي! قلت: يا لباه! -أي: لبيك- فتجهمني)، أي: تلقاني بوجه كريه، وعاملني بشدة وغلظة وجفاء، قال في القاموس: جهمه كمنعه وسمعه، أي: استقبله بوجه كريه. (فتجهمني وقال لي قولاً غليظاً، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت: قليل) أي: أنه يحذره ويعامله بهذه الغلظة مع أنه لم يتخلف، فالموعد لم يحلّ بعدُ، لكن هذا المشرك -بسوء خلقه- تجهمه لما لقيه، وقال له هذا الكلام الغليظ، وقال: (أتدري كم بينك وبين الشهر؟) أي: كم بينك وبين تمام هذا الشهر الذي نحن فيه؟ (قال: قلت قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع) أي: أربع ليالٍ، (فآخذك بالذي عليك) أي: آخذك على رأس الشهر في مقابلة ما عليك من المال، وأتخذك عبداً في مقابلة ذلك المال، (فأردّك ترعى الغنم) أي: أُعيدك عبداً ترعى الغنم كما كنت من قبل، (فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس) أي: وجدت في نفسي من الهمّ، وتأثرت بهذا الكلام الذي جرحني كما يُجرح الناس بمثل هذا الكلام السيئ، (حتى إذا صليت العتمة) وهي صلاة العشاء، (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي)، وهذا من أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل أن يقدم طلبه، أو قبل أن يناجيه يقدم بهذه العبارة المؤثرة التي تعرب عن غاية الحب والتعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، فقوله: (بأبي أنت وأمي) معناها: أفديك بأبي وأمي، وأضحي بأبي وأمي من أجلك، أو أنت أعز عندي من أبي وأمي، فمعناها أنت مفدي بهما، صلى الله عليه وسلم، (فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي. إن المشرك الذي كنت أتدين منه) أي: الذي كنت أستقرض وأستدين منه، (قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي) أي: ولا عندي أنا أيضاً ما أقضيه به، (وهو فاضحي) أي: هو ناوٍ أن يفضحني إذا لم أوف له بهذا الدين، ففاضحي اسم فاعل مضاف إلى ياء المتكلم، ومعنى فضحه: كشف مساويه، (وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا) أي: ائذن لي أن أفر وأهرب قبل أن يحين الأجل إلى أن يرزقك الله سبحانه وتعالى مالاً فتقضي عني وحينئذ سأعود؛ حتى لا ينفذ ذلك المشرك وعيده، والأحياء جمع حي، وهو بمعنى القبيلة. (إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا، حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني) أي: أنه صلى الله عليه وسلم كان يستدين لقضاء حاجات المسلمين عليه الصلاة والسلام. (فخرجت حتى إذا أتيت منزلي، فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي)، هذا كل المتاع الذي كان يملكه بلال، والجراب هو وعاء من إهاب أو من جلد الشاة، والمجن: هو الترس، وفي رواية أخرى: (استقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت ساعة انتبهت، فإذا رأيت عليّ ليل نمت، حتى ينشق عمود الصبح الأول)، ويقول في الرواية التي هنا: (حتى إذا انشق عمود الصبح الأول) أي: انصدع وطلع، وفي الحديث: (فلما انشق الفجر أمر بإقامة الصلاة) فهناك شق وفتحة في الأفق في موضع طلوع وخروج الفجر، وقوله: (حتى إذا انشق عمود الصبح الأول) المقصود به العمود المستطيل المرتفع في السماء، وهو الفجر الكاذب، وذلك غير الفجر الأحمر المنتشر في أفق السماء، فإنه الصبح الصادق، وبين الفجرين ساعة، فإنه يظهر الأول وبعد ظهوره يظهر الثاني ظهوراً بيناً، والفجر الذي تتعلق به الأحكام هو الفجر الثاني، فيدخل وقت الصوم ووقت صلاة الصبح بطلوع الفجر الثاني واستنارته وإضاءته، وهو المعترض بالضياء في أقصى المشرق، الذاهب من القبلة إلى دبرها حتى يعم الأفق، وينتشر على رءوس الجبال والقصور المشيدة. والمعنى: أني أردت أن أسير في الصبح الكاذب؛ لكي لا يعرفني أحد بسبب ظلمة آخر الليل، وكان بلال رضي الله عنه قد أعد كل عدته، حتى لا ينكشف فيُفطن إلى أنه في حالة هروب من قضاء هذا الدين. يقول بلال رضي ال

التحذير من التوسع في الاستدانة

التحذير من التوسع في الاستدانة الحديث المتقدم طويل، وهو يحمل فوائد عظيمة، والفقرة المقصودة من قراءة هذا الحديث هي تلك الفقرة التي فيها ذكر ذلك الرجل المشرك الذي هدد بلالاً رضي الله تعالى عنه وقال له: إذا حل أجل الدين ولم يقض ما عليه فسيأخذه بهذا المال الذي عليه، وسيسترقه ويعيده عبداً يرعى الغنم كما كان من قبل رضي الله تعالى عنه، فهذا من شؤم وعيوب الدين، فينبغي للإنسان أن يتحرز منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وتعلمون قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) أي: أنه لا يغفر له الدين؛ لأن فيه تعلقاً بحقوق العباد، فيكون الشهيد محبوساً ومرهوناً في البرزخ إذا لم يؤدَّ عنه ذلك الدين. والبيع بالتقسيط هو في الحقيقة صورة من صور الدين، وقبل أن نبدأ موضوعنا في حكم البيع بالتقسيط ينبغي أن يستقر هذا المفهوم وهو: أنه لا ينبغي التوسع في أمر الاستدانة؛ لأن الاستدانة في حالة الشراء بالتقسيط فيها زيادة في مقابل الأجل كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى، أضف إلى ذلك أن حجم الدين يجب ألا يتجاوز قدرة المدين على السداد، والدين إذا كان ديناً عاماً كأن تكون الحكومة مثلاً هي المَدْينة، لاسيما إذا كان ديناً عاماً، وطويل الأجل، فإنه شؤم؛ لأنه يحمَّل الأجيال القادمة عبء الجيل الحالي؛ فإنا نورث أبنائنا وأجيالنا المقبلة أعباء هذه الديون، وهذا إذا كان ممولاً بأموال الزكاة أو غيرها من الموارد العامة. وفي مثل هذه الحالة إذا كان الدين ليس في مقدور المدين ولا في طاقته أن يؤديه، فإنه يكون هماً بالليل، ومذلة بالنهار، وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من المغرم والمأثم، ولما سئل عن سرّ القَرن بين المغرم والمأثم وما علاقة الدين بذلك؟ فأخبر عليه الصلاة والسلام أن الرجل إذا غرم فإنه يعد فيخلف، فيقع في الإثم، فالدين دائماً إن لم يكن هناك عذر واضطرار يجلب كثيراً من هذه المصائب، ولا شك أنه هم بالليل، وذل بالنهار، وكما قال بعض السلف: ما دخل همُّ الدين قلباً إلا خرج من العقل، يعني: من شدة انشغال تفكيره فإنه يؤثر في عقله. وهو همٌّ في أوله، وهرم في آخره، وأما إذا كان الدائن مثل حالة البلدان الأجنبية الدائنة، فمن مخاطر الدين في هذه الحال سيطرة هذه البلدان الدائنة، وتبعية البلدان المدينة لها كما لا يخفى على أحد في عصرنا هذا، وفيها من صور إذلال الأمم والشعوب، وقهرها بأمر الدين، واستعبادها بذلك، كما أراد ذلك المشرك من إذلال بلال تماماً، ولعل هذا المشرك نفسه -وهو حقيق بسوء الظن- إنما دعا بلالاً إلى أن يستدين منه بهذه النية، عسى أن يتعثر السداد، فيسترقه بعد ذلك. فعلى أي الأحوال فالاستعباد يكون بصور شتى، ولا يكون بصورة الرق فقط، فمحاولة استعباد المدين محاولة قديمة، وهو يدل على الأخلاق الأيدلوجية الفجة أو الباردة كما هو مشهور عنهم، قال بعضهم: لا تقرض أبداً ولا تقترض، فإنك إذا اقترضت من رجل جعلته سيدك، وإذا أقرضت رجلاً جعلته عدوك. والشاهد من الكلام: أن الأصل الذي نقدمه بين يدي الكلام في موضوع البيع بالتقسيط هو أن الاستدانة غير مرغوب فيها، فهناك مخاطر شديدة في التوسع في أمر الاستدانة، والبيع بالتقسيط هو صورة من صور الاستدانة، فينبغي للإنسان ألا يستدين، وألا يشتري بالتقسيط إلا لعذر قوي في ذلك.

أنواع البيوع، مع بيان صورة بيع التقسيط

أنواع البيوع، مع بيان صورة بيع التقسيط سنعتمد في تلخيص هذا البحث إن شاء الله تعالى على بعض البحوث أهمها: بحث الدكتور محمد عقلة الإبراهيم: (حكم بيع التقسيط في الشريعة والقانون)، وليس لنا شأن بالقانون، ولا يهمنا منه شيء، والبحث الآخر للدكتور رفيق يونس المصري وهو: (بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي)، وهناك أيضاً رسالة اسمها (القول الفصل) لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله! وهناك مراجع أخرى تمس هذا الموضوع. ولا شك أنّ الناس قد عرفوا كثيراً من أنواع البيوع في الماضي، ومنها ما يعرف ببيوع الأجل، وسنفصل الكلام فيها: معنى بيوع الأجل: أن يكون أحد العوضين إما المال أو السلعة مؤخراً عن مجلس العقد، وبما أن الإسلام هو دين اليسر، ودين السماحة، ورفع الحرج، رأى أن الحاجة تمس إلى وجود استثناء في القاعدة العامة، وصولاً للغاية المثلى، فأجاز الإسلام تأخير المثمن أو الثمن عن مجلس العقد، والثمن هو الذي يقسط ويؤجل، وقد يكون تأخيره دفعة واحدة، وإذا قسَّط فهو المسمى بيع التقسيط. وقد شاع هذا النوع في زماننا شيوعاً كثيراً، وشمل من حيث السلع دقيقها وجليلها؛ لما في هذا النوع من البيوع من مصالح لكل من البائع والمشتري، ولما كان تأجيل الثمن عن زمان العقد يرافقه زيادة في الثمن تعويضاً للبائع عن تأخير قبضه، وحرمانه من استثماره، فإسهاماً من المشتري في تخفيف هذه الآثار مع ما له من نعمة توفير الحصول على ما يحتاجه من السلعة رغم ضيق يده؛ زاده في الثمن. ولا يزال هذا النوع من البيع مثار بحث وجدل بين أهل العلم من حيث مشروعيته، نظراً لما فيه من الزيادة في الثمن، فربما اشتبهت صورته على بعض الناس بالربا، وصورة هذا البيع: أن يقول البائع: أبيع لك هذه السلعة عاجلاً بكذا، وآجلاً بزمن كذا، بزيادة مقدارها كذا، فلا شك أن الحاجة تمس إلى ذلك، فهنا نفرد هذه المسألة بمثل هذا البحث، ونفصل الكلام فيها؛ حتى نكون على بينة من أمرنا، خاصة وأن الأسئلة قد كثرت جداً حول هذا الموضوع، وكانت الأجوبة المختصرة لا تقنع كثيراً من الإخوة، فنقف هذه الوقفة مع هذه المسألة. لابد من مقدمة تتعلق بأنواع البيوع، فالبيع على ثلاثة أنواع: بيع معجَّل البدلَين، أي: الفلوس والسلعة، وهو البيع المعروف الذي يحصل في الأسواق، فتدفع الفلوس في الحال وتستلم السلعة في الحال، فهذا هو أول نوع من أنواع البيوع. النوع الثاني: بيع مؤجل البدلين، أي: أن الفلوس والسلعة مؤجلان، وهذا هو بيع الكالئ بالكالئ. النوع الثالث -وهذا الذي يتعلق ببحثنا اليوم- وهو: بيع يكون فيه أحد البدلين معجلاً والآخر مؤجلاً، وهذا النوع من البيع جائز أباحته الشريعة. وقولنا: إن أحد البدلين معجّل والآخر مؤجل يحتمل أن يكون الثمن معجلاً والسلعة مؤجلة، وهذا يسمى بيع السلَم أو السلَف، وهذا البيع مستثنى من القاعدة الأصلية التي جاءت في حديث: (ولا تبع ما ليس عندك) فهو استثناء من عموم هذا الحديث بالنص، وقد ثبت أن أهل المدينة كانوا يُسلفون في بعض هذه السلع، ويحتمل هذا النوع أن يكون المعجل هو المبيع والمؤجل هو الثمن. إذاً: أنواع البيوع ثلاثة: الأول: معجل البدلين. الثاني: مؤجل البدلين، وهو بيع الكالئ بالكالئ، وهو منهي عنه. الثالث: أن يكون أحدهما معجلاً والآخر مؤجلاً، وهذا على صورتين: إما أن يعجل الثمن ويؤجل المبيع، وهو بيع السلَم أو السلف، أو أن يعجل المبيع ويؤجل الثمن، وهو بيع النسيئة، والنسيء هو التأجيل. وبيع النسيئة وإن أجازته النصوص إلا أنه ليست هناك نصوص تجيز الزيادة لأجل التأجيل أو التقسيط، بل هذا يحتاج إلى بحث واستظهار، وهذا هو موضوعنا الذي نتكلم فيه. وبيع النسيئة في حد ذاته جائز، والدليل على ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً -وفي رواية: شعيراً- إلى أجل، وفي رواية: اشترى من يهودي طعاماً أو شعيراً بنسيئة، ورهنه درعاً له من حديد). فقد اشترى الشعير ولم يدفع له الثمن حالاً، وإنما سيدفعه فيما بعد، ووضعه للدرع حتى يسدد الدين هو رهن للضمان فقط، فهذا البيع جائز سواء كان مع المسلمين أو اليهود أو من سواهم، فهذا مثل بيع السلَم أو السلَف، يقول عليه الصلاة والسلام: (من أسلف في شيء فليسلف في شيء معلوم بكيل معلوم، إلى أجل معلوم). متفق عليه. فبيع النسيئة أو الأجل يكون مع الزيادة، ويكون الثمن فيه مؤجلاً، وأما بيع التقسيط فقد يكون مع الزيادة، وقد يكون بدون زيادة، وإنما يقسط عليه الثمن الأصلي، ثم بيع التقسيط يشابه بيع الأجل في أن المال غير مدفوع حالاً، ويخالفه في أنه مقسط على مراحل وليس مؤخراً كلياً. إذاً: بين بيع الأجل وبيع التقسيط عموم وخصوص. خلاصة الكلام: أن بيع النسيئة -وإن كانت النصوص قد أجازته- ليس فيه نصوص تجيز الزيادة لأجل التأجيل أو التقسيط، فبيع التقسيط ليس فيه دفع النقود حالاً بل تؤجل؛ لذلك يزاد في السعر من أجل الأجل، وهذا ما سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى. بيع التقسيط هو عبارة عن حادثة لمعاملة قديمة، وهو لون من ألوان بيع النسيئة، حيث يعجَّل فيه المبيع، ويتأجل فيه الثمن كله، أو يقسط على أقساط معلومة، لآجال معلومة، وهذه الأقساط قد تكون منتظمة سنوياً مثلاً، أو تكون غير منتظمة، وقد تكون متساوية المبالغ، أو غير متساوية. والأقساط: جمع قسط، والقسط لغة: هو الحصة والنصيب، تقول: تقسّطنا المال بيننا، أي: أخذ كل منا نصيبه من هذا المال، والقِسط: هو العدل، تقول: أقسط الرجل فهو مقسط، أي: عادل. والعلاقة بين المعنيين، أعني: القسط بمعنى الحصة والنصيب، والقسط بمعنى العدل: أن النصيب الذي يعطى لكل واحد يفترض أن يكون عادلاً بوجه من الوجوه، ومن ذلك أيضاً قول الفقهاء: إن للزمن قسطاً من الثمن، أي: إن للزمن حصة عاجلة من الثمن، والقاسط العادل عن العدل، أي: الذي ينحرف عن العدل، أو هو الفعل، وأما المقسط فهو العادل، والقسطاس في اللغة: هو الميزان. وليس المراد ببيع التقسيط أن يقسط المبيع، ولكن التقسيط يكون في طريقة سداد ثمن المبيع.

حكم بيع التقسيط

حكم بيع التقسيط مسألة: هل بيع التقسيط مستحب أم مباح؟ استدل البعض بحديث ضعيف جداً مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة فيهن البركة، ومنها: البيع إلى أجل)، وهذا لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، إلّا أن البيع إلى أجل يكون مستحباً إذا قُصد به الإرفاق بالمشتري، فالبائع إذا رأى أن الرجل لا يستطيع أن يدفع المبلغ كله مرة واحدة حالاً فيؤجَّل له السداد كنوع من الإرفاق به دون أن يزيد عليه في الثمن لأجل الأجل، فهذا يكون مستحباً، وهو نوع من الإحسان. وأما إذا كان البيع إلى أجل لا يقصد منه الإرفاق، بل هو مجرد المعاوضة فإذا كان ثمن السلعة -مثلاً- مائة فإنه يزيد في ثمنها إلى أجل عشرة أو عشرين، فيصير سعرها مائة وعشرين مثلاً إلى هذا الأجل، باعتبار أن الأجل له حصة من الثمن، فسنفصل الكلام في حكم هذا فيما بعد، وفي هذه الحالة يكون هذا العقد عقد معاوضة لا إرفاق، فهذا الرجل يتعامل معاملة مادية، فهو يريد قيمة الزمن الزائد. فإذا كان البيع إلى أجل بهذه الصورة، أو تطلب كفالة، أو رهن، أو يؤتمن فيه المليء فقط، فهذا البيع يكون بيعاً مباحاً فقط. ويكون مستحباً في صور، منها -كما ذكرنا- ألّا يزيد عليه في الثمن لأجل الأجل إذا كان محتاجاً، أو فقيراً، ومنها: أن يؤتمن على سداد الثمن دون أن يضيق عليه بطلب رهن أو كفالة مثلاً.

بعض آداب بيع التقسيط

بعض آداب بيع التقسيط له آداب منها: أولاً: أن بعض الناس لا يبيع إلا بالتقسيط، فكل البضاعة التي عنده لا يبيعها إلا بالتقسيط، ولا يخير المشتري بين البيع الآجل والبيع العاجل، والعلماء حينما ناقشوا مسألة بيع العينة وصوره ذكروا أن للعينة صوراً منها: أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة، وقد نص الإمام أحمد على كراهية ذلك، فقال: العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس، أي: أن المكروه هو أن يقتصر فقط على البيع بالنسيئة، وأما إذا باع بنسيئة وبنقد ففي هذه الحالة يقول الإمام أحمد: لا بأس بذلك. وقال أيضاً: أكره للرجل ألّا يكون له تجارة غير العينة، فلا يبيع بنقد، أي: أنه يمتنع عن البيع بالنقد، ويكون كل بيعه بالأجل. وقد علل ابن تيمية رحمه الله تعالى ذلك بأنه يدخل في بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه. ومعنى كلامه: أن أغلب الناس الذين يشترون إلى أجل مع ارتفاع السعر، إنما يلجئون إلى هذا النوع لأنهم لا يستطيعون أن يسددوا ذلك المال نقداً. يقول: فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة -وكأنه يستغل حاجة هؤلاء الناس- وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجراً من التجار. لكن إذا كان التاجر يقصد من البيع بالنسيئة بيع العينة أو بيع الآجال فهذا نوع من الحيل الربوية، ولا شك في كراهية هذا، بل هو حرام ديناً وقضاءً، لكن إذا كان التاجر يبيع بالأجل دون أن يتخذ هذا ذريعة إلى بيوع الآجال أو بيوع العينة، فهذا مباح؛ حتى ولو لم يبع إلا بالأجل والتقسيط؛ لأن بيع الأجل جائز وبيع العينة حرام كما سنبين إن شاء الله تعالى. فأفضل أحوال البائع أنه يبيع للناس -إذا كان إلى أجل- بنفس سعر الحال، وهذا يدخل تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى) رواه البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (من كان هيناً ليناً قريباً من الناس حرمه الله على النار). إذاً: من أراد أن ينال هذا الثواب العظيم، فليبع بالتقسيط وبسعر النقد؛ حتى لا يستثمر حاجة الناس، فهذه هي أكمل الأحوال، وفي نفس الوقت فنحن نحرض المشتري على أنه لا يستدين، وأن يحرص على أن يشتري بنقداً، ولا يشغل ذمته بهذه الحقوق وهذه الأموال.

مظان مسألة بيع التقسيط وأصوله

مظان مسألة بيع التقسيط وأصوله الآن سنتكم عن صلب البحث، وسنذكر مظان مسألة البيع بالتقسيط وأصولها، وقد ذكرنا من قبل: أن مجرد بيع الأجل مباح وليس فيه بأس، ولكن المشكلة تكمن في زيادة سعر السلعة لأجل الأجل. لم يكن اصطلاح البيع بالتقسيط معروفاً عند علماء الشريعة والفقه الإسلامي قبل القرن الحالي، حيث عرف وشاع هذا النوع من البيع، ومن البدهي -والأمر كذلك- ألا يكون للمصطلح هذا وجود في كتب الحديث النبوي وهي مصدر رئيس يستقى منها الفقه وأحكامه، ولما كان الأمر كذلك اقتضى أن نبين المواطن والمظان التي فيها جذور هذه المسألة وأصولها من مصادر الحديث والفقه، فنلخص فيما يلي كلام الدكتور محمد عقلة الإبراهيم في هذا الباب، فيقول: ففي كتب الحديث نجد أصل هذا النوع من البيع قد ورد في مواطن في السنة يمكن من خلالها أن نفهم لفظ الشرع لهذا النوع من البيع، فلم نبحث عنه تحت اسم البيع بالتقسيط لأن هذا المصطلح حادث، فأما الأحاديث التي لها علاقة بمضمون هذا البيع فأولها حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة). النوع الثاني: حديث: (نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة) بألفاظه المختلفة. النوع الثالث: الأحاديث التي تتضمن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، أو بيع وشرط، أو بيع وسلم، فقد ورد في شروح هذه الأحاديث ما يفيد أن من الصور التي تعنيها هذه الأحاديث أن يبيع الرجل السلعة نقداً بكذا ونسيئة بكذا، أي: مع الزيادة، وهذا المعنى يعتبر أصل مسألة بيع التقسيط. وأما في كتب الفقه الإسلامي فنجد أصل مسألة بيع التقسيط تحت عنوان: البيوع الفاسدة، أو البيوع المنهي عنها، في كتب البيوع، أو باب: بيوع الآجال، فقد تناولت تلك الكتب في عداد حديثها عن البيوع المنهي عنها البيوعَ التي ذكرت آنفاً في كتب الحديث، وبيان الفقهاء لمعاني تلك الأحاديث، والتي تتضمن الصورة التي مرت، وهي أن يقول البائع للمشتري: هذه السلعة حالاً بكذا ومؤجلاً بكذا. ومن ثَم فإن إعطاء المسألة حقها من الوضوح والجلاء يستلزم الخطوات التالية: أولاً: ذكر الأحاديث الشريفة التي تعتبر أهم مظان مسألة بيع التقسيط، مع تخريجها بألفاظها المختلفة، وبيان درجتها من الصحة. ثانياً: إثبات عبارات أمهات كتب الحديث التي تناولت هذه الأحاديث بالبيان والشرح، وهذا هو المنهج العلمي، فلا ينبغي للإنسان أن يأخذ الحديث من كتب الحديث -حتى لو تبين له أن هذا الحديث صحيح -ثم يذهب يفسره على ما يريده، وهذه الآفة موجودة في بعض طلاب العلم في هذا الزمان، فإنه يأخذ الحديث، ثم يفسره بهواه، وإذا سكت الإنسان عن الخوض في المسائل الخلافية التي لا علم له بها قل الخلاف، وصدق من قال: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف بين الناس. ثالثاً: إيراد عبارات الفقهاء في شرحهم لهذه الأحاديث عند كلامهم في البيوع المنهي عنها. رابعاً: نستخلص علة تحريم هذه البيوع؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، أي: أننا نبحث عن علة التحريم، فإذا انتفت العلة رُفع الحرج، وإذا وجدت العلة حرم. وخلاصة الكلام ونتيجته النهائية هو جواز البيع بالتقسيط بشروط معينة، على أساس مقدمات سنذكرها إن شاء الله تعالى.

ذكر الأحاديث النبوية المتعلقة ببيع التقسيط

ذكر الأحاديث النبوية المتعلقة ببيع التقسيط المطلب الأول: الأحاديث النبوية المتعلقة بهذه المسألة! الحديث الأول: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)، وهذا الحديث صححه طائفة من العلماء كـ الحاكم في المستدرك، وابن حزم في المحلى وغيرهما. الحديث الثاني: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة). الحديث الثالث: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك).

تفسير الأحاديث المتعلقة ببيع التقسيط

تفسير الأحاديث المتعلقة ببيع التقسيط المطلب الثاني: وهو معنى هذه الأحاديث: هذه الأحاديث لها معان عديدة ذكرتها كتب الحديث والفقه، فبما أن الموضوع متعلق بموضوع بيع التقسيط فسنقتصر فقط على المعنى الذي يتعلق بقضيتنا؛ لأننا لو فصلنا في شرح الأحاديث فسنخرج عن موضوعنا، فسنذكر كلام علماء الحديث في شرح هذه الأحاديث: حديث أبي هريرة: (نهى عن بيعتين في بيعة) يقول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: (نهى عن بيعتين في بيعة): وقد مثل بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على إحدى البيعتين. أي: دون أن يحدد له أي البيعتين اشترى، فأما إذا فارقه على إحداهما فلا بأس بذلك، فإذا قال لك: أبيع لك هذا نقداً بعشرة، ونسيئة بعشرين، فقلت له: أنا موافق وقبلت، فهذا إيجاب بالقبول، دون أن يبين أي البيعتين اختار، فهذا العقد عند هذا الحد يكون باطلاً وغير صحيح، وهو منهي عنه؛ لأنها وقعت بيعتان في بيعة واحدة. فالمسألة مسألة عرض، فهو يعرض عليه ويساومه، فإذا اختار أحدهما فليس هناك بيعتان في بيعه، فلو قال مثلاً: اشتريه إلى أجل بعشرين، فهذه بيعة واحده، وإذا قال: اشتريه نقداً بعشرة، فهذه بيعة واحدة. إذاً: فلا يدخل في المنهي عنه إذا اختار إحدى البيعتين؛ لأنها بيعة واحدة، وأما إذا عرض عليه البيعتين فقال المشتري قبلت، فهذا العقد يدخل تحت النهي عن بيعتين في بيعة. قال الشافعي: ومعنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فربط بيعة الدار ببيعة الغلام، ومثل أيضاً أن يقول: أبيعك هذه الأرض بكذا على أن تبيعني هذه السيارة بكذا، فهذه بيعتان في بيعة واحدة، فهذه الصورة تدخل تحت معنى الحديث. فإذا وجب الغلام لي وجب لك داري، وهذه صفقة بغير ثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه الصفقة. فما يدري كم هو السعر، وهل هو بيع الآجل أم العاجل، فهذا هو الذي أثر في صحة هذا العقد، وبهذا المعنى فسره صاحب (معالم السنن) وهو الخطابي، وصاحب (بذل المجهود) وهو السهارنفوري، وصاحب (عون المعبود) وهو شمس الدين آبادي، وصاحب (نصب الراية) وهو الزيلعي وصاحب (سبل السلام) وهو الصنعاني، وصاحب (نيل الأوطار) وهو الشوكاني، وصاحب (فتح العلام) وهو صديق حسن خان. وجاء في (الموطأ) وشرح الباجي عليه: قال مالك لرجل اشترى من غيره سلعة بمائة نقداً أو بشاة موصوفة إلى أجل، حال كونه قد وجبت عليه بأحد الثمنين: ذلك مكروه لا ينبغي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وهذه بيعتان في بيعة، فيمنع لذلك. وقال النسائي: باب بيعتين في بيعة، وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة دينار نقداً، وبمائتي دينار نسيئة. وبمثله فسره البيهقي. فمما تقدم يتبين لنا بجلاء: أن أكثر المعاني شيوعاً لهذا الحديث هو أن يذكر البائع للمشتري ثمنين أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه مقداراً، وهذه الصورة هي الأساس لبيع التقسيط، وسنخلص فيما بعد النهي إلى علة هذا الحكم، هذا ما يتعلق بنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيعتين في بيعة. الحديث الثاني: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)، وقد جرت عادة البائع والمشتري أنهما يتساومان في عملية البيع والشراء، فإذا توافقا قال الأول: بعتك بكذا، وقال الثاني: قبلت، فإذا تم صافح أحدهما الآخر؛ تعبيراً عن إمضاء الصفقة، فيبسط يده في يد الآخر. فالنهي عن الصفقتين في صفقة المقصود به نفس معنى بيعتين في بيعة، وهذا الكلام الذي ذكرته في هذا الحديث مبني على تفسير سماك قال: الرجل يبيع الشيء فيقول: هو بنساء بكذا وكذا وهو بنقد بكذا وكذا، فهذا مقارب لما سبق. وقال ابن أبي شيبة: أن يقول الرجل: إن كان نقداً فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا. وأما الحديث الثالث فحديث: (نهى عن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، وعن بيع وشرط)، فأما الشرطان في بيع، فقد فسرها صاحب (المنتقى شرح الموطأ) وهو الإمام الباجي بقوله: وهو أن يقول: بعتك هذه السلعة نقداً بكذا وبكذا نسيئة، وبمثله فسره النسائي وغيره. أما (سلف وبيع) فهو: أن يريد الشخص أن يشتري سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النساء وهو التأجيل، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليرجعه إليه حيلة. وعلى أي الأحوال: فما أورده العلماء من تفاسير للأحاديث: (نهى عن بيعتين في بيعة) و (صفقتين في صفقة) و (شرطين في بيع) يظهر أنها تتفق في معنى واحد، أن يبيع الرجل سلعته بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحاضر. هذا ما يتعلق بالأحاديث، والكلام عليها. وأما كلام علماء الفقه: ففي الفقه الحنفي يقول صاحب (المبسوط): وصفة الشرطين في بيع أن يقول: بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، وبمثل هذا المعنى فسره صاحب (تحفة الفقهاء)، وصاحب (الفتاوى البزازية)، والسندي في حاشيته، وصاحب (فتح القدير)، وهذا شائع في كتب الأحناف. وأما في كتب المالكية فقد جاء في (مختصر خليل): وكبيعتين في بيعة يبيعها بإلزام بعشرة نقداً أو أكثر لأجل. وفي الفقه الشافعي يقول الشافعي رحمه الله تعالى في معنى بيعتين في بيعة: وهنا وجهان: أحدهما: أن يقول: بعت هذا العبد بألف نقداً أو بألفين نسيئة، فقد وجب لك بأيهما شئتُ أنا أو شئت أنت، فهذا بيع الثمن فيه مجهول، وثانيهما: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف. وفي الفقه الحنبلي يقول صاحب (المغني) بعد ما ذكر حديث أبي هريرة (نهى عن بيعتين في بيعة): مثل أن يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك، فهذا كله لا يصح. قال ابن قدامة: وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر، وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقداً أو بخمسة عشر نسيئة، وهو أيضاً باطل. وكذلك باقي العلماء والمذاهب الأخرى، سواء كانوا من علماء السلف كالصحابة والتابعين، أو من غيرهم فقد جاء عنهم ما يفيد أن كل هذه الأحاديث تعني أن تقول: هي نقداً بكذا ونسيئة بكذا، وقد روي هذا عن علي وابن عباس، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما نُقل عن الأوزاعي وعطاء والثوري والقاسم بن محمد والشعبي وابن سيرين رحمهم الله تعالى أجمعين، وبهذا المعنى فسر أيضاً داود الظاهري. ويظهر مما تقدم من ذكر أقوال العلماء في بيان معنى الأحاديث الشريفة الثلاثة أن هذه الأحاديث تفيد معنيين: الأول -وهو أرجحهما وأكثرهما وروداً عند العلماء-: أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه السلعة بسعر معجل بكذا وبمؤجل بكذا، وهذا هو أصل بيع التقسيط. الثاني: أن يقول البائع للمشتري: أبيعك كذا على أن تبيعني أو تؤجرني أو تقرضني كذا.

علة التحريم في البيوع المنهي عنها في الأحاديث السابقة

علة التحريم في البيوع المنهي عنها في الأحاديث السابقة المطلب الثالث: ما هي علة التحريم في البيوع المذكورة؟ إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، ونهى عن صفقتين في صفقة، ونهى عن شرطين في بيع أو بيع وسلف، فما علة هذا التحريم؟ إنّ المتتبع لعبارات كتب الحديث النبوي وشروحها العديدة يجد أن تحريم البيعتين في بيعة مردُّه إلى جهالة الثمن الذي تم به البيع، فقول البائع: أبيعه لك معجل بعشرة وإلى أجل بعشرين، فيقول المشتري: أنا موافق على أي البيعتين، بدون أن يبين أي البيعتين قد أمضى، فإلى هذا الحد فالبيع غير صحيح، وهو محرم، وهو داخل في بيعتين في بيعة وصفقتين في صفقة، وشرطين في بيع، والعلة هي جهالة الثمن الذي تم به البيع، وهذه الجهالة هي نوع من الغرر الذي يؤثر في صحة العقد. يقول الإمام الترمذي بعد ما ذكر حديث (بيعتين في بيعة): وفسره بعض أهل العلم أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقداً بعشرة ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، يعني: وقد جزم وقطع واختار ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كان العقدة على أحدهما. فهذا القول يفيد أن علة النهي هي جهل المتعاقدين بالثمن؛ إذ إنه يقبض السلعة ويفارق البائع دون أن يعين ما إذا كان الثمن الذي تم به البيع هو المعجل أو المؤجل، أما إذا انتفت العلة بأن حدد المشتري أيَّ الثمنين اختار لإتمام العقد به فإن العقد يصح؛ لانتفاء الجهالة المفضية إلى المنازعة، وهذه العلة هي التي نص عليها الخطابي والصنعاني والشوكاني وصاحب (بذل المجهود) وصاحب (فتح العلام). وهذه العلة هي أيضاً عند علماء الحديث، وهي أيضاً نفسها عند الفقهاء، فعند فقهاء الأحناف: يقول السرخسي في شأن علة النهي: وإذا اشترى شيئاً إلى أجلين وتفرقا على ذلك لم يجز، وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما وأمضى البيع عليه جاز. وقال في موضع آخر بعد بيان معنى بيعتين في بيعة: فهو فاسد؛ لأنه لم يقاطعه على ثمن معلوم، فإن كانا يتبايعان بينهما ولم يفترقا حتى قاطعه على ثمن معلوم وأتما العقد عليه فهو جائز؛ لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شروط الصحة. فهذا ظاهر في أن علة النهي عن بيعتين في بيعة وما في معناهما: عدم العلم بالثمن الذي تم عليه العقد، مما يعني أنه إذا انتفت العلة المذكورة وعرف الثمن فإن البيع يصح. وعامة فقهاء الأحناف يقولون نفس هذا الكلام. وكذلك فقهاء المالكية، قال الدسوقي: وهو أن يبيع السلعة بتاً -أي: نقداً- بعشرة، أو أكثر لأجل معين، ويأخذها المشتري على السكوت ولم يعين أحد الأمرين، اختاره بعد أخذها، وإنما منع للجهل بالثمن حال البيع، وهناك عبارات أخرى للمالكية بنفس هذا المعنى لا نطيل بذكرها. والمتتبع لعبارات فقهاء المذهب الشافعي يجد أنها تكاد تُطبِق على اعتبار الجهل بالثمن وإبهامه وعدم استقراره هي علة تحريم الأنواع التي نحن بصددها من البيوع، سواء كان ذلك بطريق الصراحة أو الدلالة، فيقول أبو إسحاق الشيرازي بعد بيان معنى بيعتين في بيعة: والبيع باطل؛ لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، وهو باطل، أما لو قال: بعتك بألف نقداً وبألفين نسيئة فيصح العقد، وإلى مثل هذا ذهب الشافعي وابن الرفعة. كذلك الفقه الحنبلي يقول العبدلي في شأن العلة: لا يصح ما لم يتفرقا على أحدهما، أي: الثمن المعجل أو المؤجل، وهو المذهب نص عليه الإمام أحمد، وعليه جمهور أصحابه، وقطع به كثير منهم. يقول ابن القيم: وليس هاهنا ربا، ولا جهالة، ولا غرر، ولا قمار، ولا شيء من المفاسد. يعني: إذا افترقا وقد بيَّن أي البيعتين اختار. يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا بأس أن يقول في السلعة: هي بنقد بكذا وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقان إلا عن رضا، وتحديد أي البيعتين قد أمضى. ويقول الأوزاعي: لا بأس بذلك، يعني: بيعتين في بيعة، ولكن لا يفارقه حتى يُباتّه بأحد الثمنين، أي: حتى يقطع بأحد الثمنين. إذاً: خلاصة الكلام: أن علة عدم جواز البيعتين في بيعة -مع تفاوت عبارات العلماء والمحدثين- لا تخرج عن جهل الثمن الذي تم العقد عليه، أو سد ذريعة الربا كما عند المالكية. وعلى هذا الأساس: إذا ارتفعت هذه العلة من بيع التقسيط بحيث يذكر البائع للمشتري ثمنين: أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه، فيختار المشتري واحداً منهما بعينه قبل التفرق من مجلس العقد؛ فإن هذا النوع يكون جائزاً شرعاً.

الواجب على من تبايعا بيعتين في بيعة

الواجب على من تبايعا بيعتين في بيعة ما حكم البيعتين في بيعة؟ لنفرض أن رجلاً بالفعل باع بيعتين في بيعة، وحصلت الصورة المنهي عنها، قال له: أبيع لك ثوبي بكذا وبأجل بأكثر منه بكذا، فقال: قبلت، فما حكم هذا البيع؟ ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى أن بيع بيعتين في بيعة باطل أو فاسد، ولم يشذ عن القول ببطلانه إلا نفر من الفقهاء كـ طاوس والحسن وحماد بن أبي سليمان. وجاء في (الشرح الكبير): كما فسره مالك والثوري وإسحاق، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين، ولأن الثمن مجهول، فليس يصح كالبيع بالرقم مجهول. أي: قوله: بعتك أحد هذين تشبه أن يقول له: بعتك بأحد الثمنين، ففيه جهالة، فإذا قال لك مثلاً: بعتك أحد هذين: مثلاً جهاز الكاست ومنبّه، وأنت تقول: قبلت، فهذا لا يجوز؛ لأن فيه جهالة، فأنت لا تعرف ماذا اشتريت، فالسلعة مجهولة، وذلك غرر، ومثلها أن أقول لك: بعتك بأحد هذين السعرين إما آجل بكذا أو عاجل بكذا، ومثل أن يقول لك قائل: أبيع لك هذه السلعة بمبلغ ما، فتقول له: قبلت، فهذا لا يصح؛ لجهالة الثمن، فكذلك ما سبق. إنّ ما تكلمنا عليه آنفاً هو حكم البيعتين في بيعة من حيث الحل والحرمة، والصحة والبطلان، وهنا سؤال وهو: إذا كان هذا البيع حراماً باطلاً فماذا يجب؟ و A أنه يجب فسخه، فلا يترتب عليه أثره، وأما لو هلكت السلعة أو استُهلكت، كأن تكون هذه السلعة طعاماً أو نحوه مما يؤكل، أو استُعمل واستهلك فما الحكم الشرعي في هذه الحالة؟ لقد أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك في حديث نبوي شريف أخرجه أبو داود في سننه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) وهذا الحديث حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، حديث رقم (2326). فمن العلماء من أخذ بظاهر هذا الحديث ورتب على هذه الصورة من البيع أثراً، فقد روي عن الأوزاعي أنه سئل عن معنى بيعتين في بيعة وهو أن يقول: نقداً بكذا ونسيئة بكذا، فقال الأوزاعي: لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد البيعين، أي: لا يفارقه حتى يجزم بأي البيعتين أمضى، فإن قبض السلعة على ذينك الشرطين فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين. أي: يكون بأقل الثمنين وهو بيع النقد، إلى أبعد الأجلين وهو بيع الأجل. وبه قال طاوس، فقد سئل: إذا قال: بكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا فوقع البيع على هذا، قال: هو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، يعني: أن من وقع في هذه المخالفة الشرعية وحصل منه هذا البيع دون أن يجزم أو يحدد أي البيعتين أمضى فالحل في ذلك أن يكون البيع بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، وهذا مأخوذ من الحديث: (من باع بيعتين في بيعة) أي: قد حصل هذا البيع فما الحل؟ (له أوكسهما أو الربا)، أي: أقل ما يمكن أن تكون عليه في هذه الحالة وذلك بأن يكون بأبعد أجل، وبأقل ثمن، فهذا معنى: (فله أوكسهما)، وإن لم يفعل ذلك فإنه يقع في الربا. وقد طعن بعض العلماء في صحة هذا الحديث، وقال بعضهم: على فرض صحته فعنه أجوبة: أولاً: يجاب عما قاله الأوزاعي بما قاله الخطابي: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد؛ وذلك لما تضمنه هذا العقد من الغرر والجهل. فهنا تعارض بين الحديث المتقدم وبين حديث: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، فظاهر هذا الحديث أن البيع يمضي، لكن بأوكسهما، أي: بأقل الثمنين. وقال بعض العلماء: يحمل على معنى آخر مثل رجل باع شيئاً إلى أجل، وقال للمشتري: سدد لي مبلغ هذه السلعة خلال شهر مثلاً، فيأتي بعد شهر وعليه مائة جنيه مثلاً، فيقول المشتري بعد الشهر: ليس عندي ما أستطيع أن أسددك الآن، فيقول له البائع: أمد لك شهراً آخر ويكون عندك مائة وعشرون؟ قالوا: فهذا هو المقصود بقوله: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، قالوا: فإما أن يؤجَّل له المبلغ الأقل وهو مائة جنيه، أو يطلب منه هذه الزيادة فيكون قد وقع في الربا. وهناك تفسير آخر لهذا الحديث، وهو: أن يسلف رجل رجلاً آخر ديناراً في قفيز بر، والقفيز هو نوع من المكاييل، فأسلفه ذلك إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثاني قبل فسخ البيع الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما أي: أقلهما من الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ البيع الأول كان منهياً عنه؛ لأنه بيع الدين بالدين أو بيع الكالئ بالكالئ منهي عنه لما فيه من الربا، فهذه صورة أخرى في معنى بيعتين في بيعة. وقال بعض العلماء: إن الحديث من باب بيع الدين بالدين، وهذا قاله ابن الأثير في شرح هذا الحديث، قال: أن يقترض الرجل من الرجل مالاً فيعطيه سلعة إلى أجل، فإذا حل الأجل وطالب بالوفاء قال: بعني تلك السلعة إلى أجل آخر وأزيدك، ولا يجري بينهما تقابض، فكأنه أسلفه ديناراً في صاع بر مثلاً إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعني الصاع بصاعين إلى شهرين، فهذا بيع ثانٍ، وهو بيعتان في بيعة، فهنا يرد إلى أقلهما وهو الصاع، أي: كأنه باعه دين بدين، وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه. وهناك جواب آخر أجاب به بعض العلماء عن هذا الحديث: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) فقال بعض العلماء: ظاهر هذا الحديث مخالف للمذاهب كلها، إلا أن يقال في معناه: إن من باع شيئاً على أنه بخمسة إن كان ناجزاً وبعشرة إن كان نسيئة، ثم افترقا من غير أن يتعين أحدهما، فهذا البيع فاسد؛ لكونهما افترقا قبل تعيين الثمن، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعتين في بيعة وكان الحكم فيه الفسخ، إلا إذا استهلك المشتري المبيع أو أكله فلا يجب فيه إلا المثل أو القيمة إذا تعذر المثل، وهو أوثق عادة من الثمن المتعين بينهما في البيعتين معاً حاسبين المثل أو القيمة، المثل أو القيمة لا بد أن يكونا أقل من السعر الذي كان متفقاً عليه في البيعة الثانية؛ لأنه لو أخذ الثمن كان إبقاءً لبيع منهي عنه، فإذا أخذ الثمن ولم يفسخ فقد أربى؛ لكونه عقد عقداً فاسداً، والعقود الفاسدة كلها داخلة في حكم الربا. وخلاصة الأمر في حكم بيعتين في بيعة: أنها من البيوع المنهي عنها ونقصد بيعتين في بيعة فالمقصود بها الصورة التي ذكرناها آنفاً، وهي غير بيع التقسيط، وهي من البيوع المحكوم ببطلانها، وتستحق الفسخ إذا وقعت بالصورة التي لا يُعلم فيها الثمن، وهذا رأي عامة الفقهاء. وأما من حيث حكمها: فإذا حدث قبض بموجبها فجمهور الفقهاء يرون أن البيع الباطل لا ينتج أثراً، وأنه لا يصح الأخذ بظاهر حديث أبي داود؛ لأن العمل بظاهره يفيد أن البيع صحيح، والبيع الصحيح هو الذي ينتج آثاراً، ويرتب حقوقاً، إضافة إلى المطاعن التي ذكرناها في صحته أولاً من جهة، أو في صلاحيته للاحتجاج به على المقصود من جهة أخرى، فقد التمسوا له التأويلات على فرض صحته؛ انسجاماً مع الحقيقة الشرعية التي تأبى أن يترتب على العقد الباطل آثاراً، وتمكين للبائع من الوصول إلى حقه الذي ذهب بتعذر استرداد السلعة التي باعها بموجب عقد البيعتين في بيعة المنهي عنه شرعاً حتى يرد إلى البائع حقه، أي: إذا قلنا لهذا البائع: هذا البيع باطل ولابد أن يفسخ، فإنه سيقول: أرجعوا لي سلعتي التي أخذتموها، ويكون المشتري قد استهلكها، أو أتلفها، أو احترقت عنده، أو غير ذلك فهل يضيع حق البائع؟ لا، بل نُعمِل هذا الحديث كمخرج، (من باع بيعتين في بيعة) أي: واستهلكت السلعة، أو تلفت في يدي المشتري الذي قصّر في حفظها، فما الحل؟ (فله أوكسهما) أي: برد السلعة لصاحبها، أو قيمتها عند تلفها.

القول الراجح في حكم بيع التقسيط

القول الراجح في حكم بيع التقسيط بعد النظر إلى أدلة الفريقين وما قدمه الجمهور إلى أدلة مخالفيهم من طعون أوضحت عجزها عن الاحتجاج بها، يترجح أن الحق هو ما قاله جمهور العلماء، وهو أن النهي عن بيعتين في بيعة هو إذا عرض عليه، البيع نقداً ونسيئة ولم يعين الثمن، وأما إذا عين الثمن فالبيع جائز. وبعض العلماء قال بكراة بيع التقسيط لظاهر هذا الحديث، وهذا مذهب متوسط ذهب إليه بعض الفقهاء، فبعض الفقهاء يبطلون البيع بالأج، وبعضهم يبيحه، وبعضهم قالوا: هو مكروه، فالأحوط تركه، والله تعالى أعلم.

التبرك الممنوع والمشروع

التبرك الممنوع والمشروع مسألة التبرك من المسائل التي حصل فيها الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، فمن باب التبرك انتشرت كثير من البدع والشركيات؛ لذا كان لزاماً علينا معرفة التبرك المشروع من التبرك الممنوع؛ حتى لا يقع الإنسان في البدع أو الشركيات وهو لا يشعر.

إثبات كون البركة من الله عز وجل

إثبات كون البركة من الله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله -أي: ابن مسعود - رضي الله عنه قال: (كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء. فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله. فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل). فقوله رضي الله عنه: (كنا نعد الآيات بركة) يعني: كنا نعد الأمور الخارقات للعادات بركة (وأنتم تعدونها تخويفاً) أي أنه ينكر على من يسمعونه أو من كان يحدثهم أنهم كانوا يعدون جميع الخوارق تخويفاً. فقوله: (كنا نعد الآيات بركة) المقصود به: كنا نعد بعض الآيات بركة. وقوله: (وأنتم تعدونها تخويفاً) أي: وأنتم تعدونها كلها تخويفاً، فليست كلها تخويفاً، وليست كلها بركة، بل بعضها يكون تخويفاً، كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، وبعضها يكون بركة، كما في هذا الحديث المبارك. يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: إن التحقيق يقتضي عد بعضها بركة من الله، كشبع الخلق الكثير من الطعام القليل، وبعضها تخويفاً من الله، ككسوف الشمس والقمر، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوفاً الله بهما عباده)، فكأن القوم الذين خاطبهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بذلك تمسكوا بظاهر قول الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]. ثم قال رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر)، وهذا السفر يشبه أن يكون في غزوة الحديبية؛ لأن ثبوت نبع الماء كان في هذه الغزوة، كما جاء في بعض الأحاديث، وقد وقع مثل ذلك في غزوة تبوك، وقيل: إنه كان في غزوة خيبر. وفي بعض روايات الحديث: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فأصاب الناس عطش شديد، فقال يا عبد الله! التمس لي ماءً. فأتيته بفضل ماء في إداوة) إلى آخر الحديث. وقد تكرر وقوع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم حضراً وسفراً. قوله: (قال: اطلبوا فضلة من ماء. فجاءوا بإناء فيه ماء قليل) جاء من طريق ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بماء، فطلبه، فلم يجده، فأتاه بشن فيه إناء) وفي آخره: (فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر) لأنه كان ماءً مباركاً، فجعل يشرب ويكثر، فكأن ابن عباس حمله عن ابن مسعود، وكأن القصة واحدة. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى بفضلة من ماء، ولا شك في أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يخلق له الماء بدون هذه الفضلة، فالله على كل شيء قدير، لكن أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم أن هذا الماء القليل يبارك الله تبارك وتعالى فيه بإذنه فيزيده ويكثره، ويكون الماء ينبع من أصابعه صلى الله عليه وسلم، حتى لا يتوهم متوهم أن البركة إنما هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما البركة من الله، كما جاء في نص الحديث: (البركة من الله)، لكنه طلب شيئاً قليلاً من الماء حتى يبين ابتداء أن خلقة هذا الماء من الله، والبركة -أيضاً- من الله، حتى لا يقع التباس عند بعض الناس في هذا الأمر، ولذا قال لهم: (حي على الطهور المبارك) ومعنى (حي) أي: هلموا وأقبلوا (إلى الطهور) المراد به هنا الماء، ويجوز أن نقول: الطُهور بالضم، والمقصود الفعل، أي: تطهروا. وقوله: (والبركة من الله) البركة مبتدأ و (من الله) خبر وهي إشارة إلى أن الإيجاد والخلق من الله تبارك وتعالى. وفي بعض الروايات قال ابن مسعود: (فجعلت أبادرهم إلى الماء) أي: لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والبركة من الله) علم أن هذا الماء ماء مبارك، فجعل يسابق الصحابة رضي الله عنهم إلى الماء، يقول: (فجعلت أبادرهم إلى الماء أدخله في جوفي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: والبركة من الله)، وفي حديث ابن عباس: (فبسط صلى الله عليه وسلم كفه فيه فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر). يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: والحكمة في طلبه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المواطن فضلة الماء لئلا يظن أنه الموجد للماء، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالباً بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بينها التوالد، وبعضها لا يقع، ومن جملة ذلك ما نشاهده من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت زماناً، ولم تجر العادة في ماء الصرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جداً. قوله: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل) أي: في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ففي الغالب أن هذا كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وله شاهد من طريق قيس بن أبي حازم قال: كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: (بآية الصحفة). كما نقول نحن: بأمارة كذا إذا كان الاثنان متفقين على شيء ولا يعلمه ذلك الرسول الذي يمشي بينهما. فكان أحدهما يقول للآخر: أعط فلاناً كذا وكذا بآية -يعني: بعلامة أو بأمارة- الصحفة. قال: (كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: بآية الصحفة، وذلك أنه بينا هما يأكلان في صحفة إذ سبحت). وجاء في الحديث: (مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بطبق فيه عنب ورطب، فأكل منه فسبح) يعني الطبق. قال الحافظ ابن حجر: وقد اشتهر تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنيناً، ثم وضعهن في يد أبي بكر رضي الله عنه فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن) وفي بعض الروايات: (فسمع تسبيحهن من في الحلقة) وفيه: (ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن)، فهذه من الأشياء التي سبقت فيها بركة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

تأييد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم بخوارق العادات

تأييد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم بخوارق العادات جاء في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع -أي: إلى نخلة- في المسجد -أي: كان يعتمد على هذا الجذع أو يتكئ عليه وهو يخطب-، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه، فلما أتى النبي عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة ليخطب مر على هذا الجذع وجاوزه إلى المنبر الذي اتخذ له، فلما رأى الجذع ذلك حن أي: أصدر صوتاً كصوت الطفل الصغير الذي يحن إلى أمه- حتى أتاه النبي - أي: أنه نزل من على المنبر- وضمه إليه، وأخذ يمسحه، حتى سكن). وفي رواية أخرى: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار -أو رجل-: يا رسول الله! ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إن شئتم. فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، فقال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها) أي: كانت تحن إلى الذكر الذي كانت تسمعه حين يخطب عندها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: (كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر قام عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها، فسكنت). والعشار جمع عشراء، وهي الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر. فهذا كله تأييد لقول من يحمل قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] على ظاهره، وهذا هو الصحيح.

التبرك الممنوع وسيلة من وسائل انتشار البدع والشركيات

التبرك الممنوع وسيلة من وسائل انتشار البدع والشركيات قول النبي عليه الصلاة والسلام: (والبركة من الله) يحتاج إلى مزيد من التوضيح له ضمن هذه السلسلة التي هي تلخيص لبعض الدراسات المهمة. وهنا سنتكلم عن التبرك المشروع والممنوع، علماً أنَّ هذه المجموعة من الدراسات المفيدة النافعة تحمل اسم (رسائل ودراسات في منهج أهل السنة) للدكتور علي العلواني، ونظراً لندرة هذه الرسائل وعدم توافرها ولشدة الحاجة إليها في نفس الوقت نقوم بمحاولة نشرها بقدر المستطاع عن طريق هذه البنود. يقول الدكتور علي العلواني حفظه الله: إن التبرك بذوات الصالحين وآثارهم والتبرك بالأزمنة والأمكنة المرتبطة بهم قضية من أهم القضايا العقدية، كذلك الغلو فيها ومجانبة الصواب قد جر فئاماً من الناس قديماً وحديثاً إلى حظيرة البدع والخرافيات والشركيات. وهذا من قديم الزمان، فإن أهل الجاهلية الأولى الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أسباب عبادتهم للأصنام التبرك بها، وطلب بركتها في الأموال والأمن والأولاد والأنفس، ثم لما دخلت البدع في هذا الدين عن طريق الزنادقة والمنافقين كان من وسائلهم لتحريف الدين الغلو في الأولياء والصالحين، والتبرك بقبورهم، وفي مقدمة هؤلاء الرافضة لعنهم الله، فهم من أولهم ظهوراً بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن هنا أدخل أهل النفاق في الإسلام ما أدخلوه من باب التبرك والغلو في الدين. ويكفينا نحن في مصر أن مصر تتميز بقدر من البدع لا تحظى به كل البلاد الإسلامية، كباكستان وأفغانستان والبلاد البعيدة عن مبادئ الإسلام الأولى، فلنا في مصر بدع لا تكاد تجدها تنتشر في بلاد أخرى، خاصة مسألة بناء المساجد على القبور، وتعظيم المقابر بهذه الطريقة، والموالد، والمواسم، والأطعمة، والاشتغال بهذه الشكليات التي تنسي الناس جوهر الإسلام. وكل هذه البدع أو أغلبها إنما طرأ علينا في مصر بسبب شؤم الدولة الفاطمية الملحدة التي حكمت مصر ردحاً من الزمان. فنحن ابتلينا بهذه الدولة الرافضية الفاطمية الخبيثة، فإنها لما حكمت في مصر بثت هذه البدع، ولعل مما يشرف أهل الإسكندرية أن الإسكندرية هي المدينة الوحيدة التي استعصت على الفاطميين في فترة حكمهم وغزوهم العقدي للمسلمين في مصر. وعلى أي الأحوال فنحن نعيش بين هذه البدع، ونكتوي بنارها، كالغلو في أهل البيت، والغلو في الصالحين، وبناء المساجد على القبور، حتى إن العقائد السائدة عند الناس أنهم يعتقدون أن كل قرية لابد من أن يكون لها ولي يدفن في وسط المقابر لأجل أن يحمي القرية، والذين يعتقدون ذلك هم عامة الناس في الأرياف، ونرجو أن تنقطع هذه العقائد الآن بسبب دعوة الإخوة جزاهم الله خيراً. فيعتقدون أن كل بلدة تحمى وتحفظ بالولي المدفون فيها، والذي يعظم قبره وتشد إليه الرحال، حتى إن بعض الناس ألفوا كتباً ليوضحوا فضل مناسك الحج إلى هذه المشاهد وسموها (مناسك الحج)! ونرى فيها أنواعاً من الشرك التي تضاهي ملة إبراهيم عليه السلام وتشابهها، وكأنه يحج إلى بيت الله العتيق، فتجد الطواف حول هذه القبور والأضرحة، مع أنها مؤسسة على لعنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومؤسسة على غضب من الله تبارك وتعالى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، والأدلة في ذلك معروفة. وتجد أنهم يحجون إلى تلك الأضرحة كما يفعل الموحدون إذا حجوا إلى بيت ربهم تبارك وتعالى. وتجد -أيضاً- أنهم يتبركون بهؤلاء الأنجاس الذين يعبدونهم من دون الله، وتجد الذبائح التي يهدونها إلى الميت وإلى القبور، وهذا عجل البدوي وهذا عجل فلان، ولا أحد يقربه أبداً، مثل ما عمل أهل الجاهلية حين جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فعجل البدوي لا أحد يقربه ولا أحد ينتفع به؛ لأنَّه عجل البدوي! ويذبحون الذبائح للأنداد الذين اتخذوهم من دون الله تبارك وتعالى، فنجد عندهم الطواف والذبح والحلق والنحر، وكل هذه الأشياء مضاهاة لما يفعله الموحدون أتباع ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فالحقيقة أن هذه الأمور من أشد مظاهر غربة الإسلام في بلادنا وفي كثير من بلاد المسلمين، فإذا تتبعت منابع هذه الضلالات وهذه الشركيات فسوف تجدها تعود إلى جذور خبيثة منتنة، كما قال عز وجل: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58]. فهذا النكد أتانا من هؤلاء المبتدعين والمنافقين، فكثير من الناس لما أرادوا الطعن في الإسلام طعنوا فيه من خلال الغلو في الصالحين أو الغلو في أهل البيت. فالذي ابتدع دين الرافضة وأسس دين الرافضة هو يهودي خبيث اسمه عبد الله بن سبأ، وكان يقال له: ابن السوداء. ذلك الخبيث هو الذي أثار الفتن في المسلمين، وكان زنديقاً أظهر الإسلام وأبطن الكفر؛ ليحتال في إفساد دين المسلمين، كما احتال بولس في إفساد دين النصارى؛ لأن الذي أفسد دين النصارى هو بولس، وهو يهودي أيضاً. وقد سعى هذا اليهودي الخبيث -أعني ابن سبأ- في الفتنة بين المسلمين، حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وكان هو ممن غذى هذه الفتنة، وكان يغذي فتنة الاقتتال بالكذب والدعاوى بين المسلمين، كما قال تبارك وتعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]. ثم إنه لما تفرقت الأمة ابتدع ما ادعاه في الإمامة من النص والعصمة، وافترى فرية أخرى، هي أن كل نبي لابد له من أن ينص على إمام من بعده، وأن هذا الإمام يكون معصوماً، فهو الذي أسس للشيعة الرافضة دينهم الخبيث. وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر، فهو الذي فتح باب الطعن في أبي بكر وعمر، وصادف ذلك قلوباً فيها جهل وغل وإن لم تكن كافرة، فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشر، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

لا اجتماع بين التوحيد والشرك في قلب واحد

لا اجتماع بين التوحيد والشرك في قلب واحد إن القلب لا يتسع للبدعة والسنة، ولا يتسع للتوحيد والشرك، فإذا دخل أحدهما خرج الآخر، فلا يجتمعان لأنهما نقيضان، فالقلب الذي يمحص وينقى ولا يكون إلا للتوحيد والسنة لا يطيق أبداً خلاف ذلك، وبقدر ما يدخل من البدع في القلب بقدر ما يذهب من نور السنة. والذي يرتبط بالقرآن كتاب الله، ويستقي الحكمة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجد تعظيمه للقرآن وحبه للقرآن وشعوره بحلاوة القرآن ولذة مناجاة الله تبارك وتعالى حين يتلو كلامه أعظم بكثير ممن أخذ من ذلك بحظ قليل ثم ملأ قلبه بالشعر وبأقوال حكماء اليونان وحكماء الهند وكلام الفلاسفة والشعراء، فهذا الذي يملأ قلبه بهذه الأشياء يكون تأثره بالحكم الإلهية والنبوية أقل. والإنسان حين يراقب نفسه وينقي نفسه ويكون عنده الاحتفال بعيدي المسلمين في يومين لا ثالث لهما: عيد الفطر وعيد الأضحى تجد شعوره بالفرحة في عيدي المسلمين -الأضحى والفطر- لا يكون كشعور من جعل بين كل عيد وعيد عيداً، كما يحصل في بلادنا من الأعياد السياسية، والأعياد الوطنية، والموالد الشركية، والبدع والضلالات، وكل يوم يطلع لنا فيه عيد معاندة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكم بهما عيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى) فالبدل لا يجتمع مع المبدل منه. والذي يحج إلى بيت الله الحرام فحسب، ويطوف بالكعبة فحسب، ويذبح لله فحسب هو إنسان توحيده أتم وأكمل وأنقى من هؤلاء الذين يتمرغون في الشرك ممن يحجون إلى البدوي والدسوقي، وتجد حب المرء من هؤلاء للكعبة ولبيت الله الحرام وللحج يضعف بلا شك؛ لأنه يعظم من دون الله هذه المشاهد وهذه القبور ويحج إليها، فأنت حين تطوف بالكعبة وحدها وحين تذبح الهدي لله فقط وحين تقف على عرفات وهكذا هل تستوي أنت ومن اتخذ من دون الله أنداداً، وطاف بقبورهم، وتمسح بأضرحتهم، وفعل هذه الشركيات التي ما أنزل الله بها من سلطان؟!

التبرك عند الرافضة

التبرك عند الرافضة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم. ولذلك فمن ابتلي برؤية الشيعة -أخزاهم الله- عند البيت الحرام أو في المدينة المنورة يجد أنه يخرج الموحدون المسلمون من المسجد النبوي -مثلاً- في صلاة الفجر وهؤلاء قادمون أفواجاً وراء أفواج من المقابر من البقيع، ولا يصلون مع المسلمين في المسجد! فهؤلاء هم -كما وصفهم ابن تيمية - الذين يهجرون المساجد ويعظمون المشاهد، فدينهم هو عبادة القبور والأضرحة والمقامات وغير ذلك، ولهم أيضاً كذلك تفاصيل في المناسك التي تؤدى عند هذه القبور. يقول شيخ الإسلام: محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف معصوم، ورووا في عمارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتاباً في مناسك حج المشاهد، وكذبوا فيه على الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، واتبعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب. انتهى كلام شيخ الإسلام.

التبرك عند طوائف الصوفية

التبرك عند طوائف الصوفية يقول الدكتور علي حفظه الله: ثم اقتبس أناس متصوفة من الرافضة التبرك بالمشائخ وقبورهم وآثارهم، فهذا البوصيري يرى أن من تبرك بتراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم كانت له طوبى، وطوبى شجرة في الجنة، فكيف يقال: طوبى بدون وحي؟! أليس الكلام في باب القطع؟ وهذا لابد من أن يقال من وحي المعصوم. يقول البوصيري: لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنتشق وملتثم أي: ضم أعظمه عليه الصلاة والسلام. وقوله: (طوبى لمنتشق منه وملتثم) يعني بالملتثم من يأخذ هذا التراب ويقبله. أما أتباع الطريقة الرفاعية فقد ذكروا من بركات صاحب الطريقة ما يجل عن الوصف، من ذلك قوله في شعر: أنا الرفاعي ملاذ الخافقين فلذ في باب جودي لتسق الخير من ديمي إذا دعاني مريدي وهو في لجج من البحار نجا من حالة العدم فلو ذكرت بأرض لا نبات لها لأقبلت بصنوف الخير والنعم ولو ذكرت بنار قط ما لهبت ولو ذكرت بسفح غار من عظمي ولا يساوي الرفاعي في هذه البركات إلا الشيخ نقشبند شيخ الطريقة النقشبندية، الذي يقول عنه الشيخ محمد أمين الكردي: هو الغيث الأعظم، وعقد جود المعارف الأنظم، انزاحت بأنوار هدايته أعلام الأغوار، وعادت الأسرار ببركة أسراره للأخيار أعيان وأعوان الأخيار. أما شيخ البريلوية في الهند فإنه لا يرى بأساً بوضع تمثال لمقبرة الحسين في المنزل من أجل التبرك به. ومع انتشار العلم في هذا الزمن إلا أن هذا التبرك بالأشياخ وآثارهم وبالقبور وأصحابها لا يزال شائعاً منتشراً حتى بين من يحوزون أعلى الدرجات العلمية! وما الحجر الطيني المصنوع من تراب النجف الذي نرى حجاج الرافضة يحملونه معهم للسجود عليه في الصلاة إلا مظهر منحرف من مظاهر التبرك المحرم، وما قيام أصحاب الموالد أثناء قراءتهم للمولد وشربهم للماء الموضوع عند قارئ المولد إلا مظهر منحرف من مظاهر التبرك المحرم؛ إذ يعتقد بعضهم أن روح الرسول صلى الله عليه وسلم حضرت قراءة المولد، وشربت من الماء الموضوع، ومن ثم فهم يتبركون ببقية الماء.

معنى التبرك وحقيقته

معنى التبرك وحقيقته قسم الدكتور علي قسّم البحث إلى بابين: الأول بعنوان: (التبرك المشروع) وتكلم فيه على التبرك المشروع بذات النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك المشروع بالأقوال والأفعال، والتبرك المشروع بالأمكنة، والتبرك المشروع بالأزمنة، والتبرك المشروع بالمطعومات وما في حكمها. ثم الباب الثاني تكلم فيه عن التبرك الممنوع، ومهد له أولاً بالتبرك عند أهل الجاهلية الأولى، ثم التبرك الممنوع بالأمكنة والجمادات، والتبرك الممنوع بالأزمنة، والتبرك الممنوع بذوات الصالحين وآثارهم. فنبدأ أولاً بذكر تمهيد في معنى التبرك وحقيقته. قال في اللسان: قال الليث في تفسير: {تَبَارَكَ اللَّهُ} [الأعراف:54]: يعني: تعظيم وتمجيد. وتبارك بالشيء أي: تفاءل به. وقال الزجاج في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] قال: المبارك: ما يأتي من قبله الخير الكثير. وقال أيضاً: تبركت به أي: تيممت به. وقال الراغب: البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء. قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البِرْكة؛ لأن الماء إذا كان في البركة يثبت فيها. كذلك البركة؛ لأن الخير في هذا الفعل مبارك يثبت فيه ولا يزول، ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس على وجه قيل لكل ما يشاهد منه بطريقة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة.

التبرك يكون غالبا بالذي هو سبب البركة

التبرك يكون غالباً بالذي هو سبب البركة التبرك بالأشياء يكون غالباً بما كان سبب البركة فيه، وليس من الأسباب المعهودة للناس، من أجل ذلك كان يحرص الصحابة رضي الله عنهم على هذا كثيراً، فعندما أدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يده في الإناء ثم قال: (حي على الطهور المبارك!) و (البركة من الله) وكان الماء ينبع من بين أصابعه جعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يبادر الصحابة إلى الماء ويدخله في جوفه ويكثر من شربه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والبركة من الله). وكذلك فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قصة رواها البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: (إن أصحاب الصفة كانوا ناساً فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) يعني: من كان عنده طعام اثنين -كما لو كان هو وزوجته- فإنه يأخذ معه ثالثاً من أهل الصفة، قال (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس -أو كما قال- وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، قال: فهو أنا وأبي وأمي -ولا أدري هل قال: وامرأتي- وخادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر) يعني أنها كانت تخدم بيت عبد الرحمن وبيت أبي بكر، وهذا معنى قوله: (خادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر). ثم إنَّ أبا بكر أخذ هؤلاء الضيوف وذهب بهم إلى البيت، ووكل ابنه عبد الرحمن أن يتولى قراهم وإطعامهم، فبعدما ذهب بهم أبو بكر إلى البيت رجع هو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتعشى أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء، وكان النبي عليه السلام يحب تأخير صلاة العشاء، قال: (فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته - أم رومان -: ما حبسك عن أضيافك -أي: ما الذي أخرك على الضيوف-؟! قال: أو ما عشيتيهم؟! قالت: أبوا حتى تجيء. أي: رفضوا أن يأكلوا حتى تحضر وتجيء، فأهل بيت أبي بكر رضي الله عنه عرضوا على الضيوف العشاء فرفضوا أن يأكلوا، وغلبوهم وأصروا. قال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: (فذهبت فاختبأت). وذلك خوفاً من عقوبة أبيه، أو أن يوبخه ويعنفه؛ إذ كيف يترك الأضياف إلى ذلك الوقت ولا يطعمهم، فخشي أن يتهمه بالتقصير في قراهم. قال: فذهبت فاختبأت، فقال: (يا غنثر) والغنثر هو: السقيم الوخم، وقيل: الجاهل والسفيه واللئيم. فقال لابنه يعاتبه: (يا غنثر. فجدع وسب) أي: دعا عليه بقطع أنفه أو غير ذلك، فاشتد على ابنه لهذا، ثم قال لأضيافه: (كلوا). وقال: (لا أطعمه أبداً) فحلف أبو بكر على أنه لا يأكل من هذا الطعام أبداً؛ لأنهم تأخروا بسببه هو حتى يعود. ثم قال: (وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها). أي: كلما بدأ الضيوف يأكلون اللقمة يخرج من أسفلها أكثر منها ببركة الله تبارك وتعالى، فبارك الله في هذا الطعام، وكلما أخذ الضيوف لقمة يرون بعينهم زيادتها. يقول عبد الرحمن -وهو الجاني هنا-: وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها -يعني: كبر ونما وطلع من أسفلها- أكثر منها، حتى شبعوا -أي: شبع الضيوف-، وصارت أكثر مما كانت قبل) أي: صارت مزيدة ومباركة أكثر مما كانت قبل أن يأكلوا فنظر أبو بكر رضي الله عنه وتعجب؛ لأن هذه كرامة. قال: (فنظر أبو بكر وتعجب مما حصل في هذا الطعام، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ فقالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرار. فأكل منها أبو بكر، وحنث في يمينه -أي: لأجل أن ينال بركة هذا الطعام المبارك- وقال: إنما كان من الشيطان -يعني: يمينه-. ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده. قال: (كان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل ففرقنا اثني عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل). يعني أنهم كانوا أثني عشر رجلاً، ومع كل واحد منهم عدد كبير، قال: (فأكلوا منها أجمعون) أو كما قال. ولن نطيل في شرح الحديث، لكن موضع الشاهد فيه هو هذه البركة التي أنزلها الله عز وجل في طعام أبي بكر كرامة لـ أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه. والشاهد هنا أيضاً: أن أبا بكر مع أنه كان حلف أن لا يأكل منها لما رأى هذه البركة حلت فيها حرص على أن يأكل منها؛ لأن البركة في الغالب تكون بأسباب غير الأسباب العادية، لذلك الصحابة كانوا إذا حصل شيء من هذا بادروا إليه. فالتبرك هو طلب البركة، أي: طلب الزيادة في الخير والأجر، وكل ما يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات مباركة أو زمان مبارك، وتكون هذه البركة قد ثبتت بوجود ذلك السبب ثبوتاً شرعياً، وتنال البركة منه بالكيفية التي شرعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

التبرك المشروع وأنواعه

التبرك المشروع وأنواعه أما التبرك المشروع فهو أنواع:

التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره

التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره فالنوع الأول من التبرك المشروع هو التبرك بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره، فلا شك في أن ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مباركة جعل الله تبارك وتعالى فيها بركة خاصة به صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون ذلك، كما روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات -أي: كان يرقي نفسه- فلما ثقل كنت أنفث عنه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها) أي: بدل أن تقوم هي بقراءة المعوذات بيدها وتنفث فيها ثم تمسح عليه بيديها كانت تجمع يديه وتقرأ فيهما، ثم تمسح عليه بيديه الشريفتين صلى الله عليه وآله وسلم. فـ عائشة رضي الله عنها كانت تعرف بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا كانت تمسح بها على نفسه الشريفة، وهو صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، ولم يقل لها: لا فرق بين يدي ويدك. مما يدل على اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بتلك البركة العظيمة، وأن تلك البركة العظيمة تنتقل بإذن الله عز وجل إلى المتبرك الذي يعلم أنها من الله تبارك وتعالى. وهذه البركة خص بها أفضل الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة -أي: الفجر- جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها صلى الله عليه وآله وسلم) أي: يعملون هذا تبركاً بالماء الذي تدخل فيه يده الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم. وقال أنس: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل) رواه مسلم في صحيحه. يعني: كان الحلاق إذا حلقه اجتمع الصحابة وأطافوا به حتى لا تكاد تسقط شعرة واحدة على الأرض، وهذا من حرص الصحابة على أن يقع هذا الشعر في أيديهم، فكانوا ويأخذونه ويتبركون به. وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام على فراشها وليست فيه، - وأم سليم كانت محرماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما بين ذلك الإمام النووي رحمه الله-، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك. قال: فجاءت وقد عرق، واستنقى عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها -والعتيدة مثل الصندوق الصغير تجعل المرأة فيه ما يعز عليها من المتاع أو يندر- فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قوارير، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟! فقالت: يا رسول الله! نرجو بركته - أي: العرق - لصبياننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت). وفي رواية: (أدوف به طيبي) أي: أخلط به الند أو العطر الذي أستعمله. وفي صحيح البخاري عن ثمامة عن أنس: (أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعاً، فيقيل عندها على ذلك النطع)، والنطع هو بساط من الجلد، وقوله: (يقيل عندها) يعني: ينام وقت القيلولة. وهو قبل صلاة الظهر، وليس كما يتصور بعض الناس أنه بعد صلاة الظهر، بل وقت القيلولة ما قبل صلاة الظهر. قال: (فإذا نام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذت - يعني: أم سليم - من عرقه وشعره، فجمعته في قارورة، ثم جمعته في طست- والطست هو طيب مركب يضاف إليه غيره- وهو نائم). وأنس بن مالك هو ابن أم سليم. قال الراوي: (فلما حضرت أنساً الوفاة أوصى بأن يجعل في حنوطه من ذلك الطست) يعني: من ذلك الطيب أو الأطيبة التي يدهن بها الميت بعد أن يغسل بالماء. قال: (فجعل في حنوطه). قال أيوب عن ابن سيرين: فاستوهبت من أم سليم من ذلك الطست فوهبت لي منه. قال أيوب: فاستوهبت من محمد من ذلك الطست فوهب لي منه، فإنه عندي الآن. قال: ولما مات محمد حنط بذلك الطست. وأيضاً في نفس هذا الباب روى مسلم في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: (ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابن أختي وجع. فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة) أي: أن خاتم النبوة كان بين كتفيه صلى الله عليه وآله وسلم مثل زر الحجلة، والحجلة واحدة الحجال، وهي: ساتر كالقبة لها أزرار كبار وعرى، وهي شيء كان يجعل للعروس في ثوبها مثل الستائر، فخاتم النبوة مثل الزر الذي كان يفعل للحجلة.

تبرك الصحابة رضي الله عنهم بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم له

تبرك الصحابة رضي الله عنهم بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم له ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في حديث صلح الحديبية وفيه: (ثم إن عروة بن مسعود جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، يقول عروة بن مسعود: فوالله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره - أي: تسابقوا إلى طاعته والانقياد له-، وإن توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -من شدة حرصهم على أن يأخذ كل منهم من هذا الماء الذي توضأ به ولمس جسده الشريف صلى الله عليه وسلم- وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له). فهذه من آداب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: إنه كان قبل أن يسلم لم يكن أحد أبغض إليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قال بعدما أسلم: (فلم يكن أحد أحب إلي منه، وما ملأت عيني منه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، حتى لو قيل: صف النبي صلى الله عليه وسلم لما أطقت ذلك؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم) أي: لأنه كان لا يحد النظر إليه. فهذه من الآداب التي ينبغي أن تسلك، خاصة مع الوالدين أو مع كبار السن أو مع العلماء، ولا ينبغي أن يثبت الابن عينه في عين أبيه أو شيخه أو كبار السن، فينبغي أن يغض الإنسان الطرف أمام من ينبغي توقيرهم، فهذه من الآداب الشرعية، كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم، فالويل لهؤلاء الأبناء العاقين الذين ينظر أحدهم إلى أبيه كأنه هو الأب وكأن أباه هو الابن، وكأنه هو الذي يؤدب أباه، فقد يثبت الولد عينه في عين أبيه يقصد بذلك الزجر والشدة على أبيه، وهذا من العقوق، فصحيح أنه لا يتكلم، ولا يقول: أفٍ، لكن قد يكون أشد من الأف مثل هذه النظرات الثاقبة. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشر. فقال: قد أكثرت علي من (أبشر)) وعادة الأعراب أنهم لا يحسنون آداب الحوار، فهذا الأعرابي بشره النبي عليه الصلاة والسلام، ولعله كان طلب منه شيئاً فوعده بأنه سوف يملكه هذا الشيء، أو غير ذلك، فقال له (أبشر)، فرد عليه الأعرابي وقال: قد أكثرت علي من (أبشر). قال: (فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: رد البشرى! فاقبلا أنتما. قالا: قبلنا) فانظر كيف قالا: (قبلنا) دون أن يعرفا ما هي هذه البشرى! قال: (ثم دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه -يعني: أخرج الماء من فمه بعدما مضمض- ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا. فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة -وكانت ترقب هذا الموقف من وراء الستر- أن: أفضلا لأمكما -أي: لا تنسيا أمكما أم المؤمنين، وأبقيا لها ولا تأخذاه كله- فأفضلا لها منه طائفة) رواه البخاري.

حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتباس شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم

حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتباس شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك -أيضاً- ما حدث به عثمان بن عبد الله قال: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدح من ماء -وقبض إسرائيل - أحد الرواة- ثلاث أصابع -من فضة- ومعناه أن القدح كان صغيراً بحجم الثلاث الأصابع- فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخْضَبَه، فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمراً). يعني: كان في هذا القدح شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والجلجل هو وعاء صغير يحفظ فيه الشعر. وروى البخاري -أيضاً- بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة. فقال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها -يعني بطانتها-، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها -يعني أنه كان في حاجة إليها- فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة رضي الله عنهم فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها. فقال: نعم) وكان من خلق النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يرد سائلاً، وهو أولى بصفة الجود والكرم من ذلك الذي قيل فيه: هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله فأولى الناس بهذا الوصف هو رسول الله عليه الصلاة والسلام. فهذا الصحابي كان يعرف أن هذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان له مأرب وغرض، فهو أراد أن يحرج النبي عليه السلام، ويعلم أنه سيقول له: خذها. فقال له: (ما أحسن هذه! فاكسنيها). أي: أعطني إياها؛ فإني أريد أن ألبسها. وهو يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها. قال: (فقالت المرأة: يا رسول الله! أكسوك هذه؟ فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة رضي الله عنهم فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها، فقال: نعم. فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه) وانظر إلى الأدب، حيث لم يلوموه في حضور النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما انتظروا حتى انصرف فلاموه ووبخوه وعنفوه، (فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه. فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أكفن فيها) فهذه هي الخطة التي دبرها لأخذها، يعني أنه أراد أن يأخذ منه هذه البردة بعد أن تلامس جسد النبي عليه الصلاة والسلام رجاء بركته صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: (رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أكفن فيها) فيا ليتنا كنا هذا الرجل. فكل هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاته وما انفصل من جسده من شعر وعرق ولباس وما استعمله من الأواني قد جعل الله فيه من البركة ما يستشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، والواهب لهذا الخير والمعطي له هو رب السموات والأرض.

ذكر مذهب من يمنع التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره

ذكر مذهب من يمنع التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره يقول الدكتور علي العلواني حفظه الله: وهذه الأدلة المتكاثرة ترد ما ذهب إليه العلامة المحقق ناصر الدين الألباني حفظه الله في كتابه (التوسل أنواعه وأحكامه)؛ حيث قال: ولكن ثمة أمر يجب بيانه أو تبيانه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم، وخاصة في تلك المناسبة، وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم وحبهم له، وتفانيهم في خدمته، وتعظيم شأنه، إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلك الغزوة رغب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك، وصرفهم عنه، وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز وجل وأجدى، وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي. وقبل أن نذكر الحديث نبين أنه اتضح أن جملة الأحاديث التي ذكرناها في التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ليست كلها في غزوة الحديبية، فالشيخ -رحمه الله تعالى- هنا إنما تكلم على ما حصل في غزوة الحديبية أمام المشركين حتى يظهر لهم تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويلق في قلوبهم الرعب، فإذا صح هذا في تلك الحادثة فماذا يكون الجواب عن الأدلة الأخرى التي لم تكن في غزوة الحديبية وأقر فيها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الشيخ ناصر حفظه الله: وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملكم على هذا؟ قالوا: حب الله ورسوله) أي أن هذه من علامات المحبة، فكلما اشتدت المحبة تعلق الإنسان بآثار محبوبه، حتى إنه يهتم بأي شيء يحبه هذا المحبوب، كما قال الشاعر: ولقد أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وفي أخبار العشاق أن عاشقاً عشق السراويلات من أجل سراويل معشوقه، فوجد في تركته اثنا عشر حلاً وفردة من السراويلات. وعشق آخر الهاونات؛ من أجل صوت هاونة محبوبته، فوجد في تركته عدة آلات منها. أما أهل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقول أحدهم: فيا ساكني أكناف طيبة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب وهنا لما سألهم صلى الله عليه وسلم عما حملهم على التبرك به قالوا: (حب الله ورسوله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاور). فانظر إلى هذا الحديث العظيم. وعلق الشيخ -رحمه الله تعالى- على هذا في الهامش بقوله: وهو حديث ثابت له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرهما، وقد أشار المنذري في الترغيب إلى تحسينه، يقول الشيخ: وقد خرجته في الصحيحة برقم (2998). انتهى هنا كلام الشيخ ناصر. والدكتور علي بعدما ذكر هذه الأدلة قال: إن هذه الأدلة ترد ما ذهب إليه العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله. أي: ترد القول بتخصيص ذلك بالحديبية، وأنه ندبهم إلى ما هو أفضل من ذلك وأجدى لهم عند الله، وأن يشتغلوا بهذه الأعمال الصالحة. يقول: وترد -يعني هذه الأدلة- أيضاً ما ذكره الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في حاشيته في كتاب (الاعتصام) حيث قال: ولم يعرف من الأحوال التي تبركوا فيها بفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم وبصاقه إلا يوم الحديبية. هذا غير صحيح، فالأدلة -كما ترى- ليست محصورة في صلح الحديبية، لكنها أعم من ذلك، كما ذكرنا. يقول الدكتور علي حفظه الله: وذلك لأن تبرك الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم لم يختص بغزوة -يعني غزوة الحديبية-، ولم يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم إنكاره، ولكن الذي أعجبني هو ما أشار إليه العلامة الألباني بقوله: هذا ولابد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ولا ننكره؛ خلافاً لما يوهمه صنيع خصومنا، ولكن لهذا التبرك شروط، منها: الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلماً صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بسبب تبركه هذا. كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلاً على أثر من آثاره صلى الله عليه وسلم ويستعمله، ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وآله وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس لأحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمراً غير ذي موضوع في زماننا هذا، فيكون أمراً نظرياً محضاً، فلا ينبغي إطالة القول فيه. انتهى كلام الشيخ ناصر الدين الألباني. يقول الدكتور علي: إنما ذكرت الأدلة على التبرك بذاته وآثاره صلى الله عليه وآله وسلم لتتضح الصورة الكاملة للتبرك الذي كان الصحابة يخصون به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفعلونه مع أحد سواه، فالصحابة كانوا يتبركون فقط بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يفعلون ذلك مع أحد سواه، كما سيأتي -إن شاء الله- فيما بعد في باب التبرك الممنوع. فهذا ما تيسر من ذكر النوع الأول من أنواع التبرك المشروع، وهو التبرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاته وآثاره، ونكمل البحث -إن شاء الله- في الدرس القادم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

رسالة من غريق

رسالة من غريق إنّ الهداية إلى هذا الدين القويم هي أعظم نعم الله على العبد، فإنها تخرج العبد من الظلمات إلى النور، من ظلمات التيه والاضطراب إلى نور اليقين والثبات، ومن ظلمات القلق والكآبة إلى نور الطمأنينة والانشراح، ومن ظلمات العبودية للدنيا ورذائلها وسفاسفها إلى نور العبودية لله الواحد القهار، ومن ظلمات الشهوات والشبهات إلى نور العزم وقوة الإرادة والبصيرة، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم. وقد لا يشعر العبد بعظمة هذه الهداية، فعليه أن يعتبر بمن افتقدها ممن يعيش في دياجير الجهل والشهوات والشبهات، وفي ظلمات التيه والاضطراب والشك؛ ليعرف مقدار هذه النعمة.

بين يدي الموضوع

بين يدي الموضوع الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخي المسلم! روى أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما طلعت شمس قط إلا بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان من على الأرض غير الثقلين: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. ولا غربت إلا بجنبتيها ملكان يناديان: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاًَ). هذا الحديث رواه الطيالسي والإمام أحمد وابن حبان والحاكم والبغوي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وقال محقق الأنواع والتقاسيم لـ ابن حبان: صحيح على شرط مسلم. وهذا الحديث فيه الدعوة إلى الإخبات إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الانشغال بالدنيا، والاكتفاء منها بالقليل، (فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى). وحديثنا عبارة عن موضوعين: الأول: تذكرة وموعظة، وجهها أحد إخواننا الأفاضل، وهو: الأخ مجدي الهلالي في رسالة له بعنوان: (رسالة من غريق)، وهي تعكس حال كثير منا، فكثير منا يحتاج إلى هذه التذكرة الوجيزة البليغة، ولذلك -إن شاء الله- نتواصى بها. الثاني: جواب سؤال يتعلق بحكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة.

موعظة في ذم الدنيا والتحذير من الانغماس فيها

موعظة في ذم الدنيا والتحذير من الانغماس فيها يقول مجدي الهلالي: إن الناظر المتفحص لأحوالنا يجد الكثير منا قد جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، يعدو وراءها ويلهث في سبيل تحصليها، كلما نال منها شيئاً ازداد طلبه لها وجريه وراءها علّه ينال منها أشياء أخرى، كما قال الشاعر: فما قضى أحد منها منالته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب فالإنسان الذي يشتغل بالدنيا ويؤجل الأعمال الصالحة إلى أن يفرغ لا يمكن أبداً أن يفرغ؛ لأن آمال الدنيا لا تنتهي، ولا يقضي أحد وطره منها أبداً، فعليه أن يجعل الهموم هماً واحداً، وهو إرضاء الله سبحانه وتعالى، فيتولى الله سبحانه وتعالى تيسير أمور دينه ودنياه. أما أحوالنا في الآخرة فتجارتها عندنا كاسدة، ولا يلتفت إليها إلا أقل القليل، مع أن المتأمل لآيات القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه وتعالى -عند الحديث عن الآخرة- يحثنا على السعي الحقيقي إليها، فنتأمل تعبيرات القرآن، كقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] فالذي يفر لا بد من أن يكون مسرعاً جداً، وكذلك قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وقال أيضاً: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، وقال أيضاً: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فهناك تنافس أمرنا به، وهناك تنافس نهينا عنه، فأما الذي أمرنا به فهو التنافس في الآخرة، وأما الدنيا فقد قال فيها عليه الصلاة والسلام: (ولا تنافسوا) يعني: في أعراض الدنيا. ومع ذلك فإنك تجد أغلب الناس يتنافسون في الدنيا، ويغفلون عن التنافس في الآخرة. وكذلك نجد أن الأمر بتحصيل الدنيا يرشد إلى أنه أهون وأبطأ، كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] فلم يقل: اسعوا، أو سابقوا، أو (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) ولم يقل أيضاً: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)، ولم يقل فيها: سابقوا إلى الدنيا. وإنما قال: (فَامْشُوا) والمشي يكون أهون وأبطأ. وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10] وحينما تكلم عن صلاة الجمعة في أول الآيات قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: بادروا. وأما قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ) فهو مجرد انتشار لطلب الرزق الحلال. والحقيقة الباقية والقائمة هي أن القلب لا يتسع أبداً للدنيا والآخرة معاً، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى) فهما ضرتان، إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومن ظن أنه سيرضي الاثنتين فقد ظن ما لا يقع أبداً ولا يكون، فإما أن نختار الدنيا وإما الآخرة.

حقيقة الزهد في الدنيا

حقيقة الزهد في الدنيا ليس معنى الكلام السابق الإعراض الكامل عن الدنيا، وفهم الزهد في الدنيا على أنه الفقر والحرمان والرغبة عنها بالمرة، بل حقيقة الزهد في الدنيا تجريد القلب عن محبتها، فالمسكنة التي يحبها الله سبحانه وتعالى من عبده والتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في قوله: (اللهم! أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه حبه، وحب من يحبه، وأن يرزقه حب المساكين، وأمره الله تعالى أن يلزم هؤلاء الذين يريدون وجه الله سبحانه وتعالى، وأن لا يعرض عنهم إلى أصحاب الدنيا كما بين ذلك في أكثر من موضع في القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] المسكنة المقصودة هنا ليست مسكنة الفقر؛ لأن الفقر شيء مذموم، ويكفي في ذمه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرنه بالكفر فقال: (أعوذ بك من الكفر والفقر) كما في أذكار الصباح والمساء، فإنّ المال عون على الدين، فإنه يؤدى به فرض الزكاة وغيرها من الفروض، ويستغنى به عن القرض، ويصان به العرض، فالمال -بلا شك- أمر مهم، ولكن المقصود بالمسكنة مسكنة القلب، وهي إخبات القلب وذله وخشوعه وتواضعه لله سبحانه وتعالى، وهذه المسكنة لا تنافي الغنى، فيمكن أن يكون الإنسان غنياً مكتفياً وفي نفس الوقت يكون مسكيناً مستكيناً ذليلاً لله سبحانه وتعالى، فليس هناك تلازم بين الفقر والمسكنة. فالزهد بينه الله تبارك وتعالى في قوله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] هذا هو الزهد كما قال الجنيد رحمه الله تعالى. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:22 - 23] أي: لا تأسوا على ما فاتكم من أمور الدنيا؛ {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود. قال الإمام أحمد في الزهد: هو عدم فرحه بإقبالها وحزنه على إدبارها. ويقول الإمام أحمد وقد سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهداً؟ قال: نعم، على شريطة أن لا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت. فليس الزاهد من لا مال عنده، وإنما الزاهد من لم يشغل المال قلبه وإن أوتي مثل ما أوتي قارون، فالتحذير إنما هو من تغلغل الدنيا في قلوب الناس، فتتحول نياتهم من عمل لرفعة الإسلام وعبادة الله إلى طلب جاه ومنصب ومال، فالمطلوب أن تكون الدنيا في يد الإنسان لا في قلبه. وقد ضرب بعض أخواننا مثالاً طيباً لتوضيح هذه الحقيقة فقال: الدنيا مثل السفينة، فالسفينة ما دام الماء خارجها تستطيع أن تمشي في البحر الخضم سالمة ناجية، أما إذا دخلها الماء واستقر داخلها فإنها تغرق وتهلك، فكذلك الدنيا، فإن أهم شيء أن لا يستقر حبها في قلب المؤمن، فإذا دخلت في القلب أفسدت عليه دينه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) يعني أنّ حرص المرء على المال والشرف يفسد دينه أكثر مما يفسد الذئبان الجائعان اللذان أرسلا في غنم لا راعي لها، فكيف الظن بذئبين جائعين مطلقي الحرية في الفتك بهذه الغنم؟! فالفساد الذي يتحصل من وراء هذين الذئبين ليس أشد من الفساد الحاصل من حرص المرء على المال والشرف على الدين، فمكر الشيطان هو محاربتنا بسلاحنا، فيأتينا من حيث لا نتوقع. يقول: فالكثير منا عندما يعاب عليه انشغاله بالدنيا فإنك تجد الحجج والمعاذير والتبريرات التي لا تنتهي معدة جاهزة عنده سلفاً مثل السهام والصورايخ، فإذا قلت له: هون عليك، أو ما قاله عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب) يعني: هونوا عليكم في طلب الدنيا، ولا تستميتوا في طلبها. فتجد أنك إذا ذكرته بمثل هذا المعنى يسارع في الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]. والسعي في طلب الرزق يشغل في الإسلام حيزاً محدوداً، فلا يكون طلب الرزق هو كل ما يشغل الإنسان، فهذا أحد واجبات الفرد المسلم وليس كل واجباته. وقد يتشدق بعضهم بهذه المقولة التي يجعلها كأنها آية قرآنية، أو حديث عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، وهي (العمل عبادة) أو (طلب الدنيا عبادة)، ومنهم من يحول بين المرءوسين أو العاملين عنده -سواء في مدرسة، أو في مصنع، أو في أي مكان- وبين الصلاة، فيقول لمن يريد الصلاة: نحن في عبادة. حتى لو خرجت الصلاة عن وقتها، وقد تؤدى الامتحانات ساعة صلاة الجمعة، ويقولون: العمل عبادة. وهذا من تلبيس إبليس على هؤلاء الجهلة، فالنفقة على الأهل وعلى الأولاد وطلب الرزق الحلال جزء من الواجبات على المسلم، وعندك الوقت كله، فكيف تنشغل عن الوقت الذي هو مخصص لأداء واجب الصلاة والله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]؟! فالمسلم مطالب بإصلاح نفسه وتزكيتها، وتربية أهله، والعمل لدين الله سبحانه وتعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة) فتجدهم منشغلين بجمع المال أو طلب الدنيا، ويتجرأ بعض الجهلة ويفتيهم بأنه إذا عاد أحدهم إلى البيت في المساء فإنه يجوز له أن يجمع كل الصلوات، فيجوز أن يُصلي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء جميعاً قبل أن ينام. ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس ينخدعون بهذا الفتاوى المضلة، ويفعلون هذه الجريمة الكبرى، فهؤلاء آثمون قطعاً، ويجب عليهم أن يسألوا أهل العلم وأن يسألوا أهل الذكر ليبينوا لهم الحكم، فهذا ضلال مبين، وإخراج الصلاة عن وقتها بحجة طلب الدنيا من كبائر الذنوب، يقول عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) رواه البخاري. يقول الأخ الفاضل هنا: هذه الرسالة أرسلها إلى كل مسلم أحاطت به الدنيا، فصار أسيراً لها تسيره كيف شاءت، أرسلها طالباً من الله عز وجل أن تصله قبل فوات الأوان، وسماها: (رسالة من غريق). إنّ هذه الرسالة فيها الحُسن في التعبير، والصدق في الشعور، وكثير منا -بل أغلبنا- يحتاج لهذه التذكرة. يقول المرسل لهذه الرسالة: إخواني في الله! يرسل إليكم هذه الرسالة أخ لكم يعيش بينكم بآمالكم وآلامكم، هذا الأخ انتبه فجأة فوجد نفسه يغرق ويغرق، ونظر حوله فوجد الكثير منكم مثله يغرقون، وعندما حدق النظر فيهم وجدهم جميعاً في ظروف واحدة، ومناخ مشترك، ووجد أغلبهم متزوجاً، أو تخرج من الجامعة وانشغل بالوظيفة، فعلم أن سبب غرقه وغرقهم يرجع إلى الانغماس في الدنيا، فهو ينام على تفكير في الرزق والأولاد والسفر إلى آخره، ويستيقظ على موعد العمل لا على موعد الصلاة، وفوجئ أنه لا يحافظ على صلاة الفجر التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، وأما بقية الصلوات فالخشوع فيها نادر، والدنيا قد استولت على قلبه. فعندما أراد صاحبنا أن يتذكر آخر يوم صامه تطوعاً خانته ذاكرته، وعندما أراد أن يتذكر آخر ليلة قامها فوجئ أنها في رمضان، وبحث عن مصحفه فوجد أن التراب يعلوه، ونظر إلى مكتبته فأحس أن الكتب تبكي من إهمالها، وتشكو إلى الله التراب الذي يعلوها. وتأمل حاله فوجد أنه لا يذكر الله إلا في المناسبات، وفي صباح يوم من الأيام استيقظ على وفاة أحد أقرانه الذي كان يتمتع بصحة جيدة، ولا توجد أي أمراض عنده، وذهب مع الأهل والأقارب لدفنه، وعندما حانت لحظة إدخاله القبر وإهالة التراب على وجهه هزه هذا المنظر هزاً عنيفاً، وزلزل كيانه، وجعله يفيق من غفوته، ويستيقظ من سباته، ويتذكر أنه لا بد من دخول هذا القبر الموحش الذي لا أنيس فيه إلا العمل الصالح. فانتبه صاحبنا فوجد نفسه يغرق في الدنيا، فبكى على نفسه وانتحب، وتذكر حاله في بداية طريقه إلى الله وأثناء الدراسة الثانوية والجامعية، لقد كان محافظاً على الصلوات في المسجد خصوصاً صلاة الفجر، وكان المصحف لا يغادر جيبه إلا عند دخول الخلاء، ولم يكن يمر الأسبوع إلا ويكون قد صام فيه، وكانت له مع الليل وقفات يناجي فيها ربه عز وجل، فما الذي حدث؟

بداية النكوص عند كثير من الناس

بداية النكوص عند كثير من الناس تذكر الأخ أن بداية التدهور في حاله كانت بعد التخرج من الجامعة، وعندما أصبحت عليه تكاليف معيشية، وأعباء مالية، وتطلعات مستقبلية، فعليه أن ينفق على نفسه، وعليه أن يتزوج، وعليه أن يعد المسكن، فإذا أعده فعليه أن يزوده بالثلاجة وسائر الكماليات، وعليه وعليه، فبدأ يتنازل تدريجياً عن طاعات كان يؤديها، وزين له الشيطان سوء عمله، وأنها فترة قصيرة وستنقضي، ولكنها طالت وطالت، وأصبح التنازل صفته، وكل يوم تزداد الدنيا تزيناً له، فأصبح يعمل في وظيفة من الصباح حتى العصر، ويرجع إلى بيته في وقت الغداء، ويرجع بعد العصر لوظيفة أخرى حتى العشاء، وأخرى من بعد العشاء حتى الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلاً، ثم يعود إلى البيت وهو يحلم بالسرير لكي يرتمي عليه، وينام حتى يستيقظ على عمله في الصباح، وهكذا كل يوم. وانطبق عليه قول القائل: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع وأصبح الذي يربطه بالإسلام هو مظهره إن كان يحافظ عليه، وصلاته التي يعلم الله مدى خشوعها، أما بقية يومه فللدنيا. وعندما انتبه هذا الأخ إلى حاله، وفوجئ بهذا الواقع المرير، علم أنه سائر في طريق الهلاك لا محالة، فربما ترك الصلاة كما ترك ما قبلها، وربما تخلص من مظهره الإسلامي كما تخلص من أشياء كثيرة كان يظن سابقاً أنه من المحال التنازل عنها. وعندئذ انتابت هذا الأخ موجة شديدة من الأسى والحزن على نفسه، فتناول أحد كتب الرقائق من مكتبته، فإذا به يرى أطباء القلوب قد شخصوا هذا المرض منذ ظهوره، فيقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: فمن العجائب أننا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا، وركبنا البحار والبراري، وخاطرنا، واجتهدنا، وتعبنا في طلب أرزاقنا، ولا نثق بضمان الله لنا، ثم إذا طمحت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم قنعنا بأن نقول بألسنتنا: اللهم اغفر لنا وارحمنا! والذي عليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، ويقول: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، ويقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6]. يعني: إذا كان طلب الرزق الذي هو مضمون تكد وتتعب، وإذا قال لك أحد: هون عليك فإن الرزق مضمون فإنك تقول له: كل شيء بسبب فتسعى وتكد، فكذلك في الآخرة -أيضاً- لا بد من أخذ هذه الأسباب، خاصة أن الله لم يضمن لك الجنة، ولكن قال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى). يقول: كل ذلك لا ينبهنا، ولا يخرجنا من أودية غرورنا وأمانينا، وصدق الشاعر عندما قال: أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا وما أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما اسـ ـتغنى الملوك بدنياهم عن الدين قال الحسن: المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل؛ فرحم الله امرأ نظر إلى نفسه، وبكى على عدد ذنوبه.

موعظة أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه للتابعين

موعظة أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه للتابعين يقول: وإذا بصاحبنا يقرأ كلمة قالها الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، الذي عاش فترة مع التابعين فرأى حالهم أقل من حال الصحابة، فنصحهم نصيحة أحس هذا الأخ أنها موجهة إليه وإلى الإخوة في عصرنا هذا، قرأ هذا الأخ كلمة أبي الدرداء رضي الله عنه، فإذا به يقول فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولهانت عليكم الدنيا، ولآثرتم الآخرة)، ثم قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه من قِبَل نفسه: لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات -أي: إلى الطرقات- تجأرون وتبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة، وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم، وصرتم كالذين لا يعملون، فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته، مالكم لا تحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين الله،؟! ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، لو اجتمعتم على البر لتحاببتم. مالكم تناصحون في أمر الدنيا، ولا تناصحون في أمر الآخرة، ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته؟! ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم، ولو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة؛ لأنها أملك لأموركم. فإذا قلتم: حب العاجلة غالب فإنا نراكم تدعون العاجلة من الدنيا للآجل منها، تكدون أنفسكم بالمشقة، والاحتراف في طلب أمر لعلكم تدركونه، فبئس القوم أنتم، ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم، فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فأتونا لنبين لكم ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم. والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم. أي أنّ عقولكم كاملة، وتستطيعون إعمالها في البحث عما يصلحكم. قال: إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم، وتأخذون بالحزم في أموركم، فما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه، وتحزنون على اليسير منها يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم. يعني: إذا خسر الإنسان مالاً يسيراً جداً يحزن عليه حزناً شديداً، وإذا اكتسب مالاً يسيراً جداً فإنه يفرح فرحاً شديداً. قال: ويظهر على ألسنتكم، وتسمونها بالمصائب، وتقيمون فيها المآتم، وعامتكم قد تركوا كثيراً من دينهم، ثم لا يتبين ذلك في وجوهكم. أي: إذا قصر في الدين لا يقيم مأتماً، ولا يحزن، ولا ينفعل، ولا يتغير حاله، كما قال أبو بكر بن عياش: مسكين محب الدنيا؛ يسقط منه درهم فيظل نهاره يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وينقص عمره ودينه ولا يحزن عليه! تراه إذا مرت عليه سنة جديدة يقيم حفل عيد ميلاد، ولو فقه لأقام مأتماً؛ لأن ذلك معناه أنه يقترب من القبر أكثر، فهو يولد بقدر محدد من العمر والأيام والأنفاس، فالعمر ما هو إلاّ أَنْفُس، والمسكين يقيم احتفالاً يسميه حفل عيد الميلاد، وهو لو فقه لكانت هذه مناسبة غم وهم؛ لأنّه يقترب بذلك إلى القبر والآخرة. وصدق الشاعر إذْ يقول: فطنٌ بكل مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر ويقول أبو الدرداء: إني لأرى الله قد تبرأ منكم، يلقى بعضكم بعضاً بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره. يعني أنّ الواحد منكم يبش في وجه الآخر، وليس فيكم من يتمعر وجهه غضباً إذا رأى على أخيه معصية، ويخاف أنه إذا أنكر عليه ونصحه في دينه أنه سيفقد صحبته، أو يعكر عليه صفوته، وبالتالي يؤثر هذا في المودة التي بينهما، فيداهن بعضهم بعضاً، ويدافع معور عن معور، فكل واحد فيه عيب، فيخاف أنّه إذا نصح أخاه فسيأخذ عليه أخوه عيباً من عيوبه، وحينئذٍ يكون هناك تعايش سلمي وحياد، فلا يتدخل أحد في نصيحة الآخر حتى ولو كان ذلك على حساب الدين. يقول: إني لأرى الله قد تبرأ منكم، يلقى بعضكم بعضاً بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله، فاصطحبتم على الغل، ونبتت مراعيكم على الدمن، وتصافحتم على رفض الأجل، ولوددت أن الله تعالى أراحني منكم وألحقني بمن أحب رؤيته، ولو كان حياً لم يصابركم، فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم، وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيراً، وبالله أستعين على نفسي وعليكم. يقول الكاتب: فانزعج الأخ من هذه الوصية؛ لأنه علم أنه هو المقصود بها، وكثير من إخوانه كذلك، فبكى على نفسه، وانهمرت دموعه على خديه، وترك نصيحة أبي الدرداء بعد أن زلزلته، فإذا به يقرأ نصيحة سيد التابعين الحسن البصري رحمه الله وهو ينصح الناس، ويصف داءهم بقوله: أيها العبد الآبق! عُد إلى مولاك، فإن مولاك يناديك بالليل والنهار: (من أتاني يمشي أتيته هرولة) وأنت عنه معرض، وعلى غيره مقبل، لقد هُضمت كل الهضم، وخسرت أكبر الخسران. انتبه أيها الغافل؛ فإنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. يقول: فاشتد انتحاب صاحبنا على نفسه وعلا صوت نشيجه، وإذا به يسمع صوتاً يقرأ قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) فهتف صاحبنا بأعلى صوته وهو يبكي: بلى لقد آن يا رب، لقد آن يا رب. وتغيرت معالم حياة هذا الأخ بعد هذه اللحظة، فبدأ في تنظيم أوقاته، وبدلاً من أن يجعل لله عز وجل أوقات فراغه وضع لنفسه أوقاتاً ثابتة للقرآن، وبدأ يحافظ على الطاعات من صيام وقيام ونحوها، وعاد مرة أخرى إلى دروس العلم في المساجد، وبدأ يأنس بذكر الله ويتحين الأوقات لكي يخلو بالله ويناجيه. ونظر صاحبنا بعد فترة من هذا التغيير إلى دنياه، فوجد أنه قد أصبح يرضى بالقليل، ووجد البركة في هذا القليل، وبدلاً من أن يتعامل مع الأسباب وكَلَ أمره إلى الله، واثقاً أن الرزق بيده، وتذكر صاحبنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتي بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)، فحمد الله أنه بدأ في العودة إلى طريق أهل الجنة قبل فوات الأوان. ثم نظر إلى تجارب السابقين، فعلم أن أي إنسان مهما أوتي من تقوى وعلم فلن يستطيع أن يسير بمفرده، إلا من رحم الله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد)، فعلم أنه لا بد لكل أخ ينشد التحسن والازدياد في دينه أن يتخذ لنفسه مجموعة من الإخوة مهما صغر عددها من ذوي الهمة العالية في أمور الدين، فيعين بعضهم بعضاً على الطاعات، ويتواصون فيما بينهم على الذكر والصيام والقيام والإنفاق واجتناب المحرمات، وإذا نسي أحدهم شيئاً ذكره الآخرون. فمضى صاحبنا يبحث فيمن حوله من الإخوة عن هذه النظرية التي كان يظن قبل هذه الصحوة أنها غير موجودة، ضاناً أن كل الإخوة مثله، ودعا الله عز وجل أن يعينه في العثور عليهم، فوجدهم وفوجئ بأنهم قريبون منه، ولكن كانت الغشايات تملأ عينيه، وهي التي حالت دون رؤيتهم من قبل، فأسرع إليهم، وطلب منهم قبوله بينهم، فرحبوا به، فحمد الله تعالى لأنه بهذا قد بدأ في انتشال نفسه من الغرق. لكن الألم لم يفارق قلبه؛ لأنه تذكر أن إخواناً كثيرين منكم لا يزالون غارقين كما كان غارقاً من قبل، فآثر أن يكتب تجربته لعل هؤلاء الغرقى ينتبهون لمصيرهم قبل فوات الأوان، قال الشاعر: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم يغرك ما يفنى وتُشغل بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم وتُشغل فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم وقال الآخر: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس يوم القيامة لا مال ولا ولد وضمة القبر تنسي ليلة العرس فهلموا -يا إخواني- لنخرج الدنيا من قلوبنا، فنجعلها في أيدينا، ولنجدد العهد مع الله، ولنحاول اللحاق بالركب، فإن من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

بعض نصائح السلف في ذم الدنيا والركون إليها

بعض نصائح السلف في ذم الدنيا والركون إليها ثم يختم المؤلف النصيحة ببعض الأخبار عن الصحابة والتابعين والسلف الصالح رحمهم الله تعالى فيقول: (قدم سعد بن أبي وقاص على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟! توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، وترد عليه الحوض، وتلقى أصحابك. فقال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً فقال: ليكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب -يعني: كالمتاع الذي يصطحبه الراكب المسافر- وحولي هذه الأساودة. قال: وإنما حوله إجانة وجفنة ومطهرة. فقال سعد: اعهد إلينا. فقال: يا سعد! اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند يديك إذا قسمت، وعند حكمك إذا حكمت). وقال مطرف: كأنّ القلوب ليست منا، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا. يعني أنّ حالنا عند سماع المواعظ: كأن قلوبنا التي في صدرونا ليست جزءاً من أبداننا بل هي كيان آخر مستقل بعيد لا يحس، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا، أي: يخاطب به غيرنا ولسنا المخاطبين به. وقال عمرو بن مرة: من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فأضروا بالفاني للباقي. وقال شعيب بن حرب: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل. وقالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه! مالي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فقال: إن جهنم لا تدعني أنام. وكان منصور بن المعتمر يصلي على سطح بيته، فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه! الجذع الذي كان على سطح آل فلان لست أراه! قالت: يا بني! ليس ذاك بجذع، ذاك منصور قد مات! فقد تعود الغلام أن يراه قائماً مثل الجذع من شدة إطالته للقيام وسكونه وعدم تحركه. وهنا شيء مهم نستطيع أن نستنبطه من هذا الخبر، وهو أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يحققون فعلاً نصيحة النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فقد مكث منصور تلك السنوات الطويلة وهو يقف على السطح يصلي، ويراه هذا الغلام كأنه جذع، فلا الغلام سأل، ولا أمه تكلمت في شأنه فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك تدخل في أحوال الناس، ولم يكن أحدهم يتدخل فيما لا يعنيه، فلم يسأل هذا الغلام أمه إلا حين انقطع وجود ذلك الجسم الذي ظنه جذعاً، فأجابته أمه حينئذ، فهذا مما يدل على اجتهاد السلف في عدم الدخول فيما لا يعنيهم، بينما نرى أبناء هذا الزمان يدخل الواحد منهم في كل ما لا يعنيه من أحوال إخوانه أو جيرانه، وهذا مما ينافي قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). وقال سفيان الثوري: إني لأضع يدي على رأسي من الليل إذا سمعت صيحة فأقول: قد جاءنا العذاب. وذلك من شدة خوفه أن يحل عذاب الله سبحانه وتعالى بالناس. وكان بعض السلف إذا استيقظ في الصباح يتحسس أعضاءه مخافة أن يكون قد مُسخ! وقال آخر: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع رحمه الله تعالى نظرة، وكنت إذا رأيت وجهه حسبت أن وجهه وجه ثكلى، يعني: وجه امرأة مات ابنها فهي حزينة شديدة الحزن عليه، وهذا من خوفه من الآخرة. إنّا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاغنم لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل فالدنيا تجري بنا بسرعة أكبر مما نتخيل، والعمر يجري ولا يشعر الإنسان به، فينبغي أن يتفطن الإنسان لهذا. ومَثَل الإنسان في هذه الدنيا كالشخص الذي يكون في الطائرة وهو جالس ساكن، وهو في الحقيقة متحرك يقطع مسافات بعيدة جداً، فيوشك ذلك الإنسان أن يصل، فكل ما هو آت قريب، والبعيد هو الذي لا يأتي، وهذا يجربه الإنسان، فإنه إذا كان عنده موعد أو اختبار أو أي شيء بعد فترة معينة فما أسرع ما تمر الأيام، وإذا بذلك الموعد قد جاء، وكذلك الموت، وهو أعظم مصيبة، كما قال الشاعر: والموت أعظم حادث مما يمر على الجبلّة فينبغي الاستعداد والتهيؤ لهذا الموعد الذي لا يستطيع أحد أن ينكره. يقول الحسن: نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً. أي: نضحك ونحن لا ندري هل الله سبحانه وتعالى راضٍ عنا أم ساخط علينا، ونفرح بالأفلام الكوميدية ونضحك ضحكاً متواصلاً لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وننظر البرامج الفكاهية والنكت والأفلام والمسرحيات والكرة ونضحك، وكأن ليس وراءنا موت، وكأن ليس وراءنا حساب ولا عذاب! وهناك أمر قضاه الله وقدره وأقسم وحلف عليه، فلا بد من أن يقع، فقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71 - 72] ومعنى (نذَر) أي: نترك. فمعنى ذلك أنهم كلهم يوردون على النار ثم يستقر أهل النار، وينجو المتقون، جعلنا الله وإياكم منهم. قال الحسن قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار -يشير إلى الآية؟ - قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك صادر عنها -أي: هل عندك ضمان أنك ستخرج منها؟ - قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ فبكى ولم ير ضاحكاً بعد ذلك حتى مات. وقال محمد بن واسع رحمه الله تعالى: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي. وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: واعجباً لمن يعلم أن الموت مصيره، والقبر مورده، كيف تقر بالدنيا عينه؟! وكيف يطيب فيها عيشه؟! وجاء محمد بن واسع إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى! إن كنت من أهل الجنة فطوبى لك، فقال: ينبغي لنا إذا ذُكرت الجنة أن نخزى. يعني: لسنا من أهلها، ولسنا نستحقها. وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: لو استطعت ألا أنام لم أنم؛ مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعواناً لفرقتهم ينادون في الدنيا كلها: يا أيها الناس! النار النار. ويقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. أي أنه بلغ في الاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى حداً لا مزيد عليه، فما يضيع من وقته لحظة واحدة. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد! كيف حالك؟ فتبسم الحسن وقال: تسألني عن حالي؟ ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم، فتعلق كل إنسان منهم بخشبة، على أي حال يكونون؟! فقال الرجل: على حال شديدة. قال الحسن: حالي أشد من حالهم. وذلك خشية أن لا يكون من عباد الله المتقين الذين ينجون من عذاب النار. وبهذا تنتهي هذه النصيحة من هذا الأخ الفاضل، وهي رسالة من غريق، وفي الحقيقة هي موجهة إلى كثير منا ممن يحتاج إلى هذه التذكرة عسى الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا جميعاً توبة نصوحاً قبل أن يفوت الأوان.

حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة هناك سؤال يتكرر كثيراً، وهو متعلق بحكم الاعتكاف في المساجد غير المساجد الثلاثة. فقد اطلعت على رسالة مختصرة جداً للشيخ جاسم الفهيد الدوسري اسمها (دفع الخلاف عن مكان الاعتكاف) يقول فيها بعد المقدمة: وهذه أوراق اقتضى تصنيفها ما أثاره بعض أهل العلم في تعيين محل الاعتكاف، وقد انتصر فيه لقول غريب مخالف لمذاهب جماهير العلماء، وما استقر عليه العمل على مر الأعصار وفي مختلف الأمصار، فقد أفتى -عفا الله عنه- بأنه لا يصح الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى زاده الله تشريفاً وتعظيماً، وقلده في فتياه فئام من الناس، فأنكروا وجالدوا دونما رجوع إلى مذاهب الأئمة السالفين، أو معرفة بحجج الجمهور المخالفين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. يقول: قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] أي: من قوله سبحانه: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]. وقال الموفق ابن قدامة في (المغني): لا يصح الاعتكاف في غير المسجد إذا كان المعتكف رجلاً، لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافاً والأصل في ذلك قول الله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) فخصها بذلك، ولو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحديد المباشرة فيها، فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقاً، ولم ينازع في ذلك إلا محمد بن عمرو بن لبابة المالكي فأجازه في أي مكان، وهذا قول شاذ. أي أنّ هذا الإمام قال -كما نقل عنه الحافظ في (الفتح) -: إنّ الاعتكاف يكون في أي مكان. يقول: ولا عبرة بخلافه، فإنه محجوج بالإجماع قبله، ولذا لم يأبه القرطبي -وهو مالكي مثله- بخلافه في تعكير ثبوت الإجماع.

صفة المسجد المعتكف فيه

صفة المسجد المعتكف فيه اختلف أهل العلم في صفة المسجد المعتكف فيه على أقوال ستة: الأول: أن الاعتكاف يصح في أي مسجد ولو كان مهجوراً لا تقام فيه الجماعة، وهذا مذهب الأئمة مالك والشافعي وداود، لكن يلزم المعتكف عند داود أن يخرج لكل صلاة إلى المسجد الذي تقام فيه الجماعة، فإن مذهبه وجوب صلاة الجماعة. فيقول: يجوز أن يعتكف فيه وفاقاً لـ مالك والشافعي، لكن داود يقول: يجب عليه أن يخرج وقت صلاة الجماعة إلى مسجد تقام فيه الجماعة. واشترط مالك كون المسجد جامعاً إذا كانت الجمعة تتخلل فترة اعتكاف، فالإمام مالك يقول: إذا كانت صلاة الجمعة تتخلل فترة الاعتكاف فيجب على المعتكف أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة. قال الباجي في (شرح الموطأ): وأما المساجد التي لا تصلى فيها الجمعة فإنما يكره الاعتكاف فيها إذا كان يتصل إلى وقت صلاة الجمعة؛ لأنه يقتضي أحد أمرين ممنوعين: أحدهما: التخلف عن الجمعة. أي: لو ظل في معتكفه الذي لا تقام فيه صلاة جمعة فسيتخلف عن الجمعة. الثاني: الخروج من الاعتكاف إلى الجمعة، وذلك يبطل اعتكافه في المشهور من مذهب مالك، فلذلك اشترط الإمام مالك أن يعتكف في مسجد تقام فيه صلاة الجمعة، وقد روى ابن الجهم عن مالك أن الخروج إلى الجمعة لا ينقض الاعتكاف، وبه قال أبو حنيفة، واستحب الشافعي في هذا الحال أن يكون اعتكافه في مسجد جامع، ولو اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة عنده، والمراد بالمسجد غير الجامع: الذي لا تقام فيه الجمعة. وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان: قال النووي: وبطلان اعتكافه هو المشهور من نصوص الشافعي. المذهب الثاني: أنه لا يصح إلا في مسجد جامع. وهو قول الزهري والحكم وحماد وأول قولي عطاء ورواية عن مالك. واستُدل له بقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً) إلى أن قالت: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قال أبو داود: غير عبد الرحمن لا يقول فيه: السنة. وجعله من قول عائشة. وهذا الخبر فيه نظر من وجهين: أحدهما أن عبد الرحمن بن إسحاق المدني صاحب مناكير، وقد تفرد بقوله: (جامع). الأمر الثاني: أن الخبر فيه إدراج من كلام الزهري، قال الإمام الدارقطني: يقال: إن قوله: (وإن السنة للمعتكف) إلى قوله: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) من كلام الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم. المذهب الثالث: أنه لا يصح إلا في مسجد جماعة. والفرق بين المسجد الجامع ومسجد الجماعة أنّ المسجد الجامع هو المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة، ومسجد الجماعة هو المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس في جماعة لكن لا تقام فيه صلاة الجمعة، وهو مذهب أبي حنفية وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول الحسن وعروة ورواية عن الزهري. واحتُج له بخبر عائشة المتقدم، وقد علمت ما فيه من الإدراج. وبحديث حذيفة مرفوعاً: (كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح)، وهو ضعيف، يقول ابن حزم: هذه سوءة لا يشتغل بها ذو فهم، جويبر أحد الرواة هالك، والضحاك ضعيف، ولم يدرك حذيفة. قلت: ومع ضعف هذه الأدلة إلاّ أنّ هذا القول هو أعدل الأقوال وأقومها، وخصوصاً عند من يرى وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، وهذا هو الأرجح إن شاء الله، أي أن الجماعة فرض عين وليست فرض كفاية. يقول ابن قدامة: وإنما اشتُرط ذلك -أي: كون المسجد مسجد جماعة- لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما الخروج إليها، فيتكرر ذلك كثيراً مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف؛ إذ هو لزوم المعتكَف والإقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى فيه. المذهب الرابع: أنه لا يصح إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي. وهذا آخر قولي عطاء، فقد روى عبد الرزاق عنه أنه قال: لا جوار -أي: لا اعتكاف- إلا في مسجد جامع. ثم قال: لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة. المذهب الخامس: أنه لا يصح إلا في المسجد النبوي فقط، وهو قول سعيد بن المسيب، فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة -أحسبه- عن ابن المسيب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال النووي: ما أظن أن هذا يصح عنه. لكن روى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي. وليس (في مسجد النبي)، فإذا قال: مسجد النبي فـ (أل) للعهد، فينصرف إلى مسجد المدينة، وأما على هذه الرواية (مسجد نبي) -بالتنكير- فيشمل المساجد الثلاثة. المذهب السادس -وهو المقصود بالكلام في هذا الموضوع-: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى. وهو قول حذيفة رضي الله عنه، وقد تفرد حذيفة به، قال الطحاوي في (مشكل الآثار): حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل قال: قال حذيفة لـ عبد الله -يعني ابن مسعود -: الناس عكوف بين دارك ودار أبي موسى ولا تغير، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس)! قال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا أو أخطأت وأصابوا. هذا الحديث يرويه الطحاوي عن شيخه محمد بن سنان الشرجي، وشيخ الطحاوي هذا قال عنه الذهبي في (الميزان): صاحب مناكير. فهذه أول علة. قال حدثنا هشام بن عمار، قال: وهشام في حفظه ضعف، ولما كبر تغير فصار يلقن فيتلقن، فالسند ضعيف. وأخرجه البيهقي عن شاكر بن محمد بن حسين العلوي عن محمد بن حمدويه بن سهل الغازي عن محمود بن آدم المروزي عن ابن عيينة به. وأخرجه الذهبي في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة ابن حمدويه من طريق آخر عن العلوي به، وقال: صحيح غريب عال.

الجواب عن حديث حذيفة

الجواب عن حديث حذيفة الجواب عن خبر حذيفة من وجوه: الأول: أنه قد اختُلف في رفعه ووقفه، والصواب وقفه. يعني أنّ بعضهم رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وبعضهم وقفه على حذيفة، يقول: والصواب وقفه؛ فقد رواه ثلاثة من الحفاظ عن ابن عيينة به موقوفاً من كلام حذيفة، وهم: عبد الرزاق الصنعاني عند الطبراني في (الكبير)، وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان المخزومي وهو: ثقة، ومحمد بن أبي عمر العدني وهو: صدوق، فتكون رواية ابن آدم التي رفع فيها الحديث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام شاذة؛ لأن هذه الروايات الثلاث من الحفاظ الثقات تقف الحديث على حذيفة، ولم يرفعوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام. قال: ومما يؤيد الوقف ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي قال: جاء حذيفة فذكر الحديث موقوفاً دون أن يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الجواب من الناحية الحديثية. وأما من جهة النظر فإن ابن مسعود لم يقبل رواية حذيفة، ولو كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما تجاسر ابن مسعود على ذلك؛ فإن ابن مسعود كان من أئمة الصحابة وفقهائهم، وقد أفتى بخلاف ذلك، فقد صح عنه من طريق شداد بن الأزمع قال: اعتكف رجل في المسجد في خيمة له، فحصبه الناس -أي: رموه بالحصباء-، قال فأرسله الرجل إلى ابن مسعود، فجاء عبد الله، وطلب الناس، وحسّن ذلك. أي: أقره على أنه يعتكف في المسجد. فعلم بذلك أن حذيفة إنما قال ذلك اجتهاداً منه، ولم يكن ابن مسعود ملزماً باجتهاد حذيفة رضي الله تعالى عنه. وكذلك قول ابن مسعود لـ حذيفة: (لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا) فهذا تصريح منه بخطأ حذيفة ونسيانه رواية الحديث، وأما عمل عامة الصحابة بخلاف ذلك فهو الأصوب، فلعل حذيفة اشتبه عليه حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فإنه قريب منه في اللفظ، لا سيما أن الخطابي قد ذكر في (معالم السنن) أن بعض أهل العلم استنبط من حديث النهي عن شد الرحال أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة. وهذا لا يصح؛ لأن النهي عن شد الرحال، أو الإخبار بمضاعفة أجر الصلوات في الحرمين لا يوجب تخصيص الاعتكاف بهذه المساجد، وإنما المقصود من الأحاديث بيان فضلها وشرفها وعلو مقامها، وأنها مختصة بشد الرحال، وليس هناك علاقة بين شد الرحال والاعتكاف، ولذلك يقول الشوكاني في (نيل الأوطار): قال عبد الله -يعني: رداً على حذيفة -: فلعلهم أصابوا وأخطأت. فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك أن عبد الله يخالفه ويجوِّز الاعتكاف في كل مسجد، ولو كان ثم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خالفه ابن مسعود. وأيضاً في متن الحديث اختلاف وشك، فقد جاء عن ابن عيينة عن جامع عن شقيق قال: قال حذيفة لـ عبد الله بن مسعود: (قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، أو قال: مسجد جماعة)، فهذا اختلاف في لفظ الرواية نفسها. ورواه الطبراني بسند صحيح -كما قال الحافظ في (الدراية) - عن النخعي، وفيه: قال حذيفة: (أما أنا فقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة). وأعله الهيثمي والحافظ ابن حجر بالانقطاع. فهذا الاختلاف مما يوهن الاستدلال بالحديث؛ لأنه جمع أصلين مختلفين في مسألة واحدة، فمرة يقول: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، ومرة أخرى جاء في الرواية: (لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة) فهذا مما يقدح في الاستدلال بهذا الحديث. يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: قلنا: هذا شك من حذيفة، أو هو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى علينا ولم يدخل فيه شك، فصح يقيناً أنه عليه السلام لم يقله قط. وقال الشوكاني في النيل: وأيضاً الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج بأحد شقيه. وهناك جواب رابع عن الحديث قالوا: إن الحديث منسوخ، قال الطحاوي في (مشكل الآثار): فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه إخبار حذيفة لـ ابن مسعود أنه قد علم ما ذكره له النبي عليه الصلاة والسلام، وترك ابن مسعود إنكار ذلك وجوابه إياه بما أجابه في ذلك من قوله: حفظوا وأصابوا. أي: قد نسخ ما قد ذكرته من ذلك، فمن خالفه من الصحابة حفظوا أن هذا نسخ ونسيت، وأصابوا فيما قد فعلوه وأنت أخطأت، وكان ظاهر القرآن على ذلك؛ لأن ظاهر القرآن في قوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) يعمم، فعم المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه في مساجدهم الجامعة، فلازال المسلمون في كل الأعصار يعتكفون في مساجدهم. الجواب الخامس: أن الحديث -إن صح- محمول على بيان الأفضلية، أي: لا اعتكاف أكمل ولا أفضل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة، فهذا أكمل الأحوال بلا شك، وأكملها على الإطلاق في المسجد الحرام، يليه المسجد النبوي، يليه المسجد الأقصى. قال الكاساني في (البدائع): فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم في المسجد الأقصى، ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها. والجواب السادس: أنه لوثبت رفع الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام لما أجمعت الأمة على ترك العمل به، فلم يذكر عن أحد من الأئمة المتقدمين منهم والمتأخرين أنه أخذ بظاهر هذا الحديث سوى راويه حذيفة رضي الله عنه. فإن قيل: قد أخذ به سعيد بن المسيب وعطاء، ف A أن النقل عن سعيد قد اختلف كما تقدم، وأما عطاء فلم يقل بهذا، وإنما قال: لا اعتكاف إلا في المسجد النبوي، أو المسجد الحرام. ولم يذكر المسجد الأقصى، ولو أخذ بالحديث- أي: حديث حذيفة - لذكر المسجد الأقصى؛ لأنه مذكور فيه. فعلم أن فتواه إنما هي اجتهاد منه، فقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت: لـ عطاء: فمسجد إيلياء- وهو المسجد الأقصى-. قال: لا يجاور إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة. فعلم تفرد حذيفة بذلك. ولعله قد تحرر لك من عرض الأقوال وتمحيصها أن القول الأحرى بالقبول هو أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد جماعة، وإن كان الاعتكاف تتخلله صلاة الجمعة فالأولى أن يكون في مسجد جامع، خروجاً من خلاف الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله تعالى. وهنا زيادة ذكرها الشيخ سلمان العودة حفظه الله أيضاً في هذا الموضوع، فقد قال: إن الحديث -على القول بصحته- مؤول. يعني أنّ حديث حذيفة إذا قلنا بصحته فينبغي تأويله، أي: لا اعتكاف كامل إلا في المساجد الثلاثة. لكنه يجيب هنا بجواب آخر فيقول: قد يكون المراد من هذا الحديث (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) أن يعتكف في مسجد يحتاج إلى سفر للوصول إليه. يعني: لو أنّ شخصاً نذر أن يعتكف في مسجد لا بد في التوصل إليه من السفر فإنه لا يسافر، إلا أن يكون نذر الاعتكاف في شيء من المساجد الثلاثة. فلو نذر أحد أن يعتكف مثلاً في مسجد (جواثا) -وهو أول مسجد صليت فيه الجمعة خارج المدينة المنورة، ولا يزال معروفاً في الأحساء اليوم- لو نذر أن يعتكف فيه فإنه لا يجوز له أن يشد الرحل إليه ليعتكف فيه، ولكن يعوض ذلك بأن يعتكف في أحد مساجد بلده، أو إذا كان لا بد من سفر فيسافر إلى أحد المساجد الثلاثة ويعتكف فيه. يقول: وإذا نذر المرء أن يعتكف في المسجد الحرام فيجب عليه الوفاء بنذره، فيعتكف في المسجد الحرام، أما لو نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- فإنه يجوز له أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو في المسجد الحرام؛ لأن المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي، ولو نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجد الأقصى، أو المسجد الحرام، أو المسجد النبوي؛ لأنهما أفضل من المسجد الأقصى. يقول: فالخلاصة أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لا اعتكاف بنذر يسافر إليه؛ لأن الاعتكاف يصح في كل مسجد، وقد أجمع الأئمة -خاصة الأئمة الأربعة- على صحة الاعتكاف في كل مسجد جامع، ولم يقل بعدم صحة الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أحد من الأئمة المعروفين المتبوعين، لا الأربعة، ولا العشرة، ولا غيرهم، وإنما نقل هذا عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، وواحد أو اثنين من السلف. هذا ما يتعلق بجواب هذا السؤال الذي يكثر الكلام فيه جداً في رمضان، ومع احترامنا للعلامة الجليل الألباني الذي ذهب إلى هذا المذهب إلاّ أنه ينبغي علينا في طلبنا للعلم وبحثنا أن نحافظ على الارتباط بقافلة علماء المسلمين ولا نشذ عنها، ولا نلعب بغرائب المسائل، وحتى لو اجتهد من اجتهد من الأئمة الفضلاء والعلماء الأجلاء فلا يشذ عن القافلة العامة لعلماء المسلمين منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا، فينبغي أن نجتنب المسائل الشاذة والغريبة والأقوال المهجورة. فهذا -والله تعالى أعلم- الجواب عن هذا الحديث الذي

فتنة الدجال

فتنة الدجال فتنة المسيح الدجال أعظم فتنة ستقع على الإطلاق في تاريخ البشرية، وفتنته إحدى أشراط الساعة الكبرى، وقد حذر كل نبي أمته هذه الفتنة، وقد وصفه نبي الرحمة لأمته وصفاً شافياً، وحذرهم من فتنته تحذيراً بالغاً، وأمرهم بالتعوذ من شر فتنته في كل صلاة سواء كانت فرضاً أو تطوعاً.

شرح حديث: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)

شرح حديث: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) الحمد الله الذي أرشد عقول أوليائه إلى توحيده وهداها، وثبت كلمة الإخلاص في قلوب أحبابه على أمواج الامتحان باسم الله مجراها ومرساها، وأعمى بصائر المنافقين لما أدبرت عن الدين فلم تجبه إذا دعاها، فسبحانه من جبار عظيم لا يماثل ولا يضاهى، فجل رباً وعز ملكاً وتعالى إلهاً، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تتناهى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف مدلولها لما تلاها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين كلمة التوحيد لفظها ومعناها، وجاهد عليها بلسانه وسنانه حتى أقرها وحمى حماها. اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه الذين عضوا على سنته بالنواجذ وتمسكوا بعراها، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه -يعني: استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه- فقال بعض القوم: سمع ما قاله فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) يعني: من علامات اقتراب الساعة تضييع الأمانة، فسئل كيف إضاعتها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وهذه هي محنة المسلمين في هذا الزمان، بل ومن قبل أزمان طويلة جداً، وتوسيد الأمر إلى غير أهله ليس فقط في أمور الوظائف والأمور العامة فيتخبط الناس كما فعل عبد الناصر -وأوهم الناس أنها منقبة عظيمة جداً، وأنها من العدل والحرية- حين جعل نصف المقاعد في المجلس النيابي للعمال والفلاحين، ولاشك أن العمال والفلاحين فئة من فئات المسلمين، لكن تدبير أمور المسلمين وتسيير حياتهم ومعاشهم تحتاج إلى ذوي كفاءة وعلم وبصيرة وفقه بالشرع وبأمور الدنيا والسياسة والاقتصاد، فكيف يكون نصف هذه المجالس التي تتخذ القرارات أناساً ليسوا من أهل هذا الأمر؟! هم يتقنون العمل، ويتنقون الزراعة، لكن ليسوا أهلاً لأن يوظفوا في هذه الوظائف، ويتخذوا القرارات المصيرية، فهذا من توسيد الأمر إلى غير أهله، وهذا من أشراط الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (بين يدي الساعة سنوات خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه)، وفي بعض الروايات: (الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة)، فهل هذا يوافق شرع الله تبارك وتعالى أن يعطى نصف المقاعد النيابية لأناس ليسوا أهلاً؟! والديمقراطية خبيثة، ولكن ياليتهم إذ اتبعوها أن يحترموها. وروى الطحاوي في مشكل الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن يغلب على الدنيا لكع بن لكع) لكع غالباً تكون في التحقير كما قال عمر للجارية التي تقنعت: تتشبهين بالحرائر يا لكاع؟! وهذا يوصف به الشخص اللئيم أو الحقير أو التافه. قال: (يوشك أن يغلب على الدنيا لكع بن لكع، وأفضل الناس مؤمن بين كريمين) فوضع الرجل المناسب في المكان المناسب هو أحد القواعد الهامة التي لا تصلح حياة البشر بدونها، فلذلك تجد الفترات التي يتولى فيها الحكم أصحاب الكفاءات العالية من أصحاب الصلاح والتقى فترات مضيئة مشرقة في تأريخ الأمة الإسلامية، وأكبر خطأ يفسد نظام الحياة أن يتولى الحكم والولايات والمناصب أقوام غير أكفاء، يقودون الحياة بأهوائهم، ويترك الأخيار القادرون على تسيير الأمور إلى الأمثل والأفضل. هذا في الوظائف العادية، فما بالك بوظيفة لا يصلح لها أي مخلوق ولا حتى الأنبياء والأولياء والملائكة، وليس من حقهم أن يشاركوا الله فيها، وهي وظيفة التشريع وتحليل الحرام وتحريم الحلال؟! فهذه لا يوجد بشر هو أهل لها، إنما هذا حق خالص لله تبارك وتعالى.

من أسباب المصائب التي تحل بالمسلمين إسناد الأمر إلى غير أهله

من أسباب المصائب التي تحل بالمسلمين إسناد الأمر إلى غير أهله من نظر في تأريخ الأمة الإسلامية علم أن مرض توسيد الأمر إلى غير أهله الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أحد البلايا الكبار التي أصابت المسلمين إصابات كبيرة حين تولى أمر الأمة وقتها رجال مستبدون لا يطيقون سماع رأي مخالف لما يرونه، ففي الحديث عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة) رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى وصححه الألباني. بعض الحكام تشغلهم الشهوات والمتع عن رعاية أمور المسلمين، وبعضهم لا يعرف الحق، فإذا به يحمل الناس على ما لا يعرفون، وينشر بينهم البدع والضلالات والمنكرات. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستكون أمراء تشغلهم أشياء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فاجعلوا صلاتكم معهم تطوعاً) يعني: صلوا الصلاة في أول الوقت، ثم إذا خرجوا إلى الصلاة فصلوا وراءهم وانووا بها النافلة. وروى مسلم وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع لم يبرأ). وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، ويحدثون البدع، قال ابن مسعود: فكيف أصنع؟ قال: تسألني -يا ابن أم عبد - كيف تصنع؟! لا طاعة لمن عصى الله). والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن بالخروج على أمثال هؤلاء الحكام الذين كانوا يقيمون الصلاة ولكن يؤخرونها عن مواقيتها لما يترتب على ذلك من الفتن وسفك الدماء، فلا يجوز الخروج عليهم ماداموا آخذين بشريعة الله على وجه العموم، ففي سنن النسائي وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح عن عرفجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة -أي: يريد أن يفرق أمة محمد صلى الله عليه وسلم- كائناً من كان فاقتلوه، فإن يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض). والمقصود أن واقعنا اليوم يشهد باقتراب الساعة، فقد ظهرت هذه العلامة ظهوراً بيناً، فصار يوسد الأمر إلى غير أهله، خاصة في وظيفة التشريع التي لا يمكن أبداً أن يوجد في البشر من يكون أهلاً لها، قال الله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] فهذا مما لا ينبغي إلا لله تبارك وتعالى. وتوسيد الأمر إلى غير أهله أحد أشراط الساعة، والعلامات الكبار التي تكون قبل قيام الساعة كثيرة، ونقف اليوم عند أعظم فتنه تقع على الإطلاق في تاريخ البشر.

فتنة المسيح الدجال

فتنة المسيح الدجال

الأحاديث في ذكر المسيح الدجال

الأحاديث في ذكر المسيح الدجال فتنة المسيح الدجال التي تقع في آخر الزمان وهي إحدى أشراط الساعة الكبرى، وفتنته من أعظم الفتن التي تمر على البشرية في تأريخها، ففي صحيح مسلم عن أبي الدهماء وأبي قتادة قالا: كنا نمر على هشام بن عامر نأتي عمران بن حصين فقال ذات يوم: إنكم لتجاوزوني إلى رجال ما كانوا بأحضر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بحديثه مني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال) وفي رواية: (أمر أكبر من الدجال) يعني: ليس بين خلق آدم عليه السلام إلى قيام الساعة خلق -وفي رواية: أمر- أكبر من الدجال؛ ولذا فإن جميع الأنبياء حذروا أقوامهم من فتنته، ولكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء فقد كان أشد الأنبياء تحذيراً منه، بل أمرنا أمراً حمله كثير من العلماء على الوجوب أن نتعوذ بالله من فتنة الدجال في كل صلاة كما هو معلوم. روى البخاري في صحيحه في كتاب الفتن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولكنني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور). وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي ألا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب: كافر). وفي سنن الترمذي وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: (إني لأنذركموه، وما من نبي ألا أنذره قومه، ولقد أنذر نوح قومه، ولكنني سأقول فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور). وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا حذر أمته من الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة) ومن أجل ذلك بالغ النبي عليه الصلاة والسلام في التحذير من فتنة المسيح الدجال؛ لأن كل نبي لم يكن خاتماً للأنبياء مثله، فلابد أن يأتي في أمته.

سبب تسميته بالمسيح الدجال

سبب تسميته بالمسيح الدجال قال ابن الأثير رحمه الله: سمي الدجال مسيحاً لأن إحدى عينيه ممسوحة، والمسيح الذي أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له ولا حاجب، فهو فعيل بمعنى مفعول، كما تقول: أكيل بمعنى مأكول، وقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وكذلك المسيح الدجال بمعنى ممسوح العين، أما المسيح عليه السلام فسمي مسيحاً من فعيل بمعنى فاعل، يعني: أنه ماسح؛ سمي بذلك لأنه كان يمسح المريض فيبرأ بإذن الله. وكلمة الدجال معناها الكذاب، وقد سمي دجالاً؛ لأنه يغطي الحق بباطله يقال: دجل البعير بالقطران إذا غطاه بالقطران كنوع من العلاج، ودجل الإناء بالذهب إذا طلاه، وقال ابن دريد: سمي الدجال لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل: لأنه يغطي الأرض.

حال المسلمين عند خروج المسيح الدجال

حال المسلمين عند خروج المسيح الدجال قبل خروج الدجال يكون للمسلمين كما يظهر من الأحاديث شأن عظيم وقوة عظيمة، ويبدو أن خروج الدجال إنما يكون للقضاء على هذه القوة التي يصل إليها المسلمون في ذلك الوقت، حيث يصالح المسلمون الروم، ويغزون جميعاً عدواً مشتركاً فينصرون عليه، ثم تكون الحرب بين المسلمين والصليبيين، ففي سنن أبي داود عن ذي مخبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غلب الصليب. فيغضب رجل من المسلمين فيدقه -يعني: يقطع عنقه-، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة -وزاد بعضهم:- فيأخذ المسلمون أسلحتهم فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة)، فهذا الحديث يكشف مدى قوة المسلمين في ذلك الوقت، حيث إنهم يغزون وينصرون ويغنمون ويرجعون سالمين، وفيه أنهم متمسكون بدينهم، فذلك الصليبي عندما يرفع الصليب زاعماً أن الانتصار الذي شارك المسلمون في تحقيقه كان للصليب، إذا بمسلم غيور يطير إليه فيدق عنق ذلك الصليبي ويقتله، وتثور تلك العصابة من المسلمين إلى أسلحتهم ويقاتلون الروم على الرغم من قلتهم في ذلك الموقع، فيشهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم شهداء، وأن الله أكرمهم بالشهادة، ثم يقع الغدر من الروم بسبب ذلك، وتقع الملحمة. وهذه الملحمة معركة كبيرة هائلة تقع بين المسلمين وبين الصليبيين، وسببها هو قتل ذلك النصراني الذي يرفع الصليب ويقول: غلب الصليب، وقد جاءت أحاديث تصف هذه المعركة وهولها، وكيف يكون صبر المسلمين فيها، ثم يكون النصر للمسلمين على أعدائهم، وسيكون في صفوف المسلمين أعداد كبيرة من النصارى الذين أسلموا وحسن إسلامهم.

حديث: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق)

حديث: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق) روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق -وهما موضعان قرب حلب في سورية- فيخرج لهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم -يعني: خلوا بيننا وبين هؤلاء الذين أسلموا منا ودخلوا في دينكم نقاتلهم- فيقول المسلمون: لا والله لا نخل بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فيهزم ثلث الجيش ولا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الله على الثلث الأخير فلا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية -وهذا الفتح يكون فتحاً ثانياً غير الفتح الذي وقع على يد السلطان محمد الفاتح العثماني-، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم؛ فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج الدجال، فبينما هم يعدون للقتال، ويسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم فأمهم) يعني قصدهم، وليس المقصود أنه أمهم في الصلاة؛ لأن الذي يتولى إمامة الصلاة حينئذ هو المهدي عليه السلام، ولا بأس أن نقول عنه: عليه السلام، فهو من أهل البيت، وأنا مقتد في ذلك بالإمام البخاري، فإنه حينما يذكر علياً يقول: عليه السلام، وحينما يذكر فاطمة يقول: عليها السلام، ولا مانع من التسليم على كل الناس فما بالك بأهل البيت؟! إذاً: المقصود من قوله: (فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فأمهم) يعني: توجه إليهم وقصدهم كما في قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]، قال: (فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه المسيح ولم يقترب منه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته).

المعركة التي يخرج الدجال بعدها

المعركة التي يخرج الدجال بعدها جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حديث يخبر عن هول تلك المعركة، وعن الفدائية التي تكون في صفوف المسلمين، حتى إن مجموعات من المسلمين يتبايعون على القتال حتى الموت، ويكون القتال ثلاثة أيام متوالية، ويبدو أن أعداد المسلمين في تلك الأيام قليلة، قال عليه الصلاة والسلام: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) والروم هم الغربيون، والمسلمون يكونون قلة؛ ولذا ينتصرون عندما يصلهم المدد من بقية أهل الإسلام، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام -يعني: للحرب والقتال، وهذا يكون بعد الغدر الذي يحصل بعد قتل من رفع الصليب، ويقع التجهيز للملحمة بين الفريقين- قلت: الروم تعني؟ قال: نعم، ويكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة -يعني: مجموعة من المسلمين الفدائيين في أول يوم ينذرون أنفسهم لله، ويبذلون أنفسهم لقتال الروم إما أن يموتوا وإما أن يرجعوا غالبين- فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء -يعني: يرجع الروم ويرجع المسلمون، وكل غير غالب- وتفنى الشرطة -يعني: يستشهدون-، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت -مجموعة ثانية فدائية للموت في سبيل الله- لا ترجع إلا غالبة -يعني: إما أن ترجع غالبة وإما أن تموت- فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام -يعني: أتاهم المدد من بلاد المسلمين- فيجعل الله الدبرة عليهم، فيقتلون مقتلة -إما قال: لا يرى مثلها، وإما قال: لم ير مثلها- حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فلا يخلفهم حتى يخر ميتاً -يعني: من شدة رائحة الجثث يموت الطائر الذي يمر بهم-، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلم يبق منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقسم؟! فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك فجاءهم الصريخ -المنادي-: إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم -أي: يرمونه-، فيبعثون عشرة فوارس طليعة يستطلعون الأمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أسماءهم وأسماء أبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ) رواه مسلم في صحيحه. وفتح القسطنطينية المذكور في حديث الملحمة فسره حديث رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها) هذا الحديث ما حدد اسم هذه المدينة، لكن وصفها بأن جانباً منها في البر، وجانباً منها في البحر، فعامة العلماء يقولون: المقصود بها القسطنطينية وهي الآن اسطنبول، لكن بعض العلماء المعاصرين رأى أن هذه المدينة قد تكون مدينة البندقية (فينيسيا) في إيطاليا، فإن انطباق هذا الوصف عليها أكثر من انطباقه على القسطنطينية (اسطنبول)؛ لأن البندقية هي المدينة التي تتخللها المياه، وجانب منها فعلاً في البر، وجزء كبير من بيوتها مبني في داخل البحر، فمن رأى اسطنبول ورأى البندقية يدرك أن البندقية أقرب إلى الوصف المذكور في هذا الحديث من القسطنطينية. وفي هذا الحديث قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق) بعض العلماء قال: المحفوظ هو: (من بني إسماعيل)، وليس هناك إشكال سواء كانوا من بني إسماعيل أو من بني إسحاق، لكن هذه الرواية الثابتة فيها أنهم سبعون ألفاً من بني إسحاق، فلا يبعد أن يكون هذا دليلاً على دخول عدد كبير جداً من الغربيين في دين الإسلام في ذلك الزمان، فيسلمون ويكونون في جيوش المسلمين، بحيث إنهم يغزون هذه المدينة، وهذا ليس بمستبعد، حتى أن محمد الفاتح العثماني ليس من بني إسماعيل، فهو تركي غير عربي، ومع ذلك هو الذي فتح القسطنطينية الفتح الأول، وكان أغلب الجيش العثماني من غير العرب، بل ما حمى الإسلام جيش مثل الجيش التركي الذي يسمى الآن في كتب التاريخ بالاستعمار العثماني أو الاحتلال التركي! وهذا من فعل أعداء المسلمين في تزييف التاريخ، ونفي أمجاد المسلمين، حتى يقضوا حتى على بقايا الشعور بالولاء أو المحبة أو الاعتزاز بذلك الماضي المجيد، فالآن تسمم عقول أولادنا في المدارس بوصف العثمانيين بأنهم المحتلون الأتراك، ويبغضونهم إلى الشباب بكل وسيلة ممكنة! يقول: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم) يعني: يفتحون هذه المدينة بالتهليل وبالتكبير فإذا قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر سقط أحد جانبيها، قال ثور - أحد رواة الحديث-: لا أعلمه إلا قال: (يسقط أحد جانبيها الذي في البحر، فيقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون).

قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد

قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد قبل خروج المسيح الدجال يبتلى الناس بلاء شديداً، فتمنع السماء القطر، وتحبس الأرض النبات، ففي سنن ابن ماجة وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله -يعني: تهلك جميع الدواب، والظلف: للبقرة والشاة والظبي وشبهها بمنزلة القدم لنا- قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال صلى الله عليه وسلم: التهليل والتكبير والتحميد، ويجزئ ذلك عليهم مجزأة الطعام).

صفات الدجال وعلاماته

صفات الدجال وعلاماته من أبرز صفات الدجال وأبرز علامات دجله أنه يدعي الربوبية، ويأتي من الأعمال الخوارق ما يروج به باطله، حتى إن الرجل يأتيه ظاناً أن أمره لن يخفى عليه، وأن باطله لن يروج عليه؛ فعندما يرى ما عنده من مخاريق يتبعه! والحقيقة أن هذه عادة الفتن دائماً، فالإنسان إذا تساهل وعرض نفسه للفتن فمهما كان واثقاً من نفسه فإنه ربما وهن وضعف وانهزم أمامها، فالبطل ليس الذي يتعرض للفتن ثم يثبت، لكن البطل هو الذي لا يعرض نفسه أصلاً للفتن، ولا يعرض نفسه للامتحان؛ لأنه قد ينجح وقد يفشل، أما إذا لم يتعرض فإن السلامة لا يعدلها شيء. في فتنة المسيح الدجال يأتيه الرجل وهو واثق من نفسه، ويقطع يقيناً بأن هذا دجال كاذب مبطل، ثم إذا أتاه ورأى وعاين ما معه من المخاريق والخوارق والأمور العجيبة ينهار ويؤمن بـ الدجال والعياذ بالله، ويكفر بالله تبارك وتعالى. فـ الدجال أشد فتنة سوف تقع على ظهر هذه الأرض، ويقدره الله -بإذنه الكوني القدري- على بعض الخوارق فتنة وامتحاناً وتمحيصاً للناس ليميز الله الخبيث من الطيب. الكثير من المسلمين في هذا الزمان قد يفتنون ببعض الناس لمجرد إتيانهم ببعض الأمور الخارقة للعادة أو حتى غير الخارقة للعادة لكنها تثير الإعجاب، فلا يزنون هذا الشخص وأفكاره ومنهجه بميزان الكتاب والسنة، وإنما بهذه الأشياء، يسمعون مثلاً عن ساحر أو مستعين بالجن يخترق سور الصين الذي يسمونه بالعظيم، ويمر من خلاله فيجدونه انتقل إلى الجهة الأخرى -وهذا يحصل بمخاريق وحيل- فيفتنون بذلك. وعندما خرج علينا دجال هذا العصر الخميني ببعض المواقف التي بعد عهد الناس بأمثالها من رؤساء المسلمين من قرون عديدة؛ انبهروا وفتنوا به، ورفعوا الشعار المفضل عندهم دائماً: سوف نمشي وراءك ونتبعك، ويتمحلون الأدلة لأجل تزييف هذا الباطل، ولا يزنون الأمر بالميزان الشرعي، ما عقيدة هذا الرجل؟ ما حقيقة منهجه؟ ما موقفه الحقيقي من الإسلام؟ فينخدعون بمثل هذه الأشياء وهي ليست من الخوارق، فقيسوا ما أتى به هؤلاء الناس بالنسبة إلى ما سوف يأتي به الدجال، فـ الدجال معه من الخوارق ما هو أعظم وأشد من هذه الأمور التي تبهركم، فهو الدجال الأكبر، فلا تغتر بأي رجل صوفي أو مخرف أو ضال أو مبتدع أو ساحر أو كاهن أو حتى رجل ظاهره الصلاح لكن يخالف منهجه الكتاب والسنة. صدر كتاب حديثاً اسمه الحرب العالمية الثالثة بين الإسلام والغرب، ومؤلفه إما سني مغفل وإما شيعي خبيث يستر اسمه بالاسم المستعار الذي وضعه على غلاف الكتاب، فالكتاب فيه دجل وكذب وافتراء وتزيين للباطل، ومنذ الصفحة الأولى تكتشف أن هذا رجل شيعي أو مغفل ممن ينتسب إلى السنة اسماً وهو لا يفقه حقيقة دينه، فكل الكتاب عبارة عن تمجيد للخميني، وأن الخميني حفيد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن الرسول تنبأ بـ الخميني، وأن بعد الخميني سيأتي رجل يملك سنتين، وبعد ذلك سيخرج المهدي. فالشاهد أننا نعاني بين وقت وآخر من فتن يفتن بها بعض الناس، بل عامة المسلمين إذا حضروا جنازة مبتدع أو ضال يقولون مثلاً: الجنازة كانت خفيفة تجري أو حصل له كذا من الخوارق، وقد تحصل خوارق، ولكن الخوارق في حد ذاتها ليست دليلاً على الصلاح، فلا تغتر برجل ولو رأيته يطير في الهواء أو يمشي على الماء حتى تزنه بميزان الكتاب والسنة، فإن رأيته مستقيماً ورأيت منه الخارقة، ولم تر فيها ما يعارض الكتاب والسنة؛ فلا بأس أن تكون كرامة، لكن إن كان هناك مجرد حصول خوارق مثل خوارق الهنود الهنادكة وغيرهم فما أكثر من يقدر على فعل أشياء من هذه الخوارق! أحد الإخوة حدثني أنه في صباه ذهب إلى الملاهي التي كانت موجودة في محطة الرملة، وهذا الأخ جلس في مكان بعيد بحيث لا يقع تحت تأثير سحر عيون الناس الذين يشاهدون، فأتى الساحر بامرأة نومها تنويماً مغناطيسياً، ثم أظهرها أنها نائمة في الهواء معلقة، فالتقط صاحبنا صورة فوتوغرافية فجأة لهذه المرأة، فبعد تحميض الصورة ظهر في هذه الصورة رجال يحملونها، لكن الناس لم يكونوا يرون هؤلاء الرجال! فلهم حيل وخوارق معروفة. ولعلكم سمعتم عن الرجل الأمريكي الذي يفعل مثل هذه الأشياء الغريبة، وقال: إنه سيأتي مصر ويخترق الهرم الأكبر، فهذه الأشياء لا تهز الإنسان الذي عنده إيمان ويقين، فإن الدجال سيفعل أضعاف ما يفعل هؤلاء، ويقدره الله -بإذنه الكوني القدري- على خوارق تذهب الألباب، وتطير العقول، ولا يثبت إلا من ثبته الله، فلابد أن نستصحب هذا الأمر دائماً أمام من يحتج بأن عادة خارقة حصلت للشيخ الفلاني، حتى القساوسة يفعلون هذه الأشياء، مثل ما يصنعونه بين وقت وآخر في كنيسة الزيتون في القاهرة، ويفرح النصارى لذلك، وهذه حرفة يستخدمونها منذ عهد قديم للدجل والتلبيس على أتباعهم، ولتثبيت أقدامهم على دينهم المهزوز والمهزول والمحرف، والمؤمن لو أتاه جميع أهل الأرض بألف خارقة مما فيها تزيين دين النصارى فهو يعلم أنهم كاذبون قطعاً، فهؤلاء كذابون، لكن يعملون حيلاً يتقنونها من أجل خداع الناس، وربما استعانوا بالسحر أو الجن أو غير ذلك من الحيل كحيل الحاوي الظريف ليفتنوا الناس عن دينهم، فأنت على عقيدة التوحيد لا تهتز لخوارق العادات؛ لأن الخارقة في حد ذاتها ليست دليلاً من دلائل الصلاح أو التقوى، فهذا هو الدرس المستفاد مما يكون مع الدجال من الخوارق، وإذا قست أحوال هؤلاء بأحوال الدجال فسوف تجد أن الدجال أقدر منهم على ذلك بإقدار الله إياه فتنة وابتلاء للعباد، فليحذر الإنسان أن ينخدع بهذه الأشياء، ولا يحيد أبداً عن ميزانه الدقيق لكل الأمور. الدجال يأتي بأعمال خارقة يروج بها باطله، حتى إن الرجل يأتيه ظاناً أن أمره لن يخفى عليه، وأن باطله لن يروج عليه، فعندما يرى ما عنده من مخاريق يتبعه، ففي سنن أبي داود عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع ب الدجال فلينأ عنه) يعني: إن سمع أنه في بلد فليهرب إلى بلد أبعد، وإذا لم يستطع فليصعد إلى الجبال، وليختبئ في الجبال، ولا يدفعك الفضول فتقول: أنا عندي إيمان وعندي يقين، فسوف أذهب لأراه، فإني لا أشك أنه دجال، فقد نصح النبي عليه الصلاة والسلام أمته بهذه النصيحة العظمى: (من سمع بـ الدجال فلينأ عنه)، وهذه هي طريقة المؤمن في الفرار من الفتن، لا يتعرض لها، وأي فتنة إذا وجد المسلم له سبيلاً ليسلم منها فليسلكه، سواء فتنة مجالسة أهل البدع والضلال، أو الجلوس أمام الظالمين والفاسقين والنظر إلى صورهم، فهذا يحدث تأثيراً في القلب، ويضعف القلب، والنظر إلى الفساق في الأجهزة المعروفة له تأثير سيء على القلب، فيمرضه، ويضعف الإيمان واليقين فيه. قال عليه الصلاة والسلام: (من سمع بـ الدجال فلينأ عنه، فوالله! إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات). من نظر في أمر الدجال نظر معتبر علم يقيناً أنه مبطل، وأن صفات الربوبية غير متحققة فيه، فهو بشر مسكين عاجز على الرغم مما يجري على يديه، يأكل ويشرب وينام ويبول ويتغوط، ومن كانت هذه حاله كيف يكون إلهاً معبوداً ورباً للكائنات؟! ومع وضوح ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا كثيراً عن صفاته وأحواله كي يعرفه المؤمنون الذين يخرج في عصرهم، وكي يستطيعوا مواجهته، ولا يغتروا بباطله، وكل هذه الصفات تبطل مذهب الضالين المبتدعين الذين يكذبون بأحاديث الدجال، مع أنها متواترة، ويحاولون الهروب منها، كان المعتزلة في الماضي حين لا تعجبهم بعض الأحاديث يؤولونها ويحرفون معانيها، والآن اجترأ المبتدعون أكثر، فما أهون عليهم أن يكذبوا بالأحاديث رأساً! أما المبتدعون الأوائل فما كانوا يقوون على التكذيب، وإنما كانوا يؤولون ويحرفون المعاني.

طول الدجال ولونه وصورته وشعره

طول الدجال ولونه وصورته وشعره في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى الدجال في منامه، ثم وصفه بأنه رجل جسيم -يعني ضخم الجسم- أحمر -يعني: أنه أبيض مشرب بحمرة- جعد الرأس، أعور العين، كأن عينه عنبة طافية، أقرب الناس به شبهاً ابن قطن من خزاعة). وفي مسند أحمد وأبي داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا، إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج أدعج أعور أو جعد أعور مطموس العين، ليست بناتئة ولا حجراء، فإن ألبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربكم) يعني في الدنيا، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، وهذا أول شيء يعرفه المؤمن عن ربه، ولكن ربما لا تصمد بعض القلوب أمام فتنة الدجال إذا قال لهم: هل تصدقون أني ربكم إذا أتيتكم بالآيات الفلانية التي لا يقدر عليها إلا الله؟ فيقولون: نعم، فيفعل أشياء خارقة مثل إحياء الميت وغير ذلك، فيفتنون ويغفلون عن الصفات التي جعلها الله عز وجل في المسيح الدجال مما يدل دلالة ظاهرة على بطلان دعواه، وعلى كذبه ودجله. يقول عليه الصلاة والسلام: (إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج) الأفحج: الذي به فحج، وهو اعوجاج في الساقين أو تباعد في الفخذين، فصفاته الظاهرة كلها عيوب، فكيف يكون إلهاً؟! الله ليس كمثله شيء، ولا يعرف كيف هو إلا هو، ومع ذلك يبين النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأوصاف مع أن حاله ظاهر تماماً، وعلى الأقل إن كان هو الله الذي يمنح الناس الجمال ففاقد الشيء لا يعطيه، فكيف خلق من هو أجمل منه في حين هو ظاهر بهذه العيوب الخلقية، ومنها أنه أفحج الساقين يمشي مشية الأطفال الذين يعانون من لين العظام (الكساح). وفي صحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدجال أعور، هجان أزهر، ورأسه أصلة) الهجان هو الأبيض، والأبيض هو أيضاً معنى الأزهر، وهذا لا ينافي كونه أحمر كما ذكرنا؛ لأن البياض يشرب بحمرة فيوصف أحياناً بهذا ويوصف بهذا، ومنها قولهم في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: الحميراء يعني: البيضاء. وقوله: (ورأسه أصلة) الأصلة: هي الحية الضخمة العظيمة أو القصيرة، والعرب يشبهون الرأس إذا كان صغير الحجم وكثير الحركة بالحية. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أشبه الناس بـ عبد العزى بن قطن، فإما هلك الهلك) يعني: لو كل هذه الصفات لم تنفع في تنفير الناس من دعوته، وإظهار بطلان أمره، وهلك الناس في اتباعه مع ظهور هذه القبائح في شكله (فإن ربكم ليس بأعور).

صفة عيني الدجال

صفة عيني الدجال اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال ببيان وصف عينيه؛ لأن الدجال مهما أخفى صفاته فإنه لا يستطيع أن يخفي عينيه، فالعينان ظاهرتان بارزتان يراهما كل أحد، وبهما صفات واضحة لا تخفى، فقد أشارت الأحاديث السابقة إلى عيوب في عينيه، أوضحها أنه أعور، وجاء في بعض الأحاديث أن العين العوراء هي اليمنى، وجاء في أحاديث أخرى أنها اليسرى، وكونها اليمنى أرجح، فأحاديثها مما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم. وشبه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك العين بالعنبة الطافية، يعني: أنها جاحظة إلى الخارج، وفي حديث آخر: وصف عينه اليمنى بكونها (عوراء جاحظة لا تخفى، كأنها نخاعة في حائط مجفف) يعني: كنخاعة في جدار، فهي ظاهرة القبح. وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية)، وفي حديث آخر: (وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخاعة في حائط مجفف، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري). وهي مع ذلك ممسوحة كما في الحديث الذي رواه مسلم: (الدجال ممسوح العين). وفي بعض الروايات في مسلم: (العين التي ذهب ضوءها -وهي الممسوحة- عليها غفرة غليظة)، والغفرة جلدة تنبت عند المآقي، وتغطي العين. وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام العين التي يرى بها فقال: (الدجال عينه خضراء كالزجاجة). أيضاً: من العلامات التي جعلها الله تبارك وتعالى في الدجال علامة لا يعرفها إلا المؤمنون فقط دون غيرهم ممن طمس الله بصائرهم، هذه العلامة كتابة بين عينيه نصها: ك ف ر، مكتوبة بين عينيه على جبهته، وهذه الكلمة كل مسلم -حتى المسلم الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب- يستطيع أن يقرأها بإقدار الله تبارك وتعالى إياه على ذلك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب: كافر). وفي رواية أخرى: (مكتوب بين عينيه: ك ف ر). وفي حديث أبي أمامة: (مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب). وفي صحيح مسلم: (مكتوب بين عينيه: كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن) وهذه الكتابة على حقيقتها، ليست رمزاً ولا مجازاً كما يزعم بعض الضالين، ولكنها علامة وكتابة حقيقية من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، يظهرها الله عز وجل لكل مسلم كاتب أو غير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا مانع من ذلك. أيضاً من صفات الدجال أنه عقيم لا يولد له كما في صحيح مسلم. إذاً: صفات الدجال صفات بها نقص كبير، فكيف يصح لمثل هذا المخلوق الضعيف المربوب دعوى الربوبية؟! والله لا يرى في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت). الدجال غير سوي الخلقة، ففيه عيوب لا تخفى منها أنه أعور، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليس بأعور -وأشار بيده إلى عينيه- وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، وإن عينه عنبة طافية). ومنها أنه أفحج، وهو: تباعد ما بين الساقين أو الفخذين، وقيل: اقتراب صدور القدمين مع تباعد العقبين، وقيل: هو الذي في رجله اعوجاج. يقول القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: في اختلاف صفات الدجال بما ذكر من النص بيان أنه لا يدفع النقص عن نفسه كيف كان، وأنه محكوم عليه في نفسه، ولو كان حاكماً لحكم على نفسه بالجمال أو بحسن الصورة. فالأوصاف التي جاءت في الأحاديث تدل على أنه عاجز عن أن يدفع النقص عن نفسه، فلو كان رباً لأزال النقص الذي في نفسه، فعدم إزالته لعيوبه دليل على أنه مربوب مقهور لا يستطيع أن يتخلص من عيوبه. والنبي صلى الله عليه وسلم بالغ في بيان كونه أعور؛ لكون العور أثراً محسوساً يدركه العالم والعامي ولو لم يهتد إلى الأدلة العقلية، فمن رآه أعور يشعر بأنه ناقص وأنه مربوب.

القدرات الهائلة التي يقدر الله الدجال عليها امتحانا للعباد

القدرات الهائلة التي يقدر الله الدجال عليها امتحاناً للعباد يعطى الدجال الإمكانات الهائلة -التي يقدره الله عز وجل عليها- ابتلاء للعباد وامتحاناً لهم واختباراً، فإنه يعطى أموراً مذهلة تفتن الناس فتنة عظيمة، والخبر ليس كالعيان، قال الله تبارك وتعالى عن أصحاب الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] مع أن الله عز وجل وصف حالهم في الكهف وهم نيام فما ولى فراراً، ثم قال له: لو اطلعت عليهم ورأيتهم بعينيك لوليت منهم فراراً، فدل على أن الخبر ليس كالمعاينة، وموسى عليه السلام أخبره الله بأن قومه اتخذوا العجل من بعده فغضب، لكنه لما عاد إليهم ورآهم يعبدون العجل غضب غضباً شديداً وألقى الألواح التي كتبها الله له بيده كما قال الله: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] فكان انفعاله لما رأى قومه أكبر وأعظم من انفعاله لما سمع خبرهم، فليس المخبر كالمعاين، وكذلك هذه الفتن إذا سمعناها نستفظعها جداً، فمن يراها بعينه سيكون انفعاله وتأثره بها كبيراً إلا من حفظه الله تبارك وتعالى. الدجال يكون له قدرة على التنقل في أرجاء الأرض بسرعة هائلة، ففي حديث النواس بن سمعان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن إسراع الدجال في الأرض فقال: (كالغيث استدبرته الريح). وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيجول في أقطار الأرض، ولا يترك بلداً إلا دخله سوى مكة والمدينة، وأنا أعرف رجلاً ألمانيا أسلم منذ مدة في ألمانيا الغربية، وهو الآن يعيش في مكة ومعه زوجته وهي أيضاً ألمانية، وذلك بسبب هذا الحديث؛ لأن الدجال لا يدخل مكة والمدينة، فلذلك هو يعيش في مكة ولا يخرج منها عملاً بهذا الحديث، وفراراً من هذه الفتنة التي يتوقعها. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة)، وفي بعض الأحاديث: (وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة، لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة) والصلت هو السيف الثقيل اللامع، فالملائكة تحرس مكة والمدينة على كل طرقاتها وأنقابها. وفي مسند الإمام أحمد: (أن الدجال حينما يعجز عن دخول المدينة يقف على الجبال خارج المدينة ويقول لأتباعه: انظروا إلى قصر أحمد) وهذا إشارة إلى الفخامة والزخارف التي أضيفت إلى المسجد النبوي، والمسجد النبوي في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان مصنوعاً من الجريد والنخيل وسعف النخيل، أما كونه كالقصر، فهذا مما لا يرضاه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد نهى أن تزخرف المساجد؛ لأن الزخرفة تشوش قلوب المصلين. ومما يفتن الناس بـ الدجال أن الدجال يكون معه ما يشبه نهراً من ماء ونهراً من نار، والحقيقة أنه ليس كما يبدو للناس، فإن الذي يرونه ناراً هو في الحقيقة ماء بارد، والذي يرونه ماء بارداً هو في حقيقته نار، ففي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار). وفي حديث آخر: (إن معه ماء وناراً، فناره ماء بارد، وماؤه نار، فلا تهلكوا) يعني: لا تفتنوا بهذا الظاهر. وفي حديث حذيفة في مسلم: (لأنا أعلم بما مع الدجال منه) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم أعرف بما مع الدجال من معرفته هو بنفسه، قال: (لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان، أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت الذي يراه ناراً، وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد). وفي رواية أخرى: (إن الدجال يخرج فإن معه ناراً وماء، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً فإنه ماء عذب طيب)، فالناس لا يدركون ما مع الدجال في الحقيقة، فيخدعون به إلا من عصمه الله، فما يرونه لا يمثل الحقيقة بل يخالفها، ولذلك جاء في بعض الأحاديث: (وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، التي يقول: إنها الجنة هي النار).

من فتن الدجال

من فتن الدجال الدجال يستعين بالشياطين، والشياطين لا تخدم إلا من يكون في غاية الإفك والضلال والغرق في العبودية لغير الله عز وجل، يقول النبي عليه الصلاة والسلام حاكياً عن فتنة الدجال: (وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني! اتبعه فإنه ربك)، فما أعظم هذه الفتنة، وإن لم يعصم الله تبارك وتعالى الإنسان يفتن بها، فهذه الفتنة العظيمة هي أشد فتنة في تاريخ البشر على الإطلاق. ومن فتنته التي يمتحن الله بها عباده أن المسيح الدجال يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت في الحال، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها المدفونة فتستجيب، ففي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر -يريد أن يكافئهم عندما آمنوا به رباً وإلهاً- والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم -المواشي- أفضل ما كانت دراً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) يعني: جماعات ذكور النحل، فالكنوز تخرج من الأرض وتنشق عن الأرض وتطير في الهواء تتبعه! ومن فتنته: أنه يقتل فيما يظهر للناس ذلك الشاب المؤمن ثم يدعي أنه أحياه، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً عن الدجال، فكان مما حدثنا أنه قال: (يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل أنقاب المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال -لمن حوله-: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا. فيقتله ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم)، فيكون أشد بصيرة بأنه الدجال؛ لأن هذا الشاب يعلم بهذا الحديث المشهور، ويعلم أنه الشاب الذي شهد له رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنه من خير الناس يومئذ. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه). وفي رواية أخرى في صحيح مسلم: (يخرج الدجال ويتوجه قبله رجل من المؤمنين، فتلقاه مسالح الدجال، -وهم المراقبون والخفراء الذين يحملون السلاح ويجلسون في مراكز المراقبة- فيقولون له: أين تعمد؟! فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج! فيقولون له: أوما تؤمن بربنا؟! فيقول: ما بربنا خفاء. فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم أن تقتلوا أحداً دونه؟ فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن يقول: يا أيها الناس! هذا المسيح الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر به الدجال فيشبح -يعني: يمد على بطنه- فيقول: خذوه وشدوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، فيقول: أوما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب. قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه، ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً -يعني يعود حياً- ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، ثم يقول للناس: يا أيها الناس! إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس -لأن هذا الشاب يعرف هذا الحديث- فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً فلا يستطيع إليه سبيلاً، فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.

مكان خروج الدجال

مكان خروج الدجال يخرج الدجال من المشرق من بلاد فارسية يقال لها: خراسان، ففي الحديث الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه قال: حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الدجال يخرج من أرض بالشرق يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوهم المجان المطرقة). لكن يظهر أمره للمسلمين عندما يصل إلى مكان بين العراق والشام، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله! فاثبتوا) وهذه وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام عن المدة التي يمكثها الدجال في الأرض فقال: (أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم) يوم كسنة يعني ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، ويوم كشهر أي: ثلاثين يوماً، ويوم كجمعة سبعة أيام، ثم باقي أيامه سبع وثلاثين يوماً، فمجموعها يكون حوالى أربعمائة وتسعة وثلاثين يوماً، فهي أربعون يوماً لكن منها يوم مدته من الفجر إلى أن ينتهي ذلك اليوم سنة كاملة، ولذلك قال الصحابة رضي الله عنهم: (يا رسول الله! فذاك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟! قال: لا، اقدروا له قدره)، وبهذا الحديث يفتي العلماء الناس الذين يعيشون في الأماكن التي لا تكاد تغرب الشمس فيها إلا قليلاً جداً، فالليل تكون مدته عندهم ساعة أو أقل، فيفتونهم أن يقدروا مواقيت البلاد المعتدلة ويصلون بحسبها، وهذه الإجابة من الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: (اقدروا له قدره) تدل على أن هذا الطول طول حقيقي غير مجازي.

أتباع الدجال

أتباع الدجال المسيح الدجال الأعور الكذاب هو الملك الذي ينتظر اليهود خروجه، فهم حينما بعث المسيح عيسى عليه السلام كفروا به وكذبوه وسبوه وسبوا أمه عليهما السلام، ويعتقدون أنه حين يعاد بناء هيكل سليمان الثالث في القدس سيخرج لهم المسيح حتى يحكم العالم من أورشليم القدس، فحينما يخرج المسيح الدجال يقولون: هذا هو المسيح الذي كنا ننتظره، فيكون اليهود أول أتباعه، يقول عليه الصلاة والسلام: (أكثر أتباع الدجال اليهود والنساء)، فالنساء في عقولهن شيء من الخفة، وفي بعض الأحاديث أن الرجال حينما يرون افتتان النساء بـ المسيح الدجال يربطونهن ويوثقونهن بالحبال في البيوت؛ حتى لا يخرجن فينظرن إلى الدجال فيؤمن به. وقال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة) الطيالسة جمع طيلسان، وهو ثوب يلبس على الكتف يحيط بالبدن خال من التفصيل. ذكر أبو نعيم أن إحدى القرى التابعة لمدينة أصبهان كانت تدعى اليهودية، وكانت تخص سكنى اليهود، ولم تزل كذلك حتى مصرها أيوب بن زياد في زمن المهدي بن المنصور العباسي، فسكنها المسلمون وبقيت لليهود منها قطعة. والدجال عند اليهود اسمه المسيح بن داود، وهم يزعمون أنه يخرج آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر، وتكون معه الأنهار، وهم يزعمون أنه آية من آيات الله، ويرد إليهم الملك في وقته، وقد كذبوا في زعمهم هذا، بل هو مسيح الضلالة الكذاب، أما مسيح الهدى عيسى بن مريم فإنه يقتل الدجال مسيح الضلالة كما يقتل أتباعه من اليهود، والمسلمون والنصارى ينتظرون نزول المسيح عيسى للمرة الثانية، واليهود ينتظرون مجيء المسيح للمرة الأولى، والنصارى يزعمون أنه يعود بصفته ابن الله، وثالث ثلاثة والعياذ بالله! فضلت النصارى كاليهود في هذا، أما أهل الحق فيعتقدون أن المسيح عيسى ينزل داعية إلى دين الإسلام، ومتبعاً لسنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وحاكماً بالقرآن والسنة، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويحكم الناس بكتاب الله تبارك وتعالى.

لا يدخل الدجال مكة والمدينة

لا يدخل الدجال مكة والمدينة الله حفظ مكة والمدينة من الدجال والطاعون، ووكل حفظهما إلى ملائكته، يقول صلى الله عليه وسلم: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال). ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل المدينة رعب المسيح، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان). وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى إذا جاء دبر أحد تلقته الملائكة فضربت وجهه قبل الشام، هناك يهلك، هناك يهلك) يعني: نهايته في الشام. وأيضاً جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين تحرسها، فينزل بالسبخة -وهي الأرض الرملية التي لا تنبت بسبب الملوحة التي فيها- على أطراف المدينة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل كافر ومنافق) فالمدينة تهتز وترجف حتى تغربل أهلها وتطرد الكافرين والمنافقين عنها، وتخرجهم إلى المسيح الدجال. ويقول صلى الله عليه وسلم: (وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه المسيح وظهر عليه إلا مكة والمدينة لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة حتى ينزل عند الضريب الأحمر عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى فيها منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنفي الخبيث منها كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص، قيل: فأين العرب يومئذ؟! قال: هم يومئذ قليل).

الناجون من فتنة الدجال

الناجون من فتنة الدجال الأحاديث التي وردت في الفتن غالباً ما تقترن بطريق العصمة والنجاة منها كما في فتنة المسيح الدجال، وهذا مما يستفاد من مدارستها، والمسلمون قبل خروج الدجال تكون لهم قوة كبيرة، ويخوضون حروباً هائلة يخرجون منها منتصرين، فيأتي الدجال ليقضي على قوة المسلمين التي تكون قد هدمت أقوى دولة في ذلك الوقت وهم الروم، ويكون المؤمنون قد استعادوا القسطنطينية وفتحوها، ويصرخ الشيطان بهم أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيتركون الغنائم ويعودون إلى ديارهم، ثم يخرج الدجال فلا يضع المسلمون سلاحهم، ولذلك فإن عيسى عندما ينزل يجد المسلمين يعدون العدة للقتال وهم يسوون الصفوف، ولاشك أن على كل مسلم حي في ذلك الوقت أن ينضم إلى القوة الإسلامية الحاملة لراية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وأن يثبت على الحق مهما اشتد البلاء، وهذا ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحدثنا عن خروج الدجال حيث يقول: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق -يعني: طريق بين حدود البلدين- فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله! فاثبتوا). فليس هناك طريق للنجاة غير الثبات. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أي مسلم أن يأتي إلى الدجال مهما كان واثقاً من نفسه؛ فإن معه من الشبهات ما يزلزل بها الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: (من سمع بـ الدجال فلينأ عنه، فوالله! إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات)، ولا بأس على الذين لا يطيقون مقاومته أن يفروا من طريقه، وهذا ما يفعله كثير من الناس في ذلك الزمان، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليفرن الناس من الدجال في الجبال) فإذا اضطر المؤمن إلى مواجهته فعليه أن يقوم بالأمر ويصدع بالحق ويحسن الحجاج، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) يعني: لا تقلقوا فأنا أتولى حجاجه، وأبطل باطله، وجاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام حدثهم يوماً عن الدجال فخفض فيه ورفع حتى ظن الصحابة أنه في طائفة النخل من كثرة ما رفع صوته صلى الله عليه وسلم واحتد وغضب، فهو مشفق على الأمة من هذه الفتنة العظيمة، والصحابة من شدة تصوير النبي عليه الصلاة والسلام لفتنته ظنوا أنه مختبئ لهم في طائفة النخل القريبة. يقول عليه الصلاة والسلام: (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم) انظر إلى شفقته عليه الصلاة والسلام بأمته قال: (والله خليفتي على كل مسلم). وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم ما يكشف حقيقة الدجال، فهو جسم مرئي يأكل ويشرب، والله لا يرى في الدنيا، والله منزه عن الطعام والشراب، وهذا الدجال أعور كما في الحديث: (إنه شاب قطط عينه طافية أشبه الناس به عبد العزى بن قطن)، ومن كان كذلك فإن دعواه الألوهية والربوبية كذب وافتراء بلاشك.

أسباب النجاة من فتنة الدجال

أسباب النجاة من فتنة الدجال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من أدركه أن يقرأ عليه فواتح سورة الكهف فقال: (من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)؛ فلذلك يستحب حفظ العشر الآيات الأول على الأقل من سورة الكهف حتى إذا ابتلي الإنسان بفتنة الدجال فإذا قرأها عليه يعصمه الله من فتنته، يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنة، وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف). وقد جاء في الأحاديث الصحيحة: (من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)، وجاء في بعضها: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف)، وفي بعضها: (من آخر سورة الكهف)، فلماذا قراءة فواتح سورة الكهف أو خواتمها بالذات تكون أماناً من المسيح الدجال؟ قال بعض العلماء: لأن الله أخبر في طليعة هذه السورة أن الله أمن أولئك الفتية من الجبار الطاغية الذي كان يريد إهلاكهم، فناسب أن من قرأ هذه الآيات وحاله كحالهم أن ينجيه الله كما أنجى الفتية أصحاب الكهف، وقيل: لأن في أولها من العجائب والآيات ما تثبت قلب من قرأها بحيث لا يفتن بـ الدجال ولا يستغرب بما جاء به الدجال، ولا يؤثر فيه دجله. ومما يعصم المسلم من فتنة الدجال أن يلجأ إلى أحد الحرمين الشريفين مكة أو المدينة، فإن الدجال محرم عليه دخولهما، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام كيف سيواجه ذلك الرجل الصالح الدجال، ويصدع في وجهه بالحق كما سبق في الأحاديث. ومما ينجي العبد من الدجال الالتجاء إلى الله، والاحتماء به منه ومن فتنته، تقول عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح البخاري -: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال). وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ دائماً بعد التشهد من فتنة الدجال فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) حتى إن بعض العلماء يوجب ذلك، وأكثرهم يقول: ليس واجباً، ولكنه مستحب بدليل قوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه)، واستدل من يقول بوجوبه بأنه أمر بذلك (فليستعذ بالله)، وابن حزم رحمه الله يبطل صلاة من لم يتعوذ بالله من هذه الأربع.

نهاية المسيح الدجال

نهاية المسيح الدجال نهاية المسيح الدجال تكون على يد المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (فبينما هم -يعني الجيوش الإسلامية- يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم فأمه، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه) فالمسيح يريهم دم الدجال علامة يقينية على هلاكه. ويقول عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: (وإمامهم منهم) أي: إمام المسلمين الذين يعدون العدة للقتال في ذلك الوقت رجل صالح منهم، وبينت بعض الروايات أنه المهدي عليه السلام. جاء في حديث آخر: (فبينا إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له: تقدم فصل فإنها لك أقيمت، فإذا انصرف -يعني: خرج من الصلاة، وبعض العلماء يقول: أي: إذا انصرف إلى بيت المقدس -والمسلمون فيه محصورون قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وتاج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فينطلق هارباً فيدركه عند باب لد الشرقي -وهي مدينة معروفة في فسلطين قرب مدينة الرملة- فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به اليهود إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا قال: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي تعال فاقتله)، فكل ما على الأرض يوالي المسلمين من الحجر والشجر إلا شجر الغرقد الذي هو شجر خاص باليهود، وقد حكى الشيخ محمد قطب أن اليهود يأخذون بهذا الحديث، فهم يعلمون أن رسول الله قال حقاً وصدقاً، ولكنهم يجحدون ويحسدون بني إسماعيل أبناء عمومتهم، فكفرهم كفر جحود، وهم الآن يسكثرون جداً في فلسطين من زراعة هذا النوع من الشجر؛ لأنهم يعلمون بهذا المصير الحتمي الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). هذه بعض الأحاديث التي وضحت لنا حقيقة المسيح الدجال، وكيف العصمة والنجاة منه، واستفدنا منها كثير من الفوائد، وأعظمها أسباب النجاة من الفتن، وأن أي شخص مهما أوتي من خوارق العادات فلا يكون ذلك دليلاً على ولايته لله، ولا على أن منهجه هو منهج الحق والصواب؛ لأن المسيح الدجال سوف يقدر على أضعاف ما يقدر عليه هؤلاء مع أنه المسيح الدجال الكذاب الأكبر الأعور الذي كل صفاته وأعماله ناطقة بكذبه وباطله. نسأل الله تباك وتعالى أن يعصمنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

في مواجهة المواجهة

في مواجهة المواجهة لقد اتحدت قوى الكفر والإلحاد في هذا الزمان في وجه الإسلام وأهله، ويساندهم في ذلك كثير من الرويبضات السفلة ممن أضاع دينه وضميره وعقله، فصار مجنوناً في صورة عاقل، ونذلاً في صورة شريف، وأبله في صورة عاقل، فجعلوا ينخرون في جسد الأمة، ويعملون فيها بمعاولهم الهدامة، فربما أفسدوا في الأمة أكثر مما يفسد فيها العدو الخراجي.

سبب تكالب الكفار على الأمة الإسلامية

سبب تكالب الكفار على الأمة الإسلامية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة, من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. أما بعد: فهناك سؤال يتكرر كثيراً, فتعقبه علامة استفهام واحدة، وتعقبه عدة علامات تعجب، وهو: لماذا يتحد العالم كله ضد الإسلام والمسلمين فيما يشبه حرباً عالمية شاملة على كل مستوى وفي كل صعيد؟ ولماذا هذه المذابح في البوسنة وبورما وتايلند وغيرها؟ ولماذا هذه الحملات على كل من يرفع شعار الإسلام ويدعو إليه؟ ولماذا يستثنى المسلمون بالذات حينما يتكلمون عن حقوق الإنسان, وحينما يستنكرون المذابح يقولون: إلا المسلمين، وحينما ينادون بما يسمى بالديمقراطية يقولون: إلا المسلمين؟ لماذا هذه القفزة الهائلة التي قفزها العلمانيون أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أساءوا لدينه وأساءوا لسنته، فقد كانوا من قبل يستخفون بعلمانيتهم, وإذا بهم اليوم يجاهرون وبلا أدنى استحياء؟ كل هذه الأسئلة وعشرات أمثالها جوابها عبارة واحدة وهي: أنهم يكرهون الإسلام ويخافون منه. والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه هو: لماذا هذا الحقد على الإسلام؟ ولماذا هذا الخوف من الإسلام؟ إنّ الذين يخافون الإسلام هم الكفار سواء الغربيون منهم أو الشرقيون, والمنافقون عباد الأهواء والشهوات، الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نراهم وكما نحس بهم في زماننا هذا: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا). وبين الفريقين: الأول الكافر، والثاني المنافق الزنديق صلات أكيدة، وروابط وطيدة وعلاقات وثيقة، كتلك التي تكون بين التاجر والسمسار, أساسها الربح المتبادل للطرفين، أو كتلك العلاقات الوطيدة والحميمة التي تقوم بين الحمار وراكبه, وأساسها السخرة والاحتقار, فالعالم الكافر بكل أبعاده وإمكاناته ودوله يريد علواً في الأرض وفساداً، ويردد مقولة أعداء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر, وهي مقولة فرعون: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78] , ويردد شعار ألمانيا, ذلك الشعار النازي الذي يزعمون أنهم يستنكرونه على هتلر وأمثاله، وهو: ألمانيا فوق الجميع, وهم في الحقيقة يرفعون هذا الشعار ليكون الكفر بأشكاله وألوانه فوق الجميع، فهذا الصراع هو صراع من أجل العلو في الأرض والإفساد فيها كما قال الله تبارك وتعالى. فيرفع هذا الشعار على أيدي أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من الملاحدة مع تغيير ألفاظه، وجمع العالم كله في نفس الوقت لتحقيق معناه ومضمونه, فإنهم لما فشلوا في مقاومة الإسلام عسكرياً لجئوا إلى عدة أساليب, فلجئوا إلى إضعاف قوة البلاد الإسلامية, ولجئوا إلى تدمير طاقات البلاد الإسلامية, فتقوم الدنيا وتقعد إذا قيل إن باكستان عندها أسلحة نووية، ويطالبونها بالتفتيش، ويقاطعونها من كل مكان وغير ذلك من الإجراءات المعروفة، أما حينما يكون عند اليهود في فلسطين ترسانة من الأسلحة النووية فلا حرج ولا ضير؛ لأن القاعدة كما ذكرنا: إلا المسلمين، فعمدوا إلى تمزيق الأمم الإسلامية إلى دويلات وشعوب، بحيث لا تجتمع اثنتان منهما على هدف واحد له قيمة, يقول المستر ميرن براون: إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً, أما إذا بقوا متفرقين, فإنهم حينئذ بلا وزن ولا تأثير، فيجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين؛ ليبقوا بلا قوة ولا تأثير. ومما فعلوه أيضاً: قهر الشعوب الإسلامية وإذلالها على أيدي حكام طغاة, يقول نك، وهو خبير أمريكي لشئون باكستان: إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها. ومن ذلك أيضاً إشغال هذه الأمة بالأهداف الحقيرة حتى لا تنتبه إلى الهدف الأكبر الذي عبر عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه لما سأله قائد الفرس: ماذا جاء بكم؟ فقال: إنّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه, لكننا بدلنا هذا الهدف، وبدلنا هذه البطولات، وصار شغلنا الشاغل إما أفكار عفنة خبيثة جاهلية: كالقومية والوطنية والاشتراكية والناصرية، والكتب البيضاء والخضراء والصفراء والحمراء، أو الاشتغال بالفن والرياضة والكرة والتمثيل وغير ذلك من السفاهات، فانصرفت الأمة عن هدفها الأعظم، وصارت البطولة ما نراه في ساحات الملاعب، وساحات الفن والأفلام والمسرحيات فقط، وصار أصحابها هم الأبطال، وصارت هذه هي القيم والمثل التي ينبغي أن نذب عنها, وقد كان للشعوب الإسلامية حظ وافر من هذه المؤامرات, وقد عبر عن ذلك المنصر المشهور صموئيل زويمر مخاطباً إخوانه التبشيرين المنصرين في أحد المؤتمرات قائلاً: إن مهمة التبشير التي ندبتْكم ديانتكم المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين إلى المسيحية؛ فإن هذا شرف لا يستحقونه، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من إسلامه ليصبح مخلوقاً لا صلة له تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها, وبعملكم هذا تكونون طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية, ولقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم إليه، وهو إخراج المسلم من الإسلام, إننا نريد أن تعدوا جيلاً مطابقاً لما أراده له الاستعمار, جيلاً لا يهتم لعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، وتصبح الشهوات هدفه في الحياة, إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإن جمع المال فللشهوات، وإن تبوء المراتب ففي سبيل الشهوات, ويذود بكل شيء في سبيل الشهوات, أيها المبشرون! إنكم إن فعلتم ذلك تمّت مهمتكم على أكمل الوجوه. لقد تعلموا دروساً كثيرة جداً من التاريخ، وأدركوا أن مخططاتهم وعلوهم في الأرض لا يمكن أن ينجح أبداً إلا في حالة غيبة الإسلام، ففي الحروب الصليبية جاءت جيوشهم الجرارة الكثيرة فتصدى لهم الإسلام، ودحرهم، وأذلهم، وكسر أعناقهم، وذلك في شخص صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى, وفي الغزو التتاري تصدى لهم الإسلام في شخص قطز والظاهر بيبرس، ثم حصلت أكبر معجزة ولم يحصل لها مثيل في التاريخ، وهي أن الإسلام المغزو غزا قلوب التتار، وتحولت هذه الأمة العظيمة القاهرة الغازية إلى عباد لله سبحانه وتعالى، وأسلموا دينهم لله، وقد رأوا ذلك في الهند, ورأوه في أفغانستان أيضاً، وليس هذا مع بوش فقط مؤخراً، بل وقع ذلك من قبل مع الإنكليز, فرأوه في ثورة الجزائر ضد الفرنسيين, ورأوه في فلسطين, ورأوه في مصر على ضفاف القناة، فتأكدت لديهم هذه الحقيقة، وهي أن العلو في الأرض الذي يسعون إليه, والسيطرة على العالم, والفوقية على عباد الله، مرهونة كلها بغيبة الإسلام وجنوده. لهذا فهم يخافون الإسلام؛ لأنه قادر على أن يصنع أمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] , قادر على أن يصنع أمة قوية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] , قادر على أن يصنع أمة مجاهدة: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق) , أمة يحب رجالها الموت في سبيل الله أكثر مما يحب هؤلاء الكفار الحياة, وحرصهم على الموت أشد من حرص أولئك على الحياة، ويرددون قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]. الإسلام قادر على أن يصنع أمة مؤهلة للقيادة، ولا ترضى بدون منصب الأستاذية للعالم كله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] , قادر على أن يصنع أمة لا توالي أعداء الله، ولا تنخدع بألاعيبهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. ويخاف الكفار من الإسلام؛ لأنه يربي شعوباً محصنة ضد مؤامراتهم وسماتهم الشهوانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، قادر على أن يصنع أمة لا تخشى الناس، ولا تخاف الموت، ولا تخاف انقطاع الرزق, يقول تعالى: {أَيْ

سبب خوف المنافقين والعلمانيين من هذا الدين

سبب خوف المنافقين والعلمانيين من هذا الدين إذاً: فلا نعجب من هؤلاء الكفار شرقيين كانوا أم غربيين, فهم أعداء الإسلام، وهذا ديدنهم، وهذه سنتهم, ولكن العجب الذي لا ينقضي هو من هؤلاء الذين يخافون الإسلام ويكرهونه، ويحقدون عليه مع أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويتسمون بأسمائنا, فإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72] , وإذا رأوا بذرة الإيمان تنمو وتترعرع في شباب المسلمين انقبضوا وتجمعوا لاقتلاعها, وإذا رفع الموحدون لا إله إلا الله رفع أولئك شعارات الوطنية والقومية والوحدة والحرية وغير ذلك من الشعارات. إن عجبنا يزول إذا فهمنا طبيعة العلاقة بين الفريق الأول: الكفار، والفريق الثاني: المنافقين الزنادقة, إنها صفقة تمت بين الاستعمار وبين أنفار، والمعقود عليه هم المسلمون، وتنفيذ العقد مرهون بالقدرة على التسليم، والإسلام يحرض المعقود عليه على الانعتاق من قبضة السمسار، فكيف لا يخاف السماسرة من الإسلام! فهؤلاء المنافقون هم السمسار، وهم التجار المنتفعون من غياب الإسلام: صحافيون شعراء فنانون مؤلفون مخرجون لا يطيقون الإسلام, كيف لا يخافونه وهو يعظم ما حقروه, ويحقر ما عظموه؟! وكيف لا يخافونه وهو يرفع ما وضعوه، ويضع ما رفعوه؟! من أجل ذلك صارت جميع وسائل التأثير مسخرة لهؤلاء الكارهين لما أنزل الله, حتى إن الناظر من بُعد لكأنه يرى أن مصر انقلبت برجالها ونسائها إلى فنانين وراقصين وممثلين، وكأن كل ما فيها هو الإلحاد والزندقة، وبيع الأعراض، والطعن في الدين، والكفر برب العالمين، فكأن هذه هي صورة مصر؛ وذلك من كثرة استيلاء هؤلاء الزنادقة على مواقع التأثير, وكأن الغرب يستعجلهم ويقول لهم: هيا سلموا المبيع, نريد شعوباً هذه مواصفاتها, نريد شعوباًَ لا تتحرك ولا تنفعل حتى وإن قُطّعت إرباً إرباً. فقد تربت طائفة من أبناء المسلمين على مائدة الإعلام الذي يديَّث المجتمع، ويخنزر الأخلاق, فكانت حصيلة ذلك ظهور طائفة أخرى لبسوا لباس الثقافة أو ألبسوا لباس الثقافة والعلم، ولا يعرفون عن الإسلام إلا الشبهات التي لقنوها، وزرع في قلوب أصحاب الشهوات منهم الخوفَ والحقدَ على الإسلام. وحتى نكون صرحاء جداً في تناول ظهور وحقيقة هذا الموقف الذي نعيشه, فنقول: ليس هذا في مصر فقط ولكن في كل بقاع العالم بلا استثناء, فهم يحاولون أن يتسللوا إلينا ويغزونا عبر دين جديد، وهو غير دين الإسلام، وهذه هي الحقيقة بلا مواربة ولا خداع, فيجب أن تكشف هذه الحقيقة للناظرين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، وهذا الدين الجديد اسمه العلمانية أو اللادينية, فهم يبشرون به، ويخدمونه، ويضحون في سبيله. فالعلمانية دين كأي دين باطل يطلق عليه لفظ الدين، أي: منهج حياة, يقول تعالى في خطاب الكافرين: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6]، ويقول تعالى في حق العزيز: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] , فهذا دين مغاير ومخالف تماماً لدين الإسلام في أصوله فضلاً عن فروعه، وهو معادٍ للإسلام على طول الخط, ولا يمكن أبداًً أن تلتقي العلمانية بالإسلام, فهناك أوجه افتراق عظيمة جداً بين الدينين: الدين السماوي الحق وهو دين الإسلام، وهذا الدين الأرضي المصنوع وهو دين العلمانية, فنبيّن هذه الفروق إن شاء الله تبارك وتعالى, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فتجدهم يسمون الكفر إسلاماً، ويسمون عدواً لله ولرسوله وللإسلام بالداعية الإسلامية الكبير، والمفكر الإسلامي المستنير، فبماذا يستنير؟ الاستنارة عندهم غير مأخوذة من قوله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1]، ولا من قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، ولكن لا يكون الإنسان عندهم مستنيراً حتى يتبنى أركان وأسس ومبادئ دينهم العلماني كما سنبينها.

الأمور التي تخالف فيها العلمانية دين الإسلام

الأمور التي تخالف فيها العلمانية دين الإسلام إذاً: فلا نعجب من هؤلاء الكفار شرقيين كانوا أم غربيين, فهم أعداء الإسلام، وهذا ديدنهم، وهذه سنتهم, ولكن العجب الذي لا ينقضي هو من هؤلاء الذين يخافون الإسلام ويكرهونه، ويحقدون عليه مع أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويتسمون بأسمائنا, فإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72] , وإذا رأوا بذرة الإيمان تنمو وتترعرع في شباب المسلمين انقبضوا وتجمعوا لاقتلاعها, وإذا رفع الموحدون لا إله إلا الله رفع أولئك شعارات الوطنية والقومية والوحدة والحرية وغير ذلك من الشعارات. إن عجبنا يزول إذا فهمنا طبيعة العلاقة بين الفريق الأول: الكفار، والفريق الثاني: المنافقين الزنادقة, إنها صفقة تمت بين الاستعمار وبين أنفار، والمعقود عليه هم المسلمون، وتنفيذ العقد مرهون بالقدرة على التسليم، والإسلام يحرض المعقود عليه على الانعتاق من قبضة السمسار، فكيف لا يخاف السماسرة من الإسلام! فهؤلاء المنافقون هم السمسار، وهم التجار المنتفعون من غياب الإسلام: صحافيون شعراء فنانون مؤلفون مخرجون لا يطيقون الإسلام, كيف لا يخافونه وهو يعظم ما حقروه, ويحقر ما عظموه؟! وكيف لا يخافونه وهو يرفع ما وضعوه، ويضع ما رفعوه؟! من أجل ذلك صارت جميع وسائل التأثير مسخرة لهؤلاء الكارهين لما أنزل الله, حتى إن الناظر من بُعد لكأنه يرى أن مصر انقلبت برجالها ونسائها إلى فنانين وراقصين وممثلين، وكأن كل ما فيها هو الإلحاد والزندقة، وبيع الأعراض، والطعن في الدين، والكفر برب العالمين، فكأن هذه هي صورة مصر؛ وذلك من كثرة استيلاء هؤلاء الزنادقة على مواقع التأثير, وكأن الغرب يستعجلهم ويقول لهم: هيا سلموا المبيع, نريد شعوباً هذه مواصفاتها, نريد شعوباًَ لا تتحرك ولا تنفعل حتى وإن قُطّعت إرباً إرباً. فقد تربت طائفة من أبناء المسلمين على مائدة الإعلام الذي يديَّث المجتمع، ويخنزر الأخلاق, فكانت حصيلة ذلك ظهور طائفة أخرى لبسوا لباس الثقافة أو ألبسوا لباس الثقافة والعلم، ولا يعرفون عن الإسلام إلا الشبهات التي لقنوها، وزرع في قلوب أصحاب الشهوات منهم الخوفَ والحقدَ على الإسلام. وحتى نكون صرحاء جداً في تناول ظهور وحقيقة هذا الموقف الذي نعيشه, فنقول: ليس هذا في مصر فقط ولكن في كل بقاع العالم بلا استثناء, فهم يحاولون أن يتسللوا إلينا ويغزونا عبر دين جديد، وهو غير دين الإسلام، وهذه هي الحقيقة بلا مواربة ولا خداع, فيجب أن تكشف هذه الحقيقة للناظرين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، وهذا الدين الجديد اسمه العلمانية أو اللادينية, فهم يبشرون به، ويخدمونه، ويضحون في سبيله. فالعلمانية دين كأي دين باطل يطلق عليه لفظ الدين، أي: منهج حياة, يقول تعالى في خطاب الكافرين: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6]، ويقول تعالى في حق العزيز: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] , فهذا دين مغاير ومخالف تماماً لدين الإسلام في أصوله فضلاً عن فروعه، وهو معادٍ للإسلام على طول الخط, ولا يمكن أبداًً أن تلتقي العلمانية بالإسلام, فهناك أوجه افتراق عظيمة جداً بين الدينين: الدين السماوي الحق وهو دين الإسلام، وهذا الدين الأرضي المصنوع وهو دين العلمانية, فنبيّن هذه الفروق إن شاء الله تبارك وتعالى, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فتجدهم يسمون الكفر إسلاماً، ويسمون عدواً لله ولرسوله وللإسلام بالداعية الإسلامية الكبير، والمفكر الإسلامي المستنير، فبماذا يستنير؟ الاستنارة عندهم غير مأخوذة من قوله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1]، ولا من قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، ولكن لا يكون الإنسان عندهم مستنيراً حتى يتبنى أركان وأسس ومبادئ دينهم العلماني كما سنبينها.

إنكار العلمانية لما هو معلوم من الدين بالضرورة

إنكار العلمانية لما هو معلوم من الدين بالضرورة العلمانيون يحاولون أن يوهموا الناس أنه لا تعارض بين الدينين, فيمكن أن تبقى بالاسم الإسلامي لكن يفرغ من مضمونه ومن محتواه, ويقولون للناس: اعتزوا بالإسلام؛ لكن كتراث، وبشرط أن تؤمنوا ببعض الكتاب وتكفروا ببعض, وبشرط أن تبتغوا بين ذلك سبيلاً. وبعض من فرضوا مفاهيمهم بالحديد والنار تطوع لهم أنفسهم أن يصفوا مخالفيهم من عباد الله، ومن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وجنود الإسلام بالتطرف والرجعية والجمود وغيرها من الأوصاف البشعة, والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فحياة المسلم كلها إسلام, وهذا الإسلام يحكم المسلم في كل أحواله، فالمسلم الذي يقبل دين العلمانية مهما زعم أن علمانيته معتدلة أو متساهلة فإنه يقف في جبهة معارضة للإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يصدق عليه وصف العلماني حتى ينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام, فلابد للعلماني أن ينكر تحريم الربا, وأن ينكر تحريم الزنا، ولابد أن يقف ضد إقامة حدود الله سبحانه وتعالى في الأرض، وضد تطبيق شريعته, ولابد أن ينكر فرضية الزكاة, ومبدأ تحكيم الشريعة من أساسه. ولذلك -كما قال علماء المسلمين- تجري على العلماني بعد إقامة الحجة عليه واستتابته كل أحكام المرتدين؛ فتسحب منه الجنسية الإسلامية، ويفرق بينه وبين زوجه وولده, وتجري عليه أحكام المرتدين في الحياة وبعد الموت.

العلمانية لا تقبل الإسلام أصلا للولاء والبراء

العلمانية لا تقبل الإسلام أصلاً للولاء والبراء الإسلام يرفض دين العلماني، لأنه أيضاً لا يقبل التعايش مع الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى, وقد يقبل ويسمح له ببعض النوافذ كما يتعامل مع السموم والمخدرات، فيصبح شيئاً مباحاً في المجتمع كأي شيء من الأشياء التي تباح في بعض الحالات؛ فتقبل العلمانية الدين بشرط أن يكون عقيدة نائمة محبوسة بين جدران القفص الصدري للإنسان، وبين جدران المساجد، لكن لا يصطبغ بها المجتمع، ولا يكون لها سلطان عليه، وإن اعترفت العلمانية لله سبحانه وتعالى بالخلق فإنها لا تعترف له بالأمر، والله تعالى يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. ولا تقبل العلمانية هذه العقيدة الكامنة في النفس، والنائمة في الضمير, كأساس للانتماء والولاء والبراء، والحب والبغض, والاحتكام إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل تقبلها عبادة ونسكاًَ, على أن تكون أمراً موكولاً إلى الأفراد, لا أن ترعاه الدولة، وتحاسب الناس عليه, وتقبله أخلاقاً وآداباً، ولكن فيما لا يمس التيار العام المقلد للغرب.

محاربة العلمانية لتحكيم شرع الله

محاربة العلمانية لتحكيم شرع الله إن أعدى أعداء العلمانية, والشيء الذي تحاربه بكل بطش وقوة وصراحة هو تطبيق الشريعة الإسلامية, سواء كان ذلك في الأحوال الشخصية، أو في المجتمع، أو في الدولة, فالعلمانية تتبنى الذميم الدعي، وتنفي نسب الابن الأصيل، وقد تؤمن ببعض الكتاب وذلك فيما يوافق هواها، وتكفر ببعض وذلك فيما خالف هواها، ولذلك فإن العلاقة الحتمية هي أنها تناصب الإسلام العداء، وأن يناصبها الإسلام العداء؛ لأنها تنازعه سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع، وتوجيه دفته وفقاً لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا وقع هذا المجتمع في حكم الجاهلية, فهذا هو أساس العلمانية: الفصل بين الدين وبين الحياة, وتحويل الدين إلى شيء مباح, فمن أراد أن يتدين فليتدين، لكن لا يكون ذلك إلّا في حدود نفسه, وفي نطاق المسجد، وأما نُظُم الحياة فلابد أن يعزل الإسلام عنها، ولذلك عبر عنها بعض العلماء بأنها أقصر الطرق الموصلة إلى الكفر. إنّ الإسلام يعدّ الشرك في الحكم كالشرك في العبادة, يقول تبارك وتعالى في الحكم: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وفي قراءة: (ولا تشرك في حكمه أحداً) , وفي العبادة قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فهذا شرك وهذا شرك, ويقول ًتبارك وتعالى أيضاً: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] يعني: لما أطاعوهم في قتل الأولاد، واستحلوا ذلك، وقال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

العلمانية تكره ما أنزل الله

العلمانية تكره ما أنزل الله والعلمانيون أولى الناس في هذا الزمان أن يدخلوا في وصف الكارهين لما أنزل الله، ولو سألتهم وقلت لهم: هل أنتم مستعدون أن تطيعوا الله ورسوله؟ وهل تقبلون تحكيم القرآن؟ وهل تعتزون بتاريخنا وتراثنا؟ وهل تحترمون أسلافنا من الصحابة ومن بعدهم؟ فإنك ستجد جوابهم في كل هذه الأسئلة كأخبث ما أنت سامع: بغض للصحابة, والتشنيع بالكذب والافتراء على أعلام الصحابة وأعلام الإسلام, والتزييف للتاريخ الإسلامي, وكذلك إقصاء شريعة الإسلام كما بينا. إنّ العلمانيين ينطبق عليهم قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]، فتحنى أنوفهم إذا سمعوا من يدعوهم إلى الله، وإلى دين الإسلام. ويتحقق فيهم قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:6 - 8]، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:25 - 26]، فإذا كان هذا في حق من قال سنطيعكم في بعض الأمر، فما بالك بمن يقول سنطيعكم في كل الأمر!

تصادم العلمانية مع القرآن

تصادم العلمانية مع القرآن ذكرنا سابقاً أنّ العلمانية ترفع ما وضعه الله، وتقرب من أقصاه الله تبارك وتعالى، وهي باعتبار معناها: الدنيوية، أو اللادينية، أو رد الدين وتحكيمه في الحياة فإنها تتصادم كثيراً مع القرآن، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، والعلمانية تحطم مبدأ الولاء والبراء, فتقول بحرية العقيدة: اشرك بالله، سب الله، اشتم الله، سب أنبياء الله، فهذه حرية شخصية في دين العلمانيين. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) والعلمانية تقول بحرية العقيدة, وهي ردة عن دين الإسلام, والله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] والعلمانية تقول: كل إنسان حر، فإذا شاء أن يرتكب المعاصي فله ذلك، ولا يتدخل الدين في خصائص الناس. إنّ جوهر العلمانية الاهتمام بالحياة الدنيا, وإهمال الحياة الآخرة تماماً, فأصل معنى العلمانية: الدنيوية, فالدنيا التي يحقرها الله سبحانه وتعالى ويذمها في القرآن ترفعها العلمانية، وإذا تمادحوا فإنهم يتمادحون بالحضارة بالعمارات بالمباني الشاهقة بزينة الدنيا بالمتاع بالطعام بالشهوات، فهذا هو الذي يفتخرون به فقط, بينما يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة، ثم راح وتركها)، ويقول الله في الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَاةُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، ويقول عليه الصلاة والسلام (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة, ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له). أما العلمانية فالدنيا عندهم هي الوطن، وهي القرار، وليست مجرد قنطرة نعبرها إلى الآخرة, لذلك فإنهم ينطبق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]، وهم الذين قال فيهم الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، وهم الذين قال فيهم: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83]، وهم الذين قال فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] أي نعم.

عدم إنكار العلمانية على من تحلل من الدين واعتمادهم على رابطة الدم والعنصر

عدم إنكار العلمانية على من تحلل من الدين واعتمادهم على رابطة الدم والعنصر إنّ العلمانيين والقائلين بالحرية الدينية وحقوق الإنسان لا ينكرون على الناس إذا لم يؤمنوا بالله، ولا برسله، ولا باليوم الآخر, وترفض العلمانية أيضاً اتخاذ العقيدة أساساً للولاء والبراء، فيقدمون رابطة الدم والعنصر والتراب والطين على رابطة العقيدة. وأما المسلم في دار الإسلام فإنه لا يكتفي بأن تكون عقيدته أمراً هيناً، أو أمر مباحاً، بل إنّ عقيدته هي روح الحياة, وهي جوهر الوجود, وهي محور التربية والثقافة والإعلام والتشريع, ففي الإسلام يستقبل الطفل الحياة بالتوحيد, وذلك بأن يؤذن في أذنه ليكون أول ما يطرق سمعه ذكر الله، والأذان إلى الصلاة، وهذا مع أنه يولد على فطرة الإسلام، ثم يودع الحياة بالتوحيد، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة). وفيما بين المولد والموت فإنه يعيش بالتوحيد وللتوحيد التزاماً ودعوة وجهاداً، فهذه هي الحرية الحقيقية. والعلمانية ترفض نزول المسلمين على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فتريد العلمانية أن تصبغ المجتمع بهذه العقيدة، وأن تسمح للإسلام في بعض الأركان والزوايا حتى يتنفس من خلالها، بشرط أن تؤمن ببعض الكتاب وأن تكفر ببعض كما ذكرنا سابقاً, لذا فإنّ الإسلام لا يقبل أن يكون في قلب داره وعز سلطانه شيء مخير فيه, فلا غبار على من آمن به، ولا حرج على من تركه, فالدين لله، والوطن للجميع بزعمهم، ونحن نقول كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189]، وهذه القسمة لا نعرفها، فكل ما على الأرض، وكل من على الأرض ملك لله تبارك وتعالى. إنّ المسلم في الواقع العلماني يعاني من التناقض بين عقيدته وبين هذا الواقع, فعقيدته تشرَّق وواقعه يغرَّب، وعقيدته تحرم والعلمانية تبيح, وعقيدته تلزم والعلمانية تعارض.

موقف العلمانية من العبادة

موقف العلمانية من العبادة وأما العبادة، فهي جزء من الحرية الدينية، وليست هي المهمة الأولى للإنسان في نظر العلمانية، والله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ولا تقيم العلمانية نظامها التربوي والإعلامي على أساس غرس هذا المعنى، في حين أن الإسلام يَعدّ مجرد الإعراض عنه كفراً به، ومعاداة له, فمجرد الإعراض عن الدين يعتبر طعناً فيه، وتولياً عنه. وكذلك الحياة الاجتماعية والاقتصادية لا تنظم في النظام العلماني طبقاً لمواعيد الصلاة وغيرها من العبادات، ولا توضع هذه الأمور في الاعتبار, والعلمانية تفرق بين السلوك الشخصي وبين السلوك الاجتماعي، فيمكن أن يكون القائد أو الحاكم أو الوزير ملحداً خبيثاً مجرماً، وهذا لا يقدح فيه، ولا يقدح في عدالته. والعلمانية لا ترى المجاهرة بترك العبادات مدعاة للمساءلة، كترك الصلاة أو الصيام أو الزكاة وغير ذلك، فالمهم هو أن يؤدي المرء الضرائب كاملة للدولة، وأما الزكاة فلو شاء أعرض عنها ولا ملامة عليه. وفي مجال الأخلاق تتبع العلمانية المجتمع والفكر الغربي شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، سواء في علاقة الرجل بالمرأة أو في غير ذلك من الأشياء المعروفة. فعلى هذا الأساس نقول: إن الشريعة هي العدو الأول للعلمانيين؛ لأنها هي التي تنقل الإسلام من عالم النظرية والمثال إلى دنيا الواقع والتنفيذ، يقول عثمان رضي الله تعالى عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ويتجلى العداء السافر للعلمانية حينما يعارض الإسلام خصائص الحضارة الغربية كتحريم الربا والزنا والسكر، وكتحديد الجزاء على الجرائم بالجلد والقطع ونحوه. فنلاحظ في هؤلاء العلمانيين أنهم ينظرون إلى الإسلام على أنه عقيدة غريبة خارجة عن ذواتهم, ولا يشعرون بأي حرارة غيرة على الإسلام، ولا يقفون إلا موقف الأعداء، فتجدهم في أي صراع بين الإسلام وأعداء الإسلام ينضمون بلا تفسير إلى أعداء الإسلام، وتجدهم يفصلون الدين عن الدولة كي يسهل عليهم ضربه، وذلك بعد أن يحصروه في ركن ضيق، حتى يستسلم تماماً للعلمانية.

رمي العلمانيين للدعاة إلى الله بكل قبيحة

رمي العلمانيين للدعاة إلى الله بكل قبيحة يجب علينا أن نحاسب العلمانية ونزنها من حيث حقيقتها وواقعها الفعلي, لا من حيث ما تزعمه العلمانية من عدم عداء للدين، فإن العلمانيين يتسترون وراء ادعاء الإسلام، فهم يعرفون جيداً أنهم لو أظهروا الإلحاد والطعن في دين الإسلام، سيرجمون بالحجارة، فلابد من التستر وراء الأساليب الخادعة, لذلك نلاحظ من هؤلاء العلمانيين مغالطات كثيرة جداً، منها: أنهم يشنعون على أولياء الله، وعلى الدعاة إلى دين الله سبحانه وتعالى بأنهم يريدون أن يعودوا بنا إلى العصور الوسطى المظلمة!! فنقول لهم: أي قرون مظلمة؟! إن هذه القرون مظلمة عند أسيادكم في الغرب، وذلك حينما أذلت النصرانية الشعوب الأوروبية سواء بالإقطاع، أو بمحاكم التفتيش، أو بصكوك الغفران وبيع أماكن في الجنة، أو بالظلم والقهر، أو بالعقيدة الوثنية الشركية التي قدمتها لهم، أو بمقاومة الفطرة، أو بتحريم الطيبات، أو بالاستبداد الكنسي الذي كان يذل الجميع حتى الملوك, فمن أجل ذلك كرهوا الدين، ومن أجل ذلك كانت هذه العصور عصوراً مظلمة، وكل عصور أوروبا مظلمة؛ لأنها بعيدة عن منهج الله تبارك وتعالى ودينه، فالعصور المظلمة ليست عندنا، وإنما هي عند أسيادكم في أوروبا، فهم الذين كانوا في تلك العصور المظلمة لا يعرفون الاستحمام ولا التنظف, بينما كانت الدولة والحضارة الإسلامية هي القوة الأولى في العالم كله, وكانوا يوفدون أبناءهم إلى بلاد المسلمين، وإلى حواضر الإسلام؛ كي يتنوروا، ويتنظفوا، ويتعلموا كيف تكون الحضارة، وكيف يكون التقدم. ومن ذلك أيضاً أن العلمانيين يقولون عن الدعاة إلى الله: يريدون أن يعيدونا إلى محاكم التفتيش! فنقول لهم: رمتني بدائها وانسلت، هل أقام المسلمون في يوم من الأيام محاكم للتفتيش؟ وهل عرف المسلمون أي نوع من أنواع القهر والإذلال للشعوب؟ وما الذي يحصل الآن في البوسنة والهرسك؟! وهنا نتذكر كلمة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وذلك أن الفرس في إحدى المعارك مثلوا بالقتلى من المسلمين, فقطعوا الجثث ومثلوا بها، فلما رأى المسلمون ذلك حلف بعضهم لئن أمكنهم الله من الفرس ليفعلن مثلها، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فغضب أشد الغضب وقال رضي الله تعالى عنه: متى كان لنا في الفرس أسوة! فالمسلمون لما حكموا العالم وكانت لهم الغلبة كانوا أكرم خلق الله سبحانه وتعالى، وكانوا أرحم الناس بالناس، ثم بعد هذا ترموننا بدائكم؟! من الذي يقيم محاكم التفتيش؟ ومن الذي يقيم المحاكم العسكرية الظالمة في كل بلاد العالم الإسلامي؟ ابحثوا عن محاكم التفتيش في تاريخكم القديم والحديث, وابحثوا عنها في عهود قريبة وبعيدة، وابحثوا عنها في عهد عبد الناصر وغيره من الطواغيت والجبابرة, ففي عهد عبد الناصر بلغ الطغيان والإرهاب والتخويف مبلغاً عظيماً، إلى حد أن تيتو في يوم من الأيام أتى ليزور مصر, فكان من عادتهم أن يحبسوا كل دعاة الإسلام فترة زيارته، خوفاً عليه, وكان الرعب قد ملأ قلوب الناس، حتى إن أحد الخطباء -من شدة الرعب والتخويف والإرهاب والبطش- خطب جمعة في أحد المساجد في أثناء زيارة تيتو، فكان يدعو في الخطبة ويقول: اللهم أهلك الكفرة والمشركين إلا تيتو!! وبلغ القهر إلى حد أن شكوى قدمت في تاجر في إحدى محافظات الصعيد، فوقف أمام الضابط ترتعد فرائصه, وكان مسلماً بالاسم, وأقسم للضابط، وأما نحن فيوم أن سدنا العالم لم تعرف البشرية إلا الرحمة والتسامح والسمو والأخلاق, فمحاكم التفتيش ليست في تراثنا, وليست في ماضينا، ولكنها في ماضيكم وحاضركم أنتم، والجميع يعرف ذلك.

اختفاء روح الإيمان من كتابات العلمانيين

اختفاء روح الإيمان من كتابات العلمانيين ومن خصائص العلمانيين أنها تختفي من كتاباتهم روح الورع والإيمان والإجلال لرسل الله، وبخاصة رسولنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم, فتشعر في كتاباتهم بعدم الإيمان بهذا الإسلام، بل وتشعر فيها باحتقار لهذا الدين, فيتكلمون عليه وكأنه عقيدة بدوية بشرية الأصل، وكأنه لم ينزل من السماء, فهذا الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين يقول في يوم من أيام العهد الناصري المظلم: لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيدة عن اللف والدوران، وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيماً خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير, أما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل، ومن باب تنظيم حياة كانت في مجتمع بدائي إلى حد كبير، ومن ثَم فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا. ومن غلو هؤلاء عدم تعظيمهم لله ولا لرسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام, فهذا مدير جماعة أسيوط الذي عُيَّن فيها قبل إنشائها وإسلامها، فكان يخطب في حضور عبد الناصر، فقال له: إن كان عيسى المسيح قد أحيا ميتاً أو اثنين أو ثلاثة فقد أحييت يا سيادة الرئيس مائة مليون عربي, وإذا كان موسى عليه السلام قد ضرب البحر بعصاه فشق فيه طريقاًَ يبساً، فقد صنعت بالسد العالي أكثر مما صنع موسى. وفوراً رقي وزيراً للثقافة. وكذلك مصطفى القياتي كان مدرساً بالأزهر في ثورة تسع عشرة, وكان يقول: إن سعداً أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام, وإن سعداً أتى بما لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول الوطنية. وهذا الرجل نفسه في إحدى المظاهرات في داخل الأزهر وضع الصليب في المحراب، وخطب فدعا الناس لصلاة ركعتين للصليب ولله بزعمه, فهذه هي العلمانية، وهذه جذورها. من أجل ذلك فنحن لا نستغرب إذا وجدنا العلمانيين يصرخون إذا حوكم من يسفه أو يشتم الأنبياء كهذا الخبيث المجرم الذي لم نسمع اسمه، ولم نتعرف عليه إلا في صفحات الحوادث, وفي صفحات المجرمين، فهذا علاء حامد ألف كتاب (مسافة في عقل الرجل)، وسخر فيه من الإسلام، وسخر فيه من النبي عليه الصلاة والسلام، فيتصارخ العلمانيون ويتنادون دفاعاً عن حرية الرأي: يا لحرية الرأي! يا لحرية الكلمة! يا لحرية العقيدة! وحينما يطعنون في أنبياء الله، وفي كتبه، وفي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حرج في هذا، وهذه حرية, فهل يقوى العلمانيون على أن يوجهوا عشر معشار هذا الطعن إلى رئيس جمهورية، أو ملك دولة، أو إلى وزير؟ إنهم لا يجرءون على ذلك، وكما يقول الشاعر: يساق للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار

نماذج من مواقف العلمانيين من هذا الدين

نماذج من مواقف العلمانيين من هذا الدين وهذه نماذج أخرى -وإن كانت متناثرة- من مواقف العلمانيين, فهؤلاء هم حواريو العلمانية وأنبياؤها والمبشرون بها؛ كي نعرف أعداءنا، ونقف منهم الموقف الذي يستحقونه, فهذا جميل معلوف، وأنا أسميه المعلوف يقول: إن الأجانب يحتقروننا بحق، ونحن نكرههم بلا حق, وإن خلاص الشرق يتوقف على تفرد الشرقيين بكل معنى الكلمة, فلا عهدة شرعية تربطنا بإسلامنا, ويجب أن نكون أبناء اليوم لا بقايا الأمس، ثم يقول: أجد بلاء الشرق كله من الأديان, والمصيبة في الشرقيين من الأنبياء. وهذا سلامة موسى ونقول للذين يعيدون نشر كتبه النتنة الآن في سلسلة المواجهة: من تواجهون؟! تواجهون الله؟! وقد أثبتوا أنهم ليس عندهم من يصلح أن يكتب أي كلام موضوعي، فعكفوا على إعادة هذا التراث العفن الذي افتضح وبدت سوءته للناظرين منذ عشرات السنين؛ يقول سلامة موسى -وهو نصراني ملحد قد جمع بين السوءتين-: إن الرابطة الدينية وقاحة, فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعةً تربطنا. وهذا يوسف إدريس الكاتب الماركسي اليساري الذي أعطاه طه حسين صك الشهرة؛ لأنه من أصحاب الأفكار الإباحية، فهو يدعو إلى نبذ التراث العربي كله، وإلى إلقائه في البحر، أو إحراقه, ويصف تراثنا بأنه سخيف، وأنه ليس فيه شيء للقراءة، ويقول: يجب أن تحرق كتب التراث كلها. وقال رجل دمشق في عقب الإحداث سنة خمس وستين، وذلك بعدما دخلت الدبابات مسجد بني أمية تفتك بالمصلين والموحدين، واستشهد من المصلين مئات المسلمين، وأغلق الجامع أياماً؛ لإزالة ما علق بأستاره ومحرابه من جثث المصلين، ودماء الراكعين الساجدين، وذلك لا لشيء إلا لأنهم طالبوا بتحكيم شرع الله في ظل هذا الحكم البعثي العلماني الملحد, وفي نفس ذلك اليوم قال رجل دمشق في بيان رسمي: إننا لن نسمح لمن كانوا يعيشون في هذه البلاد قبل ألف وأربعمائة سنة أن يفرضوا علينا نظمهم القديمة، ولا أن يضعوا لنا أسس حياة إسلامية نعيشها في هذا العصر المتطور. وهذا أحد دعاة العلمانية والعروبة في نفس الوقت يقول: العروبة نفسها دين عندنا نحن القوميين العرب. فهم يسمونه ديناً، ونحن لم نأتِ بهذا الكلام من عندنا، فالعلمانية دين، والقومية دين, وقد ذكرت من قبل أن بعض الأفاضل حكى عن بعض المنظمات العلمانية الفلسطينية أنهم كانوا حين يقوم ليأذن بالصلاة يقفون صفاً واحداً، ويشوشون عليه، ويسخرون منه، وينشدون بصوت يشوش على الأذان فيقولون: إن تسل عني فهذي قيمي أنا ماركسي يوناني أممي ويقول شاعرهم: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني ويقول هذا الداعية: العروبة نفسها دين عندنا نحن القوميين العرب؛ لأنها وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية في هذه الحياة الدنيا, ولئن كان لكل عصر نبوة، فإن القومية العربية هي النبوة في هذا العصر في مجتمعنا العربي. ويقول أحد هؤلاء أيضاً: نحن نريد بدارسة التاريخ أن نميز بين العروبة والإسلام في وجهتنا, وإن اعتزازنا بالتراث، وإعطاءنا القيم منزلتها لا يعني اتخاذ الإسلام رابطة سياسية، أو إقامة الكيان على أساسه. ويقول أحد هؤلاء وهو المسمى أدونيس في رسالته للدكتوراه (الثابت والمتحول) إذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية، فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي، وإنما يجب أن يكون بآلة من داخله, فإن هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته. يعني تحريف معاني الإسلام. وأطروحة الدكتواره هذه قدّمت إلى الجامعة الأمريكية التي يشنع فيها على الإسلام، وقد أشرف على الرسالة الأب لويس نويا اليسوعي، وشارك في مناقشاتها الدكتور أنطوان غطاس كرم، ورشح صاحبها من دوائر الاستشراق الأوروبي المعاصر لأجل نيل جائزة عالمية شهيرة؛ بوصفه شاعراً ومفكراً إسلامياً ثائراً. وهذا زكي نجيب محمود، وهو مشهور باحتقاره لتراثنا الإسلامي، يقول: لم يكن ثم أثر للحياة الثقافية، أو العلمية، أو الفكرية في قرون الإسلام الأولى، بل ولا الأخيرة, فلم يكن العالم في العهود السابقة يبلغ من علمه حداً يجاوز إحسانه للقراءة والكتابة. يعني: أنّ ابن كثير وابن تيمية والبخاري ومسلماً وكل الأئمة الأعلام أقصى ما حصلوه من العلم معرفتهم للقراءة والكتابة فقط، وليس عندهم أي شيء من العلم والفكر غير القراءة والكتابة!

محاولة العلمانيين بعث تراث أسلافهم من المنحرفين

محاولة العلمانيين بعث تراث أسلافهم من المنحرفين إنّ هذه المحاولة يائسة من هؤلاء اليائسين, فقد أيسوا من محاولة البطش والتخويف والإرهاب؛ لأنها لم تأت بأي ثمرة، بل زادت الصحوة الإسلامية، فلجئوا إلى آخر ما في جعبتهم وهي الكتابة، فعجزوا عن الكتابة، وما وجدوا أحداً يصلح للكتابة, فقالوا: نلجأ إلى القدامى, نلجأ إلى مؤسسي حركة التنوير, والمستنير عندهم هو الذي يستنير ويستضيء بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلأن الباطل دائماً أعمى لا يرى، وأصم لا يسمع، وأحمق لا يعقل, فقد حاول هؤلاء العلمانيون كما قلنا مواجهة الإسلام بالكتابة، فلم يستطيعوا إلا السب والشتم والتشنيع والاستعداء والبذاءة والتطاول, ونظرة واحدة في كتبهم تجعلك ترى ما في جعبة القوم من هذه البذاءات. فلما شعروا بعجزهم عن أن يجادلوا بأنفسهم أرادوا أن يتطفلوا على مائدة الأولين منهم، فراحوا ينفخون الروح في هذا التراث المشئوم؛ عسى أن يجدي في محاولاتهم اليائسة في إطفاء نور الله عز وجل {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] , فقاموا بإعادة طبع عشرات الكتب، وبسعر زهيد جداً: بخمسة وعشرين قرشاً، أي: ربع جنيه، ككتب طه حسين، وسلامة موسى، وزكي نجيب محفوظ، وقاسم أمين، والطهطاوي، وأعادوا نشر هذا التراث العفن النتن الذي فاحت ريحه الخبيثة، وانكشف عواره. وهذا من غبائهم وإساءتهم إلى أنفسهم, فهم اليوم يخاطبون جيلاً غير الجيل الأول الذي خوطب من خلال هذه الكتب، فأرادوا أن يحتموا بتلك الأسماء اللامعة: طه حسين , سلامة موسى , ولا يدرون أن الشباب الآن عنده وعي، وعنده بصيرة، وأنه قد عرف عدوه وعدو دينه، وعرف من هو طه حسين، فبعدما كان الجيل الماضي ينظر إلى طه حسين على أنه كاتب إسلامي فقد فهم الناس الآن أن طه حسين زنديق ملحد, وأنه طاعن في كتاب الله، ومكذب له, وعدو لهذه الأمة، وعدو للغة العربية، فقد كان ينطلي على الجيل الأول أنه عميد اللغة العربية, وأما الآن فقد انتشر الوعي، فمن الغباء أن يخاطبونا بمثل هذه البضاعة الكاسدة البائرة. فهذه الأصنام التي يعيدون الطواف حولها بالمباخر والتعظيم قد حطمت، حطمها العلماء والدعاة، وانكشفت سوآتها للناظرين، فلو كان هؤلاء عقلاء لما بعثوا هذا التراث, ولو كانوا يعترفون بالجميل لأساتذتهم لما آذوهم في قبورهم, فنحن نجزم ونقطع ونحلف بالله عز وجل أن كل هؤلاء الذين كتبوا في معاداة الله ومعاداة رسول الله عليه الصلاة والسلام، نادمون أشد الندم على كل حرف خطّوه وكتبوه، وأنهم إن كانوا ماتوا على هذا الضلال والكفر فإنهم يتمنون أن يعودوا، وأن يعطيهم الله سبحانه وتعالى الفرصة من جديد؛ كي يكونوا أشد الناس تطرفاً في معاداة هذه العلمانية، وكي يجاهدوا كل من يطعن في دين الله سبحانه وتعالى. فأنتم الآن تسيئون إليهم في قبورهم، وهم يرجونكم -إن كان لهم أن يتكلموا- ويتوسلون إليكم أن تكفوا عن مضاعفة سيئاتهم بإحياء هذه الكتب, فهذه حقيقة لا نشك فيها: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] لكن حيث لا ينفع اليقين، ولو ردوا لتبرءوا من هذه الكتب، ولنصروا الإسلام بكل جوارحهم حتى وإن قيل عنهم: متطرفون، أو متشددون، أو رجعيون. فلو أعيد طه حسين إلى الحياة -والله أعلم بمصيره عند ربه- لكان من أشد الناس دعوة إلى الله، ومن أشدهم تضحية في سبيل الله تبارك وتعالى, فإن كنتم تحبونهم فكفوا عنهم، ولا تنشروا مساوءهم, وابحثوا لعلكم تجدون لهم حسنات فتكلموا بها وانشروها؛ لكن القوم عندهم هواية البحث في القمامة، والبحث في الخبائث؛ ليستخرجوا أسوأ ما فيها، وينشروها على الناس, فالسعيد من إذا مات ماتت سيئاته وتوقفت، أما أن يبقى في قبره وأذاه على وجه الأرض فنسأل الله السلامة، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، (ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). وهذا أحد كتاب رسائل المواجهة، تلك المواجهة الدنيئة الحمقاء، فأحد هؤلاء المجرمين كتب كتاباً، وفعل ما فعلته اليهود, فسمى الرسالة (التنوير في مواجهة الإظلام) فتشبه باليهود حين قيل لهم: قولوا حطة، فقالوا: حنطة, فهذا بدلاً من أن يقول: الإسلام، قال: الإظلام, ومعروف أنهم دائماًَ يستعملون كلمة الظلام للتعبير عن الإسلام، فيقولون: الجماعات الإظلامية، أو الجماعات الظلامية، ويعنون الجماعات الإسلامية، ولما ألفوا رواية عن طه حسين سموها: قاهر الظلام، أي: قاهر الإسلام، وكذلك هنا (التنوير في مواجهة الإظلام)، فالله المستعان، والأمر كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]. وهذا كاتب من كتابهم يتكلم عن القصص الفني في القرآن، فيصف قصص القرآن الكريم بأنها خرافة, بل زعم أن القرآن نفسه لا ينفي أنه يحوي الأساطير, وهذا الباحث دافع عنه بعض المستشرقين، ومنهم بعض الآباء الدانماركيون الذين وصفوا بحثه بأنه البحث الوحيد الذي يمثل الاستنارة الحقيقية في الفكر الإسلامي الحديث, وهنا نقول: هل سمعتم عن رجل علماني -مهما بلغت أفكاره- غضب عليه الكفار في الشرق أو الغرب أو الداخل أو الخارج؟ كلا, بل تنشرح صدورهم لأعداء الدين، فهم إخوانهم الذين يساندونهم ويمدونهم بالعون، وهم الذين يحرضونهم على معاداة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

بعض النماذج من تلك الكتب التي طبعوها

بعض النماذج من تلك الكتب التي طبعوها وهنا أذكر بعض النماذج، وأقتصر فقط على شخصيتين من هذه الشخصيات, الأولى منهما: سلامة موسى، وقد بعث له جزء من هذا التراث، وذلك أيضاً في سلسلة المواجهة للإسلام، والصد عن سبيل الله تبارك وتعالى, وأنا أقتطف بعض عباراته حتى نعرف من هو سلامة موسى؟ ومن هم رواد التنوير؟ وما هو التنوير الذي يريدون أن نتنور به؟ يقول سلامة موسى في تلخيص هدفه من دعوته: إنه يجب علينا أن نخرج من آسيا، وأن نلتحق بأوروبا. ويقول: إني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما ازدادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها, هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهرة، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب, فنريد من التعليم أن يكون تعليماً أوروبياً لا سلطان للدين عليه، ولا دخول له فيه, ويريد من الحكومة أن تكون ديمقراطية برلمانية كما هي في أوروبا، وأن يعاقب كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد، أو المأمون، أو أورستقراطية دينية, ويريد أن يبطل شريعة الإسلام في تعدد الزوجات، وفي الطلاق، بحيث يعاقب بالسجن كل من يتزوج أكثر من امرأة، ويمنع الطلاق إلا بحكم المحكمة, ويريد أن يقتلع من أدبنا -كما يقول- كل طابع شرقي مما يسميه هو: آثار العبودية والذل والتوكل على الآلهة. فنقول له: إنّ التوكل على الآلهة أمر موجود عندكم هناك في الكنيسة, وشركة القبانية، أما أن تخاطب أمة الإسلام وتقول: نريد أن نقتلع جذور التوكل على الآلهة, فليس عندنا آلهة، وإنما الله إله واحد. ويقول أيضاً وهو يمتدح العصر الإسماعيلي بعدما امتدح عصر نابليون، وما جره على مصر من البركات، ثم يتكلم عن الإسماعيلي فيقول: الذي رأى بنافذ بصيرته أنه لابد لنا من أن نتفرنج، ونقطع الصلة بيننا وبين آسيا، -المقصود بآسيا هو الإسلام الذي جاء من آسيا- فأنشأ الإسماعيلي مجلساً نيابياً, وأسس مجلس وزراء، ثم جعلنا نلبس الملابس الأوروبية، ووزع بين أعيان البلاد فتيات من الشركة؛ لكي يتحسن اللون ويقارب البشرة الأوروبية. فهذا بغض للذات، واحتقار للنفس, وهذا شيء عجيب! ثم يقول: قد آن الأوان كي نعتاد عادات الأوروبيين، ونلبس لباسهم، ونأكل طعامهم، ونصطنع أساليبهم في الحكومة والعائلة والاجتماع والصناعة والزراعة. ويقول أيضاً: إن الرابطة الشرقية -والمقصود بها الإسلام- سخافة, فمالنا ولهذه الرابطة الشرقية، وأية مصلحة تربطنا بأهل جاوة؟ -يعني: في أندونيسيا- وماذا ننتفع بهم؟ وماذا هم ينتفعون منا؟ إننا في حاجة إلى رابطة غربية، كأن نؤلف جمعية مصرية يكون أعضاؤها من السويسريين، والإنجليز، والنرويجيين وغيرهم, فنقعد معهم، ونستفيد منهم إلى أن يقول: فمثل هؤلاء الناس العباقرة والأذكياء نستطيع أن نؤلف رابطة معهم، ولكن ما الفائدة من تأليف رابطة مع الهندي أو الجاوي -يقصد: الهندي أو الجاوي المسلم-؟ ويقول أيضاً: نحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان. ويقول أيضاً: وقد كان مصطفى كامل -لجهله بروح الزمن- يخبرنا نحن المصريين عن الإسلام في الصين تحت عنوان: أخبار العالم الإسلامي. أي: أنه يسخر من المسلمين في الصين، ومن أخبار العالم الإسلامي في الصين. ويقول أيضاً: إن اصطناع القبعة أكثر ما يقرب بيننا وبين الأجانب، ويجعلنا أمة واحدة. ويقول أيضاً: لسنا نحب أن نخرج على العالم المتمدن بلباس خاص يجعلنا في مركز من الشذوذ، ويجلب إلينا الأنظار, فيعمد السائحون إلى تصويرنا كأننا أمة غريبة عن الأمم التي جاءوا منها. ويقول: إن الأجانب يحتقروننا بحق، ونحن نكرههم بلا حق. ويقول: إنني أطلب من الأدب شيئاً جديداً مغذياً غير الكلام عن العرب بلغة العرب، وشبابنا أيضاً يوشك أن يلبس القبعة؛ لأنه يجد هواناً من الشذوذ من العالم المتمدن، وهو أيضاً قد أبصر أننا إذا أخلصنا النية مع الإنجليز فقد نتفق معهم إذا ضمنا لهم مصالحهم، وهم في الوقت نفسه إذا أخلصوا النية لنا فإننا نقضي على مراكز الرجعية في مصر، وننتهي منها، فلنول وجهنا شطر أوروبا. ويقول أيضاً في تعبير خطير جداً -وهو من أنبياء العلمانية ورسلها- يقول: وها نحن أولاء نجد أنفسنا الآن مترددين بين الشرق والغرب, فلنا حكومة منظمة على الأساليب الأوروبية، ولكن في وسط الحكومة أجسام شرقية، مثل وزارة الأوقاف، والمحاكم الشرعية، وهي تؤخر تقدم البلاد, ولنا جامعة تبعث بيننا ثقافة العالم المتمدن، ولكن كلية جامعة الأزهر تقف إلى جانبها، وتبث بيننا ثقافة القرون المظلمة, ولنا أفندية قد تخرجوا، لهم بيوت نظيفة، ويقرءون كتباً سليمة، ولكن إلى جانبهم شيوخ لا يزالون يلبسون الجبب والقسطاطين، ولا يتورعون من التوضؤ على قوارع الطرق في الأرياف، ولا يزالون يسمون الأقباط واليهود كفاراً كما كان يسميهم عمر بن الخطاب قبل ألف وثلاثمائة سنة. وهو أيضاً ناقم على الشيوخ الذين يعلّمون اللغة العربية, وينادي بأن يسلََّم أمر تعليمها إلى الأفندية، حيث يقول: ولكن تعليم العربية في مصر لا يزال في أيدي الشيوخ الذين ينقعون أدمغتهم نقعاً في الثقافة العربية -أي ثقافة القرون المظلمة- فلا رجاء لنا بإصلاح التعليم حتى نمنع هؤلاء الشيوخ منه، ونسلمه للأفندية الذين ساروا شوطاً بعيداً في الثقافة الحديثة. ويقول أيضاً: إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة، لأنها تقوم على أصل كاذب؛ فإن الرابطة الدينية وقاحة، فإننا -أبناء القرن العشرين- أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا. فهل هذه هي مواجهة الإرهاب؟ وهل هذه هي مواجهة التطرف؟ إنّ هذا تطرف إلى أبعد ما يكون، وقد سبق أن تكلمنا قبلُ وقلنا: إن المتطرف هو كل من لم يكن مسلَّماً لأهل السنة والجماعة, فهذا هو تعريف التطرف, فالتطرف هو الانحراف عن الوسط يميناً أو يساراًَ، ففي داخل الدائرة الإسلامية: كل من ليس سلفياً من أهل السنة والجماعة، وانتمى لفرقة من الفرق الضالة النارية الاثنتين وسبعين فرقة، فهذا متطرف انحرف عن الوسط في الإسلام، وهو منهج أهل السنة والجماعة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام, فهذه درجة من درجات التطرف, وأشد وأخطر تطرفاً من يخرج عن الدائرة بالكلية كالعلمانيين، فهم متطرفون, فكل يهودي متطرف, وكل نصراني متطرف, وكل من ليس على ملة الإسلام فهو متطرف في نظرنا؛ لأننا نحن الأمة الوسط، ونحن الميزان، ونحن المقياس، وهم يقلبون الأصل، فيجعلون واقع المجتمعات الآن هو الوسط، وهو الاعتدال، وكل من انحرف عنه فهو المتطرف, فنقول لهم: لكم دينكم ولنا دين, فهذا دينكم، وأما ديننا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهذه هي مقاييسه، وهذه هي موازينه.

إطلالة سريعة على أقوال طه حسين الشنيعة

إطلالة سريعة على أقوال طه حسين الشنيعة وقبل أن ننهي الكلام، فإننا نطل إطلالة على واحد من هؤلاء الذين نشروا له كتاباً في سلسلة المواجهة، وهذه السلسلة الدنيئة في أربعة أجزاء, وتباع كما ذكرت لكم بسعر باكيت بسكوت أو أقل، وهو بلا شك أكثر فائدة منه, وهو كتاب طه حسين، ويعتبرون هذا رائداً من رواد التنوير والعلمانية والتقدم. وطه حسين له مواقف مخزية جداً من هذا الدين، سواء من خلال كتابه الذي نشروه (مستقبل الثقافة في مصر)، أو من خلال غيره من مواقفه المعادية لله ولرسوله, فهؤلاء هم أنبياء العلمانية، ورسلها، وحواريوها، ودعاتها, فهل هذه مواجهة للتطرف أم دعوة للتطرف؟ إنّ هذا استفزاز وإثارة. يقول طه حسين: للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً, ولكن ورود هذين الاثنين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة. ويقول الخبيث أيضاً: إن القرآن المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، والخلو من المنطق، والعياذ بالله! ويقول أيضاً: ظهر تناقض كبير بين نصوص الكتب الدينية وبين ما وصل إليه العلم. ويقول: إن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها, وإن الدين حين يقول بوجود الله، ونبوة الأنبياء، يثبت أمرين لا يعترف بهما العلم. ويقول: إن الفرعونية متأصلة في نفوس المسلمين، وستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى وتقوى، والمصري فرعوني قبل أن يكون عربياً, ولا يُطلب من مصر أن تتخلى عن فرعونيتها، وإلا كان معنى ذلك: اهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام! وانسي نفسك واتبعينا! فلا تطلبوا من مصر أكثر مما تستطيع أن تعطي, فمصر لن تدخل في وحدة عربية, سواء كانت العاصمة القاهرة، أم دمشق، أم بغداد، وأؤكَّد قول أحد الطلبة القائل: لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه! ويقول أيضاً: لم أكن في اللجنة التي وضعت الدستور القديم، ولم أكن بين الذين وضعوا الدستور الجديد, ولم يستشرني أولئك وهؤلاء في هذا النص الذي اشتمل عليه الدستوران جميعاً, والذي يعلن أن للدولة المصرية ديناً رسمياً هو الإسلام، ولو استشارني أولئك أو هؤلاء لطلبت منهم أن يتدبروا، وأن يتفكروا قبل أن يضعوا هذا النص في الدستور. وكان طه حسين يدعو طلابه في كلية الآداب إلى اقتحام القرآن في جرأة، ونقده بوصفه كتاباً أدبياً, فيقولون: وفي هذا حُسْن، وهذا كذا, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراًَ. ويقول: ليس القرآن إلا كتاباً ككل الكتب الخاضعة للنقد، فيجب أن يجري عليه ما يجري عليها إلى آخر كلامه. ويقول: يجب عليكم أن تصرفوا النظر نهائياً عن قداسته التي تتصورونها, وأن تعتبروه كتاباً عادياً، فتقولوا فيه كلمتكم, ويجب أن يختص كل واحد منكم بنقد شيء من هذا الكتاب, ويبين ما يأخذه عليه. فهذا هو عميد الأدب العربي، والصواب أن يقال عنه: عميل الفكر الغربي! وحملته أيضاً على الصحابة معروفة في كتابه (الشيخان) وغيره، وهو يدرس الآن للطلبة في الثانوية العامة وفيه الطعن والتشكيك والنيل من عظماء الإسلام والمسلمين, وقد اجتهد في إعادة طبع رسائل إخوان الصفا، وترجمة القصص الفرنسية الإباحية الماجنة, وهو يدعو أيضاً في كتابه هذا (مستقبل الثقافة بمصر) إلى أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أنداداً, فنأخذ بالحضارة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب. وقد استقدم طه حسين المستشرقين إلى الجامعة المصرية؛ كي يطعنوا في القرآن والسنة، ومواقفه مخزية إلى حد بعيد جداً، لكن أكتفي بهذا القدر من ذكر ضلالاته، ولو استقصينا جميع الكتب التي أعادوا طبعها، والتي وصلت الآن إلى أكثر من ثلاثين كتيباً؛ لو استقصينا النماذج من كلام دعاة العلمانية المخالفين لدين الإسلام، لانقضى الليل كله ونحن لم ننته من هذا بعد.

تحذير وإنذار للعلمانيين وأفراخهم

تحذير وإنذار للعلمانيين وأفراخهم فهذه بعض النماذج لهذه الحملة على دين الله تبارك وتعالى، فنقول لهؤلاء أصحاب المواجهة: أتدرون أنكم تواجهون الله تعالى؟! هل لكم قِبَل وطاقة بحرب الله، وحرب رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! فمن الذي تواجهونه؟! وبماذا تواجهونه؟! نحن نعيش في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أحلام ذوي المروءة، ولا أخلاق الجاهلية, ففي الجاهلية كانت هناك بعض الأخلاق, وكان عندهم مبادئ وقيم, وكانوا يعرفون شرف الخصومة، أما هؤلاء فلا يعرفون رائحة الشرف, بل تجد فيهم القهر والكذب والدجل، واستفرغوا كل الوسع في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى تحت ستار هذه العلمانية المزعومة. فنقول: إننا ندرك تمام الإدراك أن الوعد الإلهي الذي تحقق من قبل في المشركين والمنافقين، سوف يتصل بتحقق مماثل في علمانيي عصرنا {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15] فهذا الوعد سوف يتحقق حتماً, ولو زالت أجيال وأجيال فإنّ النصر والتمكين في النهاية للإسلام قطعاً. فهذه البقعة من الأرض التي نعيش عليها قد عاش عليها من قبل ملايين البشر, فأين هم الآن؟ إنّا لا نعرفهم, ولا نحس منهم من أحد، ولا نسمع لهم ركزاً, فقد أهلكهم الله سبحانه وتعالى, وفي هذا الزمان لو قتّل الشباب المسلم, وحوربت الدعوة في كل مكان, فهل سيبلغون في حربهم ما بلغ الأولون في حربهم لهذا الدين؟ إنّ الدين هو دين الله سبحانه وتعالى، فأنتم تحاربون الله, فنسأل العلمانيين كي يكفوا عن التستر وراء الدين، ونقول لهم: قولوها صراحة: هل تؤمنون بالله؟ وهل تؤمنون برسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وهل تعظمون القرآن؟ وهل تقبلون التحاكم إلى شرع الله عز وجل؟ قولوا: لكم دينكم ولنا دين, لا تلبسوا على الناس, فهل تقبلون التحاكم الذي أمر الله به في قوله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]؟ لا يمكن أن تقبل العلمانية ذلك, وأي علماني يخرج من دين العلمانية إلى دين الإسلام فلابد أن يعلن كفره بهذه المبادئ الهدامة التي تتصادم مع ألف باء العقيدة الإسلامية, ولا يمكن أن تبقى علمانياً مسلماً في آن واحد, فكونوا صرحاء، ولا داعي لهذه المناورات, ولا داعي للخداع، ولا داعي للتظاهر بأنكم تواجهون ما تسمونه تطرفاً أو إرهاباً, قولوا: نحن نواجه الإسلام, واكشفوا القناع عن وجوهكم، وقولوا: إنكم تكرهون الله, وإنكم تبغضون رسول الله، ونحن نبشركم بما بشر به الله عز وجل من سبقكم إلى هذا الشنآن، فقال سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]. فسيقطع الله دابرهم, وهذه سنة من سنن الله, فكل من شنأ رسول الله وأبغضه، أو أبغض سنته، فلابد أن يقطع الله سبحانه وتعالى أثره ويمحوه. ويقول تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21]. وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المؤامرة على التعليم

المؤامرة على التعليم لقد ظهرت في بعض البلاد الإسلامية مشاريع تسمى بتطوير التعليم، وهي في الحقيقة مؤامرة على التعليم، وتضليل تحت مسمى التطوير، والعجب أن يقوم بهذا أناس من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، فلا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

دعوة لإنقاذ التعليم

دعوة لإنقاذ التعليم الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فقد بين الله تبارك وتعالى أحد مقاصد هذه البعثة وهذه الرسالة في قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]. فأحد المقاصد الأساسية التي من أجلها يبعث الله عز وجل رسله، وينزل آياته، هي: أن تستبين سبيل المجرمين، حتى لا يختلط الحق بالباطل، ولا الهدى بالضلال، ولا الغي بالرشاد. فمن هذا المنطلق نختار هذه القضية لنناقشها اليوم، وهي قضية قد تناولها كتاب صدر حديثاً اسمه: التطوير بين الحقيقة والتضليل أو دعوة لإنقاذ التعليم، للمؤلفين: الدكتور جمال عبد الهادي والأستاذ علي أحمد لبن، فجمعا في هذا الكتاب مادة عظيمة تلفت أنظار المسلمين إلى هذا الخطر الداهم الذي يطل برأسه في هذه الأيام، ولا شك أن مناهج التعليم هي عبارة عن عملية صياغة عقول هذه الأمة، وأي تخريب في مناهج التعليم فهو اغتيال لهوية المسلم وأبنائه والأجيال القادمة. وقد بعث المأمون إلى بعض من طال حبسه في السجن، وقال لهم: ما أشد ما مر عليكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فاتنا من تربية أولادنا. والمناهج الدراسية تصوغ عقول الأولاد وشخصياتهم أقوى مما يفعل الأبوان بالنسبة لظروف الحياة في هذا الزمان، ولا يكون تأثيرهما على الأولاد مساوياً لما يحدث من التأثير في المدارس من خلال هذه المناهج. كان المصريون القدماء -وهم أجدادنا الذين نبرأ إلى الله منهم ومن كفرهم وشركهم- حيارى في التعبير عن هويتهم، فاخترعوا ما أسموه: أبا الهول، جسم حيوان يدل على القوة والبطش، ورأس إنسان يدل على العقل والذكاء، فلابد للمجتمع من قوة العلم والقوة الحسية أو المادية. الآن نجد أن الصورة تنعكس، نرى بشراً أجسامهم في صورة بشر، لكن عقولهم خنزيرية، عقول تبرأ هذه الأمة منها، وهم الذين ينفثون سمومهم خلال هذه المناهج، وهذه القضية ليست قضية ثانوية، بل هي قضية كل بيت مسلم، فالمناهج تقوم بصياغة عقول أبناء المسلمين، وكل مسلم يعتز بولائه وانتمائه إلى هذا الدين وإلى هذه الأمة وإلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم يهمه أمر المناهج، فإنه ما من أسرة إلا ولها أبناء وإخوة يذهبون ليتشربوا هذه السموم التي توضع في مناهج التعليم. هذه الفتنة خطيرة جداً، وتدرك آثارها على مدى سنوات، وليس في خلال ساعات، ودور المسلم لا يقتصر على الحسبلة والحوقلة، وضرب إحدى اليدين على الأخرى، والتواصي بالدعاء على فاتح الشرور الذي فتح هذه الفتنة في اغتيال عقول شباب المسلمين وأبناء المسلمين، فلابد من التحذير من هذه الفتنة. أعظم ما كان يهتم به نابليون حينما غزا مصر محاولة تغيير العقيلة المصرية التي صاغها الإسلام وصاغها القرآن والسنة، فأتى بمطبعة لأنه من خلالها يستطيع أن ينفث سموم أفكاره الغربية. كذلك الإنجليز حينما أتوا كان أهم وظيفة يؤدونها هي هدم التعليم، وذلك القسيس الكاهن الذي استجلب من بريطانيا لكي يخطط لهدم التعليم الإسلامي، ومخططه والمنهج الذي رسمه مسبقاً لمناهج التعليم في مصر ما زال مستمراً إلى الآن. وليس المقام مقام كلام تاريخي نفصل فيه محاولات اغتيال العقلية المسلمة التي تنشأ من خلال هذه المناهج، لكن ندخل مباشرة في الموضوع، ونحاول أن نلخص بعض المعالم الرئيسية في هذا الكتاب. يقول المؤلفان في بداية الكتاب: يتساءل المرء عن الأسباب والدوافع التي حدت بوزارة التعليم والأزهر إلى إدخال تغييرات على المناهج والمقررات تحت مسمى التطوير! وبهذه السرعة ودون روية! وأتساءل أيضاً عن القواعد والأسس التي تحكم هذا التطوير، وكل تغيير أو تطوير لابد أن تكون له دوافع وأسباب ينطلق منها، وأيضاً أهداف يسعى إليها! ونحن لسنا ضد التطوير، ولكننا نريده تطويراً حقيقياً ينطلق من عقيدة الأمة التي حددها الدستور -كذا قالا، ونحن نقول: التي حددها لنا رب العالمين ربنا تبارك وتعالى، ولا يضيرنا أن يوافق الدستور على هذا أو يخالفه- ثم ذكرا في الباب الأول اقتران الغزو العسكري بالغزو الفكري الذي يهدف إلى تخريب الشخصية الإسلامية عبر التعليم المنهجي والتثقيف العام، وبينا أنه رغم خروج الإنجليز من مصر لكن ظلت سياستهم التعليمية هي السائدة، ولم تتغير عن طريقها، ولم تحد أبداً، ثم يتكلم الكتاب عن حقيقة التطوير الحالي، والأصابع الخفية التي تقف وراءه.

أخطار ما يسمى بتطوير التعليم

أخطار ما يسمى بتطوير التعليم الأسباب التي دعت إلى الريبة في هذا التطوير، والأدلة ظاهرة على اتهام الأصابع الخفية وراء هذا التطوير، وبيان ذلك فيما يلي: أولاً: سعي هذا التطوير إلى طمس عقيدة الأمة، وتزوير هويتها، وتغريب تقاليدها خلسة ومن خلف ظهر الجميع. ثانياً: عدم صدور التطوير عن المتخصصين الشرعيين، بل صدوره عن جهات غامضة مجهولة تستمد نفوذها من الوزير مباشرة أو رئيس الوزراء المسئول عن الأزهر؛ وذلك بشكل فجائي، تليها خطوات جريئة بدون روية أو استطلاع أو تجريب أو استشارة مدرسي المواد والموجهين لهم أو المؤلفين أو الطلاب أو أولياء الأمور أو غيرهم. ثالثاً: العزوف عن برامج التطوير الحقيقية والمأمونة والتي تنبع من حاجات الأمة وتقاليدها. نفصل في الأمر الأول، وهو سعي التطوير إلى طمس عقيدة الأمة خلسة ومن خلف ظهر الجميع. قام التطوير بإدخال موضوعات تغريبية مع حذف عبارات وموضوعات إسلامية، بل وحذف كتب إسلامية بكاملها، كالتاريخ الإسلامي في المرحلة الابتدائية. وهذا بدون علم المؤلفين، أو مشورة المتخصصين، أو استطلاع رأي المعلمين أو غيرهم، فمن يا ترى هو الفاعل؟! رئيس لجنة التعليم بمجلس الشعب المدعو صوفي أبو طالب بعد أن ترك منصبه صرح لبعض الجرائد: أنه لم يشترك في وضع كتب التاريخ المقررة على تلاميذ المرحلة الإعدادية أو الثانوية، ربما أراد أن يبرأ نفسه من هذه الجريمة، وقال: إن وزارة التعليم كتبت اسمه في هذه الكتب بدعوى أنه شارك في وضعها، وأكد أنه سيلجأ إلى القضاء لتبرئته مما نسب إليه، وأشار بأن مناهج التاريخ شوهت التاريخ الإسلامي وزيفته، حيث وصفت بعض الصحابة بأنهم مشيعو الفتنة رغم أنهم من المبشرين بالجنة، وطالب بضرورة إعادة كتاب التاريخ الإسلامي، وتنقية المناهج المقررة من الأخطاء التي تشوه عقول الطلاب في المرحلتين الإعدادية والثانوية. فيتبرأ صوفي أبو طالب من التحريف الذي أدخل على الكتب الدراسية التي شارك هو في تأليفها، كما أعلن بأن حذف موضوع: دور العرب والمسلمين في الحضارة الأوروبية -يعني: تأثير الحضارة الإسلامية على النهضة الغربية- تم بدون علمه رغم أنه مشارك في تأليفه!!

نماذج من المؤامرة على التعليم بحذف ما يخدم الدين

نماذج من المؤامرة على التعليم بحذف ما يخدم الدين الأزهر ألغى مواد التفسير والحديث، وألغت وزارة التربية الآيات القرآنية التي تحث على الجهاد، وتوجب الحكم بما أنزل الله، وحذفت كثيراً من موضوعات كتب القراءة والتربية الإسلامية، ووضعت مكانها موضوعات تشجع على التعامل مع البنوك الربوية، وتروج لفكرة تنظيم النسل وغير ذلك كما سنبين إن شاء الله. ألغيت قصة عمرو بن العاص رضي الله عنه في الصف الثالث الإعدادي واستبدلت بـ غادة رشيد. أيضاً قررت حياة طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد مكان عبقرية عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي ذر الغفاري. بالنسبة للتربية الإسلامية في الجامعة: أقر فيها قصة (دانويل) والأمثلة كثيرة جداً، فتاريخ مصر الإسلامية ألغي ووضع مكانه تاريخ وطني مصر، فيخاطب التلاميذ ويقول لهم: آباؤك الفراعنة أجدادك الفراعنة وهكذا. أيضاً في المرحلة الإعدادية ألغيت معالم التاريخ الإسلامي ووضع مكانه مصر والوطن العربي. وفي المرحلة الثانوية ألغي تاريخ الدول الإسلامية إلى التاريخ الإسلامي والوسيط، والمقصود بالوسيط: دراسة تاريخ أوروبا في العصور الوسطى. وهكذا ألغي تاريخ صلاح الدين. فكل ما يربط الطالب بدينه حذف، وقرر بدله موضوعات عن الرقص والغناء والقمار وقيم الحياة الغربية. أيضاً مادة الفلسفة كان فيها تعليق إسلامي على ما في الفلسفة من شطط، فألغي هذا التعليق، وتركت الفلسفة هكذا تخرب عقيدة النشء. وهكذا أشياء كثيرة لا نطيل بذكرها. ويعلل المنشور الذي جاء فيه ذكر أسباب تطوير التعليم بقوله: إن دراسة هذه الموضوعات تثير قطاعاً عاماً في المجتمع. يشير إلى هؤلاء الذين يستعملون من أجل التنازل عن عقيدة الأمة وهويتها الإسلامية. ألغي اسم فلسطين من جميع الخرائط الجغرافية والتاريخية! وألغيت كتب التفسير والحديث من الأزهر لإخلاء الأمة معنوياً قبل تصفيتها جسدياً، كما تم مضاعفة المقررات الدراسية في التعليم العام والأزهر؛ وذلك لأجل تضخيم الجانب النظري على الجانب التطبيقي، بحيث الزيادة تصل إلى نسبة (100%) يقول: والعجيب والمدهش حقاً أن مديري المناطق الأزهرية عندما أثاروا هذه القضية في مؤتمرهم مع شيخ الأزهر يوم: 27/ ربيع الثاني/ 1410هـ قيل لهم: هذه المسألة غير قابلة للمناقشة! حتى قضية إلغاء مادتي الحديث والتفسير من الأزهر! فلابد من القطع بأن هذا التطوير أمر مريب جداً، وقد ذكر المؤلفان بعض الأمثلة مما فعله التطوير في التعليم العام والأزهر، ومما قالا: تم رفع آيات قرآنية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبار الرسل والأنبياء، والأناشيد الإسلامية، وأخبار الصحابة والتابعين من كتب القراءة المقررة على الصفوف الخمسة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي بوزارة التربية والأزهر، وكل ذلك بحجة التيسير على التلاميذ في حين أن ما تم حذفه لا يتفق مع تلك الحجة، فمثلاً: كتاب القراءة للصف الأول للتعليم العام والأزهري حُذف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) بحجة التيسير على الطلاب؛ لأن هذا الحديث صعب! وكأنه كتب باللغة الهيلوغرافية التي لا يعرفها الأطفال ولا المدرسون، ولكنهم خافوا من هذه الفائدة العظيمة التي تشوق الأطفال إلى تعلم كتاب الله عز وجل، وتحببهم في كلام الله، وتدفعهم إلى الانتظام في مصاف الأخيار: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). فأي صعوبة في هذا الحديث؟! وإذا سلمنا جدلاً بأن هذا الحديث صعب بالنسبة لهذه المرحلة فلماذا لا يقرر على مرحلة أعلى منها؟! لكنه حذف نهائياً. كتاب القراءة للصف الثاني في التعليم العام والأزهري الابتدائي فيه موضوع بعنوان: (أهلاً وسهلاً)، حذفت منه عبارة (السلام عليكم)، وكان في الأصل: (إذا مررت بجماعة أقول لهم: السلام عليكم) فحل محلها: (إذا مررت بجماعة ألقي عليهم التحية)! لماذا هذا الحذف؟! أليس (السلام عليكم) تحية الإسلام التي ألقتها الملائكة على آدم عليه السلام، وقال له رب العالمين: هذه تحيتك وتحية ذريتك: (السلام عليك ورحمة الله)؟! كيف تم لهذه الثلة الذليلة القليلة أن تلغي هذه الشعيرة الإسلامية الظاهرة حتى لا يعلم أطفالنا آداب إسلامهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟! أيضاً: موضوع الأصدقاء السعداء في الصف الثاني الابتدائي عام وأزهري، كان فيه: (الخصام لا يحبه الله ولا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، حذفت منه عبارة: (لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكأنه صعب على التلاميذ أن يعلموا أن الخصام لا يحبه رسول الله عليه الصلاة والسلام! كان الأولى بدل أن تحذف (ولا يحبه رسول الله) أن يضاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث). يوجد موضوع في الصف الثالث الابتدائي العام والأزهري يسمى: (النظافة من الإيمان)، حذفت منه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: (النظافة من الإيمان)، وحديث: (وتسوكوا فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)، وحديث: (بركة الطعام الوضوء قبله وبعده)، والحديث الأول لا يصح، والثالث ضعيف، ولكن بغض النظر عن هذا، فلماذا حذفت وهي تحث على آداب ما أحوجنا وأحوج أبنائنا إلى التحلي بها؟! موضوع: طبيب الأسنان، حذفت منه عبارة: (سوف ألتزم بنصائح معلمنا في استعمال السواك مع كل صلاة)، كان يتعلم منها الأطفال هذا الأدب، لكن حذفت لأن فيها الصلاة وفيها السواك! أيضاً موضوع: الشمس، حذفت العبارة التي تذكر بأوقات الصلاة، وكأن الصلاة عورة ينبغي لهم أن يخفوها ولا يظهروها!! موضوع: العطور، حذفت منه الفقرة التالية: (وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتطيب حين نذهب إلى المسجد للصلاة؛ لأن ذلك يجعل رائحة المسجد طيبة؛ ولهذا فإن معظم المصلين يوم الجمعة يتطيبون بالروائح العطرة أسوة بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ حذفت هذه الفقرة لأنها صعبة على عقول التلاميذ!! موضوع في الصف الرابع من بالتعليم الابتدائي والأزهري يسمى: شجاعة مصرية، يتكلم عن حرب العاشر من رمضان مع اليهود، حذفت منه العبارة الآتية من التدريبات: (احتلال العدو المحتل وهم اليهود للأراضي المصرية لا أرضى به إلى آخره)، حذفت هذه العبارة لأنها تشير إلى أن اليهود أعداء. أيضاً موضوع: وطني العربي، حذفت منه عبارة: (ويرتبط العرب بالتاريخ واللغة والدين)؛ لأنها صعبة على عقول التلاميذ، فهم لا يريدون أن يعلم التلاميذ أن هناك رابطة اسمها رابطة الدين. الأناشيد المحذوفة كثيرة، حذف نشيد: (الله ربي) في الصف الثاني من التعليم الابتدائي العام والأزهري، وهو: إن سألتم عن إلهي فهو رحمن رحيم أو سألتم عن نبيي فهو إنسان عظيم أو سألتم عن كتابي فهو قرآن كريم أو سألتم عن عدوي فهو شيطان رجيم حذفت هذه الأنشودة لأنها صعبة على عقول التلاميذ! أيضاً حذف نشيد دعاء: يا إلهي يا إلهي! يا مجيب الدعوات اجعل اليوم سعيداً وكثير البركات وأعني في دروسي وأداء الواجبات واحمني واحم بلادي من شرور الحادثات حذف هذا أيضاً! أيضاً: حذف نشيد: الصلاة في الصف الثالث من التعليم الابتدائي؛ لأنه يبدو لهم وكأنه كتب باللغة اللاتينية أو الهيلوغرافية وما يستطيع التلاميذ أن يفهموه، وهذا النشيد هو: بني توضأ وقم للصلاة وصل لربك تكسب رضاه إذا رضي الله عن مسلم نال السعادة طول الحياة بني توضأ وقم للفلاح ففي طاعة الله سر النجاح بني توضأ بماء طهور فماء الوضوء لوجهك نور إذا رضي الله عن مسلم أتاه الهناء ونال السرور فحذف هذا؛ لأنه صعب على عقول التلاميذ!! وحذف أيضاً نشيد: (رباه) وهو مليء وحافل بالمعاني الجميلة، وكذلك حذف من نشيد (الفتاة المصرية)، هذه الأبيات وهو في الصف الرابع من التعليم العام: يا فتاة ارفعي العلم وانشريه على الأمم وأعدي له فتى يجمع السيف والقلم هيئيه لعالم من كفاح ومن همم واطبعيه شجاعة واطمعيه من الكرم بنت مصر لا ترى في الجهالات والظلم حذف هذا حتى لا يكون للمرأة أو الفتاة أو البنت رسالة موضوعية هادفة تهدف إلى تنشئة الجيل المسلم. أيضاً: حذف نشيد التسبيحة، وهو كلمات فيها ذكر لله عز وجل للشاعر محمود حسن إسماعيل، يقول فيه: لك الملك والحمد أنت النصير وأنت الأمان لمن يستجير وأنت لمن قال يا رب نور ترد السكينة للحائرين وتسكب للروح نور اليقين وتمحو الأسى من ظلام الصدور إلهي وما لي دعاءٌ سواك ولا لي مع الليل إلا ضياك ولا عون للروح إلا لمداك إذا رفرفت كنت سر الدعاء إلى آخره، حذف هذا النشيد لأنه صعب على عقول التلاميذ! الموضوعات الإسلامية والتربوية الأخرى حذفت بكاملها من التعليم العام والأزهري، وهي تحوي نصوصاً قرآنية وأحاديث نبوية، وموضوعات تربوية إسلامية، كلها مما يحض على فعل الخير، وترهب الطلاب من فعل الشر مثل موضوع في الصف الثاني الابتدائي بعنوان: (البطل الصغير) يحث على الجهاد دفاعاً عن الإسلام، ومن عباراته قول قائد الجيش: (إن جيشاً فيه مثل هذا الغلام لا يمكن أن يهزم، ولابد أن ينتصر بإذن الله)، فحذف هذا الموضوع؛ لأنه صعب على عقول التلاميذ! حذف موضوع: (فاعل خير) يحض الطلاب على إماطة الأذى عن الطريق. موضوع: (الولد الشجاع)، يحكي قصة عبد الله بن الزبير، وكيف فر أقرانه من الصبية حينما قدم عمر فصمد هو، وسأله عمر: لماذا لم تفر مثلهم؟ فقال: ليس الطريق ضيقاً فأوسع لك. وهو كنموذج لشجاعة عبد الله بن الزبير، فحذف هذا. موضوعات كثيرة في الصف الثالث الابتدائي حذفت، منها موضوع: (الكعبة المشرفة)، وهو موضوع يعرف الطلاب ببيت الله العتيق، وقبلتهم التي يتوجهون إليها في الصلاة، ويطوفون حولها في الحج والعمرة، حذف من المنهج؛ لأنه صعب على عقول الطلاب!! وحذف موضوع: (العفو عند

نماذج من المؤامرة على التعليم بإدخال ما يطعن في الدين

نماذج من المؤامرة على التعليم بإدخال ما يطعن في الدين أما الموضوعات التي أضيفت فمنها: للصف الخامس الابتدائي موضوع: (التاجر والعفريت) مقتبس من قصص، (ألف ليلة وليلة)، ومعروف أن هذه الروايات تهدف إلى إفساد الشاب، وحضه على التحلل والمجون والفساد والاختلاط والاستغراق في الغناء وغير ذلك. وحرص مؤلف هذا الموضوع على تدعيم ارتباط الطلاب بهذه القصص عن طريق تكليفهم في نهاية الموضوع بقراءة كتاب: (ألف ليلة وليلة) من مكتبة المدرسة، وتلخيص مضمونه، وإذاعتها إلى غيرهم من التلاميذ! موضوع بعنوان: (نجيب محفوظ -لا حفظه الله- وجائزة نوبل) للصف الأول الإعدادي، لا يحتوي إلا على دعاية لعدو الله نجيب محفوظ وقصصه المنافية للإسلام وعقائده، ومن الخبث أنها جاءت أسئلة عن الموضوع تدعم هذا الاتجاه، يقول السؤال للتلميذ: اكتب قائمة بقصص نجيب محفوظ وعلقها على مكتبتك، ومنها: (أولاد حارتنا)، فهذه تثبت بدل قصة عمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الشرفاء العظماء. أيضاً: حتى يشجع الولد أن يجلس ويخالط النساء، يذكر نجيب محفوظ أنه كان يجلس مع والدته ويستمع إلى الحكايات التي تروى في مجالس النساء، فيأتي السؤال للتلميذ ليكمل الفراغ: تأثر نجيب محفوظ بالحكايات التي كانت تروى في مجالس؛ ليكتب التلميذ في الفراغ كلمة (النساء)؛ ليلفت نظره إلى الاستقراب من هذا النبع!! أضيف موضوع لـ نجيب محفوظ مقرر على ثالث إعدادي بعنوان: (أنا ابن حضارتين، يذكر فيه أن أخناتون كان نبياً، وأنه أول من هدى المصريين إلى الله تعالى، وأنه اخترع عقيدة التوحيد، وأنه وحد بعزمه جميع الآلهة في إله واحد هو: (آتون) أي: الشمس. ونسي إبراهيم عليه السلام ويوسف حينما كانا في مصر من قبل. قصة لـ نجيب محفوظ في الصف الأول الإعدادي بعنوان: (العجوز والأرض) يكرر فيها الدعاية لـ نجيب محفوظ فتقرر روايات وأفكار هذا الخبيث نجيب محفوظ، وتحذف مواقف عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين وغيرهم. قصيدة لـ نزار قباني بعنوان: (عند الجدار) وهذه أخيراً بضغط الشرفاء من المسلمين استطاعوا أن يحذفوها، لكن أين هذه من هذا الركام الهائل من هذه المؤامرة الخطيرة؟! وهي عبارة عن قصة غرام يبن طفل وطفلة، ويحكي كيف أن الطفل وقع في محبة هذه الطفلة، ويحكي هذا الماجن القذر نزار قباني ما يستحي الإنسان أن يتلفظ به. فيذكر أول نظرة بينه وبين هذه الطفلة أن هذا الطفل الصغير يقول: ليلتها عدت إلى فراشي، فطار قلبي، واستحال نومي، واحترقت مخدتي بناري، وأقبلت على الدموع أمي تقول: يا شقي! كيف تغشى زاوية الجدار دون علمي؟! وهذه قصة لمن هم في بداية البلوغ، تخيل كيف يشرب الأطفال مثل هذه المفاهيم؟! أما الشارح الخبيث فيشرح هذه الأبيات ويقول: وفي المساء حين ينتهي اللقاء ويدخل الطفل في فراشه يعتصره الألم لفراقها، وتسيل من عينيه دموع الحب البريء حرة غزيرة تكاد تحرق مخدته، وحين أبصرت أمه هذه الدموع أشفقت عليه وتألمت لحاله، فقد أحست أن نيران الحب قد أدركته. هذا ما يتعلمه الأطفال في أول إعدادي، فهذا هو التطوير، تطوير فتح الشرور للتعليم، هذه سهلة على عقول الأولاد! سهل أن تدركها وتكتسبها العقول وتحشى في عقول أبناء المسلمين! أيضاً: قصيدة أضيفت للمنهج في الصف الأول إعدادي للدكتور أحمد هيكل يمدح فيها طه حسين أعمى البصر والبصيرة، وهي قصيدة طويلة يقول له: أنت أدركت كل سر خفي بذكاء الإلهام قبل العيان وكأنه إله! فهذه هي البدائل! فبدل عمر بن الخطاب وصلاح الدين وعبد الله بن الزبير وعلي بن أبي طالب نأتي بـ نجيب محفوظ ونزار قباني وطه حسين وغيرهم! أيضاً: موضوع (شم النسيم) أضيف وسمي: (عيد شم النسيم). موضوع: (تحية إلى الأزهر) لـ أحمد شوقي في الصف الأول الإعدادي يقول في هذا الشعر: قم في فم الدنيا وحي الأزهر وانثر على سمع الزمان الجوهر واذكره بعد المسجدين معظماً لمساجد الله الثلاثة مكبرا هو يتكلم عن الأزهر ويقول: واذكره بعد المسجدين معظماً لمساجد الله الثلاثة مكبرا وفي الشرح يقول الشارح: إن المسجدين هما: المسجد الحرام والمسجد النبوي، أما ثالث المساجد فهو الأزهر، وفي الحديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام والأزهر!! مسجد الأزهر بني في عهد الدولة الفاطمية الشيعية، وهذا يقول: إن المسجدين هما: المسجد الحرام والمسجد النبوي، أما الثالث فهو الأزهر! فأين المسجد الأقصى إذاً؟! يقول المؤلفان في نهاية هذا العرض الموجز: فيا أمتنا! ويا شبابنا! ويا أيها المسئولون الذين حملتكم الأمة مسئولية تربية الأجيال وفق شريعة الله! هل هذا هو التطوير الحديث؟ إغفال الآيات من كتاب الله، والأحاديث النبوية، وجوانب من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم، يغتال كل ما يحض على الالتزام الديني والخلقي، ويضع بدلاً منها موضوعات أخرى مثل موضوع: (نجيب محفوظ وجائزة نوبل)، وقصة (العفريت) من (ألف ليلة وليلة)، وقصيدة نزار قباني، وشباب الأمة اليوم يعانون من أزمات نفسية قاتلة دفعتهم إلى فساد خلقي ذميم بدت صوره في شيوع المخدرات. الشيء الوحيد الذي غلبنا فيه العالم كله ما عدا أمريكا هو المخدرات، فمصر ثاني دولة في العالم في شيوع المخدرات!! قالا: بدت صوره في شيوع المخدرات، وتفشي المجون، والعدوان على الحرمات، والاستهانة بالقيم، وفقدان الإحساس بالمسئولية، إذا كان ذلك كذلك فما هي مناهج التعليم التي تعالج هذه الأحوال عند الشباب؟! هذا هو التطوير!

أمثلة على حذف مواضيع دينية من المنهج

أمثلة على حذف مواضيع دينية من المنهج المنهاج الجديد حذفوا (22) موضوعاً من الموضوعات الإسلامية الضرورية، وأتوا بديلاً منها خمسة موضوعات، فيكون الباقي 17 موضوعاً، وليست قضية حشو، وإنما المقصود منها: التخطيط ضد الإسلام، واغتيال عقلية الأولاد المسلمين. فهذه الإحصائية بالنسبة للصف الثالث الابتدائي، أما بالنسبة للصف الثاني الابتدائي فقد استبعد ثمانية موضوعات إسلامية ليست حشواً، ولكنها ذات أهمية قصوى للناشئة، فالتطوير متحيز ضد المواضيع الإسلامية. في بعض الكتب حذفت عبارة: (الإسلام وحسن الخلق) وتغيرت إلى (الأمانة من حسن الخلق)، وكلمة: (أنا مسلم) تحولت إلى: (أنا متدين)، هل هذا تطوير؟! حذفت آيات القرآن كلها بلا استثناء، حذفت أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقوق الوالدين، والإنفاق في سبيل الله. موضوع: (الفلاح الأمين) حذف منه الخبيث الذي كان ينقش بالملقاط في هذه المناهج عبارة: (خرج من الماء وهو يحمد الله ويشكر فضله عليه)، لماذا حذفت هذه العبارة؟! فلاح خرج من الماء وهو يشكر الله ويحمده، ما فيها حتى تحذف؟! فيها ذكر الله {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر:45]. أيضاً: في موضوع: (بور سعيد) بدل عبارة: (المعتدون من الإنجليز والفرنسيين واليهود) صارت: (المعتدون من الإنجليز والفرنسيين والإسرائيليين) بدل كلمة (اليهود)؛ لأن هذه فيها رائحة الدين. أيضاً: حذف التدريب الذي يكلف التلميذ بكتابة الحديث الشريف بخط النسخ وتعليقه في جدار الفصل. أيضاً بالنسبة للتعليم الأزهري حذف -تحت اسم التطوير في التعليم الأزهري- التاريخ الإسلامي كلية من التعليم الإسلامي بنسبة (100%)، ألغي تماماً تعليم التاريخ الإسلامي بالأزهر، وأصبح يدرس بدلاً منه تاريخ الفراعنة بدل التاريخ الإسلامي، حتى في الأزهر!! كما ألغي التاريخ الإسلامي من التعليم الإعدادي بنسبة: (75%)، وأصبح يدرس بدلاً منه تاريخ الوثنيات القديمة للوطن العربي، وهم لا يقولون: الوثنيات. أما التعليم الثانوي فقد حذف قدر كبير من كتاب التاريخ الإسلامي بعد أن أدمج فيه التاريخ الوسيط لأوروبا، حتى أن شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه صارت تدرس في سبعة أسطر فقط، وعثمان بن عفان في خمسة أسطر، حتى هذه الأسطر القليلة قد زيفت وحرفت وشوهت أشد ما يكون التحريف والتشويه. وبالنسبة للتعليم الابتدائي الأزهري في مادة التاريخ الإسلامي، ألغت وزارة التعليم والأزهر كتاب: (صور من تاريخ مصر الإسلامية) للصف الخامس الابتدائي، ويشتمل على التاريخ الإسلامي من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصر المماليك، وقرر بدلاً منه تاريخ الفراعنة واسمه: (وطني مصر) للصف الرابع الابتدائي، ويعاد تدريسه أيضاً في الفصل الأول الثانوي، واستبدل الغلاف الذي كان يحمل كلمة: (الله أكبر) ومعه صورة القرآن الكريم، استبدل بهذه الصورة: وطني مصر، عليها صورة الفراعنة!! هل يمكن أن يكون الذي عمل هذه الجرائم مسلم أو شم رائحة الإسلام؟! ألغي من التعليم الإعدادي العام والأزهري كتاب: (معالم التاريخ الإسلامي) للصف الثاني الإعدادي، وهو يشتمل على التاريخ الإسلامي من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصر المماليك، وقرروا بدلاً منه: (مصر والوطن العربي)، ويشتمل على الوثنيات القديمة التي سماها المؤلفون بالحضارات، وهي وثنيات ليست إلا قليلاً من الحجارة، وعرضوها في الفصل السابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر، أي: خمسة فصول، أما التاريخ الإسلامي فعرض بشكل موجز ومخل في الفصل الثاني عشر والثالث عشر فقط، علماً بأن تاريخ الحضارات القديمة يدرس أيضاً للصف الأول الثانوي، والذي يطلع على الفهرس يدرك أن المؤلفين قد تجاهلوا ذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما تجاهلوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم حتى في عنوان الدرس الخاص به!! أما المدارس الثانوية العامة والأزهرية فقد ألغي كتاب التاريخ الإسلامي للدول الإسلامية والعربية وحضارتها للصف الثاني الثانوي، وقرروا بدلاً منه كتاب: معالم التاريخ الإسلامي والوسيط يعني: تاريخ أوروبا في القرون الوسطى بعد أن اختصر التاريخ الإسلامي اختصاراً مخلاً.

تحسين صورة اليهود في المناهج

تحسين صورة اليهود في المناهج أيضاً هناك بعض اللقطات تبين تشويه وتحريف وتزوير التاريخ الإسلامي، حذف اسم (فلسطين) من جميع الخرائط الجغرافية والتاريخية، مثل خريطة سيناء في كتاب (وطني مصر). أغفل ذكر جميع أنبياء العرب: هود وصالح وإسماعيل وشعيب؛ وذلك جرياً على سياسة المستشرقين المعادين لكل ما هو عربي وإسلامي، فأي نبي عربي يلغى اسمه، لكن يبقى أنبياء بني إسرائيل، ونحن بحمد الله سبحانه وتعالى -عافانا الله من التعصب للعروبة وهذه الأشياء، لكن أقصد كشف هوية الذي خطط لهذا المنهج، وعرض تاريخ بعض الأنبياء في خمس صفحات، في حين عرض التاريخ الوثني القديم في خمسة وثلاثين صفحة في الصف الأول الإعدادي، وكأن وزارة التربية والتعليم تريد أن تجعل مساحة التاريخ الوثني في ذهن أبنائنا سبعة أضعاف تاريخ الرسل والأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام! وفيه أيضاً الطعن في أنبياء الله مثل قوله عن نبي الله سليمان بأنه كان مسرفاً، وهذا موجود في الصف الأول الثانوي. وكذا الادعاء بأن أخناتون هو أول من نادى بالتوحيد. أيضاً: الزعم بأن أول دين توحيدي هو الديانة اليهودية، لا يقولون: دين الإسلام أرسل به جميع الأنبياء، لكن يقولون: الدين اليهودي هو أول ديانة توحيدية ظهرت في هذه المنطقة. فأين رسالة نوح عليه السلام ومن جاء بعده من الأنبياء والرسل، وهل اليهودية رسالة توحيدية، والله عز وجل يقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وقال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]. أيضاً: مذكور في كتب التاريخ أن مكة كانت مركزاً للوثنية الأولى، في حين أن مكة كانت المركز الإسلامي الأول ففيها البيت الأول الذي بناه إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96]، والله عز وجل أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا هذا البيت بإذن الله، فهي مركز التوحيد في العالم كله، وأول مكان بني ليعبد فيه الله، فأول بيت اتخذ لعبادة الله وحده لا شريك له هو هذا البيت العتيق البيت الحرام، فكيف تكون مكة مركز الوثنيات وهي البؤرة التي شع منها التوحيد على أرجاء الأرض؟! عرض كتاب التاريخ الوصايا العشر لليهود على أنها نصوص حضارية، فهل اليهود قتلة الأنبياء هم المدافعون حقاً عن الله تعالى كما يذكر هذا الكتاب؟ وهل الله يحتاج إلى من يدافع عنه؟ وكيف يورد المؤلف نصوصاً من التوراة المحرفة في صفحتين في حين لم يورد من القرآن الكريم نصاً واحداً؟! فالتوراة أعز على المؤلف من القرآن الكريم!! إذاً: من هذه الأصابع الخفية التي هي وراء هذه المؤامرة الخطيرة جداً على مستقبل الأجيال القادمة، وهذا كله حتى يرضى عنا اليهود، وما أدري أين علماء الأزهر! كيف يدرسون الشباب صفحتين من التوراة المزورة ويلغى نص القرآن الكريم تماماً! الله المستعان.

تفريغ السيرة النبوية من مضمونها التربوي في المناهج المطورة

تفريغ السيرة النبوية من مضمونها التربوي في المناهج المطورة تم تفريغ سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من مضمونها التربوي، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم محمد كما يعرفها كتاب (مصر والوطن العربي): مناسبة سيرة الرسول لإقامة الزينات، وتوزيع الحلوى، وتعطيل المدارس والشركات والمصالح الحكومية! هذه هي سيرة الرسول، وذكرى الرسول، وأنا أنقل نص العبارات التي في الكتاب صفحة: (87 - 88 - 165) قال: مناسبة لإقامة الزينات، وتوزيع الحلوى، وتعطيل المدارس والشركات والمصالح الحكومية!! ولا يذكرون السيرة كمنهج تربوي وكتاريخ يعكس سيرة خير من وطئ الحصا عليه الصلاة والسلام عملاً بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. ذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عقيدة وعبادة وشريعة وجهاداً ومعاملات وفروض لا وجود لها في هذا الكتاب. أيضاً: الخبثاء تجاهلوا ذكر اسم النبي عليه الصلاة والسلام تماماً في الكتاب، أخزاهم الله! يقول: تجاهل مؤلف الكتاب اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم في فهرس الكتاب صفحة: (240)، بل وفي عنوان الدرس أيضاً!! أيضاً: -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يزعمون في هذه الكتب التي يدرسها أولادنا أن المدينة المنورة مدينة يهودية، وماذا يريد اليهود أكثر من هذا؟! أورد كتاب مصر والوطن العربي خريطة مكتوب عليها: يثرب مدينة يهودية، وهذا أمر خطير في كتاب يصدر في مصر من وزارة التعليم، وتربي أبناء الأمة على التسليم لليهود بأن لهم حقاً مزعوماً في المدينة المنورة! هذا الكتاب لعله صدر من إسرائيل، ولعل وزارة التربية والتعليم في إسرائيل أخطأت فصارت توزع الكتاب على الطلبة عندنا؛ لأن اليهود لا يحلمون بأكثر من هذا. أيضاً: من هذه الظواهر تفسير غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم تفسيراً مادياً ماركسياً، فعند أسباب غزوة بدر يقول مؤلف كتاب (مصر والوطن العربي): خرج بعض المسلمين لاعتراض قافلة أبي سفيان انتقاماً لأنفسهم. ويتجاهل السبب الأصلي الذي ذكره القرآن الكريم في قوله عز وجل: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، ما هو الهدف من الخروج؟ هو قوله عز وجل: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:7 - 8]. هل نصدق تفسير التاريخ أم رب العالمين؟! أيضاً يصور كتاب التاريخ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه معتد على اليهود، لا سيما يهود خيبر، فيبين قصة إجلاء الرسول عليه السلام ليهود خيبر دون أن يذكر السبب الذي أدى إلى إجلائهم، وهو خيانتهم للرسول عليه الصلاة والسلام، فكان الواجب على من كتب هذه الصفحات أن يذكر الأسباب التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال اليهود، وهي أنهم نقضوا العهود والمواثيق، وتآمروا على المسلمين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم. وتجاهل المؤلف أن اليهود قد كشفوا عورة امرأة مسلمة رغماً عنها في سوق بني قينقاع، هذا إذا صح الحديث، وقتلوا أحد المسلمين. تجاهل المؤلف أن اليهود حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في بني النضير، وأنهم دسوا له السم ولأصحابه في خيبر، ومات بعض من أكل من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ألبوا القبائل العربية لمهاجمة الدولة الإسلامية للقضاء على دين الله تبارك وتعالى الذي رضيه لهم: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. تجاهل كل هذه الأسباب التي أدت إلى إجلائهم وطردهم من خيبر. وفي الكتاب التطاول وسوء الأدب مع الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم لاسيما في موضوع الفتنة. وهذا الكلام ليس بجديد؛ لأننا كلنا تقريباً حفظناه في هذه المناهج الخبيثة منذ الصغر، مثل الكلام على مكانة ابن عمر ومعاوية وعائشة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وتزوير حقائق التاريخ.

تشويه تاريخ المسلمين وتمجيد تاريخ الوثنيين في المناهج المطورة

تشويه تاريخ المسلمين وتمجيد تاريخ الوثنيين في المناهج المطورة أيضاً: حينما حللوا نصر المسلمين في معركة من معارك القادسية على الفرس لا يقولون مثلاً: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، لكنهم يقولون: إن السبب هو أن المعركة كانت في الصحراء، والعرب كان لهم خبرة في القتال في الصحراء فقط، فهذا هو سبب النصر، وليس النصر في قوة العقيدة، ولا في المدد الإلهي من عند الله تبارك وتعالى!! أيضاً: في صفحة: (206) من كتاب التاريخ يقوم الفتوحات تقويماً ماركسياً مادياً، فالسبب وراء الفتوحات الإسلامية ليس نشر عقيدة التوحيد في ربوع العالمين، بل السبب هو: البحث عن الثروة والأرض والموقع، فهذه هي أسباب خروج المسلمين وتضحيتهم بأموالهم ودمائهم في سبيل الله، انتشروا في الأرض حتى يبحثوا عن الثروة والأرض والموقع، لا لكي تكون كلمة الله هي العليا، ولا لكي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، هذا لا وجود له على الإطلاق في كتاب: مصر والوطن العربي. أيضاً: الكتاب دائماً يستعمل عبارة انتصار العرب العرب العرب، ولا يذكر كلمة المسلمين. أيضاً: تشويه الخلافة الإسلامية، والتشكيك فيها وفي قادتها، كالقول: بأن نظام الحكم قبل الإسلام عند عرب الجاهلية أفضل من نظام الحكم عند الأمويين؛ لأن النظام الجاهلي كان يعتمد على الشورى، فانظر كيف يقترب إلى الطعن في الخلفاء المسلمين من هذا المسلك! أيضاً: يستعرض المؤلف حياة المجون والخلاعة عند الوثنيين القدماء المصريين، وكأنه يزينها ويدعو لها، فيصف الرقص وصناعة التماثيل بأنها فن رفيع ومحترم، كما عرض المؤلف لصنوف الرقص والخلاعة، وأغاني الحب والغزل، وألعاب الحرب وحياة الخمر والشراب الذي يقدمه الغلمان والفتيات على نغمات الموسيقى، ومشاهدة الراقصات أو الرقصات التي كان المؤلف يقول: إن المصري القديم كان يشارك فيها بكل جوارحه سواء كان غنياً أو فقيراً، كما عرض أنواع اللباس والزينة، والتكحل، وطلاء الشفاه، والعطور، وشرب الجعة وغير ذلك، وأضاف بأن كثيراً من الرجال كانوا يلبسون الأساور والقلائد، ولم يكتف المؤلف بذلك، بل عرض من الصور ما يؤيد أقواله، ويزين تلك السلوكيات لدى الطلاب والطالبات. أما الفلسفة فباختصار شديد أيضاً: نزعوا التعليقات التي يقولون عنها: شبه إسلامية. على مواد الفلسفة، وأبقوا الفلسفة كما هي حتى تشكك وتخرب عقيدة الشباب! ألغيت أيضاً الدراسات إسلامية بالنسبة للقسم الأدبي. كتاب التربية الوطنية للصف الثاني من التعليم الابتدائي العام والأزهري حذف منه موضوع: أثر الحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الأوروبية، في حين بقي موضوع أثر الحضارة الأوروبية في المجتمع المصري الحديث! حذف هذا الموضوع: أثر الحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الأوروبية الذي يعترف به مفكروا الغرب، ويقرون بأن الفضل يرجع إلى العرب فيما هم فيه من نهضة حين استلبوا مقومات هذه النهضة من الدولة الإسلامية في الأندلس وغيرها. وهذا الكتاب يدرس تحت مادة الدعوة والمجتمع الإسلامي. حذف من موضوع التآخي بين مصر والسودان عبارة: (إن العلاقة العضوية بين مصر والسودان هي وحدة العقيدة والتاريخ) فحذفت عبارة: (وحدة العقيدة والتاريخ). أيضاً: حذفت عبارة: (كان تاريخ الأمة العربية متشابهاً ومشتركاً منذ بداية انتشار الإسلام وحتى الحرب العالمية الثانية)، حذفت هذه العبارة؛ لأن فيها تذكيراً بالخلافة العثمانية الضائعة. حذف من صفحة (100) صورة الكعبة المشرفة، وتحتها عبارة: (الإسلام هو الذي يمثل القوة الروحية بالنسبة للقومية العربية)، وحذفت أيضاً هذه العبارة، وكأن العرب لهم قيمة بدون الإسلام! حذفت أيضاً عبارة: (إن قيام الخلافة الأموية بالأندلس، والخلافة الفاطمية بمصر بجوار الخلافة العباسية أدى إلى انهيار الخلافة الإسلامية، وتفتيت العالم الإسلامي، وتحويله إلى دويلات صغيرة) حذف كل هذا حتى لا يعرف الطلاب شيئاً اسمه الخلافة. حذفت عبارة: (قامت الدول الأوروبية والأمريكية بزرع جسم غريب داخل الوطن العربي وهو إسرائيل). شيخ الأزهر يدرس هذه المادة تحت عنوان: (الدعوة والمجتمع الإسلامي)، كان يوجد فيها عبارة: (من الأعمال المحرمة: الرقص في الموالد وخروج النساء خلف الجنائز) فحذفت عبارة: (المحرمة) وبقيت: (الرقص في الموالد وخروج النساء خلف الجنائز). أما منهج اللغات الأجنبية فالكلام الذي فيها لا أستطيع أن أقرأه؛ لأنه كلام خارج عن الشرع والآداب إلى أبعد الحدود، فما أستطيع أن أنقل العبارات الموجودة في الكتب التي تدرس على البنات والصبيان في مراحل التعليم المختلفة.

إفساد العقائد والأخلاق بالقصص الباطلة في المناهج المطورة

إفساد العقائد والأخلاق بالقصص الباطلة في المناهج المطورة أيضاً: في مناهج التعليم العام قصة غادة رشيد التي جعلوها بدل قصة عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهي قصة تاريخية مطعمة بقصص الحب والغرام، للصف الثالث الإعدادي، وباختصار شديد القصة تدور أحداثها في أيام الغزو الفرنسي لمصر، وكيف أن هذه البنت أحبها القائد الفرنسي إلى آخر هذا الكلام، والقصة محشوة بالإلحاد في صفات الله، وفي القدر، وفي العقيدة، ففيها مثلاً: (سمعت قهقهة القدر وهي تجلجل في شماتة وسخرية)، وتقول أيضاً: (لا يا زوجي الباسل إن شيئاً في الأرض أو في السماء لن يحول بيني وبينك)، وفيها شخص يتحدث عن أهمية اللهو والمرح؛ لأنه يريح النفس من عناء العمل، فيرد عليه شخص آخر ويقول له: وأين هنا السبيل إلى اللهو في مدينة نصفها مساجد، ونصفها في الرهبان والراهبات في الصوامع! وهذا تنفير للنشء من المساجد وعبادة الله تبارك وتعالى، وادعاء أن الدين يحرمهم من الترويح عن النفس. وفي القصة تشويه للمجاهد سليمان الحلبي، وأنه كان حائر العينين، رث الثياب، عصبي المزاج، يكثر من هز رأسه في حزن واضطراب إلى آخره، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيضاً: فيه وصف الفتاة العصرية بوصف سيء جداً، وبذيء لا تصح حكايته. أيضاً: قصة أحلام شهرزاد لـ طه حسين مقررة على الصف الأول الثانوي، وهي تحتوي على كثير من التعبيرات الخرافية التي تتنافى مع التوحيد، ولا أستطيع قراءة كل هذا الكلام القذر، ولكن من هذه العبارات يقول طه حسين: حتى إذا بلغها -يعني: هذه المحبوبة المعشوقة- جثا أمامها -يعني: ركع- غاضاً بصره إلى الأرض، رافعاً يديه إلى السماء كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال! كيف يتقرب مؤمن إلى التمثال؟! هل هذا هو الإيمان؟! هذا كلام عدو الله طه حسين: حتى إذا بلغها جثا أمامها، غاضاً بصره إلى الأرض، رافعاً يديه إلى السماء كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال، وهي تضع يدها على رأسه كأنها تبارك عليه! هكذا يريدون أن تكون تربية أولادنا. كذلك في مناهج الإنجليزي كلام سيء لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة الترجمة؛ لأنه كلام يخدش الحياء جداً. أيضاً: تشويه قصة خديجة بنت خويلد، والكلام عنها بطريقة سيئة جداً، فالكتاب يذم المرأة المتزوجة التي تحسن التبعل، وتقر في البيت، وتكون سكناً لزوجها، وتحسن تربية أولادها، ويصفها أنها مخلوق استبد به الرجال، وأرادوا له أن يكون ضعيفاً سجيناً في أيديهم، يأكل ويلد كما تأكل الحيوانات وتلد، ويجعل هذا هو الدور الذي يريده الإسلام من المرأة المسلمة، وهذا غير صحيح، فالإسلام يريد من المرأة أ، تربي لنا مثل صلاح الدين من جديد الذي حذفتم سيرته، وسيرة عمر بن عبد العزيز وعمر بن الخطاب، هذه هي وظيفة المرأة المسلمة. ويعرضون في كتب اللغة الإنجليزية بالذات صورة المرأة المنحلة الغارقة في المحرمات والرقص والخمور من خلال فصول تدريس اللغة الإنجليزية، هذه هي المرأة التي يريدونها بدل المرأة التي تقر في البيت، وتحسن خدمة زوجها، وتربية أولادها. أيضاً: كلام في منتهى سوء الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسلام في قصة خديجة، وسأذكرها لكم، فحكاية الكفر ليست بكفر، يصف هذا القذر خديجة رضي الله عنها في عشرين جملة ذاكراً صفاتها الجسدية، يقول: فوقف وحياها -يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم -وحين رأت محمداً تذكرت ذلك الحلم، وأحست -أعوذ بالله- أنها أمام فتى داهية -أستغفر الله- تمالكت شعورها إلى آخر هذا الكفر، لا يوجد احترام لأم المؤمنين رضي الله عنها. أيضاً: عبارة أخرى: جئت أهنئك بسلامة العودة، وتقول له: ألا تحس الوحشة يا محمد؟! إلى آخر هذا الكلام، يكذبون على رسول الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

تمجيد الفراعنة في المناهج المطورة

تمجيد الفراعنة في المناهج المطورة كان يدرس كتاب للصف الأول الثانوي من تأليف الدكتور عبد الله شحاته ألغي وتقرر بدلاً منه كتاب من تأليف الدكتور عبد المنعم النمر، ومن معالم هذا الكتاب إلغاء الآيات التي تتحدث عن فرعون وطغيانه. كتاب التاريخ الجديد الذي هو كتاب: (وطني مصري) للصف الرابع الابتدائي يصف فرعون بأنه كان محبوباً عند الناس إلى درجة العبادة، وأن هذا الحب ممتد عبر التاريخ إلى يومنا هذا. وحينما يتحدث عن مينا قال: حزن المصريون على مينا، وظلوا يعبدونه مئات السنين، وما زالوا يعظمونه حتى اليوم، فيطلق بعضهم اسمه على أبنائه؛ لما قدمه لمصر من أعمال جليلة كتوحيد القطرين.

نماذج من التضليل فيما يسمى بالتطوير

نماذج من التضليل فيما يسمى بالتطوير ألغيت السورة التي توجب تطبيق الشريعة، وتسمى سورة الشريعة، وفيها قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، فقد كانت مقررة فألغيت. أيضاً: ألغي الحديث النبوي الذي يحث على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ويبين أنه ذروة سنام الإسلام، وأن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر؛ لأنها تتعارض مع مناهج اللغة الإنجليزية الجديدة التي يتعلمها الأولاد، والتي تحض الشباب والفتيات على الرقص، ولعب القمار، والخمر، والحب والغرام، وغير ذلك من أنواع الانحراف التي هدف إليها التطبيع مع أعداء الله اليهود، وهم منطقيون في ذلك، كيف يكون جهاد في سبيل الله، وكلمة حق عند سلطان جائر، والمناهج تحتوي على الحث على الخمور والبيرة والميسر والسياحة؟! وحذفت عبارات تبين أن الخمر يفسد العقل والدين، وأن الله حرم علينا الزنا، والربا، وعقوق الوالدين، وشرب الخمر؛ لأن هذا تطرف! أيضاً: حذف حكم الشرع في وجوب حجاب المرأة في صفحة مائة وعشرة؛ لأن كتاب اللغة يتضمن الدعوة إلى السفور والتبرج والفواحش، وقرن بصور فتيات كاسيات عاريات من الفتيات الإنكليزيات أو غيرهن، وهي صور ملونة، وفي أحسن وأفخم طباعة؛ فلذلك حذف موضوع بيان أن الحجاب واجب على المرأة المسلمة. حذفت الشخصيات الإسلامية كـ عائشة وأبي حنيفة، وتقرر مكانها الشيخ شلتوت والشيخ عبد الحليم محمود والسيد البدوي، يقول في الكلام على السيد البدوي: في بغداد أرواح آل البيت رضوان الله عليهم وأرواح أولياء الله على اختلاف درجاتهم، فهذا ضريح معروف الكرخي، وضريح كذا وكذا هذا هو البديل، وهذا هو التطوير! ويقول: في طنطا أخذ البدوي ينظم الدعوة من فوق السطح، لقد كان السطح معهداً وجامعة للدعوة، وجامعة السطح جامعة عالمية، والذين حملوا لواء الدعوة في ربوع مصر وأرجائها كانوا من جامعة السطح! وكأن هذه الكلمة مأخوذة من كلمة سطوحي، قال: وأيضاً: من أصحاب السطح الشيخ علي الكندراوي والشيخ عويس المصري، وكان السطح معهداً وجامعة وندوة، وقد تم للسيد البدوي رضي الله عنه تحقيق كل ذلك من فوق السطح!! هذا هو السطح في حقيقة الأمر وواقعه، فيغيروا اسم جامعة طنطا بجامعة السطح! وبيان حال السيد البدوي ليس محله الآن. وفي موضوع تنظيم الأسرة لم يذكروا حديث: (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)، لكن الذي يرضي السيد الأمريكي العبارة الجديدة التي وضعوها وهي: (إن تنظيم الأسرة معناه تقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تمكن الوالدين من القيام برعاية الأبناء رعاية كاملة، وهذا حلال، والدليل على أن هذا حلال أننا نعيش عصر التنافس بالاختراع والابتكار لزيادة الإنتاج لا عصر زيادة الأفراد)! والله! ما يقض مضاجعهم إلا كثرة عدد المسلمين. أيضاً: في منهج التربية الإسلامية الموسيقى والغناء، داخلان ضمن مادة التربية فيقول المؤلف: ليس هناك من يضيق بالوسط الفني اللطيف، وقال أيضاً: إن شحنات العواطف التي تدفعها الألحان وأصوات الموسيقى في كياننا وأعصابنا رياضة نفسية، وتربية عقلية، ويستشهد بحديث (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)!! وفي كتب اللغة الإنجليزية عملوا نموذج اختبارات صفحة مائة وثلاثة وأربعين، فيها الكلام على السنجر يعني: المغني أو المغنية، وكتبوا أسئلة باللغة الإنجليزية: أخبرنا عن اسمه أو اسمها من المغنيين أو المغنيات، ويذكر الاسم والسن، وهل هو متزوج أو عزب؟ والمقصود المغني أو المغنية الذي أنت تحبه. السؤال الثاني عن المستوى الثقافي، ونوع الأغنيات، وسلوكه، وتعليمه. السؤال الثالث: لماذا تحبه أو تحبها؟ ويجعلون بين قوسين اختار مثلاً: السلوك أو القوة الشخصية وهكذا وهذا خطر؛ لأن عقول الأطفال سوف تستسيغ مثل هذه السموم، كيف ندرس الأطفال أسماء المغنيين والمغنيات، وأحوالهم الشخصية؟ وماذا يأكلون؟ وما هو سر إعجابك بها أو به؟ والطفل سيختار مغنية! والبنت ستختار مغنياً! أيضاً: إلغاء الآيات التي تؤكد على تطبيق الشريعة، وحذف الشروح التي تؤكد أن تطبيق الشريعة واجب وفريضة كقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:18 - 19]. لو حذفوها فهل ستذهب من قلوب المؤمنين؟ كلا، هي تنادي عليهم بالويل والثبور: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ). حذف عنوان: (وجوب الحكم بما أنزل الله) وحذفت منه الآيات التي فيها الحكم بما أنزل الله، مثل قوله تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. حذفت سورة الفتح التي تنبه بأن عاقبة المنافقين البوار والهلاك؛ لأنهم لم يستجيبوا لأوامر الله وشرعه. حذف موضوع: مصادر الشريعة: القرآن والسنة والاجتهاد. حذف مراحل تدوين السنة، وكتب الحديث المشهورة، وشروط الاجتهاد، وأشهر المجتهدين.

تحليل الربا في المناهج التعليمية

تحليل الربا في المناهج التعليمية تحول درس الربا في الكتاب الجديد إلى إعلان دعائي للبنوك الربوية تحت عنوان: (التعامل مع البنوك ضرورة قومية) ولم يذكر دليلاً من كتاب أو سنة أو أقوال الفقهاء إلا فتوى للشيخ شلتوت كان قد رجع عنها وتاب منها وهو على فراش الموت كما حدث بذلك غير واحد، منهم الدكتور عبد الودود شلبي، وسمعت الشيخ عيسى عبده رحمه الله يقول: إن الشيخ شلتوت تبرأ وندم وتاب من هذه الفتوى في تحليل التعامل مع البنوك الربوية. أيضاً: هذا الموضوع بدلاً من أن يتحدث عن الربا وأحكامه صار يدافع عنه، وقال: إن الحرام هو ربا الأفراد كما يقول مفتي البنوك، والأدلة التي أحل بها الربا هي قوله: البنوك هيئات منظمة لما يكون بين الأفراد، ويقول: ولو ألغينا البنوك فما البديل؟ هذا يعطى لعقول الشباب، وفيه تجاهل البدائل الإسلامية الكثيرة في باب البيوع، ويقول: إن البنوك شيء دعت إليه ضرورة العصر، ويقول: إن تحديد الربح سمة عامة لبنوك العالم، فكل بنوك العالم تفعل هذا، وأما الادخار القومي فهو إجباري إلى آخر هذا التدليس والخيانة. أيضاً: معاملات أخرى غير مشروعة أغفلها الكتاب الجديد كانت موجودة في الكتاب القديم. أيضاً: موضوع الرشوة حذف منه الحديث الشريف: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما)، ألغي هذا لأنه صعب! نعم هو صعب على جيوبهم، وألغي الشرح الذي كان فيه عبارة: (الرشوة حرام تحت أي مسمى هدية هبة عمولة سمسرة) كما حذف الحديث النبوي: (كل ما نبت من حرام فالنار أولى به). موضوع البركة في الصدق حذف منه حديث: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما). أيضاً: حذفت الأنشطة المصاحبة التي كانت تهدف إلى أهداف تربوية عالية. حذف موضوع: الرسول هو المثل الأعلى في الحياة الاجتماعية.

التوجه العام لما يسمى بتطوير التعليم

التوجه العام لما يسمى بتطوير التعليم إن المطلع على الموضوعات التي حذفت في كتاب التربية الإسلامية، وكتب التفسير والحديث، حتى من مناهج الأزهر يدرك أن هناك توجهاً عاماً يهدف إلى حذف المفاهيم الآتية: 1 - إن الإسلام نظام حياة شامل، وصالح لكل زمان ومكان. 2 - وجوب تطبيق الشريعة. 3 - وجوب الجهاد في سبيل الله. 4 - وجوب تحريم الربا تحريماً قاطعاً. 5 - وجوب تحريم الخمر تحريماً قاطعاً. أيضاً: تعدى هذا إلى حرمان مادة التربية الإسلامية من مدرسها الطبيعي، بينما مادة التربية الفنية أو الموسيقى لا يُدرِّسها إلا المتخصصون، ويفرض لها معاهد وكليات لتخريج هؤلاء المتخصصين، يقول: والأدهى من ذلك أن التطوير الأخير قام بتحويل دور المعلمين والمعلمات إلى كليات نوعية تقتصر على تخريج المتخصصين في التربية الفنية والموسيقى دون التربية الإسلامية أي: أن تطوير هذا الدور لم يضف شيئاً جديداً أكثر من إضعاف تخصص التربية الإسلامية، وجعل التعليم فيه مختلطاً، وبذلك وضعت بذرة الفساد والإفساد في هذا الحصن المنيع. والأكثر غرابة من هذا أن وزارة التربية أصرت على تطوير يتشدد في تعيين خريجي كليات الشريعة وأصول الدين لتدريس مادتهم التربية الإسلامية، ويكلف تدرسيها غيرهم من مدرسي اللغة العربية، أما المتخصصون فيتركون ليعانوا البطالة! أيضاً: الإصرار على حرمان طلبة الجامعات والمعاهد من دراسة الثقافة الإسلامية!

مآسي تطوير منهج الأزهر

مآسي تطوير منهج الأزهر أول تطوير لمنهج الأزهر كان في سنة: (1961) في النكبة الأولى التي نكب بها الأزهر في عهد عبد الناصر، أما التطوير الحديث في عهد فاتح الشرور هذا فهو أعظم خاصة بالمعاهد الثانوية القسم العلمي، فقد أدمجت مادة التفسير مع مادة الحديث، وخفضت حصصهما من أربع إلى اثنتين للصف الأول والثاني، ومن ثلاث إلى اثنتين للصف الثالث والرابع. وخفضت حصة الفقه من ثلاث إلى اثنتين. خفضت حصص النحو والصرف من ثلاث إلى اثنتين، ألغي من القسم العلمي ثلث المواد الشرعية واللغة العربية وأضيفت حصصهما إلى الرياضة والعلوم واللغة الإنجليزية. ألغيت مادة الحديث من الصف الأول الثانوي. تجريد مادة الدعوة والمجتمع الإسلامي عن منهجها. ألغيت حصة التجويد، وألغيت مادة التفسير والحديث، وهكذا أشياء لا تقل ضراوة عن الذي مضى. ومن ذلك حذف الموضوعات التي تحث على الجهاد في سبيل الله، وتنوه بعاقبة المجاهدين وصفاتهم، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] إلى آخر الآية. أيضاً: نفس الخطط نفذوها في المعاهد الابتدائية، ومعاهد المعلمين، ومعاهد القراءات الأزهرية، فقد ألغيت مواد التفسير والحديث والمجتمع الإسلامي والعروض، وخفضت حصص التجويد والفقه إلى آخره. هذه بعض الملامح العامة، والموضوع يحتمل أكثر من ذلك، ولكن نكفي بهذا الاستعراض العابر لهذا الكتاب المهم جداً. ويجب على الإخوة أن يهتموا بتنبيه الآباء، ومراعاة أولادهم، وبث الأشياء المضادة لهذه السموم؛ حتى يبرأ الأبناء من هذا الخطر الداهم الذي يدبر من وراء الستار، ونسأل الله عز وجل أن يكفينا والمسلمين جميعاً شرورهم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

مفاتيح الرزق

مفاتيح الرزق مفاتيح الرزق المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة، فيها يستغني المسلم عن طلب الرزق بالمعصية، وفي هذه المادة ذكر عشرة أسباب لذلك، وهي مفصلة بأدلتها الواضحة.

ضمن الله الرزق لكل مخلوق حتى يأتيه أجله

ضَمِن الله الرزق لكل مخلوق حتى يأتيه أجله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، رواه أبو نعيم في الحلية، وحسنه الألباني. فهذا الحديث يدل على أن المرء يرزق رغم أنفه، وإذا كتب الله سبحانه وتعالى له الرزق فلن يفوته ولن يضيع عليه ما دام قد ضمنه الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد ضمن لنا الرزق حين قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، ثم لم يكتف بالضمان حتى أقسم على ذلك فقال عز وجل: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] قال: الحسن البصري رحمه الله تعالى: لعن الله أقواماً أقسم لهم ربهم فلم يصدقوه. والموضوع الذي نتعرض له اليوم هو استعراض لرسالة مباركة نافعة من تصنيف الدكتور فضل إلهي كما سبق أن درسنا له أيضاً رسالة أخرى في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرسالة هي (مفاتيح الرزق في ضوء الكتاب والسنة)، جمع فيها كثيراً من الأسباب التي هي أسباب حقيقية لاستجلاب الرزق والبركة فيه. لقد ضمن الله سبحانه وتعالى الرزق وسبق به قلم المقادير، إلا أن كثيراً من المسلمين يشتغلون بهذا المضمون على حساب غير المضمون، فالرزق مضمون، وأما النجاة في الآخرة ودخول الجنة فليست مضمونة؛ لأنها متوقفة على سعي العبد، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فنعجب أن كثيراً من الناس إذا طلب منه بأن يكف عن اللهث وراء الدنيا التي تشغله عن الطاعة وعن العبادة؛ فإنه يتحدث عن الرزق والكسب، وضرورة أن يسعى الإنسان في طلب رزقه، مع أن الرزق مضمون، والنجاة في الآخرة غير مضمونة، بل النجاة متوقفة على الاجتهاد في العمل الصالح. وبعض الناس يرون أن تمسكهم بدينهم قد ينقص من أرزاقهم، بل إن بعض الملتزمين الذين يحافظون على الفرائض الإسلامية ربما يظنون أيضاً أنه لا بد أن يغضوا الطرف عن بعض الأحكام الإسلامية من أجل المحافظة على الرخاء المالي، فينسون أو يتناسون أن الله سبحانه وتعالى حينما شرع دينه فإنما يريد إرشاد العباد إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، وليس في الآخرة فقط، فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، فالله سبحانه وتعالى لم يتركنا نتخبط في الظلام ونبقى في حيرة من أمرنا عندما نسعى إلى طلب المعيشة، بل شرعت أسباب الرزق وبينت، ولو فهمتها الأمة ووعتها وتمسكت بها وأحسنت استخدامها ليسر الله سبحانه وتعالى لها الرزق، والله هو الرزاق ذو القوة المتين.

أسباب سعة الرزق والبركة فيه

أسباب سعة الرزق والبركة فيه

الاستغفار والتوبة

الاستغفار والتوبة ونحن لن نتكلم عن الأسباب المادية الأخرى؛ لأنه يستوي في العمل بها المؤمن والكافر والبر والفاجر، بل فتنة الناس إلا ما رحم الله هي في انشغالهم بطلب الدنيا إلى حد يلهيهم عن الآخرة، فنحن لن نتكلم عن الأسباب الطبيعية؛ لأن الناس ليسوا محتاجين إلى من يحثهم على هذه الأسباب، وهي معلومة للجميع، ويحرص عليها الجميع، لكننا سنقف عند الأسباب الحقيقية القلبية والدينية التي يجهلها أكثر الناس، بل لا يعتقدون تأثيرها في باب طلب الرزق، فنحن هنا نثبت السبب أولاً ثم نذكر الأدلة على أنه مفتاح من مفاتيح الزرق. يبدأ المصنف بعد المقدمة في ذكر أول أسباب الرزق، فمن أراد أن يستجلب الرزق الحلال المبارك فأول ما يستنزل به ذلك الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى: فالاستغفار والتوبة من أسباب الرزق، وليس المراد مجرد الاستغفار والتوبة باللسان كتوبة الكذابين، لكن الاستغفار والتوبة لا بد أن يكونا من القلب، وينعكس أثرهما بعد ذلك على الجوارح. يقول الراغب الأصفهاني: التوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزم على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل فرائض التوبة. وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله -لا تتعلق بحق آدمي- فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية وألا يتمادى على الذنب، يعني: فمن لم يترك المعصية فأين التوبة وحاله يكذب مقاله؟! الثاني: أن يندم على فعلها. الثالث: أن يعزم -يعني: في المستقبل- على ألا يعود إليها. فإذا فقد أحد هذه الثلاثة الشروط لم تصح هذه التوبة. وإذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فيضاف إلى هذه الشروط شرط رابع، وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كان مالاً رده إليه، وإن كانت مظلمة ونحوها مكنه من القصاص أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحلها منه. أما الاستغفار فهو طلب المغفرة بالمقال والفعال، يقول تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، فلم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان فقط، بل بالقول وبالقلب، قيل: الاستغفار باللسان من دون الفعال من فعل الكذابين، فاستغفار الكذاب أن يستغفر بلسانه وهو متماد في معصية الله تبارك وتعالى. الأدلة على أن الاستغفار والتوبة من الأسباب التي يستنزل بها رزق الله سبحانه وتعالى كثيرة منها: قوله عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]، وهذه الأفعال كلها واقعة في جواب الأمر: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، والمعنى: إن استغفرتم ربكم يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً. فلابد أولاً أن يتحقق الاستغفار، (استغفروا ربكم) أي: اسألوه العفو والمغفرة، (إنه كان غفاراً)، فسوف يقبل توبتكم ويغفر لكم (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)، أي: ينزل عليكم المطر يتبع بعضه بعضاً، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ)، أي: يكثر لكم أموالكم وأولادكم، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)، أي: بساتين وأنهاراً. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: في هذه الآية والتي في هود، وهي قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:52] دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: إذا تبتم إلى الله تعالى واستغفرتموه وأطعتموه كثّر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأخرج لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين: أي: أعطاكم الأموال والبنين والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمر، وخللها بالأنهار الجارية بينها. وقد تنفس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما جاء في هذه الآيات حينما صلى بالمسلمين صلاة الاستسقاء، فقد روى مصرف عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما سمعناك استسقيت! -يعني: ما قلت: اللهم اسقنا، وهي صلاة استسقاء، فلماذا اقتصرت على الاستغفار؟ - فقال: طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر). المجاديح: أنواء معينة من النجوم كانوا يعتقدون أنها من الأنواء الدالة على المطر، فهو هنا يخاطبهم بما يعرفون، لا أنه يعتقد أن الأمطار تكون بالأنواء. ثم قرأ عمر رضي الله تعالى عنه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:10 - 11] إلى آخر الآيات. كذلك أمر الحسن البصري رحمه الله تعالى بالاستغفار كل من جاء إليه شاكياً الجدب أو الفقر أو قلة النسل أو جفاف البستان، قال الربيع بن صبيح: شكا رجل إلى الحسن القحط والجفاف، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله! قال: فقلنا له في ذلك. يعني: سألوه ما سر هذا؟! لماذا لا تنصح هؤلاء إلا بالاستغفار مع تنوع حاجاتهم؟! قال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أنواعاً من البلاء فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]. ومثل هذه الآيات قوله تبارك وتعالى حينما قص علينا دعوة هود عليه السلام قومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52] فأمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير ما مضى من الذنوب، والتوبة عما يستقبلون، فمن اتصف بهاتين الصفتين يسر الله سبحانه وتعالى له رزقه، وسهل أمره، وحفظ فعله، ولهذا قال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52]. ومثلها أيضاً قوله تبارك وتعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3]، (يمتعكم متاعاً حسناً)، أي: يتفضل عليكم بسعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم. وقد رتب الله هذا الجزاء على الاستغفار والتوبة. ومما يدل أيضاً على كون الاستغفار والتوبة من مفاتيح الرزق: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكثر الاستغفار، وفي رواية: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء وحسنه بعضهم. (من أكثر الاستغفار): من غلب عليه كثرة طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى عند صدور معصية أو ظهور بلية. أو: (لزم الاستغفار): داوم عليه فإنه في كل وقت محتاج إليه، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) يعني في الآخرة، وكأنه عليه السلام لم يقل: طوبى لمن استغفر كثيراً؛ لأنه يشترط في الاستغفار حتى ينفع الإنسان أن يكون مخلصاً، ولا يثبت في الصحيفة إلا الاستغفار الذي صدر عن إخلاص وعن صدق وعن توافق بين القول والعمل، فلذلك قيده بأن يجد ذلك في صحيفته، وليس بمجرد صدور الاستغفار عنه، فقوله هنا: (من أكثر الاستغفار أو من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً)، أي: جعل له من كل غم يغمه خلاصاً، (ومن كل ضيق مخرجاً)، أي: من كل شدة ومحنة طريقاً واسعاً يخرجه إلى سعة وفسحة، (ورزقه من حيث لا يحتسب) يعني: رزقاً حلالاً طيباً من حيث لا يظن ولا يرجو ولا يخطر بباله.

التقوى

التقوى تقوى الله عز وجل من الأسباب التي يستنزل بها رزق الله سبحانه وتعالى، وقد كثرت تعاريف العلماء للتقوى، قال الراغب الأصفهاني: التقوى حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات. وعرف الإمام النووي تقوى الله بقوله: امتثال أمره ونهيه، فهي الوقاية من سخطه وعذابه سبحانه وتعالى، وذلك بأن يفعل الإنسان أفعالاً تكون وقاية وحائلة بينه وبين النار. أما الجرجاني فعرفها بقوله: الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك. فمن لم يحفظ نفسه عما يؤثمه فليس بمستقيم، فمن شاهد بعينيه ما حرمه الله تعالى فمعنى ذلك أنه أزال الحجاب بينه وبين النار، واستحق عذاب الله؛ لأنه لم يتق الله، ولم يكف عينه عن ارتكاب الذنب الذي يسخط الله، فمن ارتكب المعصية فقد أزاح هذا الحجاب واقتحم بنفسه النار. وهكذا من سمع بأذنيه ما يغضب الله تعالى، أو بطش بيديه فيما لا يرضى الله تعالى، أو مشى إلى ما يمقت الله تعالى، فهذا لم يعصم نفسه من الإثم ولم يتق الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين، قال الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، حتى الأنبياء أمروا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]. أما كون التقوى من أسباب الرزق فدليل ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3]. فنريد أن نرسخ هذه المفاهيم في قلوبنا، فالناس الذين يهجمون على الحرام خشية أن يفوتهم الزرق أو يتعاطون الحرام خشية قلة المال، لم يعلموا أن الحرام ليس في الحقيقة سبباً من أسباب سعة الرزق، بل هو فتنة وبلاء. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، فمن أراد المخرج فليتق الله، وبالتالي ليسأل عن الطاعات والمحرمات والشبهات، فإذا اتقى الله سبحانه وتعالى وصدق في التقوى فإن الله وعده وعداً لا يخلف أن يجعلَ له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب، فإذا ادعى أنه اتقى الله ولم يجعل له مخرجاً فنقول له: راجع نفسك فإنك لم تتق الله حق تقاته، فعد إلى نفسك وصحح التوبة؛ فإن الله لا يخلف الميعاد. وقوله تعالى: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] أي: ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] يعني: من حيث لا يؤمل ولا يرجو. ومن الأدلة قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، أي: لو أنهم اتقوا لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب. والبركات جمع بركة، والبركة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والخير الإلهي الذي يجعله الله سبحانه وتعالى في الشيء يبقى فيه فلا يمحق ولا يذهب عنه، فيستفاد من كلمة البركة أن الله سبحانه وتعالى يعطيهم بسبب الإيمان والتقوى الخير المستمر الذي لا شر فيه ولا تبعة، وأحسن الأحوال أن يثبت النعيم الذي يرزقه الله سبحانه وتعالى العبد، ثم لا يجعل عليه تبعة في الآخرة، ولا يحاسبه عليه. وقال تبارك وتعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ولم يقل: بركة، فيدل على تعدد هذه البركات باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة، وبركات السماء بالمطر، وبركات الأرض بالنبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ومنهما تحصل جميع المنافع والخيرات لخلق الله تعالى. ومن الآيات التي تدل على أن التقوى من أسباب استنزال الرزق قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66]، فيخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم لو عملوا بالتوراة والإنجيل، وعملوا أيضاً بالقرآن الكريم؛ لأكثر الله تعالى بذلك الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض، ولأسبغ عليهم نعم الدنيا إسباغاً. وقال الله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]، يعني: لو استقاموا على الطريقة التي يرضاها الله لكافأهم على ذلك بأن يسقيهم ماءً غدقاً. إذاً: التقوى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ومن شكر نعمة الله عز وجل بطاعته، فقد تكفل الله له بالزيادة، كما قال الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]. فمن يرغب في سعة الرزق ورغد العيش فليحفظ نفسه عما يؤثم، وليمتثل أوامر الله تعالى، وليجتنب نواهيه.

التوكل على الله

التوكل على الله ومن أسباب الرزق: التوكل على الله سبحانه وتعالى. قال الغزالي: التوكل هو اعتماد القلب على الله سبحانه وتعالى الذي يفوض المؤمن إليه أمره. وقال: المناوي: التوكل إظهار العجز والاعتماد على المتوكل عليه. فتظهر العجز والضعف لله سبحانه وتعالى، وتعتمد عليه وحده عز وجل، فتؤمن بأنه لا فاعل في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، ونفع وضر، وفقر وغنى، ومرض وصحة، وموت وحياة، وكل ما يطلق عليه اسم الوجود فهو من الله سبحانه وتعالى. ومن الأدلة على كون التوكل سبباً من أسباب إدرار الرزق ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). والطير جمع طائر يذكر ويؤنث. (تغدو): تذهب أول النهار. (خماصاً) جمع خميص، يعني جياعاً. (وتروح): ترجع آخر النهار وقد امتلأت حواصلها (بطاناً): جمع بطين وهو عظيم البطن، والمراد شباعاً، فما بين ذلك تسعى والله سبحانه وتعالى هو الذي يتكفل برزقها. ففي هذا الحديث يبين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن المتوكل على الله حق التوكل مرزوق كما ترزق الطير؛ لأنه توكل على الحي الذي لا يموت، وأن من توكل على الله فهو حسبه، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: فهو كافيه، فإذا توكلت واعتمدت على الله وحده، فإنه يكفيك، ولن تحتاج إلى وكيل غيره، فهو عز وجل يتولى كل أمرك، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. ومن المقرر والمعلوم أن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يستلزم ترك الكسب، كما يعتقد الجاهلون بحقيقة التوكل، وقد يستدل بعضهم بهذا الحديث، والحديث فيه ما يرد عليهم؛ لأن الرسول عليه السلام لما ضرب لنا هذا المثل، فينبغي أن نأخذ بكل أركانه، فقوله: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، دليل على أنها تغدو وتروح، فعندها حركة وسعي مع التوكل على الله سبحانه وتعالى، فكذلك على الإنسان أن يسعى إلى الرزق احتراماً للشرع؛ لأن الشرع أمر بفعل الأسباب، لكن لا يتعلق بالأسباب بل بخالق الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه هو الرازق في الحقيقة. فنحن نأخذ بالأسباب لأن الله أمرنا بالأخذ بالأسباب. قال العلماء: ترك الأسباب قدح في الشرع، والتعلق بالأسباب قدح في التوحيد. فنحن نأخذ بالأسباب لكن لا نعلق قلوبنا بالأسباب؛ لأنها مخلوقة، وإنما يجب أن تتعلق القلوب بالله عز وجل، فالطيور تخرج وتروح وتسعى وتتوكل على الله سبحانه وتعالى، فالله يكفيها أمرها مع أنها لا تعقل ولا تعي ولا تخطط ولا تفهم ولا تدبر، وإنما الله عز وجل هو الذي يرزقها. يقول الإمام أحمد: ليس في الحديث ما يدل على ترك الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده، لم ينطلقوا إلا غانمين سالمين كالطير. وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي! فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي). والأخذ بالأسباب أمر مشهور ومعروف في الشريعة، ومواطنه في القرآن الكريم كثيرة جداً منها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25]، كان يمكن أنها بمجرد أن ترفع رأسها يسقط الرطب بقدرة الله، لكن هذا إشارة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التعلق بخالق الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى. وقال سبحانه عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]، فموسى عليه السلام أخذ بأسباب النجاة من فرعون، فإنه لما علم أنهم يتآمرون على قتله خرج منها خائفاً يترقب. وقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسباب في رحلة الهجرة، وهي مواقف مشهورة لا نحتاج إلى ذكرها. والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يتجرون ويعملون في نخيلهم. قال الإمام أبو حامد: قد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، أو كلحمة على وضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكل، فيكف يُنالُ مقامٌ من مقامات الدين بمحظور من محظورات الدين؟! يعني أن التوكل محمود في الشريعة، وترك الأسباب محرم في الشريعة، فهؤلاء الذين يتركون الأسباب ويزعمون أن ذلك من التوكل آثمون، وهل يوصل إلى مقام من المقامات المحمودة في الدين بوسيلة محرمة؟! لا يمكن أن تكون الوسيلة إلى الواجب أو المستحب محرمة، فالوسائل والأسباب تأخذ حكم المقاصد، ليس عندنا مبدأ: الغاية تبرر الوسيلة، بل لا بد أن تكون الوسيلة مشروعة والغاية مشروعة كذلك. وقال القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل في القلب؛ لأن التوكل عبادة قلبية مثل التوبة والإخلاص والإنابة واليقين. وكل هذه العبادات تؤدى بالقلب، فالتوكل عبادة محلها القلب، أما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب بعدما يعتقد العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعثر شيء فبتقديره، وإن تيسر شيء فبتيسيره، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل فقال له: اعقلها وتوكل)، أما أن تترك الناقة مطلقة دون أن تربطها بخطام ولا زمام ثم تقول: أتوكل على الله؛ فهذا ليس بتوكل، وهكذا لا ينبغي لمن جاء المسجد ومعه متاع أن يتركه عند الباب ويقول: أتوكل على الله! خاصة وقد كثر الخونة الذين يخونون المصلين أثناء الصلاة، ويسرقون منهم المتاع، فهل خولك المسجد سيشفع لك إذا استحمقت وفرطت في الأسباب؟ لا، بل اعقلها وتوكل، ولا تتركها للصوص في الطريق ثم تقول: أتوكل، فخذ بالأسباب وتوكل. بعضهم قد يترك السيارة مفتوحة ثم يسرق منها شيء، فهذا لم يعقل الناقة، بل تركها مفتوحة، وكان عليه أن يأخذ بالأسباب، ولا يتعلق بها، وهذا من التوكل على الله سبحانه وتعالى. وفي رواية عند الإمام القضاعي أن عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أقيد راحلتي وأتوكل على الله أو أرسلها وأتوكل؟ قال: قيدها وتوكل). إذاً: التوكل لا يقتضي ترك التكسب، بل يكد الإنسان ويجد ويسعى في طلب العيش، لكنه لا يعتمد على كده وجده وسعيه، بل يعتقد أن الأمر كله لله، وأن الرزق من الله سبحانه وتعالى وحده.

التفرغ لطاعة الله

التفرغ لطاعة الله ومن أسباب الرزق التفرغ لطاعة الله سبحانه وتعالى: وليس المقصود من التفرغ لطاعة الله عز وجل أن يترك السعي لكسب العيش، ويمكث في المسجد ليل نهار، وإنما المقصود أن يظل قلبه موصولاً بالله سبحانه وتعالى في كل أحواله دون انقطاع، فالمؤمن لا يعرف: ساعة لربك وساعة لشيطانك وساعة لقلبك المريض؛ كما هو حال بعض الناس، حيث يصلي في المسجد ثم يرتكب المعاصي والمحرمات خارج المسجد، ويقول: ساعة لقلبك وساعة لربك، {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22] لأن قلب المؤمن موصولٌ بالله عز وجل في كل أحواله، لا يقطع هذه الصلة أبداً، سئل بعض السلف: هل القلب يسجد؟ قال: يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها أبداً، أي: إذا تاب وأناب ثبت على الخضوع لله سبحانه وتعالى، ولا يزول عن صفة السجود، فيظل ساجداً دائماً، فقلب المؤمن في كل أحواله يكون موصولاً بالله عز وجل، حتى وهو يلهو اللهو المباح أو يعمل في الدنيا. فمعنى التفرغ لطاعة الله سبحانه وتعالى: أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله عز وجل يراه. والدليل على كون التفرغ لعبادة الله عز وجل من مفاتيح الرزق ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك). (يا ابن آدم تفرغ لعبادتي) أي: بالغ في تفريغ قلبك لعبادتي. (أملأ صدرك غنى) أي: أملأ قلبك الذي في صدرك غنى؛ لأن الغنى غنى النفس كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أعلى درجات الغنى، يقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإن الغنى العالي عن الشيء لا به واستغناؤك عن الشيء هو عين الغنى، وليس الغنى بما تملكه في يديك من عرض الدنيا، وإنما الغنى غنى النفس وغنى القلب. وقوله: (وأسد فقرك) أي: أسد باب حاجتك إلى الناس، (وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك) ذكر اليدين لأن الإنسان يزاول الاكتساب دائماً باليدين، وأغلب التصرفات تكون باليدين. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).

المتابعة بين الحج والعمرة

المتابعة بين الحج والعمرة ومن أسباب الرزق: المتابعة بين الحج والعمرة: ومعنى المتابعة أن يجعل أحدهما تابعاً للآخر وواقعاً عقبه، أي: إذا حججتم فاعتمروا وإذا اعتمرتم فحجوا، هذا معنى التتابع بين الحج وبين العمرة. الإنسان الذي لا يلتفت إلى هذه الأسباب إيمانه ضعيف أو ناقص؛ لأن الذي يخبرنا بهذه الحقائق هو الوحي المعصوم، سواء في القرآن الكريم أم على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه من بركات الوحي، فإن عقولنا لا تستقل لتوصلنا إليها، بل بعض هذه الأسباب قد يستغربها بعض الناس، فإنفاق المال في الحج والعمرة ينفي الفقر، هكذا يخبر الصادق صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والذي يخرج من ماله ويتصدق فقد فعل سبباً من أسباب سعة الرزق؛ لأنه هكذا أخبر من لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة). الكير هو كير الحداد الذي ينفخ به النار، والظاهر أن المراد هنا نفخ النار. وخبث الحديد والذهب والفضة هو الشوائب التي تكون في الحديد والذهب والفضة. والحجة المبرورة هي التي وفيت أحكامها، فوقع الحج موافقاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، هذا معنى الحج المبرور. فهنا يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من ثمرات المتابعة بين الحج والعمرة نفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، ولذلك ترجم الإمام ابن حبان لهذا الحديث فقال: ذكر نفي الحج والعمرة الذنوب والفقر عن المسلمين بهما. وقال الإمام الطيبي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنهما ينفيان الفقر والذنوب): إزالته للفقر كزيادة الصدقة للمال، أي: كما أن الصدقة تزيد المال ولا تنقصه، بل حلف النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك حينما قال: (ما نقصت صدقة من مال)، فكذلك النفقة التي تنفقها في الحج والعمرة تنفي عنك الفقر. وروى الإمام النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد).

صلة الرحم

صلة الرحم ومن أسباب استنزال رزق الله سبحانه وتعالى صلة الرحم: وقد كان السلف يحافظون على صلة الرحم، فيكافئون على ذلك بأن تنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا، وما تجد أهل بيت يتواصلون فيحتاجون. وصلة الرحم لا تنحصر في صلتهم بالمال، بل مفهومها أوسع من ذلك، فإنها تكون بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والقول الجامع في معنى صلة الرحم: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة. والإسلام لا يمنع صلة الأرحام حتى مع الكافرين، فمن كان له أقارب كفار فإنه يؤمر بالإحسان إليهم، كما دل على ذلك قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. وسبب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما جاءتها أمها المشركة ترغب في صلتها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك). وهذه الصلة لا تعني مودة الكافر أو مداهنته؛ لأن الله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، فلا يجتمع في قلب رجل الإيمان مع مودة أعداء الله؛ وذلك لأن من أحب أحداً امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، فلا يمكن حب المؤمنين مع حب أعداء الله عز وجل. والإمام مالك استدل بهذه الآية الكريمة على معاداة المبتدعة وترك مجالستهم، وقال الإمام القرطبي معلقاً على ذلك: وفي معنى أهل البدع جميع أهل الظلم والعدوان. يعني أنهم يستحقون المقاطعة أيضاً. وقال ابن كثير: أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين. فالإنسان يصل رحمه ولو كانوا كافرين أو عصاة، مع دعوتهم إلى الإنابة وإلى الطاعة بقدر استطاعته، ويبذل كل جهده في ذلك، فإن أصروا على ما هم عليه بعد النصيحة فمقاطعة أحدهم في الله هي صلته، بشرط بذل الجهد في نصحهم ثم إعلامهم بأنهم إن أصروا على ما هم عليه فإنه سيقاطعهم بسبب ذلك، ولا بد أن يعلمهم أن سبب المقاطعة ما هم عليه من محاربة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يكف عن صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب عسى أن يعودوا إلى الطريقة المثلى.

الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله ومن هذه الأسباب أيضاً: الإنفاق في سبيل الله تبارك وتعالى: فهذا أحد مفاتيح الرزق التي يستنزل بها رزق الله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، فالإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء، والإنفاق لنصرة دين الله عز وجل، والإنفاق في الطاعات وعلى العيال والضيوف. والأدلة على كون النفقة في سبيل الله عز وجل من أسباب استنزال رزق الله عز وجل كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] يعني: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث، ولا يقتصر على الثواب في الآخرة، لكن يخلفه عليكم أيضاً في الدنيا، فالنفقة إذاً سبب لاستنزال الرزق. ذبحت إحدى زوجات النبي عليه الصلاة والسلام شاة، (فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة فقالت: ذهبت كلها وبقي الذراع لك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل بقيت كلها وذهب هذا الذراع) أي أن الذي تنفقه في سبيل الله باق لك، ومدخر ثوابه عند الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]. وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (ثلاث أقسم عليهن أو أحلف عليهن: -وذكر- ما نقصت صدقة من مال)، فالصدقة سبب للبركة فيما بقي من مال، ويخلف الله على الإنسان بدلها في الدنيا بجانب الأجر الذي يبقى له في الآخرة، {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً). الله عز وجل ملكٌ مليكٌ عليٌّ غنيٌّ، فإذا قال: أنفق وعلي بدله، فبحكم الوعد يوجب على نفسه أن يعطي هذا البدل، وقد وعد الله فقال: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] ووعد الله حق، فإذا كنت تتعامل مع غني من البشر، فقال لك مثلاً: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وأنت تعرف من خلقه أنه لا يخلف الميعاد، وأنه يفي بوعده، فإنك يكون على ثقة من أنه سوف يفي بما وعدبه من هذا الضمان، فهل تفعل ذلك ثقة بوعده سبحانه، ولله عز وجل المثل الأعلى؟! فمن أنفق فقد أتى بما هو سبب في حصول البدل، لأنه قد أتى بالشرط، والله عز وجل اشترط على نفسه فقال: (أنفق أنفق عليك)، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)، فهذا وعد بالإخلاف وبالتعويض وبالبدل، فمن أتى بالشرط أتاه البدل. ومن بخل فالزوال لازم للمال، ولم يأت يما يستحق عليه البدل. فقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] يحقق معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً). التاجر إذا علم أن مالاً من أمواله معرض للهلاك فإنه يبيعه نسيئة ولو على الفقراء، فلو افترضنا تاجراً يبيع فواكه أو خضروات، وهذا التاجر يحتاج إلى الربح الذي يجنيه من وراء هذه التجارة، وهو يشترط في البيع أن يكون حالاً، أي: لابد أن تدفع المال نقداًًً، ويرفض أن يبيع نسيئة، لكن إذا لم يشتر منه أحد، وكادت البضاعة تتلف، فإنه سيبيعها نسيئة إلى أجل، لأنه خير بين أن تتلف البضاعة وبين أن يبيعها نسيئة، فالعاقل يختار أن يبيعها نسيئة، ويقول: هذا أولى من أن أرميها في القمامة، وعندما يبيعها نسيئة سيحصل على المال ولو بعد حين، فإن لم يبع حتى يهلك نسب إلى الخطأ، ثم إن حصل على كفيل مليء ولم يبع له نسب إلى الجنون. يعني أن هذا الرجل يريد أن يشتري منه إلى أجل، ولو لم يشتر البضاعة فسوف تهلك، وأتى رجل آخر مليء وقال للتاجر: أنا ضامن وكفيل على المشتري أنه إذا لم يسدد لك فأنا أسدد لك ثمن هذه البضاعة، وهذا الكفيل أو هذا الضامن غني ووفي، وفي الحديث: (من أحيل على مليء فليتبع)، فإذا حصل على كفيل مليء ولم يبع فينسب هذا الرجل إلى الجنون. ثم إن كل واحد منا يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون، فإن الله سبحانه وتعالى يتكفل بالخلف وبأنه سيعوض من أنفق في سبيل الله، ومع هذا نجد عامة الناس يسلكون مسلك ذلك الذي يوصف بالجنون، وشتان بين ضامن مليء من البشر وبين الله سبحانه وتعالى الذي هو رب العرش، والذي هو غني عن العباد، الرزاق ذو القوة المتين. لماذا لا تثق في وعد الله سبحانه وتعالى وهو يخبرك في القرآن أنه سوف يخلف عليك، وأنت مع ذلك تصر على أن تتلف بضاعتك وتزول دون أن تثاب فيها، وبدون أن تنال عليها أي أجر أو ثمن؟ كل واحد منا يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون، فإن أموالنا كلها في معرض الزوال المحقق، فالإنفاق على الأهل والولد إقراض، وقد حصل الضامن المليء وهو الله العليم، فقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، ثم رهن عند كل واحد إما أرضاً أو بستاناً أو طاحونة أو حماماً أو أي متاع، فالله سبحانه وتعالى أعطاك المبلغ الذي تأخذ منه رزقك، هذا المبلغ سواء كان سيارة أو آلة أو مصنعاً أو متجراً أو غيره وكأنه يقول: إذا كنت غير واثق من ضماني الذي أضمنه لك بأني سأخلف عليك فضع هذا الرهن أمام عينيك حتى تكون مطمئناً للضمان. كل الحرف التي عند أي واحد منا ما هي إلا من فضل الله سبحانه وتعالى، فهل هذا ملك لنا أم ملك لله؟ نحن لا نملك شيئاً على الإطلاق، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، ويقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فالمال الذي بأيدينا في الحقيقة ليس مالنا إنما هو عارية عندنا، وهو ملك لله سبحانه وتعالى، فمع الضمان يأمرك سبحانه وتعالى أن تنفق، ويعطيك رهناً حتى تكون أكثر اطمئناناً، ويكون معك هذا المصدر من مصادر الرزق. الإنسان لا بد أن يكون له صنعة أو جهة يحصل له منها مال، وذلك ملك لله، وهو في يد الإنسان بحكم العارية، فكأنه مرهون بما تكفل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التام، ومع هذا لا ينفق، ويترك ماله يتلف من غير أن يكون مأجوراً أو مشكوراً. هذا وقد أكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وعده لمن ينفق بالخلف عليه بثلاث مؤكدات: الأول: صيغة الشرط {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، الثاني: جعل جملة الجواب اسمية (فهو يخلفه)، الثالث: تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي فقال: (فهو يخلفه) ولم يقل: فسأخلفه لك. فوعد الله سبحانه وتعالى يقع حتى لو لم يقترن بهذه المؤكدات، فكيف وقد أكد بكل هذه المؤكدات. ومن الأدلة على أن النفقة سبب من أسباب الرزق قوله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268]. (يعدكم) بمعنى: يخوفكم، يقول لك: إياك أن تنفق وإلا افتقرت. (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) أي: بالبخل، (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) على هذه المعاصي (وفضلاً) أي: في الرزق، وقال ابن عطية: المغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيها والنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له. يعني أن الشيطان عندما يقول لك: لا تنفق فسوف تفتقر، ليس مخلصاً لك في النصيحة ولا يريد لك الخير؛ لأنه عدو مبين، ولا حل مع الشيطان إلا أن تتخذه عدواً {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، هو عدو لا تصلح معه المداهنة ولا الإحسان ولا التلطف، لا يوجد مخرج في التعامل مع الشيطان إلا أن تعامله على أنه عدو مبين، فلا تثق بأي وعد من وعوده، وحينما يقول لك: لا تنفق وإلا ستفتقر فلا تثق بخبره، فإنه ليس مشفقاً عليك ولا ناصحاً لك، وأما الله سبحانه وتعالى فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه، إما في الدنيا وإما في الدنيا والآخرة. جاء في صحيح مسلم أن الله تبارك وتعالى قال: (يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك)، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنه قال: (إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها أخذها منهم ووضعها في غيرهم)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فالبخيل الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى من ماله ثم لا ينفق على نفسه وعلى أهله وأولاده وعلى الفقراء والمساكين، ويريد أن يحافظ عليه، فهو فقير، قال ابن القيم: البخيل فقير لا يؤجر على فقره، والفقير أفضل منه؛ لأن الفقير يؤجر على الفقر، أما هذا فهو فقير لكنه لا يؤجر على فقره، يقول الشاعر في وصف البخلاء: خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا فما رزقوا فلاح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا وفي الحديث: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما، اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، أي: تلفاً لماله حساً أو معنى، إما يضيع المال أو تمحق البركة منه أو يسلط على نفقته فيما لا يعود عليه بالنفع، أو في أشياء مما يغضب الله سبحانه و

الإنفاق على أهل الخير لا سيما طلبة العلم الشرعي

الإنفاق على أهل الخير لا سيما طلبة العلم الشرعي ومن أسباب استدرار واستنزال الرزق من الله سبحانه وتعالى ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: ليطلب العلم- والآخر يحترف -يعني: يكتسب الرزق لهما- فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك ترزق به). كأنه يقول: لعلك مرزوق ببركته، لا أنك مرزوق بجهدك، فلا تمنن عليه بصنعتك؛ لأنه متفرغ في سبيل الله، فكثير من أهل الخير لا يقدرون على التكسب بسبب التفرغ للعلم ونحو ذلك، فمن كان ينفق عليهم يأتيه الرزق لا ليأخذه وحده، بل حتى يعطي الآخرين، ويتصدق منه على إخوانه المستحقين، فهو عبارة عن وكيل موزع يعطيه الله الرزق حتى يعطي، فإذا منع الصدقة عليهم ليدخر المال لأجل أولاده مثلاً، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم. (إن لله أقوماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم).

الإحسان إلى الفقراء والضعفاء

الإحسان إلى الفقراء والضعفاء ومن مفاتيح الرزق الإحسان إلى الفقراء: فقد روى الإمام البخاري عن مصعب بن سعد رضي الله عنه قال: (رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) يعني: هل ينصركم الله ويرزقكم إلا لأجل الضعفاء. فالضعفاء هم أصحاب المنة وليس الذين يتصدقون عليهم ويعطونهم، فمن أراد أن ينصره الله على أعدائه وأن يوفر له الرزق؛ فليكرم الضعفاء وليحسن إليهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من أراد أن يرضيه فليرض الفقراء والمساكين، فقال في الحديث: (ابغوني في ضعفائكم -أي: من أراد أن يرضيني ويحسن إلي فليحسن إلى الضعفاء- ابغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).

الدعاء والزواج

الدعاء والزواج ومن الأسباب التي تؤدي إلى استنزال رزق الله تبارك وتعالى الدعاء، وهو سبب عظيم من أسباب جلب الرزق. وكذلك الزواج، قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (حق على الله تعالى عون من نكح التماس العفاف عما حرم الله) أو كما قال، وقوله: (ثلاثة حق على الله عونهم: وذكر الناكح يريد العفاف).

الهجرة في سبيل الله

الهجرة في سبيل الله ومن أسباب سعة الرزق الهجرة في سبيل الله عز وجل: والهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان كمن هاجر من مكة إلى المدينة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء:100] يعني: إذا هاجر من بلد إلى بلد يجد في هذه الأرض التي هاجر إليها من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته، وذلك أن من ترك بلده وذهب إلى بلدة أخرى واستقر أمره فيها، وصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته فخجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك، وقوله: (وَسَعَةً)، يعني: سعة في الرزق، أو سعة من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى، وقال مالك: السعة سعة البلاد. وقد شهد العالم بصدق هذا الوعد ولا يزال يشهد، وما أمر المهاجرين إلى المدينة المنورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاف على من له أدنى صلة بالتاريخ الإسلامي، فإنهم لما تركوا البيوت والأموال والمتاع للهجرة في سبيل الله تعالى عوضهم الله تعالى عنها أن أعطاهم مفاتيح الشام وفارس واليمن، وملكهم قصور الشام الحمراء، وقصر المدائن الأبيض، وفتح لهم أبواب صنعاء، وسخر لهم خزائن قيصر وكسرى. فخلاصة تفسير هذه الآية كما قاله الرازي: كأنه قيل: يا أيها الإنسان! إن قلت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفاً من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر؛ فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة العظيمة في مهاجرتك ما يكون سبباً لرغم أنوف أعدائك فيكون سبباً لسعة عيشك. فالحركة والسعي في الأرض لطلب الرزق الحلال ليس فيه حرج، وقد وعد الله من هاجر في سبيل الله سبحانه وتعالى بالرزق والإخلاف، لكن لا تكون هذه الهجرة محرمة، كالهجرة التي انعكس اتجاهها الآن، فبدلاً من أن تكون الهجرة من بلاد الكفر إلى دار الإسلام صارت الهجرة الآن من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار! فمن الذي يأمر بالهجرة إلى دار الكفار الله أم الشيطان؟ الشيطان، والذي يهاجر إلى بلد الكفار فإنه يطيع أمر الشيطان، ويعصي أمر الرحمن سبحانه وتعالى، إلا من كان معذوراً في حالات استثنائية، لكن أكثر الناس يريدون بذلك صلاح الدنيا فقط، فيعطون الدنيا هناك لكن لا يبارك لهم فيها، ويكون الرزق مشوباً بالشبهات أو المحرمات. التفكير في السفر إلى بلاد الكفار تفكير مهلك، والذي يأمر بالهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفر ابتغاء سعة الدنيا هو الشيطان، وهذا لا يجوز إلا لمن كان معذوراً، فإن الله سبحانه وتعالى يأمر من هم في بلاد الكفار أن يغادروها إلى بلاد المسلمين، فالمهاجر إن عانى في دنياه، لكن يسلم له دينه، أما هناك فمن يستطيع أن يزعم أن هناك سلامة في الدين؟ بل هي فتنة الدين، وضياع وانحراف عن هدي الإسلام كما هو معلوم. خلاصة الكلام: ذكر المؤلف في هذا الكتيب المبارك عشرة أسباب مما يستنزل به رزق الله سبحانه وتعالى، وهي: الاستغفار والتوبة بالمقال والفعال، التقوى، التوكل، التفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، والإنفاق في سبيل الله تعالى، والإنفاق على أهل الخير سيما طلبة العلم الشرعي، والإحسان إلى الضعفاء، والمهاجرة في سبيل الله عز وجل، وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان، ابتغاء مرضاة الله تعالى وفق ما شرعه الله عز وجل. ثم يقول المؤلف في نهاية البحث: وأوصي إخواني المسلمين في أرجاء المعمورة بالتمسك بتلك الأسباب لنيل الرزق، فإن الخير كله في التمسك بما شرع الخالق عز وجل، والشر كله في الإعراض عنه. هذا؛ وما عند الله لا ينال بمعصيته، وإنما ينال بطاعته، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، ويقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:125 - 126]. وصلى الله تعالى على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وبارك وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

حكم إسبال الثياب

حكم إسبال الثياب إسبال الإزار من المخالفات الظاهرة التي تدعو للكبر، وهو من كبائر الذنوب، وقد جاء النص صريحاً بتحريمه مطلقاً، ولكنه يكون بقصد الكبر والخيلاء أشد تحريماً.

وصايا ونصائح نبوية مهمة

وصايا ونصائح نبوية مهمة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

تعظيم الصحابة لحق الرسول في الأمر والنهي

تعظيم الصحابة لحق الرسول في الأمر والنهي عن أبي جُرَيّ جابر بن سُليم رضي الله عنه قال: (أتيت المدينة، فرأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله، قلت: عليك السلام يا رسول الله -مرتين- قال: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك. قلت: أنت رسول الله؟ فقال: أنا رسول الله الذي إن أصابك ضرّ فدعوتَه كشف عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوتَه أنبَتَها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضّلتْ راحلتك فدعوتَه رَدَّها عليك. قلت: اعهد إلي، قال: لا تسبّنّ أحداً. فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة، قال: ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك؛ إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه؛ فإنما وبال ذلك عليه). هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح. أبو جُرَيّ بضم الجيم وفتح الراء وتشديد الياء، هو جابر بن سُليم بالتصغير. قوله: (أتيت المدينة فرأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه) أي: يرجعون إلى رأيه ويعملون بما يأمرهم به، ويجتنبون ما نهاهم عنه، وهذا كان حال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، بل كانوا أشد الناس طاعة وامتثالاً لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان القادم أو الرائي إذا رأى الصحابة رضي الله عنهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجب وينبهر عندما يراهم يلتفّون حوله صلى الله عليه وسلم ثم يصدرون عن رأيه امتثالاً له. وقد شبّه المنصرفين عنه بعد توجههم إليه للسؤال عن مصالحهم ومعاشهم ومعادهم بالإبل الواردة إذا صدرت عن المنهل، فعبر بقوله: (يصدر الناس عن رأيه) وأصل الصدور: أن الناس إذا كان معهم الجمال مثلاً، وأرادوا أن يسقوها، فيسمى التوجه نحو البئر الذي يستسقى منه الورود، أما الصدور فيكون بعد الري وبعد زوال الظمأ، تقول: صدرت صدوراً، بمعنى الانصراف بعد الري. فعبّر عن ري الصحابة رضي الله عنهم وتشبعهم وامتثالهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإبل الواردة إذا وردت الماء لتشرب وترتوي ثم تنطلق عنه، فهكذا كانوا ينهلون من نمير سنّته صلى الله عليه وسلم، ويُذهبون ظمأهم بمجالسته والأخذ عنه. قوله: (لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه) أي: عملوا به، وهذه صفة كاشفة توضح المقصود من قوله: (يصدر الناس عن رأيه) أي: لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه.

من آداب السلام

من آداب السلام قوله: (قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله، قلت: عليك السلام يا رسول الله! عليك السلام يا رسول الله!) قالها مرتين، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه في المرة الأولى فلم يجبه، أو أنه سمعه وامتنع عن جوابه تأديباً له؛ لأنه سلّم بطريقة غير صحيحة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل: عليك السلام) وهذا النهي نهي تنزيه، أي: لا تبدأ التحية بكلمة: عليك السلام؛ فإن (عليك السلام تحية الميت)؛ لأن هذه كانت تحية الميت وكانت عادتهم في زمان الجاهلية، حيث لم يكن لهم وعي بالأمور الشرعية التي يحبها الله. وقال بعض العلماء: أراد أنه ليس مما يُحيّا به الأحياء، وأنه شُرع له أن يحيي صاحبه، وشرع له أن يجيبه، وقد جاءت في الشريعة صيغة معينة لابتداء السلام وصيغة أخرى لرد السلام، فصيغة ابتداء السلام أن تبدأ بكلمة: السلام عليك، ويأتيك A عليك السلام، فوضْعُ الجواب في موضع الابتداء غير موافق للآداب الشرعية في ابتداء السلام، فلذلك قال له: (لا تقل: عليك السلام، (عليك السلام) تحية الميت). فلا يحسن أن لما وُضع للجواب أن يوضع موضع التحية التي يبتدأ بها، فهذه تحية الميت عند الجاهلية كما كانوا يقولون: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما فكانوا في الجاهلية يحيون الميت بقولهم: عليك السلام، فيمكن أن تبدأ في تحية الميت بقولك: عليك السلام، وإن كان قد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ تحية الأموات بالسلام، فكان يقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) فكان يبدأ أولاً بالسلام، يوضح هذا كلام بعض العلماء: أنه لم يرد بهذا الحديث أنه ينبغي أن يُحيّا الميت بهذه الصيغة -أي: عليك السلام- إذ قد سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأموات بقوله: (السلام عليكم)، وإنما أراد به أن هذا تحية تصلح أن يُحيّا بها الميت لا الحي، فهي يمكن أن تقولها للميت؛ لأن الميت لن يرد عليك، أما حينما تحيي الحي فتقول: عليك السلام، فهذا لمعنيين: المعنى الأول: أن (عليك السلام) شرعت لجواب التحية، ومن حق المسلم أن يحّيي صاحبه بما شرع له من التحية، فيجيب صاحبه بما شُرع له من الجواب، فإذا قلت في الابتداء: عليك السلام، فقد جعلت الجواب مكان الابتداء بالتحية، وهذا للحي، أما في حق الميت فإن الغرض من التسليم عليه أن تشمله بركة السلام، والجواب غير منتظر في هذه الحالة، فأنت لا تنتظر من الميت أن يقول: وعليك السلام، فإذا بدأته بعليك السلام، فهذا يناسب هذا المقام ولا يعترض؛ لأن (عليك السلام) يقولها الحي جواباً للسلام عليك، فيجوز أن يسلم الإنسان على الميت بكلتا الصيغتين. المعنى الآخر: أن من فوائد السلام أن المسلم يُسمع الذي يسلم عليه لفظ السلام أولاً، وهذا يحدث نوعاً من الاستئناس والألفة حينما تبدأ بالسلام عليك، أما حينما تقول: عليك السلام، ربما توجس السامع هل سوف تلعنه؟ هل ستدعو عليه؟ هل سوف تسبه؟ فربما أحدثت وحشة، أما حينما تبدأه بالسلام عليك، فقد بدأت بما يُطمئنه وهو لفظ السلام، فيحصل الأمن من قلبه، فأمر الشرع بالمسارعة إلى إيناس الأخ المسلم بتقديم السلام، وهذا المعنى غير مطلوب في الميت، فساغ للمسلم أن يفتتح من الكلمتين بأيتهما شاء. وقيل: إن عُرف العرب أنهم إذا سلموا على قبر قالوا: عليك السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (عليك السلام تحية الميت) على وصف أعراف العرب وعادتهم، لا أنه ينبغي أن يُسلّم على الأموات بهذه الصيغة، خاصة وأن الذي ثبت في السنة: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) إلى آخره. وبعض العلماء قالوا: إن (عليك السلام) هنا هي جواب النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه في مقام الرد، فقال: (عليك السلام)، ثم قال: (تحية الميت) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هي تحية الميت، ثم قال له: (قل: السلام عليك) يعني: إذا سلمت، فإن الأفضل أن تبدأ بلفظ السلام.

إخلاص الدعاء لله

إخلاص الدعاء لله قوله: (قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله)، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر)، ولفظ (الذي) يعود إلى الله سبحانه وتعالى، وقوله: (ضُر) أو (ضَر) يجوز بالضم وبالفتح، (فدعوتَه) أي: دعوت الله سبحانه وتعالى الذي أرسلني. (أو أتيتني لأدعو لك) بالشفاعة أو بوسيلة الدعاء كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64] فإما دعوت الله بنفسك أو بوسيلتي بأن أدعو أنا لك. قوله: (كشفه) أي: أزال الله ذلك الضر عنك. قوله: (وإن أصابك عام سنة) السنة: هي القحط، إذ لا مطر فيها، والجدباء التي لا تنبت الأرض فيها شيئاً، وقوله: (أنبتها لك) أي: صورها ذات نبات لك. قوله: (وإذا كنت بأرضٍ قفر أو فلاة) وفي رواية أخرى بالإضافة: (وإذا كنت بأرضِ قفر أو فلاة) يعني: فلاة أو صحراء خالية من الماء والشجر، وقوله: (أو فلاة) وهي المفازة المهلكة البعيدة عن العمران، وتكون محفوفة بالمخاطر. قوله: (فضلت راحلتك) أي: فحادت ومالت عن الطريق، أو غابت عنك، وهو الأظهر، لقوله: (فدعوتَه ردها عليك) بأن غابت عنك فدعوته ردها عليك بعد أن غابت عنك وافتقدتها.

النهي عن اللعن والسب وفاحش القول

النهي عن اللعن والسب وفاحش القول قوله: (قلت: اعهد إلي)، يعني: أوصني، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]. (قال: لا تسبّنّ أحداً) أي: لا تشتمه، وإنما عهد صلى الله عليه وسلم إليه بعدم السب؛ لعلمه أن الغالب على حاله أنه كان يسب الناس، فنهاه عن هذه الخصلة. قال: (فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة) أي: بعد ذلك العهد الذي أخذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم من لسانه الإنسان والحيوان سدّاً للباب، وإن كان يجوز سب إنسان مخصوص علم كفره كفرعون أو أبي لهب وغيرهما، فإنه لا ضرر في سب الكافر، ومع جواز السبّ في حق الكافر فالأفضل الاشتغال بذكر الرحمن حتى عن لعن الشيطان، فإن خطور ما سوى الله في الخاطر نقصان، فلا تشغل قلبك بغير ذكر الله، فالسب لا يستحب، وغاية السب أو اللعن أنه جائز في أحوال معينة ولأشخاص معينين، تقول مثلاً: لعنة الله على الظالمين لعنة الله على الكافرين لعن الله من فعل كذا، كما كان يقول ذلك صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن أفعال مخصوصة، وفي الحديث: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فالمسلم -وإن لَعَن- ينبغي له أن يقلّ من اللعن، ولا يكون ديدنه وعادته السب واللعن؛ حتى لا يتعود لسانه ذلك، وربما جرّه كثرة ذلك إلى أن يوقعه في غير موقعه، فسدّاً للذريعة ينبغي للمسلم أن يمسك عن اللعن، كما وصف بعضُ الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان لا يذم أحداً ولا يعيبه حتى لو كان مستحقاً لذلك).

النهي عن احتقار المعروف وأعمال الخير

النهي عن احتقار المعروف وأعمال الخير ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تحقرن شيئاً من المعروف) أي: من الأعمال الصالحة، أو من أفعال الخير والبر والصلة، ولو كان قليلاً أو صغيراً، فلا تحتقر أي شيء من المعروف ما دام داخلاً تحت اسم المعروف الذي أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن دقّ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون في امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه، حتى في أدق الأمور؛ امتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: التزموا جميع شرائع الإسلام.

فضل البشاشة وحسن الخلق

فضل البشاشة وحسن الخُلق ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وأن تكلم أخاك) أي: وكلم أخاك تكليماً، (وأنت منبسط إليه وجهك) أي: باشّ الوجه في وجه أخيك، فالابتسام أو التبسم في وجه أخيك صدقة تتصدق بها، ويأجرك الله سبحانه وتعالى عليها، فالمعنى: أن تتواضع لأخيك، وتطيب الكلام؛ حتى يفرح قلبه بحسن خلقك. قوله: (إن ذلك) أي: الكلام مع انبساط الوجه (من المعروف) يعني: من المعروف الذي لا ينبغي أن تحقره أو تنكره، فلا ينبغي أن تتركه وتقول: هذا أمر يسير، بل هو باب من أبواب المعروف الذي نهيت عن احتقاره أو التفريط فيه.

النهي عن الإسبال والخيلاء

النهي عن الإسبال والخيلاء ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وارفع إزارك إلى نصف الساق) أي: ليكن سروالك وقميصك قصيرين، (فإن أبيت فإلى الكعبين) أي: فإن أبيت رفع الإزار إلى نصف الساق فارفعه إلى الكعبين ولا تتجاوزهما. ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذا الحكم: (وإياك وإسبال الإزار) يعني: اجتنب إسبال الإزار، أي: أن ينزل ثوبك عن الكعبين، وهما العظمان الناتئان في أعلى القدم، (فإنها) أي: هذه الفعلة أو هذه الخصلة وهي: الإسبال وإرسال الثوب وإرخائه (من المخيلة) أي: من الكبر والعجب، (وإن الله لا يحب المخيلة).

فضل مقابلة السيئة بالحسنة

فضل مقابلة السيئة بالحسنة ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن امرؤ شتمك) أي: سبك أو لعنك، (وعيرك بما يعلم فيك) أي: لامك بما يعلم من عيبك سواء كان العيب فيك أم ليس فيك، لكنه ظلمك بأن سبك بشيء هو فيك أو ليس فيك، (فلا تعيره بما تعلم فيه) يعني: لا تقابل عمله بمثله، فإن الذي ظلمك لا يجوز لك أن تظلمه، والذي يخذفك لا يجوز لك أن تخذفه؛ مراعاة لحرمات الله سبحانه وتعالى، ولا يستفزّنك فعله وظلمه إياك بأن تنتهك حرمته وتكشف ستره، وتعيره بما تعلم فيه، فضلاً عما لا تعلم، فإن كان الذي تعلمه عنه نهيت أن تعيره به، فمن باب أولى ألا تعيره بما لا تعلمه فيه. قوله: (فإنما وبال ذلك) أي: إثم ما ذكر من الشتم والتعيير، (عليه) أي: على ذلك المرء، ولا يضرك شيء، وفي بعض روايات هذا الحديث: (فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه).

أهمية طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره

أهمية طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره يقول الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في تعظيم حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أغرّ عليه للنبوة خاتمٌ من الله مشهود يلوح ويشهدُ وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمهِ إذا قال في الخمس المؤذنُ أشهدُ وشقّ له من اسمه ليجلّه خذو العرش محمود وهذا محمدُ نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ من الرُّسْل والأوثان في الأرض تُعبدُ فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً يلوح كما لاح الصقيلُ المهنّدُ وأنذرنا ناراً وذكّر جَنّةً وعلّمنا الإسلام فاللهَ نَحمدُ تعاليتَ ربّ الناس عن قول من دعا سواك إلهاً أنت أعلى وأمجدُ لك الخلق والنعماءُ والأمرُ كُله فإياك نستهدي وإياك نعبدُ لقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، والردّ إلى الله هو الرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى حديثه وسنته بعد مماته صلى الله عليه وسلم. وقال الله عز وجل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي: عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] قال الإمام أحمد: الفتنة: الكفر، وقال الله عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. فانظر كيف يُقسِمُ الله سبحانه وتعالى بقوله: (فَلا وَرَبِّكَ) أي: ورب محمد عليه الصلاة والسلام، ((لا يُؤْمِنُونَ)) ينفي عنهم الإيمان إلى غاية هي: ((حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)). إذاً: يكونون مؤمنين إذا امتثلوا الأمور التالية: أولاً: التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ). ثانياً: (ثم لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) فَنَفَى الإيمان عمن يجد في صدره حرجاً من شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. ثالثاً: ((وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) وهذا يعني كمال الانقياد والإذعان والرضا -أي: رضا القلب واعتزازه- بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآيات كثيرة في هذا المعنى. أما الأحاديث التي توجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء فيما جاءت السنة مبينة لما ورد في القرآن كالصلاة والزكاة وغيرها، أو فيما استقلت به السنة من الأحكام، والتي تكذبها طائفة القرآنيين الضالة التي تكذب بالسنة ولا تثبت حُجّيتها. ومن الأحاديث الدالة على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وآله سلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري. وأيضاً ما رواه أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وَعَظَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مُودّع فأوصنا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمرّ عليكم عبد حبشي، فإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) قال الترمذي: حديث صحيح. وأيضاً ما رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يُحرّم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل هذا القرآن أو أكثر).

نماذج من تعظيم الصحابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم

نماذج من تعظيم الصحابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لقد طبّق الصحابة رضي الله تعالى عنهم هذه الآيات والأحاديث أحسن تطبيق وأجمله، فكانوا ينقادون لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمتثلون تكاليفه يرضى وطيب نفس.

تحري عمر وابن عمر اقتفاء السنة

تحري عمر وابن عمر اقتفاء السنة أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، حينئذٍ أخذها من هؤلاء. وأخرج الشيخان من طريق ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلما جاء سرغ -وهي قرية على طريق الشام عند وادي تبوك- بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً) فرجع عمر من سرغ لمّا بلغه حديث عبد الرحمن بن عوف. وأخرج الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا النساء بالليل من المساجد، فقال بعض بني عبد الله بن عمر: والله لا ندعهن يتخذنه دَغَلاً) والدَّغَل: المكان الذي فيه شجر كثير ملتف، فيكمن فيه من أراد أن يتخفّى من الناس، فهذا ابن عبد الله بن عمر قال: والله لا ندعهن يتخذنه دغلاً! فضرب ابن عمر صدر ابنه حينما اعترض ولم يتأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أُحدّثك عن رسول صلى الله عليه وسلم وتقول ما تقول؟! قال الشافعي: ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أُخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبل خبره، وانتهى إليه، وأثبت أن ذلك سنّة. وأخرج الشيخان عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يُقبّل الحجر -يعني: الحجر الأسود- ويقول: أَعلمُ أنك حجر ما تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبّلك ما قَبّلتك. وقال خالد بن أسيد لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنك تجد صلاة الحذر وصلاة الخوف في القرآن ولا تجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: (يا ابن أخي إن الله عز وجل بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم).

شدة تأدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وحبهم له

شدة تأدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وحبهم له وقد ثبت عن الصحابة نماذج تدعو إلى الإعجاب في شدة تحرّيهم وطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا عروة بن مسعود وقد بعثته قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية كي يجري بعض المفاوضات، فلما رجع إلى قريش قال لهم وهو يصف الصحابة رضوان الله عليهم: أي قومي! والله لقد وفدتُ على الملوك، ووقفتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-؛ والله إن يتنخّم نخامة -يعني: ما تنخم الرسول صلى الله عليه وسلم نخامة- إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده -أي: حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وإذا أمرهم ابتدروا أمره-أي: تسابقوا في تنفيذ أمره- وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -أي: على الماء الذي يتوضأ منه تبركاً به- وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون إليه النظر تعظيماً له. وهذا من الأدب ألا تُحدّ النظر إلى كبار السن أو العلماء أو أهل الفضل. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد إسلامه: إنه لم يكن شخص أبغض إلي منه صلى الله عليه وسلم فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه، ولو سُئلت أن أصفه لكم لما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم. أي: أنه كان يستحي من النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه فلا يحد النظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم. وهناك نماذج أخرى أيضاً مما ينبغي أن نستحضره في هذا الزمان الذي هو زمان غربة الإسلام بين الناس، وغربة أهل الطاعة بين السواد الأعظم من الناس.

مبادرة الصحابة في امتثال ما أمروا به واجتناب ما نهوا عنه

مبادرة الصحابة في امتثال ما أُمروا به واجتناب ما نهوا عنه وحينما نزل تحريم الخمر مر أحد الصحابة على جماعة من المسلمين قد وضعوا الخمر في إناء وهم يشربون، فوقف عليهم وقرأ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] فالصحابة قالوا: انتهينا انتهينا، فيقول الرجل: وكان بعضهم قد ملأ كأسه وقربه إلى فمه فلما قُرئت عليهم الآية سكبوه، ولا يوجد فيهم أحد قال: أقتنع أولاً ثم بعد ذلك أُنفّذ، كما يتشدق بعض السفهاء في هذا الزمان، فيقول: أقنعني أولاً! نقول له: يكفي أن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الزهري رحمه الله تعالى: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. فقانون العبودية أن نقول: سمعنا وأطعنا. والآن ترى امرأة تتبرج وتتهتّك، وتطيع الشيطان فيما يأمرها به من محاربة الرحمن سبحانه وتعالى، فإذا أمرتها بالحجاب قالت لك: أقنعوني أولاً! نقول لها: هل سألتِ الشيطان هذا السؤال حينما أمركِ بالتبرج والتهتك؟! لماذا لا يقال: أقنعني إلا في طاعة الله سبحانه؟! فهذا من تلبيس إبليس. ومن هذه النماذج ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها حيث قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل؛ لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شَقَقْن مُرُوطهن فاختمرن بها. أي: غطّين بها رءوسهن ووجوههن. وعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة رضي الله عنها، فذكرنا نساء قريش وفضلهن -أي: أخذن يمدحن نساء قريش ويذكرن فضائلهن- فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل؛ لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] فانقلب رجالهن إليهن -أي: رجع الرجال إلى البيوت- يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها -أي: في هذه السورة- ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به -أي: فتحجبت به تطبيقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه- فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان -جمع غراب- وإنما شُبّهن بالغربان؛ لأن الغربان سُود، أي: أنّهنّ كُنّ يلبسن أكسية سُود. وجاء ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فلما دخل من باب المسجد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجلسوا) فلما سمع هذه الكلمة جلس في مكانه على باب المسجد، وهو لا يدري هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبه هو أم غيره؟ لكنه جلس عند سماع الأمر فوراً، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تعال يا عبد الله بن مسعود) فحينئذٍ قام ودخل المسجد. وهذا علي رضي الله تعالى عنه: حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية لجهاد اليهود في خيبر، قال له: (امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي رضي الله تعالى عنه شيئاً) أي: مشى مسافة قصيرة، ثم توقف؛ لأنه تذكر سؤالاً مهماً: (فصرخ بصوته) أي: رفع صوته؛ حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من سماعه؛ لأنه لم يلتفت إليه، بل وجهه إلى الجهة الأخرى: (فلم يلتفت وصرخ بصوته: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟) أي: ما هي الغاية من هذا القتال؟ فمع أنه أراد أن يقول هذا السؤال المهم، إلا أنه لم يلتفت تنفيذاً لأمره صلى الله عليه وسلم في قوله: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) فتحرى عدم الالتفات، وظل مكانه متوجهاً ناحية العدو، ولم يلتفت امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان الغرض من سؤاله الاستفسار عن أمور تمس الحاجة إليها في إنجاز مهمته هذه. كذلك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بهجر الثلاثة المخلفين بعد غزوة تبوك، وأتى رسول من ملك الروم وجعل يسأل: من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ فجعلوا يشيرون إليه ولم يتكلموا؛ تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم كلامهم؛ لأنه كان قد نهى عن كلامهم، فرفضوا أن يتكلموا ويجيبوا الرسول الرومي بألسنتهم؛ حتى لا يقعوا في مخالفة الأمر بالمقاطعة، وهذا من أعظم التوقير لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

مبادرة الصحابة إلى الاقتداء بأفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم

مبادرة الصحابة إلى الاقتداء بأفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت. وبلغ أيضاً من حسن اقتدائهم به صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك دون يعلموا لذلك سبباً، ودون أن يسألوه عن علّته وحكمته؛ لأن المسارعة مزية من مزايا المحبة، فمن أحب أحداً أطاعه في كل ما يأمر به واقتدى به، وهذا قد يحدث في الخير وفي الشر كما ترون كثيراً من الناس يحبون بعض الفُسّاق من الممثلين أو غيرهم، فإذا غير أحدهم في هيئته بأي نوع من التغيير، تجد كل من يحبونه يقتدون به في هذا الأمر؛ لأن هذا يدل على أثر المحبة في هؤلاء الفسقة حتى لو فعلوا بأنفسهم ما فعلوا من تغيير الهيئات، بل حتى لو تشبهوا في فعلهم بالحشرات، كما يسمون بعض الفرق الحشرية البيكز والفوب! ومعنى الفوب: الكلب! والبيكز: الخنافس! فتجد من يقتدون بهم حتى في هذه التفاهات وهذه السخافات حباً في هؤلاء المفسدين في الأرض! فكذلك إذا أحب المؤمنون رسولهم صلى الله عليه وسلم -وهم أولى بذلك- فلا ينبغي لومهم ولا عذلهم ولا عتابهم على طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا أثر من آثار المحبة، فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تلقائياً يقتدي به حتى في الأمور التي لا تكون واجبة عليه، أو حتى في الأمور العادية التي ليست سُنّة مؤكدة. يقول ابن عمر رضي الله عنهما: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتم من ذهب، ثم نبذه النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: رماه- وقال: (إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتمهم) ولم يحتج الأمر إلى سؤال ولا أخذ أو ردّ، بل فعل ففعلوا، وترَكَ فتركوا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه) أي: نزعه من يد الرجل ورماه في الأرض، (وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟ فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). فانظر إلى شدة الاقتداء والتورع، مع أن هذا الرجل قد أبيح له أن يبيعه وينتفع بثمنه، لكنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزعه من يده وطرحه في الأرض أبى أن يأخذ شيئاً قد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه وهو يصلي) وقد كان يصلي في النعلين (فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك) وهم في الصلاة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يخلع نعليه (ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما قَذَراً) فتأمل المبادرة في الاقتداء. ولما قُدّم إليه لحم الضبّ فلم يأكله، توقف خالد بن الوليد عن الأكل وقال له: أحرام هو؟ قال: (لا، ولكني أعافه). حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في قوم لا يعرفون الضبّ، فهو يعافه من ناحية الطبع؛ لأنه لم يتعوّد عليه. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون! ففي ذلك المجتمع كانت الأشياء تؤخذ بتلقائية؛ لأن هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام واجبنا طاعته والاقتداء به، وإتيان ما أتاه وترك ما تركه.

الوسطية هي في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والفتنة والتطرف في مخالفته

الوسطية هي في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والفتنة والتطرف في مخالفته قال الزبير بن بكار: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أُحرِم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة هذه؟! إنما هي أميال أزيدها؟! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أما سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وبعض الناس قد ينهجون منهج الزهد والتزهيد في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع وضوح هذه الطريق التي كان عليها الصحابة، من شدة تعظيم أمره صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، بل ليس هذا فحسب! فقضية مثل هذه القضية التي نشير إليها، وهي قضية جر الثياب، سواء القميص الذي يوصف الآن بأنه قميص قصير، لكن أصل كلمة (القميص) كما قال تعالى: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:25] يقصد به: الثوب أو الإزار -وهو غير منتشر الآن هنا- أو السراويل أو نحو هذه الأشياء. فبعض الناس ليسوا فقط يجرّون الثياب إهمالاًَ لهدي النبي صلى الله عليه وسلم أو تهاوناً بسنّته فحسب، بل أيضاً يضحكون ويتغامزون ويتفكّهون إذا رأوا مسلماً يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويقصر ثيابه، فتصير كأنها نكتة أو شيء يُذكر للضحك وللفكاهة؛ لأن فلاناً يعتقد أن الدين هو أن يلبس الثياب القصيرة ويحمل السواك! ومن الناس أيضاً من يسمي التمسك بهذه الشعائر الإسلامية تطرفاً! فنقول: الأمر في الحقيقة ليس تطرفاً ولا تزمتاً ولا شيئاً من هذه المصطلحات الشيطانية! ولكن ينبغي إبدال كلمة (التطرف) بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، فهو ليس تطرفاً، ولكنه اعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو احتماء وتمسك بحبل الله المتين، واسم (الاعتصام) ليس تطرفاً، بل معنى التطرف: الأخذ بأطراف الأمور في أقصى اليمين أو في أقصى اليسار، أي: بالإفراط أو التفريط، هذا هو التطرف، أما هذه الأمة في ظل هذه الشريعة فهي الأمة الوسط. فالأصل والميزان الذي توزن به الأشياء هو أن كل ما وافق كتاب الله وسنة رسوله فهو الوسط وهو الحق وهو العدل، أما الانحراف عنهما يميناً أو يساراً بالإفراط أو التفريط بالتقصير أو بالغلو؛ فهذا هو التطرف وهو الهلاك، وأما التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الاعتصام بحبل الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنّتي)، فهذا تمسك بدين الله، وتعظيم لحرمات الله، وتوقير لشعائر الله، واعتصام بحبل الله، ولا يجوز أبداً أن يوصف بالتطرف. ومصطلح التطرف هم يقولونه على أساس أن ما عليه المجتمع الآن من ضياع وفساد وانحلال -في نظرهم- هو الوسط وهو العدل! فكل من انحرف عنه فهو متطرف، فعري المرأة وتبرجها وتهتكها واختلاطها بالأجانب، والفسق المعروف في المجتمع على الشواطئ وفي النوادي، وغير هذه الأشياء، هذا عندهم هو الوسط والاعتدال! بمعنى أن تعيش كما يعيش أهل زمانك وأن تهلك معهم! أما إذا تمسكت بدينك فأنت متطرف!! إذا امتنعت من مصافحة النساء فأنت متطرف!! إذا فعلت الأشياء التي يُحبها الله فأنت متطرف!! أما الذي يشرب الخمر فلا يوصف بالتطرف!! أما الذي يفعل ما حرم الله جهاراً فهذا غير متطرف!! كذلك مصطلح (الإرهاب) أو (الإرهابيين)، والإرهاب يكون لأعداء الله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] وليس المسلمون يرهبون بعضهم بعضاً. وأيضاً مصطلح (الهوس الديني)! وهذا شيء غير جديد؛ لأن الأنبياء قد رُمُوا بالجنون، كما قال الشاعر: قيل إن الله ذو ولدٍ قيل إن الرسول قد كَهَنا لم يسلم الله والرسول معه من كلام الورى فكيف أنا؟ فلم يسلم الله سبحانه وتعالى مِن سبّ المشركين حينما زعموا أنه ذو ولد! أو أنه ثالث ثلاثة! أو أن له بنات وهن الملائكة! ولم يسلم الرسل كذلك: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فهذا شأن الكفار والمعرضين عن شرع الله سبحانه وتعالى، فشأنهم أن يتطاولوا على أهل الحق بهذه المسميات الشيطانية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فالحق منحصر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج عنهما بحال من الأحوال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، فكل من أحيا سنة، أو تمسك بها، وإن خالف كل الناس فهو معتصم بكتاب الله معتصم بحبل الله، وهذا اعتصام وتمسك ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما بينّا من قبل أن المحبة تورث المتابعة، فالمتابعة أثر من آثار المحبة، وهذا شيء طبيعي وموجود حتى بين هؤلاء الفسقة وبين من يسمونهم الجماهير، حتى أنهم يقولون: معبود الجماهير! وهي فعلاً عبادة، فغاية المحبة لا تكون إلا بتمام الانقياد والمذلة والخنوع لهذا الذي يحبونه. فإذا كان هؤلاء حريصين على الاقتداء بآلهتهم الباطلة؛ فنحن أولى بأن نعبد الله سبحانه وتعالى على الطريقة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم ما حدث منذ زمن قريب لأخينا مدحت وردة حينما تمسك بشيء من الشرع في قضية ستر العورة بارتداء الشورت الطويل، حيث ثار عليه القوم وأخذوا ينالون منه، ولو قال لهم: إنه موضة من الموضات، لقالوا: لا بأس به، لكن أن ينسب هذا إلى الإسلام فهذا الذي يستحق أن يحارب! فلما نسب للإسلام عادوه، أما لو كان مثل لاعبي الكرة في أوروبا أو في غيرها، وفعل ما فعل لرحبوا به واقتدوا به وقلدوه تقليد القردة! أما حينما يمتثل الإنسان أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يُقبل هذا منه أبداً بزعمهم. وأذكر أن بعض الكُتّاب قد كتب في بعض الجرائد قائلاً: منذ سنوات ظهرت موضة أمريكية لبنطلون شورت ينزل تحت الركبة بقليل، وقد كان اسمه (برمودا) مثل مثلث (برمودا) التي كان جنود أمريكا يلبسون فيها هذا الشورت أثناء الحرب، وقد صار هذا البنطلون موضة في الستينات، وكان أولاد الأغنياء يتباهون به، وينظرون نظرات إشفاق إلى الذين يرتدون الشورت العادي، وكان ثمنه غالياً للغاية، ورغم ذلك كان موضع قبول عند أولاد الأغنياء، كما كان حلم الطبقة الوسطى. ثم يقول: إذا جاء شاب مصري ولبس هذا البنطلون بدافع الورع، وقال: إن هذا زي يليق بي كمسلم، إن وقع هذا قال الناس: ما هذه السخافة؟! يعني: أنه إن جاءت هذه الألبسة من عند الكفار فإنهم يقتدون بها وينظرون إليها أنها المثل الأعلى، لكن عندما نتمسك نحن بديننا فإننا نلقى هذه الأذية من القوم.

مسائل متفرقة في إسبال الثياب

مسائل متفرقة في إسبال الثياب

حكم إسبال الثياب للرجال

حكم إسبال الثياب للرجال إن موضوع طول الإزار أو طول الثياب يحتاج إلى بيانٍ شافٍ لعلنا نأتي على شيء من هذا البيان فيما يلي: إن تكرار كلمة (الإزار) في كثير من الأحاديث النبوية سببه أن ملابس الصحابة في ذلك الزمان كان أغلبها هو الإزار، لكن أصبح لبس الإزار اليوم قليلاً جداً، ومع هذا فالإزار والقميص لهما نفس الحكم؛ لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص) فحكمهما واحد. وعن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي -واسمها رهم - تحدث عن عمها -وهو عبيد بن خالد المحاربي - قال: (بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي، يقول: ارفع إزارك)، أي: ارفع إزارك عن الأرض، حيث كان يجر إزاره وثيابه، (ارفع إزارك؛ فإنه أتقى)، وفي رواية أخرى: (فإنه أنقى)، أي: أنقى لهذا الثوب، (فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحاء)، وهو كساء مخطط فيه بياض وسواد، والمعنى أنها بردة مبتذلة أو ثوب مبتذل ليس فيه زينة، فجرّها لا يؤدي إلى الخيلاء، (قال: أما لك فيّ أُسوة؟! فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وسلم). وعن سلمة بن الأكوع قال: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة صاحبي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم. إزرة: اسم هيئة على وزن فِعْلة. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله)، فمن خشيته لله سبحانه وتعالى أنه كان يتواضع ويقصر إزاره. وهناك حد أدنى لثياب المسلم قد حَدّهُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليّ إزار يتقعقع) أي: كالإزار الجديد، والتقعقع: هو تحريك الشيء اليابس الصلب بصوت، (فقال: من هذا؟ قلت: عبد الله بن عمر، قال: إن كنت عبد الله) أي: العبد المتواضع لله والذليل لله (فارفع إزارك) ولم يسأله: هل أنت فعلته للخيلاء فيحرم؟ أم فعلته بغير خيلاء فيجوز؟ لكن الأمر مطلق كما نلاحظه في أغلب الروايات، قال: (فرفعته، قال: زِدْ، فرفعته حتى بلغ نصف الساق). فهذا ابن عمر الذي هو من أفاضل الصحابة ومن أتقاهم رضي الله عنهم، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إرخائه لإزاره، بل أمره أن يرفعه، مما يدل على أن هذا الأدب ليس مقصوداً به النهي عن الخيلاء، ولو رأى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يطيلون ثيابهم في هذا الزمان لأنكر عليهم من باب أولى. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً قال: (مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعتُه، ثم قال: زد، فزدتُ، فما زلت أتحرّاها بعد)، أي: أتحرّى الحدّ الذي حدّهُ النبي صلى الله عليه وسلم، (فقال بعض القوم: إلى أين؟ قال: أنصاف الساقين) يعني: إلى أنصاف الساقين. وكما سبق في حديث أبي جُريّ جابر بن سُليم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين). إذاً: نصف الساق موضع استحباب، أما المباح والجائز فإلى الكعبين، وهما العظمان الناتئتان في أسفل الساق وأعلى القدم. ثم قال: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخِيْلة، وإن الله لا يحب المخِيْلة)، فوضح النبي عليه الصلاة والسلام أن أصل الإسبال هو من المخيلة، كما في قوله: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة) أي: نوع من أنواع المخيلة، والمخيلة قد تكون في خُلُق الإنسان، أو التكبر في مشيته، أو في أي شيء من تصرفاته، ومن هذه التصرفات: إسبال الإزار، فإسبال الإزار هو أحد أعراض مرض المخيلة والكبر والبَطَر. وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن الإزار فقال: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، قالها ثلاث مرات)، وقال: (من جرّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو كاحلي، فقال: هذا موضع الإزار، فإن أبَيْت فهذا، ثم أنزل، فقال: فإن أبيت فهذا، ثم طأطأ قبضة أخرى، وقال: فإن أبيت فهذا، حتى وصل إلى الكعبين، فقال: فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين). فالمسلم لو أن عنده يقين بهذا التهديد وهذا الوعيد وكان الثوب تحت الكعبين لَشَعَر بالنار تلسعه في عقبه، إذا كان فعلاً يؤمن بهذا الوعيد أن هذا الموضع الذي يغطى بالثوب بعد الكعبين فهو في النار. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإزار إلى نصف الساق، فلما رأى شدة ذلك على المسلمين قال: إلى الكعبين، لا خير فيما أسفل من ذلك). فهذه الأحاديث كلها تصرح تصريحاً ظاهراً بأن المسلم يجب عليه أن يرتدي ثياباً لا تزيد في طولها على الكعبين، ويستحب له أن يجعلها إلى أنصاف الساقين، وعاقبة من خالف هذا الأمر هي ما جاء في الأحاديث السابقة، وكذلك في الأحاديث الآتية، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، وكما ذكرنا أن أغلب لباس الصحابة كان الإزار، فلذلك تكثر كلمة (الإزار) في الأحاديث، وتأتي أحياناً ألفاظ عامة كـ (الثوب) فتعمّ سائر أنواع اللباس على القول الراجح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المؤمن إلى عضلة ساقيه، ثم إلى نصف ساقيه، ثم إلى كعبيه، فما كان أسفل من ذلك ففي النار)، يعني: ما زاد من الكعبين فهو في النار. قوله: (فهو في النار) معناه: أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه فهو في النار؛ عقوبة له على فعله، فالمكان الذي يغطى في أسفل الكعبين بالإزار أو نحوه يكون عقابه في النار جزاء لهذا العمل.

حكم إسبال الثياب للنساء

حكم إسبال الثياب للنساء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً) أما بالنسبة للرجل فإن هناك حد واجب يحرم تجاوزه، وحد مستحب، فالمستحب: أن يكون الثوب إلى نصف الساق، أما المباح فهو إلى حد الكعبين، وما زاد عن الكعبين يحرم أن يغطى بالثياب، كما في الحديث: (لا حق للإزار في الكعبين) أما ما فوق الكعبين فهو جائز. (فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن) أي: تنكشف أقدامهن إذا لزمن هذا الحد، (قال: فيرخينه ذراعاً) أي: ابتداء من الكعبين تقيس المرأة ذراعاً فترخيه، وهذا هو الجائز لهن (لا تزيد عليه). فإذاً: من الخيلاء بالنسبة للمرأة أن تزيد في طول ثوبها على الذراع بعد الكعبين. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم تجرّ المرأة من ذيلها؟ قال: شبراً، قلت: إذاً تنكشف القدمان! قلت: ذراعاً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ذراعاً لا تزيد عليه). فالنبي عليه الصلاة والسلام أذن لهن أن يزدن شبراً بعد الكعبين، ولما قالت له: (إذاً تنكشف القدمان!) أذن لهن في الإرخاء ذراعاً، ولا تزيد على الذراع، فكانت أوامره صلى الله عليه وسلم تتوجه إلى الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا إذا سمعوا شيئاً بادروا إلى تطبيقه وامتثاله. فرأت أم سلمة رضي الله عنها أنها لا تستطيع أن تطبق هذا الأمر إلا إذا كشفت عن قدميها، وأم سلمة تعلم يقيناً أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف عن قدميها، وتعلم أن النساء لا يجوز لهن أن يقصّرن ثيابهن بحيث تنكشف سوقهن أو أقدامهن، فكأنها خشيت من حصول هذا الأمر، فتأدبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسألته فقالت: كيف يصنع النساء بذيولهن؟ ولنتأمل مدى حرص المرأة المسلمة على الستر، وهذا نستفيده من هذا الحديث، فلما أذن لهن أن يرخين شبراً، قالت: (إذاً تنكشف أقدامهن)، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كم في هذا الزمان من النساء اللاتي هانت عليهن أنفسهن وهن ينتسبن إلى الإسلام، فتجد الرجل يجرجر ثيابه أو قميصه أو سرواله، وتجد النساء قد حسرن هذه الثياب وكلما زاد انحسار الثوب زاد وصفها بالتقدم والتطور وعدم الرجعية والتخلف! الآن يتغطى الرجال وتنكشف النساء! انعكست الأحكام كما انعكست كثير من أحوالنا، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى وجز الشوارب فنجد الرجال يطلقون الشوارب ويحلقون اللحى! كذلك نجد النساء يكشفن عوراتهن، والرجال يتسترون ويبالغون حتى يؤدي الأمر إلى مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسبال، وهذا الطول في الثياب أصلاً من شأن النساء. فهكذا كان الحياء في المؤمنات، ترى الرسول عليه السلام في حديث الخطبة يقول للخاطب: (فإن استطعت أن ترى منها ما يدعوك إلى نكاحها فافعل)، فقوله: (إن استطعت) تدل أن هذا أمر شاق؛ لأن المرأة المسلمة لا تجود بما لا يكشفه لكل من شاء، بل هي تبالغ في التستر وفي حفظ نفسها وصيانة عوراتها، كما في الحديث: (المرأة عورة)، فيلزم ستر كل ما يطلق عليه اسم العورة، وفي الحديث: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان). أيضاً: حينما نتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه يراها)، حيث إن النساء مع بعضهن البعض يكشفن على الأقل ثياب المهنة التي يلبسنها في البيت، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة ترى المرأة وهي غير محجبة فتذهب إلى زوجها أو قريبها فتصفها له كأنه يراها، فإن هذا من الذنوب العظيمة، ونحن الآن في هذا الزمان لا نحتاج إلى هذه الواسطة؛ فقد هانت المرأة على نفسها، وصارت رخيصة ومهينة، فهي التي تتطوع بعرض نفسها على كل من شاء من نصراني أو يهودي أو كافر أو فاجر، ولا تبالي بمن رآها، ولا تحتاج لامرأة واسطة تراها ثم تنعتها لزوجها، بل هي التي عرضت نفسها، وهانت لكل من شاء أن يراها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، فنهى المرأة أن تضرب برجلها ليسمع الناس صوت الخلاخيل في رجلها فيعلمون أنها تلبس الخلاخيل، فإذا كان هذا النهي في هذه الزينة الخفية في الأرجل فكيف الفتنة فيما تعرضه المرأة من وجهها أو سائر عوراتها؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، قال المفسرون: (خَائِنَةَ الأَعْيُنِ): أن يكون الرجل في بيت الرجل، فإذا مرّت المرأة، فإن فطن له الحاضرون والجالسون معه غَضّ بصره وتخشّع، فإذا غفلوا عنه نظر إلى من يمر من النساء. فهذه هي خائنة الأعين، فأين التحرز من خائنة الأعين في زماننا؟ كأن لم يبق لها وجود، فأصبح الرجل يجوز بنسائه وهُن يخالطن الرجال ويجالسنهم، وتحدث المصائب التي لا تخفى على الكثيرين. ونعرف من الحديث السابق كيف كانت المرأة المسلمة عزيزة في نفسها، وكيف كانت غيرتها على نفسها، فلم تكن كالبضاعة أو كالسلعة التي تعرض للناظرين. فـ أم سلمة انزعجت لما سمعت هذا الحكم، وهي تعلم يقيناً أن القدم من المرأة عورة، ولا يجوز كشف القدم، فلما سمعت نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن الإسبال قالت: (كيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً، قال: إذاً تنكشف القدمان! فقال: يرخين ذراعاً ولا يزدن عليه) فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على أن قدم المرأة عورة. يقول الإمام أحمد: كل شيء منها عورة -أي: المرأة- حتى ظفرها. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه). فليتق الله سبحانه وتعالى أناس يسخرون من المؤمنات الصالحات التقيّات، فيتقدم هؤلاء الناس بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويسخرون من المؤمنة التي تتحرى هذا الحد الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشهور عن هؤلاء السفهاء أنهم يقولون في حق المرأة التي تسدل ثيابها: هذه تكنس الشارع بثيابها!! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] هذا استهزاء وتنكب وتحقير لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا جاءتهم الموضات من أوروبا وسَنَّها لهم الفساق والفاسقات من بيوت الأزياء أو الممثلات أو أهل الفن فإنهم يقتدون بأولئك ويتناقلون هذه النظم في الثياب بمنتهى الانشراح، أما إذا أتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخذلهم الشيطان، وينطق من أفواههم بهذه الكلمات الفظيعة، بأن يقول: هذه تكنس الشوارع! وهذا الكلام من التقدم بين يدي الله ورسوله، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فينتفي اختيار الإنسان إذا أتى أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كما كان انقياد الصحابة رضي الله عنهم لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: والحاصل أن للرجال حالين -أي: فيما يجوز لهم-: الأول: حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار إلى نصف الساق. الثاني: حال جواز وهو إلى الكعبين. ونزيد حالة أخرى وهي حالة تحريمه، وذلك إذا نزل عن الكعبين. وكذلك للنساء حالان: الأول: حال استحباب وهو الزيادة على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر. الثاني: حال جواز بقدر الذراع. تقدم الكلام في طول الإزار أو الثوب، وتحريم الزيادة على الكعبين خاص بالرجال فقط، أما طول الثياب بالنسبة للنساء فقد حدّ له النبي صلى الله عليه وسلم حداً محدودا ًزائداً على حد ثياب الرجال.

ما جاء في الكبر والخيلاء من الوعيد الشديد

ما جاء في الكبر والخيلاء من الوعيد الشديد وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال) هذا الحكم أقسم عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس قد يقصر فهمه، ويضعف يقينه بهذه الأشياء، وإذا بذل من ماله صدقة ربما ظن أنها تنقص هذا المال، فيحلف النبي صلى الله عليه وسلم بقول: (ثلاث أُقسم عليهن: ما نقصت صدقة من مال)، فلا يمكن أبداً أن الصدقة تنقص المال. ثم يقول: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، مع أن الناس يتصورون أن العفو مذلة ومهانة، لكن يحلف النبي صلى الله عليه وسلم على عكس ذلك فيقول: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً). ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، فكلما زدت في مراتب التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى والتواضع لعباده رفعك الله، والناس الذين لا يستقون مفاهيمهم من الوحي الشريف لا يستطيعون أن يتصوروا هذا، فيظنون أن التواضع مذلة، لكن الواقع أنه كلما زاد العبد في تواضعه وخضوعه رفعه الله سبحانه وتعالى. والنصوص التي تحذر من الإسبال، وتأمر بالتواضع، وتنهى عن الكبر، ليس معناها -كما يفهم بعض الناس- أن المسلم مطلوب منه أن يظهر بمظهر قذر أو مهين! بل إن الشرع قد حث على النظافة وعلى الاهتمام بالمظهر، لكن بالحد المعقول الذي لا يؤدي إلى المخيلة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له شعر فليكرمه)، أي: من كان له شعر طويل فليكرمه بالدهون بالتنظيف بالطيب بالتسريح ونحوه. وحث أيضاً على نظافة البدن، كما هو معروف في غسل الجمعة واستعمال الطيب والسواك، ونحو هذه الأشياء. أما في الثياب ففي الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً رث الثياب، فقال له: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال أعطاني الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: فإذا آتاك الله مالاً فليُر أثر نعمة الله عليك وكرامته)، إذاً: تحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى، وأظهر هذه النعمة بأن تحسن ثيابك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة قد أعجبته جُمّته -أي: شعره- وبرداه إذ خسف الله به، فهو يتجلجل، أو قال: يهوي فيها إلى يوم القيامة)، ونحن نؤمن بهذا الحديث؛ لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري ومسلم. قوله: (فهو يتجلجل فيها)، أي: بسبب هذا الكبر حتى الآن إلى يوم القيامة لا زال يتجلجل، فكأن له شقاً في الأرض يتجلجل -أي: يندفع بشدة واضطراب- في هذا الشق إلى يوم القيامة؛ لأنه كان معجباً بجمته وقد أسبل إزاره. والكبر له مظاهر شتى، وليس مَن قصر ثيابه يكون قد برئ من الكبر، فالكبر له أبواب كثيرة. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: يُستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمّر ثوبه. قد سبق ذكر الأحاديث في تحريم الإسبال مطلقاً، لكن من فعل ذلك متعمداً، وقاصداً المخيلة والتكبر والتجبر، فهناك أحاديث كثيرة تبين مضاعفة هذا الوعيد.

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لحرمة الإسبال

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لحرمة الإسبال لنتأمل كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؛ لأن مثل هذه المسائل والأمور إذا طرقت بعض الناس فإنهم يهيجون ويصخبون ويموجون، ويقولون: الإسلام ضائع وأنتم تتكلمون في إسبال الإزار! هل تقصير الإزار هو الذي سوف يحرر فلسطين؟! إسبال الإزار سيفعل كذا؟! وهذا من كلام متفيهقة هذا الزمان!! عن الشريد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف)، أي: رأى رجلاً من ثقيف يمشي، فتبعه (حتى هرول في أثره) يريد أن يلحقه ويدركه، فهرول وجرى في أثر هذا الرجل طالباً إياه (حتى أخذ ثوبه) فلما أدركه أخذ ثوبه حتى يوقفه ويكلمه، فقال: (ارفع إزارك، فكشف الرجل عن ركبتيه)، أي: ليبين له سبب إسباله لإزاره، (فقال: يا رسول الله! إني أحنف، وتصطكّ ركبتاي)، وهذا شيء من خلقة الله سبحانه وتعالى في هذا الرجل، فكأنه بإسباله لإزاره يستر ذلك الأمر؛ لأن ركبتيه كانت تصطدم بعضهما في بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله عز وجل حسن) يعني: ما يضرك من ذلك؛ فإن أي صفة من خلق الله سبحانه وتعالى فهي تكون على أحسن ما يكون، وهذا مفهوم من المفاهيم الضرورية جداً، ويجب أن نتيقن هذا الأمر، فإن كل خلق الله سبحانه وتعالى بأي هيئة فهو حسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]، وقال عز وجل: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64]، وقال سبحانه وتعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8]، وقال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، وقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]. ثم يتفاوت الناس بعد ذلك فيما يمنح الله هذا من صفات الجمال أو من الصفات الأخرى، فهذا رزق الله سبحانه وتعالى، وهذا خلق الله مع أنه قد يتفاوت، لكن الأصل أن كل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى حسن. فلا يعيب الإنسان خلقاً من خلق الله، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي كان يستحي أن تظهر رجلاه وبهما حنف: (كل خلق الله عز وجل حسن)، قال الشريد: فلم يُرَ ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات؛ امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهو قد كان أطال الإزار؛ لأن ساقيه كانتا نحيفتين، وتصطدمان ببعضهما، فظن أن من العار إظهارهما! فإذا كان هذا عذر هذا الرجل فما بالك بمن ليس له مثل هذا العذر؟! وعن عمرو بن فلان الأنصاري قال: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره، إذ لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصيته)، وهذا من الاستنكار والحزن على هذا الأمر، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بناصية نفسه، (وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك)، يقصد التواضع لله سبحانه وتعالى؛ لأنه رأى هذا الإسبال تكبر ومخيلة، فأراد أن يتواضع، وهذا كان خُلُقه عليه الصلاة والسلام، حتى إنه لما جاء مكة فاتحاً دخلها مطأطئاً رأسه راكباً على ناقته تواضعاً لله سبحانه وتعالى في بداية هذا الفتح المبين، كذلك لمّا رأى هذا الرجل وقد أسبل إزاره علم أن هذا خُلُق المتكبرين، وخلق الاختيال والبطر، فلذلك أقبل وأسرع حتى لحق عمراً ووضع يده على ناصيته وهو يقول: (اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك) يعني: أنا عبد متوغل في صفة العبودية، فأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، وكلنا عبيدٌ لك، يعني: يقصد التواضع والتذلل بين يدي لله سبحانه وتعالى، والتبرؤ من هذا الفعل الذي هو من المخيلة. ففهم عمرو أنه يقصد استنكار ما هو عليه من الإسبال، قال عمرو: (قلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين) يعني: دقيق الساقين ورفيعهما، (فقال: يا عمرو! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه) وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو، أي: قاس تحت الركبة مسافة أربع أصابع، فقال: (يا عمرو! هذا موضع الإزار) ثم رفعها ووضعها تحت الثانية، فقال: (يا عمرو! هذا موضع الإزار)، فهذا الحديث كالذي قبله، يصعب أن نحمله على الخيلاء؛ لأنه جاء هذا الحديث والذي قبله في صحابيين لم يقصدا الخيلاء، ولكن ذكرا علةً معينة لتغطية ساقيهما، ومع ذلك لم يعذرهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهذان الصحابيان كانا بعيدين عن المخيلة، وكان لهما عذر، فلم يعذرهما النبي عليه الصلاة والسلام، وأمرهما برفع الإزار. وهناك أحاديث كثيرة في ذم إسبال الثياب، وذم الإسبال يستثنى منه بعض الحالات، مثل النساء كما سيأتي إن شاء الله في الأحاديث، ويستثنى أيضاً من به جرح في الكعبين، فقد يؤذيه الذباب أو شيء من الحشرات، فيجوز له أن يغطي الجرح حتى يشفى منه، فقد أباح العلماء بعض هذا.

الإسبال من كبائر الذنوب

الإسبال من كبائر الذنوب عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)، وعلى هذا: فإن الإسبال من كبائر الذنوب، وليس من الصغائر، قال: (فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات)، أي: كرّر هذا الوعيد ثلاث مرات، فحينئذٍ قال أبو ذر: (خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل إزاره، والمنّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). قوله: (المسبل إزاره) أي: إسبال الإزار تحت الكعبين. وقوله: (والمنّان) أي: الذي يعطي الناس ثم يمنّ عليهم كما قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]، فالمنان يتبع عمله الصالح بالمن على الناس وأذيّتهم. وقوله: (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) أي: الذي يحلف اليمين الغموس ليروّج سلعته، كمن يقول: والله إني خسرت كذا، أو والله إني اشتريتها بكذا. وهو يعرف أنه كاذب، فيروّج السلعة بالحلف الكاذب، فهذا يمين غموس؛ لأنه يغمسه في النار كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) أي: أنه يكسب مالاً من وراء ذلك، ولكن تنزع منه البركة، ووعيده في الآخرة إذا كان كاذباً كما ورد في حديث أبي ذر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا ينظر إلى مسبل الإزار). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى المسبل يوم القيامة).

ما جاء في الإسبال في الصلاة

ما جاء في الإٍسبال في الصلاة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام). وأغلب الناس الذين يُخاطَبون في مثل هذا الأمر يعلّلون فعلهم هذا بأنهم لا يقصدون الخيلاء، والحقيقة أن جميع الذين يتتبعون الموضة إنما يقصدون عمداً الخيلاء، وكذا الذين يطيلون ثيابهم بهيئة معينة إنما يقصدون بذلك الخيلاء. وبالنسبة للحديث السابق: (من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام) فهذا الوعيد أتى خاصة في الإسبال في الصلاة، وهذا لا يعني أن الإسبال خارج الصلاة ليس فيه وعيد، بل الوعيد متحقق كما في حديث أبي ذر وغيره. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي وقد أسبل إزاره، فانصرف من صلاته وقال: (اذهب فتوضأ) فذهب فتوضأ، وأتى فصلى، فقال له: (اذهب فتوضأ) ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ علم الرجل أنه فعل شيئاً كبيراً، فقال له: (إنك كنت تصلي وأنت مسبل إزارك) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، وأراد بهذا أن ينبهه؛ لأنه ارتكب شيئاً غير صحيح وهو إسبال الإزار في الصلاة. وهناك أمر منتشر بين كثير من الشباب، والدافع له غير معروف حتى الآن، وربما فعل أحدهم ذلك فقلّده العشرات، وتلقاه جيل عن جيل، وهو أن البعض يلبس بنطلوناً طويلاً، أي: سروالاً قد أسبله، فإذا أراد الصلاة شمّر هذا البنطلون من أسفل؛ حتى يخرج من الوعيد الوارد في هذا الحديث، ويصلي وهو غير مسبل لسرواله، ونقول لهذا: إنما تخدع نفسك لسببين: أولاً: هذا التصرف فيه كثير من المغالطات؛ لأنك منهيّ عن الإسبال، سواء داخل الصلاة أو خارج الصلاة، فالأصل أن البنطلون أو السروال يكون إلى الكعبين على أقصى مسافة مباحة، وما عدا ذلك فهو غير جائز؛ لأنه من المخيلة. ثانياً: أنك بهذا الفعل كالمستجير من الرمضاء بالنار! تريد أن تفرّ من الوعيد في حق الذي يصلي وهو مسبل إزاره فتقع في مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشمير في الصلاة، حتى أنه في الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد شمر كُمّ ثوبه وهو يصلي، فأتاه فبسط هذا الثوب وحله). ونهى عن الكف في الصلاة، وهو الضم والتشمير. فأنت تقع في مخالفة بتشمير طرف البنطلون أو الكُم.

الهيئة المثالية للمسلم هي اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه

الهيئة المثالية للمسلم هي اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه ينبغي للمسلم أن يمشي بثيابه على الهيئة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يتعزى بقول الفضيل بن عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلّة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. وهذا يبين معنى الغربة، وأن من الغربة أن تعيش بين أناس يسخرون منك أو يضحكون أو يتفكهون بعملك الذي أنت فيه متبع لسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وقد جاء في حديث حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بعضلة ساقه، وقال: (هذا موضع الإزار، فإن أبيت فهذا)، وطأطأ قبضة أخرى، ثم قال له: (لا حق للإزار في الكعبين) فلو كان النهي فقط إذا قصد به الخيلاء فلماذا حدد له؟ ولماذا قال له بعد ذلك: (لا حق للإزار في الكعبين)؟! فلو كان المقصود تحريم الإسبال بخيلاء فقط لأباح له أن يطيل، ولكن القصد: إن كنت تفعله خيلاء فلا تفعله، وإن كنت لا تفعله خيلاء فاتركه. فتحديده لطول الإزار حيث أمسك قبضة الساق وحدّد له الطول، لابد أنه لحكمة وهي أن هذا النهي عام، سواء كان الإسبال لقصد الخيلاء أو بغير خيلاء. أيضاً في قوله لـ عبد الله بن عمر: (إن كنت عبد الله فارفع إزارك)، فاشترط في عبوديته لله أن يرفع إزاره، ففهم ابن عمر ماذا كان يريد منه النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان لا يرضى لأحد أن يلبس الثياب التي تزيد في طولها على الكعبين.

اهتمام الصحابة بالأمر برفع الإزار وعدم إسباله

اهتمام الصحابة بالأمر برفع الإزار وعدم إسباله عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: أأدخل؟ فعرف صوتي، فقال: أي بني إذا أتيت إلى قوم (فقل: السلام عليكم، فإذا ردوا عليك فقل: أأدخل، ثم رأى ابنه وقد انجر إزاره، فقال: ارفع إزارك فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه)، ولم يسأله عن نيته في إسباله، فدلّ هذا على أن جرّ الإزار في ذاته هو من الخيلاء، حتى لو لم يقصد صاحبه ذلك. وعن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، ورأى رجلاً يجر إزاره وكان أبو هريرة في ذلك الوقت أميراً على البحرين، فعندما رأى هذا الرجل يجر إزاره -جعل أبو هريرة يضرب الأرض برجله وهو يقول: جاء الأمير جاء الأمير. وكان أبو هريرة رضي الله عنه فيه شيء من المزاح الصادق، فكأنه يريد أن يقول: أنا الأمير هنا، فاستمع لما يقول لك الأمير، وليس بقصد التكبر والفخر، بل كان عرف أبي هريرة أن يمزح المزاح اللطيف، فجعل أبو هريرة يضرب الأرض وهو يقول: جاء الأمير جاء الأمير، يعني: نفسه، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بطراً)، أي: تكبراً وطغياناً. وعن عمرو بن ميمون أنه حكى قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وفي آخر القصة قال: دخل شاب على عمر رضي الله عنه، فلما أدبر الشاب إذا إزاره يمس الأرض، قال عمر: ردّوا علي الغلام -مع أن عمر يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة- فردوه عليه، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك. قوله: (أبقى لثوبك) أي: أنه يتلف عندما يحتك بالأرض كثيراً، وقوله: (أنقى) أي: أنظف؛ فإنه إذا لم يُسبل لا تصيبه الأقذار أو النجاسات، وقوله: (وأتقى لربك) لأن الله يحرم هذا الإسبال. فتأمل كيف أن عمر رضي الله عنه وهو في أعظم اللحظات لحظة الاحتضار ومفارقة الدنيا إلى الآخرة، ومع ذلك لم يتهاون في هذا الأمر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى أعرابياً يصلي وقد أسبل، فقال: المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام، ولم يقيّد. يقول القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجُرُّه خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله لفظاً أن يخالفه إذ صار حكمه أن يقول: لا أمتثله؛ لأن تلك العلة ليست فيّ؛ فإنه دعوى غير مُسلّمة، بل إطالة ذيله دالة على كبره. والحقيقة أن الإنسان لو قصّر ثيابه فإنه يشعر بالتواضع فعلاً، وإذا أطالها في الغالب فإنها تكون سبباً وعلامة من علامات التكبر، لكن التواضع عند تقصير الثياب أمر يُحسّه الإنسان من نفسه إذا فعل ذلك.

إسبال الإزار عمدا من الخيلاء

إسبال الإزار عمداً من الخيلاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء)، وهنا كلمة الثوب يقصد بها أيّ ثوب سواء كان سروالاً أو إزاراً أو غيره (لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقّي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست تصنع ذلك خيلاء) وهذا الحديث نحن سوف نتكلم عليه إن شاء الله فيما يلي بالتفصيل؛ لأن بعض الناس يأخذون منه أن الإنسان يجوز له أن يطول ثيابه ما لم يقصد بذلك الخيلاء، لكن أين هم من أبي بكر؟ أبو بكر ما كان يقصد ذلك عمداً؛ لأن الثوب أصلاً قصير، كان يضم الإزار بحيث إنه يكون قصيراً، لكن بسبب نحافة أبي بكر كان يسترخي فيتعاهده، ومع ذلك فكلما استرخى كلما رفعه، فهو حريص على عدم جرّ الثوب لكنه يسترخي منه أصلاً من غير قصد. فهذا فرق بين فعل أبي بكر وبين من يتعمد أن يصنع ثوبه طويلاً، ويقول للخياط مثلاً: اصنعه لي إلى الطول الفلاني، وأبو بكر حريص على تقصير الثوب لكنه يسترخي، ثم هو يتعاهده ويحرص على رفعه حتى ينسدل، فواساه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنك لست تصنع ذلك خيلاء). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يجلجل في الأرض إلى يوم القيامة) وحتى اليوم هذا فإن الرجل لا زال يعاقب بهذا الذنب، سبحان الله هذا أمر عظيم! وقوله: (فهو يتجلجل فيها) أي: كأنه شُقّ له شق في الأرض فهو يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع، والعياذ بالله، حتى يومنا هذا وإلى يوم القيامة؛ لتكبره. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يتبختر يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة معجب بجمته)، يعني: بشعره وقد أطاله، (إذ خسف الله به فهو يتجلجل، أو قال: يهوي فيها إلى يوم القيامة). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء). كل هذه الأحاديث تدل على أن من تعمد الخيلاء فوعيده أشد ممن لم يتعمد. وعن هبيب بن مغفل الغفاري: أنه رأى محمداً القرشي قام يجر إزاره، فنظر إليه هبيب وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من وطئه خيلاء وطئه في النار)، ووطء الثوب يكون لمن ثوبه طويل يجرجر وهو يمشي، فإنه لطول الثياب يُداس بالرجل. هذه الأحاديث وإن كان في بعضها ذكر الإسبال، لكن المقصود الإسبال وما هو فوق الإسبال من التكبر والإعجاب بالنفس، ولا تعارض بينها وبين ما سبق في أحاديث الإسبال، لكن هذه فيها أن الوعيد زائد؛ لأنه بقصد الخيلاء، وأنه يقصد التكبر والتبختر؛ لأن أهل النار ليسوا متساوين في العذاب، فالنار دركات كما إن الجنة درجات. وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أغنيت عن عمك -يقصد أبا طالب - فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار). فهذا يدل على أن النار دركات حسب الذنب الذي قد يوقع فيها، لكنّ أصل الوعيد موجود، مع اختلاف أنواع العذاب. فالخلاصة: أن جر الإزار إن كان بغير قصد الخيلاء فله عذاب معين، وإن كان بقصد الخيلاء فإن العقوبة أدهى وأمر، والعذاب قد جاء به الوعيد للفريقين، نسأل الله العافية والسلامة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وقفة صادقة

وقفة صادقة إن للتلفاز والفيديو والبث المباشر مخاطر عظيمة جداً، ومن أعظم هذه المخاطر قطع الطريق على التائبين إلى الله، ومن مخاطرها زرع روح الجريمة في نفوس الناس خاصة الشباب، ومن مخاطرها تفكك المجتمعات والأسر. فعلى المسلمين أن يدركوا مخاطر هذه الآلات، وأن يسعوا جاهدين في إزالة هذه المخاطر، وذلك بالتحذير منها ومن مساوئها.

رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمة

رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم! صل وسلم على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات للناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر). هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ونسبه ابن حجر إلى صحيح ابن خزيمة، وصححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه للمسند. وعن أبي هريرة رضي الله عنه من طريق آخر: (أظلكم -يعني: أشرف عليكم وقرب منكم- شهركم هذا، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره -يعني إثمه وعقوبته- وشقاءه من قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة للعبادة من النفقة، ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه المنافق). وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والبيهقي والطبراني في الأوسط وابن خزيمة في صحيحه، وسكت عنه المنذري، وأورده الهيثمي في المجمع، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن رمانة ولم أجد من ترجمه. ولن نطيل في شرح هذا الحديث، لكننا نريد أن نخلص منه بعبارة، هي أن هذا الشهر العظيم الذي اقتربنا منه غنم يغتنمه كلا الفريقين، يغتنمه المؤمن ويغتنمه الفاجر والمنافق. قال العلماء في شرح اغتنام المنافق والفاجر لشهر رمضان: إن المنافق يستغل انقطاع المسلمين للعبادة في تتبع عوراتهم أو محاولة أذيتهم؛ لأنهم يكونون مشغولين بالعبادة، معتكفين في المساجد، أو مشغولين بالقيام وغير ذلك من الطاعات، فيستغل المنافقون أو الفاجرون هذه الغفلة من المؤمنين بسبب انشغالهم بالعبادة في سرقتهم أو تتبع عوراتهم، كما يحصل منهم في هذا الزمان حينما يستغلون غفلة المصلين أثناء السجود والركوع فيسرقون الأحذية أو أمتعة الناس أو غير ذلك. والحقيقة أن هذا المعنى الذي أشار إليه هذا الحديث وفسره به العلماء فيما مضى يتضاءل جداً أمام كيفية اغتنام الفاجرين لهذا الشهر الكريم في قطع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، فقطاع الطريق لا يقتصرون على قطع الطريق ليستولوا على الأموال وعلى المتاع، بل الأضر والأسوأ والأقبح الذين يقطعون طريق التائبين إلى الله سبحانه وتعالى الذين يمضون إلى الله فيتعرض لهم قطاع الطريق لكي يحرموهم هذه الفرصة العظيمة التي هي شهر رمضان المبارك.

التحذير من قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى

التحذير من قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى إن حديثنا سيكون حول توعية المسلمين بأخطر قاطع طريق، وهو الذي يقطع الطريق على المسلمين الذين يتوبون إلى الله عز وجل ويريدون أن يرحلوا إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ويهاجروا إلى الله ورسوله. ونحن حينما نجتهد في أن نبين حكم الشرع في مثل هذه الفتن المتلاطمة وهذه القضايا الخطيرة، وحينما نقدم على حكم الشرع الشريف فإننا على ثقة وعلم أنه يريد بنا الخير ويريد رحمتنا، مصداقاً لقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. فلذلك لا نتصور -كما يريد أعداؤنا أن نتصوره- أن حكم الشرع تضييق وحجر وتحجير وتعنت وتطرف إلى آخر هذه المصطلحات، لكننا نثق بأن حكم الله سبحانه وتعالى هو الخير لنا في الدنيا وفي الآخرة، ونستحضر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، فأخذ يذبهن بيده، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي). فما أصدق هذا الحديث في تصويره حقيقة موقفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه منا، وحرصه علينا وهو الرءوف الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم! فالجنادب والفراش والدواب التي تطير تتصور أنها في مكان مظلم، وحينما ترى النار تتخيل أنها كوة تستطيع أن تخرج منها إلى الضياء وإلى النور، فتقتحم هذه الأضواء بشدة وهي لا تدرك أن في ذلك حتفها وهلاكها وإحراقها. كذلك هؤلاء العصاة الذين لا ينصتون لتحذيرات الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يخاف ويشفق على هؤلاء العصاة فيذبهم ويدفعهم عن أن ينجذبوا نحو النار ونحو الشهوات التي حفت بها النيران، وهم لا يتفكرون ولا يلمحون عواقب هذه المعاصي. فالرسول عليه الصلاة والسلام يحاول غاية جهده أن يصرفنا عن الهلكة، وإذا هلك واحد منا فبسبب أنه تفلت من يده صلى الله عليه وسلم. فقوله: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار) الحجزة هي مقعد الإزار أو السراويل في وسط الجسم، فهو يمسك المرء حتى لا يقع في النار. قوله: (وأنتم تفلتون من يدي) أي: أنا أحاول إنقاذكم ولكنكم تصرون على أن تجتذبكم هذه المهلكات. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله تبارك وتعالى فيقول: (وأسألك العزيمة على الرشد) يعني: أسألك أن ترزقني الإرادة الصادقة والجازمة على أن أختار طريق الرشاد وأتجنب طريق المهالك. فمن منن الله على العبد أن يرزقه العزيمة على الرشد، فعلى المسلم أن ينوي المسلم الاستعداد لهذا الشهر الكريم، وأن ينوي أن يعمره بطاعة الله سبحانه وتعالى، ويعزم على أن يرشد أمره في هذا الموسم الذي هو أعظم مواسم الخيرات على الإطلاق في السنة كلها. فإذا كان قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى يستعدون لرمضان بالفوازير والمسلسلات والأفلام والسهرات الرمضانية وغير ذلك من هذه السفاهات، حتى طلاب الدنيا من التجار وغيرهم يستعدون بطريقتهم الخاصة لاستقبال رمضان، فلا ينبغي أن يقصر عباد الرحمن وأولياء الله عز وجل عن أمثال هؤلاء في الاستعداد لاغتنام هذه الفرصة العظيمة إلى أقصى حد ممكن، ولما كانت القاعدة أن درء المضار مقدم على جلب المنافع، وأن الدفع أسهل من الرفع فمن أجل ذلك نستعد لرمضان ابتداء. لكننا نقدم التحذير من هذا العدو قاطع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، الذي أصاب أغلب الديار شؤمه، ونقدم لذلك بهذه المقدمة فنقول: إن الأرض إذا مادت تحت أقدام الناس بالزلازل فإنه يصيب الناس الهلع والفزع والخوف والجزع، فلا تجد واحداً من هؤلاء الذين تموج بهم الأرض يستطيع أن يحدد موقفه ولا مصيره؛ لأن الجميع يكونون مأخوذين بدهشة المفاجأة، فلا يوجد لأحد فرصة أن يسأل غيره عما يفعل، بل لا يخطر في بال أحد أصلاً أن يسأل غيره. إن العين التي تستطيع أن تسجل هذه الحركة بصدق وبموضوعية يجب أن تكون خارجة عن تأثير هذا المجال، ولا يستطيع أن يصف حال هؤلاء الناس إلا شخص واحد فقط، هو المتحرر من تأثيرهم، بحيث يراهم من بعيد دون أن يتعرض لنفس المؤثر، فهذا هو الذي يستطيع أن يعطينا تصويراً صادقاً ويصف حال هؤلاء الناس حينما تميد بهم الأرض، فيجب أن يكون في وضع معزول تماماً عن تأثيرهم. ويبدو أن هناك عقلاً وضع وصنع قصة جحا حينما كان يقطع الغصن وهو جالس على فرع الشجرة من الجهة الخارجية، وظل يقطع هذا الغصن، وهذه القصة تعطينا صورة فقدان الوعي الذي يصاحب مثل هذه الحركة ومثل هذا التصرف، فـ جحا يقف على طرف غصن يعمل هو في قطعه من الجهة الخارجية دون أن ينتبه إلى حتمية السقوط الذي سيصير إليه، فمر به رجل ونبهه إلى هذا المصير قائلاً: احذر! فأنت بعد قليل سوف تسقط إذا تماديت في عملك. فإذا به يلاقي هذا المصير الذي تنبأ به هذا الرجل، وبعدما سقط أخذ يعدو خلف هذا الرجل يسأله: كيف عرفت أنني سأقع؟! فأي إنسان خارج عن التأثير يستطيع أن يرى الصورة بصدق، وهذه الصورة تمثل بصدق واقع المسلمين اليوم الذين وقعوا تحت طائلة الأسر (التلفزيوني) الفتاك، والذين سقطوا ضحية إدمان الفيديو الفتان في اندفاعهم المحموم وراء أئمة الفتنة والضلال، فهذا واقع لا يتاح التخلص منه إلا للإنسان الذي استطاع أن يعزل نفسه عن مؤثراته ضمن حصانة من الفكر المزود بمقاييس الطوارئ. يرى المؤمن هذا الواقع الذي تعيشه هذه الأسر الأسيرة التي قد ألقت بزمامها إلى التيار يقذف بها حيث اتجه وسار، دون أن تفكر في المقاومة، وأصبحت كل الطاقات المجنونة موجهة للاندفاع الأعمى وراء هذا التيار، كحالة الدفع في محرك السيارة لا عمل لها إلا الدفع، تدفع وتدفع وتدفع، لكن هذا الاندفاع إذا استمر بلا ضابط ولا زمام فإنه يقود إلى الهاوية، فالناس صاروا كالريشة في مهب الرياح، فهم كالغثاء عند نزول الكوارث، ولا رأي لخواصهم فيما يراد منهم ولا لعوامهم فيما يراد بهم.

خطورة اقتناء جهاز التلفاز وتهافت المسلمين على ذلك

خطورة اقتناء جهاز التلفاز وتهافت المسلمين على ذلك للأسف الشديد أن هذه المحنة التي تشيع فينا لا توجد سلطة في أي دولة في العالم مهما بلغ جبروتها وطغيانها تجبر الناس على أن يقتنوا جهازها، فالظلم يقع من الناس لأنفسهم لا ممن يرعاهم فحسب، وكثير من الناس ينسبون ما يحصل بنا في هذه الأيام من الكوارث والبلايا إلى الشؤم من شخص معين أو من عهد معين، والحقيقة أنه لا شؤم ولا طيرة، ولكن الفتنة ليست من هؤلاء الظالمين فحسب، ولكن الأمر كما يقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] أي: كذلك نولي بعض الظالمين على بعض. وعبر السلف عن ذلك بقولهم: أعمالكم عمالكم. إذاً: الكوارث تترى بين وقت وآخر، والنذر تتوالى، والعقوبات مطردة كلها بلايا وكوارث، فما السبب فيها؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. فهذا كله من شؤم معاصينا وتفريطنا. ثم إن هناك من يعترضون على من يقولون: هذه الكوارث بسبب المعاصي فيقولون: أين هي المعاصي؟! أليس يحصل في اليابان وفي غيرها كوارث لأنهم كفرة ومشركون، فهم أولى بأن تحصل عندهم زلازل. ولا نقول كما قال الشاعر الفاطمي: ما زلزلت مصر لظلم ألم بها لكنها رقصت من عدلكم طربا لكن في نفس الوقت -أيضاً- لا نقول بنظرة الشؤم، وإن كان شؤم معاصينا يعمنا أجمعين، كما قال عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. يقول الشاعر: فبذنوبنا دامت بليتنا والله يكشفها إذا تبنا. فالمؤلم أن الناس ليسو في حالة غفلة فقط، بل في حالة رغبة محمومة وأكيدة، بحيث إنهم يتصورون إنَّ هذه الوسائل كالماء والهواء، وإذا سمع الواحد منهم عن رجل قد طهر بيته من دنس هذا الجهاز يقول: كيف يعيش؟! كيف يطيق الحياة؟! هل يمكن أن يعيش إنسان بدون هذا القوت الضروري الذي صار عندهم كالماء والهواء؟! إن قصتنا مع هذا الجهاز تشبه الفريق الذي أراد أن يحدث خرقاً في السفينة كي لا يزعج من فوقه إذا أراد أن يأتي بالماء من أعلى، فلو تركوه هلكوا أجمعين، ولو أخذوا على يديه نجوا أجمعين، فهذا هو غرضنا من تناول هذه الفتنة الفتاكة والفتانة. ولا شك أن أخطر أنواع العقوبة هي عقوبة الاستدراج التي يسلطها الله سبحانه وتعالى على العباد، ومن الاستدراج أن يسلط عليهم الغفلة، قال عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] وقال سبحانه: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] لأن هذا الذي نسي نفسه لم يسع في فكاكها، ولم يسع في خلاصها، بل يرى أنه إذا استطاع أن يعيش حياته بالطول وبالعرض دون أن يضع في حسبانه مصيره الذي ينتظره في الآخرة فإن ذلك شطارة ومكسب حققه. فالحقيقة أن بداية النجاة هي الشعور بالخوف تماماً، كالإنسان الذي يمس قدَمَه دبوس أو نار أو شيء ملتهب، فإذا كانت الأعصاب سليمة وعنده إحساس فبسرعة يبعد أعضاء جسمه عن هذا الخطر الذي يؤذيه، أما إذا فقد الإحساس كمريض السكر -مثلاً- الذي وصل به الحد إلى فقد الإحساس في قدمه فما أسهل أن تؤذى قدمه بهذه الأشياء وهو لا يشعر، وقد لا يفيق إلا بعد فوات الأوان. فهذا فيما يتعلق بمظاهر هذا الإدمان الذي وصلنا إليه.

موقف العلمانيين من خطر التلفاز

موقف العلمانيين من خطر التلفاز هذه القضية تتناول بطرق شتى، فنحن نسمع ونقرأ في كثير من المباحث هذه الأيام ومن قبل هذه الأيام، في بلادنا وفي غير بلادنا أن كثيراً من الناس يشتكون من التلفاز وأثره على الأخلاق وغير ذلك، لكن أغلب هؤلاء الذين يتباكون من التلفاز ومشاكله في بعض البلاد التي مازال فيها ما يسمى بالوطنية يتباكون على الوطنية والقيم الوطنية، وأحياناً يتباكون على اللغة القومية، وبعضهم يحذر من خطورة الاستهلاك الاقتصادي، وهذا في الحقيقة تناول علماني لهذه القضية الخطيرة، فهو يركز على مخاطرها على الدنيا دون أن يعطيها حجمها الحقيقي وهو خطرها على الدين، فبدل أن تكون القضية قضية حلال وحرام، وصلاح وفساد، وكفر وإيمان، وولاء وبراء، تصير القضية عندهم اللغة والقومية، والتقاليد القومية والوطنية، والهوية القومية، وغير ذلك من الاعتبارات التي تظهر التناول العلماني للقضية.

موقف المسلمين من خطر التلفاز وغيره من وسائل الإعلام

موقف المسلمين من خطر التلفاز وغيره من وسائل الإعلام ومما يؤسف له -أيضاً- أننا وصلنا إلى زمان أصبحنا فيه في تعاملنا مع هذه السهام المحرقة التي نرمى بها بين وقت وآخر مجرد مدافعين، وكان الأولى وقد سخر الله سبحانه وتعالى هذه الأجهزة الخطيرة مثل الفيديو أو التلفاز أو الكمبيوتر أو الشبكة الدولية (الإنترنت) وغير ذلك من هذه الطاقات العظيمة جداً، كان الواجب الأصلي على المسلمين أن يسعوا إلى إيجاد البث الإسلامي الذي يحمل هداية الإسلام إلى البشرية الظامئة إلى نور الهداية المحمدية. كان هذا هو الموقع اللائق بهذه الأمة، أن تكون هي التي توجه وهي التي تستثمر مثل هذه الطاقات العظيمة، وبما أننا لم نغزوا فقد غزينا في عقر دارنا بالبث المباشر بكل أنواعه، فالمؤسف في القضية أننا نحن -المسلمين- مضطرون إزاء كثافة الحملة على الإسلام وعلى قيم ومفاهيم الإسلام لأن نقف أمام هذه الأجهزة التي لا نملك إلا مجرد الدفاع السلبي نحوها، كالناظرين الذين يقبعون في هامش الحياة عالة على الأمم، فنقتصر على الدفاع لأننا فقدنا زمام المبادرة.

مخاطر التلفاز

مخاطر التلفاز إن بعض الناس غابت عنهم مخاطر هذا الجهاز ومساوئه، وبعضهم اعترفوا بالسلبيات، لكن نظروا إليها بمنظار مصغر عن حقيقتها فحقروها، فمن أجل ذلك كانت هذه الوقفة الصادقة مع النفس، نراجعها ونقلب أبصارنا وبصائرنا في محاسن هذا الجهاز وفي مساوئه؛ لأننا إذا فعلنا سنقرر بالفعل أن للفيديو والتلفاز وغيرهما نفعاً ما، ولكننا فوراً نتذكر قوله تعالى في شقيقيهما الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فهذه المنافع المزعومة ضخمت وأريد لها الظهور فروج لها، وأخفيت المثالب على خطورتها وكثرتها فلا تكاد تذكر. فهذا الموضوع سنتناوله إن شاء الله ولن نفصل فيه، بل نحاول أن لا نضيع الوقت في ذكر المزايا؛ لأن المزايا يدركها كل الناس، ويتعاملون مع الجهاز تعاملا ًمباشراً، فليس الجهاز في حاجة إلى زيادة تلميع أو ترغيب، إنما هدفنا كشف ما فيه من المخاطر، لعل الله سبحانه وتعالى ينبه الغافلين، ومن باب قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. ثم إن من يريد أن يعالج مثل هذا الداء ينبغي عليه أن يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد قال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] فإنه بين في آية أخرى أن الذكرى إنما تنفع المؤمنين. فأول ما نذكر به المؤمنين آية من كتاب ربنا العظيم لو فقهت معناها قلوبنا لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية الله، وإذا استيقظت ضمائرنا فلعل قشعريرة الرهبة تسري في أوصالنا ورعشة الهيبة تهز أعماقنا، إنها قول ربنا جل وعز: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] هذا هو أول ما نصدر به هذه التذكرة وهذه الذكرى، فإذا تخيلت أن نعمة السمع ونعمة البصر ونعمة القلب سوف تسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى فيم استعملتها فما جوابك؟! ومعلوم أن شكر النعم يكون بثلاثة أشياء: بالاعتراف بها باطناً، وبالتحدث بها ظاهراً، وبتسليطها في طاعة ومرضاة مسديها والمنعم بها الله سبحانه وتعالى، هذا هو شكر النعمة. وإذا سألنا أنفسنا عن كل الذين يعصون الله سبحانه وتعالى من العصاة والفاسقين فما هي الآلات التي يستعملونها في المعصية؟! ما هي إلا نعم الله سبحانه وتعالى، فأعظم بحلم الله عز وجل! يعطينا هذه النعم ثم نحاربه بها ولا يعجل لنا العقوبة. تخيل لو كان عندك عامل أو خادم كلما أمرته بشيء عصاك، ويستعمل ما أنعمت عليه في أذيتك وفي محاربتك ومبارزتك بالمخالفة، فماذا ستفعل به؟ هل تطيق أن تتحمله أو أنك ستطرده من العمل فوراً؟! تأمل هذا الكم من العصاة، وهذا الكم من المسرفين على أنفسهم، وتأمل -أيضاً- حلم الله سبحانه وتعالى الذي لا يعاجلهم العقوبة عسى أن يتوبوا وعسى أن يستعتبوا، والله سبحانه وتعالى قد ذكر هذا المعنى فقال عز وجل في الحديث القدسي: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما الذي يقول: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما الذي يقول: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) فهذا نسب النعمة إلى غير معطيها، وكذلك قال الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] يعني: نحن نرزقكم النعم ونفيض عليكم الرزق والعطايا، ثم أنتم تجعلون شكر هذا الرزق أنكم تكذبون رسولي عليه الصلاة والسلام إذ أرسلته إليكم. وقد عبر بعض الشعراء عن هذا المعنى بقوله: أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه إذاً: نتأمل هذا الجهاز التي يستعمل فيه أساساً نعمة السمع والبصر والفؤاد، فإذا نظرنا إلى واقع المسلمين فستجد أنهم ينظرون إلى هذه المناظر المنحرفة المخزية. فنقول للواحد منهم: لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام طرق بابك وأنت جالس أمام الفيلم أو أمام المسرحية أو الأغنية هل سيفرح بك وبانتمائك لأمته، أم أنك تشعر بالعار وبالخزي وتحاول أن تستر المصيبة التي تجهر بها ولا تبالي بها؟! ألا يقدر الله سبحانه وتعالى على أن يخطف أبصار هؤلاء الذين ينظرون إلى ما حرم الله ويرتكبون معصية زنا العين كما قال عليه الصلاة والسلام؟! هل يأمنون نزول عذاب الله سبحانه وتعالى بهم بياتاً أو هم قائلون في حال غفلتهم؟! نعود إلى الآية الكريمة (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) فما ألصق هذه الآية بموضوعنا؛ لأن النعمة التي تستعمل في التعامل مع هذا الجهاز هي السمع والبصر. وفي الحقيقة أن التلفاز هو أخطر جهاز إعلامي؛ لأنه يخاطب العين والأذن والقلب، يخاطب بالصوت وبالصورة وبالحركة، وبعض الناس يقولون: الإنسان يحصل على المعلومات عن طريق النظر بنسبة (90%) وعن طريق السمع بنسبة (8%) وأيضاً العين تجذبها الحركة أكثر من أن يجذبها أي شيء آخر. فهذا الجهاز هو أخطر أجهزة الإعلام وأخطر أجهزة الثقافة والتربية من حيث التأثير؛ لأنه ليس مجرد أفكار معنوية يقرؤها الإنسان في كتاب أو يسمعها من مذياع، بل هو واقع حي يعيش أمام هذا المشاهد، ولذلك فإن تأثير هذه الأشياء لا يقتصر على الأفكار النظرية كما هو تأثير المؤلفات، وإنما ينطبع بصورة أشد على سلوكنا ومظاهرنا؛ فإن أفكاره تترسخ في النفوس أكثر؛ لأنها تظهر حقيقة معاشة وليست مجرد خواطر نقرؤها. وعن طريق التلفزيون دخلت السينما إلى بيوتنا، وقد كان الناس يتكلفون في الخروج إلى السينما، أما الآن فقد انتقلت إلى داخل البيوت، ونقلت إلينا الشواطئ والحانات والخمارات ومجالس الفسوق والكفر والعصيان عن طريق التلفاز. يقول بعض الباحثين في كتاب (الناس على دين إذاعاتهم): كان الناس قديماً على دين ملوكهم، كانوا يلتقون بهم في الأسواق وفي الأعياد وفي المساجد، كانوا يحتكون بهم ويتطلعون إليهم كقدوة فيتأثرون بهم، ولكن في العصر الحديث تنازع السيطرة على الناس زعماء الأحزاب وقادة الرأي من الكتاب والساسة والجرائد اليومية، ثم جاءت الإذاعة فتسللت إلى الناس كوسوسة الشيطان، واستحوذت على الآذان، والتفوا حولها، وما لبث أن جاء التلفزيون فاستولى على أفراد الأسرة، فضعف تأثير الأب، بل صار التلفزيون هو الأم المؤثرة في الأسرة، وأصبح الناس على دين هذه الأم. لقد تولى بالفعل التلفزيون أمور التربية وشئونها، ولم ينتزع زمام الأسرة من الأبوين فحسب، بل انتزعه من المدرسة، وجاء بعده ما سانده وساعده على أداء مهمته وهو الفيديو، وهو ابنه البار الذي -بلا شك- يصعب التحكم فيه؛ لأنه يعتبر وسيلة غير موجهة أو غير متحكم فيها؛ لأن طابعه الدكتاتوري أشد من طابع التلفزيون؛ لأن مادته تأتي في الخفاء سراً دون رقابة، ثم إنه لا يرتبط بنوعية معينة من البرامج، أو مواعيد محددة من الساعات، ولا يبقى رقيب على الشخص بعد الله سبحانه وتعالى إلا الوازع الإيماني في قلبه إن وجد. ثم بعد ذلك يأتي البث المباشر وما يتلوه من قفزات، فجعلت بالفعل قنوات التلفاز في العالم كله عند أطراف أصابع الإنسان العادي، حتى إنه لا يتكلف أن يقوم من الفراش كي يشغل الجهاز، وإنما يتحكم به على بعد وهو جالس يطوف العالم كله، وهذا هو الخطر الحقيقي، لقد انعقدت ألويته فوق رءوسنا يبغي إخراجنا من ملتنا وتعبيدنا لغير الله سبحانه وتعالى، أو استذلالنا واستعبادنا لنمشي في موكب الرذيلة مع القافلة إلى الهاوية.

سبب تسابق الغربيين على نقل البث المباشر إلى ديار المسلمين

سبب تسابق الغربيين على نقل البث المباشر إلى ديار المسلمين لماذا يتسابق على رءوسنا أو على عقولنا هؤلاء الغربيون حينما يتصدقون علينا وعلى البلاد الإسلامية بمنحة البث المباشر وتدعيم أجهزة البث المباشر؟! هل هذا لوجه الله؟! وهل يريدون بنا خيراً؟! لا، وإنما يعرفون أن هذا أخطر بكثير من الغزو العسكري بلا شك. إن المقصود من ذلك كله هو تدمير شباب الأمة، وشغلهم بالشهوات والمفاسد والأفكار المسمومة. إن شعوب الغرب معروف ما عندها من الوعي السياسي، فإذا كانت الحكومات تدفع الملايين من أجل تدعيم البث المباشر وتقديمه ليصل إلى بيوت المسلمين، فهل كان رعاياها الذين يعلمون أن هذه الميزانية تقتطع من الضرائب التي تؤخذ منهم سيسكتون أن يسكتوا لو كان في ذلك نوع من الإحسان إلى المسلمين؟! لا، لكن عرفوا أن هذه لها أشد التأثير في إضعاف المسلمين.

الانفصام بين ديانة بعض المسلمين وواقع أعمالهم

الانفصام بين ديانة بعض المسلمين وواقع أعمالهم إن من المسلمين من يرحب بالبث المباشر وسرعة إدخاله بحيث يصل إلى كل بيت دون حاجة إلى الأطباق المعروفة فرحين ومهللين ويقولون: نحن سننفتح على العالم وكذا وكذا. وهذا يذكرني بقول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:24 - 25]. هناك شبه كثيرة عند هؤلاء الذين يرحبون بهذه النيران التي لا تبقي على أخضر ولا على يابس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فنحن لا نعجب إذا رأينا في زماننا قوماً حرموا من نعمة الهداية، فمنهم من أشرب في قلبه حب عبادة الأبقار، والتفاني في سبيل الانتصار لها بالروح والدم، حتى إن غاندي ظل يقارن بين أمه وبين البقرة التي يعبدها من دون الله سبحانه وتعالى ففضلها على أمه! وليس بعد الكفر ذنب. فالناس وصلوا إلى هذا المستوى من الانحطاط الفكري والعقائدي والشرك بحيث عبدوا البقر. وحكى بعض الناس أنه رأى معابد من الرخام الأبيض في بلاد شرق آسيا في منتهى الفخامة يعبد فيها الفئران، وحكى بعض الإخوة أنه رأى بعض الناس في مناطق من شرق آسيا من شدة تعظيمهم للفئران أن أحدهم يأكل والفأر يصعد على رأسه وعلى كتفه ولا يستطيع أن يؤذيه؛ لأن هذا إلهه في نظره. فهل نعجب حينما نرى أمثال هؤلاء الناس في الشرق أو إخوانهم في الغرب ممن انتكسوا وارتكسوا وصاروا في مستوى أقل من البهائم والعجماوات في أخلاقهم وعقائدهم وأفكارهم؟! هل نعجب من أن هؤلاء يقعون بالمرة في حمأة التلفزيون والفيديو وهذه الرذائل؟! هذا لا يستغرب؛ لأن الشيء من معدنه لا يستغرب، فهؤلاء أولى الناس بهذه المهالك وهذه المآسي. لكن العجب الذي لا ينقضي منه العجب أن نرى مسلمين حنفاء موحدين يشربون في قلوبهم حب التلفزيون والفيديو! تجد المسلم يجلس ويرى هذه المناظر القبيحة أمام بناته وأمام زوجته وأمام أبنائه ولا يتحرك ولا يبالي، وصار الشيء كأنه أمر عادي جداً، لا إحساس ولا غيرة ولا حياء، فكيف يستوي المسلم الذي يؤمن بالآخرة ويخشى حساب الله سبحانه وتعالى في الآخرة مع هؤلاء الملاحدة؟! إذاً: نحن لا نستغرب أن يقع من هؤلاء الكفار في الشرق أو في الغرب أو في الشمال أو في الجنوب مثل هذا الإسفاف وهذا الانحلال، هذا لا يستغرب؛ لأن هذا ثمرة خبيثة من ثمار عقائدهم الفاسدة وانحرافهم عن منهج الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك خصهم بنفي الإيمان بالآخرة؛ لأن الأيمان بالآخرة ينعكس في سلوك الإنسان، أما هؤلاء فلا نستغرب من أفعالهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. والحقيقة أن مما يتألم منه المسلم الحق أشد الألم ويشعر بالخزي ويشعر بالهوان ما يتكرر على أسماعنا بين وقت وآخر أن أختاً أسلمت، وقالت: أريد أن أهاجر إلى بلاد المسلمين حيث العلم وحيث الشريعة وحيث الالتزام بالدين، ثم يأتي أمثالها ويصدمون بالواقع الذي نحن عليه، فمنهم كما حكى لي ذلك بنفسه الأخ يوسف إسلام المغني الشهير الذي كان يسمى قبل إسلامه كات ستيفن وهو مطرب إنجليزي مشهور، حكى لي أنه أتى إلى مصر ليفزع إلى بلاد المسلمين ويجد البيئة الإسلامية والأحلام التي يتخيلها، فبمجرد أن نزل القاهرة ورأى الفساد في الشوارع، ورأى الانحلال والبعد عن الدين فزع إلى بريطانيا وقال: إن ديني في بريطانيا أقوى من تواجدي هنا. لأنه يحاصر نفسه مع طائفة من إخوانه المتدينين الذين ما زالت عندهم طاعة الله أقوى من هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام انتساباً اسمياً أو جغرافياً.

أسباب عدم الإحساس بخطر المعاصي والذنوب

أسباب عدم الإحساس بخطر المعاصي والذنوب لماذا نحن لا نحس بذلك الإحساس؟! لأنه حصل تعايش سلمي بيننا وبين المعاصي، حصل المصطلح السياسي الجديد الذي يسمى التطبيع، ليس التطبيع مع الخنازير والقردة، بل التطبيع مع قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى. صارت عادة طبيعية أن يجلس الأب والبنات والأولاد أمام التلفزيون ليعطيهم دروساً خصوصية في كل أنواع الفساد، يصحب الأولاد إلى أماكن الإدمان، يصحبهم إلى عصابات السرقة والقتل والفساد الخلقي، فهل هذا هو الواقع الذي نعيشه الآن أم أننا نكذب ونفتري؟ فنحن لا نحس بخطورة الحد الذي وصلنا إليه مثل جحا الذي كان يقطع فرع الشجرة ولا يحس أنه سيسقط، ويستغرب من شخص يقول له: سوف تسقط بعد حين. فنحتاج إلى أن نتحرر من سلطان هذا المجال كي نحسن الحكم على هذه الفتنة. ألا تنظر إلى الخشوع والرهبة والصمت عند من يشاهد المباريات، ولو أن طفلاً صغيراً أو واحداً من الحاضرين صرخ بصوت عال لأسكته الجميع، ألا تنظر إليهم خاشعين وهم ينتظرون ضربة جزاء، ويدعون الله: يا رب يا رب يا رب! وكأنهم على وشك أن يفتحوا القدس وأن يحرروا فلسطين؟! إنه مرض نفسي أن يصل الأمر إلى أن يعتقد أن البطولة هي في الرقص والغناء والكرة، وأن الهدف هو أن نغلب الجزائر أو نغلب دولة كذا وكذا، وصارت المصائب هي انهزام مصر في الكرة أمام دولة أخرى، وتماسيح النيل أو فراعنة مصر لابد أن يفوزوا، وإذا رأيت حال القوم فكأنهم في معبد يتهجدون ويتبتلون، وكأن قلوبهم لا تنشغل بشيء أبداً، يستغرق هذا عقولهم وقلوبهم وفكرهم، حتى لا يحس الإنسان بالجوع ولا بالعطش، وربما لا يحس بألم، ولا يحس بمن يسلم عليه، فضلاً عن أن يذكر ربه وصلاته وعبادته، وتبقى هذه المشاهد الأثيمة يختزنها في ذاكرته، ثم إن الشيطان يستدعي ما اختزنه الإنسان في ذاكرته من تلك الصور التي رآها حتى تعرض له في الصلاة، وفي مرضه، وفي مشيه، وفي كلامه، بل ربما تعرض له عند موته ويكون عليها سوء خاتمته -والعياذ بالله- وهو في وقت أحوج ما يكون إلى ذكر ربه سبحانه وتعالى، فالشيطان بهذا يريد أن يصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟! كما أن سماع المكاء والتصدية والأغاني والموسيقى وغيرها من الأشياء لا تقرب إلى الله ولا تزيد الإيمان، بل العكس هو الصحيح، فلو سألنا أي إنسان وكان صادقاً: إذا جلست أمام الفيلم أو المسرحية فهل يزيد الإيمان أم ينقص فما نظن أنه سوف يخالف في الإجابة التي نقطع بها جميعاً، وهي: زين لنا سوء أعمالنا، وكيف نفكر في أن نتوب منها؟! نحن نستحسنها ونستمتع بها، ولا نتصور الحياة بدونها. مع أنه يتصور الحياة أحياناً بدون صلاة، وبدون صيام، وبدون حجاب، ولا يقلق ولا يشعر بأنه مرتكب كبيرة، لكن لا يتصور أن يعيش بدون هذه الأجهزة، فنحن لم ننته عن المنكر ولم ننه عنه، بل فعلنا المنكر وتواصينا به ونظرنا إليه على أنه عنصر ضروري لحياتنا لا نتصور الحياة بدونه. بل قد يقتطع بعض الناس من قوت أولادهم الضروري حتى يقتنوا الفيديو أو التلفاز، ففي بعض المساكن العشوائية في الإسكندرية التي تبنى من الطوب ونحوه لكون البيوت تهدمت ولا يجد أصحابها أموالاً يصلحونها، اجتمع سكان هذه المناطق العشوائية وضربوا فيما بينهم حصصاً معينة على كل واحد مقيم واشتروا ما يسمى بالدش، وهذه سفاهة ما بعدها سفاهة. فنحن في الحقيقة لم نسكت عن إنكار المنكر فحسب، بل أحببنا المنكر، ونحن راغبون فيه، حبب إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ولذلك لما قيل لبعض السلف: ما بال أهل الأهواء شديدي المحبة لأهوائهم؟ قال: ألم تر إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]. يعني أن عبادة العجل وحب العجل جرى في أبدانهم كما يجري الدم في العروق، كذلك حب أهل هذه الأهواء للأهواء، ونتذكر هنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فإيما قلب أشربها -يعني: أحبها ورضي بها- نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء) فإذا أنكرت هذه الفتنة وقلت: اللهم! إن هذا منكر لا يرضيك ونهيت عنه، أو فعلت غير ذلك من المواقف الإيمانية فحينئذ ينكت في قلبك هذا النور الأبيض، أما من أحب المنكر ورضيه فحينئذ ينكت في قلبه نكتة سوداء. ثم يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً تمايز القلوب إلى معسكرين: (حتى تصير القلوب إلى قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض) رواه مسلم.

دور التلفاز في انحراف الأحداث والأطفال

دور التلفاز في انحراف الأحداث والأطفال هناك طبيب يدعى تسيفن بانا في جامعة كولومبيا غير مسلم، يقول: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث. يعني: عندما يدخل الإنسان السجن مع المجرمين فإنه يرتقي إلى جامعة الإجرام؛ لأنه هناك يتعلم كل شيء، لكن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث. فمن أخطر مخاطر التلفاز أنه يشيع الفاحشة، وينفث روح الجريمة، ويقلب القيم رأساً على عقب، فاللصوصية بطولة تثير الإعجاب، والغدر سياسة، والخيانة فطانة، والعنف هو الوسيلة المثلى والأقل تكلفة لتحقيق المآرب، وعقوق الآباء تحرر، وبر الوالدين ظلم، وطاعة الزوج رق واستعباد، والنشوز حق، والعفة كبت، والدياثة فن راق وذوق رفيع، وهي أسرع وسيلة للإثراء، ولا ريب أن موالاة عرض الجرائم والإلحاح في ذلك يوماً بعد يوم هو من أخطر ما يدرب القلوب على التهوين من شأنها وقبول الانحراف والتعايش معه والتدرج والانخراط في سلك أهله، وصارت هذه الفضائح مألوفة عند الإنسان، فهو عندما يسمع عن جرائم الذي قتل أباه والذي قتل أمه، كل ذلك يجعله يتجرأ على هذه الجرائم. وهذا الدكتور السعدي فرهود حكى في حوار له مع إحدى الجرائد يقول: أظنكم سمعتم أو قرأتم أن شخصاً يملك منزلاً اتفق مع مقاول على أن ينسف السلم، وفعلاً أرسل المقاول ابنه بفتيل من الديناميت ووضعه على السلم، واختار وقتاً مناسباً وهو وقت انشغال الناس بمشاهدة مباراة كرة القدم، وانفجر الفتيل، لكنه لم يهدم إلا حجرة واحدة، فمن أين عرف المقاول هذه الطريقة؟! عرفها من أحد الأفلام في السينما التي عرضت في التلفزيون. وهكذا فإن كثيراً من الأفلام الأجنبية تعلم أحدث وسائل ارتكاب الجريمة. انتهى كلام الدكتور فرهود. وقد توصلت الدراسات التحليلية إلى أن التلفاز بما يعرضه من أفلام سينمائية تحتوي على مناظر إجرامية أو انحلالية قد يؤدي إلى انحراف كثير من الناس عن طريق ما تخلقه هذه الأفلام من خيالات يعيشها من يشاهدها، كما تبين من مجموعة ذكور منحرفين تناولتهم تلك الدراسة أن أحد الأفلام التي عرضها التلفاز قد أثار فيهم الرغبة في حمل السلاح، وعلمهم كيفية ارتكاب السرقات وتضليل الشرطة، وشجعهم على المخاطرة بارتكاب الجرائم. ويحكي الدكتور عبد العزيز كامل ما يدلل به على أثر مشاهدة العنف والجريمة التي يعرضها التلفاز على الشباب، ويذكر مشهداً تكرر في أكثر من فيلم، حينما يهاجم أحد الشباب زميلاً له في مشرب أو مقهى، فيمسك بيده زجاجة فارغة ويضرب قاعدتها فتنكسر تاركة وراءها أطرافاً مسننة كل منها كأنها خنجر، ويهاجم بها خصمه في رقبته أو وجهه. ويحكي مشهداً واقعياً آخر رآه، يقول: كان هناك جمع من الطلبة يلعبون بالكرة في فناء قريب أراه من نافذة مسكني، واختلفوا، فإذا بشاب منهم هو أقواهم قد تقمصته روح التمثيل، فرفع كتفيه وأحنى رأسه قليلاً إلى الأمام وباعد مرفقيه، وأمسك زجاجة وكسرها على سور قريب، ولكن الكسر لم يكن فنياً، فإذا هي تنكسر في يده، واندفع الدم منها، واندفع الشاب يصرخ بشدة طالباً النجدة، هو يريد أن يقلد المشهد الذي رآه، وسارع زملاؤه إلى رفع يده وحمله إلى أقرب مستوصف طبي، وتحول مشهد التمثيل إلى حقيقة دامية. حتى المرأة لم تسلم من وسوسة أُستاذ الإجرام (التلفاز) الذي أفسد فطرتها وشوه هويتها، فرأينا بعضهن ممن كانت بالأمس جنساً لطيفاً فصارت اليوم بعد أن تخرجت من مدرسة الجريمة وحشاً عنيفاً وخطراً مخيفاً. رأت فتاة في الخامسة عشرة من عمرها في برنامج تلفزيوني قاتلاً يقص فرامل السيارة فقلدته، وحاولت قص فرامل سيارة أبويها لتقتلهما، واكتشف الأبوان الأمر قدراً؛ لأن الفتاة أخطأت فقطعت سلكاً آخر أضاء إشارة إنذار حمراء، ولم يعرفا من الذي حاول قتلهما، فجربت الفتاة خطة أخرى، إذ ألقت صفيحة من البنزين على السيارة في (الكراج) فانفجرت، وانتبه الأبوان في آخر لحظة فأسرعا يفتشان (المرقاب) أو (الكراج) في البيت خوفاً على ابنتهما، وكادا يختنقان لكثافة الدخان، واكتشفا أن الفاعل ابنتهما، وعندما سئلت الفتاة عن السبب قالت: أبواي يضغطان عليّ كثيراً للمذاكرة، وأخي أخفق في الدراسة، وهما يريدان مني تعويض إخفاقه، فنظرت إلى التلفزيون فتعلمت منه الجريمة. وعقب عرض مسرحية تسمى (ريا وسكينة) تكررت حوادث تخدير الضحايا وسرقة ما معهم من مصوغات ذهبية، ومن ذلك ما وقع لامرأة ضريرة من دمياط استدرجتها امرأتان إلى بورسعيد، فوضعتا كمية من المخدر في كوب ليمون تشربه، ثم استولتا على ست (غوايش) ذهبية قيمتها ألف جنيه، وبعد غيبوبة ثلاثة أيام في المستشفى العام ببورسعيد أدلت المجني عليها ببعض المعلومات، حيث تمكن رجال الأمن من القبض على المرأتين، وتبين أنهما تحضران إلى بورسعيد لصيد الضحايا، وقد اعترفت المرأتان بقيامهما بسرقات سابقة مماثلة، وقد تعلمت المرأتان هذا الأسلوب بعد مشاهدتهما مسرحية (ريا وسكينة). أما تأثيره على النشء فمعروف، وأتذكر أثناء الحملة على الحجاب والنقاب أنه كانت بعض الجرائد تأتي بصور طفلات صغيرات محجبات، ثم تتكلم عن اغتيال براءة الطفولة، أي أن البنت الصغيرة حين تتحجب فهذا اغتيال لبراءة الطفولة، فلنتأمل من الذي يغتال براءة الطفولة ويسلب فطرتها؟! إننا نعلم تأثير هذا الجهاز على هذه البراءة واغتيالها، وانتزاعه من الأبوين زمام التربية، فأخذت القيم التي تبثها الأسرة تذوى وتضمحل وتضمر لتحل محلها قيم تلفزيونية مشتقة من الأفلام والمسرحيات والتمثيليات، فشاع التحرر من القيود الأخلاقية، وظهر التمرد على الكبار، وانتشر ازدراء المعلمين واحتقار المدرسين والسخرية منهم، وصارت الاستقامة والطهارة أمراً يثير الضحك والاستهزاء والاستخفاف، وتشبع الأطفال بالروح الإجرامية والميول العدوانية. وهنا نستدل بشاهد من أهلها، فهذا قاض فرنسي يعمل في ميدان الأحداث يقول: لا يخالجني أي تردد في أن لبعض الأفلام -خاصة الأفلام البوليسية المثيرة- معظم الأثر الضار على غالبية حالات الأحداث المنحرفين، وأننا لهذا لسنا بحاجة إلى البحث عن أسباب عميقة وراء السلوك الإجرامي عند هؤلاء الأطفال أو المراهقين. يعني أنَّ السبب معروف. وفي تجربة عملية عرض فيلم عنيف على مجموعة من الأطفال، ثم قدمت لهم دمى تشبه تلك التي عرضت في الفيلم، فعاملوها كما عاملها الممثلون فمزقوها إرباً إرباً. ومعروف أن الاختبارات النفسية أحياناً تؤدى عن طريق اللعب أو الدمى. وفي مرة أخرى قدمت هذه الدمى لأطفال لم يشاهدوا الفيلم فلم يعاملوها بعنف. وهذا الأستاذ مروان كجك له كتاب رائع اسمه (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفاز) استفدت كثيراً منه في هذا الموضوع، يقول: ما أكثر ما نرى ونسمع بين الحين والآخر أو نقرأ عن أطفال دفعتهم موحيات البرامج التلفزيونية إلى سلوك شائن مخيف، أو حملتهم على ارتكاب جريمة ظنوها ألعوبة من تلك الألعاب التي تظهر على الشاشة، وهي ليست في حقيقتها سوى دروس وتوجيهات تبذر الشر أو توقظه في نفوس هؤلاء الأطفال البرآء من قصد الجريمة، غير أن هذا لا يمنع أن يصبح ذلك أسلوباً وطريقاً لديهم يشبون عليه، بل قد يشيبون وهم يحملون قيمه بين جوانحهم وتؤكده فعالهم. ويذكر شارلز آر رايس أن أجهزة معينة تشجع المسلك الشيطاني للأطفال الذين يقلدون أفعال الشخصيات الروائية، ويذكر عادة لتعزيز هذا الاتهام حادث الطفل الذي شنق نفسه وسط كتبه الفكاهية، بنفس الطريقة التي وردت في الرواية، مقلداً سلوك الشخصية. كذلك تذكر حادثة أخرى، وهي أن طفلاً أصيب أو قتل وهو يحاول أن يطير في الفضاء كما يفعل سوبر مان في الأفلام الكرتونية (الكتاب الفكاهي). إذاً: هذا يذكرنا بما حدث منذ سنوات حينما قدم التلفاز شخصية بطل خارق غير طبيعي، فقام أحد الأطفال فطار من شرفة منزله في مصر محاولاً تقليد هذا البطل العجيب فأودى بحياته. ويذكر الباحثون المتخصصون أمثلة أخرجها الواقع لا التخمين لتأييد هذه الحقيقة، وهؤلاء الباحثون ينقلون كثيراً جداً عن كتاب (أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون) مترجم للعربية لمؤلف يدعى جوري مندر كان له وظيفة عالمية مرموقة في أمريكا، ويحذر أشد التحذير من التلفاز. من هذه الوقائع أنه كثر في حي معين في إحدى المدن حوادث إصابة الأطفال بجروح وكسور في مؤخرة الرأس، وحولت حالات متتابعة إلى المستشفى القريب، واسترعى هذا نظر الجهاز الطبي فيها، فأجرى بحثاً عاجلاً لمعرفة السبب، فظهر أن فيلماً معيناً شاهده الأطفال وتأثروا به، وفيه مشهد شاب قوي الجسم تعود أن ينتصر على زملائه بأن يطرح أحدهم أرضاً ثم يضرب مؤخرة الرأس في حافة رصيف فقام هؤلاء الأطفال يقلدون هذا المشهد. وفي واشنطن قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه عليه وهو نائم، ثم أشعل الثقاب ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه، وعمر هذا المجرم الصغير ست سنوات. وفي (بوسطن) رسب طفل عمره تسع سنوات في معظم مواد الدراسة، فاقترح على والده أن يرسل صندوقاً من الحلوى المسمومة إلى المدرسة، وعندما استوضحه والده عن ذلك قال: إنه أخذ الفكرة من برنامج تلفزيوني. وفي فرنسا أطلق طفل عمره خمس سنوات رصاصة على جار له عمره سبع سنوات، وأصابه إصابة خطيرة بعد أن رفض الأخير أن يعطيه قطعة من اللبان، وذكر في أقواله للشرطة أنه تعلم كيف يحشو بندقية والده عن طريق مشاهدة الأفلام في التلفزيون. والحقيقة أن الأمثلة كثيرة جداً، سواء في بلادنا أو في غيرها، وليس هدفنا أن نفصل، لكن كلها تحوم حول هذا. فمجموعة من الأطفال في مدرسة يرون جريمة ترتكب بطريقة معينة فيعتبرون ذلك نموذجاً مثالياً ويطبقونه في المدرسة. وهنا قصة، وهي أن مدرسة أبي بكر الإعدادية بحلوان تعرضت خلال الليل لتسلل من عدة أشخاص، وقاموا بأعمال تخريبية، إذ حطموا الدواليب والخزائن التي تضم أوراق ومستندات تلاميذ المدرسة، وكذلك أتلفوا في الأوراق والكتب والملفات والشهادات، وتركوا ورقة صغيرة كتبوا عليها عبارة صبيانية تقول: البرادع

دور التلفاز في تخريب الأسر وتفككها ووسائله في ذلك

دور التلفاز في تخريب الأسر وتفككها ووسائله في ذلك روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول: مازلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا. فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئاً. ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله -يعني: حتى طلق امرأته- قال: فيقربه ويدنيه ويقول: نعم أنت) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أفسد امرأة على زوجها فليس منا). وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) (خبب) أي: أفسد الزوجة على زوجها. أما تطبيق هذا الكلام على التلفاز وتوأمه الفيديو في تمزيق الحياة الزوجية فله وسائل متعددة: الوسيلة الأولى: أنه قد يدفع الزوجة دفعاً إلى أن تقارن بين بيتها المتواضع وبين تلك القصور الفارهة والبيوت الواسعة والفرش الوثيرة والثروات النفيسة والملابس الفخمة، وما أدراك ما الملابس عند أولئك النساء! ثم توازن بين مستواها المعيشي المحدود وبين ما تراه على شاشة التلفاز من خدم وحشم وما لذ وطاب من ألوان الطعام والشراب، فتتأفف من حالها، وتزدري نعمة الله عليها، ثم تجحد فضل زوجها عليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه). وقال صلى الله عليه وسلم للنساء يوماً: (إياكن وكفر المنعمين. فقالت أسماء بنت زيد رضي الله عنها: يا رسول الله! وما كفر المنعمين؟ فقال: لعل إحداكن تطول أيمتها من أبويها -يعني: تبقى بدون زوج مدة طويلة عند أبويها- ثم يرزقها الله زوجاً ويرزقها منه ولداً، فتغضب الغضبة فتكفر، فتقول: ما رأيت منك خيراً قط) وهذا هو كفران العشير الذي تُوعدن عليه بالنار، فقد يدفعها ما تراه إلى أن تطالبه بما هو فوق طاقته فترهقه من أمره عسراً. ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب ما تكلف امرأة الغني). وتنسى المسكينة التي تتعرض لهذا الإغراء التلفزيوني، فيحصل نوع من التقمص أو الاندماج مع الشيء الذي تراه، بحيث تصدق في الحقيقة، وهي لا تتفطن إلى أن هذا عبارة عن خيال لا ظل له من الحقيقة، فما هو إلا تمثيل، وما هذه الفخامة والأبهة إلا صالات يستأجرها المنتجون لتصوير الأفلام والمسلسلات فيها، وليست بيوتاً حقيقية، وما هي إلا أثاثات استأجروها من محلات الأثاث أو الملابس وكذا. الوسيلة الثانية في إفساد ما بين الرجل وامرأته: أن الرجل إذا رأى النساء كلهن محجبات مستورات ولم ير في التلفزيون ولا في الشارع ولا في العمل النسوة المتفرغات للتبرج بهذه الصورة الشنيعة فلاشك أنه سيقنع بزوجته ويرضى بما كتب الله له، فإذا كان يتطلع باستمرار إلى من هي أجمل فهذا -بلا شك- يزهده في امرأته ويجعله لا يغض البصر عما حرم الله إن لم يكن عنده خوف وورع من الله سبحانه وتعالى. الوسيلة الثالثة من وسائل الإفساد بين الرجل وامرأته: إبراز الزوجة التلفزيونية في صورة هي غاية في الرقة واللطف في معاملة زوجها، وكذلك إبراز هذا الزوج التلفزيوني في صورة العاشق الموله بزوجته التلفزيونية، المتزلف لديها بكل ما يرضيها، فتنبعث مشاعر التألم والحسرة في قلب الزوج المشاهد، وهو يرى زوجته منهمكة في خدمة البيت والأولاد، وتثور مشاعر الحرمان في قلب الزوجة المشاهدة وهي ترى زوجها المكافح منهمكاً في السعي وراء الرزق الحلال، مطحوناً في أتون مسئوليته نحو بيته وأولاده، وقد شغل حتى عن نفسه، وينسى الاثنان أن الأمر لا يعدو أن يكون تمثيلاً خيالياً، وأن هؤلاء الممثلين والممثلات متفرغون لمهنة التمثيل، ومحترفون لهذا النوع من التزوير، وأنهم في الحقيقة وفي الأعم الأغلب لا يعرفون حياة الأسرة ولا قيمها، وإنما يتقنون تمثيلها فقط، ولا يخفى على أحد أن هذا الذي يسمى بالوسط الفني يعتبر أكثر طبقات المجتمع شقاء وتفككاً وتعرضاً للأمراض النفسية والجسمية، فضحكات أهله صناعة، وبسماتهم أوامر من المخرجين، وأزياؤهم ملك لشركات الإنتاج. الوسيلة الرابعة من وسائل إفساد ما بين المرء وزوجه: أن برامج التلفاز والفيديو يقوم بأدائها رجال ونساء، وهم بواسطة ما يسمى بالمكياج يبدون في أشد مظاهر الفتنة، ولابد للمشاهد الرجل من أن يتأثر بدرجة ما بالمذيعة أو الممثلة أو المطربة، ولابد للمرأة التي تشاهد الفيديو أو التلفزيون من التأثر بدرجة ما بنفس الطريقة، ومن أراد أن ينفي هذا الأمر فإنما هو مكابر مغالط، أو أنه غير سوي جسدياً أو نفسياً أو عقلياً، ومثل هؤلاء لا يعول عليهم ولا يعتد بآرائهم. يقول بعض الفضلاء في صيف إحدى السنوات: عندما كنت أقيم في إحدى المدن كان يزورنا أحد الأصدقاء لمشاهدة التلفزيون وهو متزوج وله أولاد، وفي إحدى المرات كان يرنو إلى المذيعة التي كانت تختم البرامج، فحدق فيها طويلاً واتجه إلينا قائلاً: بالله عليكم أهذه -يعني: زوجته- امرأة؟! فهذا أثر طبيعي لا افتراء فيه، وهذا واقع. وقد حكى الشيخ محمد الزمزمي في كتابه: (المرأة العصرية) أن امرأة لما خرجت من السينما قالت لمن معها من النساء: كيف يمكنني أن أرجع إلى ذلك الوجه الكئيب -تقصد زوجها- بعد رؤية هذه الوجوه التي نراها في شاشة السينما؟! إلى غير ذلك من الكلام الذي ذكرته.

حكم مشاهدة الفيديو والتلفاز

حكم مشاهدة الفيديو والتلفاز نستطيع أن نجزم على أساس ما سبق بأن العلاقة بين المشاهدين وبين الفيديو والتلفاز هي علاقة آثمة في كثير من صورها، ولا ينفي هذا إلا مكابر أو مغالط، هي علاقة معصية وعلاقة ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم بزنا العين، وإن كل مشاهد شجاع يستطيع أن يكون صريحاً مع نفسه ويعترف بهذه الحقيقة، وإنه يعلم أنه -على أقل تقدير- سيقع في خائنة الأعين بالنظر إلى ما حرم الله النظر إليه، وما تخفي صدورهم أكبر. فأين هؤلاء من قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] إلى قوله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية؟! أين هم من مجتمع الصحابة الأبرار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟! مجتمع الطهارة والنقاء والعفة، مجتمع لم يكن للرجال فيه سبيل إلى النظر إلى النساء إلا بنظرة الفجأة. عن جرير رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري)، فأين نظر الفجأة من نظرة العمد؟! وأين رؤية الوجه من رؤية ما عداه مما حرم الله كشفه؟! وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها). فعلى المرأة أن تجلس مع أختها بثياب المهنة التي تجلس بها في البيت؛ حتى لا تخرج هذه الأخت إلى زوجها أو أخيها وتصف هذه المرأة وتقول: شعرها كذا وجهها كذا وشكلها كذا. فمن شدة الوصف كأنه ينظر إليها. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الموت خاتمتك أيها الإنسان

الموت خاتمتك أيها الإنسان الموت كأس سيشرب منه كل الناس، فمن الناس من يشرب شربة هنيئة، ومنهم من يشرب شربة فيها من الغصص والمرارة ما الله به عليم، ولكل من الحالتين أسباب، فمن صلح عمله، وصدق في إيمانه أحسن الله خاتمته، وشرب تلك الشربة الهنيئة، ومن كان على غير ذلك لم تحسن خاتمته، ووجد تلك الغصص والمرارات.

علامات حسن الخاتمة

علامات حسن الخاتمة الحمد لله الذي قهر بالموت رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصّر به آمال القياصرة؛ حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم في الحافرة، فنقلوا من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل، فانظر هل وجدوا من الموت حصناً وعزاً؟ وهل اتخذوا من دونه حجاباً وحرزاً؟ وانظر هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟ فسبحان من انفرد بالقهر واستأثر باستحقاق البقاء، وأذل ضعاف الخلق بما كتب عليهم من الفناء، ثم جعل الموت مخلصاً للأتقياء وموعداً في حقهم للقاء، وجعل القبر سجناً للأشقياء وحبساً ضيقاً عليهم إلى يوم الفصل والقضاء، فله الإنعام بالنعم المتظاهرة، وله الانتقام بالنقم القاهرة، وله الشكر في السماوات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة على محمد ذي المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

النطق بالتوحيد عند الموت

النطق بالتوحيد عند الموت عن الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال العبد: لا إله إلا الله، والله أكبر قال الله عز وجل: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، وأنا أكبر، وإذا قال العبد: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله لا شريك له، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي، من رزقهن عند موته لم تمسه النار) أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى في مسنده وعبد بن حميد في المنتخب، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الألباني: إسناده صحيح. وفي رواية أخرى زيادة: (ومن قال في مرضه -يعني: ذلك كله- ثم مات لم يدخل النار) وإسناده جيد. هذا الحديث ينبئ أن الإنسان إذا وفق إلى النطق بهؤلاء الكلمات عند حضور الموت وعند انقضاء الأجل، فإن هذه عصمة له من النار، فهذه إحدى علامات حسن الخاتمة، فعلى الإنسان أن يحفظ هذه الأذكار ليختم به حياته، أو إذا شاهد رجلاً يحتضر وقد قارب الموت، فليلقنه هؤلاء الكلمات؛ طمعاً في هذا الثواب العظيم والفضل الجزيل. (من رزقهن عند موته لم تمسه النار) أي: من وفق إليها عند موته لم تمسه النار. فما من شك أن هذا العلم مما يحتاج إليه في أشد الأوقات صعوبة على الإنسان، وهذه اللحظة لا يوجد إنسان على وجه الأرض ينكر أنه لن تأتيه هذه اللحظة آجلاً أو عاجلاً. إنك ميت وابن ميتٍ وذو نسبٍ في الهالكين عريق فكلٌ منا كما مات آباؤه وأجداده سوف تأتيه هذه اللحظة، فليستعد لها بما ينجيه من الأهوال التي بعدها، وأول ذلك أن يحفظ هذه الكلمات ويحفظها من يحبهم ومن يلوذون به، لعلهم ينجون بذلك، وجماع هذا الذكر أن يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، لا إله إلا الله لا شريك له، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والتوفيق إلى النطق بهذه الكلمات عند الموت من علامات حسن الخاتمة. ويقودنا الكلام في هذا الأمر إلى علامات أخرى مما يستأنس ويستدل بها على حسن خاتمة الإنسان، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض هذه العلامات في جملة من الأحاديث الصحيحة، وأعظم هذه العلامات أن يوفق إلى النطق بهذه الأذكار. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله الله دخل الجنة)، وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: (رأى عمر طلحة بن عبيد الله ثقيلاً، فقال: مالك يا أبا فلان! لعلك ساءتك ابنة عمك يا أبا فلان؟! -يعني: هل زوجتك ضايقتك فأنت ثقيل من أجل هذا؟ - قال: لا، وأثنى على أبي بكر، ثم قال: فإني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ما منعني أن أسأله عنه إلا القدرة عليه حتى مات، سمعته يقول: إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه، ونفس الله عنه كربته، فقال عمر: إني لأعلم ما هي. قال: وما هي؟ قال: تعلم كلمة أعظم من كلمة أمر بها عمه عند الموت: لا إله إلا الله، قال طلحة: صدقت! هي والله هي). أخرجه الإمام أحمد وإسناده صحيح. فمن أعظم علامات حسن الخاتمة أن يوفق الإنسان للنطق بكلمة لا إله إلا الله؛ بحيث تكون آخر كلامه، والعلماء مختلفون هل يتمها فيقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟ والأقرب إلى الأحاديث أن يقتصر على شهادة التوحيد، فيكون آخر كلامه: لا إله إلا الله. فمن حضر إنساناً يحتضر فعليه أن يلقنه إياها بلطف، فإذا حصل منه بعد أن نطق بكلمة التوحيد كلاماً آخر، فعليه أن يوجهه إلى تكرارها؛ حتى تكون آخر كلامه. عرق جبين الإنسان عند الموت إحدى علامات حسن خاتمته؛ لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أنه كان بخراسان وعاد أخاً له وهو مريض، فوجده للموت، فإذا هو يعرق جبينه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (موت المؤمن بعرق الجبين)، فهذه علامة موت المؤمن، وهي أيضاً من علامات حسن الخاتمة.

الموت برشح الجبين

الموت برشح الجبين عرق جبين الإنسان عند الموت إحدى علامات حسن خاتمته؛ لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه كان بخراسان وعاد أخاً له وهو مريض، فوجده للموت، فإذا هو يعرق جبينه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (موت المؤمن بعرق الجبين)، فهذه من علامات حسن الخاتمة.

الموت يوم الجمعة أو ليلتها

الموت يوم الجمعة أو ليلتها العلامة الثالثة: الموت ليلة الجمعة أو نهارها: لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر).

الاستشهاد في ساحة القتال

الاستشهاد في ساحة القتال العلامة الرابعة: الاستشهاد في ساحة القتال: قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]. وفي ذلك أحاديث منها قوله صلى الله عليه وآله سلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، وهذه كلها للشهيد. ومن أجل ذلك وجدنا المجاهدين في جميع الأعصار يتسابقون إلى الموت في سبيل الله تبارك وتعالى؛ لأن هذا أكثر ما يضمن به الإنسان غفران ذنوبه، ويؤمن أنه سوف ينتقل إلى الجنان وإلى النعيم في جوار الرحمن تبارك وتعالى، وأعظم ما يفزع أعداء المسلمين أن تستيقظ فيهم حاسة الجهاد، وينادى فيهم بالجهاد المقدس في سبيل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى، حتى اليهود في هذا الزمان وفي هذه الأوضاع التي نعيشها اليوم، أخوف ما يخافون أن يعود النداء الديني أو الجهاد الديني المقدس، فهذا هو الذي يهابونه، أما العلمانيون، أما الفلسطينيون الذين يريدون أن يحرروا الأرض، ويقيمون الدولة العلمانية، وينالون المآرب؛ فهؤلاء لا يساوون عند اليهود جناح بعوضة، لكن أخوف ما يخافه اليهود -مع الضعف الذي عليه المسلمون الآن- أن يعود المسلمون إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فهم يعلمون أن ذلك كائن، كما نعلم ذلك نحن أيضاً. لما رفعت راية الجهاد نقية من الشوائب في أفغانستان، هرع آلاف الشباب من جميع أقطار الأرض يلبون ذلك النداء ويبذلون دماءهم، حتى كان بعض الإخوة -رحمهم الله- إذا نزلوا في المطار في باكستان يمزقون جوازات السفر، إمعاناً في إشهاد الله أنهم لا يريدون العودة من حيث أتوا، وإنما يريدون أن يذهبوا إلى الجنة من خلال الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فكان ما كان من إعادة لنماذج السلف الصالح رضي الله عنهم في البذل والتضحية في سبيل هذا الدين. فانظر كيف يكون الأمر لو كان هذا الجهاد في القدس أو في سبيل تحرير المسجد الأقصى، أو استعادة فلسطين المسروقة المبيعة، فما من شك أن اليهود لهم حق في أن يخافوا من عودة النداء للجهاد الإسلامي في سبيل الله تبارك وتعالى، وما من شك أن هذا كائن لا محالة، ونجزم بذلك تماماً كما نجزم بأن الشمس ستشرق غداً من المشرق. الشاهد أن الذي يدفع المسلم إلى الجهاد، وخوض ساحات القتال في سبيل الله؛ هو الطمع في الثواب، واليقين بأن ما عند الله خير وأبقى. من لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسباب والموت واحد ويعلم أيضاً أنه لن يموت إلا بأجل قد كتبه الله وقدره، كما يقول الشاعر: أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر وكما قال أبو بكر رضي الله عنه ناصحاً خالداً رضي الله عنه: احرص على الموت توهب لك الحياة. وقال خالد رضي الله تعالى عنه وهو يحتضر: ما من موضع في بدني إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على سريري كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء. والسر الذي لا يفقهه أعداء الإسلام، أن المسلم إذا قتل عدواً من أعداء الله أو قتله عدو الله؛ فإن له الثواب الجزيل عند الله تبارك وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه) ربما تقاعس الإنسان عن الجهاد في سبيل الله خشية أن يلقى الله فيؤاخذه الله بذنوبه، فمهما كانت ذنوبه إذا أقبل على الشهادة في سبيل الله، فالشهادة ضمان وتأمين أن تغفر جميع ذنوبه بأول دفعة تخرج من دمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاءٌ للخطايا). (ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه). وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟! قال صلى الله عليه وسلم: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة). فمن أجل فتنته وامتحانه واقتنائه لأسمى الجهاد، فإن الجزاء من جنس العمل، فإن الله يقيه الفتنة إذا نزل في قبره بخلاف كل مؤمن، فإن كل مؤمن يفتن في قبره، ويضيق عليه حتى تختلف أضلاعه -أي: ضلوع الصدر تتشابك من شدة الضغط-، فهذه الضغطة لا ينجو منها أحد، ولو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ، ولنجا منها هذا الصبي كما أخبر عليه الصلاة والسلام. أيضاً ترجى هذه الشهادة لمن سألها مخلصاً من قلبه ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه). فالعبرة بالصدق وبالنية، فمن طلب الله عز وجل الشهادة وكان صادقاً وجازماً بأنه إذا رفعت راية الجهاد في سبيل الله، فإنه لن يتقاعس وسيقدم على بذل روحه ومهجته، فإن الله يكافئه بهذه النية، فيبلغه منازل الشهداء وإن مات على فراشه.

الموت في الغزو

الموت في الغزو من علامات حسن الخاتمة: الموت غازياً في سبيل الله: يقول صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل. قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد) أخرجه مسلم.

الموت بالطاعون

الموت بالطاعون ومن هذه العلامات: الموت بالطاعون: فعن حفصة بنت سيرين قالت: قال لي أنس بن مالك رضي الله عنه: بم مات يحيى بن أبي عمرة؟ قلت: بالطاعون. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون شهادة لكل مسلم) أخرجه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد) أخرجه البخاري وغيره.

الموت بداء البطن

الموت بداء البطن ومنها أيضاً: الموت بداء البطن: وفيه حديثان: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن مات في البطن فهو شهيد) والظاهر أنه التهاب بالبرتوريا أو نحو هذا. الثاني: عن عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره) فقال الآخر: بلى، وفي رواية: صدقت.

الموت بالغرق أو النفاس

الموت بالغرق أو النفاس أما العلامتان الثامنة والتاسعة فالموت بالغرق والهدم: لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله) متفق عليه. ومن هذه العلامات أيضاً: موت المرأة في نفاسها: أي: بسبب ولدها؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد عبد الله بن رواحة قال: فما تحوز له عن فراشه، فقال: أتدري من شهداء أمتي؟ قالوا: قتل المسلم شهادة. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة). (المرأة يقتلها ولدها جمعاء) يعني: تموت في أثناء الوضع، فيخرج الولد وتموت أثناء ذلك فهذه شهيدة، ولها أجر الشهداء في سبيل الله، وتكافأ يوم القيامة بأن ولدها هذا يجرها بسرره إلى الجنة، وسرره هو الحبل السري.

الموت بالحرق وذات الجنب

الموت بالحرق وذات الجنب العلامتان الحادية عشرة والثانية عشرة: الموت بالحرق وذات الجنب: وفيها أحاديث أشهرها حديث جابر بن عتيك مرفوعاً: (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة).

الموت دفاعا عن المال أو الدين أو النفس

الموت دفاعاً عن المال أو الدين أو النفس أيضاً من هذه العلامات وهي الثالثة عشرة: الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه: مثل إنسان يهجم عليك يريد أن يغتصب مالك، فأنت تدفع هذا الصائل، فلو قتلت في حالة الدفاع؛ فأنت شهيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد). وفي رواية: (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد) أخرجه الشيخان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) أخرجه مسلم. العلامتان الرابعة عشرة والخامسة عشرة: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس: يقول صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد).

الموت في الرباط

الموت في الرباط العلامة السادسة عشرة: الموت مرابطاً في سبيل الله: والرباط أن يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين التي تواجه الأعداء، ويقف حارساً لهذه الثغور، فهذا هو الرباط، قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان) رواه مسلم والنسائي وغيرهما. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ميت على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله؛ فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر).

الموت على عمل صالح

الموت على عمل صالح العلامة السابعة عشرة: الموت على عمل صالح: أي: أن يموت الإنسان على عمل من الأعمال الصالحة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة). هذه هي العلامات التي يمكن حصرها، ولعل غيرها كثير؛ لكن هذا ما أمكن حصره كما جمعها الشيخ الألباني -حفظه الله- في كتابه: (أحكام الجنائز وبدعها). وإذا كان الإنسان لا يضمن متى يأتيه أجله، فعليه أن يكون مستعداً بالأعمال الصالحة والنوايا الصالحة، حتى إذا ما جاءه الأجل كان مستعداً للقاء الله تبارك وتعالى.

أسباب سوء الخاتمة

أسباب سوء الخاتمة ذكر الدكتور عمر الأشقر -حفظه الله- في كتابه (القيامة الصغرى) فصلاً جيداً يناقش فيه سوء الخاتمة، وهناك حكايات عظيمة جداً في هذا الباب، والعبرة فيما سنحكيه -إن شاء الله- بصدق الراوي، وهذه الأشياء لا بأس بحكايتها، وإنما العمدة أن يكون الراوي صادقاً وحاكياً بصدق، وهذا لا يبعد وقوعه، وأن يكشف الله تبارك وتعالى بعض هذه العلامات، فإن في ذلك عبرة ونذيراً من النذر التي تقوم بها الحجة على من بلغته. قبل أن نستعرض بعض هذه الوقائع نذكر أسباب سوء الخاتمة كما ذكرها الدكتور عمر الأشقر يقول: بعض الذين يظهرون الإسلام ويعملون به يختم لهم -والعياذ بالله- بخاتمة سيئة، وقد تبدو تلك الخاتمة من بعض من حضرهم الموت، وقد تحدث الشيخ صديق حسن خان رحمه الله عن سوء الخاتمة فقال: ولها أسباب يجب على المؤمن أن يحترز عنها. منها الفساد في الاعتقاد.

فساد الاعتقاد

فساد الاعتقاد من أعظم أسباب سوء الخاتمة: منها الفساد في الاعتقاد، يعني: أن تكون عقيدة الرجل فاسدة والعياذ بالله، حتى لو كان رجلاً صالحاً مجتهداً في الزهد والعبادة والورع لكن عنده فساد في العقيدة، فهذا من أعظم الأسباب التي تجلب له سوء الخاتمة. فإن كان له فساد في اعتقاده مع كونه قاطعاً به متيقناً به غير ظانٍ أنه أخطأ فيه، فقد ينكشف له في حال سكرات الموت بطلان ما اعتقده من الاعتقادات، وحينئذ يهتز ذلك الاعتقاد في تصوره حينما ينكشف له، فإن كان عنده اعتقادات أخرى صائبة ربما اهتزت هي أيضاً ووقع في الريبة والعياذ بالله. وما من شك أن الريبة تنافي الإيمان كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، فإذا دخل الإيمان شك ولو للحظة وقبض الإنسان عليه ضاع كل هذا الإيمان، فيكون بطلان بعض اعتقاداته سبباً لزوال بقية اعتقاداته الصائبة، وخروج روحه في هذه الحالة قبل أن يتدارك ويعود إلى أصل الإيمان خاتمة سوء؛ لأنه يخرج من الدنيا بغير إيمان. فالعقيدة الفاسدة تنكشف لصاحبها عند الموت كما يشهد بذلك قوله تبارك وتعالى في حق المسيح عليه السلام: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] على أحد التفسيرين، فإذا كان الضمير يعود إلى أهل الكتاب فيكون معناها: قبل أن يموت أي إنسان من أهل الكتاب فإنه ينكشف له بطلان اعتقاده، فإن كان نصرانياً يعبد المسيح فإنه قبل أن يموت وتخرج روحه تنكشف له الحقيقة، ويظهر له بطلان ما كان عليه من العقيدة عند موته. والتفسير الآخر أن (الهاء) في قوله: (قبل موته) تعود إلى المسيح عليه السلام، فيكون المعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته حين ينزل من السماء في آخر الزمان، وحينئذ لا يقبل المسيح إلا الإسلام، فيضع الجزية، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب؛ كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم. وقد سبق أن بينا في مناسبات أخرى أن الشيطان يحضر المؤمن عند الموت، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت)، فيأتي الشيطان ويكون ملبساً له ما هو عليه، ويحرص على أن يختم له بسوء ما دام فيه نفس، وما دام فيه روح، وقد حكي في ترجمة الإمام أحمد أنه عند احتضاره رضي الله عنه كان يقول: لا بعد، لا بعد، فأغمي عليه ثم أفاق فقال له ابنه: يا أبت! إنك قلت كذا وكذا فما سبب ذلك؟ فقال الإمام رحمه الله: ذاك شيطان عبر لي في جانب الحجرة يعد أنامله ويقول: يا أحمد! فتني -يعني: فاتني أن أضلك وأنت حي- فكان يجيب الإمام ويقول: لا بعد. يعني: ليس بعد ما دام فيّ نفس وروح، فأنا قابل لأن أبتلى بك، وهذا من فقهه ووعيه رضي الله تبارك وتعالى عنه. يقول الله تبارك وتعالى في هؤلاء الذين يصابون بفساد العقيدة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]. ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. فكل من اعتقد شيئاً على خلاف ما هو عليه، فهو واقع في هذا الخطر، ولا ينفعه الزهد والصلاح، وإنما ينفعه الاعتقاد الصحيح المطابق لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن العقائد الدينية لا يعتد بها إلا إذا كانت مأخوذة من الكتاب والسنة.

الإصرار على المعاصي

الإصرار على المعاصي السبب الثاني: الإصرار على المعاصي: فإن من أصر عليها يحصل في قلبه إلفها، وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يذكره عند موته، فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، والذي يغلب على القلب هو مقياس لحظ الإنسان من الخير أو غيره، كما قال الشاعر: أآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت عند هبوبي يتحدث عن غلبة ذكر محبوبه له في حالتي النوم واليقظة! والإنسان إذا مات فآخر ما يفكر فيه هو أحب شيء إليه، وأكثر شيء كان يشغل باله وعقله، سواء كانت تشغله التجارة، أو يشغله المال، أو تشغله الدنيا، أو تشغله النساء، وهكذا فأكبر ما يلتصق بقلبك ويعمر قلبك هو الذي يشغلك في هاتين الحالتين: حالة اليقظة، وبداية النوم. والمؤمن إذا أراد أن يختبر إيمانه فلينظر ما هو الشيء الذي يسبق إلى قلبه، فأحب شيء إليك هو الذي يقفز إلى ذهنك في هذه اللحظة، إن كان هو ذكر الله فإنك تستيقظ لذكر الله، لقيام الليل، لصلاة الفجر، للدعاء، أو للعمل والوظيفة، لملاقاة الأصدقاء والأحباب، وهكذا فما يغلب على قلبك يظهر في هاتين اللحظتين. وكذلك يظهر ما تحبه عند الموت، فيغلب على قلبك ما عودت هذا القلب أن يدخله وأن يعمره، فمن اعتاد على المعاصي وألف المعاصي والأغاني والتلفزيون والفيديو والممثلين والرياضة والكرة ونحوها ظهر ذلك عند الموت، حتى رأينا من يرتبط بالموسيقى والغناء إلى آخر لحظة، ويقول: ادفنوني وضعوا معي العود الذي طالما صددت به عن سبيل الله، ويدفن معه العود الذي كان يعزف به في حياته سنوات كثيرة! فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر، يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، وإن كان ميله إلى المعاصي أكثر، يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر المعاصي، فربما تغلب عليه حين نزول الموت به شهوة ومعصية من المعاصي، ويتقيد قلبه بها، وتصير حجاباً بينه وبين ربه وسبباً لشقاوته في آخر حياته، وقد جاء في الأثر: المعاصي بريد الكفر. والذي لم يرتكب ذنباً أصلاً أو ارتكب وتاب فهو بعيد عن هذا الخطر، وأما الذي ارتكب ذنوباً كثيرة حتى كانت أكثر من طاعاته ولم يتب منها، بل كان مصراً عليها، فهذا الخطر في حقه عظيم جداً؛ إذ قد يكون غلبة الإلف بها سبباً لأن يتمثل في قلبه صورتها، ويقع منه ميل إليها، وتقبض روحه عليها، فتكون سبباً لسوء خاتمته. ينتقل إلى الدار الآخرة وهو عظيم الحسرة على متاع الدنيا الذي سيفارقه، فيستحسر لفراق خلانه وأصدقائه ومحبوباته من أعراض الدنيا. ويعرف ذلك بمثال: وهو أن الإنسان يرى في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره، حتى إن الذي قضى عمره في العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء، والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة والخياط، إذ لا يحضر في حال النوم إلا ما حصل له مناسبة مع قلبه لطول الإلف. والموت وإن كان فوق النوم، ولكن سكراته وما يتقدمه من الغشي قريب من النوم، فطول الإلف بالمعاصي يقتضي تذكرها عند الموت وعودها في القلب وتمثلها فيه وميل النفس إليها، وإن قبض روحه في تلك الحالة يختم له بالسوء. قال الذهبي في الكبائر: قال مجاهد: ما من ميت يموت إلا مُثِّل له جلساؤه الذين كان يجالسهم، فاحتضر رجل ممن كان يلعب بالشطرنج فقيل له: قل: لا إله إلا الله. فقال: شاهك -يبدو أن هذه عبارات يستعملها لاعبو الشطرنج- ثم مات، فغلب على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب، فقال عوض كلمة التوحيد: شاهك. وإنسان آخر كان يجالس شراب الخمر حين حضره الموت جاءه إنسان يلقنه الشهادة - يقول له: قل: لا إله إلا الله- فقال له: اشرب واسقني، ثم مات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فبعض الناس يتصور أن النطق بكلمة الشهادة (لا إله إلا الله) سهل عند الموت، كلا، لقد جاء في الحديث: (من رزقهن) فهذا رزق وهذا توفيق، ولن تكون الحركة إرادية كما هي الآن، حركة اللسان الآن إرادية إن أردت أن تتكلم تكلمت، وإن أردت أن تسكت ملكت لسانك، لكن في تلك اللحظة لا سلطان لك على لسانك، وإنما الموفق من وفقه الله، والسعيد من أسعده الله تبارك وتعالى، فوفقه وأجرى لسانه بهذه الكلمة الشريفة أن ينطق بـ (لا إله إلا الله). الإنسان إذا أصابه مرض شديد أو ثقيل أحياناً يريد أن يذكر الله فلا يستطيع من شدة الإعياء ومن شدة المرض الذي يصيبه، فلا يقوى على ذلك، فكيف عند معاناة سكرات الموت التي قال فيها أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) ويضع يده في الماء ثم يضعها على جبهته ويقول: (اللهم أعني على سكرات الموت) فكيف يفعل من هو دون سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؟ فهذا ليس في طاقة الإنسان، فبعض الناس تسوف له نفسه ويقول: حينها سأقول: لا إله إلا الله وأدخل الجنة! يمنيه الشيطان ويغره!

كلام ابن القيم عن آفات المعاصي

كلام ابن القيم عن آفات المعاصي ألف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، وهذا الكتاب مما ينبغي أن يهتم به الإخوة اهتماماً شديداً جداً، فهو من الكتب الأساسية في نصيحة المسلمين للفرار من الذنوب والمعاصي إلى الله تبارك وتعالى. وقد ألفه رحمه الله جواباً على سؤال وجه إليه يقول فيه السائل: ما تقول السادة العلماء وأئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل ابتلي ببلية علم أنها إن استمرت به أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق فما يزداد إلا توقداً وشدة، فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟! رحم الله من أعان مبتلى! (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى! وإن الإنسان ليغبط هذا الرجل الذي سأل هذا السؤال؛ لأنه بهذا السؤال سن سنة حسنة، وبسبب سؤاله ألف الإمام ابن القيم هذا الكتاب المبارك النافع المفيد؛ فننتفع به إلى ما شاء الله تبارك وتعالى، فننصح الإخوة جميعاً أن يهتموا جداً بهذا الكتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي). ومن فطنة هذا السائل أنه لم يحدد داءً معيناً، فمكن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله أن يوسع الجواب ويتكلم في كل احتمال من أمراض القلب أو الجوارح التي يعاني منها هذا السائل فجاء الجواب مفيداً، ويسمى هذا الكتاب أيضاً: (الداء والدواء). يذكر ابن القيم رحمه الله من آفات المعاصي أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه. ثم قال رحمه الله: هذا وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك؛ حتى قيل لبعضهم ممن كان يسرف على نفسه بالمعاصي ولا يتوب حتى حضره الموت: قل: لا إله إلا الله. فقال: آه، آه، لا أستطيع أن أقولها. سبحان الله! ينطق لسانه بكل هذه الجملة ولا يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله؛ يحال بينه وبينها! كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] وبعض الناس يفهم أن المراد من الطعام والشراب والشهوات، بل المقصود حيل بينهم وبين ما يشتهون من التوبة والرجوع إلى الدنيا والاستدراك. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، قال: شاه رخ غلبتك -وهذه من أحجار الشطرنج-؛ لأنه كان في حياته مفتوناً بلعبة الشطرنج، ثم قضى ومات. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب ثم قضى. وقصة هذا الرجل أنه أراد سوءاً بامرأة قالت له: كيف الطريق إلى حمام منجاب؟ فدلها على مكان، ثم دخلت هذا المكان فأغلق عليها الباب، ففطنت المرأة لما يريده، فخدعته وقالت له: دعني أتهيأ وأحضر أشياء وأعود إليك، ففرت منه المرأة وسلمت من أذاه، فكان يهيم في الطرقات وينشد هذا الشعر متحسراً على أنه تركها تخدعه وتفر منه، فكان يمشي في الطرقات ويقول: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب فأجابه بعض الشعراء: هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب الشاهد أنه عند احتضاره كان يقال له: قل: لا إله إلا الله، فكان يردد هذا البيت. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله. فجعل يهذي بالغناء؛ لأن الغناء والموسيقى غلبت على حياته- وكان يقول: تاتا تنتنا، حتى قضى. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله. فكان يجيب: ما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها؟! ثم قضى ولم يقلها والعياذ بالله. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله. فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة؟! ولم يقلها. وقيل لآخر ذلك: فقال: هو كافر بما تقول. وقيل لآخر ذلك: فقال: كلما أردت أن أقولها لساني يمسك عنها! والعياذ بالله. يقول ابن القيم: أخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته، فجعل يقول: لله فلس لله فلس؛ حتى قضى. وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده، وجعلوا يلقنونه: لا إله إلا الله. وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشترىً جيد، هذه كذا حتى قضى. يقول: سبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من معاصي الله، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وعطل لسانه عن ذكره، وجوارحه عن طاعته؛ فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع، وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته؛ فإن ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة، فمن ترى يسلم من ذلك؟! فهناك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطاً، فمن كان قلبه غافلاً عن الله، متبعاً لهواه، أسيراً لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته؛ فبعيد أن يوفقه الله للخاتمة الحسنى، ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين، وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعاً بالأمان: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:39 - 40] كما قيل: يا آمناً من قبيح الفعل يصنعه هل أتاك توقيع أم أنت تملكه جمعت شيئين أمناً واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه والمحسنون على درب المخاوف قد ساروا وذلك درب لست تسلكه فرطت في الزرع وقت البذر من سفه فكيف عند حصاد الناس تدركه هذا وأعجب شيء منك زهدك في دار البقاء بعيش سوف تتركه من السفيه إذاً بالله أنت أم ال مغبون في البيع غبناً سوف تدركه

العدول عن الاستقامة

العدول عن الاستقامة يذكر الشيخ صديق حسن خان من أسباب سوء الخاتمة: العدول عن الاستقامة: فإن من كان مستقيماً في ابتدائه ثم تغير عن حاله وخرج مما كان عليه في ابتدائه، يكون ذلك سبباً لسوء خاتمته، فمن سلك الطريق ثم أعرض فالإعراض بعد الإقبال من علامات الخذلان والعياذ بالله تبارك وتعالى، لكن الإنسان لا ييئس من روح الله، ما دام الإنسان يرى أن حسناته تسره وسيئاته تسوءه، فما زال في قلبه حياة، كما في الحديث: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن). فما دام الإنسان يشعر بعدم الرضا عن نفسه، وتسوءه السيئة إذا ارتكبها، وتسره وتفرحه الحسنة إذا فعلها، فهذا إنسان فيه أمل، وفيه مطمع أن يعود إلى الاستقامة؛ بل إلى أعظم مما كان، فلا يقنط الإنسان من رحمة الله ومن روح الله تبارك وتعالى. لكن الإعراض بعد الإقبال أمر ليس بالهين، فإنه يبتلى بموت القلب في هذه الحالة؛ لأنه إذا أعرض عن الله فإلى أين يتجه؟! كان ماشياً على طريق الله؛ يكره التلفزيون، ويكره الموسيقى، ويكره الأغاني، ويكره كل ما يشغله عن الله، ثم يحيد عن هذا الطريق بعد ذلك، أئلى خيرٍ من الله؟ هل وجد في أصحاب الرياضة والكرة والشطرنج واللهو واللعب أفضل مما وجده في الكتاب وفي السنة وفي سير الصالحين؟! إبليس كان في ابتدائه رئيس الملائكة ومعلمهم وأشدهم اجتهاداً في العبادة، ثم لما أمر بالسجود لآدم أبى واستكبر وكان من الكافرين! وبلعام بن باعوراء آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان من الغاوين. وبرصيصا العابد الذي قال له الشيطان: اكفر. فلما كفر قال: إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فالشيطان أغراه على الكفر، فلما كفر تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك كما قال تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:17].

ضعف الإيمان

ضعف الإيمان ومن أسباب سوء الخاتمة: ضعف الإيمان. فإن كان في إيمانه ضعف فإنه ضعف حب الله تعالى فيه، ويقوي حب الدنيا في قلبه ويستولي عليه، بحيث لا يبقى فيه موضع لحب الله تعالى، إلا من حيث حديث النفس بحيث لا يظهر له أثره في مخالفة النفس، ولا يؤثر في الكف عن المعاصي، ولا في الحث على الطاعات، فينهمك في الشهوات وارتكاب السيئات، فتتراكم ظلمات الذنوب على القلب، فلا تزال تطفئ ما فيه من نور الإيمان مع ضعفه، فإذا جاءت سكرات الموت يزداد حب الله ضعفاً في قلبه، لما يرى أنه يفارق الدنيا وهي محبوبة له، وحبه إياها غالب عليه، لا يريد تركها ويتألم من فراقها، ويرى ذلك من الله تعالى، فيُخشى أن يحصل في باطنه بغض لله تعالى بدل الحب! فهو يكره أن يفارق الدنيا، والإنسان يكره مفارقة محبوبه، فإذا أقبل على الله وهو لا يحب الله، ففي هذه الحالة يغلب عليه ما أحبه من الدنيا، فيخشى عليه أنه إذا أيقن بلقاء الله يبغض الله، وفي الحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه). فإذا خرجت روحه في هذه الحالة الخطرة فقد ختم له بالسوء، وهلك هلاكاً مؤبداً. والسبب في هذا هو حب الدنيا والركون إليها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تبارك وتعالى، فإذا خرجت روحه في تلك الحالة يكون قلبه ملتفتاً إلى الدنيا، ووجهه مصروفاً إليها، ويحصل بينه وبين ربه حجاب. حكي أن سليمان بن عبد الملك لما دخل المدينة حاجاً قال: هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم. فأرسلوا إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت؟ قال: إنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة؛ فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب. قال: صدقت. ثم قال: ليت شعري ما لنا عند الله تعالى؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله. قال: فأين أجده؟ قال: في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]، قال: فأين رحمة الله؟ قال: {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]. قال: يا ليت شعري كيف العرض على الله غداً؟ قال: أما المحسن فكالغائب الذي يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه -أي: كالعبد الهارب عندما يقدم على مولاه-، فبكى سليمان حتى علا صوته واشتد بكاؤه، ثم قال: أوصني. قال: إياك أن يراك الله تعالى حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.

حكايات من سوء الخاتمة

حكايات من سوء الخاتمة نذكر بعض الحوادث التي حُكيت ممن حضر بعض الناس عند موتهم. يقول الشيخ أبو عبد الله بن عبد الله السعيدان في كتابه (تذكرة الإخوان بخاتمة الإنسان): اعلم أن سوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا وما علم به والحمد لله، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقد أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه؛ حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله. أو يكون ممن كان مستقيماً ثم تغير عن حاله فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته وشؤم عاقبته. وقد خذل خلق كثير عند الموت، فمنهم من أتاه الخذلان من أول مرضه فلم يستدرك قبيحاً مضى، وربما أضاف إليه جوراً في وصيته، ومنهم من فاجأه الخذلان في ساعة اشتداد الأمر، فمنهم من كفر، ومنهم من اعترض وتسخط، نعوذ بالله من الخذلان! ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت، مثل البدعة والنفاق والكبر، ونحو ذلك من الصفات المذمومة. وسوء الخاتمة على رتبتين: إحداهما أعظم: وهي أن يغلب على القلب شك أو جحود عند سكرات الموت وأهواله، فيقتضي ذلك العذاب الدائم. الثانية دونها: وهي أن يتسخط الأقدار، أو يتكلم بالاعتراض، أو يجور في وصيته، أو يموت مصراً على ذنب من الذنوب، وسأذكر لك بعض الحوادث الدالة على سوء الخاتمة لعل النفس تعتبر بحال من مضى من مصارع القوم، فإن في ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

قصة تعذيب من أدخل التلفزيون على أهله

قصة تعذيب من أدخل التلفزيون على أهله ونحن سنذكر بعض القصص، ونذكركم قبل ذلك بقصة فيها زجر لكثير من الذين يتساهلون في الجلوس عاكفين كالعباد الخاشعين المتبتلين أمام هذا الصنم الذي ملأ البيوت (التلفزيون) وشقيقه (الفيديو) الذي ينتشر الآن في بيوت المسلمين، وفتن الناس به فتنة شديدة. وهذه قصة يحكيها بعض الشيوخ في كتاب (قصص التائبين) يقول: شيخ كبير في السن كان سبباً في هداية أسرة كاملة كانت غافلة لاهية تقضي معظم وقتها أمام شاشة التلفاز، لمشاهدة الصور المحرمة ومسلسلات الحب والغرام والهيام، فما هي تفاصيل القصة؟ هذه القصة ذكرها الشيخ صالح المالك في موعظة له في المسجد نقلاً عن رجل كان من الحاضرين، وأشار إلى أن هذا هو الشخص الذي حكى لي هذه القصة. يقول: في يوم من أيام شهر رمضان المبارك كنت نائماً في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلاً أعرفه من أقاربي قد مات، ولم أكن أعلم أن في بيته تلفازاً، فجاءني فضربني بقدمه ضربة كدت أصرع من ضربته وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي وقل لهم: أخرجوا التلفاز من بيتي. قال الشيخ: وكنت أرى هذا التلفاز في بيته وكأنه كلب أسود -والعياذ بالله-، فاستيقظت من نومي مذعوراً، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم وعدت إلى نومي، فجاءني في المنام مرة ثانية وضربني ضربة أقوى من الأولى، وقال لي: قم واذهب إلى أهلي وقل لهم: أخرجوا التلفاز من بيتي لا يعذبونني به، قال: فاستيقظت مرة ثانية وهممت أن أقوم، ولكني تثاقلت وعدت إلى نومي، فجاءني في المرة الثالثة وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين وقال لي: يا فلان! قم واذهب إلى أهلي، وقل لهم: خلصوني مما أنا فيه، خلصك الله! قال: فاستيقظت من نومي وعلمت أن الأمر حقيقة، فلما صليت التراويح من ذلك اليوم ذهبت إلى بيت صاحبي -وهو قريب لي- فلما دخلت إذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا على التلفاز ينظرون إليه وكأن على رءوسهم الطير -ينظرون إلى هذا الإله الجديد الصنم- فجلست، فلما رأوني قالوا مستغربين: ما الذي جاء بك في هذا الوقت، فليس هذا من عادتك؟! قال: فقلت لهم: جئت لأسألكم سؤالاً: لو جاءكم مخبر فأخبركم أن أباكم يعذب في قبره، هل ترضون بذلك؟! قالوا: لا، بل ندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب. قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم، فانفجروا جميعاً بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز (التلفاز) وكسره تكسيراً أمام الجميع معلناً التوبة، ولكن القصة لم تنته بعد! قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم فقال لي: خلصك الله كما خلصتني! فهذه عبرة لمن يعتبر. الإنسان لو أتى ببترول أو بنزين وسكبه على أولاده وأحرقهم، أهون من أن يجلسهم أمام أفسق الفساق الذي يعلمهم فنون الفساد، ويفسد عقائدهم، ويقطع عليهم الطريق إلى الله تبارك وتعالى. الحقيقة نحن نتمنى اليوم الذي نرى فيه جميع المسلمين يخرجون ويكومون هذا الجهاز ويكسرونه على أكوام القمامة، فهذا هو المكان الوحيد اللائق به، ويطهرون بيوتهم من هذا الصنم الجديد الذي يفسد عليهم دينهم، ويفسد عليهم دنياهم.

من علامات سوء الخاتمة في عهد السلف

من علامات سوء الخاتمة في عهد السلف أما ما وقع من علامات سوء الخاتمة في عهد السلف الصالح، فكثير من العلماء يذكرون أن الله سبحانه وتعالى إذا شاء أن يطلع بعض عبيده على شيء من هذا، فإن هذا يقع بالفعل. يقول شيخ الإسلام: قد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره وهو يعذب. وقال ابن رجب رحمه الله: قد أطلع الله من شاء من عباده على كثير مما ورد في هذه الأحاديث، حتى سمعوه وشاهدوه عياناًً. أما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا. قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك. فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار. قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال). وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس فسمع صوتاً فقال: يهود تعذب في قبورها). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهباً أو فضة، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد له يقال له: مدعم، أهداه له أحد بني الضباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئاً له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً! فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك - أو شراكان - من نار). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب قال: فرفعوه قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً). وعن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت هذه الريح لموت منافق! فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات).

من علامات سوء الخاتمة بعد العهد النبوي

من علامات سوء الخاتمة بعد العهد النبوي أما ما وقع في غير زمن النبي صلى الله عليه وسلم من علامات تدل على سوء الخاتمة فهي كثيرة، فبعضهم يظهر عليه ذلك عند اشتداد المرض، فيظهر عليه التسخط والاعتراض على قضاء الله والعياذ بالله. ومنهم من يظهر عليه عند احتضاره بحيث يتلفظ بكلام يغضب الله تعالى أو يحال بينه وبين كلمة التوحيد، وربما يظهر بعض ذلك عند تغسيله كالتغير في اللون ونحو ذلك. ومنهم من تظهر هذه العلامات عند إنزاله ودخوله في القبر، والبعض الآخر بعد دفنه في القبر، كما حصل لهذا المنبوذ الذي نبذته الأرض، فأبت أن يستقر فيها، نعوذ بالله من ذلك كله. يقول الشيخ: حدثني أبو عبد الرحمن اليماني -رجل صالح أحسبه كذلك والله حسيبه- وهو جار لي، أنه لقن رجلاً ساعة الاحتضار شهادة أن لا إله إلا الله، فكان الرجل يحرك رأسه يميناً وشمالاً وهو لا يتكلم وكأنه يقول لي: لا، لن أقولها! يقول: وحدث ذلك لي مرتين. قال ابن أبي الدنيا رضي الله عنه: حدثنا ابن أحمد الفقيه قال: نزل الموت برجل كان عندنا فقيل له: استغفر الله. فقال: ما أريد. فقيل له: قل: لا إله إلا الله. فقال: ما أقول؟ ثم مات. يقول: وسمعت أن رجلاً كان كثير الصوم والتعبد اشتد به الألم فافتتن، فسمعته يقول: لقد قلبني في أنواع البلاء، فلو أعطاني الفردوس ما وفى بما يجري علي، ثم صار يقول: وأي شيء في هذا الابتلاء من المعنى؟! إن كان موتاً فيجوز، أما هذا التعذيب فأي شيء المقصود به؟! والعياذ بالله. وسمعت شخصاً آخر يقول وقد اشتد به الألم -وأنا أستغفر الله من نقله-: ربي يظلمني! وهذه حالة من لم ينعم الله عليه بالتوفيق والثبات. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: ولقد رأيت بعض الحساب وهو في غاية المرض يعقد بأصابعه ويحسب!

كلام ابن القيم في سوء الخاتمة

كلام ابن القيم في سوء الخاتمة قال ابن القيم رحمه الله: أخبرني رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت، وكان تاجراً يبيع القماش، قال: فجعل يقول: هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص يساوي كذا وكذا، حتى مات. والحكايات في هذا كثيرة جداً كما يقول الإمام ابن القيم، فمن كان مشغولاً بالله وبذكره ومحبته في حال حياته وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ومن كان مشغولاً بغيره في حال حياته وصحته فيعسر عليه اشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت؛ ما لم تدركه عناية من ربه. ولأجل هذا كان جديراً بالعاقل أن يلزم قلبه ولسانه ذكر الله حيثما كان لأجل تلك اللحظة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا)، إذا عودت قلبك الذكر فإنك توفق وتسهل عليك هذه الكلمة في أحوج لحظة أنت محتاج إليها فيها. وأنا أعرف بعض الناس كان يواظب على الذكر حتى وهو نائم، فكان يسمع صوته وهو يذكر الله سبحانه وتعالى، فمن أدمن الذكر غلب عليه الذكر، وكان قريباً من الله تبارك وتعالى، فإذا فاتته كلمة لا إله إلا الله في تلك اللحظة أو ختم له بالسوء شقي شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. قال موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:29 - 35]. ولولا أن الذكر محتاج لمعونة لما قال عليه الصلاة والسلام: (أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك). أما ما ظهر عند التغسيل فكثير أيضاً، يقول الشيخ القحطاني في محاضرة له: إن بعض الأموات عندما كنت أغسلهم كان بعضهم تنقلب بشرته إلى السواد، وبعضهم يقبض يده اليمنى، وبعضهم يدخل يده في فرجه، وبعضهم يشم رائحة الإحراق تخرج من فرجه، وبعضهم تسمع كأن أسياخاً من نار قد أدخلت في فرجه، ولقد جيء بميت فلما ابتدأنا بتغسيله؛ انقلب لونه كأنه فحمة سوداء، وكان قبل ذلك أبيض البشرة، فخرجت من مكان التغسيل وأنا خائف، فوجدت رجلاً واقفاً فقلت: هذا الميت لكم؟ قال: نعم. قلت: أنت أبوه؟ قال: نعم. قلت: ما شأن هذا الرجل؟ قال: هذا الرجل كان لا يصلي. فقلت له: خذ ميتك فاغسله. ولقد حدثني عدد ممن يغسلون الموتى من مناطق مختلفة عن بعض ما شاهدوه أثناء التغسيل من هذه العلامات. وإذا حضر الإنسان ميتاً ورأى شيئاً من هذه العلامات فينبغي ألا ينشرها إذا كانت علامات سيئة؛ بل ينبغي عليه أن يستر على ذلك الميت، ويمكن أن يحكي ذلك دون أن يعين شخصاً أو يفهم الناس من المقصود، لذلك يستحبون أن يقوم بالتغسيل رجل صالح فقيه؛ لأنه إذا رأى خيراً نشره وإذا رأى شراً ستره. فليس معنى ما نحكيه من هذه الأشياء أنه إذا حضر أحدنا تغسيل شخص يخرج ويقول: رأيت كذا وكذا من علامات السوء، إذا رأى شراً يستره، وإذا رأى خيراً ينشره، أما إذا حكى في بعض المجالس للتذكير دون أن يعين وبدون أن يفهم منه من هو ذلك الشخص؛ فلا بأس بذلك للعبرة.

من حكايات الشيخ القحطاني عن سوء الخاتمة

من حكايات الشيخ القحطاني عن سوء الخاتمة يقول الشيخ القحطاني: إن الرجل الذي يموت على الخير يبدو وكأنه نائم، أما من مات على خلاف ذلك فيظهر عليه الفزع وخوف الموت مع تغير في وجهه، وبعضهم يخرج منه مثل الزفت الأسود، وبعضهم مثل ماء الحناء، وبعضهم يخرج من فمه روائح كريهة مع أن الجثة لا تزال طرية! يقول: وغسلت رجلاً وكان لونه مصفراً، وفي أثناء التغسيل أخذ لونه يتغير إلى السواد من رأسه إلى وسطه، فلما انتهيت من التغسيل إذا به قد أصبح كالفحمة السوداء! وميت آخر كان وجهه أثناء التغسيل متوجهاً نحو كتفه الأيسر، فكلما أرجعته نحو الكتف الأيمن عاد إلى الجهة اليسرى، حتى لما وضعته في قبره ووجهته نحو القبلة، انصرف وجهه عنها إلى أعلى. وحدثني مغسل آخر أنه غسل رجلاً وكان لونه مصفراً، فلما فرغ من التغسيل اسود وجه ذلك الرجل، فقلت له: أسود مثل لحيتي؟! قال: أسود كالفحم! قال: ثم صار يخرج من عينه دم أحمر، وكأنه يبكي الدم والعياذ بالله! قال: وهذا كان معي -وأشار إلى صاحبه- فقلت له: أرأيت ذلك؟ قال: نعم. قلت: هل تغير لون جسمه؟ قال: لا، وجهه فقط. وحدثني مغسل آخر فقال: دخلت ذات مرة على بعض الإخوان وهم يغسلون ميتاً، فرأيت وجهه مسوداً كأنه قرص محترق، وجسمه أصفر، ومنظره مخيف، ثم جاء بعض أهله لينظروا إليه، فلما رأوه على تلك الصورة فروا هاربين خوفاً منه! أما ما ظهر عند الإنزال في القبر فحدثني أحد المغسلين فقال: غسلت عدداً كبيراً من الموتى لسنين طويلة، وأذكر أني وجهت أكثر من مائة ميت نحو القبلة، ولكنهم كلهم صرفت وجوههم عن القبلة. وحدثني مغسل آخر قال: عندما وضعت أحد الموتى في قبره ووجهته نحو القبلة، رأيت وجهه قد تحول إلى أسفل وأدخل أنفه في التراب، ثم وجهته إلى القبلة ووضعت تحت رأسه تراباً ولكنه عاد وأدخل أنفه في التراب، ثم وضعت رملاً أكثر في هذه المرة؛ حتى لا يعود ولكنه عاد وأدخل أنفه في التراب، ولم أزل معه حتى تكرر الأمر خمس مرات، فلما يئست منه تركته وأغلقت القبر. وقال الشيخ القحطاني: خرجت ذات يوم من المقبرة بعد صلاة العصر وكنا قد قبرنا رجلاً، وكان الطين عالقاً في يدي فأردت أن أغسلها، إذ جاءت جنازة وكانوا في حدود الخمسين رجلاً فقال أحدهم: بالله عليك ساعدنا في قبر هذا الرجل، فوالله لا نحسن الدفن، فسللت الرجل من جهة الرجلين وكان ثقيلاً فأعانني عليه بعضهم فوضعته في القبر، وتركت لبنة أضعها تحت رأسه، وحللت الأربطة فنظرت فإذا برأس هذا الميت قد تحول عياذاً بالله من القبلة هكذا، -فحول الشيخ رأسه- فقمت برد هذا الميت إلى القبلة، وأخرجت اللبنة الثانية ولكني في هذه المرة وجدت عينيه قد فتحتا، وأنفه وفمه يصبان الدم الأحمر القاني، فداخلني الخوف والوجل حتى لم تستطع رجلاي أن تحملاني داخل القبر، وقد رأى معي اثنان أو ثلاثة هذا المشهد الغريب الخطير، ثم أعطوني اللبنة الثالثة، فوجدت أنه تحول في المرة الثالثة فتركته وهربت من القبر نهائياً، فقام الذين كانوا معي وتولوا عملية الدفن فردموه بالتراب ولم يغلقوا اللحد من شدة الخوف، ثم صرت أرى هذا الميت في المنام سبعاً أو ثمان مرات حتى سكن الله قلبي إلخ. قال: وميت آخر أنزلته في قبره، فكانت تخرج رائحة الدخان والتعميرة -الشيشة- وكأن شخصاً قد أشعل دخاناً أو تعميرة في القبر، وكل من كان معي كان يشم هذه الرائحة تخرج من ذلك الكفن، وقد تحول عن القبلة بجسمه كله!

حكايات أخرى في سوء الخاتمة

حكايات أخرى في سوء الخاتمة قال ابن أبي الدنيا: حدثني رجل أنه ماتت له ابنة فأنزلها القبر، فذهب يصلح لبنة فإذا هي قد حولت عن القبلة، قال: فاغتممت لذلك غماً شديداً، فرأيتها في النوم فقالت: عامة من حولي من أهل القبور محولون عن القبلة قال: كأنها تريد الذين ماتوا على الكبائر. وحكى القرطبي حادثة فقال: أخبرني صاحبنا الفقيه العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد القصري رحمه الله أنه توفي بعض الولاة فحفر له، فلما فرغوا من الحفر وأرادوا أن يدخلوا الميت القبر إذا بحية سوداء داخل القبر، فهابوا أن يدخلوه فيه، فحفروا له قبراً آخر، فلما أرادوا أن يدخلوه إذا بتلك الحية فيه، فحفروا له قبراً آخر فإذا بتلك الحية، فلم يزالوا يحفرون له نحواً من ثلاثين قبراً وإذا بتلك الحية تتعرض لهم في القبر الذي يريدون أن يدفنوه فيه، فلما أعياهم ذلك، سألوا ما يصنعون؟ فقيل لهم: ادفنوه معها. نسأل الله السلامة والستر في الدنيا والآخرة! أما ما ظهر من علامات بعد الدفن فقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى: حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرزيز الحراني أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان، قال: فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور، فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كوز الزجاج والميت في وسطه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنائم أنا أم يقظان؟! ثم التفت إلى سور المدينة وقلت: والله ما أنا بنائم، ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مكاس قد توفي ذلك اليوم. المكاس هو: الذي يأخذ الضرائب أو قاطع الطريق. وقال أبو محمد عبد الحق: حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان وكان من أهل العلم والعمل رحمه الله أنهم دفنوا ميتاً بقريتهم في شرق إشبيلية، فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون ودابة ترعى قريباً منهم، فإذا الدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع، ثم ولت فارة، كذلك فعلت مرة بعد أخرى، قال أبو الحكم رحمه الله: فذكرت عذاب القبر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليعذبون عذاباً تسمعه البهائم) والله عز وجل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت! يقول: وحدثني رجل فقال: مات رجل في بلادنا اسمه محمد يزعم أنه مسلم، ولكنه كان لا يصلي ويتعامل بالربا، وأكثر من تبع جنازته من اليهود، فلما دفنوه وابتعدوا عن القبر مسافة عشرة أمتار تقريباً إذا بانفجار يحدث داخل القبر، ثم خرجت نار تتأجج من القبر فقلت له: هل شاهدت ذلك؟ قال: لا، ولكني لما سمعت بالذي حدث ذهبت إلى الذين حضروا المشهد فسألتهم عن ذلك، فكلهم حدثوني بهذا. وحدثني أحد المغسلين فقال: دفنا ميتاً ذات مرة بعد صلاة العشاء، فلما نمت إذا برجل يأتيني في المنام ويصرخ في وجهي ويقول: قم أدرك الميت الذي دفنته فإنهم يسحبونه من القبر، فقمت فزعاً من نومي، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، ثم قمت وصليت ما كتب الله لي ثم عدت إلى فراشي، فعاد مرة أخرى، فقمت فزعاً ولم أستطع بعدها أن أنام، فلما أصبحت ذهبت إلى المقبرة ووقفت على قبر ذلك الميت، فإذا أثر سحب فوق القبر من رأس الميت إلى خارج القبر مسافة خمسة أمتار، والقبر على حاله لا يظهر عليه آثار حفر ولا غيره! نعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونسأله سبحانه الستر في الدنيا والآخرة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

ضوابط التبديع

ضوابط التبديع إن كثيراً من طلبة العلم قد أطلقوا لألسنتهم العنان في تصنيف الناس وتبديعهم وتفسيقهم، وهذا يدل على عدم فقههم لأحكام الشرع، ودلالات النصوص، وضوابط التبديع والتفسيق التي وضعها أهل العلم، ولذا كانت الحاجة ماسة إلى بيان ضوابط التبديع والتفسيق والتكفير؛ فقد كثر الزلل في هذه المسائل.

الحديث عن البدعة

الحديث عن البدعة الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن هذه العبارة التي نرددها دوماً في خطبة الحاجة وهي قولنا: (أصدق الحديث أو أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) هي عبارة مقصودة، ولا تقال عبثاً، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدر الأمور والحاجات المهمة. يجب أن يكون شعار كل مسلم (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، وينبغي أن يرفع هذا الشعار، وأن يشاع الاستدلال بهذا الشعار، ويدرأ به في نحر كل من يتجاسر على مخالفة هديه أو استحسان البدع التي تخالف هديه صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى جعل النجاة في كلمة مكونة من شقين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا ينجو إنسان إلا إذا حقق هاتين الكلمتين. فالأولى: تشمل توحيد الله سبحانه وتعالى، وهو توحيد المعبود. والثانية: توحيد الطريق الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى. لا إله إلا الله يعني: لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى وحده، لا إله حق إلا الله، فإذا قال إنسان: أنا أريد أن أعبد الله وحده، لكن كيف أعبده؟ كيف أعرف الذي يرضيه والذي يسخطه حتى أتجنبه؟ فلا ينبغي أن ننظر فقط إلى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، بل وننظر إلى آيات أخرى كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وغير ذلك من الآيات التي تحتم على المسلم ألا يعبد إلا الله من خلال ما شرع، ولا يعبده بالبدع. فهذان التوحيدان لا نجاة إلا بهما: توحيد المعبود، وتوحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فمنذ أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سدت جميع الطرق المؤدية إلى الجنة إلا طريقاً واحداً على رأسه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقد أفتى العلماء بكفر من زعم أن هناك طريقاً إلى الجنة مخالفاً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته الشريفة، فمن ادعى أن هناك طريقاً إلى النجاة وإلى الجنة يخالف طريق النبي عليه الصلاة والسلام فإنه قد خرج من ملة الإسلام، وكما يقدح الشرك في توحيد العبادة كذلك يقدح الابتداع في توحيد الاتباع، وكما ينافي التوحيد أعمال الشرك -وهي عبادة غير الله أو صرف شيء من العبادة لغير الله- كذلك ينافي ويضاد شهادة أن محمداً رسول الله الأخذ بالبدع وتقديمها على السنن. نبدأ هذا البحث ببعض المقدمات اليسيرة التي تتعلق بالبدع؛ لأنه لابد من تمهيد للموضوع الأساسي الذي هو ضوابط التبديع؛ لأنه يحصل خلط في هذا الباب كما يحصل خلط في قضايا التكفير نتيجة عدم إحكام ضوابط التكفير، فكما أن هناك ضوابط للتكفير فكذلك التبديع له ضوابط، ولابد أن نلم بها حتى لا يحصل منا شطط وخروج عن المنهج.

تعريف البدعة لغة

تعريف البدعة لغة البدعة من الناحية اللغوية: أصل مادتها بدع، ويعبر بها عن الاختراع على غير مثال ومنه قوله تبارك وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] يعني: خالقهما على غير مثال سابق لهما، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] يعني: لست أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل، فلست بدعاً من الرسل. ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني: ابتدع واخترع طريقة لم يسبقه إليها أحد، وتقول: هذا شيء بديع أو أمر بديع، إذا كنت تستحسنه وتريد أن تقول: إنه لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله أو ما يشبهه. أما البدعة في المعنى الشرعي فهي: طريقة في الدين مخترعة تنافي الشرعية، ويقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى. وعندما توصف البدعة بالمعنى اللغوي لابد من التفريق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، فالبدعة بالمعنى اللغوي لا تذم على الإطلاق؛ لأنها تشمل كل ما يخترع على غير مثال سابق، فاختراع أي جهاز مثلاً فإنه يعتبر بدعة، لكن هل هي البدعة المذمومة شرعاً؟ كلا، بل قد تكون واجبة في بعض الأحيان، حسب كونها وسيلة تؤدي إلى مقصود، وإذا كان المقصود مباحاً فهي مباحة، وإذا كان واجباً فهي واجبة، وهذا فيما يتعلق بالبدعة اللغوية.

تعريف البدعة شرعا

تعريف البدعة شرعاً البدع الشرعية كلها مذمومة، وهي التي سنناقشها، وليس كلامنا الآن في البدعة من حيث المعنى اللغوي. والبدعة كما عرفها الشاطبي في الاعتصام: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى. والطريقة والطريق والسنن كلها بمعنى واحد: وهو ما رسم للسلوك عليه. قوله: (في الدين) الدين: هو ما شرعه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والمعاملات. والطرائق في الدين نوعان: هناك طريقة لها أصل في الدين، وطريقة ليس لها أصل في الدين، فالطريقة التي لها أصل في الدين ليست مخترعة، فمثلاً العلوم الخادمة للعلوم الشرعية مثل علم النحو والصرف مفردات اللغة أصول الفقه مصطلح الحديث، كل هذه طرق جيدة في الدين، السلف لم يدرسوا هذه العلوم بهذه الطريقة المدرسية التي ندرسها الآن، أو التي وجدت بعدهم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة؛ لأن لها أصلاً في الدين. فأصل هذه العلوم موجود في الشرع وإن لم توجد في الصدر الأول بنفس الكيفية؛ لأن الصحابة من سليقتهم كانوا فصحاء بلغاء، ولا يمكن أن يلحن الواحد منهم، فلما وقع اللحن وضعت هذه العلوم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، فهي عبارة عن تسهيل وتخفيف وتيسير لطلبة العلم. أما النوع الثاني من الطرائق في الدين فهو: طريقة في الدين لا أصل لها، وهي طريقة في الدين مخترعة. فقولنا: (مخترعة) احترازاً من الطريق التي لها أصل في الدين. فهي طريقة ابتدعت على غير مثال سابق من الشرع، فهذا معنى مخترعة. (تضاهي الشرعية): يعني: أنها تشبه الطريقة الشرعية، فمن المعلوم أن الباطل لا يقبل إلا إذا كان فيه شيء من الحق، فلو أن المبتدع أو المضل أخرج الباطل باطلاً محضاً لا يخالطه حق، فإنه يسهل كشفه ولا ينتفع به أحد، لكن لابد للمبطل أن يخلط الباطل بشيء من الحق حتى تروج بضاعته على الناس، فلذلك عندما نقول: إن البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية بمعنى: أنها تشبه الطريقة الشرعية لكنها في الحقيقة ليست شرعية، فهي مجرد مشابهة، لكن في الحقيقة ليست طريقة شرعية، بل هي تتصادم مع الطريقة الشرعية من أوجه شتى. فالبدعة فيها وضع حدود خاصة للتعبدات، مثل رجل يريد أن يعبد الله فينذر أن يصوم، ويظل مع صومه قائماً ضاحياً في الشمس لا يستظل، فوضع كل هذه الكيفيات المخترعة للتعبد بدعة في الدين، ومثل الإنسان الذي يتعبد بالاقتصار على نوع معين من الملبس أو المأكل، فهذه أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك. كذلك التزام كيفية معينة من ذكر أو عدد معين أو صفة معينة والمحافظة عليها فهذه أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، وهكذا فالمبتدع دائماً يخلط البدعة بشيء من الحق، حتى يموه على الناس، ويسهل إضلالهم بها. قوله: (تضاهي الشرعية) أي: أنها طرائق تضاهي الشرعية كما حصل من كفار قريش عندما كانوا يبتدعون في الدين أشياء يزيدونها على ملة إبراهيم عليه السلام ينطبق عليها معنى البدعة، فمثلاً عندما كانوا يعبدون مع الله سبحانه الآلهة الباطلة، كانوا يستدلون على هذه العبادة بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. كذلك أيضاً كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهذا الفعل سماه الله تعالى فاحشة في قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، فهذا فيه مضاهاة للطريقة الشرعية. كذلك كان المتشددون من قريش في الجاهلية يرفضون الخروج إلى عرفات، ويصورون عدم خروجهم إلى عرفات بأنهم يعظمون الحرم، ويقولون: نحن لا نخرج من الحرم تعظيماً للحرم، ويرفضون الخروج إلى عرفات، فهذا أيضاً من بدعهم. كذلك من هذه الطرق المبتدعة في الدين ما يدعيه الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه، وهذا من الطرق المبتدعة في الدين. قوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى)، هذه من أركان تعريف البدعة، فالمبتدع ينظر إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فيظن أن المقصود هو العبادة، لكنه يغفل عن حقيقة أخرى غير استحقاق الله وحده للعبادة، وهي أنه كما نوحد الله بالعبادة كذلك يجب أن نوحد رسوله بالاتباع والاقتداء، فلا نقتدي بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنعبد الله بما شرع، ولا نعبده بالبدع؛ لأننا إذا تقربنا إلى الله بغير ما شرعه على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أننا نتهم الشرع بالنقص، وأن الرسول ما استوفى وسعه في نصيحتنا، وأنه كانت هناك أشياء تقربنا إلى الجنة وتباعدنا من النار؛ وهو عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قد كتمها ولم يدلنا عليها! فهذا اتهام للشرع بالنقصان. قوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى) معنى ذلك: أن البدع لا تدخل في العادات؛ لأن الفارق بين العادة والعبادة هو النية، فإذا انضاف إليها نية التقرب إلى الله كانت بدعة. مثلاً: إذا كان إنسان لا يأكل اللحم؛ لأنه لا يعجبه أو يؤذيه من الناحية الصحية أو لا يحبه بطبعه فليس عليه الحرج ما دام في نطاق العادات، أما إذا امتنع رجل آخر من اللحم تعبداً، ويقول: أتقرب إلى الله بترك اللحم، فهذا هو الذي يدخل في حد البدعة، والفرق بينهما النية، ولذلك قال الشاطبي في التعريف: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.

ذم السلف للبدع والتحذير منها

ذم السلف للبدع والتحذير منها الأدلة على ذم البدعة والتحذير منها كثيرة متواترة سواء في القرآن أو في سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما القرآن فإن أكثر الأدلة الآمرة بطاعة الرسول صلى عليه وسلم مقرونة بطاعة الله سبحانه وتعالى. أما في السنة فالأحاديث مشهورة، ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، فلا يقبل أبداً من أي شخص أن يأتي ببدعة وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، (فكل) صيغة عموم، وفي الحديث الآخر: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وهذا أيضاً صيغة عموم، فكل البدع باطلة مردودة على صاحبها، فلا يليق أن يأتي من يدعي الإسلام ويسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة)، ثم يقول: لا، ليست كل محدثة بدعة، ولا كل بدعة ضلالة، بل منها ما هو حسن! ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: من ابتدع بدعة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة عليه الصلاة والسلام. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة. وقال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما يسعهم. وعن أيوب السختياني قال: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي. وعنه أيضاً قال: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة. لماذا؟ لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ علّمه، ولأول كتاب قرأه. فمن علامات السعادة والتوفيق أن الحدث -وهو الشاب الصغير- إذا تاب وأناب، أن يكون ذلك ابتداء على عالم سني حتى يقتصر على الطريق السوي، ولا يضيع عمره في التجول بين الطوائف المختلفة، فإن من علامات السعادة: أنه منذ البداية وضع قدمه على الطريق الصحيح، ولا يضيع بضاعة العمر بالتجول في الفرق الضالة. وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها. وقال الجنيد بن محمد رحمه الله تعالى: الطريق إلى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لسنته، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. وعن معمر قال: كان طاوس جالساً وعنده ابنه، فجاء رجل من المعتزلة فتكلم في شيء -بدأ يتكلم في بدعته- فأدخل طاوس أصبعيه في أذنيه وقال: يا بني! أدخل أصبعك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئاً؛ فإن هذا القلب ضعيف. فلا ينبغي أبداً للإنسان أن يعرض نفسه لبلاء لا يطيقه، فإن كنت غير راسخ في العلم فلا تسمح لمبتدع أن يحادثك أو يعرض عليك بدعته، فلعله أن يشوش عليك ولا تملك دفعاً لها، وإذا ملكت لسانك لم تملك قلبك فإنه قد يتأثر بهذه البدع والضلالات خاصة، وإذا كان لديك لسان وجدل فليست البطولة أن تصغي إلى مبتدع ضال، بل البطولة ألا تعرض نفسك أصلاً لهذه الفتنة. فهذا طاوس لم يسمع لهذا المبتدع، وقال: إن هذا القلب ضعيف، وما زال يقول: أي بني! اثبت، أي بني! اثبت حتى قام الرجل المعتزلي. وعن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه فقال ابن سيرين: إما أن تقوم وإما أن أقوم. وعن سلمان بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لـ أيوب -هكذا كانوا يسمون أهل البدعة، ما كانوا يسمونهم بالعقلانيين ولا غير ذلك من المسميات الموجودة الآن، لكن كانوا يسمونهم أهل الأهواء قال - لـ أيوب السختياني: أكلمك بكلمة قال: لا، ولا نصف كلمة! وعن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً. وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم أو ينكسوا عليكم ما كنتم تعرفون. وعن سفيان الثوري قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، يعني: يرجع منها. وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي داود وكنت في جنازته حتى وضع عند باب الصفا فصف الناس، وجاء الثوري فقال الناس: جاء الثوري، فجاء حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه، فتجاوز الجنازة ولم يصل عليها؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء. وعن سفيان بن عيينة قال: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه -لابد أن المبتدع يشعر بنوع من المذلة- قال: وهو في كتاب الله -يعني: الدليل على هذا في كتاب الله- قالوا: وأين هو في كتاب الله؟! قال: أما سمعتم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:152]؟! قالوا: يا أبا محمد! هذه لأصحاب العجل خاصة! قال: كلا، اتلوا ما بعدها: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152] أي: الكذابين المبتدعين، فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة. وعن حسان قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة. وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة. وعن سعيد قال: مرض سفيان الثوري فبكى في مرضه بكاءً شديداً، فقيل له: ما يبكيك؟ أتجزع من الموت؟ قال: لا، ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه. وعن الفضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه. وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فكن في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له: المريسي وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً أي: حمداً لله الذي أماته! وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، يعني: أتاكم من الدين ما يكفيكم قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]. وقال أيضاً: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع! وعليكم بالعتيق، يعني: القديم. وعنه قال: أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول. وعن عمر قال: يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين. وعنه قال: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تبارك وتعالى. وعن محمد بن مسلم قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة. وقال إبراهيم النخعي: ما أعطاكم الله خيراً أخبئ عنهم، وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه -يعني: لا يمكن أن يصطفيكم بخير يكون قد حجبه عن الصحابة- فكل خير هم كانوا أولى به، فلا تحسنوا الظن بأنفسكم أنكم أفضل ناصحاً، فهم أصحاب النبي وخيرته من خلقه، أفضل أولياء الله، فلا يمكن أن يكون هناك خير منعوا منه وحزتم أنتم بما ابتدعتم في الدين. وروي أن رجلاً قال لـ مالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في زيادة الخير؟! قال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقال الأوزاعي: بلغني أن من ابتدع بدعة خلاه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء لكي يصطاد به. وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: قف حيث وقف القوم - أي: السلف- فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا الأقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، وقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم فحسر، وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم. وقال محمد بن عبد الرحمن لرجل تكلم ببدعته ودعا الناس إليها: هذه البدعة التي تدعو إليها، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أم لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها، قال: فشيء لا يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟! قال الرجل: فإني أقول قد علموها، قال: أفوسعهم ألا يتكلموا بها ولا يدعوا الناس إليها أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء

أقسام البدع

أقسام البدع تكلمنا في حد البدعة، وفي التنفير منها، وفي ذكر النصوص في ذمها، فما هي الضوابط التي تحكم مسألة الحكم على أحد بالبدعة، وكيفية معاملته وغير ذلك؟ فالبدعة تنقسم باعتبارات إلى أقسام عدة: بدعة فعلية وبدعة تركية، بدعة كلية وبدعة جزئية، بدعة عادية وبدعة عبادية، بدعة حقيقية وبدعة إضافية.

البدعة الفعلية والتركية

البدعة الفعلية والتركية البدعة الفعلية والتركية: مبنية على أساس الفعل والترك، فالإنسان قد يترك أشياء أباحها الله له، لكنه يتركها تعبداً كما يفعل الذين ينقطعون للعبادة ويستدلون بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، فيتركون بعض المباحات تديناً، فهذه من البدع التركية.

البدعة العملية والاعتقادية

البدعة العملية والاعتقادية قسم آخر للبدع: بدع عملية وبدع اعتقادية، والعملية هي التي تكون متعلقة بالعمل، والعمل متعلق بالجوارح، فمثلاً الطواف حول الأضرحة بدعة عملية؛ لأنها متعلقة بالجوارح، والذكر أمام الجنازة بدعة عملية، وغير ذلك من أنواع البدع كالتوسل وغيره من الأشياء المخترعة. والبدعة العملية تكون متعلقة بالنية كمن يصلي ركعتين بنية طول العمر أو يصلي صلاة يسمونها مؤنس القبر أو صلاة بر الوالدين وغير ذلك من الصلوات المخترعة التي {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف:71]، ومثلها صلاة الأيام: صلاة يوم السبت، صلاة يوم الأحد، وهذه كلها موجودة، وهي من البدع العملية. أما البدع الاعتقادية فهي: تكون باعتقاد الشيء على خلاف المعروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا على سبيل المعاندة، ولكن بسبب شبهة، كما يمسح الشيعة -مثلاً- على الرجلين، فلو رأيت شيعياً يتوضأ فستجد أنه إذا وصل إلى القدمين فإنه لا يغسلهما بالماء، وهو لا يلبس جورباً، فيمسح القدم ولا يغسلها! فهذه بدعة اعتقادية، فهو يعتقد أن هذا هو هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنده شبهة في ذلك، ومع هذا ينكرون المسح على الخفين بشدة؛ ولذلك العلماء ينصون على هذه المسألة في متون العقيدة؛ لأنها متواترة ومقطوع بصحتها عن النبي عليه السلام، فلذلك أدخلوها في مسائل العقيدة، كما في متن العقيدة الطحاوية: ونرى المسح على الخفين في الحضر والسفر. ومن البدع الاعتقادية: بدعة المشبهة والمجسمة والقدرية وغيرهم من فرق الضلال. وهناك بدع متنوعة باعتبار الأزمنة والأمكنة والإحرام، كالموالد والأعياد والمواسم والجنائز والأضرحة والضيافة والعبادة والمعاشرة والعادات.

البدعة الحقيقية والإضافية

البدعة الحقيقية والإضافية هناك قسم آخر للبدع، وهو أخطر أنواع البدع، وهو سبب المشاكل عموماً بين الناس في باب البدع، وهو قسم البدع الحقيقية والبدع الإضافية، وهذا قسم مهم جداً، فقضيتنا هي موضوع ضوابط التسمية في البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية. فالبدعة الحقيقية: هي ما كان الابتداء فيها من جميع وجوهها ليس له أصل، يعني: إذا نظرت للعمل من أي زاوية لا ترى له أصلاً في الشرع، فهو بدعة حقيقة بمعنى أن الابتداع فيها من جميع وجوهها، فهي بدعة محضة ليس فيها جهة تنطبق بها في السنة، وهي التي لم يدل عليها دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أو استدلال، ولذلك سميت بدعة حقيقة؛ لأنها مخترعة على غير مثال سابق، وهي بعيدة عن الشرع، خارجة عنه من كل وصف. من أمثلة البدع الحقيقية: بدعة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالرهبانية، وترك التزوج مع وجود الأمور الداعية إليه، وعدم المانع الشرعي منه كرهبانية النصارى، والله عز وجل يقول: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] وهذا استثناء منقطع، والمعنى: لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. ومن هذه البدع: تعذيب النفس بألوان العذاب الشنيع والتمثيل الفضيع، كما يحصل من الهنود في الإحراق بالنار وغير ذلك، وكما يفعله الشيعة الروافض يوم عاشوراء من تعذيب أنفسهم، وإدخال أسياخ الحديد في أجسادهم، وشق أيديهم وصدورهم ورءوسهم حتى تخرج الدماء، فهذه أيضاً من البدع الحقيقية التي لا يمكن أبداً أن تندمج في الدين، ولا يمكن أبداً أن يباح للإنسان أن يعذب نفسه بهذه الطريقة التي يفعلها الشيعة يوم عاشوراء من خدش الرءوس والوجوه، ولطم الخدود، والنياح لقتل الحسين رضي الله تعالى عنه، فيقيمون هذه المآتم زاعمين أن ذلك يقربهم إلى الله سبحانه تعالى! ومن البدع الحقيقية: تحكيم العقل في أخبار القرآن والسنة كما هو معروف في التيارات الاعتزالية. ومن البدع الحقيقية: الطواف حول الأضرحة، والوقوف على غير عرفة، وإقامة الهياكل على القبور، وتعليق الشموع والمصابيح حول الأضرحة، فهذه كلها لا يمكن أبداً من أي جهة أن تندمج بالشرع أو تكون لها شبهة من أدلة الشرع، بل هي بدعة محضة لا يمكن أن يكون لها أصل في الدين، فهذه البدعة الحقيقية. أما البدعة الإضافية فهي على خلاف ذلك، فالبدعة الإضافية لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من هذه الجهة بدعة، والأخرى: ليس لها متعلق في الأدلة إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، فالبدعة الإضافية هي باعتبار من الاعتبارات سنة، وباعتبار آخر بدعة، فهي غير خالصة لأحد الطرفين، ولذلك نسميها البدعة الإضافية يعني: حسب ما تضاف إليه، فهي سنة بالنسبة لإحدى الجهتين، وبدعة بالنسبة للجهة الأخرى، فسنة من هذه الزاوية لأنها مستندة إلى دليل، وبدعة لأنها من الزاوية الأخرى ليست مستندة إلى دليل شرعي ولا إلى حتى شبهة، بل غير مستندة إلى دليل أصلاً، وهذا النوع هو مجال النزاع بين أغلب المتكلمين والمؤلفين في السنن والبدع، ولها أمثلة كثيرة كصلاة الرغائب، وصلاة الليل في النصف من شعبان، وصلاة حفظ الإيمان، وصلاة بر الوالدين، وصلاة مؤنس القبر، وصلاة ليلة يوم عاشوراء، فهذا كله لم يثبت أبداً في السنة بوجه من الوجوه، فلماذا نقول: إنه بدعة إضافية؟ لأنه تشيبه شائبتان، فالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالنوافل ثابت في الشرع، يقول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) فمن هذه الناحية هم يقولون: نحن نصلي ولا نعبث، ومن جهة أخرى: هذا لم يكن ثابتاً في السنة فهو بدعة من جهة، وسنة من جهة أخرى. كذلك بدعة التلحين والتطريب والتغني في الأذان، فهذه بدعة إضافية؛ لأن الأذان في حد ذاته هو سنة مشروعة معروفة، أما باعتبار ما عرض له من التبطيء في كلمات وتلحينها، وإخراجها عن أوضاعها العربية من أجل المحافظة على توقيع الألحان؛ فهي بدعة قبيحة، وهذا لا يحتاج إليه لا في الأذان ولا في قراءة القرآن، فالأذان من حيث كونه أذاناً ليس بدعة، بل هو مشروع، أما من حيث ما أضيف إليه من كيفية فهذا بدعة إضافية. ومن البدع الإضافية القراءة الصمدية مائة ألف مرة، يقرءون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] مائة ألف مرة، ويسمونها: العتاقة الكبرى، أي: أن من قرأها لنفسه أو لغيره يعتق من النار، فهذه بدعة إضافية؛ لأن قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ذكر مشروع معروف كقوله صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن)، وقوله: (من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة)، لكن من حيث تسميتها عتاقة وتركيب هذه الفوائد عليها وتشريعها للناس؛ فهي بدعة ليس لها أصل في الدين. ومن البدع الإضافية: النداء بالأذان لصلاة العيدين أو صلاة الكسوف، فإنه لم يثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أذان لصلاة العيدين وصلاة الكسوف، فالأذان من حيث هو أذان يكون مشروعاً، لكن من حيث جعله لصلاة العيدين أو صلاة الكسوف فهو بدعة من هذه الناحية. كذلك ختم الصلاة بالطريقة الموجودة الآن، وهي أن المصلين يختمون الصلاة بطريقة معينة كما هو المعروف في بعض المساجد، فهذه الأذكار التي تقال في هذا الموطن في حد ذاتها سنة، لكن البدعة طرأت عليها من حيث الكيفية والألفاظ المبتدعة التي يخترعونها.

البدعة الكلية والجزئية

البدعة الكلية والجزئية وهناك تقسيم آخر للبدعة وهو: البدعة الكلية والبدعة الجزئية. فالبدعة الكلية: هي البدعة التي يكون الخلل الناشئ عنها كلياً في الشريعة، وتتعدى محلها، وتنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، كأن تكون البدعة عبارة عن قانون أو قاعدة نتحاكم إليها، فبالتالي يترتب على هذا التحاكم كثير جداً من المخالفات. ومن البدع الكلية: بدعة إنكار الأخبار النبوية مطلقاً، والإقرار بالقرآن الكريم فقط، وهؤلاء يقال لهم: قرآنيون، فهل هذه البدعة متعلقة بمخالفة في قضية واحدة أم أنها قاعدة كلية نتحاكم إليها؟ بل هي قاعدة يتحكم بها في الشرع، وتلغى بها سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذه بدعة كلية. ومنها: بدعة عدم الأخذ بأخبار الآحاد، فهي بدعة كلية يترتب عليها مئات المخالفات الشرعية، بسبب إنكار الأحاديث النبوية. ومنها: بدعة إنكار القسم الثالث من السنة، وهو الذي يستقل بتشريع لم يرد في القرآن، فهذه بدعة كلية وليست جزئية، ووجه كون هذه البدعة كلية أنها تشمل ما لا حصر له من فروع الشريعة، ولأن عامة التكاليف مبني عليها. فالأمر يرد على المكلف إما من الكتاب وإما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا: إن كان وارداً في السنة فأكثر السنة آحاد، والأحاديث المتواترة قليلة جداً، وكذلك أحكام السنة التي وردت في القرآن قليلة، وأكثرها زائدة على ما في القرآن. فهذا هو الابتداع بعينه أن يتخذ الشخص مثل هذه القواعد الكلية، ويضل بها في مئات الأحكام الشرعية. ومن البدع الكلية: بدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا لله، وهذه العبارة دليلهم في رفض التحكيم، بناءً على أن اللفظ عام لم يلحقه التخصيص، وهم قد أعرضوا عن قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]، فلم يراعوا أن العام هنا يكون مخصوصاً. أما البدعة الجزئية: فهي البدعة التي يكون ضررها جزئياً في بعض الفروع دون بعض، ولا تتعدى محلها، ولا تنتظم غيرها حتى تكون بدعة كلية. ومن البدع الجزئية بدعة التغني بالقرآن، وبدعة التلحين في الأذان، فهذه بدعة جزئية؛ لأن ضررها جزئي في موضوع الأذان فقط، ولا تتعدى محلها، ولا تدخل مثلاً في الصلاة، ولا تنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، فمن هنا كانت جزئية. ومنها: الامتناع عن تناول ما أحل الله من الطعام أو الشراب، فهذه بدعة جزئية.

البدع في العادات

البدع في العادات هناك بدع في العادات وبدع غير عادية، فيمكن أن تدخل البدع العادية في الأمور العادية مثل الثياب والأكل والشرب والمشي والنوم، فهذه الأمور عادية لا يدخلها الابتداع من جهة كونها عادية، وإنما يدخلها الابتداع من الجهة التعددية، كأن يخالف الوجه المشروع فيها، ويتقرب إلى الله تبارك وتعالى بذلك، كأن يتقرب إنسان إلى الله بترك نوع معين من الملابس أو الطعام أو غير ذلك من الأشياء.

أهم ضوابط التبديع

أهم ضوابط التبديع البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وبالتالي ينعكس هذا في الحكم على المبتدع نفسه، فبلا شك أن المبتدع بدعة عقائدية أخطر من المبتدع بدعة عملية في الغالب، وكذلك المبتدع بدعة كلية أشد انحرافاً من المبتدع بدعة جزئية، والبدع الحقيقة أخطر من البدعة الإضافية. إذاً: ينبغي أن نعرف أن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وإنما هي تتفاوت في خطورتها حسب ما تؤدي إليه، فهذا أهم ضابط في التبديع، وهو معرفة أقسام البدع.

لا يجوز التبديع في المسائل الفقهية السائغة

لا يجوز التبديع في المسائل الفقهية السائغة القضايا التي يختلف فيها العلماء -لاسيما القضايا الفقهية- خلافاً سائغاً لا يجوز الحكم على المخالف فيها بالابتداع، كأن يقع بعض أفاضل العلماء من أئمة الخير والهدى في هذا الزمان في زلة، كمن قال عن وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع: هذه بدعة وضلالة! فهذه المسألة لا يجوز أن تندرج في ميزان البدعة على الإطلاق، والخلاف فيها خلاف سائغ، والأمر أهون من ذلك بكثير، فهذه لا تدخل بأي حال في حد البدعة أبداً؛ لأن الخلاف سائغ، والحديث محتمل في تفسيره، فالخلاف الفقهي السائغ لا يمكن أبداً أن تطلق على مخالفك فيه وصف البدعة. والخلاف على ثلاثة أنواع: هناك خلاف مذموم، وخلاف ممدوح، وخلاف سائغ. النوع الأول: الخلاف المذموم، وهو خلاف أهل الأهواء لأهل العلم، وخروجهم عن هدي أهل العلم والسنة، كمخالفتهم لأصول العقيدة أو ما علم من الدين بالضرورة، فهذا خلاف مذموم. النوع الثاني: خلاف ممدوح، وهو خلاف أهل العلم لأهل الأهواء، وهذا خلاف ممدوح. النوع الثالث: الخلاف السائغ، وهو خلاف أهل العلم لأهل العلم بالشروط التي سنذكرها إن شاء الله.

ضوابط الخلاف السائغ

ضوابط الخلاف السائغ

خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق

خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق أول ضابط من ضوابط الخلاف السائغ: خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فالعالم قد يراجع المسألة وهو يريد الحق، لكن خفي عليه الدليل الواضح الذي يحسم المسألة، فهذا خلاف سائغ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا كانت المسألة نصاً خفي على بعض المجتهدين، وتعذر عليهم علمه، ولو علم به أحدهم لوجب عليه اتباعه، ولكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر، وهو منسوخ أو مخصوص، وهو لم يعلم بالدليل المخصص أو الناسخ أو لم يصح عنده. وهذا أغلب خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى: الإمام الشافعي والإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة وغيرهم، فلا يظن بواحد منهم أنه يتعمد مخالفة الدليل. بعض الإخوة السلفيين في قرية، وكان بينهم وبين إمامهم خلاف قوي وقع بقدر الله سبحانه وتعالى، وفي أثناء الحوار اتضح أن الإخوة السلفيين هناك لا يريدون أبداً أن يصلوا خلف الإمام الحنفي، ويضيع أحدهم صلاة الجماعة ولا يصلي خلف إمام مذهبه حنفي! فلما تناقشنا معهم قال: لأن الحنفي يرد سنة الرسول عليه السلام! فهل يظن بمسلم أن يرد سنة الرسول عليه السلام؟! فهذا الضابط مهم جداً، فإن العلماء قطعاً يريدون الحق، نعم قد يخالف الحق، لكن هو لا يقصد ذلك ولا يتعمده أبداً. فالشاهد أن أول الضوابط: خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فهو يقصد الحق وقد يخالف الحق لا عن عمد، لكن عن عذر كخفاء هذا الدليل، أو عدم ظهوره إياه، أو عدم صحته عنده أو تأويله إياه.

التيسير في المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ

التيسير في المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ الضابط الثاني: ما كان من المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم منها حتى من كبراء الأمة، فإنه يسهل فيها، فهناك مسائل دقيقة في تفاصيل القضايا الفقهية، ولا يمكن أبداً أن تتفق الأمة كلها في مثل هذه الدقائق، وقل من يسلم من الخطأ في مثل هذه الفروع حتى من كبراء الأمة. قال شيخ الإسلام: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة. لأنه ما من أحد من كبراء الأمة إلا ويختلف مع أخيه من العلماء في بعض الفروع الدقيقة جداً، وهذه معروفة لمن درس الفروع الفقهية، وقرأ الموسوعات الفقهية، فإنه يرى شدة الخلاف بين العلماء في هذه المسائل الدقيقة.

عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع

عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع الضابط الثالث: عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع. حتى يكون الخلاف سائغاً يجب ألا يخالف نصاً شرعياً صريحاً واضحاً، ولا إجماعاً متيقناً معلوماً، فإذا كانت المسألة نصاً أو إجماعاً فأي خروج عن النص أو الإجماع يعتبر خلافاً غير سائغ، فإذا اجتهد الفقيه في مسألة، وبذل فيها وسعه، فإن خالف غيره من العلماء سواء كانوا سابقين أو معاصرين فالخلاف يكون سائغاً ما لم يكن فيها نص أو إجماع. وهذا الضابط مهم جداً، فمثلاً قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، {اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] التعبير بكلمة (تحريم) نص في المسألة، ولا يمكن أن يناقش هذا هل هو حرام أم مكروه، فالنص واضح وجلي في أعلى درجات الوضوح في دلالة الألفاظ: (حرمت) (أحل لكم). فلا يقبل أبداً مخالفة ما جاء فيه نص التحريم، بخلاف الأدلة التي الظاهر منها هو التحريم، وغير ذلك من الدلالات التي هي أقل وضوحاً من النص، ومثل النص الإجماع، فإن الأمة معصومة أن تجتمع على ضلالة، والإجماع يدخل فيه ما علم من الدين بالضرورة. فإن اجتهد الفقيه في مسألة ليس فيها نص ولا إجماع، وبذل فيها وسعه، ولم يترتب عليها مخالفة لإخوانه من العلماء المعاصرين أو السابقين أو اللاحقين؛ فخلافه داخل في دائرة الخلاف السائغ.

لا يكون الخلاف سائغا إلا من أهل العلم والاجتهاد

لا يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والاجتهاد الضابط الرابع: لا يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والاجتهاد والفقه في الدين. لا يمكن أن يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والبصيرة والاجتهاد في الدين، ولا يفتح باب الاجتهاد على الإطلاق لكل شخص من عوام الناس أو طالب علم، فيقول أحدهم: أنا اجتهدت في هذه المسألة، ورأيت فيها بخلاف كلام هذا الإمام، ويعتبر أن هذا الخلاف سائغ! الخلاف السائغ هو الذي يصدر عن أهل العلم وأئمة الاجتهاد والفقه في الدين. والخلاف السائغ هو خلاف الأئمة وأهل العلم، ويمكن أن يكون الإمام مجتهداً، ويقصر في الاجتهاد، فلابد أن يبلغ الفقيه وسعه في فهم حكم الشرع، فلو أن إماماً من الأئمة المجتهدين أفتى دون أن يبذل وسعه، فهذا غير سائغ؛ لأن ضابط الاجتهاد: أن يبذل العالم أقصى وسعه في تحري الحق وقصده، فإن خالف ففي الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر). لكن إذا لم يجتهد وأفتى بدون بذل الوسع فلا يدخل تحت هذا الحديث، والآن كل من هب ودب يستدل بهذا الحديث على آرائه واجتهاداته، ويظن أنه مأجور حتى لو أتى الأمر من غير بابه ولم يكن مجتهداً، بل حتى ولا طالب علم ولا مجتهد في العلم، ومع ذلك يقول: أقول، ومذهبنا الذي نرجحه! وغير ذلك من العبارات الرنانة، وهؤلاء لا عبرة بكلامهم على الإطلاق، فإنه لا يكون الخلاف سائغاً إلا إذا كان صادراً من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين. ذكر شيخ الإسلام أنواع المجتهدين فقال: بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال)، فأنكر عليهم اجتهادهم. فهم اجتهدوا عن غير أهلية، فليس عندهم مؤهلات للاجتهاد، ولذلك أنكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقل كما قال في الحديث الآخر: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر)، وإنما قال: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال)، فإن هؤلاء أخطئوا بغير اجتهاد إذ لم يكونوا من أهل العلم.

أن يبذل الفقيه أقصى وسعه في الوصول إلى الحق

أن يبذل الفقيه أقصى وسعه في الوصول إلى الحق الضابط الخامس: أن يبذل الفقيه أقصى وسعه وغاية جهده في الوصول إلى الحق، فإذا قصر ذم بتقصيره، ومن التقصير عدم طلب الدليل من الكتاب والسنة.

عدم البغي

عدم البغي الضابط السادس: لا يكون الخلاف سائغاً إذا صحبه بغي؛ لأن الإنسان إذا كان يبغي على مخالفه فالبغي يعارض قصد الحق، وقد ذكرنا الضابط الأول من ضوابط الخلاف السائغ، وهو خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق. فالشخص الذي يريد أن يبغي على مناظره أو على مخالفه يستدل بأدلة للانتصار لرأيه أو مذهبه، فالبغي يتنافى مع قصد الحق، فقاصد الحق لابد أن يكون متجرداً عن الهوى، ولابد أن يقصد الحق، فإذا كان في بحثه أو في أسلوبه بغي فإن البغي يعارض قصد الحق الذي هو من ضوابط الخلاف السائغ، يقول تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والبغي إما تضييع للحق وإما تعد للحد، فهو إما ترك واجب وإما فعل محرم، فعلم أن موجب التفرق هو ذلك. أي: الذي يحدث التفرق هو البغي، وما هو البغي؟ له صورتان: إما تضييع للحق أي: بترك الواجب، أو تعد للحق بفعل الحرام، والبغي يوجب التفرق بين الناس، فلا يكون الخلاف سائغاً مع البغي، فالبغي يعارض قصد الحق الذي هو من لوازم الخلاف السائغ.

لا يكون الخلاف سائغا مع ظهور الأدلة

لا يكون الخلاف سائغاً مع ظهور الأدلة الضابط السابع: الخلاف لا يكون سائغاً مع ظهور الأدلة. فلابد أن يكون اجتهاد العلماء واختلافهم في المسائل الفرعية التي لم يدل دليل قطعي على حسمها؛ لأن الدليل الظاهر يحسم مادة الخلاف، فإذا كان الخلاف سائغاً قبل ظهور الدليل فإنه لا يكون كذلك بعد ظهوره؛ وليس هناك تعارض بين هذا وبين الضوابط السابقة؛ لأن العالم معذور في مخالفته للحق -هو يقصد الحق لكن خالفه- ما لم يأته الدليل الصحيح الصريح الذي يحسم الخلاف، فإذا أتى الدليل فهو معذور قبل ذلك، أما إذا ظهر الحق فلم يعد لا يعود الخلاف سائغاً في حقه. ولذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، فالدليل الظاهر هو يحسم مادة الخلاف، فإذا كان الخلاف سائغاً قبل ظهور الدليل فإنه لا يكون كذلك بعد ظهوره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت شدته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول عالم، وقال: ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف شخص الحق لا يجوز له تقليد أحد في سنته. فهذه هي ضوابط الخلاف السائغ، وأهمية هذه الضوابط أن الخلاف السائغ لا يتم على أساسه تبديع للمخالف.

مراتب البدع

مراتب البدع تتفاوت مراتب البدع، فالبدعة التي تخالف السنن قد تكون في أمور دقيقة، وقد تكون في أمور جلية وعظيمة، ومن ثم يتفاوت أصحاب البدع قرباً وبعداً عن السنة، فأحياناً يرجع الخلاف بينهم إلى النزاع في الألفاظ والأسماء، ويرجعه البعض الآخر إلى النزاع في المعاني والحقائق، فهناك بدعة لا يكفر أصحابها اتفاقاً، وهناك بدعة يكفر أصحابها اتفاقاً، وهناك بدعة مختلف في تكفير أصحابها، فيوجد تفاوت في مراتب البدع.

بدعة لا يكفر أصحابها

بدعة لا يكفر أصحابها البدعة التي لا يكفر أصحابها اتفاقاً مثل بدعة المرجئة أو بدعة الشيعة المفضلة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلظة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة، ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيراً من مقالتهم. إذاً: من البدع التي لا يكفر أصحابها اتفاقاً المرجئة والشيعة المفضلة الذين يفضلون علياً على الشيخين. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أما المرجئة فلا تختلف نصوصه -أي نصوص الإمام أحمد - أنه لا يكفرهم، فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكثير من كلامهم يعود النزاع فيه إلى نزاع في الألفاظ والأسماء، ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم باب الأسماء. يعني: في كتب العقيدة يقولون: باب الأسماء، ويشيرون إلى مخالفة المرجئة لأهل السنة في بعض الأسماء، مثل الاختلاف في كلمة (التصديق)، ما المقصود بالتصديق؟ هل هو التصديق الانقيادي أم هو مجرد المعرفة؟ إلى غير ذلك من التفاصيل، فهذا نزاع فقهي، لكنه يتعلق بأصل الدين، ولذلك سمي المنازع فيه مبتدعاً وإن كان لا يكفر. ويقول شيخ الإسلام أيضاً: كذلك الشيعة المفضلين لـ علي على أبي بكر، لا يختلف قول الإمام أحمد في أنهم لا يكفرون، فإن ذلك قول طائفة من الفقهاء أيضاً، وإن كانوا يبدعون. وقال أيضاً: السلف والأئمة لم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء.

بدعة لا خلاف في تكفير أصحابها

بدعة لا خلاف في تكفير أصحابها القسم الثاني: بدع لا خلاف في تكفير أصحابها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء. ويقول شيخ الإسلام أيضاً: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية -وهم المعطلة لصفات الرحمن- الذين ينفون صفات الله سبحانه وتعالى جميعاً، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع، فنفي الصفات بهذه الطريقة التي يسلكها الجهمية يئول إلى نفي وجود الله سبحانه وتعالى، ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، يعني: كلام الجهمية أشد عنده من كلام اليهود الذين يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، أو الذين يقولون: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، أو الذين يقولون: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، أو {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]. قال غير واحد من الأئمة: إنهم -أي: الجهمية- أكفر من اليهود والنصارى، ولهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته. وفي هذا الزمان هناك بدع كثيرة جداً ينبغي أيضاً ألا نختلف في تكفير أصحابها، مثل بدعة العلمانية، فهي أخطر البدع الموجودة في هذا الزمان على الإطلاق، وبدعة العلمانية تعني فصل الدين عن الحياة، وعزله في جدران المساجد، وإبدال كل حدود الله فيما يتعلق ببناء المجتمع على أساس الكتاب والسنة. فهذه بلا شك بدعة مكفرة، ومن يعتقد هذا بعد أن تقوم عليه الحجة يكون خارجاً من ملة الإسلام، فمن يعتقد فصل الدين عن الحياة، لتكون الحياة بالطريقة التي يعتقدها العالم الغربي الجديد، فهو كافر، ولا يمكن أن يجمع بين الإسلام وبين العلمانية، فالعلمانية تشرق والإسلام يغرب، العلمانية تبيح الربا والفواحش، وتبطل قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبطل إقامة حدود الله وغير ذلك من المضادة الصريحة والمعاندة الواضحة لدين الله سبحانه وتعالى. فالعلمانية من البدع المكفرة. أما البدع المختلف في تكفير أصحابها فمثل بدعة القدرية الذين يقرون بصفة العلم، والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج. فهناك عن الإمام أحمد روايتان في تكفير هؤلاء، مع أنه وارد عن الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المثبتين للعلم والخوارج، مع أنه قال: ما أعلم قولاً شراً من الخوارج. والجهمية عند كثير من السلف ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها الأمة، لكن لا نستطيع أن نغادر هذا الضابط وهو تقسيم البدعة إلى بدعة مكفرة بالاتفاق، وبدعة غير مكفرة بالاتفاق، وبدعة مختلف في تكفير صاحبها، حتى نضيف ضابطاً آخر ومهماً جداً وهو: التفريق بين كفر النوع وكفر العين. يعني: كفر النوع لا يستلزم كفر العين، البدعة نفسها تكون كفراً لكن لا يكون الشخص المتلبس بها كافراً، فهذه قاعدة سبق أن سردناها بالتفصيل في بحث الكفر والإيمان لكن نشير إليه. فإن أهل السنة والجماعة يفرقون بين الحكم المطلق على أصحاب البدع بالمعصية أو الفسق أو الكفر وبين الحكم على شخص معين ممن ثبت إسلامه بيقين، فالشخص إذا ثبت إسلامه بيقين لا يمكن أن تنفى عنه صفة الإسلام إلا بيقين. فمن صدر عنه إحدى هذه البدع لا يمكن الحكم عليه، لا نقول عليه: كافر أو فاسق أو عاص إلا بتوفر شروط، وانتفاء موانع، فلا يحكمون عليه بذلك حتى يبين له مخالفة قوله للسنة؛ وذلك بإقامة الحجة، وإزالة الشبهة، كمن يفرقون بين نصوص الوعيد المطلقة وبين استحقاق شخص بعينه هذا الوعيد في أحكام الآخرة؛ لأن موضوع التكفير موضوع مرتبط بباب الوعيد؛ لأن التكفير نوع من الوعيد، بل أي فعل يترتب عليه أنه وعيد قد يكون أقل من الكفر، لأن الكفر أشد الأفعال وعيداً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إني من أعظم الناس ناهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية. لأن بعض الناس يعتبرونها بطولة أن يكفر شخصاً بعينه أو يبدعه، وليست بطولة يقول صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك لسانك) لا تتكلم إلا بعلم وحجة، لكن تكلم بكلام عام في المواعظ، ودروس العلم، والخطب، وغير ذلك من مقامات الدعوة والترغيب والترهيب، تنفر من البدع بالنصوص الشرعية العامة. لكن أن تكفر الشخص بعينه فهذا لا ينبغي أن تحكم عليه بكفر أو بتفسيق أو ابتداع حتى تستوفي شروطاً معينة، وهذا من خصائص القضاء الشرعي، ولا تنازع الأمر أهله، نريد أن نقول: إن موضوع الحكم على كفر النوع هذا لا يكون على المنابر أو في الدروس والخطب، وبأن الأمر يمكن في مثل هذه المحافل أن يتكلم عنه بصفة عامة تنفيراً من البدع ووصف الكفر بأنه كفر وهذا لا حرج على الإطلاق فيه. لكن في مقام التأصيل والتقعيد والتنظير ومحاكمة الناس ليست المسألة عبثاً ولا هوى، وإنما ينبغي التحقق والتحري والتدقيق والتثبت، فمن هنا نقبل في الحقيقة هذه الكلمة التي قالها المودودي رحمه الله في كتابه: (نحن دعاة لا قضاة) فالإنسان عليه أن يدعو، لكن القضاء الشرعي والحكم على الناس بأعيانهم هذه ليست وظيفة الدعاة، وهذه الأحكام يترتب عليها أمور عملية، إذا حكمت عليه بالردة يترتب عليه أنه يجب أن يقتل ويفرق بينه وبين زوجته وغيرها من الأحكام الشرعية المعروفة. فالقضية يجب أن نفرق بين وظيفة الداعية وبين وظيفة القاضي الشرعي، وقد بايع النبي عليه السلام الصحابة على ألا ننازع الأمر أهله. يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق يعني: لا تعارض بين العلماء الذين يقولون مثلاً: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر! كما قال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر. وقال: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا وأن يلقوا يعني: لا يدفنوا لا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل الإسلام ولا أهل الكتاب أو كما قال، فهذا الكلام في كفر النوع. أما كفر العين في الشخص نفسه فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع. يقول شيخ الإسلام: إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، الإطلاق أن تقول: من قال كذا فله مثلاً عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو أنه كافر وأنه من أصحاب النار! هذا لا يجوز إلا بنص من وحي، أبداً حتى الكافر الموجود الآن كلينتون، أو بوش أو أي أحد من الكفار، فهذا لا تقول هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري بخاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار. يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، هذه مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن لما تأتي تحاسب شخصاً باسمه: فلان أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك، لماذا؟ سيأتي الجواب. كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا مثلاً: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، تماماً كما لو قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر. هذا هو الحكم من حيث الإطلاق في كلام ابن تيمية، لكن الشخص المعين فقد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة مثل هذا الشخص الذي قال هذا الفعل سواء كان كفراً أم دون الكفر، فيمكن أن يلغى حكم استحقاقه لهذا الوعيد؛ لأنه ربما يكون تاب: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]. فإذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يطلع عليها إلا الله، فيمكن أن يلغى بحسنات ماحية، هو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد، ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بمصائب تكفر عنه ما استحقه من الوعيد، ويمكن إن لم يكن هذا ولا هذا ولا ذاك أن يلتغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة يشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام، أو تشفع فيه الملائكة أو يشفع فيه قريب له شهيد، أو يشفع فيه أحد من إخوانه المؤمنين يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)

البدعة المختلف في تكفير أصحابها

البدعة المختلف في تكفير أصحابها القسم الثالث: البدع المختلف في تكفير أصحابها مثل بدعة القدرية الذين يقرون بصفة العلم، والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية غير الغلاة والخوارج، فهناك عن الإمام أحمد روايتان في تكفير هؤلاء، وقد ورد عن الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المثبتين للعلم والخوارج، مع أنه قال: لا أعلم قولاً شراً من الخوارج. والجهمية عند كثير من السلف ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها الأمة.

التفريق بين كفر النوع وكفر العين

التفريق بين كفر النوع وكفر العين كفر النوع لا يستلزم كفر العين، فالبدعة نفسها تكون كفراً لكن لا يكون الشخص المتلبس بها كافراً، فأهل السنة والجماعة يفرقون بين الحكم المطلق على أصحاب البدع بالمعصية أو الفسق أو الكفر وبين الحكم على شخص معين ممن ثبت إسلامه بيقين، فالشخص إذا ثبت إسلامه بيقين لا يمكن أن تنفى عنه صفة الإسلام إلا بيقين. فمن صدر عنه إحدى هذه البدع لا يمكن الحكم عليه بأن نقول له: كافر أو فاسق أو عاص إلا بتوافر شروط، وانتفاء موانع، فلا يحكمون عليه بذلك حتى يبين له مخالفة قوله للسنة؛ وذلك بإقامة الحجة، وإزالة الشبهة، كما يفرقون بين نصوص الوعيد المطلقة وبين استحقاق شخص بعينه هذا الوعيد في أحكام الآخرة؛ لأن التكفير نوع من الوعيد، وأي فعل يترتب عليه وعيد فقد يكون أقل من الكفر، لأن الكفر أشد الأفعال وعيداً. والآن بعض الناس يعتبرونها بطولة أن يكفروا شخصاً بعينه أو يبدعونه! يقول صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك لسانك) فلا تتكلم إلا بعلم وحجة، لكن تكلم بكلام عام في المواعظ، ودروس العلم، والخطب، وغير ذلك من مقامات الدعوة والترغيب والترهيب، فتنفر من البدع بالنصوص الشرعية العامة، لكن أن تكفر الشخص بعينه فهذا لا ينبغي أن تحكم عليه بكفر أو بتفسيق أو ابتداع حتى تستوفي شروطاً معينة، وهذا من خصائص القضاء الشرعي، ولا تنازع الأمر أهله. وفي المنابر أو الدروس والخطب ونحوها من المحافل يتكلم عن الكفر أو البدعة بصفة عامة تنفيراً من الكفر والبدع، ويوصف الكفر بأنه كفر، والبدعة بأنها بدعة، ولا حرج على هذا الإطلاق. لكن في مقام التأصيل والتقعيد والتنظير ومحاكمة الناس فليست المسألة عبثاً ولا هوى، وإنما ينبغي التحقق والتحري والتدقيق والتثبت، فمن هنا نقبل في الحقيقة هذه الكلمة التي قالها المودودي رحمه الله في كتابه: (نحن دعاة لا قضاة)، فالإنسان عليه أن يدعو، لكن القضاء الشرعي والحكم على الناس بأعيانهم هذه ليست وظيفة الدعاة، وهذه الأحكام يترتب عليها أمور عملية، فإذا حكمت عليه بالردة فيترتب عليه أنه يجب أن يقتل، ويفرق بينه وبين زوجته، وغير ذلك من الأحكام الشرعية المعروفة. فيجب أن نفرق بين وظيفة الداعية وبين وظيفة القاضي الشرعي، وقد بايع النبي عليه السلام الصحابة على ألا ننازع الأمر أهله. يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق يعني: لا تعارض بين العلماء الذين يقولون مثلاً: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر! كما قال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر. وقال: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا وأن يلقوا يعني: لا يدفنوا لا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل الإسلام ولا أهل الكتاب أو كما قال، فهذا الكلام في كفر النوع. أما كفر العين في الشخص نفسه فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع. يقول شيخ الإسلام: إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، الإطلاق أن تقول: من قال كذا فله مثلاً عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو أنه كافر وأنه من أصحاب النار! هذا لا يجوز إلا بنص من وحي، أبداً حتى الكافر الموجود الآن كلينتون، أو بوش أو أي أحد من الكفار، فهذا لا تقول هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري بخاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار. يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، هذه مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن لما تأتي تحاسب شخصاً باسمه: فلان أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك، لماذا؟ سيأتي الجواب. كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا مثلاً: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، تماماً كما لو قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر. هذا هو الحكم من حيث الإطلاق في كلام ابن تيمية، لكن الشخص المعين فقد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة مثل هذا الشخص الذي قال هذا الفعل سواء كان كفراً أم دون الكفر، فيمكن أن يلغى حكم استحقاقه لهذا الوعيد؛ لأنه ربما يكون تاب: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]. فإذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يطلع عليها إلا الله، فيمكن أن يلغى بحسنات ماحية، هو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد، ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بمصائب تكفر عنه ما استحقه من الوعيد، ويمكن إن لم يكن هذا ولا هذا ولا ذاك أن يلتغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة يشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام، أو تشفع فيه الملائكة أو يشفع فيه قريب له شهيد، أو يشفع فيه أحد من إخوانه المؤمنين يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة) تعرفون أنواع الشفاعة في الآخرة. فيمكن أن يلتغي الوعيد بسبب شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن قال القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فيمكن شخص أسلم مثلاً في أمريكا أو كندا أو في أي مكان من الأرض، وأتى إلى بلاد المسلمين وهو يقول لك: لا توجد حاجة اسمها صلاة، الدين ليس فيه صلاة، لا يوجد في الدين شيء اسمه الصيام! يمكن مثلاً ينكر تحريم الخمر الذي هو معلوم من الدين بالضرورة لكن هنا توجد شبهة، فهذا القول بحد ذاته كفر أم ليس بكفر؟ كون شخص يقول: الخمر حلال، أو الفواحش حلال، أو السرقة حلال، أو ينكر الصلاة، أو يجحد الصيام، أو يجحد الحج، قطعاً هذا قوله كفر وتكذيب لما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن هذا الرجل قد يكون صدر منه بسبب أنه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في مكان بعيد عن أهل الإسلام، لا يعرف هذه الأشياء المعلومة من الدين بالضرورة، فمثل هذا لا يكفر حتى ولو كان قوله كفراً، هو قوله كفر أم ليس بكفر؟ كفر لكن هل يكفر؟ لا ينبغي أبداً أن يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة على يد إمام عالم، وهو مقتنع بأنه عالم. إمام عالم يملك الحجة يستطيع أن يدفع عنه جميع الشبهات حتى لا يبقى له ما يدفع الحق أبداً، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، يردد كلام بعض الجهلة الذين ينكرون السنة النبوية كلها أو بعضها أو أقساماً منها، فهو يردد ما قاله هؤلاء الضلال المبتدعون وهو لا يتعلم، رد ما قاله الرسول ولكنه مخدوع بتضليل أهل البدع، فربما يكون لم يسمع النصوص أو سمع ولم تثبت عنده في اعتقاده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً. ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في نفس هذا الموضوع: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولاً مطلقاً كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه. ومثاله: من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول شيخ الإسلام أيضاً في مناسبة أخرى: إن المقالة تكون كفراً كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، هذا كله كفر، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب وكذا لا يكفر به جاحده كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يكفر بجحد شيء مما أنزل الله على رسوله إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع. يعني: يقول: كلام الجهمية كفر، لكن الجمهية ليسوا كفاراً، وأغلب مقالاتهم هي من هذا النوع. فلذلك وجب التفريق بين كفر النوع وكفر العين، وهذه هي وظيفة القاضي الشرعي أو العالم أو الإمام الذي يستطيع فعلاً إقامة الحجة ومحاسبة الناس والحكم تبعاً لذلك بكفره. يقول: ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب تبارك وتعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب

كلام شيخ الإسلام في التفريق بين كفر النوع وكفر المعين

كلام شيخ الإسلام في التفريق بين كفر النوع وكفر المعين يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. ولا تعارض بين هذا وبين قول بعض العلماء: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر. وقال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر. وقال بعضهم: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا ويلقوا، ولا يدفنوا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحهم أهل الإسلام ولا أهل الكتاب؛ فهذا الكلام في كفر النوع، أما كفر العين -وهو الشخص نفسه- فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع. يقول شيخ الإسلام: ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين. والإطلاق مثل أن تقول: من قال كذا فله عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو كافر أو من أصحاب النار فهذا لا يجوز إلا بنص من الوحي، حتى الكافر الموجود الآن مثل كلينتون أو بوش أو أي كافر لا تقول: هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري ما خاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار. يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. فهذه الآية مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن عندما تتكلم عن رجل أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك. كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا، مثل: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، مثل قول بعضهم: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر. قد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة سواء كان هذا الفعل كفراً أم دون الكفر، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]. إذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يطلع عليها إلا الله. ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بحسنات ماحية، فهو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد. ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بها تكفر عنه ما استحقه من الوعيد. وإن لم يكن فعل هذا ولا هذا ولا ذاك فيمكن أن يلغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة من النبي عليه الصلاة والسلام أو الملائكة أو قريب له شهيد أو أحد من إخوانه المؤمنين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، والشفاعة في الآخرة أنواع. ويشترط في التكفير أن يقول القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان جاهلاً لا يكفر، كشخص أسلم -مثلاً- في أمريكا أو كندا أو في أي مكان من الأرض، وأتى إلى بلاد المسلمين وهو يقول: الدين ليس فيه صلاة، ولا يوجد في الدين شيء اسمه الصيام أو ينكر تحريم الخمر أو أي شيء معلوم من الدين بالضرورة، فهذا القول بحد ذاته كفر، لكن هذا الرجل قد يكون صدر منه هذا بسبب أنه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في مكان بعيد عن أهل الإسلام، ولا يعرف هذه الأشياء المعلومة من الدين بالضرورة، فمثل هذا لا يكفر حتى ولو كان قوله كفراً، ولا ينبغي أن يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة على يد إمام عالم، وهو مقتنع بأنه عالم، فيأتي إمام عالم يملك الحجة، ويستطيع أن يدفع عنه جميع الشبهات، حتى لا يبقى له ما يدفع الحق أبداً، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، فتراه يردد كلام بعض الجهلة الذين ينكرون السنة النبوية كلها أو بعضها أو أقساماً منها، فهو يردد ما قاله هؤلاء الضلال المبتدعون وهو مخدوع بتضليل أهل البدع، فربما يكون لم يسمع بالنصوص أو سمع بعضها ولم تثبت عنده في اعتقاده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في نفس هذا الموضوع: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولاً مطلقاً كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، وليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه. مثاله: من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول شيخ الإسلام أيضاً: إن المقالة تكون كفراً كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب؛ فلا يكفر كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يكفر بجحد شيء مما أنزل الله على رسوله إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع. يعني: كلام الجهمية كفر، ولكن الجهمية ليسوا كفاراً، وأغلب مقالاتهم هي من هذا النوع. إذاً: يجب التفريق بين كفر النوع وكفر العين، وهذه هي وظيفة القاضي الشرعي أو العالم أو الإمام الذي يستطيع فعلاً إقامة الحجة ومحاسبة الناس والحكم عليهم. يقول: ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما الرب تبارك وتعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جداً مشهورة وإنما يردونها بالتحريف. الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، يعني: يلزم من مذهبهم جحد وجود الله، وتعطيل الصانع سبحانه وتعالى، وإن كان منهم من يرى أن هذا لا يلزم، فيقول: هذا لا ألتزمه، ويؤمن بوجود الله، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر إنكار الله. الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها، وأهل الفطر السليمة كلها. فمثلاً: فوقية الله سبحانه وتعالى، هذه الصفة متفق عليها عند كل أهل الملل، فأنا كنت أتكلم مع رجل كافر علماني، فكان وهو يتكلم بكلام يقول: الله ويشير إلى أعلى، وهو أصلاً لم يتدين بأي دين، وكان يتكلم اللاتينية. فصفة الفوقية مفطور عليها كل أهل الملل، فاليهود والنصارى والمسلمون متفقون على مثل هذه الصفات، والجهمية يخالفون حتى الأشياء التي يتفق عليها أهل الفطر. ويقول شيخ الإسلام: وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك. يعني: من ثبت إسلامه بيقين لم يزل عنه وصف الإسلام بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة، فالناس إما مؤمن وإما كافر، وليس هناك مرتبة بين المرتبتين أو منزلة بين منزلتين أو ما يسمونه الآن بالتوقف، الناس إما مؤمن أو كافر، حتى المنافق في الدنيا تجري عليه أحكام الإسلام وإن كان في الحقيقة زنديقاً كافراً، فالمسلم قد يريد بشيء من أفعال الكفر، وقد يعذر بهذه الأعذار كجهل أو تأويل أو إكراه أو غير ذلك، فلا يحكم بكفره، ولا نتوقف فيه، لكن نستصحب الأصل الذي ثبت لنا يقيناً، وهو أنه من أهل الإسلام، فلا يزول عنه ذلك الوصف بالشك، بل يزول بيقين مثله. وقال شيخ الإسلام: وسبب هذا التنازع -يعني: تنازع أهل السنة في تكفير الجهمية بأعيانهم- تعارض الأدلة، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً. يعني: القول قول كافر، لكن حال الرجل يجيب علينا: لست بكافر، فتعارض الدليلان. وهذا مثل من يأخذ بعموم الوعيد في القرآن والسنة، وهم أيضاً أخذوا بعموم كلام الأئمة، مثل قولهم: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. ويقول: كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل ما قاله، فمن قال كذا فهو كافر، فهذه صفة عامة، لكن هذا اللفظ لا يشمل كل من قاله، فليس كل من قال بالقول يكون كافراً بعينه، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق معين. لأن التكفير المطلق لا يستلزم تكفيراً معيناً إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، ويبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. يعني: أن الإمام أحمد مع أنه كان يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، كيف كان موقفه الفعلي من الخلفاء العباسيين المعتزلة؟ كان يرى إمامتهم، ولم يخرج عليهم، وكان يصلي خلفهم، وكان ينادي الخليفة بأمير المؤمنين. والإما

محطات شطحات

محطات شطحات إن التمسك بالسنة نجاة من الزيغ والانحراف، فهي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، وهي نور يستضاء به في الظلمات، ويستنار به في المدلهمات، لذا لما تمسك بها السلف الصالح نجو من الفتن والأهواء، وكانوا على المحجة البيضاء، وصاروا نبراساً يستضيء به من بعدهم، وقدوة يقتدي بها السائرون والسالكون إلى الله. بينما نجد فئاماً من الناس أعرضوا عن السنة ولم يرفعوا بها رأساً، فلم يرتفعوا لا في علم ولا في عمل، بل انحطوا في درك الأهواء والفتن، والاختلافات والمحن، فصاروا شرّ سلف، وأشأم قدوة، ولا يذكرون إلّا بالسوء والقبيح.

قواعد وفوائد بين يدي الموضوع

قواعد وفوائد بين يدي الموضوع الحمد لله رب العالمين، الذي لا يهدي كيد الخائنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قاصم ظهر الماكرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: ففي مرحلة الغربة التالية التي تنبأ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)، وفي حال انفتاح ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (ستأتي على الناس سنوات خداعات: يصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه -وفي رواية: السفيه، وفي رواية: الفويسق- يتكلم في أمر العامة). وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). ففي هذا الحديث الشريف بيان مصدر ضلال الناس، وأن الضلال لا يأتي من قبل العلماء كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان، وكذلك هنا نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكن استفتي من لا علم عنده فأضل الناس. وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم). وفي هذا الحال الذي نعيشه من تداعي حملات الغزو الفكري الداخلي والخارجي علينا من كل حدب وصوب، وغير ذلك مما يعيشه المسلمون في قالب أزمة فكرية غثائية حادة أفقدتهم توازنهم إلا من عصم الله، وزلزلت كيانهم، وشوهت أفكارهم، كلّ بقدر ما عَلَّ من أسبابها ونَهَل، فصار الدَّخَل، وسار الدخن، وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالاً فسيحاً لنشر إفكهم، ونثر بدعهم، حتى أصبحت في كف كل لاقط، فاستشرت في الآفاق، وامتدت من دعاتها الأعناق، وعاثوا في الأرض الفساد، وتجارت الأهواء بأقوام بعد أقوام، إلى غير ذلك من الويلات التي يتقلب المسلمون في حرارتها، ويتجرعون مرارتها. وفي غمار ذلك كله تجسدت الأدلة المادية التي قامت في ساحة المعاصرة على ما ذرّ قرنه من الخوض في شريعة الله بالباطل، وما تولد عن ذلك من فتن تغلي مراجلها؛ لذهاب العلماء، وقعود المتأهلين عن التحمل والبلاغ، وتولي ألسنتهم وأقلامهم يوم الزحف على كرامته: فبقى الذين إذا يقولوا يكذبوا ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا وهانحن نرى بين الحين والآخر سرباً من المبتدعة يحاولون اقتحام بقايا العقبة؛ لتكفيف الأمنية الدينية، وزيادة غربة الإسلام بين أهله، ولو كانت دعوات القوم حبيسة الأوراق، رهينة الأدراج لهان الأمر، ولكان من الخطأ الرد عليها، وتنبيه المسلمين إليها؛ لأنه سيكون حينئذ إشهاراً لفكرة ماتت في مهدها، ولفتاً لأنظار المسلمين لينظروا في زيفها، ولكن: لكل ساقطة في الحي لاقطة وكل كاسدة يوماً لها سوق وهذا بجانب أن هذه الآراء الضالة والإلحادية تنشر على نطاق واسع، ويفتح لها صفحات في الجرائد ووسائل الإعلام، فهذا يحتِّم أن يُحكم عليها الحكم الشرعي اللائق بها.

فائدة الرد على أهل البدع والضلالات

فائدة الرد على أهل البدع والضلالات كما أن في الرد على هذا الباطل إبطالاً لهذه الضلالات التي شاعت وانتشرت، ففيه أيضاً خير للباهت المتّبع نفسه؛ لأنه يحتمل أن يعود إلى رشده، ويرجع عن غيه إذا كان أُتي من قبل داء الجهل، وأما إذا كان أُتي من قبل داء الهوى، فقد قال الله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]، خاصة أننا بصدد الرد على مقالة هذا الذي أنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة، فمن مصلحته أن يرجع ويتوب، فقد صح عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: (من كذّب بالشفاعة فليس له منها نصيب). وإن أصرّ على هذا الضلال فإن الرد يعود عليه بالفائدة؛ لأن في هذا الرد تقليلاً من عدد المتورطين المضلَّلين بجهله وفتنته، وإلا فقد قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً)، فنحن لا نتعرض لهذه الواقعة بالذات، فالوقائع كثيرة جداً لا تكاد تنحصر، ومن ذلك مقالة أطلعني عليها أحد الإخوة نشرت منذ فترة من شخص يعتزّ بفرعون، ويعز عليه أن القرآن الكريم يحكم بكفر فرعون، فإذا به يلتقط كلاماً من هنا وهناك لبعض الملاحدة الزنادقة كـ ابن عربي الصوفي المارق، فيعقد محاكمة ويجعل ابن عربي هو المحامي الذي يدافع فيها عن فرعون، ويقول: إن فرعون جدي، وأنا رجل مصري قبطي، فكيف يكون جدي في النار؟ وكيف يذم القرآن جدي بهذه الطريقة؟ فمن هذا المنطلق، ومن هذه النعرة والحمية الجاهلية النكراء يعقد محاورة أو محاكمة في صفحة كاملة في جريدة شبه رسمية، ويدافع فيها عن فرعون، ويقول: إن فرعون مات مؤمناً إلى آخر ضلالاته، فهذا يريد أن يقضي على معنى تكفير فرعون، وقام اليهود -من ناحية أخرى- بالمطالبة في فلسطين بحذف الآيات التي تتعرض لبني إسرائيل بالذم، وهكذا نتلقى الصفعات، وكل من أراد أن يطعن فليطعن، فكل من أراد أن يحذف فليحذف إلى غير ذلك مما تعلمون. فنحن نريد أن نجعل هذا الموقف درساً وعبرة؛ لأن الضُّلّال لا ينحصرون، والظلمات كثيرة كما أخبر الله تعالى، ودائماً ما تأتي الظلمات في القرآن بصيغة الجمع، وأما النور فيأتي مفرداً، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، فعلينا أن ننشغل وأن نتعلم هذا النور؛ كي يكفينا شر هذه الظلمات، فقضيتنا ليست أن نتعرض لهذا الكاتب بالتفصيل، ولا لـ أحمد صبحي منصور، ولا لـ رشاد خليفة، ولا للسيد صالح أبي بكر، ولا لـ أبي رية، ولا لغيرهم من هؤلاء المارقين الذين يطعنون الإسلام في الصميم، بل سنحاول أن نعمم العبرة؛ حتى نستطيع أن نتعامل مع ظاهرة العدوان على دين الله سبحانه وتعالى بهذه الأقلام المسمومة التي تنفث سمومها بين الحين والآخر.

حكم الرد على أهل البدع والضلالات

حكم الرد على أهل البدع والضلالات فإن قيل: إنه يسعنا ما وسع السالف الصالح من أنهم لم يناظروا أهل البدع، وإنما هجروهم وقاطعوهم، وهذه بعض الآثار: فعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه؛ لا يلقيها في قلوبهم. وعن أيوب السختياني قال: لست ترد عليهم بشيء أشد من السكوت، وقال الخواص: إذا جاءكم مجادل بغير حق فتصدقوا عليه بالسكوت؛ فإنه يخمد هيجان نفسه، وعن عبد الله بن السري قال: ليست السنة عندنا أن يرد على أهل الأهواء، ولكن السنة عندنا ألا نكلم أحداً منهم، وكتب رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى يستأذنه في أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ويحتج عليهم، فكتب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتاباً فيه: الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم: أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبّسون عليك وهم لا يرجعون، فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم. فنقول: إنّ الحق والصدق أن هذا هو مسلك السلف رحمهم الله تعالى في التعامل مع أهل البدع، فقد كانوا يهجرونهم، وينابذونهم، ونقول: نعم يسعنا ما وسع السلف رحمهم الله تعالى إن كانت ظروفنا مثل ظروفهم، لكن إن ابتلينا بما عافاهم الله تعالى منه فلا شك أن الموقف يختلف، فقد غاب السلطان الشرعي الذي كان يضرب على أيدي المبتدعة ويحجر عليهم، وقعد كثير من أهل العلم عن التصدي للمبتدع الذي أذاع بدعته على نطاق واسع، وتحقق حصول الضرر من نشاط هؤلاء الناس على العوام وبعض الخواص، ومع ذلك فلنا أسوة في أهل العلم في كل زمان ممن تصدوا لأهل البدع بالرد والتفنيد. فهذا الإمام مسلم رحمه الله تعالى يقول في مقدمة صحيحة: وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتقسيمها، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً لكان رأياً متيناً، ومذهباً صحيحاً، إذ الإعراض عن القول المطَّرح أحرى لإماتته، وإخماد ذكر قائله، وأجدر ألا يكون ذلك تنبيهاً للجهال عليه، غير أنا لما تخوفنا شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله، ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله. وأنكر الإمام أحمد على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض، فقال الإمام أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يؤمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه. إن الطائفة الوحيدة التي تتصدى لأهل البدع هم أهل العلم المختصون، وأما طالب العلم القليل البضاعة فضلاً عن العوام الذين لا يدركون حقائق هذه الأشياء فلا شك أن دخولهم في مثل هذا دخول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استشرفت للفتن استشرفت لك) أي: إذا نظرت إلى الفتن بعين واحدة فإنها ستهجم عليك، وترحب بك، وتدخلك في بطنها، وهنا أذكر نصيحة لعموم الإخوة جميعاً وهي: أن من سمع شيئاً في وسائل الإعلام فيه طعن، أو تكذيب، أو بعض الشبهات، فالواجب عليه أن يخمده ما استطاع ولا يذيعه أو ينشره، إلا إذا أُذيع ونُشر رغماً عنا، ففي هذه الحالة يتعيّن الجواب العام، لكن لا نشغل أنفسنا بالرد على كل من ألقى حجَراً؛ لأننا سنكون بذلك قد أذعنا هذه البدع ونشرناها، وعممنا ضررها. قال الغزالي معلقاً على كلام الإمام أحمد: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، وأما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية. ولا شك أن الحجْر على أهل البدع ممن يعيثون في الأرض فساداً هو أولى من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان، فإن المبتدع إذا زجر وهجر بات كالثعلب في جحره، وأما تركه يحديث ببدعته وضلاله فهذا فيه تزكية له، وتغرير بالعامة، إذ العامي مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً.

نوع الاختلاف الموجود عند أهل السنة والجماعة

نوع الاختلاف الموجود عند أهل السنة والجماعة ولا شك أن الخلافات في مثل هذه الأشياء هي من سنة الله عز وجل التي مضت في خلقه، فما من الناس إلا راد ومردود عليه، ومحق ومبطل، والله تعالى يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، والمقصود بهذا الاستثناء هم أهل الإسلام، وأهل السنة والجماعة على الخصوص، فإن أهل السنة والجماعة لا يختلفون اختلافاً يضرهم، فقد يختلفون في بعض الأمور لكنه اختلاف لا يضرهم، كالخلاف الاجتهادي في قضايا الفروع، وأما في الإيمان وقضايا الأصول والعقيدة فهم فرقة واحدة، وأما في الفقه والفروع فالأمر أيسر، فهم مذاهب شتى تصل إلى سبعة أو ثمانية أو أكثر من ذلك من المذاهب الفقهية، إذاً: فأهل السنة لا يختلفون في الأصول ولا يختلفون في الفروع اختلافاً يضرهم، وإنما يختلفون اختلافاً سائغاً. وهنا نذكر قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو يناقش تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وقد جعل يورد عليه إيراداً بعد إيراد، فيناقشه ويدلي بالشبه، وكلما أجابه بشيء أورد عليه شبهة أخرى، فعلّق شيخ الإسلام على أسلوب تلميذه الإمام ابن القيم معلماً ومرشداً، فقال: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة يتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وأما إذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليه فإنه سيصير مقراً للشبهات، أو كما قال شيخ الإسلام. يقول ابن القيم: فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل.

ذم التعالم

ذم التعالم ونصدَّر أيضاً الكلام في هذه القضية بالكلام في ذم التعالم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} [الأنعام:144] أي: لا أحد أظلم، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الأنعام:144]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، فالتعالم الكاذب هو عتبة الدخول إلى جريمة القول على الله بغير علم، وهذه الجريمة محرمة لذاتها تحريماً أبدياً في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وهو مما حذّرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير حين قال: (يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحار، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن، ويقولون: من أقرأ منا، من أعلم منا، من أفقه منا، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أولئك منكم -أي: من هذه الأمة- وأولئك هم وقود النار)، وجاء في الحديث الآخر الذي في البخاري أن النبي عليه السلام قال في فتن آخر الزمان قال: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها) فلما قال له حذيفة: صفهم لنا، جلهم لنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وهذا هو الواقع الذي نلمسه الآن، فالذين يطعنون في الإسلام هم من جلدتنا، وممن يتكلم بألسنتنا ولغتنا. وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال: (اللهم! هل بلغت ثلاث مرات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه -وكان آوه، أي: كثير الدعاء- فقال: اللهم نعم! وحرضت وجاهدت ونصحت، فقال عليه الصلاة والسلام: ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، ولتخاضن البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن، فيتعلمونه ويقرءونه ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟ قالوا: يا رسول الله! من أولئك؟ قال: أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة أياماً ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل). ويقول بعض الفضلاء من المتأخرين: وجدت جميع العلوم في ازدياد إلا علم الدين، فعلمت أنه المقصود في الحديث. قلت: صدق، فهاهو العلم في زماننا قد استدبر، وهاهو البغاث بأرضنا قد استنسر: قد أعوز الماء الطهور وما بقي غير التيمم لو يطيب صعيدا وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله أنه قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك، أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، لكن اسُتفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وَلَبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السرّاق. أي: أنه أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص. وقال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله: كذبت، لم أحل كذا ولم أحرمه، وقال القاسم بن محمد: لئن يعيش الرجل جاهلاً خير له من أن يقول على الله ما لا يعلم. وقال ابن حزم رحمه الله: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، فهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون. وهذه الكلمة ينبغي أن تكتب بخط عريض في كل مكان؛ حتى لا تغيب عن الناس. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب. وفي كتب الحنفية: أن أبا حنفية رحمه الله كان يرى الحجْر على المفتي المتلاعب، ويسمونه المفتي الماجن، فيمنعه الإمام من الإفتاء. وقال ابن الجوزي: يلزم ولي الأمر أن يمنع هؤلاء من الإفتاء كما فعل بنو أمية، وقال: إذا تعين على ولي الأمر منع من لا يحسن التطبيب ومداواة المرضى، فكيف بمن لم يعلم الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟! وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عادة، قال ابن القيم: ومَن أقرهم مِن ولاة الأمور فهو آثم. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أنه ينبغي أن يكون على المفتين محتسب، فقال رحمه الله تعالى: يكون على الكذابين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتيا محتسب!! وقال بعض المصنفين: والانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل به أحد ينبئان عن خلل في العقل. وقال زفر بن الهذيل ما معناه: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يذل، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول بما لم يقل به أحد، قال: وأرى من الواجب الديني أن أوصيه -أي: الشخص الذي يرد عليه- أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه، وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاًً ورجالاً لقصعة وثريد والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة. وقال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: ليس ما لا يُعرف من العلم، إنما العلم ما عرف، وتواطأت عليه الألسن، وقال إبراهيم بن أبي عبلة: من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً. وقال الشاطبي رحمه الله: قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة. وأما الآن؛ فباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه لكل من هب ودب، وهذه مشكلة عظيمة، ويعطون أنفسهم هذا الحق فيقولون: فتح باب الاجتهاد إلى آخره، فنقول: نعم إن باب الاجتهاد مفتوح، ولكن من الذي يجتهد؟ فلو كان هناك رجل أمي جاهل ليس عنده أي علم فوقف في السوق وجعل يقول: أنت تُعدم، وأنت تسجن خمسة وعشرين عاماً، وأنت تجلد أربعين جلدة، وأنت كذا، فماذا يقول عنه الناس؟ لاشك أنهم سيعرضون عنه، فكلامه ليس له أي تأثير، بل هو لغو فارغ كلغو العصافير؛ لأن هذا الرجل ليس ممن يجتهد، ولا ممن يصدر الأحكام، فكلامه لا وزن له.

معرفة قدر الناس قبل الكلام فيهم

معرفة قدر الناس قبل الكلام فيهم ذكرنا سابقاً أنه يجب على الإنسان قبل أن ينتقد شخصاً أن يعرف قدره، فهذا عمر يقول: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه، وهذا يكون من الجانبين، أي: أن تعرف قدر نفسك، وأن تعرف قدر من تتكلم فيه، فنحن نعرف قدر العلماء الأفاضل، وندرس سيرتهم قبل أن نتكلم عنهم، فإن معرفة قدر الرجل الذي تتكلم عنه له تأثير في أسلوب كلامك معه، وحسن ظنك به، فالماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، وأما إذا كان غالب القلتين خبث، وفيهما القليل من الماء الطاهر فإن الأمر ينعكس. إذاً: فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه ولم يناطح العلماء الجبال، وإذا كان هو دجاجة تمشي على الأرض فلا يناطح النسور في عنان السماء. إن هذا الأمر في غاية الأهمية، فعلينا أن نعرف أقدار العلماء وسيرهم وحياتهم؛ كيلا نبخسهم حقهم، وعلينا أن نستصحب الأصل؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم استصحب الأصل مع الناقة البهيمة، وذلك حينما قال الصحابة: (خلأت القصواء، فقال: خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) فدافع عن عرض الناقة، وقال: (وليس لها ذلك بخلق)، فكيف بعالم جليل من علماء المسلمين؟! أننصت إلى من يرجف بالإشاعات والأكاذيب والتضليل ولا نستصحب هذا الأصل؟! حتى وإن أخطأ فهذا مغمور في بحر علمه وفضله، فيجب علينا أن ننصف في حكمنا على الناس، وفي الجانب الآخر أن نعرف هذا الذي يتكلم وينعق كالغراب الناعق، ويشذ عن أهل السنة والجماعة، ويأتي بهذه الأفكار الضالة المضلة أن نعرف ما هو حظه من العلم؟ ونحتاج أن نعرف ترجمته وحياته وعلمه؛ لنعطيه حجمه الذي يستحقه. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة. وقال شكيب أرسلان: ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص، فهو أشد خطراً من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه، ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري، ولا يقتنع أنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلاؤكم بنصف مجنون، وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلاؤكم بشبه عالم.

الاجتهاد الممدوح والاجتهاد المذموم

الاجتهاد الممدوح والاجتهاد المذموم وننهي هذه المقدمة -وإن طالت لكنها مهمة- ببيان المقصود من هذا الحديث المظلوم الذي يتعلق به كل من أراد أن يطعن في الإسلام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)، فهذا الحديث وارد في شأن القاضي، وألحق به المفتي بجامع أن كل واحد منهما مأمور بأن يصدر عن حكم شرعي، ولذلك يعذر كلاهما في الخطأ، فالمفتي إذا كان من أهل العلم ممن اجتمعت فيهم شرائط الفتيا، وبذَل وسعه للوصول إلى الحق، ثم أفتى بما غلب على ظنه أنه الحق بمقتضى الأدلة فأخطأ فلا إثم عليه في هذا الخطأ؛ لدخوله في القاعدة الذهبية التي دل عليها قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]، ولدخوله في هذا الحديث الشريف المشار إليه، فأجر اجتهاده باقٍ محفوظ لا يبطل بخطئه، فله أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ. وأما إذا بلغ العالم مرتبة الاجتهاد وقصر في بذل الوسع، فأفتى وتكلم بدون أن يُعمِل هذه الإمكانيات التي عنده، ولم يبذل غاية وسعه للوصول إلى الحكم الشرعي في هذه المسألة، فلا ينطبق عليه هذا الحديث، بل إذا أخطأ فإنه يكون آثماً؛ لأن الحديث يقول: (إذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فلابد من أن يجتهد ويبذل وسعه، وبعد الاجتهاد وبذل الوسع: إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور له؛ لأن الشرع يأمره بأن يفتي؛ لوجوب الإفتاء، وقد فعل ما أمر به، فاستحق بذلك الأجر على العمل الذي قام به، لكن لا يكون أجره كأجر المصيب، فالمصيب دل على الحق، وهذا المخطئ لم يدل عليه. وأما إذا أفتى من ليس أهلاً للفتيا فأخطأ فإنه لا يكون معذوراً بذلك، إذاً: من أفتى وليس أهلاً للفتيا فأخطأ، أو كان أهلاً للفتيا لكنه لم يبذل جهده لإحقاق الحق فأخطأ، فإنه لا يكون معذوراً بذلك، بل يكون آثماً؛ لأنه أضل عن سبيل الله، وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، وفي الحديث: (حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالماً بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالماً فلا، واستدل بحديث: (القضاة ثلاثة)، وفي هذا الحديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار، فأما الذي في الجنة فقاضٍ قضى بالحق فهو في الجنة، وأما القاضيان اللذان في النار: فقاضٍ قضى بغير حق فهو في النار) أي: أنه تعمد الإضلال والظلم والجور فهو في النار. والنوع الثاني من القاضيين اللذين يدخلان النار: (وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار) أي: أنه قضى وهو ليس أهلاً للقضاء فيكون آثماً ولو أصاب؛ لأن هذا ليس من تخصصه. قال الخطابي رحمه الله: إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعاً لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لا يلزم من ردّ حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم. وينبغي أن تكون الردود على الضلالات بعلم، وبما يليق بحال المردود عليه، فمثلاً لما حصلت ضجة حول نجيب محفوظ في روايته (أولاد حارتنا) وما فيها من الإلحاد والكفر بالله، وبالأنبياء، وبالإسلام، نجد بعض الشيوخ أو الناس يفتي ويقول: إن الأستاذ الفاضل أو الأديب الكبير العالمي نجيب محفوظ له وجهة نظر في هذا، ولكن إلى آخر هذا الأسلوب المتميع، فكل واحد منهم يريد أن يكون جنتل مان، فيترخصون في التلفظ بطريقة فظيعة جداً، نعم أن الحِلْم حسن لكنه في مثل هذا الموضع جهالة، فأسلوب الترفق بهؤلاء المجرمين الصادين عن سبيل الله، والطاعنين في دينه غير صحيح، فأقل شيء أن تُظهر حقيقته، وأن يكشف ويفضح جهله للناظرين؛ كي لا يلبَّس على الناس، وأما أن نقول: الأستاذ الكبير، والأديب العالمي فلان الفلاني، الذي يقول كذا، وهو له وجهة نظر في هذا، فهذا غير صحيح، ونفس هذا الأمر حصل في موضوع الشفاعة، فأحد الشخصيات الدينية البارزة يقول في مقدمة مقاله: وبعض الكتاب يرون -انطلاقاً من اجتهاد شخصي، ورؤية خاصة قد تكون صواباً وقد لا تكون- أنه لا شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في العصابة المذنبين من أمته يوم القيامة إلى آخره، فهذا أسلوب في غاية الرقة، مع أن هذا المنكر للشفاعة لا يستحق هذا التلطف، ثم كيف يقال: قد تكون صواباً وقد لا تكون وهو يكذب بالأحاديث المتواترة في الشفاعة، والآيات القرآنية التي أساء فهمها ذلك الجاهل بجهله، وهذا القاصر بقصوره حتى يرد هذا الرد؟!! ونجد أن الشيخ نفسه في آخر الكلام يقول: وعلى أية حال فالمعروف أن فرقة المعتزلة تعطي العقل أحياناً أكثر من حجمه، أقول: هم دائماً يعطون العقل فوق حجمه وليس أحياناً. ويقول أيضاً: ولو صح أن هذه الفرقة أنكرت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أقول: لا يصح أن نقول هذا في المعتزلة؛ لأن هذا من أصول المعتزلة والخوارج الواضحة المعروفة. قوله: فنحن نخالفهم في ذلك مخالفة تامة، ونرى أنه لا يصح الاستشهاد برأي مرجوح وترك الرأي الراجح، أقول: القضية ليست راجحاً ومرجوحاً، فالراجح والمرجوح في قضايا الفقه، وأما هنا فحق وباطل، بل ولا نقول: صواب وخطأ، وإنما هو حق وباطل، هكذا الأمر في قضايا العقيدة، وأما قضايا الفقه والفروع فهي التي نقول فيها: خطأ وصواب، وراجح ومرجوح.

من أراد الله به خيرا قيض له رجلا من أهل السنة من أول أمره

من أراد الله به خيراً قيض له رجلاً من أهل السنة من أول أمره والآن سنتعرف على هذا الشخص الذي تكلم بهذا الكلام، والمفروض علينا ألّا ننشغل بالكلام على أحد، لكن سنحاول إن شاء الله تعالى أن ننصفه؛ لأن هذا في الأصل مأخوذ من هذا العنوان الذي سميته: (محطات شطحات)، فهي محطات في حياة هذا الكاتب والأديب تثبت لنا أن الشطحات هي سمة من سمات شخصيته، وعلامة من علامات توجهه؛ لنأخذ العبرة، ولندرك أن هذه الشطحة ربما تكون خفيفة بالنسبة لغيرها من الشطحات التي وقف فيها في محطات الشطحات، فهو لم يستطع إلى اليوم أن يتحرر من أمواج الشطط التي طالما رمت به بعيداً عن شاطئ الأمان. وليؤخذ من ذلك عبرة مهمة، بل هي في غاية الأهمية، وهي: أن فساد الانتهاء من فساد الابتداء، فمثلاً إذا أردت أن تسافر فوقفت على تقاطع طرق، وكل طريق يؤدي إلى اتجاه مغاير تماماً للآخر، فلابد أن تحسن اختيار الطريق الذي تقصده في بداية الأمر، وكذلك لابد أن يهتم الإنسان بنقطة البداية في طلبه للعلم؛ لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ تعلم على يديه، ويتعصب لأول كتاب قرأه وهكذا. فمن أراد الله به خيراً قيض له رجلاً من أهل السنة؛ كي يأخذ بيديه، ويوفر عليه ضياع العمر في الحيرة والتلون والشطحات، وإذا عرفنا قدر هذا الرجل فإنا نردد قول العلماء: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف، فمشكلتنا أن كل من أراد أن يتكلم فإنه يتكلم، ولا يوجد أي حجر على الكلام. والشخص الذي سنتكلم عنه هو الدكتور مصطفى محمود.

مصطفى محمود وبعض شطحاته

مصطفى محمود وبعض شطحاته اسمه: مصطفى كمال بن محمود حسين، وهو مشهور بـ مصطفى محمود، وقد ولد في 27/ 12/1921م في شبين الكوم، ثم انتقل بعد أيام من ميلاده إلى طنطا، حيث فتح عينيه على مقام البدوي تحج إليه الوفود، وتساق إليه النذور، ويرى التمائم والزيارات وغيرها من البلايا، وفي سن الثالثة عشرة -وهي سن المراهقة- اتصل بمؤلفات: شبلي شميل وإسماعيل مظهر وسلامة موسى، وسن المراهقة هي سن تموج دائماً بالاضطرابات إلا من رحم الله، وهنا محطة فساد الابتلاء، ففي هذه السن الحديثة اتصل بمؤلفات هؤلاء الضالين، ولو ذهبنا نتكلم على كل واحد منهم على حدة لطال بنا الموضوع جداً، فـ شبلي شميل معروف بضلاله وانحرافه، وخاصة أنه هو وسلامة موسى كانا ممن تحمسا جداً لفكرة النشوء والارتقاء.

مصطفى محمود ونظرية داروين

مصطفى محمود ونظرية داروين وقد فُتن مصطفى محمود من بداية المراهقة المبكرة بنظرية داروين، وتبنى هذه النظرية، وبدأت مرحلة الرفض في حياته، وعمّقتها نزاعات التمرد عند المراهق وأقرانه الذين كانوا يشاركونه في معاناة تجربته العنيفة، وقد عانى من الشك الحاد في النبوات والرسالات الإلهية، وكان هذا رد فعل للمظاهر الشاذة التي رآها من زوار ضريح البدوي وغيره في طنطا، فظن أن الدين ليس إلا هذه الخزعبلات، ولم يستطع أن يفرق بين الأصيل والدخيل. ثم غلبت عليه ثورة داخلية فرحل إلى إحدى مدن المغرب سنة 1948م يلاحق رجال التصوف؛ بحثاً عن الحقيقة كما يقول، فالتمس الري من كئوس أصحاب الطرق وشطحاتهم، وتخرج من كلية الطب سنة 1952م، وتخصص بعد ذلك في الأمراض الصدرية، ثم تفرغ للأدب والفكر، وأول دواسير مؤلفاته مجموعة قصصية تسمى: (أكل عيش) وذلك في سنة 1954م، وتلاها سنة 1955م كتاب (الله والإنسان)، وفيه محاولة التشكيك في كبرى اليقينيات، والتشكيك في الرسالة والرسل، وعكس هذا الكتاب الصراع الذي كان يطحنه بين قراءته غير الناضجة وشواذ بيئة طنطا التي أفسدت تصوراته عن حقيقة الدين، وضميره وبقايا إيمانه القليل من جهة ثالثة، كذلك عانى الصراع النفسي بين التشكك في القرآن نفسه وبين الاطمئنان إليه، وقد دفع ثمن تلك الشطحات، فنهض الأزهر بواجبه وصودرت معظم نسخ الكتاب، وقُدَّم مصطفى محمود إلى محكمة أمن الدولة، ولكنه نجا من هذه المحاكمة حيث كان القضاة متصوفين، وكان محاميه متفلسفاً، فرافع بأن الكتاب يسجل بداية المتصوف لا تهجمات ملحد، فاكتُفي بمصادرة الكتاب، والكف عن ملاحقة مؤلفه. وألف كتابه (إبليس) سنة 1958م، وحاول أن يفسر قصة إبليس على طريقة فاضل عباس المهداوي، الذي أعلن في إحدى محاكماته أنه لا وجود لذات اسمها إبليس، وإنما هو رمز للنزغات الشريرة في النفس البشرية، ثم حكم المؤلف نفسه على هذا الكتاب فيما بعد بأنه هو وكتاب (الله والإنسان) كانا تعبيراً عن ذروة الشك، ومتعاطفين مع الفكر المادي الذي كفر به فيما بعد، وقال مصطفى محمود: صودر الأول وهو كتاب (الله والإنسان) ولم يطبع ثانية، فصادرت أنا الثاني (إبليس)، فلا أسمح بإعادة طبعه، ولقد اعتاد الكاتب أن يخلط أو أن يخبط ويشوش ويضطرب ببعض كتاباته المرفوضة التي تترك في القلوب الهشة جراحاً ليس من اليسير تضميدها، وإن رفع عقيرته بإنكارها فيما بعد، أو بتراجعه عنها، فإنه يتوب من بعضها في حين يبقى كثير من الناس تؤذيهم وتجرحهم هذه الكتب، فنخلص من هذه المحطة إلى أن مصطفى محمود ليس مصدراً آمناً لتلقي الحق، فهو كـ أبي حامد الغزالي تماماً. وهكذا نجد أن من فسد ابتداؤه بأن فتح عينيه على الضلالات والفلسفات وأهل الكلام والتصوف والبدع فإنه يتلون: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل وهكذا كانت سيرة الجويني والرازي والغزالي وكثير من المعاصرين، وعلى أي الأحوال فالأمر كما قال بعض السلف: إن هذا الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فالاضطراب والتشويش والحيرة سمة من سمات هذه الشخصية: ولن يستقيم الظل والعود أعوج ثم تولى هو محاكمة كتابه (إبليس)، أو كتاب (الله والإنسان)، فقطع بأنه عمل متهور لا يرضى عنه قلبه ولا عقله، ثم أكبّ على الفلسفة قديمها وحديثها، وعلم النفس بنظرياته، ونظريات فرويد على الخصوص، ثم انتهى إلى أن الفلسفة لا تعدو كونها حجَراً يُلقى في بحيرة مجهولة فيضاعف عكرتها، ولا يرجع منها بصيد. ثم انتقد الفرويدية والماركسية؛ لأنهما يحشران الإنسان في حظيرة البهائم، ويجريان عليه كل الأحكام التي تخص الحيوان، وانتهى إلى أن العلم المادي ليس في مقدوره تقديم أجوبة مقنعة على أسئلة النفس حول الدين، فذهب ينشد الهدى من خلال مباحث الأديان، فراح يبحث عنه في الوثنيات الهندية، مروراً بالديانات ذات الأصل السماوي، إلى النحل المعاصرة: البادية، والبهائية، والقاديانية، وانتهت هذه السياحة برسو زورقه الحائر على شاطئ القرآن البليغ. وإذا نظرنا أين تعلم؟ وعلى يد من تعلم؟ ولمن قرأ؟ فسنستخلص أنه ليس من أهل العلم، وبالتالي فكلامه ككلام الذي يقف في السوق ويقول: أنت تقدم، وأنت تسجن خمسة وعشرين عاماً، وأنت تسجن ثلاثة أشهر إلى آخره، فهذا كلام في الهواء، فما كان ينبغي لنا أن ننشغل بالرد عليه بهذه الطريقة. فبدأ اعتناءه بالقرآن والتفسير، وتأثر بـ سيد قطب رحمه الله في كتابه (في ظلال القرآن)، و (الظلال) فيه كثير من الأخطاء الشديدة، وليس هذا موضوعنا الآن، وكذلك تأثر بـ ابن كثير في تفسيره، وقرأ (الإحياء) و (المنقذ من الضلال) وأنا لا أسميه أبداً: (إحياء علوم الدين)؛ لأن بعض العلماء سموه: (إماتة علوم الدين) فسنسميه: (الإحياء) اختصاراً، وهذا حديث له موضع آخر، وكتاب (المضنون به على غير أهله)، وكل هذه الكتب للغزالي، وكذلك حِكَم ابن عطاء الله السكندري، فانتهى إلى أن التصوف هو البحر الذي تصب فيه سائر الجداول، ولا شك أن هذا كلام صحيح، فالتصوف هو البحر الذي تصب فيه كل المصارف والجداول، ويتسع للجيف واللآلئ، ويجمع بين الغثاء والجواهر. ولا يحسن التمييز بين الجيف واللآلئ، ولا بين الغثاء والجواهر إلا الحذاق من أهل الفرقان، والقادرون على الغوص إلى الأعماق. إنّ علاج هذه الحيرة موجود في منهج أهل الحديث، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لكنه حرم من تراث علماء السنة وبخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلاميذ مدرسته العدول المجددين الذين طهر الله بهم الدين من تحريفات الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

ربطه القرآن بالنظريات العلمية الحديثة

ربطه القرآن بالنظريات العلمية الحديثة هناك محطة أخرى من محطات حياته وهي محطة كتابه: (القرآن محاولة لفهم عصري)، وغالباً ما تثير كتبه صجة، وهناك كتاب اسمه: (شطحات مصطفى محمود في كتابه: القرآن محاولة لفهم عصري)، وهذا الكتاب اتسم بالجرأة على ربط المضمون القرآني بأفكار وتصورات قابلة للتبديل والتعديل، فحاول أن يربط القرآن بنظريات علمية حديثه ما زالت في حيّز النظريات ولم تصل إلى رتبة الحقائق، فإذا رُبط القرآن بها وثبت بعد ذلك أن هذه النظريات كانت خاطئة فإننا نعرض القرآن للتشكيك. وهذا منهج ليس بجديد، فقد سبق نظيره في مدرسة محمد عبده وغيره من المبهورين بالاكتشافات الغربية، وأبشع ما يكون هذا المنهج في كتاب (الجواهر) لـ طنطاوي زهري. فهؤلاء طرقوا ظواهر القرآن إلى تأويلات مهزوزة لم تعط فيها الكلمة الأخيرة، ولقد صفق لهذا الكتاب بعض الحاقدين على علماء الإسلام الذين وقفوا لمؤلفه بالمرصاد، وكان في هذا الكتاب يتحكم في الغيب الذي لا تبلغه العقول، ولم يوجد لأئمة التفسير فيه قول يؤنسه في هذه الوحشة التي شذ بها.

من شطحاته زعمه أن الجنة والنار ألوان من ضرب المثال

من شطحاته زعمه أن الجنة والنار ألوان من ضرب المثال ومن شطحاته: قطعه في هذا الكتاب بأن كل ما جاء عن الجنة والجحيم فما هو إلّا ألوان من ضرب المثال، وألوان من الرمز، أي: أن نعيم الجنة وعذاب النار ما هو إلّا رمز، وليس له حقيقة، فهوجم كعادته، ورد عليه العلماء، ثم خفف هذه الدعوة وتراجع عنها فيما بعد في كتابه (حوار مع صديقي الملحد)، وما أدري كيف يكون صديقه وهو ملحد؟! وكيف يوالي هذا الملحد؟! فيقول في هذا الكتاب: ولا يجب أن يفهم من هذا الكلام أننا ننكر العذاب الحسي ونقول بالعذاب المعنوي. وعلى أي الأحوال: فلعله تراجع، وهذا شيء جيد. ويقول الشيخ محمد المجذوب في كتابه (علماء ومفكرون عرفتهم) -وقد طبع هذا الكتاب سنة 1977م-: إنه -أي: مصطفى محمود - أحياناً ليلقي بالرأي الشخصي كأنه تقرير في قضية قد فرغ منها، دون أن يكون له سند من قول مأثور، أو قياس على نظير، وأقل ما يقال في هذا: إنه ضرب من التفسير بالرأي -يعني: الرأي المذموم- الذي أجمع علماء القرآن على أنه أخطر ما يعامل به كتاب الله عز وجل.

ومن شطحاته زعمه أن هناك آدمين اثنين

ومن شطحاته زعمه أن هناك آدمين اثنين ومن تخبطه وتخمينه: القول بآدمين اثنين، أي: أن هناك اثنين آدم وليس واحداً، وهذه أخذها من طريقة أبي العلاء المعري الذي سبقه إلى مثل هذا التخليط بقوله: وما آدم في مذهب العقل واحد ولكنه عند العقول أوادم وقد اعترف مصطفى محمود يوماً بأن الشكوك التي أحاطت به إنما كان مردها إلى غواش حالت بين بصيرته وبين الرؤية الصحيحة، واعترف بأن للنقص العلمي أثره في التمكين لهذه العوارض. ويقول في كتاب (حوار مع صديقي الملحد) في (ص31) بعد أن تحدث عن أهل النار وموجبات عذابهم بكلام رائع، ثم ما يلبث أن يشطح فيقرر قول ابن عربي من إن هؤلاء سيتعودون على النار، فتصبح بيئتهم الملائمة، ثم يقول: إن التعذيب في الآخرة ليس تجبراً من الله على عباده، وإنما هو تطهير وتقويم ورحمة! فأين هذا من قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [آل عمران:88]، وقول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، فلفظة ((كُلَّمَا)) تدل على أن هذا العذاب متجدد ومستمر إلى الأبد، فأين التطهير؟ وأين التقويم؟ إنما يكون التطهير والتقويم في الدنيا حيث تنفع التوبة. ويذكر الله تبارك وتعالى عن أهل النار أنهم يدعونه فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيزجرهم الله قائلاً: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]. وقد تأثر بهذه الفكرة -أعني: أنهم سيتعودون على النار وتصبح بيئتهم الملائمة- بالشاعر محمد إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام)، فإن إقبالاً ابتدع في هذا الكتاب من عجائب التفاسير للجنة والنار ما لا أصل له، وليس له مستند من قرآن ولا حديث، كقوله عن النار: إنها تجربة للتقويم قد تجعل النفس المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله. أقول: لا، ليست نفحات، بل هي لفحات. فالجنة والنار في تفسير محمد إقبال الفلسفي حالتان لا مكانان، فالنار -بزعمه- هي: إدراك أليم؛ لإخفاق الإنسان، وأما الجنة فهي: سعادة الفوز على قوى الانحلال. ولو لاحظ مصطفى محمود أن إقبالاً كان مزدوج الشخصية لما قلده؛ لأن إقبالاً كان في شعره منتظم الخطى في الطريق السوي، حتى إذا عمد إلى التفلسف اضطربت به الخطى، وشط بعيداً عن المنطلق الإسلامي.

قصوره الكبير في العلم الشرعي

قصوره الكبير في العلم الشرعي ومن شطحات مصطفى محمود في حواره مع صديقه الملحد: أنه ينقل عن شخص اسمه محمد بن عبد الجبار أن الله يقول له في حديث قدسي: (كيف تيأس مني وفي قلبك سفيري ومتحدثي؟!) فهو لا يعرف معنى الحديث القدسي، وإنسان يصل قصوره في العلم إلى أنه لا يعرف معنى الحديث القدسي أمره عجيب!! ويحكي عن واحد من هؤلاء أنه قال: إن الله خاطبه في حديث قدسي!! وهل هناك وحي لغير النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسمى حديثاً قدسياً؟! ويستدل أيضاً في (ص94) بما يدعي أنه حديث قدسي: (عبدي أطعني أجعلك ربانياً تقول للشيء: كن فيكون)، ويستدل على صحة هذا اللغو البارد بالخوارق التي أجراها الله على يد المسيح عليه السلام، ويتقبل أيضاً ادعاءات الصوفية دون أي مناقشة، فيقبل تفسيرهم للكرسي بأنه قلب المؤمن، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] يقول: الكرسي هو قلب المؤمن، والعرش هو العقل، وفي تفسير قوله تعالى: {اخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] أنّ نعلي موسى هما: النفس والجسد، وما إلى ذلك من غرائب فهمه الذي يسميه فهماً عصرياً، فقد أنزل القرآن بلسان عربي مبين، لا بطلاسم المشعوذين والمضللين، ولا شك أن تفسير القرآن هذا نوع من السفارة بين الله وبين خلقه؛ لأن المفسر يقول للناس: إن الله يريد بقوله كذا: كذا وكذا، فإذا أخطأ في هذه السفارة فهو من الكذب على الله سبحانه وتعالى.

بعض دعاواه في تقسيم الزكاة والصدقات

بعض دعاواه في تقسيم الزكاة والصدقات ويقول أيضاً: وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقاً من: 2. 5% إلى 90% جبراً واختياراً. فنقول: أنواع المزكيات ومقاديرها معروفة، وليس فيها ما يخرج منه 90%، وربما يقصد التطوع، فمن الممكن أن يتطوع بـ90%، لكن كان ينبغي عليه أن يسوقه بغير تحديد؛ لأن الصديق تبرع بكل ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمتطوع يجوز له أن يتبرع بكل ماله، وأما تحديده بـ90% فمن أين جاء به؟!

جرأته في التكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم

جرأته في التكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ومما يكشف عن حظه من العلم أنه يصف القرآن العظيم في (ص125) فيقول: إن القرآن العظيم أتى على يد رجل بدوي، في أمة متخلفة بعيدة عن نور الحضارات. وهذا الأسلوب في الكلام عن النبي عليه الصلاة والسلام فيه سوء أدب مع النبي عليه السلام، وفيه منافاة لقوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9]، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بدوياً على الإطلاق؛ لأن البدو هم القبائل الرحل الذين ليس لهم قرار ولا استيطان، وأما الذين يقيمون في مكان ما فهؤلاء حضر وليسوا بدواً، والسر في ذم البدو والأعراب في القرآن الكريم: أنهم يتنقلون؛ بحثاً عن المراعي والأمطار، ولا يقيمون على الإطلاق في مكان، ولا يتخذون لهم وطناً، وذلك يؤدي إلى أن يشيع فيهم الجهل إلا من رحم الله، وقد كانت مكة في مقدمة مدن الحضارة في زمن البعث، وكانت عاصمة التجارة في جزيرة العرب، ولذا سماها الله سبحانه وتعالى (أم القرى)، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدا فقد جفا)، أي: من تحول إلى البداوة فإنه يجفو وتكون فيه غلظة في أخلاقه، فأين البداوة ممن قال الله سبحانه وتعالى في حقه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وقال في حقه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].

شطحاته في عبادة الله تعالى

شطحاته في عبادة الله تعالى ويقول أيضاً في (ص94): ونحن لا نعبده -أي: الله تعالى- بأمر تكليف، ولكنا نعبده لأننا عرفنا جماله وجلاله. وهذه من شطحات الصوفية كما هو معروف، وهذا يعني أن العبادة ليست تكليفاً! مع أن الله تعالى يقول: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، فهل الأوامر والنواهي في القرآن الكريم والسنة المطهرة ليست تكليفاً؟!! {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فهذا تكليف للرسول نفسه!!!

فتحه باب الزيادة في الدين

فتحه باب الزيادة في الدين ويقول أيضاً: وكل شيء في ديننا يقبل التطوير ما عدا جوهر العقيدة، وصلب الشريعة، وما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير على مصراعيه لكل من هب ودب، وهذا ضلال مبين، كيف يكون الدين مفتوحاً للإضافة وهو لا يقبل الزيادة على الإطلاق؟! فإن الزيادة فيه بدع وضلال، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، ويقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ويقول الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهل ما أكمله الله تعالى يقبل الزيادة والإضافة كما يزعم هذا الإنسان؟! وإنما تكون الإضافة في الإسلام في مجال الاجتهاد فقط، أي: في مجال اجتهاد الفقهاء المتخصصين فيما يجدّ ويستحدث من الأمور التي تحتاج للاجتهاد حسب الأصول والقواعد والضوابط.

ومن شطحاته في القرآن حساب الأحرف في كل سورة

ومن شطحاته في القرآن حساب الأحرف في كل سورة ومن شطحاته قضية الحروف والأعداد: فموضوع الرقم تسعة عشر والإعجاز العددي الذي ابتدعه مسيلمة الإسلام رشاد خليفة فجاء ببلاء مبين ابتدعه وضل به، وعملية ربط الحروف المقطعة في أوائل السور بمواطن ورودها في السورة، ومعروف أن هذا الرجل ادعى النبوة، فهذه من شطحاته التي انبهر بها مصطفى محمود.

طعنه وأمثاله في السنة وإثارة الشبه حولها

طعنه وأمثاله في السنة وإثارة الشبه حولها إن هؤلاء الذين يفتحون لأنفسهم باب الاجتهاد رحباً فسيحاً واسعاً يحلو لهم الطعن في السنة؛ لأن السنة تزعجهم دائماً، وكذلك أيضاً يحرص أعداء الإسلام حرصاً شديداً جداً على القضاء على السنة، وكل من أراد أن يطعن في الدين من الخلف لا يجد أسهل من طريق الطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتراهم يشغبون ببعض الشبهات مثل قولهم: إن هذه الأحاديث ما هي إلّا كلام أناس، وتراهم يتكلمون على الإمام البخاري رحمه الله تعالى بطريقة مضحكة تدل على جهلهم الكبير، وهذا الرجل نفسه كما في مقالة له سنقرؤها فيما بعد إن شاء الله يتكلم عن البخاري وكأنه كان بائع فجل، فيتكلم عن البخاري بكلام ليس فيه توقير لأئمة الإسلام وعلماء المسلمين، ولجهله أيضاً يقول: إن البخاري قد دون هذه الأحاديث بعد الثلاثمائة سنة أو في القرن الثالث، فأين كانت السنة قبل ذلك؟ فهذا الغبي الجاهل الذي يتكلم بمثل هذا الكلام ليس له أن يتكلم في الدين على الإطلاق، فالكتابة كانت وسيلة لحفظ السنة، وكذلك القرآن لم يكن مدوناً ولا مجموعاً في عهد الرسول عليه السلام، ثم جمع في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه، فهل معنى ذلك أن هذه الفترة لم يكن فيها قرآن؟! فوسائل حفظ العلم كثيرة ومتعددة، وأقواها عند العرب حفظ الصدور؛ بسبب قوة حافظتهم وذاكرتهم، ثم انضم إلى ذلك الحفظ بالكتابة والتدوين، فهذا الكلام الذي قاله جهل فاحش يبطل الثقة تماماً بأي كلام له علاقة بالدين.

شبهة والجواب عنها

شبهة والجواب عنها ومن شبهاتهم: قولهم: دعونا من الأحاديث، وأريحونا من قولكم في الأحاديث: ضعيف وموضوع، ولا داعي إلى أن نلجأ إلى الأحاديث ونحتج بها!! و A أن الأحاديث تختلط على الجاهل، وأما العالم الصيرفي الناقد الخبير المحدث فلا تختلط عليه، وإنما تختلط على من لا علم له ممن أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام في حديث البيعة بقوله: (وألا ننازع الأمر أهله)، فأهل العلم بالحديث والمختصين هم الذين يتكلمون في ذلك، وأما من عداهم فعليهم أن يمتثلوا قول الحافظ العراقي رحمه الله تعالى في شأن علم الحديث: فاعنى به ولا تخذ بالظن ولا تقلد غير أهل الفن وهذا غير التقليد المذموم، وهو من باب قبول خبر العدل، فإذا أخبرك العدل بأن هذا الحديث حسن فهو حسن، وهذا الحكم لم يخرج سبهللاً، وإنما هو نتيجة دراسة، وتحرٍّ، وجمع للطرق، ونظر في رجال الإسناد إلى آخر، فهذه الجهود الجبارة لم تعرف لها البشرية نظيراً على الإطلاق. يقول العلامة محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى: وقد يقول قائل: إذا كان المؤلف -وهو الخطيب البغدادي - بتلك المنزلة العالية في المعرفة بصحيح الحديث ومطروحه، فما بالنا نرى كتابه هذا (اقتضاء العلم العمل) وغيره من كتبه قد شحنها بالأحاديث الواهية؟ و A إن القاعدة عند علماء الحديث: أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده فقد برأت عهدته منه، ولا مسئولية عليه في روايته مادام أنه قد قرن معه الوسيلة التي تمكن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحاً أو غير صحيح؛ ألا وهي الإسناد، نعم كان الأولى بهم أن يتبعوا كل حديث ببيان درجته من الصحة أو الضعف، ولكن الواقع يشهد أن ذلك غير ممكن بالنسبة إلى كل واحد منهم وفي جميع أحاديثه على كثرتها؛ لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، لكن أذكر منها أهمها وهو: أن كثيراً من الأحاديث لا تظهر صحتها أو ضعفها إلا بجمع الطرق والأسانيد، فإن ذلك مما يساعد على معرفة علل الحديث، وما يصح من الأحاديث بغيره، ولو أن المحدثين كلهم انصرفوا إلى التحقيق وتمييز الصحيح من الضعيف لما استطاعوا -والله أعلم- أن يحفظوا لنا هذه الثروة الضخمة من الحديث والأسانيد، ولذلك انصبت همم جمهورهم على مجرد الرواية إلا فيما شاء الله، وانصرف الآخرون إلى النقد والتحقيق مع الحفظ والرواية وقليل ما هم: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]. فلذلك ينبغي ألا يحكم على حديث ما بأنه ضعيف بمجرد الإطلاع على سند واحد، لكن يجوز أن تقول: ضعيف بهذا السند، ولا تقول ضعيف مطلقاً إلا بعد أن تتحرى جميع الطرق وتدرسها؛ لأنه ربما يكون في هذه الطرق ما يقويه.

شبهة أخرى والرد عليها وبيان جهود المحدثين في حفظ السنة

شبهة أخرى والرد عليها وبيان جهود المحدثين في حفظ السنة ومن شبههم: أنهم يتعللون بوجود الأحاديث الموضوعة بسبب النزاعات السياسية، وما وضعه الزنادقة، ووجود الإسرائيليات وغير ذلك مما دخل في الدين، فاختلط الحق بالباطل. فنقول: هناك أحاديث كثيرة بهذا الوصف لا ننكرها وبعض الناس تضيق عقولهم عن فهم هذا الأمر فيقولون: قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولم يقل هذا في السنة، فنقول: إن الذكر يشمل القرآن والسنة، وهذا الحفظ له أسباب، وهناك حكم وراء عدم وجود السنة خالية من الضعيف كالقرآن الكريم، والحكمة: أن هذا يفتح أبواباً من التعبد والجهاد والرحلة في طلب العلم والتحديث، وهذه كلها تدخل تحت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وكما قلنا: إن هذه الأمور لا تختلط إلا على الجاهل الذي ينازع الأمر أهله، لكن إذا رجع إلى العلماء فإنه يسهل جداً الحكم على هذه الأحاديث. جاء عن حماد بن زيد أنه قال: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف حديث، وجيء إلى هارون الرشيد بزنديق فأمر بقتله -وهارون الرشيد رحمه الله تعالى يستحق أن تُدرس سيرته بمنتهى الدقة؛ حتى تصحح الصورة المشوهة التي وضعها له أعداء الإسلام؛ ليبغضوا في الخلافة الإسلامية، فقد كانت سيرته عطرة، وفيها أشياء كثيرة جداً ينبغي أن نعلمها؛ لنصحح صورته المشوهة، ومن ذلك غيرته الشديدة على السنة- فقال له: يا أمير المؤمنين! أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم: أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً؟! فقال له الرشيد: أين أنت يا زنديق! من عبد الله بن المبارك، وأبي إسحاق الفزاري ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً. فالناقد البصير الذي عنده خبرة هو الذي يستطيع أن يميز الزائف من الصحيح. وقد اختلطت الأحاديث فعلاً في مرحلة من المراحل صحيحها بضعيفها، فقام العلماء ووقفوا منها الموقف الإسلامي الصحيح، فلم يقبلوا الأحاديث كلها؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لحرفوا دين الله ففيها المكذوب، ولم يتركوها كلها؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لضيعوا دين الله ففيها الصحيح، ولكنهم شمروا عن ساعد الجد، وصرفوا في سبيل ذلك كل أوقاتهم، فتتبعوا أحوال الرواة؛ لأن ذلك يساعد في عملية النقد وتمييز الطيب من الخبيث، ودونوا في ذلك المدونات، وأحصوا فيها أحوال كل راو من حيث ولادته، وبأي بلد ولد، وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والحفظ؟ ومتى شرع في الطلب؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع؟ وهل رحل؟ وإلى أين رحل؟ وذكروا شيوخه الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم، ووضعوا قواعد لنص المتن أحكموها؛ حتى يتبين لهم الحديث الصحيح من الضعيف، وهكذا استطاع هؤلاء العلماء أن ينفوا عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المكذوب الموضوع، وبذلك تحقق وعد الله بحفظ هذه الشريعة، وحمايتها من كل ما أصاب غيرها من عوامل التحريف والبطلان، حتى نُقل عن مارجليوث، وهو مستشرق يهودي خبيث، وكان شديد الحقد على الإسلام، لكنه لم يستطع أن يكتم هذه العبارة التي قال فيها: ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم، وما زالوا في جد واجتهاد حتى استطاعوا أن يصلوا إلى قواعد نقدية راقية، بها يميزون الخبيث من الطيب من الحديث، وكانت هذه القواعد أرقى ما يمكن أن يصل إليها عقل بشري في تحقيق نسبة الأقوال إلى أصحابها. فقد شهد بذلك القريب والبعيد، والصديق والعدو، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. وقيل لـ عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة، فقال: يعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالذكر هنا يشمل القرآن والسنة، والذي تعهد بحفظ القرآن هو الذي تعهد أيضاً بحفظ السنة. ومر الإمام أحمد على نفر من أصحاب الحديث وهم يعرضون كتاباً له فقال: ما أحسب هؤلاء إلا ممن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة). قال ابن حبان: ومن أحق بهذا التأويل من قوم فارقوا الأهل والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار في طلب السنن والآثار، يزورون البراري والقفار، ولا يبالون بالبؤس والإقتار، متبعين لآثار السلف الماضين، وسالكين نهج محجة الصالحين، برد الكذب عن رسول رب العالمين، ونبذ الزور عنه حتى وضح للمسلمين المنار، وتبين لهم الصحيح من الموضوع والزور من الأخبار.

كلام السلف في حجية السنة، والغيرة عليها

كلام السلف في حجية السنة، والغيرة عليها لن نطيل الكلام في موضوع حجية السنة؛ لأننا قد وفينا هذا الموضوع حقه تماماً قريباً، ولكني هنا أجتزئ بعض النصوص التي تكفينا في هذا المقام. فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا وجيئونا بكتاب الله! فقال عمران: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟ أتجد في كتاب الله الصيام مفسراً؟ إن القرآن أحكم ذلك، والسنة تفسره. وقد سبق أن قلنا في محاضرة (حجية السنة): إنّ ما عُلَّق على شرطين فلا يتم بأحدهما، والعصمة من الضلال عُلَّقت على التمسك بأمرين: الكتاب والسنة، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، فمن زعم أو زيّن له الشيطان أنه عندما يقول: إنه يعتز بالقرآن، وأنه يعظم القرآن، أنه بذلك يدافع عن الإسلام، فهو في ضلال مبين، كما قال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعك من هذا وأجبني عن القرآن، فاعلم أنه ضال، فهذه علامة الضلال، فمن يكذَّب بالسنة فلا بد أن يأخذ هذا الصفة مباشرة وهي: الحكم بضلاله؛ لأن الأمان من الضلال لا يتحقق إلا بالقرآن والسنة، وسنضيف ضابط الضابط عما قريب، فيكون القرآن والسنة بفهم السلف الصالح. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لـ علي رضي الله عنه لما طلب منه أن يخرج لمناظرة الخوارج: يا أمير المؤمنين! فأنا أعلم بكتاب الله منهم؛ ففي بيوتنا نزل، فقال له علي: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، فتقول ويقولون، أي: لا تجادلهم بالقرآن؛ لأن القرآن ذو وجوه، فبعض الآيات مجملة، فتحتاج إلى أن تشرح وتفصل بالسنة، أو بآيات أخرى، ولذلك قال بعض العلماء: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل لذلك: فعامة أهل البدع يحتجون بالقرآن على بدعهم، لكنهم ينحرفون في فهم القرآن الكريم، فهم لا ينكرون القرآن؛ لأن من أنكر القرآن فقد كفر، لكنهم يؤولون ويفسدون الآيات، فبعض الآيات تكون طيعة، أي: مجملة أو عامة، فالمفروض أن تبين أو تخصص، فهم يستدلون بهذه المجملات أو العمومات فيقعون في الضلال، لذلك لما قال ابن عباس لـ علي: أنه سيخرج إلى الخوارج كي يناظرهم بالقرآن، قال: صدقت، لكن القرآن حمال ذو وجوه، فتقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فخرج إليهم فحاجهم بالسنن، فلم يبق بأيديهم حجة. وعن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن حسين أنه سأل عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر، فقال ابن عمر: يا ابن أخي! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأيناه يفعل. يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: ولو أن امرأً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلى ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم الصلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال. انتهى كلام الإمام ابن حزم. وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، فسئلوا فأفتوا برأيهم، فضلوا وأضلوا، فإياكم وإياهم. وقال رضي الله عنه: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. لذلك فهم يريدون القضاء على السنة؛ حتى يستريحوا من هذه المعارضة والمساومة. وعن أيوب السختياني: أن رجلاً قال لـ مطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: إنا والله! ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أيوب قال: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا عن القرآن فاعلم أنه ضال. ومما يناسب موضوعنا أيضاً ما أخرجه البيهقي في (المدخل) من طريق شديد بن أبي فضالة المكي أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد! إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاًََ، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه: في كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا من الإبل كذا، وفي كل كذا درهماً كذا، قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال: وفي القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، أوجدتم فيه فطوفوا سبعاً؟ واركعوا ركعتين خلف المقام؟ أوجدتم في القرآن لا ذنب ولا جنب ولا صغار في الإسلام؟ أوما سمعتم الله قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، قال عمران: لقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم. وأخرج الدارمي عن سعيد بن جبير أنه حدث يوماً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، فقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك. فإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة، ويتعهد ببقائها. وقد حدّث أبو معاوية يوماً هارون الرشيد أمير المؤمنين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى، وهو حديث القدر المعروف، فقال عمّ الرشيد معلّقاً: أين التقيا يا أبا معاوية؟! ألست تقول: حج آدم موسى، وتناظر آدم مع موسى؟ فاعترض على الحديث وقال: أين التقيا يا أبا معاوية؟! فغضب الرشيد من ذلك غضباً شديداً وقال: أتعترض على الحديث؟! عليَّ بالنِّطع والسيف، أي: أنه سيضرب عنقه، فأُحضر ذلك، فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه، وأقسم ألا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا؟ فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منه، وأنه يستغفر الله ويتوب إليه منها، فأطلقه.

العصمة من الضلال منوطة باتباع القرآن والسنة على فهم السلف

العصمة من الضلال منوطة باتباع القرآن والسنة على فهم السلف سبق أن ذكرنا أن العصمة من الضلال منوطة باتباع القرآن والسنة: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)، فالعصمة من الضلال لابد فيها من القرآن والسنة معاً، وليس هذا فحسب، بل لا بد أن يكون ذلك بفهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم، وقد ناقشت هذا بالتفصيل في محاضرة (السلفية لماذا؟)، وقلنا: إن أهل السنة والجماعة هم الميزان، ولن نستطيع أن نفصل ذلك الآن، لكن نذكركم ببعض العناوين، فقد ذكرنا أن الانتماء إلى أهل السنة والجماعة ليس مسألة اختياريه كما تختار في الفاكهة والألوان والطعام والشراب، بل هي مسألة ليس فيها اختيار، ففرض لازم على كل إنسان أن ينتمي إلى منهج أهل السنة والجماعة، فالسلفية منهج ملزم على كل مسلم، وهي تقوم على الكتاب والسنة بفهم الصحابة وتابعيهم بإحسان. وقلنا: بفهم الصحابة والتابعين لنسدّ باب انحراف أهل البدع الذين انحرفوا في فهم كتاب الله، فالكتاب والسنة يستطيع كل أحد أن يفهمها فهماً، وأن يفسرهما تفسيراً، وأن يؤلهما تأويلاً يوافق هواه وبالعكس، فلا بد من سدّ الطريق على أهل الباطل بقولنا: الكتاب والسنة بفهم السلف؛ لأن السلف الصالح معهم حق كل فرقة، وهم برآء من ضلال كل فرقة، وقد زكاهم الله سبحانه وتعالى فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115]، وخير أمة أخرجت للناس هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقد زكى الله إيمان الصحابة وقطع بصحته، واشترط في نجاة من بعدهم من الفتن والاختلاف أن يكون إيمانه مثل إيمانهم، فقال الله عز وجل في القرآن الكريم: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]، فكلمة (مثل) هي السلفية، {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137]، فالهداية محصورة في الإيمان بمثل ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ((بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ)) أيها الصحابة! ((فَقَدِ اهْتَدَوا))، ومفهوم الآية أن من انحرف عن مثل ما كان عليه الصحابة فقد ضل ضلالاً مبيناً. ولذلك قلنا: إن معرفة ما كان عليه النبي عليه السلام إما أن تكون بالمعاينة والمعاصرة، وإما أن تكون بالإسناد، فالرواية تنقل إلينا بالأسانيد، لذلك فالإسناد هو شريان الحياة في منهج أهل السنة والجماعة، وقلنا: إن اتباع السلف هو المنهج الذي يعصم من الحيرة والتلون، فالذي يتمسك بمنهج أهل السلف فإنه في الغالب -إلا ما شاء الله- لا يرجع مرة ثانية، بل إنه يمشي إلى أن يصل -إن شاء الله- إلى النجاة في الآخرة، ولا يكون من الفرق النارية، وإنما يكون من الفرقة الناجية بإذن الله تبارك وتعالى، فهذا المنهج يتميز بالبصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وهو يعصم من الحيرة والتلون، ولذلك لا نكاد نجد واحداً فقه المنهج السلفي واتبعه على بصيرة ثم تراجع وانتكس عنه، وذلك مصداق لقول هرقل لـ أبي سفيان لما سأله: هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، ثم قال له بعد ذلك: وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت ألّا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فهذه هي دعوة الفطرة والبصيرة والاتباع والدليل والإنصاف والعدل والتوحيد إلى آخر هذه المحاسن المعروفة، لذلك: من يمشي على هذا المنهج السلفي فإنه يمشي في اتجاه واحد، ولا يرجع عنه في الغالب إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، في حين أن من بدأ بغير المنهج السلفي فإنه يتلون، وقد رأينا ذلك بأعيننا في الفرق الضالة التي كانت موجودة إلى عهد قريب، فقد كانت تحصل فيهم انشطارات داخلية، فالفرقة تنقسم إلى فرق، والفرق تنقسم إلى فرق وهكذا إلى ما لا حصر له ولا عدد، وقد وجدنا في ذلك نماذج كثيرة جداً كما هو معروف من حال أبي حامد الغزالي، فإنا إذا درسنا مراحل حياته لوجدنا كيف يكون التلون سمة بارزة لمن انحرف عن منهج السلف، وحرم مما كان عليه السلف، فقد ظل الغزالي ينتقل من منهج الفلاسفة إلى منهج أهل الكلام، وإلى منهج الباطنية، وإلى منهج الصوفية إلى آخره، وللأسف الشديد فإنه لم يكتشف الحقيقة إلا في آخر حياته رحمه الله تعالى، فمات وصحيح البخاري على صدره، وكأنه يريد أن يقول: هاأنذا حتى هذه اللحظة الأخيرة أريد أن أكفر عن انشغالي عن منهج أهل السنة والجماعة. وكذلك كان حال الرازي والجويني وكثير من علماء الكلام، فإنهم ندموا عند الموت على خوضهم في علم الكلام.

إثبات الشفاعة في الآخرة

إثبات الشفاعة في الآخرة يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]: ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة. وسنلاحظ في كلام مصطفى محمود أنه -للأسف الشديد- بسبب قصوره وعدم علمه كيف أنه ضرب آيات الله بعضها ببعض دون أن يتطرق إلى خبر العلماء الحكماء في الجمع بين الآيات، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج وبعض الصحابة يحتج بآيات في القدر، والبعض الآخر يرد بآيات أخرى مخالفة لها في الظاهر غضب غضباً شديداً، واحمر وجهه حتى كأنما فقيء في وجهه حبّ الرمان، وقال: (بهذا هلكت الأمم من قبلكم؛ أنهم ضربوا كتاب الله بعضه ببعض) إلى آخر الحديث. فهذا المنهج الثقيل -أعني: ضرب الآيات بعضها ببعض- منهج يدل على عدم الفقه والعلم، ويدل على عدم إتقان علم الجمع بين الأدلة عند التعارض. يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)): ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة، ولكنه بيّن في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار. إذاً فهناك نوعان من الشفاعة المنفية: النوع الأول: الشفاعة للكفار. والنوع الثاني: الشفاعة بغير إذن الله ورضاه، فهذه لا يمكن أن تحصل، وأما الشفاعة للمؤمنين بإذنه سبحانه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقد قال عز وجل: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، إذاً: فالكفار ليسوا ممن رضي الله عنهم، لذلك فإنهم يحرمون من الشفاعة. وقال تبارك وتعالى مقرراً لقول الكافرين: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]، وقال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وغير ذلك من الأدلة، فهذا في حق الكفار، والشفاعة بدون إذنه منفية أيضاً، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، فيأتي هذا الرجل بقصوره ويقول: نحن نقول في الصلاة عن الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وأنتم تجعلوا الرسول عليه الصلاة والسلام هو مالك يوم الدين؛ لأنه يشفع للناس!! وهذا شيء غريب جداً، فنحن نقول: إنّ الشفاعة المثبتة لا تكون إلا بإذن الله، ولا تكون إلا عمن يرضى عنه الله، فكيف تزعم بعد ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح مالكاً ليوم الدين!! فما هذا الجهل المطبق؟!! وهو لم يتراجع عن هذا، بل أصر وعاند وكابر، وقد أخطأ بعض الإخوة حين فهموا منه أنه تراجع، فإنه لم يتراجع كما سنبين، وادعاء شفعاء عند الله من كفار، أو بغير إذنه من أنواع الكفر به جل وعلا كما صرح به في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]. يقول الشنقيطي: وهذا الذي قررنا من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعاً مطلقاً يستثنى منها شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فهذه الصور التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة لا تتناقض مع قوله تعالى: ((وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ))؛ لأن هذه الشفاعة ليست في إخراجهم من النار، وإنما في نقلهم من موضع إلى موضع منها. إذاً: فالشفاعة الثابتة في الشرع هي التي يجتمع فيها شرطان: إذن الله للشافع، والرضى عن المشفوع له، ولا يرضى الله عن الكافر كما قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، فالكافر لم يتوفر فيه هذا الشرط، والشفاعة لا تكون إلا من بعد إذن الله عز وجل، سواء في ذلك شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة من دونه، وذلك الإذن يتعلق بالشافع والمشفوع فيه، فلا يَشفع إلا من أذن له في الشفاعة، ولا يُشفع إلا فيمن أذن الله أن يشفع فيه، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))، وهذا في الكفار.

أنواع الشفاعة

أنواع الشفاعة وأما أنواع الشفاعة: فالشفاعة العظمى هي شفاعته صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل لأهل الموقف؛ لفصل القضاء بينهم، وهي خاصة به صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل له، ووعده إياه، كما قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وجاء في الحديث: (من قال حين يسمع النداء وفيه: حلت له شفاعتي يوم القيامة)، وأحاديث الشفاعة متواترة تواتراً معنوياً، وسنتجاوز ذكر هذه الأحاديث اختصاراً؛ فأنتم على علم بها إن شاء الله تعالى. وهناك شفاعة في إخراج العصاة الموحدين من النار، وقد أنكر هذه الشفاعة الخوارج والمعتزلة، وقد جاء في بعض الأحاديث: (ثم أشفع، فيحدّ لي حد فأخرجهم فأدخلهم الجنة)، فشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هنا بحد وعدد معين بإذن الله تبارك وتعالى، وهناك أنواع أخرى من الشفاعة أعتقد -إن شاء الله- أنكم على علم بها؛ لأن كتب العقيدة كلها تهتم بهذه المسألة وتذكر أدلتها بالتفصيل. لـ مصطفى محمود مقالتان: المقالة الأولى بتاريخ (1/ 5/1999م)، وعنوانها: ((وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)). وطريقته فيها هي نفس طريقة الضُلّال الذين يريدون أن يطيروا بجناح واحد وهو جناح القرآن، ولا يلتفتون إلى الجناح الآخر وهو السنة، فيقعون على أم رءوسهم.

جهله بالسنة وكتبها وعلمائها

جهله بالسنة وكتبها وعلمائها يقول في هذه المقالة: ويقول الله لمحمد عليه الصلاة والسلام في سورة الزمر: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19]، فيقول: هذا استفهام إنكاري. فنقول له: هل ينقذ النبي صلى الله عليه وسلم من في النار بإرادته أم بإذن الله؟ ثم أيضاً قد أثبت الله الشفاعة في القرآن، ومن ذلك قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وأحاديث الشفاعة تقول: (إنه يستأذن ربه) إلى آخر الحديث كما هو معلوم. وهذا الرجل -كعادة أهل الأهواء- يكتب ماله ويسكت عما هو عليه، فأتى بالآيات التي تؤيد مذهبه الضال فقط، مع أنه يقول: أنا أتبع القرآن فقط ولا أتبع السنة، فنقول له: إنّ القرآن نفسه يرد عليك؛ لأن هناك آيات -كما ذكرنا- تنفي الشفاعة، وهناك آيات أخرى تثبت الشفاعة بالشرطين السابقين، فالقرآن يثبت الشفاعة، وهو لا يستطيع أن يتخلص من هذا المخرج، وهو لا يحسن فهم كلام الله سبحانه وتعالى. يقول: وهذه الثوابت القرآنية، يعني: قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]-وهذه الآية في الكفار، وهم ليس لهم شفاعة- فيقول: أهل النار في سورة المؤمنون {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:107 - 108]، ويقول في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، يقول: هذه الثوابت القرآنية تتناقض تماماً مع مرويات الأحاديث النبوية في كتب السيرة. فهنا يسمي كتب الحديث بكتب السيرة!! فهو لا يعرف عنوان هذا العلم!! مع أن الفرق شاسع بين كتب السيرة وبين كتب علم الحديث التي من ضمنها كتاب السيرة، فهذا يدل على أنه لا يفقه حتى عناوين العلوم الشرعية. يقول: وهذه الثوابت القرآنية تتناقض تماماً مع مرويات الأحاديث النبوية في كتب السيرة من إخراجه مَن يشاء من أمته من النار، ومما يؤكد أن هذه الأحاديث موضوعة ولا أساس لها من الصحة، ولا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا يقول الشبعان وهو متكئ على أريكته: (بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرمه الله). ثم يأتي بآيات من القرآن الكريم هي في حق الكفار أيضاً، ولا نطيل بذكر كلامه، ثم يقول: إذاً فالشفاعة ينفرد الله بها وحده، وعلينا أن نفهم الشفاعة في هذه الحدود، والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي تولى رب العالمين حفظه بنفسه من أي تحريف فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، ولم يقل لنا رب العالمين: إنه حفظ البخاري أو غيره من كتب السيرة، يقول: وما يقوله البخاري مناقض للقرآن لا يلزمنا في شيء، وسيسأل عنه البخاري يوم الحساب، ولا نسأل نحن عنه. أقول: هذا الرجل مسكين في العلم، وهل هذا كلام البخاري؟!! لقد قام البخاري بجمع الأحاديث، واشترط شروطاً في غاية الدقة لصحة الحديث، وهذه الأحاديث مروية بالأسانيد التي تميزت به هذه الأمة. ويقول: ولم يكن البخاري هو الوحيد الذي خاض في موضوع السيرة النبوية، لكن كتّاب السيرة كثيرون، وقد تناقضوا واختلفوا مع بعضهم البعض، وامتلأت كتب السيرة بالموضوع والمدسوس من الأحاديث، والعجيب والمنكر من الإسرائيليات، وقرأنا في أكثر من كتاب من كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودي! وهذا كذب وافتراء لا يعقل إلى آخر الكلام. وهذا قصور في عقله وفهمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع اليهود، وهو مشرع للأمة، وفعله هذا فيه تشريع، ويؤخذ منه جواز مثل هذا التعامل والرهن مع اليهود، وهذا الحديث صحيح ليس فيه أي إشكال. ويقول: إذا كان ربنا يقول: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] ألا يعطيه ما يستغني به عن اليهود؟! فهو يفهم بعقله القاصر أن المراد بالإعطاء في هذه الآية أن يعطيه الفلوس والأموال، ولم يدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم زهد في الدنيا ورفضها، فقد خيره الله بين أن يحول له جبال مكة ذهباً، وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يطمح إلى أن يعطى الأموال. ثم يقول: والعمدة المعتمد في جميع أمور الملة هو القرآن المجيد، نتمسك به، ونحتكم إليه في كل صغيرة وكبيرة. فنقول له: هذه اللافتة تصل بها نفسك؛ لأنك من أهل البدع والضلال، فمن قال هذا فهو ضال كما بينا، (لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)، فقطعاً أنت ضال ما دمت تقول هذه العبارة، وأنت من الفرقة الضالة التي أخبر النبي عليه السلام عن ظهورها فقال: (ألا يوشك شبعان متكئ على أريكته) أي: أنه لم يرحل، ولم يسافر، ولم يجع، ولم يجب القفار والصحراء ليحقق الحديث، ثم يزعم أنه يكتفي بالقرآن! فإذا حدثت الرجل بحديث فقال: دعك من هذا وأجبني عن القرآن، فهذا ضال. يقول: ونحتكم إليه -أي: القرآن- في كل صغيرة وكبيرة، وما تناقض في كتب السيرة مع القرآن لا نأخذ به؛ فالذين كتبوا السيرة بشر مثلنا يخطئون ويصيبون. أقول: هذا الرجل مسكين، فهو يظن أنهم كتبوا من تلقاء أنفسهم، فهو لا يعرف ما هي الأسانيد، ولا ما هي الأحاديث، ولا من هو البخاري، ولا ما هي السيرة، فهو مغرق في الجهل، فكيف يتكلم في الدين بهذه الطريقة؟! ويقول: أما القرآن فهو الكتاب المحفوظ من رب العالمين، وهو الكتاب الوحيد الموثق بين كل ما تبقى من الكتب المقدسة. ومن ثم يستدل على أنه ليس هناك شيء اسمه سنة، فالقرآن فقط هو المأخوذ به، فيقول: ألم يقل ربنا تبارك وتعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام في سورة آل عمران: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، ففهم هذا المسكين من قوله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) أنه لا يوجد تشريع اسمه سنة، وإنما التشريع هو في القرآن فقط!! فلم يعرف سبب نزول الآية، وأنها كانت في القنوت على بعض الناس إلى آخر القصة المعروفة. ثم يقول: فكيف نقلب الأمر ونجعل من النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر يوم القيامة، والمنفرد بالشفاعة من دون الله؟! أقول: هل يوجد أحد من أهل السنة والجماعة -ولو من عوامهم- قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يتفرد يوم القيامة بالشفاعة من دون الله؟! وأين الآيات التي تشترط أن يرضى الله عمن يشفع فيه، وأن يأذن لمن يشاء أن يشفع؟! فهذا كله كذب وافتراء وتدليس لا يقبل. يقول: فكيف نقبل الأمر ونجعل من النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر يوم القيامة، والمنفرد بالشفاعة من دون الله، وهو الذي قال له معاتباً: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) إلى آخر كلامه.

إصراره على إنكار الشفاعة في الآخرة

إصراره على إنكار الشفاعة في الآخرة أما المقالة الثانية فعنوانها: (الردود الغاضبة والعاتبة)، وقد كانت في (15/مايو)، يقول فيها: الردود الغاضبة والعاتبة على موضوع الشفاعة بالمئات، وأنا لم أفهم سبباً واحداً لهذا الغضب، فالله -بكرمه وحلمه- فتح لنا باب التوبة؛ حتى نتوب عن ذنوبنا، ونتطهر من أوزارنا، وجعل هذه التوبة مفتوحة إلى النفس الأخير، فلا يغلق بابها إلى ساعة الحشرجة، وهذه التوبة تجبُّ كل الذنوب، واقرءوا معي سورة البروج إلى آخر كلامه. فقد بدأ يوهم القارئ بأنه يتوب عن هذه المقالة، مع أنه لا يريد أن يقول ذلك، بل هو يريد أن يقول: إن باب التوبة مفتوح، لكن باب الشفاعة مغلق، فهو معاند ومصر على ما قاله، ثم يقول: وهل يريد الغاضبون والعاتبون أن يفعلوا ما يشاءون من الذنوب والخطايا، وأن يسترسلوا في ذنوبهم وآثامهم وشرورهم إلى آخر العمر ثم يموتوا دون توبة، ويلفظوا أنفاسهم دون ندم، ثم يريدوا ساعة البعث أن يستخدموا رسولهم ليشفع لهم، فإذا قلنا لهم: ضيعتم فرصتكم الوحيدة في التوبة في حياتكم ضجوا واحتجوا ورمونا بالجهل، وجاءوا بعشرات الأحاديث لعشرات من الرواة يقولون هذا، وذاك من عجيب القول، ولا سلطان عندنا في مثل هذه الأمور الغيبية إلى لكلمة القرآن، ثم يقول: إني لا أرى مكاناً للاختلاف، ولا موضعاً للاشتباك، وإنما كل منا يعمل بإيمانه، وكل فريق يعمل على شاكلته، فالموضوع لا يصلح فيه الجدل، فهو موضوع غيبي يتناول الآخرة، والآخرة لله وحده يفعل فيها ما يريد؛ فهي شأنه. فنقول: المشكلة أنك تكذب خبر رسول الله عليه السلام الذي تواتر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)، فمن أركان الإيمان: (ويؤمنوا بي وبما جئت به). ويقول أيضاً: والقرآن لا يفتح باباً إلّا ويسده. أقول: هو لا يريد أن يرمي القرآن بالتناقض والعياذ بالله، لكنه يريد: أن هناك آيات تفتح باب الشفاعة، لكن لا تلبث أن تأتي آيات وتسد هذا الباب، وهذا كلام المسكين القاصر في فهم الآيات. يقول: والقرآن لا يفتح باباً إلّا وسده, فهو يقول: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، لكن لا يلبث أن يقول في موضع آخر: قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، ولذلك عاد فأغلق الباب فجعله مقصوراً على أهل الرضا، أي: المرضي عنهم، ويستدل بالآية: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4]، فقوله: ((مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ)) أي: من دون الله، ((وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)). فنقول له: إن الشفاعة التي تحصل إنما تكون بإذن الله، فتنسب إلى الذي أذن وهو: الله سبحانه وتعالى، فهذا عيسى عليه السلام لما كان يخلق من الطين كهيئة الطير قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49]، فكل مرة كان يذكر هذا القيد: ((بِإِذْنِ اللَّهِ))، فهذا ليس من فعل عيسى، ولكنه فعل الله. ثم يقول أيضاً: وهل خرج قادة الإسلام الأوائل وأبطاله إلا من هذه المشكاة: (مشكاة القرآن)، وما كان عن يمينهم كتب سيرة، ولا رواة سيرة، ولكنهم كانوا يشهدون السيرة بأعينهم من معينها الحي، من النبي نفسه الذي كان يخرج معهم في غزواتهم. أي: أنه يحصر كل السنة في السيرة، وهذا شيء عجيب، ويقول: والآن قد ترقّى بنا الزمن، وأصبحنا نقرأ عن وعن وعن إلى آخر العنعنات التي لا يعلم بها إلا الله، واختلف أهل هذه العنعنات، والقرآن بين أيدينا لا اختلاف فيه، فآياته المحكمة كالسيف تقطعنا عن أي شك إلى آخره. ثم يقول: وأضعف الإيمان أن نتدبر آيات القرآن الكريم ولا نغلق باب الاجتهاد في فهمها أبداً، فكل كتاب يؤخذ منه ويرد إلا هذا الكتاب، فهو خزينة العلم كله، وما أضر الإسلام والمسلمين إلا إغلاقهم باب الاجتهاد في دينهم، وتحويلهم لمرويات السيرة والأحاديث إلى مسلمات ومقدسات ومحظورات لا تمس ولا تناقش كأنها مومياوات محنطة. أي: أنه يصف أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كأنها مومياوات محنطة، ثم انظروا إلى هذا الذي يطعن في البخاري والأئمة، انظروا إلى ثقافته الضحلة أين ستصل به، فإنه يقول: وما حثني على الكتابة في موضوع الشفاعة إلا حديث رسولنا العظيم الذي قال فيه: (من يترك العمل ويتكل على الشفاعة يورد نفسه المهالك، ويحرم من رحمة الله)، فمن أين -أيها الوضاع! - أتيت بهذا الحديث؟! فهذا شيء غريب، فتراه يرفع هذا الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر السند، ولا من أخرجه، ولم يسمع أحد بهذا الحديث في أي كتاب من الكتب التي تكلمت عن الشفاعة، فإذا كان هذا حظه من الجهل بالسنة فكيف يتجاسر على أن يسجل على نفسه هذه المقولة المحدثة؟! ويقول أيضاً: موضوع الشفاعة غيبي، ومكانها وزمانها يوم القيامة، ولا يستطيع أحد أن يدعي الإحاطة بما سيجري في هذا اليوم، ولا نملك بعد استعراض القرآن والسنة إلّا الاجتهاد في الفهم، واحتمال الخطأ وارد. وسبق في أثناء الكلام ذكر من الذي له حق الاجتهاد في فهم النص، أو في الاجتهاد الفقهي المعروف. ولا شك أن موضوع الشفاعة غيبي، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر، لكن ربنا سبحانه وتعالى قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177]، ومعنى الإيمان بالله واليوم والآخر أن تصدق بالأخبار التي وردت بشأن اليوم الآخر ومنها أخبار الشفاعة، (حتى يؤمنوا بي وبما جئت به)، فتؤمن بما أخبر به النبي عليه السلام ولا تكذبه، وقد قال الإمام أحمد: من كذب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة، فهذا موضوع غيبي والغيب أتانا من طريق الوحي، سواء كان القرآن أو السنة؛ لأن السنة وحي كما بينا ذلك بالتفصيل من قبل، فمعنى كونه موضوعاً غيبياً أنه ليس للعقل ولا للاجتهاد فيه مجال، وإنما هو خبر، وواجبنا أن نصدق هذا الخبر ونسلم به، قال الإمام الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، فنقول: سمعنا وأطعنا، فهذا هو واجب المؤمن. ثم يقول في نهاية الكلام: نكتفي بما قلناه، ونختم الموضوع مؤثرين الإيمان على الجدل، والتفويض على تبادل التهم، فبحور العلم بلا شاطئ، وأعماقها بلا أغوار. والله وحده الهادي، ونسأله المغفرة. فنقول له: فعلاً إن بحور العلم بلا شاطئ، وأعماقها بلا أغوار، ومن سار في بحر الشبهات كما سرت أنت دون أن يتمسك بطوق النجاة، أو رام النجاة في غير سفينة أهل السنة والجماعة فلن يسلم من الغرق، فإن السنة هي سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك! أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

اختصام أهل النار

اختصام أهل النار ما أحسن أن يطيع الإنسان ربه ومولاه! فيعيش في الدنيا سعيداً مطمئناً ملكاً، ويفوز في الآخرة بجنات النعيم. وما أسوأ أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا معرضاً عن دين الله وشرعه، فيعيش في تيه وضياع وضلال وتعاسة، ثم يدخل قبره حاملاً ذنوباً كالجبال، فكيف ينجو من الفتَّان في القبر! ثم يصلى جهنم، فيخاصم ويجادل أسياده وأتباعه، بل ويخاصم أعضاءه وجسده، وذلك هو الخسران المبين.

بين يدي الموضوع

بين يدي الموضوع الحمد لله الذي ليس سواه واجب الوجود، الذي وعد الذين سعدوا بدوام النعيم في جنات الخلود، وتوعد الذين شقوا بالأبدية في النار ذات الوقود، وأخبرهم أنه يبدلهم جلوداً ليذوقوا العذاب كلما نضجت منهم الجلود. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود، في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الركع السجود، وعلى أصحابه الداعين إلى التوحيد، الساعين للنصح للقريب والبعيد. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيلقى العبد ربه، فيقول الله: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقال: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول له مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك؟ فيفكر في نفسه: من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه بعمله ما كان؛ وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه). هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، والترمذي وابن مردويه والبيهقي. قول أبي هريرة رضي الله عنه: (قالوا) يعني: قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟) إنما قيدوا الرؤية بيوم القيامة للإجماع على أنه تعالى لا يُرى في الدنيا؛ لأن الذات الباقية لا ترى بالعين الفانية، وهذا الاستفهام للاستعلام والاستخبار، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟) يعني: إذا اجتمعتم وأردتم أن تنظروا إلى الشمس هل يحصل لكم تزاحم وتنازع يتضرر به بعضكم من بعض من شدة الزحام حتى تتمكنوا من رؤية هذه الشمس ليست دونها سحابة؟ بل الرؤية تكون واضحة، فيستطيع الإنسان في أي مكان أن يراها دون زحام أو ضرر. و (الظهيرة): هي نصف النهار. وقوله: (ليست في سحابة) يعني: ليست في غيم تحجبها عنكم، وهذا الاستفهام للتقرير، والمقصود منه حمل المخاطب على الإقرار؛ لأنهم لا يضارون في ذلك، لذلك قالوا: لا، (قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا) أي: أنكم لا تضارون. ولفظ: (تضارون) بتشديد الراء، وهناك لفظ آخر: (تضارون) بالراء المخففة، وهذا مشتق من الضير، أي: تكون الرؤية جلية لا تقبل مراء ولا مرية، أي: هل إذا اجتمعتم ونظرتم إلى الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكذلك القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، هل يخالف بعضكم بعضاً في رؤيتهما، ويكذب بعضكم بعضاً في ذلك؟ فكما لا يشك في رؤية الشمس والقمر في هاتين الحالتين، فكذلك لا يشك يوم القيامة في رؤية الله سبحانه وتعالى. والمقصود من هذا الحديث: تشبيه الرؤية بالرؤية، ووجه الشبه: الوضوح التام الكامل في الجلاء والظهور الذي لا نزاع فيه، وليس المقصود تشبيه المرئي بالمرئي، أي: ليس المقصود منه تشبيه الشمس أو القمر بالله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لكن المقصود: أن رؤية الله في الآخرة تكون مثل رؤية الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، ومثل رؤية القمر في ليلة البدر ليس دونه سحاب في الوضوح، فوجه الشبه: الوضوح والجلاء وعدم الخفاء. وفي لفظ آخر: (هل تضامون) بتشديد الميم، أي: هل ينضم بعضكم إلى بعض في طلب رؤية القمر لإشكاله وخفائه؟ فإن الناس عند استطلاع الهلال مثلاً ينضم بعضهم إلى بعض؛ لاستشكال رؤية الهلال كما في بداية مولده، فلذلك يجتمعون حتى ينضم بعضهم إلى بعض طلباً لرؤيته، فالمقصود: أنكم حينما تريدون رؤية القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب -أي: أن السماء صافية- فإنكم لا تحتاجون إلى أن ينضم بعضكم إلى بعض حتى تستوثقوا من هذه الرؤية، وكذلك الشمس في وسط النهار، أو أن المقصود: لا يضمّكم شيء يحول دون رؤيته كبناء أو سقف، أي: هل هناك شيء يحول بينكم وبين رؤية الشمس في الظهيرة، أو القمر في ليلة البدر؟ A لا. فهذا على رواية: تضامون بتشديد الميم، أما على رواية تخفيف الميم فإنها تكون من الضيم، أي: لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم ولا يراه البعض، بل أنتم تشتركون في ذلك كلكم، فكل هذه الألفاظ المقصود منها تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح والجلاء وعدم الخفاء. ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد أن استقررهم على هذا الأمر: (فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) يعني: في هذه الهيئة، وكان الظاهر أن يقال: لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما، ولكنه أخرج مخرج قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب فهو هنا يمدح قوماً مدحاً في صورة الذم، فهو من المدح الذي ظاهرة الذم، لكنه في الحقيقة مدح عظيم، أي: أنه ليس في هؤلاء الناس غير عيب واحد، وهو: أن سيوفهم بهن فلول أي: أنها مثلمة من صراع الكتائب، فهو يريد أن يصفهم بالشجاعة، لكن بصورة غير مباشرة، أي: أنه لا عيب فيهم، كذلك قوله هنا: (فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) المقصود: كما أنكم لا تضارون في رؤية أحدهما فكذلك لا تضارون في رؤية الرب سبحانه وتعالى. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيلقى العبد ربه فيقول الله له: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟) قول الله تعالى: (ألم أكرمك) يعني: ألم أفضلك على سائر الحيوانات. (وأسودك) أي: جعلتك رأساً لقومك. (وأزوجك) يعني: امرأة من جنسك، وأمكنك منها، وجعلت بينك وبينها مودة ورحمة، وألفة وسكينة. (وأسخر لك الخيل والإبل) يعني: أذللها لك، وخص الخيل والإبل بالذكر؛ لأنهما أصعب الحيوانات. (وأذرك ترأس) يعني: وأدعك تكون رئيساً على قومك. (وتربع) قال بعض العلماء: معناه: تأخذ رباعهم، والرباع: هي ربع الغنيمة، فقد كان ملوك الجاهلية يأخذونه لأنفسهم، وقيل: تركتك مستريحاً لا تحتاج إلى مشقة وتعب، وذلك من قولهم: اربع على نفسك، أي: ارفق بها، (فيقول: بلى أي رب!) أي: فيقول العبد بعد ذكر كل هذه النعم: قد أنعمت علي بهذه النعم كلها. والمقصود أنه يقول بعد كل واحدة منها: بلى يا رب! أو بعد ذكر كل النعم. فيقول: (أفظننت أنك ملاقي؟ يعني: أفعلمت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني) أي: أتركك من رحمتي، فنسيان الله له أن يتركه سبحانه وتعالى من رحمته. قوله: (كما نسيتني) يعني: كما تركت في الدنيا طاعتي.

المشاكلة في اللغة العربية مع أمثلة لها

المشاكلة في اللغة العربية مع أمثلة لها المشاكلة باب من أبواب البلاغة، فمن أساليب العرب المشاكلة بين الألفاظ، فيوضع لفظ لغير معناه الموضوع له؛ مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام مثل قول الشاعر: قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً أي: أنهم عرضوا عليه أن يقترح عليهم شيئاً من طعام يجيدون له الطبخ، فأجابهم قائلاً: قلت: اطبخوا لي جبة وقميصاً، والمقصود: خيطوا لي؛ لأن الجبة والقميص لا يطبخان، لكن لما حصل الاقتران في اللفظ ذكر الطبخ في نفس السياق، وهذا نوع من المشاكلة، فاستعمل الكلمة في غير معناها، فاستعمل هنا كلمة (اطبخوا) مكان كلمة (خيطوا)؛ لوجود المشاكلة في النظم. ومثال ذلك أيضاً قول جرير: هذه الأرامل قد قضَّيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر وهذا على القول بأن الأرامل في اللغة العربية لا تطلق إلا على الإناث، فالرجل لا يسمى أرمل، فهنا أيضاً استعمل المشاكلة بناء على أن الأرمل لا تطلق إلا على النساء. وقد وجدت المشاكلة في كثير من آيات القرآن وفي كثير من الأحاديث كالحديث السابق: (إني أنساك كما نسيتني) فهذا من باب المشاكلة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، فقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] هذا عدوان في الحقيقة، لكن هل مقابلة العدوان بمثله يسمى عدواناًَ؟ هو ليس بعدوان في حقيقة الأمر، بل هو انتصار أو عقوبة عاجلة، لكن سماها سبحانه وتعالى اعتداء، فقال: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فسمي عدواناً على سبيل المشاكلة. وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وفي الحقيقة أن السيئة التي يفعلها الإنسان على وجه المقابلة هي من العدل، ومن الانتصار من الظالم، لكن لأجل اقترانهما في النص، جرت هذه المشاكلة دون أن يقصد أنها سيئة، فمعاملة الظالم بما يستحقه هي في الحقيقة حسنة وليست سيئة. ومن ذلك أيضاً: قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فهل العقوبة بمثل ما عوقبتم به يسمى عقوبة؟ لا، فإذا بدأ الإنسان بأذيتك فلك أن تعاقبه بمثل ما أساء إليك، فسمى هذه الإساءة عقوبة من باب المشاكلة أيضاً. ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] يعني: بمثل ما أسيء إليه ابتداء وليس مقابلة، وهو أيضاً من باب المشاكلة. والمقصود: أن قوله سبحانه وتعالى حينما يسأل العبد: (أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني) هو من المشاكلة، والمقصود: إني أنساك، أي: أتركك من رحمتي كما نسيتني، يعني: كما نسيتني في الدنيا من طاعتي، ثم يلقى رجلاً ثانياً فيقول له مثل ذلك، يعني: من سؤال الله سبحان وتعالى له، ويجيب الثاني بنفس هذا الجواب، ثم يلقى شخصاً ثالثاً من الناس فيقول له مثل ذلك، فيقول: (آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع) يعني: يمدح نفسه بما استطاع من الخير، فيقول الرب سبحانه وتعالى: (ألا نبعث شاهدنا عليك؟) فأنت تدعي هذه الدعوة وتنكر {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: ما كنا نعمل من سوء، ويحلفون على ذلك، فيقول الله سبحانه وتعالى له: (ألا نبعث شاهدنا عليك؟) فيفكر هذا العبد الكذاب في نفسه، ويقول: من الذي يشهد علي؟ (فيختم على فيه) أي: على فمه (ويقال لفخذه: أنطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان)، وقوله: وعظامه أي: العظام المتعلقة بالفخذ. قوله: (وذلك ليعذر من نفسه) ليعذر أي: من الإعذار، والمعنى: يزيل الله عذره من قبل نفسه؛ لكثرة ذنوبه، وشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر يتحجج به بعد شهادة أعضائه. قوله: (وذلك المنافق) يعني: ذلك الرجل الثالث الذي يقول: صمت، وصليت، وتصدقت وكذا، لا يقول كما قال الأول والثاني عندما سأل الله كل واحد منهما (أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا)، أما هذا المنافق فيدعي ويزعم أنه صام، وصلى، وأطاع الله سبحانه وتعالى، فهذا يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه).

مخاصمة الكافر لأعضائه

مخاصمة الكافر لأعضائه هناك حديث يبين حواراً يجري بين العبد وبين ربه يوم القيامة، كان موضع عجب واستغراب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أضحك هذا الموقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، قال: هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً! فعنكن كنت أناضل). قوله: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً مع أصحابه رضي الله عنهم فضحك) وفيه إيماء إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يضحك إلا لأمر غريب، أو لحكم عجيب، فلهذا الحكم العجيب ضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: (فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب! ألم تجرني من الظلم؟)، يعني: ألم تؤمّنّي من الظلم في قولك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] وكما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي)، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي فيها أن الله لا يظلم شيئاً. (فيقول العبد: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ يقول: بلى) يعني: بلى أجرتك من الظلم، (فيقول: فإني لا أجيز على نفسي) يعني: لا أقبل ولا أجيز شهادة أحد علي، بل لا أقبل إلا شهادة نفسي. فيقول: (فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني) أي: من جسمي، وهنا يومئ هذا العبد الظالم إلى أن الملائكة تنبئوا علينا الفساد قبل الإيجاد، فيقول من أجل ذلك: لا أقبل شهادة الملائكة علي؛ بناءً على أن الملائكة قالوا عنا قبل أن نوجد في هذا الوجود: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فمن أجل ذلك يزعم هذا الظالم أنه لا يقبل إلا شاهداًَ من نفسه، ولا يقبل شهادة الكرام الكاتبين، فيعطيه الله تعالى ما طلبه وأراده، فيقول له: (كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً) أي: سوف أجعلك تشهد على نفسك، ثم زاد الله سبحانه وتعالى هذه الشهادة تأكيداً وتقريراً فقال: (وبالكرام الكاتبين شهوداً) يعني: الكاتبين لصحائف عملك شهوداً. وهذا يدل على أن الظالمين سوف يزعمون بعض الدعاوى، ويتكلمون في بداية الأمر كما جاء في قوله تعالى: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: ما كنا ندعو من دونك من شيء، وكقولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل:28]، فيتبرءون مما كانوا يعملون، وآخر يقول: قد صمت، وصليت، وتصدقت، وفعلت كذا وكذا فحينما يطلبون الشهادة من أنفسهم على أنفسهم يختم على أفواههم، ويحول الله سبحانه وتعالى دون فم العبد ودون الكلام. قال بعض العلماء: إنه يختم على فيه لكن يخلق الله تعالى في لسانه إرادة ونطقاً، بحيث ينطق اللسان والفم مطبق، وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى. وبعضهم يقول: إن بعض الذنوب يختم بسببها على فم الإنسان وتنطق أركانه وأعضاؤه كما يأتي إن شاء الله فيما شاكلها من الآيات. قوله: (ثم يختم على فيه، فيقال لأركانه -يعني: لأعضائه وجوارحه-: انطقي، قال: فتنطق بأعماله) يعني: كل عضو ينطق بالعمل الذي باشر العبد به هذا العمل بهذه الأعضاء والأركان. قال: (ثم يخلى بينه وبين الكلام) يعني: يترك، وتعاد إليه القدرة على الكلام، فيُرفع الختم عن فيه حتى يتكلم، وشهادة الألسنة ثابتة كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، والمقصود كلام يأتي على خرق العادة، وليس كلاماً بإرادة الإنسان كما في كلامه الطبيعي، وحينما تعاد إليه القدرة على النطق ويرفع الختم من على فيه يقول: (بعداً لكن وسحقاً) أي: هلاكاً لكن أيتها الأعضاء! (فعنكن كنت أناضل) أي: من أجل خلاصكن من العذاب كنت أناضل، أي: أجادل وأخاصم وأدافع، وأصل المناضلة المراماة بالسهام، والمراد بالمناضلة هنا أي: المحاجة بالكلام، وأما جواب الأعضاء فمحذوف، وتقديره دل عليه قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:21 - 23]، فكان هذا جواباً لهذه الأعضاء كما دلت عليه آيات سورة فصلت. وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور:23]، وكذلك الحديث الذي فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر منها: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، بأن المراد بذلك: الأنفس، فتعم الرجال والنساء، فقذف المحصنات الغافلات المؤمنات يعني: قذف الأنفس المحصنات الغافلات المؤمنات، سواء كانت هذه النفوس المحصنات من المؤمنين أو من المؤمنات، من الرجال أو من النساء، وهذا يدل على أن القذف كبيرة في حق الرجال والنساء، لكنه يكون أشد في حق النساء. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في حق هؤلاء الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات أنهم لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم، ثم قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، فذكر أن الألسنة أنفسها تشهد، والجمع بين ذلك وبين الختم على الأفواه أنه يختم على الفم، فينطق اللسان بقدرة الله سبحانه وتعالى والفم مختوم عليه، فيشهد بما عمله. وسياق الآيات في سورة النور في الإنكار على من افترى حديث الإفك، فمن أجل ذلك كان مناسباً أن تنطق ألسنتهم التي باشرت وتداولت حديث الإفك، وخاضت فيه. وقد بين سبحانه وتعالى في سورة (يس) أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه غير اللسان، كقوله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. وقال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19 - 21] إلى آخر الآيات. ومن الآيات المتعلقة بهذا الحدث العظيم قوله سبحانه وتعالى في أحداث يوم القيامة والحساب: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] فيتمنون أن يستووا بالأرض فيكونون تراباً مثلها. قوله: (لو تسوى بهم الأرض) يعني: بأن يكونوا تراباً مثل تراب الأرض، ويشهد لذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] يتمنى أن يكون تراباً. قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) بين الله سبحانه وتعالى أن عدم الكتم المذكور هنا إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم، فعدم الكتمان ليس بإرادتهم، وليس كلاماً عادياً منهم، لكن المقصود به ما أتى في سورة (يس)، وسورة (النور)، وسورة (فصلت) من أن أعضاءهم تنطق وتعترف بكل فعل وذنب اقترفوه في الدنيا، (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) أي: رغماً عنهم، وذلك بقدرة يخلقها الله سبحانه وتعالى في أعضائهم، فتصرح وتفشي، ويفتضح أمرهم على رءوس الخلائق، وبين يدي الله سبحانه وتعالى. فالمقصود: أن عدم الكتم المذكور هنا إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا وذلك عند الختم على أفواههم، فحينئذ يتكلمون بقدرة الله، وتنطق جوارحهم، ولا يكتمون الله حديثاً، فهم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وقالوا: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)، (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، أو يقول المنافق: صمت، وصليت، وتصدقت، وفعلت وفعلت، فحينئذ يختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحهم، يقول سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فلا يتنافى قول الله سبحانه وتعالى: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) مع قوله عز وجل حاكياً عن المشركين أنهم يقولون: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) هذا في بداية الحساب، أعني: حلفهم وتبرئهم من أفعالهم، وكذلك قولهم: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)، وقولهم: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر:74]، فهذا يكون أولاً، وحينئذ يختم الله على أفواههم ثم لا يكتمون الله حديثاً، وهذا على الوجه الذي

خطر إشاعة الفواحش ونشرها

خطر إشاعة الفواحش ونشرها وهنا ننبه على أمر من الأمور المهمة جداً وهو: أن عدم الستر في حكاية الفواحش والحوادث يدخل في الوعيد الوارد في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فمحبة إشاعة الفاحشة ونشرها وحكايتها أمر خطير، فتجد كثيراً من الناس حتى من الملتزمين بدينهم وللأسف يقعون في هذا الأمر، فإذا سمع أي نوع من الحوادث سواء كان قتلاً، أو من الفواحش كالزنا وشرب الخمر أو أي نوع من الحوادث التي تجري، ليحكيها ويقول: حدث كذا وكذا، وفلان فعل كذا وكذا، فهذا يدخل في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ)، فالإنسان إذا سمع بشيء من هذه الأشياء فلا ينشره، ولا يحكيه أبداًَ، بل يصبر؛ حتى لا تتعود القلوب على سماع المنكرات، وبالتالي يموت استقباح هذه المنكرات، واستقباح تنفيذها. فلا شك أن الصحف والمجلات التي تسخِّر صفحات طويلة وعريضة للكلام في هذه الأمور، وإشاعة الفاحشة بين الناس، أنها واقعة في الكبائر التي حرمها الله سبحانه وتعالى، فتراهم يحكون وينشرون هذه الفواحش: فلان فعل، وفلان فعل، وفلانة قتلت زوجها، وأشياء أخرى تؤذي مشاعر أي إنسان ولو كان غير مسلم، فلا شك أن هذا من إشاعة الفاحشة، فالمسلم لا يحكي هذه الحوادث أبداً، ومتى شعر أن مسلماً ارتكب ذنباً فإنه يستر عليه؛ فالله سبحانه وتعالى ستير يحب الستر. وبعض الناس يظنون أن إشاعة هذه الأمور من إنكار المنكر، بل هذا من إشاعة الفاحشة، وهتك ستر المسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فهذا التنبيه من باب شيء يذكر بالشيء، وقد خرجنا عن موضوعنا الأصلي.

مقت الكافر لنفسه في النار

مقت الكافر لنفسه في النار إن ما يقع من المخاصمة بين العبد وبين جوارحه يمثل ذورة الخصام الذي يقع يوم القيامة، وقد ورد في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64]، فمخاصمة الإنسان بينه وبين نفسه، ومخاصمته ومناظرته مع أعضائه وجوارحه تعد قمة التخاصم الذي يجري لأهل النار يوم القيامة. هناك تخاصم آخر يقع من أهل النار يوم القيامة، فحينما يعاين أعداء الله الكفرة ما أعد لهم من العذاب، وما هم فيه من الأهوال، فإنهم يمقتون أنفسهم -أي: يكرهون أنفسهم- كما أنهم يمقتون أحبابهم وخلانهم في الحياة الدنيا، بل كل محبة لم تقم على أساس من الإيمان فإنها تنقلب في ذلك الوقت إلى عداء، قال الله سبحانه وتعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقال أيضاً: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]، فعندئذ {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، وحينئذ يخاصم أهل النار بعضهم بعضاً، ويحاج بعضهم بعضاً، فيقع كثير من التخاصم والتجادل بين أهل النار، فيخاصم العابدون المعبودين، ويخاصم الأتباع السادة المتبوعين، ويخاصم الضعفاء المتكبرين، ويخاصم الإنسان قرينه، ويخاصم الكافر أعضاءه، بل تخاصم الروح البدن، ويمقتون أنفسهم، ويمقتون أنصارهم.

مخاصمة العابدين للمعبودين

مخاصمة العابدين للمعبودين أول صورة نذكرها من صور المخاصمة: مخاصمة العابدين للمعبودين، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:91 - 99]، فيخاطبون آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، معترفين بضلالهم إذ كانوا يعبدونها، ويسوون بينها وبين الخالق سبحانه وتعالى، وقد خاب وخسر كل من يرفع المخلوق إلى رتبة الخالق، وكل من عبد من دون الله سبحانه وتعالى آلهة فقد سوى بين الخالق والمخلوق، وكل من اتخذ إلهاً من الآلهة الباطلة دون الله فقد عدل بين الله وبين خلقه في هذه العبادة، وهذا هو عين الظلم العظيم، كما حكى الله عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: {وإذ قال لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فهذه المناظرة والمخاصمة التي تحصل بين العابدين والمعبودين هي في حق الآلهة الباطلة كالأوثان أو الشياطين أو نحوها من الآلهة الباطلة، وأما الصالحون الأخيار الذين عُبدوا وهم لا يعلمون فكما قال الله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:116 - 117]، ولم يعبد المسيح ولا عزير ولا الأولياء والصالحون فقط، بل قد عُبد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يرضى بهذا الكفر وهذا الشرك، فكثير من المسلمين أشركوا وعبدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى ليدلنا على الطريق إلى الله، فعبده بعض الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام بالمدح المحذور، والإطراء المنهي عنه، كما يقول بعضهم في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا مدح لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من عبد بغير رضاه كالملائكة، والصالحين، والأنبياء فإنهم يتبرءون من عابديهم، ويكذّبون زعم هؤلاء العابدين، ويبينون افتراءهم، فالملائكة لم تقبل هذه العبادة، ولم ترض بها، والذين طلبوا هذه العبادة هم الجن؛ كي يضلوا البشر ويوبقوهم، فهؤلاء الضالون عابدون للجن لا للملائكة كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]، وعيسى بن مريم عليه السلام -كما بينا آنفاً- يتبرأ من كل من عبده واتخذه إلهاً من دون الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل عن جميع هؤلاء: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [النحل:86 - 87]. وقال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:28 - 30].

تجادل وتخاصم الأتباع مع قادة الضلال من المفكرين وأصحاب المبادئ المناقضة لدين الإسلام

تجادل وتخاصم الأتباع مع قادة الضلال من المفكرين وأصحاب المبادئ المناقضة لدين الإسلام وفي النار يتخاطب الأتباع مع قادة الضلال من أصحاب الفكر، والنظريات، والفلسفات الضالة، وأصحاب كل مبدأ يناقض دين الإسلام، فيتخاصم هؤلاء الأتباع والمتبوعين من أهل المدارس الفكرية التي فرحوا بها، واغتروا بمسالكها، فكانوا في غفلة عن دين الإسلام، وهذه الأشياء التي اغتروا بها -كالفلسفة- تهدم دين الإسلام وتناقضه، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:19 - 28]، أي: من باب القوة {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:29 - 35]، فكانوا إذا دعوا إلى عبادة الله وحدة، وإلى التمسك بدينه وحده، والإعراض عما خالفه من الأديان والفلسفات والنظريات والمبادئ الهدامة لدين الله، فإنهم يستكبرون عن الانقياد لطاعة الله سبحانه وتعالى، ويفرح بعضهم ببعض، ويظنون أنهم على شيء. فتحصل الملاومة، والعتاب الشديد، والندم بين أهل النار في عرصات القيامة، فالأتباع يقولون لقادة الضلال: أنتم الذين كنتم تزينون لنا هذا الباطل، وأنتم الذين كنتم تؤزوننا إلى مخالفة الحق، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، فكل من حرف الناس عن نور الوحي وعن دين الإسلام إلى هذه الظلمات فهو طاغوت؛ لأنه طغى وتجبر وزاد عن حده بأن رفع نفسه إلى مقام الألوهية، ونازع الله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته، إلا أن القادة ورجال الفكر والزعماء يرفضون هذا حينما يقول لهم الأتباع: أنتم الذين أضللتمونا، أنتم الذين أغويتمونا، أنتم الذين قلتم لنا: {ما أريكم إلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فحينئذ يرد عليهم هؤلاء الزعماء قائلين: بل أنتم تتحملون نتيجة أعمالكم؛ لأنكم اخترتم الكفر، ولم يكن لنا من سلطان عليكم، فطغيانكم واستكباركم هو الذي أوصلكم إلى هذه النهاية.

تخاصم الضعفاء مع ساداتهم من الملوك والأمراء وغيرهم

تخاصم الضعفاء مع ساداتهم من الملوك والأمراء وغيرهم ومن التخاصم الذي يقع بين أهل النار يوم القيامة: تخاصم الضعفاء مع السادة من الملوك والأمراء وشيوخ العشائر والقبائل الذين كانوا يتسلطون على العباد، وكان الضعفاء يشدون من أزرهم، وكلما وجدت واحداً من أعوان هؤلاء الظالمين وأنكرت عليه فإنه يقول لك: أنا عبد مأمور، يعني: أنه مجبر على هذا النوع من الظلم، وما يستحيي من هذه الكلمة! الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال له السجان يوماً: هل أنا من أعوان الظلمة؟ قال: لا، بل أنت من الظلمة! فتجد كل إنسان يرتكب نوعاً من الظلم يقول: أنا عبد مأمور، فيعترف بهذه العبودية لهؤلاء المعبودين، ويظن أن هذا مبرر، وأن هذا يسوغ له ظلمه للناس، وإعراضه عن الحق، فهؤلاء هم الضعفاء، وأما القادة والزعماء وأصحاب الرتب فكل هؤلاء هم السادة المستكبرون الذين يتسلطون على العباد، ولولا أن هؤلاء الضعفاء يشدون أزرهم لما كان لهم أن يتمكنوا من ظلم العباد كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، فهؤلاء الضعفاء يعينونهم على باطلهم بالنفس والمال، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، ثم نجد أن المستضعفين كثرة، وأن الطواغيت قلة، فمن الذي طيّع هذه الكثرة للقلة؟! لقد طيّعها ضعف الروح، وسكون الهمة، وقلة النخوة، فهذا الاستذلال لا يحدث إلا من قابلية، كما يقول الشيخ ناجي بن ناجي رحمه الله حينما كان يتكلم على ظاهرة الاستعمار في البلاد الإسلامية، فقال: ليست المشكلة في الاستعمار، ولكن المشكلة في القابلية للاستعمار، وذلك بأن توجد في الإنسان قابلية للتذلل والاستعباد، فهذه القابلية هي التي يعتمد عليها هؤلاء الطغاة؛ فمن هنا يقولون لهم يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم:21]، فيظنون أن هذا يغني عنهم يوم القيامة من عذاب الله من شيء، أي: نحن اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأسود الأليم فهل تنفعوننا الآن بشيء؟ فيرد الذين استكبروا: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]. وقال الله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22]. وفي موضع آخر يذكر الله سبحانه وتعالى تخاطب السادة المتكبرين مع المستضعفين فيقول: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47 - 48]. ويقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12]، وما أكثر الذين يصنعون مثل هذا الصنيع في هذا الزمان، فترى أحدهم يقول مثلاً للمرأة المنتقبة: اخلعي الحجاب والذنب علي، افعل كذا وأنا أتحمل الإثم! فهذا نفس ما حكاه الله عن هؤلاء الهالكين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12 - 13]. ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:31 - 33]، فالأتباع والضعفاء يتهمون السادة والزعماء قائلين لهم: أنتم الذين حُلتم بيننا وبين الإيمان، فلولاكم لكنا من الذين اتبعوا ما أنزل الله إلينا، ولكن المستكبرين يرفضون هذه التهمة، ويقولون: بل أنتم المجرمون، فكل ما في الأمر أننا دعوناكم فاستجبتم لنا، ولم يكن لنا عليكم من سلطان، فتقول الشعوب المستضعفة الضالة: بل إن مكركم بنا في الليل والنهار هو الذي أضلنا وحرفنا عن جادة الصواب، فالمؤامرات والمؤتمرات ووسائل الإعلام في مختلف العصور هي التي تصور الحق باطلاً والباطل حقاً، وكذلك أيضاً ما كان يلقيه الزعماء من شبهات ومزاعم ضالة، كل ذلك أضلنا وجعلنا نكفر بالله تعالى، ونشرك به، والحق أن الجميع خاطئون، وأنهم غير معذورين في ضلالهم وكفرهم. وأما عند دخول النار فيصف الله سبحانه وتعالى هذا التخاصم أيضاً قائلاً: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:55 - 64]، فهؤلاء الذين كان يرحب بعضهم ببعض في دار الدنيا، ويوقر بعضهم بعضاً، يتحول ويتغير حالهم في ذلك اليوم، فيقول بعضهم لبعض: لا مرحباً بكم، ويتمنى كل فريق على الله أن يزيد هؤلاء الذين كانوا يحبونهم في الدنيا من العذاب والآلام، فيدعو كل فريق على الآخر: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص:61]، إن هذا التخاصم بين أهل النار حق كائن لا شك فيه، فهذا قول الله سبحانه وتعالى، وهذا حكمه سبحانه وتعالى.

تخاصم الكافر مع قرينه من الجن

تخاصم الكافر مع قرينه من الجن ومن التخاصم الذي يقع بين أهل النار: الخصام بين الكافر وبين قرينه من الجن، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:23 - 29].

تخاصم الروح مع البدن

تخاصم الروح مع البدن قد ذكرنا أن هذا التخاصم يبلغ ذروته، فيتخاصم الإنسان مع أعضائه، ويكون هو شهيداً على نفسه. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هناك تخاصماً يكون بين الروح والبدن، فيقول ابن عباس: يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت، وأنت سولت، فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما -يعني: الروح والجسد- كمثل رجل مقعد بصير -أي: لا يستطيع المشي؛ لأنه مقعد، لكنه بصير يرى-، وآخر ضرير -يعني: لا يرى، لكنه يستطيع أن يمشي- دخلا بستاناً، فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً ولكن لا أَصِل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما، فيقول لهما الملَك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما. فالمقصود أن الجسد للروح كالمطية، فهي تركبه.

مقت أصحاب النار لأنفسهم

مقت أصحاب النار لأنفسهم أخيراً: في ذلك الموقف يمقت أصحاب النار أنفسهم، ويكرهونها، ويبغضونها، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، ويمقتون أيضاً كل الذين كانوا لهم أنصاراً وخلاناً في الدنيا، بل يدعون عليهم، ويطلبون لهم المزيد من العذاب: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:66 - 68]، ولشدة حنقهم على من أضلهم يسألون الله أن يريهم هؤلاء الذين أضلوهم؛ ليدوسوهم بأقدامهم، فهؤلاء الذين كانوا يرفعونهم فوق الرءوس، ويفدونهم بالروح والدم، يوم القيامة يدعون الله سبحانه وتعالى أن يحضر لهم هؤلاء حتى يدوسوا على رءوسهم بأقدامهم، يقول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]، فعندما يدخلون النار ترتفع أصواتهم، ويلعن بعضهم بعضاً، ثم يتمنى بعضهم لبعض مزيداً من العذاب {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]. هذه الآيات تبين التخاصم الذي وصفه الله بقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64]، وقمة الخصام يكون بين الإنسان وبين أعضائه كما ورد في سورة يس في قوله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، وقد بينا صوراً أخرى من هذا الخصام كخصام العابدين والمعبودين، وخصام الأتباع للسادة المتبوعين، وخصام الضعفاء للمتكبرين، وخصام الإنسان لقرينه، وخصام الكافر لأعضائه، بل وخصام الروح والبدن، وكيف أنه ينتهي بهم الأمر إلى أنهم يمقتون أنفسهم، ويمقتون أنصارهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

المرأة مجاهدة صابرة

المرأة مجاهدة صابرة لقد كانت المرأة قبل الإسلام لا قيمة لها، فلما جاء الإسلام رفع من شأنها ومكانتها، وبرزت في مجالات شتى في العلم والجهاد والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن المتصفح للتاريخ الإسلامي ليجد نماذج من النساء المجاهدات الصابرات اللاتي بذلن الغالي والنفيس في سبيل الله، بل بلغ ببعضهن الحال إلى أن سبقن الرجال في بعض المواقف، ومن هؤلاء النساء الأفذاذ سمية أم عمار، وأم عُمارة، وأم سُليم، وغيرهن كثير.

انبهار المرأة وتأثرها بتكريم الإسلام لها

انبهار المرأة وتأثرها بتكريم الإسلام لها الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد انبهرت المرأة المسلمة بتكريم الله تبارك وتعالى لها في الكتاب وفي السنة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رفع ذكر المرأة ومكانتها في الإسلام إلى أبعد مما يطمح خيالها ويصبو أملها، وقد ساق الله عز وجل لها من آي الذكر الحكيم ما بهر سناه بصرها، وملكت محجته نفسها، واستقادت بلاغته وحسن مساقه قلبها، وأنصفت المرأة بما وصف به الله رحمته وعزته وناره وجنته وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر ورفيع المنزلة. كيف انبهرت المرأة بهذا التكريم لها الذي جاء في الكتاب والسنة؟! لقد أثار ذلك عاطفتها، وأصاب وجدانها، وأنار بصيرتها، فكان حقاً لذلك أن يصيب حبة قلبها، ويجول في مجال دمها، ويتأسد بين أحناء ضلوعها، فكيف انبهر النساء بهذا الإسلام وبهذا الدين وبهذا التوحيد؟! ثم ماذا كان المقابل الذي بذلته المرأة في سبيل هذا التكريم؟! لقد كان أول قلب خفق بالإسلام وبهذا الدين حينما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتألق بنوره قلب امرأة من نساء العرب، إنها خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها. ما كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها امرأة من سواء النساء، بل لقد هُيئ لها من جلال الحكمة وبعد الرأي إلى زكاء الحسب وذكاء القلب ما عز على الأكثرين من الرجال، فلم تأخذ الدين مشايعة، ولم تتلقه مجاملة، بل أخذته عن تأثر به وظمأ إليه، فتأثرت أم المؤمنين خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها بهذا الدين تأثراً نفذ إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النوب واشتداد الخطوب، ثم أعقبها جمهور النساء، فتأثرن بهذا الدين تأثراً هان وراءه كل شيء. فعن عبد الله بن جعفر قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن عليها الثناء). وكما جاء في الحديث: (إن حسن العهد من الإيمان). وتقول عائشة أيضاً: (كان عليه الصلاة والسلام وفياً أشد الوفاء لـ خديجة، خاصة بعد موتها رضي الله عنها، فكان يحسن عليها الثناء، فذكرها يوماً من الأيام فاحتملتني الغيرة -أي: أخذتها الغيرة- من خديجة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أخلف الله لك خيراً منها. فغضب صلى الله عليه وسلم حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أخلف الله لي خيراً منها؛ لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء. فقلت بيني وبين نفسي: لا أذكرها بسوء أبداً،) ويكفي خديجة رضي الله تعالى عنها أن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشرها ببيت في الجنة، حيث يقول: (بشر خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب). فبشرت بالجنة رضي الله عنها في حياتها. إذاً: فأول قلب تلقى هذه الدعوة بالتصديق والإيمان واليقين هو قلب امرأة، وهي خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.

نماذج من النساء اللاتي صبرن على التعذيب والقتل في سبيل الله

نماذج من النساء اللاتي صبرن على التعذيب والقتل في سبيل الله وكذلك أول من سبق إلى هذا الدين بعد خديجة رضي الله عنها طوائف من نساء العرب اللائي استهن بما أصابهن في سبيل الله من ظلم وذل وآلام، لقد كان لقريش انبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف، حتى لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام إلى التأنق في التمثيل. ومن أولئك النساء اللواتي استعذبن العذاب في سبيل عقيدتهن وإيمانهن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، كانت سابعة سبعة في الإسلام، فكما كان أول قلب خفق بالإسلام هو قلب أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فقد كان أول دم أريق في سبيل الله هو دم سمية بنت خياط رضي الله عنها، فهي أول شهيد في الإسلام، وقد كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة والتهبت الرمضاء خرجوا بـ سمية مع عمار ابنها وزوجها ياسر إلى الصحراء وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال الملتهبة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بـ عمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة). حتى إن عماراً -وهو رجل- أخذ بالرخصة، حيث أجرى على لسانه كلمة الكفر عند الإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد عذره الله وأمثاله بقوله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. أما أمه سمية وهي امرأة فإنها لم تترخص بهذه الرخصة، وإنما صبرت على العذاب في سبيل الله، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان، ثم إن الخبيث النذل أبو جهل بن هشام أنفذ حربته في موضع العفة منها فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام. قال الحافظ ابن حجر: أخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: (أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة، ولما قتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: قتل الله قاتل أمك). وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتمل الرجال، فمن المؤمنات الأوائل من كانت تلقى ثم تحمى لها مكاوي الحديد ثم توضع بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها، وقد عذب بهذا العذاب زنيرة جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هو وجماعة من قريش يتولون تعذيبها كما ذكرنا، ولما ذهب بصرها من لعب الأطفال بعينها قال المشركون: ما أزال بصرها إلا اللات والعزى. فقالت لهم: والله ما هو كذلك، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من الله، والله قادر على أن يرد علي بصري. قيل: فرد الله عليها بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد). فبدل أن يعتقدوا أن هذه الكرامة من الله لهذه المرأة الصالحة قالوا -والعياذ بالله-: هذا من سحر محمد. وقد قام أبو بكر رضي الله عنه بشرائها ثم أعتقها، فهي من الذين اشتراهم وأعتقهم أبو بكر رضي الله عنه، فقد كان أعتق سبعة ممن كانوا يعذبون في الله في بداية الإسلام، منهم: بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة، وجارية بني مؤمل، والنهدية وابنتها. وأم عبيس من هؤلاء المؤمنات اللاتي كان المشركون يعذبونهن، فقد كانوا يجعلونها تشرب كمية كبيرة من العسل، ثم يوثقونها بالأغلال ثم يلقونها بين الرمال ولها حر يذيب اللحم ويصهر العظم، حتى تموت من العطش ويقتلها الظمأ، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك بنت جابر بن حكيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم. قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء لا موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعموني ولا يسقوني، فنزلوا منزلاً، فكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه ثم عاد، ففي المرة الثانية تناولت بيدي، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلاً ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً ثم رفع، فصنع ذلك مراراً حتى رويت، ثم صببت سائره على جسدي وثيابي من شدة الحر، فلما استيقظوا فإذا هم بأثر الماء ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: فككت الوثاق والقيود وأخذت سقاءنا فشربت منه! فقلت: لا والله ما فعلت ذلك، ولكن كان من الأمر كذا وكذا. فقالوا: لأن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا من ساعتهم) وهذا -أيضاً- كرامة من الله عز وجل لهذه المرأة الصالحة. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يسلم يتولى تعذيب جارية مسلمة لبني مؤمل، فلا يزال يضربها بالسياط حتى إذا مل وتعب من كثرة الضرب قال لها: إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالاً. فتقول له: كذلك فعل الله بك. أي: بل الله هو الذي يصرفك عني. وهذه أم كلثوم بنت عقبة -وعقبة أبوها هو سيد من سادات قريش- هي الوحيدة التي آمنت في بيتها أول الإسلام، وفارقت خدرها ومستقر أمنها تحت جنح الليل، خرجت وحدها فريدة شريدة تطوي بها قدماها ثنايا الجبال وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها ودار هجرتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعقبتها بعد ذلك أمها. وهذه أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها حينما أتاها أبوها أبو سفيان ولم يكن قد أسلم بعد، فدخل عليها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنية! ما أدري: أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟! فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم.

نماذج من مواقف النساء الأوائل في الصبر على المصائب والجهاد ودفع المنكر

نماذج من مواقف النساء الأوائل في الصبر على المصائب والجهاد ودفع المنكر تأثرت المرأة كذلك بأدب الإسلام، وخرجت عما احتكم به في الجاهلية من العادات النافرة والتقليد الذميم، ومعلوم جزع النساء عند المصائب وما يصدر منهن فيها -خاصة في أيام الجاهلية- من العويل والنواح والصراخ ونحو ذلك لمدة طويلة تصل إلى سنة وأكثر، فجاء الإسلام وتأثرت المرأة بهداية الإسلام واعتصمت بالصبر، وغير الإسلام هذه العادات الجاهلية التي كانت مستقرة في النساء.

موقف الخنساء من المصائب في الجاهلية والإسلام

موقف الخنساء من المصائب في الجاهلية والإسلام إذا تأملنا قصة الخنساء رضي الله تبارك وتعالى عنها، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها وتصدع قلبها واضطراب حشاها على أخيها صخر لوجدنا عجباً، ومعلومة مراثيها لأخيها صخر، لكن عندما صارت مؤمنة استحال كل ذلك الجزع والفزع من قضاء الله إلى صبر صاغه الإيمان وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا، فهاهم أبناؤها وهم أشطار كبدها ونياط قلبها خرجوا إلى وقعة القادسية، وكانوا أربعة أبناء، فكان مما أوصتهم به قولها: (يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا وصابرو ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وجللت ناراً على أرواقها فيمموا وطيسها - الوطيس هو المعركة أو الضرب فيها- وجالدوا رئيسها -أي: أصلها- عند احتدام خميسه تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة). فلما كشرت الحرب عن أنيابها تدافعوا إليها وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً في إثر واحد، ولما وافتها النعاة بخبر أبنائها الأربعة لم تزد على أن قالت: (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته). فانظر كيف غير الإسلام والإيمان سلوكها، من هذه المراثي التي ملأت بها الدنيا لأخيها صخر في الجاهلية إلى هذه الكلمة العظيمة التي قالتها في الإسلام.

موقف معاذة العدوية من مقتل زوجها وولدها في الجهاد

موقف معاذة العدوية من مقتل زوجها وولدها في الجهاد عن حماد بن سلمة قال: حكى ثابت البناني أن صلة بن أشيم -وكان رجلاً من الصالحين- كان في مغزى، وكان معه ابن له، أي: كانا يجاهدان في سبيل الله. فقال: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فحمل ابنه على الأعداء فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة بن أشيم نفسه فقتل رضي الله عنه، فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية -وهي من النساء الصالحات- فقالت لهن: إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. وقالت أم الأسود بنت يزيد العدوية -وكانت معاذة قد أرضعتها-: قالت لي معاذة لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها: والله -يا بنية- ما محبتي لبقائي في الدنيا لرغيد عيش ولا لروح نسيم، ولكن والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل، لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة. فهي رحمها الله تتمنى أن يطول عمرها حتى تستكثر الأعمال التي تبلغ بها درجتي ولدها وزوجها الشهيدين.

موقف أم سليم من موت ابنها وصبرها على ذلك

موقف أم سليم من موت ابنها وصبرها على ذلك وهذه أم سليم الرميصاء أو الغميصاء من الصالحات العظيمات اللائي لهن شأن عظيم جداً، وكانت من السابقات إلى الإسلام؛ لأنها أسلمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فبايعته حين مقدمه إلى المدينة، وكان إسلامها مراغمة لزوجها مالك بن النضر، وكان ولدها أنس بن مالك يومئذ طفلاً رضيعاً، فكانت تقول له: قل: لا إله إلا الله. قل: أشهد أن محمداً رسول الله. فجعل ينطق بذلك أول ما ينطق، فكان ذلك مما يثير الغضب في نفس مالك أبيه، فيقول لها: لا تفسدي عليّ ولدي. فتقول: إني لا أفسده. ثم إنه خرج عنها إلى الشام، وهنالك لقي عدواً له فقتله عدوه، فلما بلغها قتله وكانت شابة حدثة وكثر خطابها قالت: لا جرم لا أفطم أنساً حتى يدع ثديي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني. فوفت بعهدها وبرت، وكان ولدها أنس بن مالك يعرف لها تلك المنة ويقول: جزى الله أمي عني خيراً لقد أحسنت ولايتي. حتى إذا شب أنس تقدم لخطبتها أبو طلحة زيد بن سهل وكان مشركاً فأبت، ثم قالت له يوماً: أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار فينجرها لك هل يضرك؟ هل ينفعك؟ وأكثرت من عتبه، فوقع في قلبه الذي قالت، فأتاها فقال: لقد وقع في قلبي الذي قلت. وآمن بين يديها فقالت: إني أتزوجك ولا أريد منك صداقاً غير الإسلام. قال ثابت: فما سمعت من امرأة قط كانت أكرم مهراً من أم سليم لقد كان مهرها الإسلام. نعم لقد كان أكرم وأشرف وأغلى مهر في الدنيا؛ لأنها تزوجته على أن يدخل في دين الإسلام. حدث أنس بن مالك عن أمه أم سليم بنت ملحان الأنصارية زوج أبي طلحة زيد بن سهل قال: (مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه. فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان. وقدمت له عشاءه فتعشى هو وأصحابه الذي قدموا معه، ثم أتما ليلتهما على أحسن حال، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة! ألم تر إلى آل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طُلبت منهم شق عليهم! قال: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله فقبضه إليه. فاسترجع وحمد الله وقال: والله ما أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حضر عنده اشتكى له كيف أنها تصنعت له حتى وقع عليها وابنه ميت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في غابر ليلتكما) فحملت منه تلك الليلة عبد الله بن أبي طلحة، ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، ولم يمت عبد الله بن أبي طلحة حتى رزق عشرة من البنين كلهم حفظ القرآن وأبلى -أي: جاهد في سبيل الله تبارك وتعالى- واستشهد عبد الله بن أبي طلحة في الجهاد بفارس.

موقف نفيسة بنت الحسن من ظلم الولاة ومناصحتهم

موقف نفيسة بنت الحسن من ظلم الولاة ومناصحتهم من مواقف النساء المسلمات -أيضاً- في الصبر والجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وقع من السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أقامت بمصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق، وقيل: مع أبيها الحسن الذي عين والياً على مصر من قبل أبي جعفر المنصور وفي ذات يوم هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون، فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا: في الغد. فكتبت رقعة ووقفت بها في طريقه وقالت: يا أحمد بن طولون. فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه، وأخذ منها الرقعة وقرأها، وكانت قد كتبت له في هذه الرقعة: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم فعسفتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة، لا سيما في قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] فرجع عن ظلمه لوقته.

موقف أم عقيل حين عزيت بموت ولدها عقيل

موقف أم عقيل حين عزيت بموت ولدها عقيل وحكى -أيضاً- الإمام أبو الفرج بن الجوزي قال: قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضالون عن الطريق أتيناكم فأنسنا بكم. فقالت: يا هؤلاء! ولوا وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل. ففعلنا، فألقت لنا مسحاً -أي: فراشاً- فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني. ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها، إلى أن رأت شخصاً قادماً من بعيد، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني. فوقف الراكب عليها فقال: يا أم عقيل! أعظم الله أجرك في عقيل. قالت: ويحك مات ابني؟! قال: نعم. قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم. تعني: انزل حتى تؤدي حق الضيافة لهؤلاء القوم. ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت -أي: لبست مثل العمامة على رأسها- فقالت: يا هؤلاء! هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً؟ قلت: نعم. قالت: اقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها. قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. قالت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا. قالت: السلام عليكم. ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلاً -تقول ذلك ثلاث مرات- اللهم! إني فعلت ما أمرتني به فأنجز لي ما وعدتني.

موقف امرأة عبد الله بن الفرج حين مات زوجها عبد الله

موقف امرأة عبد الله بن الفرج حين مات زوجها عبد الله لما مات عبد الله بن الفرج لم تعلم زوجته إخوانه بموته، وكان إخوانه جالسين بالباب ينتظرون الدخول عليه في علته، فلما مات لم تجزع، بل صبرت صبراً عظيماً، حيث قامت وغسلته وكفنته في كساء كان له، ونزعت فرد باب من أبواب بيته وشدته بشريط، ثم قالت لإخوانه: قد مات وقد فرغت من تجهيزه، فدخلوا فاحتملوه إلى قبره، وأغلقت الباب خلفهم.

موقف صفية بنت عبد المطلب وصبرها على أخيها حمزة

موقف صفية بنت عبد المطلب وصبرها على أخيها حمزة نذكر صبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم والدة الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وشقيقة حمزة، وأمها هالة بنت وهب خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في أحداث أحد عن بعض الرواة قوله: (خرجت صفية يوم أحد في طليعة النسوة اللواتي خرجن في خدمة المجاهدين ومداواة الجرحى، ولما انهزم المسلمون بعد أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات، سواء أكان النصر أم كان غير ذلك، وانفض أكثر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق حوله سوى القلائل من أصحابه قامت صفية رضي الله عنها وبيدها رمح تضرب به في وجوه الفارين من الأعداء المشركين، وتقول لهم: انهزمتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليها، فقال لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بشقيقها حمزة وقد مثل به، فلقيها الزبير فقال: يا أم! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي. فقالت صفية: ولم؟! فقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله عز وجل قليل، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى. وعاد الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال: خل سبيلها، فأتت صفية حمزة فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن).

موقف صفية بنت عبد المطلب وشجاعتها يوم الخندق

موقف صفية بنت عبد المطلب وشجاعتها يوم الخندق صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم هي أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين، فإنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخندق جعل نساءه في حصن يقال له: فارع. فجاء إنسان من اليهود فرقى الحصن حتى أطل على النساء، فقالت صفية بنت عبد المطلب: فقمت إليه فضربته حتى قطعت رأسه، فأخذت رأسه فرميت به عليهم. حتى توقع الرعب في اليهود. وفي رواية أخرى: فأخذت عموداً فنزلت إليه حتى فتحت الباب قليلاً قليلاً فحملت عليه بالعمود فقتلته. فانظر إلى شجاعتها.

موقف نساء الأنصار من قتلى أحد وتفضيلهن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم

موقف نساء الأنصار من قتلى أحد وتفضيلهن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد إلى المدينة خرج الناس من المدينة للاستفسار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ذويهم الذين اشتركوا معه في معركة أحد، وكان من بينهم امرأة من بني دينار قتل يوم أحد أبوها وزوجها وأخوها وابنها، فلما نعوا إليها لم تكترث كثيراً، وإنما كانت قلقة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنساها هذا القلق كل أحد، فكانوا يقولون لها: قتل أبوك. فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقولون لها: قتل ابنك. فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقولون: قتل أخوك. فتقول: ما فعل رسول الله؟ ويقولون: قتل زوجك. فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون لها: خيراً يا أم فلان، فهو بحمد الله كما تحبين. فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فلما رأته سالماً قالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله. أي: قليلة وحقيرة في جانب سلامته صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أن الدينارية هذه جاءت إلى مصارع القوم في المعركة، فمرت بأبيها وابنها وأخيها وزوجها وهم صرعى، وكلما مرت على واحد منهم سألت وقالت: من هذا؟ قيل لها: هذا أبوك هذا ابنك هذا زوجك هذا أخوك. فلم تكترث، بل صارت تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: هو أمامك. حتى جاءته، وأخذته بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب. أي: إذا سلمت فما أبالي بما يصيبني بعد ذلك. رضي الله تبارك وتعالى عنها. (وقبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت أم سعد بن معاذ سيد الأنصار رضي الله عنه تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه، وسعد آخذ بلجامها، فقال سعد: يا رسول الله! أمي. فقال: مرحباً بها، فوقف لها، فلما دنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عزاها بابنها عمرو بن معاذ؛ لأنه استشهد في غزوة أحد وله اثنتان وثلاثون سنة، فقالت: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتريت المصيبة. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد وقال لـ أم سعد: يا أم سعد! أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً، فقالت: رضينا يا رسول الله ومن يبكي عليهم بعد هذا؟! ثم قالت: يا رسول الله! ادع لمن خلفوا منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم! أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا).

موقف نسيبة بنت كعب في غزوة أحد وما بعدها

موقف نسيبة بنت كعب في غزوة أحد وما بعدها وهذه نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله تبارك وتعالى عنها، -وكنيتها أم عمارة - الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية النجارية المازنية المدنية، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكائين. يقول: الحافظ الذهبي في ترجمتها في سير أعلام النبلاء: شهدت أم عمارة ليلة العقبة وأحداً والحديبية ويوم حنين ويوم اليمامة. وجاهدت وفعلت الأفاعيل، قطعت يدها في الجهاد رضي الله تبارك وتعالى عنها، شهدت أحداً مع زوجها غزية بن عمرو ومع ولديها، خرجت يوم أحد تسقي الظمأى وتسقي الجرحى، وكانت غرة الحرب وطلعتها للمسلمين، ثم أشاحت بوجهها عنهم فتناوشتهم سيوف المشركين تنهل من نحورهم وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين إلا عشرة أو نحوهم وقفوا يدرءون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحولون دون الوصول إليه، هنالك جاء دور نسيبة، فانتضت سيفها واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، وحولها من الغر المذاويد علي وأبو بكر وعمر وسعد وطلحة والزبير وعباس وولداها وزوجها، فكانت من أظهر القوم أثراً وأعظمهم موقفاً، كانت لا ترى الخطر يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون سداده وملء لهوته، حتى قال: عليه الصلاة والسلام (ما التفت يمينا ًولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني). وكان ضمرة بن سعيد المازني يحدث عن جدته -وكانت قد شهدت أحداً- أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لمقام نسيبة بنت كعب خير من مقام فلان وفلان). وكانت تراها يومئذ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً، وكانت تقول: (إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة -تعني أن هذا الكافر ضربها على عنقها ضربة ظلت جرحاً تتداوى منه سنة كاملة- ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد. فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم) رضي الله عنها ورحمها. تقول أم عمارة: رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة، أنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً ومعه ترس، فقال: ألق ترسك إلى من يقاتل. فألقاه فأخذته، فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم إن شاء الله. تقول: غلبنا من كانوا يركبون الخيول من الكفار، لكن لو كانوا يقاتلوننا على الأرض كما نفعل نحن لأصبناهم إن شاء الله. فتعتذر عن شدة القتال بأن الكفار كانوا أصحاب خيل. ثم تقول: فيقبل رجل على فرس فيضربني، وترست له فلم يصنع شيئاً وولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا ابن أم عمارة! أمك أمك، لما وقع ذلك الرجل من الفرس، قالت: فعاونني عليه أي أن ابنها عاونها على ذلك الكافر، تقول: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب)، وشعوب اسم من أسماء الموت كالمنية، أي: أوردته موارد الموت والهلكة. يقول عبد الله بن زيد: (جرحت يومئذ جرحاً، وجعل الدم لا يرقأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعصب جرحك. فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقوها، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلم واقف، وبعدما ربطت جرحي قالت: انهض بني فضارب القوم. وجعل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟! فأقبل الذي جرح ابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك. قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى رأيت نواجذه، وقال: استقدت يا أم عمارة -يعني: أخذت القود والقصاص من ضارب ولدك- تقول: ثم أقبلنا نعله بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أظفرك) ويقول عبد الله بن زيد بن عاصم أيضاً: (شهدت أحداً، فلما تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دنوت منه أنا وأمي نذب عنه، فقال: ابن أم عمارة! قلت: نعم. قال: ارم فرميت بين يديه رجلاً بحجر وهو على فرس، فأصبت عين الفرس، فاضطرب الفرس فوقع هو وصاحبه، فجعلت أعلوه بالحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، ونظر إلى جرح أمي على عاتقها فقال: أمك أمك، اعصب جرحها، اللهم! اجعلهم رفقائي في الجنة. فبعدما سمع هذا الدعاء قال: قلت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا). وكان لأم عمارة ولدان: أحدهما: عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الذي حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قتل يوم الحرة، والثاني: حبيب بن زيد بن عاصم الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام رسولاً إلى مسيلمة الكذاب، فكان مسيلمة يقول له: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول له: لا أسمع. فيقول: وما تقول في محمد؟ يقول: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقطع جسده عضواً عضواً ليرتد عن دينه، لكنه لم يرتد حتى مات تحت العذاب وهو ثابت على دينه. وبلغها مقتله فاحتسبته عند الله، وأقسمت أن تقاتل مسيلمة حتى يقتل أو تقتل، فذهبت إلى اليمامة واشتركت في الموقعة التي قتل فيها مسيلمة، وأبلت بلاءً حسناً حتى قطعت يدها، ثم عادت من المعركة بيد واحدة، واستمر جرحها ينزف دماً حتى أدركتها الوفاة رضي الله تبارك وتعالى عنها.

موقف أم إبراهيم في دفع ولدها للجهاد والاستشهاد

موقف أم إبراهيم في دفع ولدها للجهاد والاستشهاد وحديث النساء المجاهدات يطول جداً، لكن نقتصر نختم بهذه القصة التي رواها صاحب (فكاهة الأذواق من مشارع الأشواق في فضائل الجهاد). يقول: كان بالبصرة نساء عابدات، وكان منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فانتدب الناس للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد أحد الأئمة البصريين في الناس خطيباً، فحضهم على الجهاد، وكانت أم إبراهيم هذه حاضرة مجلسه، وتمادى عبد الواحد في كلامه مرغباً الناس في الجهاد، ثم ذكر الحور العين وذكر ما قيل فيهن، وكان مما قال في وصف حوراء: غادة ذات دلال ومرح يجد الناعت فيها ما اقترح خلقت من كل شيء حسن طيب فالليث فيها مطرح زانها الله بوجه جمعت فيه أوصاف غريبات الملح وبعين كحلها من غنجها وبخد مسكه فيه رشح ناعم يجري على صفحته نضرة الملك ولألاء الفرح أترى خاطبها يسمعها إذ تدير الكأس طوراً والقدح في رياض مونق نرجسها كلما هبت له الريح نفح وهي تدعوه بود صادق ملئ القلب به حتى طفح يا حبيباً لست أهوى غيره بالخواتيم يتم المفتتح لا تكونن كمن جد إلى منتهى حاجته ثم جمح لا فما يخطب مثلي من سها إنما يخطب مثلي من ألح فماج الناس بعضهم في بعض واضطرب المجلس، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس، وقالت لـ عبد الواحد: يا أبا عبيد! ألست تعرف ولدي إبراهيم ورؤساء أهل البصرة يخطبونه على بناتهم وأنا أضن به عليهن؟ فقد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فكرر ما ذكرت من حسنها وجمالها. فأخذ عبد الواحد في وصف حوراء ثم أنشد: تولد نور النور من نور وجهها فمازج طيب الطيب من خالص العطر فلو وطأت بالنعل منها على الحصى لأعشبت الأقطار من غير ما قطر ولو شئت عقد الخصر منها عقدته فغصن من الريحان ذي ورق خضر ولو تفلت في البحر شهد رضابها لطاب لأهل البر شرب من البحر يكاد اختلاس اللحظ يجرح خدها بجارح وهم القلب من خارج الستر فاضطرب الناس أكثر، ووثبت أم إبراهيم وقالت لـ عبد الواحد: يا أبا عبيد! قد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فهل لك أن تزوجه منها هذه الساعة وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة فلعل الله يرزقه الشهادة، فيكون شفيعاً لي ولأبيه في يوم القيامة؟ فقال لها عبد الواحد: لأن فعلت لتفوزن أنت وولدك وأبو ولدك فوزاً عظيماً. ثم نادت ولدها: يا إبراهيم، فوثب من وسط الناس وقال لها: لبيك يا أماه قالت: أي بني! أرضيت بهذه الجارية زوجة ببذل مهجتك في سبيله وترك العود في الذنوب؟ فقال الفتى: إي والله -يا أماه- رضيت أي رضا. فقالت: اللهم! إني أشهدك أني زوجت ولدي هذا من هذه الجارية ببذل مهجته في سبيل الله وترك العود في الذنوب، فتقبله مني يا أرحم الراحمين. ثم انصرفت فجاءت بعشرة آلاف دينار وقالت: يا أبا عبيد! هذا مهر الجارية تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله تعالى. وانصرفت فابتاعت لولدها فرساً جيداً، واستجادت له سلاحاً، فلما خرج معه عبد الواحد خرج إبراهيم يعدو إلى الجهاد، والقراء حوله يقرءون: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. قال: فلما أرادت فراق ولدها دفعت إليه كفناً وحنوطاً. -والحنوط: الطيب الذي مع الكفن- وقالت له: يا بني! إذا أردت لقاء العدو فتكفن بهذا الكفن وتحنط بهذا الحنوط، وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمته إلى صدرها وقبلته بين عينيه، وقالت له: يا بني! لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة. قال عبد الواحد: فلما بلغنا بلاد العدو ونودي في النفير وبرز الناس للقتال برز إبراهيم في المقدمة، فقتل من العدو خلقاً كثيراً، ثم اجتمعوا عليه فقتل. قال عبد الواحد: فلما أردنا الرجوع إلى البصرة قلت لأصحابي: لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء؛ لئلا تجزع فيذهب أجرها. قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقوننا، وخرجت أم إبراهيم فيمن خرج. قال عبد الواحد: فلما نظرت إلي قالت يا أبا عبيد! هل قبلت مني هديتي فأهنأ أم ردت علي فأعزى؟ فقلت لها: قد قبلت هديتك، إن إبراهيم حي مع الأحياء يرزق. قال: فخرت ساجدة لله شكراً وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب ظني وتقبل نسكي مني. وانصرفت، فلما كان من الغد أتت إلى مسجد عبد الواحد فنادت: السلام عليك يا أبا عبيد! بشراك، فقلت: لا زلت مبشرة بالخير. فقالت له: رأيت البارحة ولدي إبراهيم في روضة حسناء وعليه قبة خضراء وهو على سرير من اللؤلؤ وعلى رأسه تاج وإكليل وهو يقول: يا أماه! أبشري فقد قبل المهر وزفت العروس. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

أهمية الوقت

أهمية الوقت إن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان نعمة الفراغ، وكثير من الناس مغبون في هذه النعمة التي لا يمكن أن تستوعب وصفها الأقلام والكتب؛ ولذلك أقسم الله بأجزاء من الوقت في غير ما آية من القرآن الكريم. فالعاقل من عرف شرف زمانه، وانقضاء أيامه، فدفعه ذلك إلى استغلال وقته بأحسن ما يمكن من الأعمال، وأفضل ما يستطيعه من الطاعات والقربات.

قيمة الوقت في حياة المسلم

قيمة الوقت في حياة المسلم إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فأعظم ما يؤثر في الإنسان بيئته، ولا يرتفع تأثير البيئة عن الإنسان إلا بعامل أقوى، وهو عامل (العقيدة) أو (الدين)، فأقوى ما يؤثر في الإنسان الوسط أو الجو الفكري أو البيئة التي يعيش فيها. فالبيئة إن شاع فيها النظام التزم الجميع بالنظام، وإن شاعت فيها الفوضى فالأمر كذلك، والعامل الأقوى من تأثير البيئة، وهو العامل الوحيد الذي يلغي تأثير البيئة ويسيطر على الإنسان: هو عامل العقيدة، فالعقيدة هي التي تقضي على التأثيرات المنحرفة لهذه البيئة. هذه المنطقة التي تضم الأمة الوسط -وهي الأمة الإسلامية- شرقاً وغرباً، يذكر المؤرخون أنها عُرفت بالفوضى والتخلف والجهل، ولم يرتفع شأنها، ولم يكن لها ذكر إلا بتأثير العامل الأقوى من البيئة وهو عامل العقيدة، حينما أنزل الله عز وجل هذا الكتاب الذي قال فيه سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]. فالقرآن فيه الرفعة، وفيه الفوز، وفيه القوة، وفيه الكرامة، فلم يزل وصف التخلف والمذلة والفوضى والهمجية عن الأمة التي تعيش في هذه المنطقة إلا حينما بزغ فيها فجر العقيدة والتوحيد، فكانت خير أمة أخرجت للناس. فهذه سنة الله سبحانه وتعالى في هذه الأمة خاصة، فإنها إذا تخلت عن العقيدة عادت إلى التأثير الأصلي للبيئة، وهو تأثير الفوضى والهمجية والتخلف، ولا يرتفع عنها هذا الوصف إلا بالعودة إلى الإسلام، وليس لها عز في غيره، كما قال عمر رضي الله عنه: إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العز في غيره أذلنا الله. فإذا ابتغت هذه الأمة النهوض والإصلاح في أي منهج خلاف منهج الإسلام، فاحكم عليه مسبقاً بأنه فاشل، وإلى ضياع، وإلى خراب، وإلى فساد. فنقدم هذه المقدمة بين يدي هذا البحث، والوقت من الأمور المهمة، إذ إن قيمة الوقت عظيمة، وينبغي معرفة حقيقة الوقت، وخطورته في حياة المسلم، هذه القيمة لو عرفناها حق معرفتها، وقدرناها حق قدرها؛ لاحتجنا إلى أن ترضعها الأمهات مع لبن الأطفال؛ حتى يتشربها الجيل، وتؤسس الأمة على هذا المفهوم الخطير الذي إذا انحرفت فيه كان الخسران، وكان الضياع للأمة، كما نرى الآن في الإحصائيات الأخيرة أن المدة التي يستغلها العامل المسلم في الإنتاج: سبع وعشرون دقيقة في اليوم أي: أقل من نصف ساعة!! فطالما استمرت هذه الأمة بعيدة عن الإسلام فلا يمكن أن تنهض، وهذه العقيدة لا تزعزع ولا تتقلب، وهذه كلها سنن من الله سبحانه وتعالى. كل منا يمر برحلة على هذه الأرض، يقطع رحلة لابد له منها، هذه الرحلة بدايتها لحظة الميلاد، ونهايتها ساعة الموت ومغادرة هذه الدار إلى الدار الآخرة. هذا الوقت ما بين ساعة الميلاد وساعة الموت هو العمر هو الزمن هو الدهر هو الوقت الذي خصه الله عز وجل بخصائص وصفات ليست في غيره من الأشياء.

خصائص الوقت

خصائص الوقت

الوقت من أنفس النعم التي أنعم الله بها على الإنسان

الوقت من أنفس النعم التي أنعم الله بها على الإنسان من أراد أن يعرف خطر الوقت وقيمته، فليتخيل رجلاً عاش ستين سنة مثلاً في معاصٍ، وفي فواحش، وفي كبائر، وفي كفر والعياذ بالله! ثم تاب في اللمحة الأخيرة قبل أن تأتيه الغرغرة، ثم قبض من ساعته بعد التوبة النصوح، فإنه بهذه اللحظات القليلة القصيرة التي تاب فيها يغفر له الله ما قد سلف: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، فانظر إلى شرف الوقت وخطورة الوقت! لحظات تاب فيها إنسان فهدمت كل علاقة له بماضيه الطويل في الكفر والفسوق والعصيان. وهذا يدل على أنه من التقصير في حق الوقت أن نقول: الوقت من ذهب، لماذا؟ لأن الوقت أغلى من الذهب الوقت هو الحياة هو أنفاسك: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] العد: عدد الأنفاس التي قدر لك أنك ستتنفسها من هذا الهواء، فآخر هذا العدد خروج روحك وانقطاع نفسك، وهذا هو العدد الذي يعد لكل منا، وهو مكتوب لكل إنسان بقدره. فأول خصائص الوقت: أنه أنفس نعمة وأعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على الإنسان، فتراه أرخص ما يكون عند الجهال، وتراه أغلى ما يكون عند العلماء والعقلاء. وقيمة الوقت قضية تحتاج إلى أن ترضع للأطفال مع لبن الأمهات إذا أردنا الإصلاح فعلاً وأردنا التربية الصحيحة. هناك لحظتان مما يجسد قيمة الوقت وخطورته: اللحظة الأولى: لحظة الاحتضار حينما يحتضر الإنسان وتخرج روحه ويقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] حينئذ ما من إنسان يأتيه ملك الموت إلا ويود لو أنه يمهل ولو قليلاً حتى يتزود من العمل الصالح، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]. اللحظة الثانية التي تتجلى فيها قيمة الوقت وخطورته: حينما يأوي أهل الجنة إلى منازلهم، ويأوي أهل النار إلى منازلهم، ويرتفع صراخ أهل النار: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]. يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (يا ابن آدم! إنما أنت أيام) أي: لست جسداً قوياً، ولست مالاً، لكنك تساوي أيام، أي: تساوي زمناً وأوقاتاً، ولم يقل: إنما أنت سنوات؛ إشارة إلى قصر العمر، وأنه سرعان ما يمر: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قليلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114]. (يا ابن آدم! إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك) كل يوم ينقص منك، ويقل حظك من الدنيا، ومن هنا فلنا أن نرثي لحال هؤلاء القوم الذين يحتفلون كلما مرت بهم سنة بما يسمى بدعة عيد الميلاد، لا يمكن لمؤمن يؤمن بالقضاء والقدر أن يسمي عيد الميلاد عيداً فضلاً عن أن يحتفل به بالطريقة المعهودة المشابهة لطريقة المشركين؛ لأن المؤمن يصدق بأنه حينما كان جنيناً في بطن أمه، وبعد أن مر عليه في بطن أمه عشرون ومائة يوم يأتيه الملك، فيؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب: هل هو ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟ فيكتب الأجل لكل نفس لها أجل مقدور عند الله سبحانه وتعالى منذ الأزل. فكل إنسان له كمية من الأيام، وكمية من العمر، وعدد محدود من الأنفاس، فكل زفير وشهيق معدود، وكل إنسان له رزق مقسوم من هذه الحياة، وكلما امتد العمر كلما نقصت هذه الكمية التي أحصاها الله سبحانه وتعالى من الأنفاس، ولا ندري نحن بحقيقتها. فأنت بتقدم السنوات تزداد اقتراباً من القبر، وفي الحقيقة عمرك ينقص وليس يزيد؛ لأنك تؤمن بالقدر، وتصدق خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما مضى يوم كلما ذهب بعض منك، وكلما نقص عمرك كلما زاد اقترابك من حفرتك. ولكي ندرك قيمة الوقت، علينا أن نتأمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في يوم الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئاً من أمر الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه إياه)، والقول الراجح الذي يدل عليه الحديث أنها آخر ساعة بعد صلاة العصر، وهي ساعة قصيرة قبل غروب الشمس يوم الجمعة. من يستطيع أن يعيد لحظات من هذا اليوم الذي انصرم؟ ما ولى لا يمكن أن يعود، وهذا يؤكد خطورة الوقت، وأهمية المحافظة على الوقت. سمعنا كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى الذي عاصر كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال فيه بعض السلف: ذلك الرجل الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء! مع أنه من التابعين، لكنه آتاه الله الحكمة، قيل: إن سبب ذلك أنه رضع من أم سلمة رضي الله تعالى عنها؛ فكلامه يشبه كلام الأنبياء، حتى إن كثيراً من الناس يحفظون عبارات يظنونها أحاديث وما هي إلا عبارات نطق بها الحسن البصري رحمه الله تعالى. قال الحسن: أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه! كانوا يبخلون بالوقت أكثر مما يبخلون بالدرهم والدينار؛ لأن العمر إذا ضاع فات ولن يعوض، والدرهم إذا ارتحل يوماً يمكن أن تعوضه في يوم آخر. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يداً ولم أقتبس علماً فما ذاك من عمري فهذا اليوم الذي لم أجد فيه قرباً من الله، ولم أصنع يداً أو معروفاً، ولم أكتسب فيه علماً جديداً، فلا يحتسب ذلك اليوم من عمري!! وكان الوزير ابن هبيرة -وهو شيخ الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى- يقول: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيعُ إذاً: أول خصيصة من خصائص الوقت: أنه من أعظم النعم التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على الإنسان؛ لأن الوقت هو الحياة.

الوقت ما مضى منه لا يعود

الوقت ما مضى منه لا يعود يقول الحسن البصري: ما من يوم ينشق فجره إلا ينادي: يا ابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة. ومما ينبغي التنبه له: أن مجرد اشتغالك بالندم على وقت ضيعته من قبل، يعتبر تفويتاً للحظة الحاضرة التي أنت فيها، فلا ينبغي أصلاً أن تنشغل بالندم على وقت فات، بل عمِّر هذا الوقت بالأعمال الصالحة، والتزود للمعاد. قال الإمام الهروي في ذكر أنواع الغيرة: منها: الغيرة على وقت فات، فيتذكر وقتاً ضاع منه في اللهو في العبث في الإفراط؛ فيضيع لحظته الحاضرة في التندم والتأسف على اللحظة الفائتة، فهذه غيرة قاتلة، فإن الوقت سريع التقدم -أي: سريع الانقضاء- أبي الجانب، بطيء الرجوع. فمن فاته وقت لا يمكنه استدراكه البتة؛ لأن الوقت الآتي لن يجيء بدون واجبات، فكلما أتى وقت جاء معه عمله الخاص، فإذا فاتتك اللحظة الماضية فلا سبيل إلى تداركها، كما جاء في المسند مرفوعاً -وإن كان الحديث ضعيفاً-: (من أفطر يوماً من رمضان متعمداً من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر وإن صامه). ومما ثبت في نفس هذا المعنى قول أبي بكر رضي الله عنه لـ عمر رضي الله عنه حين استخلفه: إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، ولله حق في الليل لا يقبله في النهار. وقال عمر رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة. بعض الناس يقول: نحن نقتل الوقت! هو في الحقيقة يقتل نفسه هو ينتحر انتحاراً بطيئاً دون أن يشعر! يقول بعض الشعراء: وما المرء إلا راكب ظهر عمره على سفر يفنيه باليوم والشهر يبيت ويضحي كل يوم وليلة بعيداً عن الدنيا قريباً من القبر

من خصائص الوقت: سرعة انقضائه

من خصائص الوقت: سرعة انقضائه يقول بعض الشعراء: مرت سنين بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيامُ ثم انثنت أيام هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوامُ ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلامُ! فما دام الموت نهاية كل حي، فمهما طال عمر الإنسان فهو قصير، فإن البعيد ما ليس بآتٍ، لكن كل ما هو آتٍ فهو قريب، يقول بعضهم: وإذا كان آخر العمر موتاً فسواء قصيره والطويلُ ومما يروى في الآثار: أن نوحاً عليه السلام أتاه ملك الموت، فقال له: يا أطول الأنبياء عمراً -عاش ألف سنة- كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر!! يقول الله عز وجل -مشيراً إلى سرعة انقضاء الوقت-: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46]، كل عمر الدنيا هذا كأنه عشية أو ضحاها!! ويقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45]. فالمقصود: أن هذه الخصائص المهمة للوقت لابد من تذكرها، وعدم الالتفات إلى قول البعض بأنهم يقتلون الوقت، وما هو إلا انتحار بطيء كما ذكرنا. وأيضاً: لابد أن ننتبه إلى أنه لا يوجد شيء اسمه فراغ؛ لأن الفراغ لا يبقى فراغاً، لكنه لابد أن يملأ بخير أو بشر، ويوضح هذا قول الحسن البصري: نفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل. فإذا كان هناك إنسان فارغ فلابد أن ينشغل، فإن لم يبادر ويشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل. قال بعض السلف: الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غلمة، أي: يحرك الشهوات. وقال بعضهم: إن الشباب والفراغ والجِدَة مفسدة للمرء أي مفسدة فهذه معادلة، ومعنى الجدة أي: توافر المال ويسر الحال، فهذه الأمور الثلاثة تساوي: مفسدة للمرء أي مفسدة. وقال آخر: لقد هاج الفراغ عليه شغلاً وأسباب الفراغ من البلاءِ أي: تسبب له في أن تعلق قلبه بالشهوات وأحلام اليقظة!

الوقت في القرآن والسنة

الوقت في القرآن والسنة

الوقت في القرآن الكريم

الوقت في القرآن الكريم نقف مع بعض النصوص التي تبين قيمة الزمن، من القرآن ومن السنة: يقول الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:12]، وقال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33]، وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12]، وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62] (خِلْفة) أي: يخلف أحدهما الآخر، فمن فاته عمل في أحدهما حاول أن يتداركه في الآخر، هذا هو المقصود من كلمة: (خلفة) أي: يخلف الليل النهار، ويخلف النهار الليل، بحيث من فاته عمل الليل حاول أن يتداركه ويعوضه في النهار، وهكذا. أيضاً: معلوم أن الله سبحانه وتعالى إذا أقسم بشيء من خلقه، فإنما يقسم سبحانه به ليلفت نظر الخلق إلى أهمية هذا الشيء، وينبههم على منفعته وآثاره، فأقسم الله سبحانه وتعالى بأزمان وبأوقات معينة؛ ليدل على شرف هذا الزمان؛ لأنه آية من آيات الله، ونعمة من نعم الله على الإنسان، قال سبحانه وتعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، فأقسم الله بالفجر وليال عشر، وهذه أزمنة وأوقات. وقال سبحانه وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2]. وقال عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]. وأقسم سبحانه وتعالى بما هو أعم من ذلك، وهو العصر (الزمن والدهر)، فقال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. فالمقصود بالعصر هنا: الدهر أو الزمن؛ وذلك لشرفه وقيمته، فالله سبحانه وتعالى يقسم بالعصر؛ لأنه لا شيء أنفس من العمر، وفي تخصيص القَسَم بالعصر إشارة إلى أن الإنسان يضيف المكاره والموارد إليه، وبعض الناس حينما يسبون الدهر يقولون: يا خيبة الدهر! يا ويل الدهر! فالله سبحانه وتعالى يقسم به ليبين أن العيب فيكم، ويحل بكم العقاب بسبب أعمالكم أنتم، وليس للدهر شأن في ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر). فالمقصود: أن الله أقسم بالدهر؛ ليبين شرفه ومكانته، وأنه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى وآياته، فمن ذم الدهر فلتفريطه في جنب الله، وليس لأن الدهر هو السبب في ذلك. يقول الإمام الرازي في هذه الآية: إن الدهر مشتمل على الأعاجيب؛ لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، فلو ضيعت ألف سنة، ثم تبت في اللمحة الأخيرة من العمر لكنت في الجنة أبد الآباد! فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في هذه اللمحة، فكان الدهر والزمان من أعظم النعم. جاء في الحديث الصحيح: أن مشركاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وشهد الشهادتين، ثم لم يلبث أن نودي للجهاد، فخرج في الغزوة فقتل فدخل الجنة، فهذا رجل امتد عمره في الشرك والكفر، فأتى تائباً وأسلم، وشهد الشهادتين، ولم يُصلّ حيث لم يأت عليه وقت صلاة؛ لأنه أسلم منذ لحظات، فبمجرد أن أسلم خرج للجهاد، فقتل في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً). فهذا العصر وهذا الزمن بمضيه ينتقص العمر، فإن لم يكن في مقابله انتقاص العمر كسب وأعمال صالحة، صار ذلك النقصان هو عين الخسران!! ولذلك قال سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، فالأصل أن كل بني آدم خاسرون، واستثنى هؤلاء الطائفة المهدية: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]. وهناك آيات أخر تؤكد هذا المعنى، ومنها قول الله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} [فاطر:37]، وذلك حينما يتمنى أهل النار الخروج كما قال الله عنهم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيجيبهم الله بأنه امتن عليهم بنعمة العمر ونعمة الوقت، ولكنكم ضيعتموها: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]، وقال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، لكنه يقين لا يفيد، ولات حين مندم. وقال عز وجل: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:52]، كيف إذا أتاهم الموت يطلبون الإيمان، ويقولون: آمنا؟! فهم كحال الشخص الذي يتناول شيئاً من مكان بعيد، فهل يقع في يده وهو بعيد عنه؟! كذلك هُم بعيدون من التوبة، وبعيدون من الإيمان في مثل هذا الموقف، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] ليس المقصود: ما يشتهون من الشهوات، والأطعمة، والأشربة، والأنكحة، ونحو هذه الأشياء!! لكن المقصود أنه في حالة احتضار الكفار حيل بينهم وبين ما يشتهون من التوبة، ومن الرجوع ليستدركوا ما فاتهم. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54]، فالدنيا دار امتحان، والآخرة دار ظهور نتائج، فالإنسان في هذه الدار في حالة امتحان، وكل إنسان آتاه الله سبحانه العقل، وفطره على الإسلام، وقد أقام الله في السماوات والأرض آيات وبراهين واضحة على وحدانيته سبحانه وتعالى، وأرسل الله الرسل، وضمن للعباد ألا يعذبهم حتى يأتيهم الرسل، فجاء الرسل: {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، ومع ذلك غرتهم الحياة الدنيا، وفرحوا بما عندهم من العلم، فهم {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظريّ جوّاظ، صخّاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)، وهذا حال أكثر الناس في هذا الزمن، قد اغتروا بما لديهم من قوة، ومن علم، ومن بيوت، ومن أموال، ونسوا هذه الحقيقة، ونسوا ما ينتظرهم من الحساب، وهؤلاء أنفسهم سوف يصطرخون إن لم يتوبوا ويقولون: (ربنا أخرجنا)، ويقولون: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:102]، فيجابون: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. ومن شرف الوقت أن السعداء -أهل الجنة- يقطفون ثمرة الوقت، ثم يقال لهم في الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، وتأملوا كلمة: (الأيام) فهي الوقت والزمان الذي تعيشون أنتم فيه الآن. أما الأشقياء فيقال لهم في النار: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75]. من أجل ذلك أمر الله المؤمنين بالتنافس في هذا المضمار، والمسابقة والمسارعة في الخيرات؛ لأن الإنسان يجري والموت يجري وراءه، ولابد أن يدركه كما في الحديث: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من أجله لأدركه رزقه كما يدركه الموت). فأجلك يعدو خلفك، وسيلحقك في موعد محدد، لا يفرق بين جنين في بطن أمه، ولا يفرق بين صبي لم تكتب عليه خطيئة، ولا بين شيخ وشاب، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين مسلم وكافر، ولا بين صالح وطالح: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]. فمن أجل ذلك، ومن أجل خطورة الوقت، كان التعبير دقيقاً في هذه الآيات التي نتلوها، قال الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، انظر كلمة: الاستباق: (فاستبقوا الخيرات) أي: ابذلوا أقصى ما في وسعكم لتحصيل ما أمكنكم من الخيرات. ويقول الله عز وجل في مدح الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]. ويقول عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وليس المقصود الجري، إنما المقصود: المسارعة إلى الأعمال الصالحة، أما في الأمور المضمونة كالرزق، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]، وأما في أمور الآخرة فقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، وقال سبحانه وتعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأ

الوقت في السنة النبوية

الوقت في السنة النبوية الأدلة من السنة كثيرة على أهمية الوقت، ومنها ما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء) أهل الجنة في النعيم، والسلامة من التنغيص والآلام والنكد، فما هو الشيء الوحيد الذين يتحسرون عليه؟ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء، إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -أي: نخلة صغيرة- فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل) هل هناك دليل يدل على عظمة الوقت أكثر من هذا؟ حتى لو أذن الله بخراب الدنيا وقيام الساعة، وبدأ إسرافيل بالنفخ في الصور ليقضي على كل مظاهر الحياة في الكون، فمع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يقوم بحق الوقت الحاضر، ويعيش اللحظة الذي هو فيها، ويقطع النظر عن الماضي، فلا يفوت وقته الحاضر بالتندم والتحسر على الماضي، ويقطع نظره أيضاً عن المستقبل، حتى لو كان هذا المستقبل لحظة، أو جزءاً يسيراً جداً من اللحظة يوشك بعده أن تقوم الساعة وينفخ في الصور. وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غداً، فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسنها -يعني: أحلف عليك لابد أن تحرث الأرض وتزرعها-، يقول: فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي. ويحكون عن كسرى فارس أنه خرج يوماً يصطاد، فوجد شيخاً كبيراً يغرس شجر الزيتون -وشجر الزيتون يثمر بعد ما يقارب ثلاثين سنة-، فوقف عليه وقال له: يا هذا! أنت شيخ هرم، والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة، فلم تغرسه؟ فقال: أيها الملك! زرع لنا من قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا ليأكلوا! فحتى لو كنت أنت لم تحصد هذه الثمرة، فكما حصدت ثمرة من غرس من قبلك، فاغرس لمن بعدك. وقصة عمر رضي الله عنه في قصته مع خزيمة بن ثابت رضي الله عنه تبين لنا خطورة الزمن والوقت. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة) أي: لا ينطلق من بين يدي الله سبحانه وتعالى إلا بعد الحساب، إذ لابد لكل إنسان أن يحاسب، ويسأل أسئلة إجبارية وليست اختيارية: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به). فتأمل! أربعة أسئلة إجبارية، منها سؤالان في مادة الوقت في مادة الزمن: (عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) مع أن الشباب يدخل في العمر! لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم الشباب؛ لما له من قيمة متميزة، باعتباره سن الحيوية، وسن القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة. فالشباب هو سنّ الثبات، وسنّ العمل، وسن التحصيل، بعكس ما يفهم بعض السفهاء في هذا الزمان، فيقول: تمتع بشبابك! أنت ما زلت في مقتبل العمر! وإذا أردت أن تمنع نفسك من اللهو، والفسق، والمعاصي المنتشرة قال لك: أنت ما زلت شاباً! ويقال للمرأة: تحجبي، فتقول: أنا ما زلت صغيرة! ما زلت شابة! حتى أكبر! مع أن المرأة العجوز لا تشتهى، ولا يسمع في الغالب أنها تفتن أحداً، فكأنهم قلبوا معنى الآية، وهذا من تلبيسات الشيطان على الناس. وبعض الناس يقول: ساعة لقلبك، وساعة لربك! فعندهم: ساعة لربك أي: نعبد ربنا، ونصلي، ونفعل ما علينا!! وساعة لقلبك، أي: يعصي الله فيها! فكأنها نوع من المعادلة، فيقسمون الوقت ساعة لربهم، وساعة لشيطانهم! فمن تلبيس الشيطان على الناس أن يظن بعضهم أن فترة الشباب فترة العبث واللهو، وبعدما يعجز يتوب!! يقول بعض الشعراء: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيبُ عبر بـ: (ليت) التي فيها تمني المستحيل؛ لأن (كل داء أنزله الله له دواء إلا الهرم) أي: الشيخوخة، فلا يعود الشباب أبداً، فهذه أعظم فرص التحصيل، وهي فرصة الشباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً؟ {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83] يعني: ذرية من الشباب، وأصحاب الكهف كانوا من الشباب: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف:10]، وتقول حفصة بنت سيرين رحمها الله: يا معشر الشباب! خذوا من أنفسكم وأنتم شباب؛ فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب. الطفل لا يعمل، والعجوز لا يقوى على ما يقوى عليه الشباب. ومن الأحاديث التي تبين قيمة الوقت: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، والغبن: أن يشتري الإنسان السلعة بأضعاف الثمن، أو يبيع بدون ثمن المثل، فالإنسان إما بائع أو مشتري، فإذا اشترى شيئاً بأضعاف ثمنه الحقيقي فقد غبن، وإذا باع شيئاً بأقل من سعر المثل فقد غبن، أي: في الحالتين تحصل خسارة. فهاتان نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، إذ إن رأس مال الإنسان في هذه الدنيا أمران: الصحة، والفراغ -الوقت-، فالصحة ضيف عابر يعقبها السقم، والفراغ يعقبه الشغل، فمن جمع الله له هاتين النعمتين فوضعهما في موضعهما فهو المغبوط على هذا، وإلا فهو المغبون مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) أي: أدرك هذه الغنيمة، ولا تدعها تهرب منك؛ فإنها ضيف عابر ينزل عليك ثم سرعان ما يخلفه غيره: (شبابك قبل هرمك)، فاغتنم شبابك؛ لأنه وقت الطاعات، ووقت تحصيل الأعمال، (اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة) رواه البخاري، الإعذار: إزالة العذر، والمعنى: أن هذا الشخص لم يبق له عذر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمهله، أنت كلما نمت واستيقظت هذه نعمة؛ لذلك كان عليه الصلاة والسلام أول ما يستيقظ يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ويقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافني في جسدي، وأذن لي بذكره)، فهذه الروح تخرج عند النوم، لأن النوم أخو الموت، وهو الموتة الصغرى، فتخرج هذه الروح من البدن بكيفية معينة الله يعلمها، فأنت في حالة النوم ميت، فالنوم شقيق الموت، فإذا خرجت روحك فمن يعيدها إليك؟ الله سبحانه وتعالى. إذاً: الله يمن عليك كل يوم بأن يرد إليك روحك ليمهلك، ويستعتبك، ويعطيك فرصة، فمن أعظم النعم أنك ترى نفسك في الصباح ما زلت حياً، فهذه فرصة جديدة تفتح لك الأبواب: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار)، فنعم الله سبحانه وتعالى لا تنفد، ونعمه على العباد لا تنقطع، ولا تعد ولا تحصى، فهذه من أعظم النعم عليك؛ لأنه كان من الممكن أن يأخذ روحك، وما أكثر ما نسمع عن إنسان نام فلم يقم!! تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري فهذا الحديث مما يبين خطورة الوقت؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا أمهل الإنسان، ومد له في عمره حتى بلغه ستين سنة، فليس له عذر عند الله، ولم يبق له أي موضع اعتذار إذا تمادى في المعاصي، (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة). ولعل هذه هي الحكمة من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك) (أعمار أمتي) أي: أغلب هذه الأمة أعمارها تكون بين الستين والسبعين، (وأقلهم من يجوز ذلك)، فهذه من منن الله على هذه الأمة أن يمهل لهم، ويمد لهم في الأجل حتى يتوبوا. ومما يبين قيمة الوقت أيضاً من السنة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مر مع الصحابة رضي الله عنهم على قبر، فوقف، وقال لهم: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدهما هذا في عمله، أحب إليه من بقية دنياكم)، (ركعتان خفيفتان مما تحقرون) تصلي ركعتين وتقول: هذه طاعة يسيرة (مما تحقرون وتنفلون) أي: نافلة وسنة، (يزيدهما هذا الرجل في عمله) أي: يتمنى لو يخرج إلى الدنيا فقط ليصلي ركعتين، ويعاد في القبر، يتمنى أن ينتهز هذا الزمن اليسير -خمس أو ثلاث دقائق- ليصلي ركعتين، وهذا أحب إليه من بقية دنياكم. ولما بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده من الجريد وسعف النخل، قيل له: (يا رسول الله! هلا اتخذت لبناً؟ -أي: هلا بنيت المسجد من الطوب؟ - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عريش كعريش موسى، ثمام وخشبات، والأمر أعجل من ذلك)!! وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) (أدلج) يعني: مشى بالليل، كان الناس من قبل يسافرون على الدواب والجمال والخيول ونحوها، فكان إذا خاف الإنسان ألا يصل إلى البلدة التي يسافر إليها في الموعد، فلا ينام بالليل، ويظل يدلج، أي: يسير في الليل. فيقول النبي عليه الصلاة وا

أسباب ضياع الوقت

أسباب ضياع الوقت

فضول المجالسة والمخالطة

فضول المجالسة والمخالطة فضول المجالسة والمخالطة، مثل ما يسمى بجلسات الدردشة، والآن التجارة يكاد يحتكرها النصارى، فكثير من المسلمين اليوم يقضون وقت فراغهم في أكل اللب الأصفر والأبيض والأحمر والحمص وهذه الأشياء التي تسمى تسالي، لا داعي للب وللحمص، هذه الأشياء عدوة الذكر، عدوة العلم، أنا ما أقول: إنها حرام، لكننا نستسهلها لأننا نعيش في فراغ، ولو أن الإنسان قرأ في جلوسه آية من القرآن لكان خيراً له، فالحرف الواحد بعشر حسنات. إذاً: هذا عمى في البصيرة، وقلة تفكر، ومن كان هذا حاله فإنه لا يفقه ولا يعقل، إذ كيف يضيع الساعات الطوال في سهرات أمام التلفزيون، ويقول لك: نقتل الوقت؟! وكذلك: الولائم الدعوات السياحة السفر كل هذه الأشياء يقتلون بها الوقت!! وما يقتلون إلا أنفسهم وما يشعرون! فضول المجالس مما يفسد الوقت، قال بعض السلف: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب. كيف كان احترام السلف للوقت؟ سنعجب إذا ذكرنا نماذج من ذلك، فلقد أصبحنا غرباء عنها تماماً. كان بعض العلماء إذا خرج إلى الخلاء أعطى ولده الكتاب، ويقول له: اقرأ علي. فيتعلم حتى في أثناء جلوسه في الخلاء؛ لأنه يحرم عليه أن يذكر الله وهو في الخلاء، فيجعل ولده يقرأ له حتى لا يضيع هذا الوقت!! الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا خرج من الخلاء: (غفرانك)، ماذا قال العلماء في تفسيرها؟ قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم تمنعه هذه الحالة من الاستغفار، وتمنعه من ذكر الله سبحانه وتعالى، وقد كان يداوم على الذكر في كل آناء الليل وأطراف النهار، فلما انقطع لسانه عن الذكر في هذه الحالة عدّ هذا من التقصير في جنب الله، فجبرها حينما خرج بقوله: (غفرانك) أي: اغفر لي هذا الانقطاع عن ذكرك في هذه اللحظات! فمن فضول المخالطة أن تعتكف في مجالس الدردشة على اللهو، والعبث، والفسق، والغيبة، والنميمة، وكل هذا الباطل الذي يقضي على الفراغ، وينبغي للمسلم ألا يكون عنده شيء اسمه: فراغ؛ لأنك إن لم تشغل نفسك بالحق ستشغلك نفسك بالباطل. يقول بعض السلف: شتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوام أحياء تموت القلوب برؤيتهم. فهناك قوم موتى قد دفنوا في التراب: من الصحابة من العلماء من السلف رضي الله عنهم، إذا ذُكروا تحيا القلوب بذكرهم وهم أموات!! وقوم أحياء تموت القلوب بمخالطتهم. ففضول المخالطة والهمجية في تضييع الوقت في مجالس الدردشة، والتسلية، والفكاهات، والنوادر، والمسرحيات، وغيرها؛ كل هذه الأشياء -حتى لو افترضنا أن فيها أشياء مباحة- من الخسران، فما بالك إذا انضم إليها الفساد، والفسق، والعصيان؟!

فضول الكلام

فضول الكلام فضول الكلام من أعظم ما يضيع الوقت، فإذا كانت الحاجة تنتهي بشيء يسير من الكلام، فلا داعي لإطالة الكلام، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).

فضول الطعام

فضول الطعام يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فالمؤمن يأكل من أجل أن يعيش، أما الكافر فيعيش ليأكل! ولو اطلعت على الكتب المتخصصة في كيفية صناعة الأطعمة، سترى الذين يعيشون للدنيا، عالمون بأمر الدنيا، جاهلون بأمر الآخرة: {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، تجد كل همه في الشهوات، والطعام في ذاته مجرد شهوة من الشهوات، فيعيش ليتنعم، ويعتبر التأنق في الطعام لذة من اللذات، فهمه أن ينظر إلى منظر الطعام، وهو مرتب بطريقة معينة بألوان معينة، وكأنه يعيش من أجل أن يأكل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد:12]، كما تأكل الأنعام لتسمن {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] لتأكل أجسادهم.

الانشغال بالمفضول عن الفاضل

الانشغال بالمفضول عن الفاضل لابد من معرفة مراتب الأعمال، فهناك أعمال لها مراتب، فهناك فاضل، وهناك مفضول هناك فرض، وهناك نفل، فمن التضييع والخسران أن الإنسان يشتغل بالعمل المفضول عما هو أفضل منه من الأعمال الصالحة، فهذا يحتاج لفقه دقيق في تحديد وظيفة الوقت. يقول الله عز وجل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، كلمة: (أحسنه) إشارة إلى هذا المعنى، وهو تقديم الفاضل على المفضول من الأعمال. يقول بعضهم: وإذا طلبت العلم فاعلم أنه حمل فأبصر أي شيء تحملُ وإذا علمت بأنه متفاضل فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل ومما ورد في السنة من بيان قيمة الوقت وخطورته حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعاً يتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته؛ فقال: ذكرت شيئاً من تبر عندنا -أي: قطع من الذهب من مال الصدقة- فكرهت أن يحبسني فأمر بقسمته)، يعني: خشيت أن يشغلني الفكر فيه عن الإقبال على الله عز وجل، فانظر كيف تعجل النبي صلى الله عليه وسلم إبراء ذمته من هذا المال؟! وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)، وهذه أيضاً مبادرة، خشية حضور الأجل، وانقطاع العمر.

التسويف

التسويف التسويف من آفات الوقت، وثمنه فادح، وهنا قاعدة: الأصل أن العمل المؤجل ضائع! فهذه قاعدة في أي مسلك يسلكه الإنسان، فالعمل المؤجل ضائع في الأصل، فالعاقل لا يؤجل العمل مطلقاً إلا عند الضرورة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

صفة الجنة والنار

صفة الجنة والنار لقد أمر الله الناس بالإيمان، ووعدهم على ذلك بالجنة، وحذرهم من الكفر والعصيان، وتوعدهم إن خالفوا شرعه بالنار، وقد جاءت في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تصف النار وما أُعد لأهلها من عذاب وأهوال؛ حتى يفزع الناس منها إلى الطاعة، كما جاءت نصوص كثيرة في وصف الجنة وما أعد الله لأهلها؛ حتى يدفع بالناس إلى المسارعة في الخيرات.

الإيمان بالجنة والنار وما يتعلق بهما

الإيمان بالجنة والنار وما يتعلق بهما الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا سدى، وإنما خلق كلاً منا لإحدى الدارين، ويستقر في أحد المستقرين، إما في جنة عرضها السماوات والأرض، وإما في نار أعدت للكافرين. التفكر في المستقبل دائماً يشغل بني آدم في فترة تواجدهم المحدودة في هذه الحياة الدنيا، لكن المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: (كيس فطن)، ومن كياسة المؤمن وفطانته أنه دائماً ينظر إلى المستقبل الحقيقي والنهاية الأبدية في جنة الرضوان، فهذا هو هدف المؤمن وهذا هو مستقبله، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة حينما سأله جبريل عليه السلام: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى). فأحد أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، واليوم الآخر يشمل الإيمان به عدة أمور لابد أن تجتمع في قلب كل مؤمن حتى يصح أن يوصف بأنه مؤمن بالله واليوم الآخر، فإن اليوم الآخر من الغيب الذي مدح المؤمنون بالإيمان به، ولا يمكن الإيمان بهذه الغيبيات إلا أن تكون صحيحة، ولا تكون صحيحة إلا بنسبتها إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. فيدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالقيامة الصغرى في حق كل إنسان وهي الموت، فمن مات قامت قيامته، وكذلك التصديق بأشراط الساعة، وبعلامات القيامة الكبرى والصغرى، فمن العلامات الكبرى خروج المسيح الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وخروج المهدي ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من المغرب إلى آخر العلامات المعروفة. ثم تأتي نفخة الصعق ونفخة الفزع حيث تنتهي بها الحياة على وجه هذه الأرض، ثم يكون بعد ذلك ما شاء الله أن يكون، ثم تنفخ نفخة البعث والنشور، وتبدأ مرحلة أخرى من الإيمان باليوم الآخر، هذه المرحلة هي الإيمان بالقيامة الكبرى، وتفاصيل ما يحدث من حشر الأجساد والميزان والمرور على الصراط والشفاعة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والورود على الحوض لأتباعه ومحبي سنته إلى آخر التفاصيل التي تقع في يوم القيامة الكبرى. ثم ينتهي يوم القيامة الكبرى بانتقال الناس إلى أحد الدارين، فأما الذين سبقت لهم من الله سبحانه وتعالى الحسنى فأولئك يبعدون عن النار {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، وأما الآخرون فيساقون إلى الجحيم والعياذ بالله. وحتى يصح أن نكون مؤمنين بالجنة والنار لابد أن نعرف تفاصيل الحياة في الجنة والنار كما أخبر بها الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

أوصاف النار

أوصاف النار النار هي الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين، وهي عذاب الله وسجنه الذي يسجن فيه المجرمين، وهي الخزي الأكبر والخسران العظيم، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63]، والنار فيها ما يعجز اللسان عن وصفه من الآلام مع الخلود الدائم بلا نهاية والعياذ بالله، يقول سبحانه وتعالى حاكياً عن حال عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65 - 66]. ويقول سبحانه وتعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص:55 - 56].

الجنة والنار مخلوقتان

الجنة والنار مخلوقتان الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وليس كما يعتقد بعض الضالين المبتدعين أنهما تخلقان وتوجدان يوم القيامة، فمن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: الاعتقاد بأنهما موجودتان فعلاً الآن، لظواهر كثير من الآيات والأحاديث، مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] يعني: فرغ من إعدادها وفرغ من خلقها، وحديث المعراج فيه ما يكشف هذا المعنى. وقال سبحانه وتعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، فكلمة (أُعِدَّتْ) ظاهرها أنها مخلوقة وموجودة الآن.

خزنة جهنم

خزنة جهنم خزنة جهنم هم الملائكة الذين يحرسونها، أي: يقفون على أبوابها، ويتولون تعذيب أهلها، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فهؤلاء الملائكة الغلاظ الشداد هم خزنة جهنم. ويقول سبحانه وتعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:26 - 31]. فخزنة النار هم الملائكة الذين يتولون تعذيب أهلها، وقد اغتر المشركون وظنوا أنه يمكنهم مدافعة هؤلاء الملائكة، فكان هذا الخبر في القرآن فتنة وامتحاناً لهؤلاء الكافرين، فإنه حينما أخبرهم الله سبحانه وتعالى أن النار عليها تسعة عشر ملكاً قالوا: كل واحد منا يتولى قهر ملك من هؤلاء الملائكة، ولا يعلمون أن ملكاً واحداً من ملائكة الله سبحانه وتعالى لا يمكن البشر كلهم مقاومته ومدافعته. ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] وفي هذه الآية إثبات أن هناك خزنة لجهنم وهم هؤلاء الملائكة. {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ومالك عليه السلام هو كبير الملائكة الذين يتولون أمر جهنم والعياذ بالله.

سعة جهنم

سعة جهنم النار واسعة بعيد قعرها، مترامية أطرافها، والدليل على ذلك أن عدد داخليها لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى، ومع أنهم بهذا العدد الهائل فإن خلق الواحد منهم يتعاظم ويكبر كبراً شديداً حتى يكون ضرسه مثل الجبل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد)، وجبل أحد طوله حوالى ستة آلاف متر! والمسافة بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام بسرعة الجواد، ومع هذا فإن جهنم تتسع لكل هذا العدد من البشر ومن الجن الذين سوف يعذبون فيها وهم بهذه الضخامة في الجثث وفي الحجم، بل يبقى فيها مكان لغيرهم، والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط بعزتك وكرمك) متفق عليه. ومما يبين سعة جهنم وعظم خلقها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً مع أصحابه رضوان الله تعالى عليهم فسمعوا وجبة، أي: سمعوا صدى صوت اصطدام جسم شديد فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار إلى الآن) رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (لو أن حجراً مثل سبع خلفات ألقي من شفير جهنم هوى فيها سبعين خريفاً لا يبلغ قعرها) يعني: يمكث أكثر من سبعين سنة حتى ينتهي إلى قعرها. ومن الأدلة على عظم خلق جهنم وكبرها -والعياذ بالله تعالى منها- كثرة الملائكة الموكلون بها، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23]، كيف يجاء بجهنم؟ بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك) رواه مسلم في صحيحه. ومن الأدلة على عظم خلق جهنم: أن الشمس والقمر -وهما مخلوقان عظيمان- يكونان كطبقين في جهنم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة)، هذا وحجم الشمس مثل حجم الأرض مليون مرة، فمع ذلك تكون الشمس والقمر ثورين مكورين في النار يوم القيامة.

دركات جهنم

دركات جهنم دركات جهنم كثيرة، وقد عدد الله سبحانه وتعالى كثيراً من أسمائها حتى ينبهنا إلى تعداد صفاتها، فمن أسمائها: جهنم ولظى والحطمة والسعير وسقر والجحيم والهاوية، فالنار ليست درجة واحدة، بل هي دركات تذهب سفلاً، كلما نزل في النار سفلاً اشتد عذابها وازداد حرها والعياذ بالله سبحانه وتعالى، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132] يعني: أهل الجنة درجات وأهل النار دركات، ويقول سبحانه وتعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:162 - 163]، فدرجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً.

أبواب جهنم

أبواب جهنم النار لها سبعة أبواب، قال سبحانه وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، ويقول سبحانه وتعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72]، ويقول عز وجل: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] يعني: مغلقة. والشاهد من هذه الآيات: أن جهنم لها أبواب تغلق وتؤصد وتقفل على أصحابها حتى يحبسوا فيها. ويقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1 - 9]. وهذه الأبواب تغلق في شهر رمضان، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل رمضان صفدت الشياطين، وفتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار).

وقود جهنم

وقود جهنم وقود النار الناس والحجارة، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ويقول عز وجل: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، والناس المقصود بهم هنا المشركون الكافرون. أيضاً: توقد النار بالآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى في الدنيا، يقول الله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99].

شدة حر جهنم وعظم دخانها وشررها

شدة حر جهنم وعظم دخانها وشررها من صفات النار شدة حرها وعظم دخانها وشررها، يقول سبحانه وتعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 - 44]. فالناس في الدنيا إذا أرادوا أن يتمتعوا بالجو الطيب فغالب عناصر هذه المتعة هي الماء والهواء والظل، فحال أهل النار على الضد من هذا تماماً، فالماء عندهم هو الحميم، وهو الماء الذي اشتد حره، ووصل إلى أقصى الغليان. أما هواؤهم فهو السموم، وهي الريح الحارة الشديدة. أما ظلهم فمن يحموم، أي: قطع من الدخان لها ظل، ودخان النار وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله عز وجل: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:30 - 33]. أي أن الدخان الذي يتصاعد من جهنم دخان ضخم جداً يعلو حتى ينقسم إلى ثلاثة أقسام. وهذه النار شررها عظيمة، يقول تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] يعني كالحصون الضخمة، أو كالإبل السود: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33]. ويقول سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:8 - 11]. ويقول عز وجل: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:26 - 30].

شدة لهيب جهنم وازدياد عذابها مع الوقت

شدة لهيب جهنم وازدياد عذابها مع الوقت بين النبي صلى الله عليه وسلم شدة لهيب جهنم أعاذنا الله وإياكم منها بمنه وكرمه. يقول صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، أي أن نار جهنم ضعف نار الأرض التي نراها الآن سبعين مرة، (فضج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وقالوا: يا رسول الله! والله إن كانت لكافية، فقال صلى الله عليه وسلم: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها) متفق عليه. ومن صفات نار جنهم أنها لا تخبو مع طول الزمان، فأي نار تشتعل فإنها بعد وقت تنطفئ أو تخف إلا نار جهنم، فإنها بمرور الزمان يزداد لهيبها وشرها، يقول سبحانه وتعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30]، فالعذاب في حالة ازدياد مستمر بمرور الزمن، وتأملوا كلمة (ذوقوا) أي أنه عذاب له طعم! ويقول عز وجل: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]. ويقول سبحانه وتعالى: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86]. وقال عليه الصلاة والسلام في بيان مواقيت الصلاة: (ثم صلوا فإن الصلاة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصروا عن الصلاة فإنه حينئذ تسعر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلوا). والشاهد: أن النار كل يوم يزاد في سعيرها ولهيبها. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم) فهذا الحر الذي نلقاه في الدنيا هو نفس من أنفاس جهنم فقط! ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:12] يعني: أوقدت وأحميت.

النار تسمع وتبصر وتتكلم

النار تسمع وتبصر وتتكلم النار خلق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى يعلم تفاصيله الله سبحانه وتعالى {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقد أخبرنا الله عز وجل أن النار مخلوقة تبصر وتتكلم وتشتكي: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]. فالنار حينما ترى أهلها قد أقبلوا عليها من مكان بعيد تطلق الأصوات المرعبة التي تدل على شدة حنقها وغيظها على هؤلاء المجرمين الذين أشركوا بالله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يخرج يوم القيامة عنق من النار له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) رواه الإمام أحمد والترمذي، فيخرج هذا العنق من النار حتى يعذب هؤلاء الثلاثة. وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع! ورأيت أكثر أهلها النساء) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت النار فإذا امرأة تخمشها هرة)، وفي الحديث الآخر: (عذبت امرأة في هرة حسبتها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) فلذلك تعذب هذه المرأة بسبب هذه القطة. ويقول صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها) وهذا يدل على أن النار تشتكي وتتكلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)؛ لأن النار فيها كل ما يتخيله الإنسان من الضيق والظلام والحر الشديد والزحام وغير ذلك، فالحر الشديد يحرق، والبرد الشديد يحرق، فالزمهرير تعذيب بالبرد الشديد، فأشد ما تجدون من الحر في وقت الحر هو مجرد نفس فقط يخرج من جهنم حتى تتنفس قليلاً؛ لأنه أكل بعضها بعضاً من شدة الحر، وأشد ما تجدون من البرد القارس هو نفس من أنفاس جهنم والعياذ بالله!

النار خالدة لا تفنى أبدا

النار خالدة لا تفنى أبداً النار خالدة لا تبيد أبداً بإجماع أهل السنة، بل هي باقية وأهلها خالدون فيها، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين الذين ماتوا بدون توبة من ذنوبهم وكبائرهم، فهؤلاء يبقون في النار مدة يعذبون، لكن لا يخلدون فيها، إنما يخلد فيها الكفرة والمشركون. يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99]. وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:74 - 77]. ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم يصيح: يا أهل النار خلود ولا موت، ويا أهل الجنة! خلود ولا موت). وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم، ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]). وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح، فيوقف بين الجنة والنار فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار). والنار دار إقامة لهؤلاء الذين يعذبون فيها، فهي مثوى ومأوى ومقيل، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151]. ويقول عز وجل: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68]، ويقول سبحانه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].

أوصاف تتعلق بالنار وما يوجب دخولها

أوصاف تتعلق بالنار وما يوجب دخولها

دعاة جهنم

دعاة جهنم هناك دعاة يدعون إلى النار كما قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار} [القصص:41]، وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، وقال عز وجل: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21]، وقال سبحانه وتعالى عن الشيطان: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]، وقال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41]. فكل من دعا إلى الشرك أو صد عن سبيل الله أو زين معاصي الله سبحانه وتعالى للمؤمنين فهو من الدعاة إلى جهنم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة لما سأله عن الشر الذي يكون في آخر الزمان، قال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، فهؤلاء كأنهم واقفون على أبواب جهنم ينادون الناس إليها، قال حذيفة: (يا رسول الله! صفهم لنا جلهم لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، فتجد الرجل يحمل اسم الإسلام ويكون ألد الأعداء للإسلام، وأشد المحاربين لدين الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم! فكل أصحاب المبادئ الضالة والمذاهب المنحرفة والأحزاب الشيطانية من دعاة جهنم والعياذ بالله!

الجرائم الموجبة لدخول جهنم

الجرائم الموجبة لدخول جهنم جرائم الداخلين في جهنم كثيرة منها: فمنها الكفر والشرك، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:70 - 72]. ومن أسباب العذاب في جهنم: عدم القيام بالتكاليف الشرعية، يقول سبحانه وتعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:42 - 47]. ومما يئول بالناس إلى هذا العذاب الأليم: طاعة الزعماء والكبراء في معصية الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]. ومن أسباب الخلود في جهنم: النفاق، يقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]، ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]. والكبر من الأسباب التي تئول بصاحبها إلى النار، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:36]، وفي الحديث: (اشتكت النار إلى الله سبحانه وتعالى فقالت: يدخلني الجبارون والمتكبرون، فرد الله سبحانه وتعالى عليها وقال: أنت عذابي أعذب بك من أشاء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر). ومما يدخل النار: الكفر والحسد والكذب والخيانة والظلم والفواحش والغدر، وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين، والجبن عن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، والبخل والرياء، واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله عز وجل، والجزع عند المصائب، والاستهزاء بآيات الله وأحكامه، وكتمان العلم، والقتل والربا والزنا، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات إلى آخر الكبائر والذنوب المعروفة.

تعيين الداخلين جهنم

تعيين الداخلين جهنم هناك أشخاص معينون نحكم عليهم بأسمائهم بأنهم في النار، وهم الذين دل الوحي في القرآن أو في السنة على أنهم سيدخلون النار خالدين فيها، أما من عدا هؤلاء من الكافرين فنحكم عليهم في الظاهر بالكفر، أما أنهم الآن في النار أم ليسوا في النار؟ فلا يجوز أن ندعي ما ليس لنا به علم، لأن الأعمال بالخواتيم والخواتيم مغيبة، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] فاشترط عدم التوبة، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [محمد:34]، فالشرط أن يموت الإنسان على الكفر حتى يستحق النيران، ولا يجوز أن نحكم على فلان باسمه أنه الآن في جهنم حتى لو مات في الظاهر على الكفر؛ لأننا لا ندري كيف كانت الخاتمة، والخواتيم مغيبة. كذلك في حق المؤمنين نحن نرجو لهم الجنة ونخاف على العاصين منهم، لكننا لا نقطع لأحد منهم بجنة ولا نار إلا من نص الوحي على أنه من أهل الجنة كالعشرة المبشرين بالجنة، ومهما بلغ المؤمن من الأعمال الصالحة والتقوى والاستقامة فلا يجوز أن نقطع له بالجنة، لأن خاتمته إلى الله، وإنما الأعمال بالخواتيم. فمن هؤلاء الذين أخبرنا لله سبحانه وتعالى أنهم في النار فرعون، يقول سبحانه وتعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]. ومنهم امرأة نوح وامرأة لوط، يقول عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]. وأبو لهب نص الوحي على أنه من أهل النار: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]. وعمرو بن لحي الخزاعي الذي كان أول من سيب السوائب في الجاهلية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يجر أمعاءه في النار) والعياذ بالله. كذلك قاتل عمار بن ياسر وسالبه في النار كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم. كذلك أيضاً كفرة الجن يدخلون النار، يقول عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:68 - 69]. وقال سبحانه وتعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]، وقال عز وجل: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:94 - 95].

رءوس الذنوب التي تدخل النار

رءوس الذنوب التي تدخل النار أما رءوس الذنوب التي تدخل أصحابها النار من غير المشركين، بل من الموحدين كثيرة، فأولها من انحرف عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فمن حاد عن عقيدة ومفاهيم أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية، وانحرف عن منهج السلف الصالح لاسيما بالذات في مسائل العقيدة والاتباع؛ فإنه يكون في النار كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وهي من كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة الدين المهديين. ومن ذلك أيضاً: عدم الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] إلى آخر الآيات. ومن ذلك أيضاً الكبر، يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار). ومن ذلك قتل النفس: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار). ومن ذلك آكل الربا قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]. وأيضاً المصورون: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً عند الله المصورون)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فيعذبه الله بها في جهنم). والميل إلى الظالمين وموالاة الظالمين والكافرين: يقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة -المتبرجات-، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (العنوهن فإنهن ملعونات). ومن الذنوب التي توجب النار: طلب العلم رياء وسمعة، وكذلك الصدقة رياء وسمعة، وكذلك الجهاد رياء وسمعة. ومنها أيضاً: الشرب في أواني الذهب والفضة: يقول عليه والصلاة والسلام: (إن الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) والعياذ بالله. أيضاً مما يوجب النار: الانتحار: وهو إن الإنسان يقتل نفسه، يقول صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً).

كثرة أهل النار

كثرة أهل النار النار واسعة جداً، ومما يدل على ذلك كثرة عدد أهلها، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]، ويقول الله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط) استجاب له عدد قليل من الناس (ورأيت النبي ومعه الرجل، ورأيت النبي ومعه الرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد). إذاً: الإنسان مسئول أن يبلغ دعوة الحق، لكنه غير مسئول أن يستجيب له الناس، فبعض الأنبياء أتوا إلى قومهم ولم يؤمن بهم إلا واحد أو اثنان، وهناك أنبياء لم يستجب لدعوتهم أحد! وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً كثرة أهل النار حينما كان جالساً مع أصحابه: (إن الله سبحانه وتعالى ينادي آدم يوم القيامة فيقول: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: وما بعث النار يا رب؟ فيقول الله سبحانه وتعالى: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين! يقول عليه الصلاة والسلام: فذاك حين يشيب الصغير {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] فضج الصحابة رضوان الله عليهم وشق ذلك عليهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فقالوا: الحمد لله والله أكبر، قال: والذي نفسي بيده! إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، فقالوا: الحمد لله والله أكبر، فقال صلى الله عليه وسلم: ما مثلكم في الأمم إلا كمثل الشعرة البيضاء في مسك -جلد- الثور الأسود أو كالرقمة -الحلقة- في ذراع الحمار). ما سبب كثرة أهل النار يوم القيامة؟ أهل النار أنواع، فمنهم قوم كفروا بالرسل وكذبوا المرسلين. وقوم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وهم المنافقون. وهناك قوم أظهروا الإيمان وأبطنوا الإيمان، ولكنهم تلبسوا ببعض البدع الضالة التي أخرجتهم من الفرقة الناجية. وهناك أقوام ممن سلموا من الكفر وسلموا من النفاق وسلموا من البدع، لكنهم وقعوا في الشهوات والكبائر، فهؤلاء أيضاً يستحقون النار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت النار بالشهوات) يعني: أحاطت بها الشهوات، فتتزين الشهوات للإنسان فيتبعها فتلقيه في جهنم والعياذ بالله! وأكثر أهل النار النساء، قال صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) يعني: تكفر المرأة إحسان الزوج إليها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحسن إلى إحداهن الدهر، فإذا ما رأت منك شراً قالت: ما رأيت منك خيراً قط!)، إذا رأت منك شيئاً تكرهه تنسى كل الإحسان السابق وتذكر هذه السيئة الواحدة.

عظم خلق أهل النار

عظم خلق أهل النار خلْق أهل النار يعظم حتى إن ضرس الكافر يكون مثل جبل أحد، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع). ويقول عليه الصلاة والسلام: (وغلظ جلده مسيرة ثلاث). ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) أي: المكان الذي يجلس عليه في جهنم والعياذ بالله سبحانه وتعالى. وفي بعض الروايات: (عرض جلده سبعون ذراعاً)، والحكمة من هذا التضخيم أن يزداد عذابه، ويزداد إحساسه بالآلام، يقول سبحانه وتعالى: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]. أما طعامهم فقد قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] وهو شوك {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7]. ويقول عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، ويقول عز وجل: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم؛ فكيف بمن يكون طعامه). وثيابهم تكون أيضاً من النار، فنعوذ بالله من النار.

الأعمال التي تتقى بها النار

الأعمال التي تتقى بها النار ما هي الأعمال التي تتقي بها النار؟ أعظم ما يتقى به عذاب النار هو الإيمان والعمل الصالح، وهذا هو الذي توسل به المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]. ومن ذلك الصيام: يقول صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) يعني: وقاية تقي العبد من النيران. ومنه الذكر: فالباقيات الصالحات هي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، يقول عليه الصلاة والسلام: (خذوا جنتكم من النار؛ قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات -يعني: إلى الأمام- ومعقبات -من الخلف- ومجنبات - تحميك من الجانبين - وهن الباقيات الصالحات). أيضاً مما ينجي من النار محبة الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18] فالمحب لا يعذب حبيبه. ومما ينجي من عذاب الله البكاء من خشية الله سبحانه وتعالى: يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً). ومما ينجي من النار الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى والاستجارة من عذاب النار: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ولا استجار مسلم من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره مني). فنسأل الله العظيم الكريم أن يجيرنا وإياكم من عذاب النار.

أوصاف الجنة

أوصاف الجنة الجنة هي دار نعيم كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر، يقول سبحانه وتعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها). ويقول سبحانه وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] هذا هو الفوز العظيم والفوز المبين. ويقول عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (يخلص المؤمنون من النار -بعدما يمرون على الصراط- فيحبسون على قنطرة بين الجنة وبين النار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده! لأحدهم أهدى لمنزله في الجنة منه لمنزله كان في الدنيا) رواه البخاري. يعني إذا دخل أهل الجنة الجنة يسرع كل منهم إلى مكانه في الجنة ويعرفه أعظم مما كان يعرف بلده بعد أن يرجع من السفر في الدنيا، وهذا يدخل في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، ويدخل في قوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] على أحد التفسيرين لقوله: ((عَرَّفَهَا))، قيل: هي هذه الهداية، وقيل: هي من العرف، وهو الرائحة الطيبة. ويقول صلى الله عليه وسلم: (أستفتح باب الجنة فيقال لي: من؟ فأقول: محمد، فيقال: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من يقرع باب الجنة). ويقول صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) يعني: نحن آخر الأمم ونحن أول الأمم دخولاً الجنة. وقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر رضي الله عنه: (يا أبا بكر! إنك أول من يدخل الجنة من أمتي) أي: بعد الأنبياء. ويقول صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك -أي: عرقهم-، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) الإنسان لو تصور أنه يرى النخاع الذي داخل العظام من وراء البشرة ربما استقبح هذا الأمر، فيريد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يوجه نظرنا إلى أن هذا يكون من غاية الحسن فقال: (يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) يعني: من الجمال البارع الذي عليه الحور العين. يقول عليه الصلاة والسلام: (لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً) فاللهم اجعلنا منها! ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين خريفاً)، حتى الأغنياء الذين سيدخلون الجنة لا يدخلون مع الفقراء؛ لأنهم يحبسون حتى يحاسبوا، فالمدة الزمنية بين دخول الفقراء والأغنياء الجنة أربعون خريفاً، فما أعظم السلامة التي لا يعدلها شيء. ويقول صلى الله عليه وسلم: (أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعتيق متعفف، وعبد أحسن عبادة ربه ونصح مواليه). ويقول عليه الصلاة والسلام: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يخرج من النار من كان يقول: لا إله إلا الله، فتعرفهم الملائكة)، كيف تعرف الملائكة الذين كانوا يقولون: لا إله إلا الله؟ تعرفهم الملائكة بأثر السجود؛ لأنه لا يتصور أن يقول المرء: لا إله إلا الله ويكون تاركاً للصلاة، وفي الأثر: (لا خير في دين لا ركوع فيه). وفي الحديث: (يخرج من النار من كان يقول: لا إله إلا الله، تعرفهم الملائكة) أي: تبحث في داخل النار عن أثر السجود في الوجه، وليس أثر السجود هو هذه العلامة التي قد تظهر بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون كما قال بعض السلف؛ لكن المقصود سمت الخشوع والتواضع الذي يكون في وجوه أهل الصلاة وأهل التوحيد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من يقول: لا إله إلا الله فتعرفهم الملائكة بأثر السجود، تأتيهم الملائكة وقد امتحشوا -تفحموا من النار-، ثم يصب عليهم ماء الحياة؛ فينبتون كما تنبت الحبة حميل السيل، ويدخلون الجنة). وهل يوجد ناس دخلوا الجنة قبل يوم القيامة؟ نعم، دخل الجنة آدم كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن، ودخل الجنة الفقراء كما في الحديث: (اطلعت في الجنة فرأيت أهلها الفقراء)، ودخل الجنة الشهداء: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، ومن مات عرض عليه مقعده من الجنة ومقعده من النار بالغداة والعشي.

خلود الجنة وخلود أهلها وجزاؤهم

خلود الجنة وخلود أهلها وجزاؤهم الجنة خالدة، وأهلها خالدون، لا يرحلون عنها أبداً، ولا يملون منها، وفي الدنيا لو أن الإنسان سكن أعظم قصر على وجه الأرض فلابد أن يصيبه الملل! أما الجنة فأهلها خالدون فيها لا يبغون عنها حولاً، فلا يملون أبداً كما يأتي الملل في هذه الحياة الدنيا، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)، فالجنة نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبد في حبرة ونضرة، في دور عالية كريمة بهية، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20]. ويقول عز وجل في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). فمن حبس نفسه في الدنيا عن الشهوات وعن المعاصي عوضه الله سبحانه وتعالى في الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، الكافر مطلق في الدنيا، يرتع في الشهوات والأهواء مثل البهائم، ولا يبالي بيوم القيامة، بينما يعيش المؤمن في الدنيا مثل السجين؛ قبل أن يشرب يبحث عن المشروب أحلال هو أم حرام؟ فيعوضه الله في الجنة، والجزاء من جنس العمل. فمن شرب الخمر في الدنيا حرم منها في الآخرة، والحرير والذهب لا يلبسهما الرجل المؤمن في الدنيا؛ فيعوضه الله سبحانه وتعالى في الجنة، فيلبس المؤمن في الجنة الحلل والحرير والذهب والفضة وما هو أعظم من ذلك. كذلك من يصبر عن النظر إلى الأجنبيات وإلى ما يحرم النظر إليه، يعقبه الله سبحانه وتعالى في الجنة بالزواج من الحور العين. والذي يصون أذنه عن سماع الموسيقى والأغاني ومعازف الشيطان، يرزقه الله سبحانه وتعالى بالحور العين اللاتي يغنين له أحسن ما يكون من الغناء، وكما قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (ولا أذن سمعت)، فيعوضه الله بذلك لأنه حبس نفسه عما حرم الله في الدنيا، والجزاء من جنس العمل. هؤلاء الذين يعبدون الله ويخفون عبادتهم في الليل كما يقول سبحانه وتعالى: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ))، كأن بينه وبين الفراش خصام، فتتجافى جنبه عنه ويهجره ابتغاء مرضات الله {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، فما ثوابهم؟ الجزاء من جنس العمل، كما أخفوا عبادتهم في جوف الليل أخفى الله لهم الثواب فقال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].

أبواب الجنة ودرجاتها

أبواب الجنة ودرجاتها الجنة لها ثمانية أبواب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في الجنة ثمانية أبواب، منها باب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون). وقال عليه الصلاة والسلام: (إن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظ) يعني: من شدة الزحام عليه. والجنة درجات كما أن النار دركات، يقول سبحانه وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75]. ويقول عز وجل: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]. ويقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، لكن القوي درجاته عند الله أعلى. ويقول سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} [الحديد:10]. ويقول: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. ويقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، ومع ذلك قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62]، وكل هذه الآيات تدل على تفاوت أهل الجنة في الدرجات. أعلى منزلة في الجنة هي الوسيلة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو). ومن الذين ينزلون الدرجات العلى: الشهداء الذين يقاتلون في الصفوف الأولى، والساعي على الأرملة والمسكين، وكافل اليتيم، بل دعاء الأبناء لآبائهم بعد الموت يرفع آباءهم ويرفع درجاتهم، فإن المؤمن يرفع في درجته، فيقول: بم رفعت درجتي؟ فيقال له: بدعاء ابنك لك في الدنيا.

أنهار الجنة وترابها وأشجارها وظلالها

أنهار الجنة وترابها وأشجارها وظلالها تراب الجنة هو الزعفران وأنهارها كثيرها، ومنها: نهر الكوثر، وقال الله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]. أيضاً فيها الظلال، وفيها العيون، ومنها عين الكافور وعين التسنيم وعين السلسبيل. وفيها القصور {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف:12]، {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً بنى الله له بيتاً في الجنة)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من قرأ ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة). أيضاً في الجنة أشجار مثل العنب والنخيل والرمان والسدر والطلح، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها!) يمشي في ظلها مائة عام ولا تكفي المائة العام ليقطع مسافتها، وذلك قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب). ويقول عليه الصلاة والسلام: (لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي، فقال لي: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها غراس، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر).

أعمال أهل الجنة

أعمال أهل الجنة أعمال أهل الجنة هي الصبر على مشقة التكاليف؛ لأن أصل التكاليف الشرعية هي أن تؤمر بشيء فيه مشقة على نفسك، لكن هذه المشقة تدخل في طاقتك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. فأن تستقيم على دين الله سبحانه وتعالى من التوحيد والعبادات هذا هو أعظم طريق يوصلك إلى الجنة، لكن بعض الناس يريدون ديناً يوافق أهواءهم، ويقولون: الدين يسر، ويقولون: (الرسول عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، وهذا صحيح؛ لكن تكملة الحديث: (ما لم يكن إثماً) أي: ما لم يكن هذا الشيء حراماً، فالتخيير إنما يكون في مجالات التطوع وفي الأشياء الاختيارية، أما الواجبات فلا تختار: هل تصلي أم لا، هل تحجب بناتك أم لا، هل تحج أم لا، هل تزكي أم لا! فلابد من مشقة حتى تمتحن، لكنها مشقة تدخل في طاقتك البشرية، فطريق الجنة شاق كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). أيضاً أهل الجنة يرثون نصيب أهل النار من الجنة، فلكل إنسان منا مقعد في الجنة ومقعد في النار، فبعدما يدخل في القبر ويسأل ويمتحن يفتح له باب إلى النار ويقال له: هذا مقعدك من النار لو مت على غير الإسلام، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويقال: هذا مقعدك من الجنة، ويأتيه من روح الجنة وطيبها ونعيمها إلى يوم القيامة. والكافر كان له مقعد في الجنة، لكنه لم يؤمن فأخذ مقعده في النار، ومقعده في الجنة يرثه المؤمنون، وهذا تصديق قوله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11]. فالمؤمنون يرثون مقاعد الكافرين الذين ماتوا على غير التوحيد.

من أوصاف الجنة وأهلها

من أوصاف الجنة وأهلها أكثر أهل الجنة الضعفاء والفقراء والمساكين، ولابد أن نؤمن أن الجنة ليست ثمناً للعمل الصالح، فالعمل الصالح سبب فقط في دخول الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، فالمؤمن يدخل الجنة بفضل الله ورحمته لا بعمله، لكن العمل سبب في دخول الجنة ولابد منه. أيضاً نساء الجنة وصفهن الله سبحانه وتعالى بأنهن حور مقصورات الخيام، وفي آيات أخرى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، فيمدح الله سبحانه وتعالى الحور العين بصفتين: صفة العفة وصفة الجمال؛ لأن هذا أعظم ما يكون، فصفة العفة في قوله: {مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] تقصر طرفها وعينيها على زوجها فقط، ولا تنظر إلى غيره. وأفضل النعيم الذي يؤتاه أهل الجنة هو رؤية الرب سبحانه وتعالى حين يتجلى لهم في الآخرة، فهذا هو الهدف الأعظم والأسمى من دخول الجنة، وذلك حين يكشف الحجاب ويتجلى لهم الرحمن سبحانه وتعالى، فلا يلتفتون حينئذ لأي شيء من نعيم الجنة ما داموا يتمتعون بالنظر إلى وجه الرب سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وآخر ما يختتم به دعاء المؤمنين في الجنة: الحمد لله رب العالمين، فهذه الأمة أمة الحمد، ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم هو أحمد، وهو حامل لواء الحمد يوم القيامة، وافتتح الله كتابه بالحمد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ويختتم دعاء المؤمنين بالحمد: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، وأمته الحمادون صلى الله عليه وآله وسلم.

الجمع بين الخوف والرجاء

الجمع بين الخوف والرجاء الإنسان لابد أن يجمع بين الترغيب وبين الترهيب، يجمع بين الآيات التي تخوفه من عذاب الله سبحانه وتعالى مثل قوله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]، وكذلك يتذكر الإنسان آيات الرجاء والطمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل). فالخوف من النار والخوف من الله سبحانه وتعالى المقصود منه حث النفس على العمل، كالدابة حينما تضربها وتخوفها فإنها تسعى وتكد، كذلك الإنسان إذا تذكر عذاب الله وبطش الله سبحانه وتعالى وانتقامه كان ذلك حافزاً له على العمل، لكن لا ينبغي أن يزداد هذا الخوف حتى ينقلب إلى يأس وقنوط من رحمة الله. فمن رحمة الله بنا أنه يسد علينا جميع الأبواب إلا باب التوبة، يقول العلماء: تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه، فالمبادرة إلى التوبة وإلى الأعمال الصالحة واجبة، فما دام في الإنسان قدرة على أن يعمل ويسعى، وما دامت روحه تتردد فلا يأمن مكر الله ولا ييأس من روح الله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. كذلك يحتاج الإنسان إلى نصوص الرجاء إذا زاد عليه الخوف وخشي أن يقع في القنوط، فعليه أن يروح قلبه بنصوص الرجاء في القرآن والسنة. وإذا حضر الإنسان مسلماً يحتضر فهل يخوفه ويقول: أنت كنت تفعل كذا، أنت كنت مقصراً في كذا، إنك سترى ربنا وسيفعل بك كذا وكذا؟ لا يجوز هذا، ولا ينبغي تخويفه وهو في هذه الحال؛ لأن هذا التخويف قد ينقلب إلى اليأس والقنوط، بل السنة إذا حضرت مسلماً يحتضر أن تلقنه لا إله إلا الله حتى يكون آخر كلامه، وأن تذكره بأعماله الصالحة، فتقول: أنت كنت تحافظ على صلاة الجماعة، أنت كنت تذكر الله، أنت كنت تجتنب محارم الله سبحانه وتعالى، وتذكره بأعماله الصالحة من أجل أن تعينه على حسن الظن؛ لأن العبد إذا ظن بالله خيراً يعطيه الله خيراً، وإلا فلا.

اختلاف العلماء في أرجى آية في القرآن

اختلاف العلماء في أرجى آية في القرآن ما هي أعظم آية رجاء ينبغي أن نستحضرها من الآيات التي تطمعنا في رحمة الله، وتفتح قلوبنا لأبواب الرجاء في الله سبحانه وتعالى؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: فبعضهم قال: أرجى آية في القرآن هي آية الدين. قد تستغربون كيف تكون آية الدين هي أعظم آية رجاء في القرآن! قال بعض العلماء: إنها أرجى آية في القرآن للعصاة؛ لأن هذه الآية تبين كيف احتاط الله سبحانه وتعالى لحفظ مال المسلم حتى لو كان دريهمات قليلة، فمع أن الدنيا بكل ما فيها من كنوز وأموال لا تزن عند الله جناح بعوضة، لكن الله سبحانه وتعالى شرع ما يحفظ حق المؤمن، فحفظ مصلحة المؤمن ورحم حاجاته في الدنيا بهذه الآية التي هي أطول آية في القرآن. فالله سبحانه وتعالى أرحم بعبده المؤمن في الآخرة منه به في الدنيا، وإذا كان لمصلحته في الدنيا أنزل أطول آية في القرآن، فكيف يكون أملنا في رحمة الله سبحانه وتعالى في مصالح الآخرة؟ وقال بعض العلماء: أرجى آية هي قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:53 - 56] إلى آخر الآيات. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فيخبر الله سبحانه وتعالى أن ذنوب المؤمن بين حالتين: إما ذنوب يعاقب بها في الدنيا: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ))، فما عاقب الله عليه العبد في الدنيا فهو أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة، فالذنب الذي عوقبت عليه في الدنيا فلن تعاقب عليه مرة ثانية في الآخرة، والذنب الآخر يعفو الله عن كثير منه، فما عفا الله عنه فهو أكرم من أن يعذب عليه في الآخرة. وقال بعض العلماء: أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] قالوا: لن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد من أمته في النار، ونظمها بعضهم في بيتين فقال: ولقد قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء وقال بعضهم: إن أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى في سورة النور: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] هذه الآية نزلت في مسطح لما وقع في حديث الإفك في حق عائشة رضي الله تعالى عنها، فعاقبه أبو بكر بأن منع عنه العطاء الذي كان يعطيه إياه، وهو قريب له؛ فنزلت هذه الآية تعاتب أبا بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، فرغم وقوع مسطح في كبيرة القذف إلا أن ذلك لم يحبط جهاده السابق، فقال الله: ((وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فأثبت له صفة الهجرة في سبيل الله، وهذا دليل على أن المؤمن لا يكفر بالذنب كما يظن الخوارج. وقال بعض العلماء: إن أرجى آية في القرآن هي قول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]. فهنا أخبر الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء الذين أورثهم الكتاب مصطفون، أي: مختارون أراد الله بهم خيراً، وفسمهم إلى ثلاثة أقسام: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ))، ثم ذكر ذكر بعد ذلك ثواب هؤلاء الثلاثة فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:33] فلذلك قال بعض العلماء: حق هذه الواو أن تكتب بماء العين، لأن هذه الواو تعود على الثلاث الطوائف: ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)). والرجاء في رحمة الله سبحانه وتعالى من الأمور التي أمرنا بها، لكن الرجاء لابد أن يستتبع العمل، أما الرجاء الذي لا يستتبع عملاً فهذا غرور كما قال الله: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، فالرجاء يطلق عليه رجاء إذا اقترن به عمل وإلا فهو أماني وأحلام. يقول الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا! لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، لم يصفهم برجاء إلا بعد العمل الصالح، فأنت تعمل ثم تطمع في رحمة الله، أما أن تفرط في طاعة الله ثم ترجو رحمة الله فهذا من تلبيس إبليس ومن تزيين الشيطان. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأن يعيذنا جميعاً من النار وما قرب إليها من قول وعمل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

التوفيق بين مغفرة الذنوب جميعا وعدم مغفرة الشرك في الآيات

التوفيق بين مغفرة الذنوب جميعاً وعدم مغفرة الشرك في الآيات Q يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] والشرك أعظم الذنوب، فكيف نوفق بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]؟ A لابد أن نفهم هذه الآية في ضوء تلك الآية، فنجمع القرآن ولا نضرب آيات الله بعضها ببعض، فالمقصود أن الله يغفر كل الذنوب إلا ذنب الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فقوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) يعني: ما سوى الشرك، أو يغفر الشرك إن تاب المشرك، والدليل قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما كان قبله)، فالآية تعم كل الذنوب ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) لمن تاب منها، فباب التوبة مفتوح حتى للمشركين والمنافقين واليهود والنصارى، فإنهم إن تابوا تقبل الله سبحانه وتعالى توبتهم، فلا تعارض بين الآيات حتى نتكلف التوفيق.

معنى حديث: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)

معنى حديث: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) Q ما معنى حديث: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)؟ A من الكبائر أن تتجاوز ثياب المؤمن الكعبين، وهما العظمان الناتئان في جانبي القدم، فلا يجوز ذلك، وهذا الحديث يدل أن كل مسبل يكون في النار أو ما جاوز الكعبين من إزاره فهو في النار فقط، وعلى كل حال فهذا الوعيد يفيد أن هذا الفعل من الكبائر، وصاحبه مستحق للعقوبة.

حكم الجهاد في أفغانستان

مستمع الغيبة والمغتاب مشتركان في الإثم مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ماعز - فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات يقول: أتيت امرأة حراماً، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الحديث إلى أن قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني) ومعروف أنه إذا بلغ الحد الإمام فلا رجوع فيه، وهنا Q من أتى ذنباً يستوجب حداً في مثل هذا الزمان الذي لا تقام فيه الحدود إلا نادراً في بعض البلاد، هل يعمل مثل ماعز. A لا، حتى لو كان في مجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم -الذين هم خير أمة أخرجت للناس-، فلو كانت الحدود تقام فليس على كل من فعل ذنباً أن يذهب إلى الخليفة ويعترف عنده ليقام عليه الحد، بل الواجب عليه أن يستر نفسه حتى في ظل الدولة الإسلامية التي تقيم الحدود، وهو يكافأ إن ستر على نفسه في الدنيا أن يستر الله في الآخرة، فيقرره الله بذنوبه يوم القيامة فيقول له: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فإذا ظن أنه هالك لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى له: (فأنا أسترها عليك اليوم كما سترتها عليك في الدنيا)، فإن الله سبحانه وتعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، ومن أعظم ما يحبه أن يستر العبد على نفسه وعلى إخوانه. فإذا ابتلي الإنسان بشيء من هذه المعاصي أو القبائح فينبغي أن يستر على نفسه ولا يحدث بذلك أحداً، وقد جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، والمجاهرون هم الذين يأتي أحدهم الذنب بالليل فإذا أصبح يهتك ستر الله عليه ويقول: قد فعلت كيت، ويحكي للناس ما فعل، فهذا يعاقب بأن الله لا يغفر له ولا يعافيه؛ لأنه ضاد الله فيما يحبه، فالله ستير يحب الستر، وفي الحديث: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فينبغي الاهتمام بهذا الأمر، حتى ولو في ظل دولة الخلافة الإسلامية، فالعاصي غير مطالب بأن يذهب للإمام ويهتك ستر نفسه، لكنه مطالب طلباً أكيداً أن يستر على نفسه، ويرجو رحمة الله وعفوه، وإن جهر بذلك وفضح نفسه فإنه يعاقب، فإذا بلغت توبته إلى هذا الحد، وحرص على أن يطهره الله، وبلغ الإمام ذنبه؛ فلا رجوع في الحد، لذلك لما اعترف ماعز بالزنا أراد النبي عليه السلام أن يدفع عنه ذلك فقال له: (لعلك فعلت كذا أو كذا)، بما هو أخف من الفاحشة، فأقر وصرح تصريحاً لا لبس فيه بأنه أتى بالفعل هذا الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجيفة حمار شائل برجله -والشائل: هو كل ما ارتفع، والارتفاع ينشأ من التعفن والغازات في داخل أمعاء الحمار فتتراكم فترفع الرجلين، فالعضلات تتصلب، والغازات تدفعه من شدة التعفن- فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: ها نحن يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة) وقوله: (أشد) بصيغة أفعل التفضيل، فما وجه هذه التفضيل؟ معناه أن الذنب الذي ارتكبتماه بغيبة هذا المسلم الذي أقيم عليه الحد وطهر منه أشد عند الله سبحانه وتعالى من أكل جيفة الحمار المتعفن؛ لأن من يأكل جيفة الحمار لا يكون قد آذى مسلماً، لكن من وقع في الغيبة فقد آذى مسلماً، وانتهك عرضه، وانشغلت ذمته بحقوق العباد، فهذا خير ممن يأكلون لحوم البشر! وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كلا من جيفة هذا الحمار) فخاطب المتكلم وجليسه، وقال: (ما نلتما)، استعمل صيغة المثنى، مع أن الذي اغتاب كان واحداً، لكن الآخر استمع وأقر ولم ينكر عليه، فهذا نذير خطر؛ وما أكثر ما يجلس الإنسان في مجالس آكلي لحوم البشر! وهذه بلية موجودة حتى في أهل الدين والطاعة، كيف تجلس في مجالس الغيبة وتسكت وتقر، إما أن تزيل المنكر وتنكر على هذا المتكلم وإما أن تترك المكان وتفارقه، وإن كنت لا تقوى على هذين الأمرين فاتق مخالطة الناس ما استطعت، فإن من أكثر المخالطة لا يكاد يسلم في هذا الزمان من الوقوع في الغيبة. والمغتاب لو أنه في كل مجلس يجد من يزجره أو يهجره ويترك المجلس؛ لانتبه وأحس بجريمته، فإن كان لا يستحي من الله فقد يخشى هجرة الناس إياه، فلو أنه في كل مجلس وجد من يزجره لتوقف عن الغيبة وانتهى عنها، لكن نحن نساعده بالسكوت والإقرار إن لم يكن بالمشاركة والمؤازرة. إذاً: هذا الحديث دليل على أن الذي يسمع المنكر ويسكت ويقر كمرتكب الجريمة، وكلاهما سواء في الوزر؛ ولذلك قال: (كلا) وقال: (ما نلتما من عرض أخيكما) فنسب الوزر إليهما جميعاً. ومثله قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14] هل عقر الناقة كل القبيلة أم واحد؟ هو واحد، لكن الباقون كانوا مقرين وموافقين، فنسب الفعل إليهم أجمعين. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم نوم بيتكم -يعني: أن نومه يشبه نوم البيت لا نوم السفر، يريد بذلك أن يعيبه بكثرة النوم، يعني: أنه ينبغي له في حالة السفر أن ينام نوماً خفيفاً ويكمل الرحلة- فلما تأخر عن إعداد الطعام لهما، قال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم -يعني: يوافق- نوم بيتكم، فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك -يعني: يطلبان منك الإدام، وهو ما يؤكل مع الخبز- فلما ذهب الرجل الخادم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فقال الرسول رداً عليه: إنهما قد ائتدما، فلما رجع وأخبرهما فزع أبو بكر وعمر وجاءا مسرعين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟! قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه بين أنيابكما)، وفي رواية: (والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه من ثناياكما، قالا: فاستغفر لنا، قال: هو فليستغفر لكما) يعني: صاحب الحق هو الذي يطلب عفوه، ويستغفر لكما. فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما)، وقوله أيضاً: (بين أنيابكما)، وقوله: (هو فليستغفر لكما)، كل هذا يدل على أنهما سواء في الوزر، مع أن الذي تكلم واحد، والآخر لم ينكر عليه. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخش ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: اسكت وهو يشتهي بقلبه استمرارها -ويحب أن يزود الكلام ليتشفى، خاصة إذا كان بينه وبينه عداوة، ويقول ذلك نفاقاً؛ لا يخرجه عن الإثم، ولابد من كراهته بقلبه، يعني: لو كان يشتهي الزيادة، فمعنى ذلك أن قلبه يحب المعصية، ومعلوم أن إنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، لا يعذر فيه أحد أبداً، لكن الإنكار باللسان وباليد أحياناً لا يستطيعه الإنسان، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ثم سكت بعده؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، لكن قال: (وذلك أضعف الإيمان)، فلابد أن يكره المسلم الإثم بقلبه، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإنكار أو أنكر فلم يسمع منه ولم يمكنه المفارقة بطريق؛ حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، وفي هذه الحالة طريقه: أن يذكر الله تعالى بلسانه أو بقلبه، ويفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرون في الغيبة وجب عليه المفارقة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. وعن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له: نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه

عدم تخليد آكل الربا في النار

عدم تخليد آكل الربا في النار Q قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، هل آكل الربا يخلد في النار؟ A نحن إذا رجعنا إلى الآيات التي قبلها نفهم ما المقصود من قوله: (وَمَنْ عَادَ)، أي: من عاد إلى استحلال الربا؛ لأن استحلال الحرام والحكم على الحرام بأنه حلال كفر. أي أن الشخص الذي يشرب الخمر ولا يستحلها أخف من الشخص الذي لا يشربها، ولكن يقول: هي حلال، فاعتقاد أن الخمر حلال كفر؛ لأنه معارضة لحكم الله سبحانه وتعالى، لكن الشخص الذي يعتقد أنها حرام ويخالف الأمر نتيجة الهوى والشهوة فهذا ارتكب ذنباً وكبيرة، لكن دون كبيرة الكفر. فأكل الربا من السبع الموبقات، ومن أشد الذنوب المهلكة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:278 - 280]، والآية الأخرى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، فقوله سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)) يعود إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فمن قال: إن الربا حلال مثل البيع، وزعم أنه حلال، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

حكم حلق اللحية

حكم حلق اللحية Q عدم حلق اللحية سنة مؤكدة! ولكن صدرت فتوى بأن حلقها ليس فيه إثم؟ A هذا زمن العجائب! من قال: إن عدم حلق اللحية سنة مؤكدة؟! إعفاء اللحية سنة واجبة، لأن كلمة السنة تأتي لعدة معان، نذكر منها معنيين: فالسنة تأتي بمعنى الطريقة، سواء كانت مرضية أو غير مرضية، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون سنة بمعنى الشيء الذي أنت مخير بين فعله وتركه، فإذا فعلته أثبت، وإذا تركته لم تعاقب مثل ركعتي الفجر وسنة الظهر القبلية وسنة المغرب وصيام الخميس والإثنين؛ فهذه كلها سنن بمعنى أنها مستحبة أو مندوبة. والمندوب هو الشيء الذي يطلب منك، لكن تؤمر به أمراً غير جازم، وتثاب إذا فعلته ولا تعاقب إذا لم تفعله؛ هذا معنى السنة المندوبة. وهناك سنة واجبة بأن تقول مثلاً: الحج سنة المسلمين، وتقول في الزكاة: هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: طريقته، لكن ليس معناه أن الحج أو الصلاة على سبيل الندب والاستحباب. فإذا قلنا: صلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقصود أنها طريقة رسول الله، أما من حيث الأحكام التكليفية الخمسة فهي واجبة وفريضة. فكذلك إذا قلت: اللحية سنة، أي: هي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون واجبة، وأما أن تكون مستحبة، وإما أن تكون أفعالاً جبلية طبيعية فطرية؛ فاللحية لا شك أنها واجبة، ولم يقل بأنها عادة إلا بعض المحدثين في هذا الزمان، والمفروض أننا نتكلم على الخلاف الذي يعتد به، وذلك عندما كان الأئمة متوافرين يملئون الأقطار، فهؤلاء إذا اختلفوا فهناك قيمة لاختلافهم، أما نحن الآن في المسجد مائة شخص أو أكثر، فإذا اختلفنا ما قيمة اختلافنا؟! يقولون هذا غير جائز عندنا فمن أنتم حتى يكون لكم عند من نحن حتى نختلف؟! من هم شيوخ هذا الزمان حتى يخالفوا الأئمة الأربعة أو الصحابة والتابعين وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام؟ إذا كان الأئمة الأربعة قد حذرونا من أن نتبع أقوالهم إذا خالفت أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بمن يأتي بعدهم؟ المقصود أن حلق اللحية حرام، وأن إعفاء اللحية واجب وفريضة، فيأثم من يحلقها بدون عذر كالتداوي مثلاً، فالأدلة على هذا الحكم واضحة، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، وقد ورد الأمر بإعفاء اللحية في خمس صور: (أعفوا اللحى) (وفروا اللحى) (أرخوا اللحى) (أرجوا اللحى) (أوفوا اللحى). فهذه الروايات معناها كلها أن تترك على حالتها، فمن من الصحابة حلق لحيته؟ نريد واحداً فقط من الصحابة أو من الأئمة حلق لحيته! الأنبياء أنفسهم كانوا يعفون لحاهم، والدليل من القرآن قول الله سبحانه وتعالى في حق هارون عليه السلام: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]. إذاً: كانت له لحية بحيث يمسكها موسى عليه السلام، فكان من سنة الأنبياء أنهم يعفون اللحى، ورسولنا عليه الصلاة والسلام أمرنا بأن نتبع هؤلاء الأنبياء، ومنهم موسى وهارون، فبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى طائفة عظيمة من الأنبياء ومنهم موسى وهارون في سورة الأنعام قال في آخر الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بالأنبياء، وهؤلاء الأنبياء -كما جاء في قصة موسى وهارون- كان لهم لحى، ثم أمرنا نحن بالاقتداء بنبينا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. أيضاً: حلق اللحية تشبه بالنساء؛ لأن الله ميز الرجل عن المرأة بعدة خصال: منها أن الرجل ينبت في لحيته شعر فلا ينبغي أن يزيله؛ لأن الشرع لم يأذن له في ذلك، لكن أذن له في إزالة غيره، فكأن الإنسان يتهم الله سبحانه وتعالى في حكمته حيث ميز الرجل عن المرأة باللحية، كأنه يصيح من اللحية ويقول: الله خلق هذه اللحية في وجهي عبثاً وبدون فائدة؛ فلذلك فهو يحلقها. الله عز وجل خلقها لأنها من كمال الرجولة وكمال الفحولة وبها يتميز الرجال عن النساء. أيضاً فيها مخالفة للمشركين: (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين). كذلك حلقها فيه تغيير لخلق الله، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الذي يأمر بتغيير خلق الله هو إبليس، حكى الله عن إبليس أنه قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، ولا يجوز تغيير خلق الله إلا بإذن من الشرع، مثل قص الأظافر، فقصها من خصال الفطرة التي أمرنا بها، فلذلك نغير خلق الله بتصريح من الله سبحانه وتعالى، وكذلك في الاستحداد أو نتف الإبط، لكن أين التصريح بحلق اللحى؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عشر من الفطرة: -وذكر منها- إعفاء اللحى)، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] ومن هذه الكلمات إعفاء اللحى. أيضاً: اللحية نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان، فهي تعطي الإنسان الوقار والهيبة، وتعينه على حفظ دينه في هذا المجتمع الفاسد. وكان الصحابة يقولون: (كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الظهر، قيل: كيف كنتم تعرفون قراءته؟ قالوا: باضطراب لحيته) يرونه من خلفه وهو يقرأ؛ لأن لحيته تتحرك وهو يقرأ القرآن في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، كذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة ما عرفوا حلق اللحى، والمسلمون ما عرفوا حلق اللحى إلا بعدما احتكوا بالأوروبيين، وأرادوا أن يتشبهوا بالإنجليز. ما عرفنا حلق اللحى إلا لما أردنا تقليد الكفار تقليداً أعمى، فهي ليست من سنن المسلمين، فيحرم حلق اللحى باتفاق المذاهب الأربعة، ومن ادعى خلاف ذلك فليأت بالدليل

تعريف الجلالة

تعريف الجلالة Q ما هي الجلالة؟ A الجلالة هي الدابة التي يغلب على طعامها النجاسة، فإن كان أغلب أكلها النجاسة فعليك أن تعزلها فترة حتى يطيب لحمها ثم تذبحها، فإن كانت نسبة النجاسة قليلة فليست بجلالة، والله أعلم.

السلفيون هم أهل السنة والجماعة

السلفيون هم أهل السنة والجماعة Q هل السلفيون هم أهل السنة والجماعة، وما حكم من يطلق هذا الاسم تعصباً على غيرهم؟ A السلفيون هم أهل السنة والجماعة ولا يستطيع أحد أن ينازعنا في هذا الاسم، لأن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية الذين جاء وصفهم في هذا الحديث: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي الجماعة)، وهم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على إمام، وكذلك إجماع المؤمنين، وأي معنى من معاني الجماعة لابد أن نلتزمه. فأهل السنة والجماعة اسم لا يختلف عليه، وإذا ادعيناه لأنفسنا فنحن نملك السند الذي يثبت استحقاقنا لهذا الوصف، وهو أن عقيدتنا عقيدة أهل السنة والجماعة التي تميزت عن أهل البدع والافتراق، فأهل السنة والجماعة هم من كان منهجهم منهج الصحابة، وسلوكهم في فهم الإسلام سلوك الصحابة. والألقاب إذا لم يخش منها تلبيس الحقائق على الناس فلا بأس بها، بدليل أن الإسلام يعرف الألقاب ويعرف الصفات، هناك لقب المهاجرين ولقب الأنصار، وهناك سيف الله المسلول خالد بن الوليد لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وهناك الصديق أبو بكر، وهناك الفاروق عمر، وهناك ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. المقصود أن الألقاب عرفت في الإسلام، وأشرف هذه الألقاب كما نعلم المهاجرون والأنصار، فمدح الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الوصف في القرآن قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، والسابق هو: الذي سلف وتقدم، فهؤلاء هم السلف، والذي ينتسب إليهم ويمشي على طريقتهم هو السلفي، فهذا معنى كلمة (السابقون). وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:56]، سَلَفًا: أي: متقدمين عليهم هذا معنى السالف. فالسلفية ليس معناها الرجوع إلى الوراء كما يزعم أعداء الإسلام بأنها رجعية ورجوع إلى الوراء، بل السلفية هي ارتفاع ورقي إلى مستوى السلف حيث شكلوا النموذج الأعلى لفهم الإسلام وتصديقه والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. وإذا استعملت كلمة المهاجرين والأنصار استعمالاً جاهلياً عصبياً فحينئذ تسمى جاهلية، رغم أن اللقب شريف، لكن إن استعمل في غير موضعه فقد نبذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار -ضربه على مؤخرته- فصاح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب، فقال: ما بال دعوى الجاهلية! دعوها فإنها منتنة) فسمى التنادي باللقب الشريف في غير موضعه دعوى الجاهلية؟ والرسول عليه الصلاة والسلام قال في حديث آخر في خطبة الوداع: (كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين). وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) وهذه دعوة جاهلية تفرق المسلمين. أيضاً: أمر بترك التنادي بهذه الألقاب فقال: (دعوها)، وعلل الحكم بقوله: (فإنها منتنة) يعني: خبيثة، وجاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل أنه يحرم عليهم الخبائث، ومن الخبائث التنادي بالعصبية، كأن يقال: هذا مصري، وهذا يمني، أو هذا سوداني، وهذا ليبي، وهذا عراقي. كل هذه العصبيات جاهلية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إنما الناس رجلان: رجل تقي وفاجر شقي؛ كلكم لآدم وآدم خلق من التراب). فالإسلام يحارب هذه العصبيات التي تفرق المسلمين، فإن كانت العبارة موهمة أو استعملها بعض الناس استعمالاً سيئاً فهو مخطئ.

سبب نشأة تسميات الفرق الإسلامية

سبب نشأة تسميات الفرق الإسلامية Q ما السبب في نشأة هذه التسميات للفرق الإسلامية مع أنه كان يكفي اسم الإسلام؟ A بسبب انتشار البدع والضلالات والفرق التي عادت من جديد تحت أسماء مستعارة، فهناك خوارج في هذا الزمان، لكن تحت اسم جديد وهو التكفير والهجرة، هناك مرجئة تحت أسماء أخرى، هناك معتزلة قدرية، هناك جهمية، وهناك كثير من الضلالات موجودة، لكن تحت أسماء حديثة، والحقيقة واحدة. فإذا قلنا: إن الإسلام يكفي فبأي اسم نميز أنفسنا عن هذه الضلالات لنقوم بالإسلام كما فهمه الصحابة الذين تربوا على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما تلقته الأمة وفهمته وطبقته وجاهدت في سبيله حتى اجتمعت على إمامة أئمتها العدول؛ كالإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي، وكـ البخاري وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد، وكأئمة السنن والمسانيد والصحاح؛ كل هؤلاء اتفقت الأمة على أنهم أئمة وعدول، والأمة حينما تتفق على شيء وتجتمع فإنها معصومة من الضلالة. فالأمة اجتمعت على إمامة هؤلاء القوم، فنتلقى عنهم ديننا، وهو دين له سند وله نسب، فهو دين أتى لنا بعقيدة مسندة وليست مخترعة. بعض الناس ينسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه مؤسس المذهب السلفي، فنقول: السلفية ليست مذهباً؛ لأنها هي الإسلام الصحيح، هي الفهم القويم للإسلام كما تلقاه السلف وكما فهموه وكما طبقوه. شيخ الإسلام كان له دور أساسي وهو أنه أزال الغبار عن هذه الدعوة، فـ شيخ الإسلام جدد شباب الدعوة السلفية، ولكن الذي أسس الدعوة السلفية هو الله سبحانه وتعالى، بدأ تأسيسها في شهر رمضان في غار حراء في الليلة التي نزل فيها الوحي، وبدأ تأسيسها بكلمة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وانتهت بـ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} [المائدة:3]، فإذا فهمنا حقيقة هذه الكلمة علمنا أنه لا ينجو إلا من كان سلفياً. ولذلك تجد كل جماعة تريد أن تنسب إلى هذا الاسم، كل شخص يقول: نحن نتبع السلف، نحن نقتدي بالسلف، ولكن ينطبق عليهم قول بعض الشعراء: والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء لذلك كانت السلفية هي الترسانة التي حفظت تراث الأمة من التحريف، وتصدت لكل صور الانحراف وبالذات الانحراف في العقيدة. علماء السلفيين في كل عصر من العصور يذبون عن هذه العقيدة، ويبذلون حياتهم من أجلها، فالإمام أحمد بن حنبل عذب حوالى سبع عشرة سنة من أجل مسألة واحدة فقط في العقيدة، ولم يفت بما يوافق أهواء الناس ليذب عن هذه العقيدة. فالسلفيون أعظم الناس اهتماماً بأعظم ركن في الإسلام وهو العقيدة والتوحيد، ثم اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أبرأ الناس من البدع، وأشدهم تمسكاً وعلماً ومعرفة بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم منتشرون الآن في أقطار الأرض شرقها وغربها، معروفون بهذه العلامات البارزة: 1 - محبتهم للسلف. 2 - احترامهم للصحابة. 3 - تقديم قول النبي عليه الصلاة والسلام على قول غيره من البشر كائناً من كان: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم لا غير. 4 - احترامهم للآداب الشرعية. 5 - عدم استهزائهم بسنن النبي صلى الله عليه وسلم أو التهوين من شأنها. 6 - الإلمام بما يجد من مشكلات العصر وصدور فتاوى اجتهادية من كثير من العلماء السلفيين لحل هذه المشكلات والإفتاء فيها. 7 - الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى في كل عصر ومصر، ويكفي أن الدعوة الوحيدة التي استطاعت أن تقيم دولة منذ انحطاط قوة الخلافة الإسلامية هي الدعوة الوهابية التي قامت على المفاهيم السلفية وعقيدة التوحيد واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كانت كلمة (وهابية) مصطلحاً محدثاً ولكننا نقول: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير بن عطية الخطفي المجامع فالسلف هم أفضل الأمة على الإطلاق بنص القرآن، ومن ادعى اتباعه لهم أو الانتساب إليهم، فعليه أن يأتي بالدليل من الاهتمام بالتوحيد الذي هو مفتاح دعوة الرسل، وهو ركن الدين الأصيل؛ والاهتمام بالسنة والبراءة من البدع والبراءة من الشركيات بشتى صورها، والاهتمام بتزكية النفس طبقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا طبقاً لخزعبلات المبتدعين من الصوفية أو المترهبنين أو غيرهم من أهل البدع. فهذا هو الطريق الواضح، وهو طريق ثابت، وكل من تحرى الوصول إلى الحق في هذا الطريق فإنه يستطيع أن يصل بلا أدنى مشقة.

وفاة الرسول وتفسير سورة النصر

وفاة الرسول وتفسير سورة النصر بعد أن أكمل الله هذا الدين بالنصر والفتح وانتشار الإسلام أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بلزوم التسبيح والاستغفار، فكان آخر ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام سورة النصر، وفيها الأمر له بالتسبيح والاستغفار؛ حتى تقتدي به أمته، فعوضاً عن أن يُتبعوا انتصاراتهم بالغناء والرقص فإنهم يختمونها بالتسبيح والاستغفار، فالنعم لابد تشكر بالطاعة لا بالمعصية.

بيان أعظم مصيبة أصيبت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم

بيان أعظم مصيبة أصيبت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب). هذا الحديث رواه ابن سعد والترمذي مرسلاً، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، وله شواهد، منها: عند ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، ورجا أن يخلفه الله فيهم، فقال: يا أيها الناس! أيما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي). وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكنه يعد شاهداً من شواهد الحديث الأول. فقوله: (يا أيها الناس أيما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري) قاله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). فمقتضى هذا المعنى أن المصاب بموت النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم مصيبة مرت على المسلمين؛ لأن بموته انقطع الوحي والرسالة، فيرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإنسان إذا أصيب في أي شيء من فقد عزيز عليه بموت أو غيره فإنه يتعزى بالمصاب الأكبر الذي أصاب الأمة، ألا وهو موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي). ومن شواهده -أيضاً-: ما رواه ابن المبارك في الزهد عن القاسم بن محمد مرسلاً: (ليعز المسلمون في مصائبهم المصيبة بي)، وذلك لأنها -كما ذكرنا- أعظم المصائب، وقال بعضهم: اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. والحديث يرشد إلى أسلوب من أساليب التعزي والصبر عند حلول المصائب، فلا بد من أن يتفطن المؤمن؛ لأن الصبر صبران: صبر محمود وصبر مذموم، وليس كل صبر محموداً، لكن هناك صبر محمود وهناك صبر مذموم، فالصبر المحمود هو الصبر على قدر الله عز وجل عند حلول أي شيء من الكوارث أو المصائب القدرية، فهذا هو الذي ينبغي الصبر عليه، ويكون ذلك بحبس اللسان عن الشكوى، وحبس القلب عن التسخط المحذور، وحبس الجوارح عن الوقوع في المعاصي كلطم الوجه وشق الجيوب وهذه الأشياء. أما الصبر المذموم فهو الصبر الذي يدفع الإنسان إلى السكوت على محارم الله، وعدم الغيرة على حرمات المسلمين إذا انتهكت، فهذا ليس صبراً محموداً، ولكنه من الصبر المذموم الذي لا يرضاه الله عز وجل.

وقفة مع سورة النصر ووجه تعلقها بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم

وقفة مع سورة النصر ووجه تعلقها بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم السورة التي نقف عندها -إن شاء الله- هي سورة النصر، وهي سورة مدنية آيها ثلاث، ولها عدة أسماء، فهي تسمى سورة النصر، وتسمى سورة (إذا جاء (، وتسمى سورة التوديع. وهذه السورة يقال: إنها آخر سورة نزلت. كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى البيهقي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة: (إنه قد نعيت إلي نفسي) يعني أن الله عز وجل يخبره بأنه قد اقترب أجله صلى الله عليه وآله وسلم. يقول بعض الصحابة: (فكان بعد نزول هذه السورة يفعل فعل مودع، وامتثل أمر الله عز وجل: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، فما كان يصلي بعد نزول هذه السورة صلاة إلا دعا فيها في الركوع والسجود: سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي. يتأول القرآن). فهذه السورة -كما ذكرنا- كانت توطئةً وإرهاصاً بين يدي ذلك المصاب الجلل، وهو أول قاصمة أصيبت بها الأمة الإسلامية، وهي موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وسنعيد تذكر الأيام الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما أن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد حجة الوداع حتى أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو الروم، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لإمرة هذا الغزو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان أسامة رضي الله عنه شاباً حدثاً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إلى موضع مقتل أبيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأن يوطِئ الخيل أرض البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وذلك مع بدء شكواه ومرضه الذي توفي فيه، فانتهز المنافقون هذه الفرصة وقالوا: أمرّ النبي صلى الله عليه وسلم حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الذي أثاره المنافقون والمرجفون عصب رأسه الشريف وخرج إلى الناس وخطب فيهم قائلاً: (إن تطعنوا في إمارة أسامة بن زيد فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأام الله إن كان لخليقاً بها -يعني أن أباه زيد بن حارثة كان خليقاً بالإمارة- وايم الله إن هذا لها لخليق -يعني: أن أسامة بن زيد رضي الله عنه جدير بالإمارة- وايم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده، فأوصيكم به فإنه من صالحيكم)، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرين والأنصار، وخرج أسامة بن زيد بالجيش إلى ظاهر المدينة فعسكر بالجرف، وهو مكان قريب من المدينة، فلما تجهز المسلمون للخروج لغزو الروم اشتدت برسول الله صلى الله عليه وسلم علته التي قبضه الله فيها، فأقام الجيش هناك ينتظر ما الله قاض في هذا الأمر.

أحداث في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم

أحداث في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم وكان بدء شكواه ما رواه ابن إسحاق وابن سعد عن أبي مويهبة -وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقفنا عليهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم، لا أصبحتم فيما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن مثل قطع الليل المظلم يتبع آخرها أولاها، الآخرة شر من الأولى، ثم أقبل عليّ، فقال: إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها فخيرت بين أن أمتلك مفاتيح خزائن الأرض والخلود في هذه الأرض والجنة وبين لقاء ربي والجنة. فقلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتخلد فيها ثم الجنة! قال: لا -والله- يا أبا مويهبة، قد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف). فابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبض فيه، وكان أول وجعه صداعاً شديداً في رأسه، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من البقيع استقبلته وهي تقول: وارأساه -كانت رضي الله عنها تشتكي رأسها- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا -والله- يا عائشة وارأساه)، وكان بدء مرضه ذلك في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وكانت عائشة رضي الله عنها ترقيه خلال ذلك بمعوذات من القرآن. روى البخاري ومسلم عن عروة رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها أخبرته (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات) وهذا دليل من أدلة مشروعية الرقية. والفرق بين الرقية والدعاء أن الرقية يكون فيها نفث في اليد ونفح على الجسد، تقول رضي الله عنها: (فكان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه لم يطق صلى الله عليه وسلم ذلك، فطفقت أنفث على نفسه بالمعوذات وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، فشعرت نساؤه صلى الله عليه وسلم برغبته في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها لما يعلمن من محبته لها وارتياحه إليها، فأذنَّ له في ذلك، فخرج إلى بيتها من عند ميمونة يتوكأ على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي بيت عائشة رضي الله عنها اشتد به وجعه، وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه فقال: (أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس) وهذا يشبه الكمادات بالماء البارد حتى تخف الحمى فيستطيع أن ينهض إلى الناس ويعهد إليهم ويوصيهم، قالت عائشة رضي الله عنها: (فأجلسناه في مخضب ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن: قد فعلتن. ثم خرج صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه فجلس على المنبر، فكان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: عبد خيره الله بين أن يأتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنه علم ما يقصده النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وناداه قائلاً: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر، ثم قال: أيها الناس! إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام) لأن مرتبة الخلة لا تنبغي إلا لله سبحانه وتعالى، ولأن الخلة أعلى درجات المحبة، كما قال: الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني وبها تمنى الخليل خليلاً أي: بلغت المحبة إلى حيث تبلغ الروح في جسد الإنسان، فهذه المرتبة من المحبة لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى، ولو كانت جائزة لكان أولى الناس بها أبا بكر رضي الله عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) والخوخة هي باب صغير بين البيتين، فأمر بسد كل باب يؤدي إلى المسجد ما عدا الباب الذي يؤدي إلى بيت أبي بكر، ثم قال: (وإني فرط لكم -يعني: أنا أسبقكم إلى الله سبحانه وتعالى- وأنا شهيد عليكم، وإني -والله- لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني -والله- ما أخاف أن تشركوا من بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها)، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ثم اشتد به وجعه وثقل عليه مرضه، تقول عائشة رضي الله عنها: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، وهذا رواه البخاري ومسلم واللفظ لـ مسلم. قوله: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) هذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة أبي بكر، وأنه أولى الصحابة بالإمامة، ثم تلا ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض قال لرجال كانوا في البيت: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا كتاباً يكتب لكم، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا) رواه البخاري. إذاً: الخلاف والمجادلة يرفعان البركة دائماً، فلما رآهم اختلفوا أمرهم بأن يقوموا وأن ينصرفوا، وكذلك لما تخاصم رجلان وقد علم من الوحي بتعيين ليلة القدر، فلما تخاصم هذان الرجلان رفع علم ليلة القدر، فبسبب الجدل والاختلاف والتنازع ترفع البركة وتمحق.

شدة مرضه صلى الله عليه وسلم وصبره على ذلك

شدة مرضه صلى الله عليه وسلم وصبره على ذلك كان عليه الصلاة والسلام بين يديه ركوة فيها ماءٍ، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) فمن السنة إذا احتضر الميت أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقول مثل ما يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) فيجعل آخر كلامه (لا إله إلا الله). وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا رأت منه ذلك قالت: (وا كرب أباه)، فيقول لها صلى الله عليه وسلم: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)، قالت عائشة رضي الله عنها: (إن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، فقد دخل عليّ عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم. فناولته فاشتد عليه، فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم. قالت: فلينته) أي: لينته بريقها. (فكان بين يديه ركوة، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ثم رفع يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى. حتى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم).

شدة مرضه صلى الله عليه وسلم وصبره على ذلك

شدة مرضه صلى الله عليه وسلم وصبره على ذلك كان عليه الصلاة والسلام بين يديه ركوة فيها ماءٍ، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) فمن السنة إذا احتضر الميت أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقول مثل ما يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) فيجعل آخر كلامه (لا إله إلا الله). وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا رأت منه ذلك قالت: (وا كرب أباه)، فيقول لها صلى الله عليه وسلم: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)، قالت عائشة رضي الله عنها: (إن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، فقد دخل عليّ عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم. فناولته فاشتد عليه، فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم. قالت: فلينته) أي: لينته بريقها. (فكان بين يديه ركوة، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ثم رفع يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى. حتى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم).

وصاياه صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته في مرض موته

وصاياه صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته في مرض موته كان النبي صلى الله عليه وسلم أثناء ذلك يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم وآلمه المرض كشفها عن وجهه صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات الأخيرة من حياته يقول: (لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فكانت هي الوصية الأخيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في بعض الروايات عن عائشة رضي الله عنها: (يحذر ما صنعوا) تعني: يحذر هذه الأمة من أن تصنع مثل صنيع اليهود والنصارى، فعجباً لغربة الإسلام وإعراض المسلمين عن هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، واقتحامهم وانتهاكهم الحرمات! وذلك باستحلال هذا الفعل القبيح وهو إدخال القبور في المساجد. ثم بعد ذلك اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر إلى حكم الله سبحانه وتعالى الذي أجراه على عباده كلهم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. دخل فجر يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة، وبينما الناس في المسجد يصلون خلف أبي بكر رضي الله عنه إذا بالستر المضروب على حجرة عائشة قد كشف، وبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبه إلى الصف، فقد ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يصلي، ولكن كان يلقي عليهم هذه النظرة الأخيرة ليطمئن على أصحابه، فهمَّ المسلمون حينئذ أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار بيده أن: أتموا صلاتكم. ثم دخل الحجرة وأرخى الستر، وانصرف الناس من صلاتهم وهم يحسبون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه، ولكن تبين أنها كانت نظرة وداع منه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فقد عاد صلى الله عليه وسلم فاضطجع إلى حجر عائشة رضي الله عنها وأسندت رضي الله عنها رأسه إلى صدرها، وجعلت تتغشاه سكرة الموت. وفي بعض الأحاديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام نطق بوصيتين في آخر لحظة من حياته حيث قال: (الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم) فكانت هذه وصيته الأخيرة لأصحابه وأمته صلى الله عليه وسلم.

أمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالصلاة بالناس في مرض وفاته

أمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالصلاة بالناس في مرض وفاته ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق الخروج إلى الصلاة مع الناس، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -تعني: رجل رقيق القلب- وأنه إذا قام مقامك لم يكد يسمع الناس من شدة بكائه، فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) فـ عائشة رضي الله عنها، خشيت أن يتشاءم الناس من أبيها، فتعللت بشيء ليس هو العلة التي في نفسها، فمن أجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) فكان أبو بكر هو الذي يصلي بالناس بعد ذلك، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وقد شعر بخفة فأتى وأبو بكر قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر لما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك في الصلاة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه، واستبشر الناس خيراً لخروجه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ولكن البرحاء اشتدت عليه، وكان ذلك آخر مرة يصلي فيها مع الناس.

موقف أبي بكر والصحابة من وفاته صلى الله عليه وسلم

موقف أبي بكر والصحابة من وفاته صلى الله عليه وسلم لقد انتشر خبر وفاته صلى الله عليه وسلم في الناس، وأقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرس من عوالي المدينة، فقد كان له منزل في ذلك المكان، ذهب وهو على أمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد شفي من مرضه، فأتى فدخل المسجد ولم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم مغطى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: (بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها) ثم خرج رضي الله عنه وعمر يكلم الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، وهنا يظهر مقام أبي بكر وثباته وصموده أمام هذه المحنة الشديدة، وهكذا ينبغي أن يكون المسلمون على بصيرة وعلى فطنة في تلقي مثل هذه المصائب الكبيرة. أقبل أبو بكر يقول له: على رسلك يا عمر، أنصت. ولكنه استمر في كلامه، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس فأقبلوا إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: أيها الناس! من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144]، فكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فتلقاها منه الناس كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا وأخذ يتلوها، قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت -أي: كأنه قطعت ساقاه- لا تحملني رجلاي، فأهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. هكذا توفي النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة وستين عاماً من العمر، قضى أربعين منها قبل البعثة، وثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله في مكة، وعشر سنين قضاها في المدينة بعد الهجرة، وكانت وفاته في أول العام الحادي عشر للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. روى البخاري عن عمرو بن الحارث قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة، إلا بلغته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة)، فهذه قصة وداع النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الدنيا وانتقاله إلى الرفيق الأعلى. فهذه السورة كما ذكرنا تسمى سورة التوديع التي جاء فيها نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح

تفسير قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح يقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] يأتي في الآية النصر والفتح، مع أن كلاً منهما مرتبط بالآخر، فمع كل نصر فتح ومع كل فتح نصر، فجاء النصر مضافاً إلى الله تعالى، والفتح جاء مطلقاً. وقد اتفقوا على نزول هذه السورة بعد فتح مكة، ومعلوم أنه سبق فتح مكة عدة فتوحات، منها فتح خيبر، ومنها صلح الحديبية، قال عز وجل عن صلح الحديبية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] وقال الله عز وجل: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27]. والنصر يكون في معارك القتال، ويكون بالحجة والبيان، فيكون بكف العدو كما في سورة الأحزاب، يقول الله عز وجل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، وكما قال عز وجل في شأن اليهود: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:26 - 27]. إن النصر من عند الله العزيز الحكيم، ولقد علم المسلمون ذلك كما جاء في قوله تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] فجاءهم A { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. فدائماً النصر يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، فقال سبحانه وتعالى عنهم: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] ثم قال: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وقال عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]. وقال صلى الله عليه وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وقد قال الله عز وجل لموسى ولأخيه هارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فهذا -أيضاً- من نصر المعية، وكذلك الفتح يكون بانتشار دين الإسلام، وكما نعلم أن أعظم الفتوح في الإسلام فتحان: فتح الحديبية، وفتح مكة، ففتح الحديبية كان تمهيداً للثاني، والثاني كان قضاءً على دولة الشرك في الجزيرة.

تفسير قوله تعالى: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا

تفسير قوله تعالى: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً يقول الله عز وجل: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2] هذا القول من الله سبحانه وتعالى يدل على إرادة العموم، فقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] عام لكل نصر وفي كل فتح، بدليل العطف بقوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2]، فكان الناس يأتون من كل جهة حتى اليمن أقبلت لتدخل في دين الله، فهذا يدل على أن الدعوة قد بلغت كمالها وأن الرسالة قد بلغت وأن الأمانة قد أديت، لذلك استنبط ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من الصحابة استنبطوا من هذه الآية أن فيها إشارة إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسالتك قد تمت، وأديت ما عليك، فتهيأ للقاء ربك. ويدل لهذا المعنى في السورة قوله سبحانه وتعالى قبل ذلك بحوالي ثلاثة أشهر في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] أي: كمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله عز وجل لنا الإسلام ديناً، فلذلك بكى عمر رضي الله عنه حينما نزلت هذه الآية، وعلم ذلك لأنه ما من شيء يبلغ الكمال إلا ويئول إلى النقصان. قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] الفتح قيل: المراد به هنا فتح مكة، وقيل: فتح المدائن والبلاد كلها، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً. فهم يعلمون أن من شأن مكة أن لا يسلط الله عز وجل عليها أي كافر أو كذاب، كما فعل الله عز وجل مع أبرهة الحبشي، حيث قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]. ثم يقول رحمه الله: فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام، فلله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: كنا بماء ممر للناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما فتح الله عليه مكة بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فأسلم قوم عمرو بن سلمة بعد ما وقع ما كانوا ينتظرونه من دخول الناس في دين الإسلام. وقيل أيضاً: إن الفتح عامٌّ في فتوح البلاد كلها، وتقدمت الإشارة إلى فتوحات قبل مكة.

الفتوحات الإسلامية مصداق للنبوة

الفتوحات الإسلامية مصداق للنبوة لقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من هذه الفتوحات، ووقع منها الكثير بفضل الله سبحانه وتعالى، وما لم يقع فسيقع مصداقاً لكلامه عليه الصلاة والسلام، من هذه الفتوحات التي أخبر بها الوحي فتح خيبر وفتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، سواء من اليمن أو من غيرها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد العرب، أخبر بفتح مصر، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال: ذمة وصهراً)، رواه مسلم. وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه). أما قوله: (منعت) فله معنيان: أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم سيسلمون ويسقط ما عليهم بإسلامهم، فصاروا بإسلامهم مانعين ما كان عليهم من الوظائف، واستدل على هذا بقوله: (وعدتم من حيث بدأتم) لأنهم في علم الله وفي قضائه وقدره أنهم سيسلمون، فعادوا من حيث بدءوا. الثاني: أنهم يرجعون عن الطاعة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (كيف أنتم إذا لم تجدوا ديناراً ولا درهماً؟! فقيل: وكيف ترى ذلك كائناً؟! قال: إذاً والذي نفسي بيده عن قول الصادق المصدوق أنه قال: تهتك حرمة الله وذمة رسوله، فيصب الله على قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم) رواه البخاري. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) أي أنه لا تقوم الساعة حتى يعم دين الإسلام الأرض كلها. وعن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح العراق فيأتي قوم يبسون ويتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون). والمقصود من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بفتح اليمن والشام والعراق، وما فتحت هذه البلاد إلا من بعده صلى الله عليه وسلم إلا اليمن، ويؤيد هذا ما ذكره ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: الله أكبر، الله أكبر جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن، قيل: يا رسول الله! وما أهل اليمن؟ قال: قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية). وبعد فتح مكة جاءت الوفود التي دخلت في دين الله أفواجاً العام التاسع من الهجرة، وجاء وفد اليمن، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عماله إلى اليمن بعد فتح مكة، وقدم عليه علي رضي الله عنه من اليمن في العام العاشر في موسم الحج، ففتحت اليمن بعد فتح مكة في حياته صلى الله عليه وسلم. فهذا كله يؤيد أن الفتح هنا عام في كل فتح، وليس فقط فتح مكة، وهذا يؤخذ بدلالة الإيماء وبدلالة الإشارة. وقوله: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) فيه وعد بفتوحات كثيرة لمناطق شاسعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر -كما في سورة الحج- أن الناس يأتون للحج من كل فج عميق، فقال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28]. فهذا يدل على أن الناس سوف يأتون إلى الحج من أماكن بعيدة، وهذا الإتيان إلى الحج يدل على أن الإسلام قد انتشر في تلك البلدان البعيدة.

تفسير قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توبا

تفسير قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توباً

المعنى الإشاري المضمن في سورة النصر

المعنى الإشاري المضمن في سورة النصر وهذه السورة يؤخذ منها قوة دلالة الإشارة والإيماء، كما جاء في قصة ابن عباس مع عمر رضي الله عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه ممن قد علمتم) أي: ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم! فقه في الدين وعلمه التأويل)، فظهرت استجابة الله لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام في العلم الزاخر الذي جمعه هذا الحبر رضي الله تعالى عنه. يقول ابن عباس: (فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذٍ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقال: فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، فقال عمر: وأنا لا أعرف فيها إلا كما قلت) أي أنه صلى الله عليه وسلم جاء لأداء مهمة وقد تمت بمجيء النصر والفتح والدخول في دين الله أفواجاً، وعليه يكون قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة، فليستعد لملاقاة ربه ليلقى جزاء عمله. فهذا مأخذ واستنباط وفهم وفقه دقيق لهذه الآية. فاللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

الذكر الفاضل

الذكر الفاضل ونقول للذين يداومون على ذكر الله سبحانه وتعالى: لقد كان أكثر ما يداوم النبي عليه الصلاة والسلام عليه هو الاستغفار مطلقاً مع ما ورد عنه في أذكار الصباح والمساء، فقد ورد الترغيب فيه، وورد في السنة العملية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستغفار، كان لا يجلس مجلساً إلا يقول فيه: (رب اغفر لي وتب علي؛ إنك أنت التواب الغفور) وفي بعض الأحاديث: (فإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة). فإذاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على الاستغفار ويأمر به ويرغب فيه مع ورود الاستغفار -أيضاً- في أذكار الصباح والمساء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، وهذا الدعاء له فضيلة. إذاً: علينا أن نهتم بمراتب الأعمال في تقديم الفاضل على المفضول، فمثلاً: قبل الانصراف من الصلاة قبل التسليم وردت أحاديث كثيرة تقال قبل التسليم، من أهمها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو التعوذ من أربع: (اللهم! إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال)، فهذا أمر به فتقدمه على غيره. كذلك سيد الاستغفار، فإنه يقال في المساء وفي الصباح، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة هذا الدعاء بقوله: (فمن قاله حين يصبح ثم مات من يومه دخل الجنة، ومن قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة)، إذاً هذا أولى من غيره من الأعمال؛ لأنه قد يقول الإنسان هذا الدعاء فيكون بذلك قد ضمن الله عز وجل له الجنة بنص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام. فعلى الإنسان المسلم أن يعرف فضائل الأدعية حتى يقدم بعضها على بعض، فمثل هذا الدعاء جدير بأن تحافظ عليه وأن لا تفرط فيه خشية أن يكون هذا آخر يوم أو آخر ليلة في حياتك، فتختمها بالاستغفار، كما أُمر صلى الله عليه وسلم أن يختم يومه أو يختم عمره بالاستغفار: {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]. وفيه رد على ممن يواظب على الذكر بلفظ المفرد، فيقول: الله، الله، الله مثلاً آلاف المرات، أو يقول: يا رحمان، يا رحمان، يا رحمان، يا لطيف، يا حي يا قيوم بدون أن يأتي بجملة ذات معنى واضح، فهذا -أيضاً- مما يعده بعض المحققين من البدع؛ لأنه لم يرد به نص صريح ولا صحيح، ولأن الخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع، وأي خير أعظم مما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وأمره به، فالتزم به وامتثل ذلك، فكان يكثر أن يقول: (سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، اللهم! اغفر لي)، وذلك لأنه توفي بعد ذلك بمدة يسيرة، فأراد أن يختم حياته بالاستغفار وبهذا الدعاء العظيم، وتأمل فعل الإمام البخاري رحمه الله تعالى كيف أنه ختم جامعه الصحيح الذي يعد أصح الكتب بعد القرآن ختمه بقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فآخر عبارة في صحيح البخاري: (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم). وقال صلى الله عليه وسلم: (من ضن بالمال أن ينفقه وبالليل أن يكابده فعليه بسبحان الله وبحمده) أي: إذا كنت عاجزاً عن النفقة في سبيل الله نتيجة فقر أو بخل فهناك البديل يعوضك عن الأجر الذي تناله من الصدقة أو من قيام الليل، ألا وهو التسبيح والتحميد.

الاستغفار ودوره في أعمال العبد

الاستغفار ودوره في أعمال العبد ثم قال عز وجل: (وَاسْتَغْفِرْهُ) قال البعض: إذا كان الاستغفار على الذنب فيكون الاستغفار في حق النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في الحسنات ورفعة في الدرجات؛ لأن الأنبياء معصومون عن الوقوع في المعاصي، فمثل هذه الآيات كثيرة في القرآن، فإنما تحمل على أن الاستغفار في ذاته عبادة يتعبد بها، وإن لم تقع معصية أصلاً. والبعض قال: إن هذا من باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين) أو من باب شعور الأنبياء بالتقصير في حق الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك ينسب إليهم الذنب. أو أن التوبة هي دعوة الأنبياء والرسل، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى عنه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، ويقول نوح عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] ويقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128] فيكون هذا تعليماً منه صلى الله عليه وسلم لأمته حتى يستغفروه سبحانه وتعالى، وقيل: هو رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة). إذاً التوبة هي دعوة الأنبياء، فتكون -أيضاً- من باب الاستكثار من الخير والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى. وجاء عند جميع المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم منذ نزلت هذه السورة لم يكن يدع أبداً قول: (سبحانك -اللهم- وبحمدك) تقول عائشة رضي الله عنها: يتأول القرآن. حيث روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إلا يقول فيها: سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، اللهم! اغفر لي. يتأول القرآن) وفيه عنها أيضاً: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، اللهم! اغفر لي. يتأول القرآن). قال الحافظ ابن حجر: معنى (يتأول القرآن) يجعل ما أمر به من التهليل والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: كأنه أخذه من قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور، كان إذا سلم من الصلاة يقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله)، وإذا خرج من الخلاء كان يقول: (غفرانك)، وورد الأمر بالاستغفار -أيضاً- عند انقضاء المناسك في قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199]. إذاً: الاستغفار دائماً يكون في خواتيم الأمور ليجبر ما كان فيها من نقص أو مداخلة رياء. فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نتأسى به في ذلك. وأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في خاتمة حياته في سورة التوديع التي نعي فيها إليه نفسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم مع التسبيح فيه امتثال للأمر،، ومن باب الاحتراز من المعاصي، فيكون أمره بذلك مع عصمته أمراً لأمته، وأن الاستغفار من التواضع، وهو مع ذلك عبادة في نفسه.

دلالات الأمر بالتسبيح

دلالات الأمر بالتسبيح قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] قوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزه ربه سبحانه وتعالى عن أن يترك الحق ويدعه للباطل فيهزمه، فمن سوء الظن بالله سبحانه وتعالى أن يُظَنَّ بالله تعالى أنه يترك المسلمين دائماً في حال ضعف وانهزام، ويترك الباطل دائماً في حال علو واستكبار في الأرض، لكن كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فالأيام دواليك، يوم لك ويوم عليك، فهذه سنة الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] فهي ابتلاءات وقعت للمرسلين والأنبياء، ووقعت للعلماء ووقعت للصالحين، فلا بد من أن تدور الأيام دورتها، فلا يفرح أهل الباطل ولا ييأسن أهل الحق، فكلمة الله ظاهرة ولا شك في ذلك؛ لأن من وقع في مثل هذا الظن فإنه يدخل في قوله تعالى في سورة الفتح: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6] فكون المسلم يعتقد بالله أن يترك الله أولياءه ويخذل دينه ويعلي عليه كلمة الكفر والكفار والمشركين هو من سوء الظن بالله سبحانه وتعالى، بل لا بد من أن يتحقق -كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم- النصر للمؤمنين والعاقبة للمتقين. وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين فإنما لينتقم منهم وينصر المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين، ولن يفلح عمل المفسدين، وهو البصير سبحانه بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين. فقد قرن الله سبحانه وتعالى التسبيح بالحمد كثيراً. قوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) هذا له ارتباط بأول السورة؛ لأن أول السورة فيه دلالة على كمال مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) يعني: لقد اكتملت رسالتك، وأديت أمانتك، وأتى نصر الله للمؤمنين ولدين الله سبحانه وتعالى، وجاء الفتح العام على المسلمين لبلاد الله، إما بالفعل وإما بالوعد الصادق، وهذه نعمة تستوجب الشكر والثناء والحمد لله سبحانه وتعالى، فلذلك قال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فكان التسبيح مقترناً بالحمد في مقابل ذلك. قوله: (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي أنه سبحانه وتعالى المتفضل بهذه النعم، كما جاء في سورة الضحى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، وقال في سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]، وقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] فترتبط وتقترن الربوبية بالإنعام؛ لأن الرب هو الذي يربي وينعم على مربوبه.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة اتفق العلماء على تكفير من جحد وجوب الصلاة وإن أداها، واختلفوا في تكفير من تركها تهاوناً وتكاسلاً مع اعتقاده فرضيتها، ولكل أدلته الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.

تارك الصلاة بين التكفير وعدمه

تارك الصلاة بين التكفير وعدمه الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. أيها الأخ المسلم! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فوالذي نفسي بيده فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له عليه في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار! قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم. فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون: ربنا! قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم يعودون فيتكلمون فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان. فيخرجون خلقاً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا، فمن كان في قلبه وزن نصف دينار فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها ممن أمرتنا. حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة. فيخرجون خلقاً كثيراً، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]: قال: فيقولون: ربنا! قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير. قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين، قال: فيقبض قبضة من النار -أو قال: قبضتين- ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: الحياة، فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ وفي أعناقهم الخاتم -وفي رواية: الخواتم- مكتوب عليها: (عتقاء الله)، قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فما تمنيتم ورأيتم من شيء فهو لكم ومثله معه. فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه! قال: فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين. قال: فيقول: فإن لكم عندي أفضل منه. فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ قال: فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً) هذا الحديث أصله في الصحيحين، وهو في رواية خارج الصحيحين صحيح على شرط الشيخين، قد رواه عبد الرزاق وعنه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة في التوحيد، والمروزي في (تعظيم قدر الصلاة). وهذا الحديث يعد من أقوى الحجج التي يستدل بها من لا يكفر تارك الصلاة، ولا يخرجه من الملة بالكلية بترك الصلاة كصلاة واحدة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة.

الأحكام الدنيوية والأخروية المترتبة على ترك الصلاة

الأحكام الدنيوية والأخروية المترتبة على ترك الصلاة يكثر الكلام في وعيد ترك الصلاة وخطورة التقصير في الصلاة وبيان أهميتها، وسنتعرض لزاوية أخرى من البحث تليق بطلبة العلم؛ إذ إنهم يضعون الكلام في مواضعه، ولا يغترون بأمثال هذه القضايا الخلافية، وظننا بهم أنهم لن يقعوا فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا تخبرهم بها لئلا يتكلوا) فإذا كان الخطاب مع طلبة علم فلا بأس به؛ لأنهم يفهمون الكلام ويضعونه في مواضعه، بل لابد من توضيح هذه الأحكام، خاصة أن الكلام فيها يترتب عليه الكثير من الأحكام الخطيرة. فمثلاً إذا قلنا بقول بعض العلماء، وهو الحكم بكفر تارك الصلاة وخروجه من الملة بالكلية فمعنى ذلك أنه يكون مرتداً لا حظ له في الإسلام، فهذه ليست كلمة تقال وحسب، لكن وراءها عواقب خطيرة جداً، سواء في أحكام الدنيا أو في أحكام الآخرة، فمن أحكام الدنيا سقوط ولايته، فلا يجوز أن يولى أي ولاية، فلا يولي الولاية العظمى، ولا يولى الولاية في النكاح، فلا يصلح لأن يزوج بناته؛ لأنه غير مسلم فلا يؤتمن عليهن، ولا يولى على القاصرين من أولاده وغيرهم. ومنها -أيضاً-: أنه يسقط إرثه من أقاربه؛ لأن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر، كما جاء في الحديث المتفق عليه. ومنها أنه يحرم عليه دخول مكة، فلا يجوز له أن يمكن من دخول الحرمين الشريفين؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]. ومنها: تحريم ما ذكاه، فإذا ذكى شيئاً من بهيمة الأنعام -الإبل أو البقر أو الغنم- أو ذكى دجاجة وحكمنا بكفره فلا يحل أكل ما ذكاه، لأنه مثل الميتة ولأن من شروط الذكاة الشرعية أن يكون المذكي مسلماً أو كتابياً. فذبيحة الكتابي اليهودي أو النصراني تحل بشرطها، لكن لا تحل ذبيحة هذا المرتد. ومن ذلك أنه تحرم الصلاة عليه بعد موته، ولا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة. وكذلك تحريم نكاحه المرأة المسلمة، إذا قلنا بالكفر فلا يجوز أبداً لكافر أن يتزوج مسلمة كما هو معلوم. وأما الأحكام الأخروية فمنها أن الملائكة توبخه وتقرعه، بل تضرب وجهه ودبره إذا توفته، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:50 - 51]. ومنها أنه يحشر مع الكفرة والمشركين، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23]. ومنها الخلود في النار أبد الآبدين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} [الأحزاب:64 - 66] فهذه بعض الإشارات إلى ما يترتب على الحكم بتكفير تارك الصلاة. فهذا الموضوع ليس موضوعاً نظرياً، بل يترتب عليه أحكام، ونحن نواجه هذه المشاكل في حياتنا العملية، وفي الأسئلة الموجهة لنا، فلابد من أن نكون على بصيرة من حقيقة الخلاف في هذا الأمر.

مؤلفات في حكم تارك الصلاة

مؤلفات في حكم تارك الصلاة يفرح طالب العلم إذا وجد في مثل هذا الموضوع كلاماً فيه من الشيوخ أو طلاب العلم أو الباحثين؛ فإن ذلك -بلا شك- لا يخلو من فوائد عظيمة جداً تثري البحث العلمي. ويتوافر لدينا بعض المصنفات المستقلة في هذا الباب، أشهرها على الإطلاق هو كتاب للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو كتاب الصلاة وحكم تاركها، وسياق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها، فهذا هو أول مرجع وأشهره. وتوجد رسالة للشيخ محمد بن صالح العثيمين اسمها (حكم تارك الصلاة) وأيضاً صدر كتاب بعنوان (فتح من العزيز الغفار لإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار) وقد وجهت إلى مؤلف هذا الكتاب نصيحة بتغيير اسم الكتاب، فلبى النصيحة وغير اسم الكتاب إلى اسم آخر، ويعد هذا الكتاب من أوفى البحوث في هذه القضية؛ لأنه جمع أدلة الفريقين بالتفصيل، وتتبع أدلة مخالفيه، ويعتبر من أقوى البحوث التي تناولت هذه القضية وأوسعها، ويكفي كتاب (فتح من العزيز الغفار) فضلاً أن الشيخ الألباني مدحه، والشيخ الألباني معروف بأنه عزيز المدح، وصعب جداً أن يمدح أحداً، فالشيخ ناصر قد أطلق قلمه في مدح هذا الكتاب والثناء عليه بما لم يظفر به غيره من المصنفين في هذا الزمان، فهذه -بلا شك- شهادة لها قيمتها ولها وزنها من العلامة الألباني. وكالعادة ما سلم الأمر من أخذ ورد، فبمجرد أن ألف الشيخ عطاء كتاب (فتح من العزيز الغفار) قام بالرد عليه أخ يدعى ممدوح جابر عبد السلام، فألف كتاباً حول مسألة حكم تارك الصلاة وسماه: (الرد العلمي على كتاب فتح من العزيز الغفار لإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار)، ثم عاد الشيخ عطاء وألف من جديد كتاباً سماه: (فيض من رب الناس بإبطال رد ممدوح بن جابر من الأساس). وما زلنا ننتظر المزيد من الردود، وعلى أي الأحوال نحن المستفيدون من هذه المساجلات العلمية، لكن نبرأ من الأساليب الغليظة من بعض المؤلفين في الرد على البعض الآخر في مثل هذه القضايا الاجتهادية. ونحن إنما نبحث عن الخلاصة، وننتفع بكلام هذا وكلام ذاك، ولكن لا ننصت ولا نلتفت إلى شدة بعضهم على بعض، أو ما يقع من تجاوزات، فهذا لا يعنينا في شيء، فذكر هذه البحوث يُفيد في تفصيل هذه القضية. والكلام كثير جداً، لكن سنحاول إن شاء الله تعالى أن نمر مروراً سريعاً بقدر المستطاع على هذا البحث إن شاء الله تعالى.

أدلة من لا يكفر تارك الصلاة كسلا وتهاونا

أدلة من لا يكفر تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً وقبل معرفة الأدلة ينبغي أن نعلم أن الخلاف هو في الذي يقر بوجوب الصلاة ويكسل عنها، أما الذي يجحد وجوب الصلاة فهو كافر مرتد وإن كان يصلي الفرض والنفل ويحافظ على الصلاة في الجماعة، ويأتي بظاهرها وباطنها، فمن كان يفعل ذلك ويقول: أنا أفعل هذا وأعتقد أن الصلاة ليست فريضة وليست واجبة، فهو كافر كفراً اعتقادياً؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. فالذي لا يقر بوجوب الصلاة لا خلاف في كفره بين العلماء، لكن اختلفوا في الذي يقر بوجوب الصلاة لكنه يكسل عن أدائها، فهذا هو محل الخلاف، أما الشخص الذي يجحد وجوب الصلوات فهو كافر مرتد مشرك حلال الدم والمال، واليهود والنصارى خير من الذي يجحد وجوب الصلاة، حتى ولو كان يصلي. فكلامنا عن حكم تارك الصلاة الذي يقر بوجوبها ويكسل عنها. وهنا مجموعة من الأدلة التي استدل بها الذين لا يكفرون تارك الصلاة: الدليل الأول: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وسهام الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة، ولا يتولى الله عبداً في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوماً إلا جعله الله معهم، والرابعة: لو حلفت عليها رجوت ألا آثم: لا يستر الله عبداً في الدنيا إلا ستر عليه يوم القيامة) رواه الإمام أحمد والحاكم والنسائي وغيرهم، وهو حديث صحيح. فهذا الحديث يدل على أن من جاء بسهم واحد أياً كان هذا السهم وترك بقية سهام الإسلام كلها فإن حكمه يختلف عن حكم من ترك سهام الإسلام كلها ولم يأت منها بأي سهم. فوجه الدلالة في هذا الحديث على عدم تكفير تارك الصلاة أنه جعل الصلاة سهماً من أسهم الإسلام، مثل الصيام ومثل الزكاة، ثم صرح بأن من أدى واحدة من هذه الأسهم الثلاثة كان له سهم في الإسلام، ولا يتساوى في الحكم مع من لم يؤد واحداً منها، فهذا يدل على أن من أدى الزكاة فقط -مثلاً- وترك الصوم والصلاة له سهم في الإسلام، وعليه فإن له نصيباً فيه، فلو كان ترك الصلاة مخرجاً من الملة بالكلية لما كان له -أصلاً- نصيب في الإسلام. فقوله: (لا يجعل الله من له سهم في الإسلام -أي: من هذه الأسهم الثلاثة- كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة) هو الدليل الأول الذي استدلوا به. الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق) والصوى علامات من الحجارة توضع على الطريق لتبين مراحل الطريق في السفر، قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فالذي انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره) هذا رواه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) وهو حديث صحيح رجاله ثقاة رجال الشيخين. فوجه الدلالة في هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل هذه منارات وعلامات في الإسلام، أعظمها بلا شك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، ومعلوم أن التوحيد هو شرط في صحة كل شعب الإيمان، إذا فقد التوحيد بطلت كل شعب الإيمان، ولا ينتفع بها صاحبها في الآخرة. قال: (وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه) فقوله: (فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه) يعم كل ما تقدم ذكره ما عدا شهادة التوحيد؛ لأنها شرط في صحة كل شعب الإيمان، فالذي لا يأتي بالتوحيد لا نقول عنه: إنه ترك سهماً من سهام الإسلام. بل إنه لا حظ له في الإسلام، لكن المقصود باقي الشعب المذكورة، وهي (أن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) إلى آخره، يقول (فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن -يعني: جميعاً- فقد نبذ الإسلام وراء ظهره). الدليل الثالث: عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وحج البيت سهم، والصيام سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له) ووجه الدلالة قريب مما مضى. الدليل الرابع: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه) هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والبغوي في (شرح السنة) وفي بعض الروايات: (وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن). فمعنى ذلك أن من قصر في شيء من هذه الصلوات فإنه يدخل تحت المشيئة، فإن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، وهذا شأن أهل الكبائر وليس شأن المشركين أو الكفار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فإذا كان ترك الصلاة كفراً فإن الله لا يغفره، أما دخوله هنا تحت المشيئة فيدل بنص هذا الحديث على أنه لا يكفر بذلك كفراً يخرجه من ملة الإسلام. الدليل الخامس: عن عبادة رضي الله عنه مرفوعاً: (خمس صلوات افترضهن الله على عباده، فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة، ومن لقيه وقد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لقيه ولا عهد له، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) وهذا -أيضاً- حديث صحيح، ووجه الدلالة واضح وموافق لما مضى. الدليل السادس: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أدخل رجل قبره فأتاه الملكان فقالا: إنا ضاربوك ضربة. فقال لهما: علام تضرباني؟! فضرباه ضربة امتلأ قبره منها ناراً، فتركاه حتى أفاق وذهب عنه الرعب، فقال لهما: علام ضربتماني؟ فقالا: إنك صليت صلاة وأنت على غير طهور، ومررت برجل مظلوم ولم تنصره) وهذا رواه الطبراني وهو حديث حسن بطرقه. الدليل السابع: عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه) وهذا رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح ورجال إسناده ثقات. فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل منه الإسلام مع هذا الشرط، فكونه قبل منه الإسلام مع أنه اشترط أنه لا يصلي غير صلاتين يدل على أنه لا يمكن أن يقبل منه شرطاً لا يدخله في الإسلام، فهذا الحديث يدل -أيضاً- على أنه لم يكفر بذلك. الدليل الثامن: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إن أول ما يحاسب به الناس من أعمالهم الصلاة، فيقول ربنا للملائكة وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي هل أتمها أم نقصها. فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان قد انتقص شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه. ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم) وهذا حديث صحيح ثبت عن ستة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. الدليل التاسع: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة) وهذا رواه الإمام أحمد، والشاهد هنا قوله عليه الصلاة والسلام: (وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء) فهذا دليل على عدم تكفير المتعمد ترك الصلاة كسلاً. الدليل العاشر: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة -أي أنه ظل يردد هذه الآية حتى صلى صلاة الفجر- وقال: دعوت لأمتي. قلت: فماذا أجبت -أو: ماذا رد عليك؟ - قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة. قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى. فانطلقت معنقاً قريباً من قذفة بحجر فقال عمر: يا رسول الله! إنك إن تبعث إلى الناس بهذا ينكلوا عن العبادة. فنادى أن: ارجع فرجع، وتلك الآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]). الدليل الحادي عشر: عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى

نتيجة أدلة من لا يفكر تارك الصلاة كسلا

نتيجة أدلة من لا يفكر تارك الصلاة كسلاً تلك الأدلة تدل على أن ترك الصلاة -بلا شك- من أكبر الكبائر على الإطلاق، لكن ليس هو كفراً أكبر مخرجاً من الملة؛ لأننا لا يمكن أن نسوي بين من آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام إيماناً صادقاً وأيقن أن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول من عند الله حقاً وبين من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم كاليهودي أو النصراني. فهناك أدلة على عدم تخليد أصحاب الكبائر في النار، وهي تثبت أن تارك الصلاة يعذب بالنار ويستحق ذلك إن شاء الله عز وجل، لكن لا يخلد فيها، ولذلك نجد أن أدلة الفريق الآخر الذي يكفر تارك الصلاة غاية ما فيها أن تارك الصلاة يعذب في النار، لكن يرد عليهم بالقول: فأين الدليل على خلوده؟ فنحن لا نختلف على أنه يدخل النار إذا قدر الله له العذاب. ومن الأدلة التي تؤيد القاعدة العامة التي تقول: إنه ليس هناك من الأعمال الصالحة ما إذا ضيعه الإنسان يخلد في النار قول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39]، ومنها قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81] وغير ذلك من الأدلة العامة التي تدل على تكفير مرتكب الشرك، أما من ارتكب الكبائر خلا الشرك فإنه لا يكفر إلا إذا استحلها. ومن ذلك -أيضاً- قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ} [فاطر:32] فقوله: (فمنهم ظالم لنفسه) هم أصحاب الكبائر. فيدل هذا على عدم كفره؛ لأنه داخل في الذين اصطفاهم الله، وإن كان قد يعذب. وهناك جملة كبيرة من النصوص التي فيها وصف أفعال معينة بالكفر، والكفر فيها ليس كفراً أكبر، ولكنه كفر دون كفر، والآيات في هذا كثيرة جداً والأحاديث في هذا كثيرة.

أدلة من يكفر تارك الصلاة مطلقا والرد عليها

أدلة من يكفر تارك الصلاة مطلقاً والرد عليها استدل القائلون بكفر تارك الصلاة بقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فقالوا: اشترط الله تعالى لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط: الأول: أن يتوبوا من الشرك. الثاني: أن يقيموا الصلاة. الثالث: أن يؤتوا الزكاة. أما إذا تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوة لنا، ولا تنتفي أخوة الدين إلا بالشيء الذي يخرج من الملة، بدليل أن بعض المعاصي لم تنتف بها -رغم وقوعها- أخوة الدين، كقوله تبارك وتعالى في القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] إذاً: لا تنتفي أخوة الدين مع وجود القتل الذي هو كبيرة من الكبائر، فدل على أنها ليست كفراً. وكذلك -أيضاً- قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] وهذا في فئتين متقاتلتين، ومع ذلك بقيت أخوة الإيمان مع وجود القتال. فالأخوة في الدين لا تنتفي إلا بما يخرج من الملة، وهنا قاعدة، وهي أن ما علق على شرطين لا يتحقق بواحد منهما، وما علق على ثلاثة لا يتحقق باثنين أو واحد منها، وهكذا هنا، قالوا: قال الله تعالى: (فإن تابوا) يعني: من الشرك (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين)، فإن افتقد واحد من هذه الشروط الثلاثة، فإنهم لا يكونون إخوة لكم في الدين. وأما الفريق الذي لا يكفر تارك الصلاة فقد ردوا على هذا وقالوا: إذا تابوا من الشرك وأقاموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة هل يكونون كفاراً؟ وهل تنقطع أخوة الدين بناء على هذا الكلام؟ قالوا: لا؛ إذ عندنا أدلة تدل على أن تارك الزكاة لا يكفر، وهو أنه ورد في وعيد تارك الزكاة أنه يصور له ماله شجاعاً أقرع إلى آخر الحديث، وفي آخر الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار) فبعد أن يعذب هذا العذاب يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار، فهذا يدل على أن تارك الزكاة لا يكفر لمجرد تركها. وردوا كذلك على هذا الاستدلال بأن منطوق هذه الأدلة التي ذكرناها آنفاً يدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة، وهذا المنطوق يقدم على مفهوم هذه الآية، فالله تعالى يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فمنطوق هذه الآية أن من تاب من الشرك وأقام الصلاة وآتى الزكاة فإنه يكون أخاً لنا في الدين مسلماً، أما المفهوم فهو: أن من ترك هذه الثلاثة أو شيئاً منها فليس أخاً لنا. فالتعارض هو بين مفهوم الآية ومنطوق النصوص أو الأحاديث التي ذكرناها من قبل التي تدل على عدم كفره، وعند تعارض المنطوق مع المفهوم يقدم المنطوق. وكما لا يكفر تارك الزكاة تقديماً لمنطوق حديث: (ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار) على مفهوم هذه الآية، فكذلك يقدم منطوق النصوص الدالة على عدم كفر تارك الصلاة على مفهوم هذه الآية. فتكون كلمة (فإخوانكم في الدين) في شأن الشرك محمولة على أصل الأخوة، أما في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فتحمل على كمال الأخوة في الدين، يعني: ليسوا إخواننا إخوة كاملة، بل ناقصة. الدليل الثاني: استدلوا بقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:59 - 60] فقالوا: قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) دل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات ليسوا مؤمنين؛ لأن الآية تقول: (إلا من تاب وآمن) فدل ذلك على أن تارك الصلاة غير مؤمن؛ لأن توبته مرتبطة بالإيمان. والجواب أن قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) معناه: لو تاب وداوم وثبت على إيمانه. كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] أي: داوموا على إيمانكم. لأنه خاطبهم بصفة الإيمان. فيكون معنى قوله: (إلا من تاب وآمن) أي: آمن إيماناً كاملاً بشروعه في الصلاة. والدليل على إبطال احتمال أن قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) قصد به الدخول في أصل الإيمان وأنه مشرك بتضييعه للصلاة أنه لم يكتف بكلمة (إلا من تاب) لأن التوبة ستشمل الكفر وتشمل المعاصي، لكنه لم يكتف بها ولم يقل: (تاب) فحسب كما قال سبحانه وتعالى في الكافرين: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74] ولم يقل: فإن يتوبوا ويؤمنوا. مع أن الله سبحانه وتعالى ذكر في حق المنافقين أنهم كفروا بعد إسلامهم، فتوبة الكافر هي إيمانه، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل قال له: أقاتل ثم أسلم، أم أسلم ثم أقاتل؟ قال له: (أسلم ثم قاتل)، ولم يقل له: تب وأسلم. أو: تب وآمن ثم قاتل. لكنه قال: (أسلم). وفي حديث معاذ قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم) إلى آخر الحديث، فقال: (فادعهم إلى أن يشهدوا) ولم يقل: إلى أن يتوبوا. وقال عليه الصلاة والسلام لـ هرقل: (أسلم تسلم)، وقال الله عز وجل حاكياً عن الوالدين يعظان ابنهما: {وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17]. فالشاهد من هذا كله أن المقصود من كلمة (آمن) أي: دخل في تمام الإيمان وكماله. وقد أولنا كلمة (آمن) عن معناها الحقيقي -وهو الدخول في أصل الإيمان- إلى المعنى المجازي -وهو تمام الإيمان وكماله- القرينة، فقوله تعالى: (إلا من تاب وآمن) أي: إيماناً كاملاً. والقرينة التي جعلتنا نصرف كلمة (آمن) عن معناها الحقيقي هي الأدلة التي تدل على أن تارك الصلاة كسلاً لا يكفر كفراً مخرجاً من الملة، وليس المقصود بذلك أصل الإيمان، بل كماله. الدليل الثالث: قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:35 - 43] فقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) يفهم منه: أنه لا يليق بحكمة الله أن يجعل المسلمين كالمجرمين، فبين تبارك وتعالى حال هؤلاء المجرمين أنهم يوم القيامة عندما يكشف عن ساق -كما بين ذلك الحديث الصحيح- ويدعون إلى السجود يحال بينهم وبين السجود عقوبة لهم على ترك السجود مع المصلين في دار الدنيا، قال تعالى: (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون) أي: في الدنيا (إلى السجود وهم سالمون) فيمتنعون من الصلاة، فلذلك يؤاخذون بذلك، فيفهم من هذا أنهم يكونون مع الكفار والمنافقين؛ لأن المنافقين ستبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كالطبق الواحد لا يستطيعون السجود، فلو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين. والجواب على هذا الاستدلال أن الآية لم تتعرض لخلودهم في النار حتى تدل صراحة على كفرهم، وتعجيزهم عن السجود لا يستلزم دخولهم النار؛ لأن هذا في موقف من مواقف يوم القيامة، ولو افترضنا أنه يستلزم دخولهم النار، فهل دخول النار يستلزم الخلود فيها؟ والجواب أنه لا يستلزم الخلود فيها إذا دخلوها. أما قولهم: لو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين، فجوابه أن هذا غير مسلَّم؛ لأن عدم الإذن لهم بالسجود ربما لأنهم كانوا لا يسجدون لله في الدنيا فعوقبوا بمنعهم من السجود في الآخرة، أو كانوا يسجدون في الدنيا رياء لا لوجه الله، فعوقبوا بحرمان السجود في الآخرة مع المؤمنين. وأما في الحديث فيقول عليه الصلاة والسلام: (فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له في السجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه) إلى آخر الحديث، والسجود رياء لا يستلزم الخروج من الملة بالكلية. إذاً: عدم الإذن بالسجود لا يستلزم أن يكون غير المأذون لهم كافرين، ثم إن الآيات لم تذكر أنهم لو دخلوا النار يكون خالدين فيها أو غير خالدين. الدليل الرابع: استدلوا بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:38 - 48] فاستدلوا هنا بقوله تعالى: (في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) قالوا

ذم كثرة السؤال

ذم كثرة السؤال السؤال قضية ترد في حياة المسلم، وقد جعل لها الشرع آداباً كثيرة، حيث كره الإكثار منه فيما لا يعود بفائدة على المسلم وفيما يؤدي إلى التعمق والتكلف ونحو ذلك، كما أرشد الشرع إلى اجتناب المسائل التي يحصل بها ضيق وحرج على المسلمين أو يأتي فيها الجواب بما يسوء السائل، وهناك آداب أخرى ينبغي للمسلم -خاصة طالب العلم- أن يعتنى بها لكي يسلم في دينه.

غضب النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة الأسئلة

غضب النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة الأسئلة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بسنده في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) في (باب ما يكره من كثرة السؤال) عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم فيه ما دمت في مقامي هذا. قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء) يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام فتح لهم باب السؤال، وكأنه كان مغضباً من كثرة السؤال، فلذلك قال: ما دمتم تكثرون الأسئلة إذاً فاسألوا، فوالله لا يسألني أحد سؤالاً إلا أجبته عنه. يقول: (من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامكم هذا. قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء - خوفاً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: سلوني، سلوني. قال أنس: فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: النار. فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة. قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني، فبرك عمر على ركبتيه - علم عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب من كثرة أسئلتهم- وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشر). وعند مسلم: قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة -وقد كان الناس يطعنون في نسبته إلى أبيه حذافة، فلما فتح الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الفرصة ليجيب عن أي سؤال سأل هذا Q من أبي يا رسول الله؟ وأراد بذلك أن يحسم هذا الكلام، فلما وقع منه ذلك ورد عليه الصلاة والسلام وقال أبوك: حذافة. قالت له أمه-: (ما سمعت بابن قط أعق لأمه منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف النساء من أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته. هذا الحديث رواه الإمام البخاري في (باب ما يكره من كثرة السؤال)، وذلك في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة)، والحقيقة أن كثرة السؤال وعدم الانشغال بالعمل، وترك الإعراض عن تشقيق الأسئلة وتفريعها والجدل، والسؤال عما لا يعني ظاهرة بلا شك من الأخلاق المضادة تماماً لسلوك السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يحب كثرة السؤال والجدل والمراء والتكلف والتنطع في الأسئلة، وتتبع المغاليق من المسائل، وتتبع سقطات الناس وأغلاطهم كل هذا مما يتنافى مع قول السلف الصالح رحمهم الله تعالى. وفي بداية الحديث أحب أنبه على أن ما سنذكره لا نذكره من أجل المتعة الذهنية، أو زيادة المعلومات النظرية، وإنما المقصود أن ينعكس على سلوكنا، وإذا ما انشغلنا بالعلم النافع فلن نحتاج إلى كثرة الأسئلة، إذا انشغلنا بالعلم وبالقرآن الكريم، وبحفظ القرآن، وبذكر الله عز وجل لن نقع في هذا الخلق الذي ذمه السلف الصالح رحمهم الله تعالى أجمعين. فأنت ترى كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام غضب لما كثرت أسئلة الصحابة، فوقف وقال لهم: (سلوني) أي: ما دمتم تريدون كثرة الأسئلة إذاً سلوني ما شئتم، فأي شيء تسألون عنه سوف أجيبكم عنه ووقع ما وقع كما في الحديث.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) ونفس هذا المعنى هو الذي علمه الله سبحانه وتعالى الصحابة رضي الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:101 - 102]. فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا) يعني: لا تسألوا نبيكم عليه الصلاة والسلام (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ) أي: تظهر لكم (تَسُؤْكُمْ) لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعني: وإن تسألوا عن أشياء نزل بها القرآن مجملة فتطلبوا بيانها تبين لكم حينئذٍ. هذا أحد الوجوه في تفسير الآية (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعني: إذا أنزل شيء في القرآن وكان مجملاً وأنتم تطلبون بيانه فهذا ليس منهياً عنه، بل لكم أن تسألوا عن الشيء الذي يوضح ما أجمل في القرآن، فيبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من مواضع الحاجة التي لا حرج في السؤال فيها. وثم توجيه آخر، وهو جعل (حين) ظرفاً لـ (تبد)، يعني: إن تسألوا عنها تبد لكم حين ينزل القرآن. وقيل: إن قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يتضمن التهديد والتحذير، أي: ما سألتم عنه في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسؤكم، وربما يأتيكم البيان بما يسؤكم. فيحمل معنى الآية على: لا تتعرضوا للسؤال عما يسؤكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم؛ لأن زمن الوحي زمن التشريع، كما جاء في سبب نزول هذه الآية حينما نزل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فقال رجل: (أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال في الثالثة: أكل عام يا رسول الله؟ قال: لا. ولو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم أن تحجوا في كل عام). فلو أن ملايين المسلمين الموجودة في الأرض تريد الحج إلى مكة خاصة، وكان الحج فريضة كفريضة الصلوات الخمس، فكم سيكون في ذلك من المشقة؟ إذاً هذا الرجل فتح باب السؤال، ولو أتى الجواب موافقاً لكان في ذلك تعنت ومشقة وإساءة للمؤمنين. وقال بعضهم: إنه تبارك وتعالى بين أولاً أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم أساءتهم، ثم بين ثانياً أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فكان حاصل الكلام: إن سألوا عنها أبديت لهم، وإن أبديت لهم ساءتهم، فيلزم من مجموع المقدمتين: أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم، فالمراد بهذه الأشياء ما يشق عليهم ويضمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها، كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشبيه لإساءتهم الأدب، واجترائهم على المسألة والمراجعة، وتجاوزهم عما لا يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عز وجل من غير بحث ولا تعرض لكيفيته وأهميته.

نموذج من التعنت وكثرة الأسئلة

نموذج من التعنت وكثرة الأسئلة إذا أتى الأمر الشرعي فامتثله ولا تستتبع حتى لا يأتيك الجواب بما يسوؤك ويثقل عليك، كما حصل مع بني إسرائيل، حين أمروا أن يذبحوا بقرة، فالتنطع في الأسئلة وكثرة مراجعتها خلق إسرائيلي يهودي، خلق المغضوب عليهم، ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة وذبحوها لكانت تجزئهم؛ لأن الأمر كان بأي بقرة، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة:67 - 68] وانظر إلى سوء الأدب مع الله {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68]، اسألوه عن السن، فأتاهم الجواب عن السن: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] وما كفاهم التقيد بقيد السن، بل تنطعوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] هذا هو بيان (إن تبد لكم تسؤكم) لما في ذلك من التضييق والتشديد. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:69 - 70] فلبركة هذا الاستثناء (وأنا إن شاء الله) أتاهم الجواب الفاصل في النهاية: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] وهذا أيضاً من سوء القول، وكأنه من قبل ما أتى بالحق. فهذا نموذج من نماذج التنطع والتشدق وتتبع الأسئلة وتقريعها مما يورد هذه المشاق وهذا العنت، فالواجب الاستسلام لأمر الله عز وجل كيفما كان دون السؤال عن الكيفية أو الكمية. فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101] معناه: لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يعنيكم من نحو تكاليف شاقة عليكم؛ لأنه إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أوحي إليه فلن تطيقوها، ونحو بعض أمور مستورة إذا سألتم وبرزت سوف يسوءكم الجهر بها. وقوله تعالى: (عفى الله عنها) يعني: عفا عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن، ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم، فأنتم بالسؤال قد تفتحون باب التضييق عليكم. أو: عفى الله عن بيانها كي لا يسوءكم بيانها. قال تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:102] (ثم أصبحوا بها) أي: بسببها (كافرين) لأنهم لما أجيبوا بما سألوا عنه لم يمتثلوا هذا الذي وجب عليهم بسبب السؤال، ولم يفعلوه، وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له.

ما روي في سبب نزول آية المائدة

ما روي في سبب نزول آية المائدة هذه الآية روى البخاري في سبب نزولها عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءاً، فيقول رجل: من أبي؟ ويقول رجل تضل ناقته: أين ناقتي؟) كما يعمل هذا بعض المستفتين في هذا الزمان عندما يأتون إلى الشيوخ والعلماء لحل أسئلة المسابقات. وهذا نوع من الاستخفاف بالأشخاص، وهذا الخلق -كثرة الأسئلة- يحمل هذا المعنى، فكان الرجل تضل ناقته فيأتي يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عنها، فأنزل الله فيهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101]. وعن أنس رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فنزلت هذه الآية: ((لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)) [المائدة:101]). وروى البخاري أيضاً في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة - حتى أحرجوه وأضجروه بكثرة المسائلة - فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم. فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي) عرف الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غضب من كثرة السؤال. فلذلك قال: إذا كنتم تفتحون هذا الباب إذاً اسألوا وسأجيبكم حتى لو كان ذلك فيه ما يسوءكم ويؤذيكم. ومن أجل ذلك أفاق الصحابة وفهموا أنه في حالة غضب شديد على هؤلاء الذي يسلكون هذا المسلك، ولذلك يقول هنا: (فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي) يعني: خوفاً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندماً على ما كان منهم من قبل. قال: (فأنشأ رجل كان إذا لاحى -يعني: وقع جدال أو عراك بينه وبين شخص- ينسب إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. ثم أنشأ عمر فقال رضي الله تعالى عنه: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط؛ إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط) فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]. وعن السدي قال: (غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فقام خطيباً فقال: سلوني -إلى أن قال مثل ما مضى من الأحاديث- فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وزاد: وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك. فلم يزل به حتى رضي صلى الله عليه وسلم). وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمر وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ قال: في النار -بنحو ما مضى- وفيه فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]).

أدب لطلبة العلم في ضوء الآية

أدب لطلبة العلم في ضوء الآية قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (وفي هذه الزيادة على ما في البخاري من قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين أنا؟ قال: في النار) يتضح أن هذه القصة هي سبب نزول قوله تعالى: (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). وكيف ستكون حياة هذا الرجل في الأيام أو الشهور أو السنوات المتبقية من عمره وهو يترقب أنه بعد موته يدخل النار؟ وما مقدار المساءة في مثل هذا الخبر الذي يؤذيه ويسوءه بلاشك؟ فالمساءة هنا جاءت صريحة، بخلافها في حق حذافة فقد جاءت بطريق الجواز، وربما إذا أجاب بأن أباه ليس حذافة تؤذيه بطريق الجواز، أي: لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه؛ وبين أباه الحقيقي لافتضحت أمه كما صرحت بذلك حين عاتبته على هذا السؤال، لكن المساءة هنا جاءت بحكم قاطع أنه في النار. وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي البختري، عن علي رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت. قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: لا. ولو قلت: نعم. لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]). وجاء أن بعض الصحابة قالوا: (لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: الحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة. ونحن -معشر طلاب العلم- وأخص من ينتسبون إلى المنهج السلفي -نحتاج لتحذير متكرر في غاية الجدية في هذا الأمر؛ لأنني ألحظ بعض الإخوة حينما يجلسون إلى الشيوخ أو يراسلونهم بالأسئلة ويتصلون بهم ألحظ كثيراً من هذه الأغراض، فيتصل بأحد العلماء مثلاً، ويسأله سؤالاً ما، ويعد له كميناً حين يوصل جهاز التلفون بجهاز سري، ودون أن يستأذنه يسجل له فتاوى، ثم إذا به يستعمل كلام هذا الشيخ لنصرة طائفته التي ينتمي إليها، أو مهاجمة الشيخ نفسه أو غيره، ويسخر هذا الكلام في مثل هذه الأذية، وهذا -بلاشك- خلق ينافي سلوك السلف؛ لأنه -بلاشك- نوع من خيانة الأمانة، ولابد من استئذانه في مثل هذه الأشياء، وهناك رسالة جديدة أصدرها العلامة الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله تعالى، تحدث فيها عن مثل هذا بالتفصيل. أو ربما يكون السؤال على سبيل الامتحان وطالب العلم لديه غرض، لكنه يخفيه في البداية، ثم يفتح الطريق للكلام بطريقة تشبه الاستدراج إلى الموضوع ليجادله، كلما أدلى بحجة يعارضه بحجة. وهناك فرق بين الاستفتاء السريع الذي هو سؤال وجواب للإرشاد وبين مقام المناظرة، فالمناظرة لها مجلسها ووضعها وأوضاعها، أما الاستفتاء فأمر آخر، فهذا يحصل كثيراً مع كثير من الشيوخ، وهو أن طالب العلم يسأل متعنتاً لا راغباَ في الاستفهام والسؤال. وقد أدركت بعض الأخوة في مرة من المرات مع أحد الشيوخ الكبار حفظه الله تعالى، وكأن هذا الطالب سهر الليالي حتى يحفظ مسألة معينة، ثم أتى يجادل بها الشيخ بحيث يستدرجه بأن يفتح له الموضوع، ثم إذا به يجادل ويحرج الشيخ ويحاصره كأنه ملاكم أو مصارع يواجه خصمه، فلا شك أنه يوجد كثير من التعنت وتعمد الإحراج أو الامتحان أحياناً، حتى إن الشيخ -حفظه الله تعالى وبارك في عمره وعمله- رد على الأخ بمنتهى البساطة، وقال: يا أخي! إني لا أحسن هذه المسألة. وعلم الله أن الشيخ يحسنها من قبل أن يولد هذا الشاب وألف فيها كتباً. فالشاهد أن مراعاة الأدب عند السؤال واجبة، وأما امتحان السائل فهذا من البدع. وفي قصة الإمام البخاري في محنته المشهورة أنه أتى رجل وسأله سؤالاً أمام الناس حتى يمتحنه، كي يأخذ الجواب ويشنع على عقيدة البخاري، وهذا ما حصل بالفعل، حتى اضطر البخاري إلى الخروج من بلاده، وحصلت له محنة عظيمة بسبب هذا، فلما سأله على مجمع من الناس وهو يقصد امتحانه واختباره وإيقاعه أجابه على مسألة (اللفظ بالقرآن مخلوق) ثم قال له: وامتحان المسلم بدعة. فليس من الأدب أنك تسأل المسلم لتمتحنه، أو الشيخ لتمتحنه أو لتظهر أنك أعلم منه في هذه المسألة، فالشخص الذي يتعنت ولا يطلب العلم لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره، ولا يجاب ولا يستحق جواباً، لكن فليتأدب في السؤال، ويتلطف ولا يتعنت، ولا ينوي الامتحان ولا الإحراج، ولا استعمال هذا الكلام لامتحان بعض الشيوخ في بعض الموضوعات، إلى غير ذلك من هذه الأشياء. يقول الحافظ ابن حجر: (والحاصل أنها -أي: هذه الآية- نزلت لكثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان). وأما موضوع الامتحان في الاتجاهات الحزبية والانتماء للجماعات والاتجاهات الفكرية فهذه مشهورة وكأنها خلق عادي، وكثير من طلبة العالم يسأل كي يمتحن، لا محتاجاً للإجابة، فلا تمتحن وتقول: سأبحث عن اتجاه هذا الشيخ، أو اتجاه هذا الرجل فمثل هذه الامتحانات الأفضل للمسلم أن يكون سلوكه فيها حسن الظن إلى أقصى مدى، خصوصاً مع العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. يقول ابن حجر: (إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لولم يسأل عنه لكان على الإباحة). بجانب أن كثرة هذه الأسئلة حجة على صاحبها، كما كان بعض الناس يكثر الأسئلة على عالم معين، فلما أضجره وأكثر عليه من الأسئلة قال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال فما تصنع بازدياد حجة الله عليك. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) ورواه أبو داود والترمذي، لكن في سنده كلام.

الانعكاسات السلبية على الفرد والمجتمع بكثرة التتبع

الانعكاسات السلبية على الفرد والمجتمع بكثرة التتبع يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على هذه الآية الكريمة بقوله في (إعلام الموقعين): لم ينقطع حكم هذه الآية. يعني: الأدب أو الحكم المأخوذ من هذه الآية لم يكن مختصاً بهؤلاء الذين نزلت فيهم وإنما هو حكم عام باق. فيقول ابن القيم رحمه الله: لم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله. ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا) لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا؟ (لا تسأل) لأن الأصل في الماء الطهارة، فالذي كان يمشي مع عمر سأل صاحب الميزاب عن طهارة ذلك الماء، فقال عمر: (يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا) لأن الذي سقط ماء، والأصل في الماء الطهارة، فإذا كنت تمشي بجانب مستنقع من الماء وهناك سيارة تسير بسرعة قذفت بالماء عليك -مثلاً- فلا تبحث عنه، أنت غير مكلف بهذا، ولكن إذا خالفت هذا الأدب وظللت تسأل وتستتبع فقد يظهر لك ما يسوؤك فتصير ثيابك نجسة مثلاً، لكن أنت متعبد بعلمك الذي هو اصطحاب أصل الطهارة في كل المياه والتراب. كذلك نلاحظ بعض الناس يريد أن يصلي في البيت -مثلاً- فيحضر السجادة، فهذا يقال له: صل على أي شيء من تراب أو فرش، ودع الوسوسة بهذه الطريقة، فأنت غير مطالب بالتحري في أي مكان في الأرض، بل صل فقط، أما أن تتتبع وتفتش وتقول: لعل ولعل فلا. فما دمت لم تر دليلاً حسياً على النجاسة أمامك فابن على الأصل ولا تتعنت، هكذا الإسلام في سماحته وسهولة أحكامه ويسره، وفي الحديث؛ (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) فخذ الأمور ببساطة، فإذا زرت أخاك المسلم فقدم لك الطعام فلا تسأل عنه، ولا تقل له: من أين هذا؟ أو تسأل عن اللحم من أين، أو الجزار يصلي أو لا يصلي، فأنت غير مطالب بهذا، والأصل أن المسلم يتقي الله، فتأكل مما قدمه لك، وأنت غير مطالب بتتبع هذا الأمر. هذا هو الأصل، أما إذا ظهر لك ما ينقلك عن الأصل فهذا شيء يعتبر، لكن لا تفتش عن أشياء قد تضيق عليك حياتك، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زار أحدكم أخاه فأكل أو شرب عنده فلا يسأله) لا تسأله، واستصحب هذا الأصل. يقول ابن القيم: (وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوءه إن أبدي له). وأحياناً بعض الناس لا يقنع بمعاملة العبيد مع العبيد حتى يعامل الناس كأنه رب وهؤلاء العباد عبيد له. فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنه لا يطلع على ما في صدور الناس إلا الله سبحانه وتعالى رب الناس، أما بعض الناس فإنه يفتش ويتحرى حتى يستتبع خبايا الأمور ودخائل النفوس، وبالتالي يبدأ يحصر نفسه في محيط من العداوات، ولن تستقيم له الحياة أبداً؛ لأنه يحاول أن يتعامل معهم كرب، والرب هو الذي يطلع على ما في القلوب، فاقبل من الناس ظاهرهم ودع عنك باطنهم. وكنت منذ سنوات بعيدة جداً سمعت عن قصة أو رواية اسمها (نظارة الحقيقة)، هذه النظارة اخترعها رجل زعم أن من لبسها جعلت كل من يحدثه يكلمه بما في قلبه، فيأتي لرجل يتكلم مع زوجته ويسلط عليه نظارة الحقيقة، وبعد أن يكون معها بغاية اللطف والمجاملة إذا به ينقلب الحوار ويكشف كل الأحقاد التي في نفسه تجاهها، ثم إذا سلطها على الآخر يحصل نفس الشيء وهكذا، فظل الرجل يستعمل هذه النظارة فوجد أن الحياة ستصبح جحيماً لا يطاق بسبب أن الناس ستتعامل على حقيقة ما في بواطنها، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل خبايا النفوس مستورة، فاقبل من الناس ما يظهرون، ولا تفتش عن الخبايا؛ لأنك لو فتشت ستطَّلع على ما يسوؤك ويؤذيك، فعامل الناس على أنك عبد مثلهم لا تعلم ما في صدورهم. ولو أن الإنسان تتبع، وظل يسأل ويحاور ويفتش ويسأل عن النوايا ويتتبعها، فلو قدر أنها كشفت له فهي -قطعاً- سوف تسوءه، والستر سينكشف، والنفس ستفتضح، ومن ثم نعيش في جو بحر من العداوات والأحقاد، ولا يمكن أبداً أن تستقيم معه حياة، فمن رحمة الله أن تترك الأمور مستورة لا تفتش ولا تنقب. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوءه إن أبدي له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه وتعالى يكره إبداءها ولذلك سكت عنها). يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن القيم: (وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها، ويدل له ما رواه له البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته). فقوله: (إن من أعظم المسلمين جرماً يعني: عقوبة. فإذا كان السؤال الذي سأله كان بسببه تحريم شيء كان حلالاً فهذا إنسان يعاقب، وهو من أعظم المسلمين جرماً عند الله سبحانه وتعالى، وهذا يجسد لنا خطورة موضوع تتبع الأسئلة بهذه الطريقة، (إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، ومثل ذلك قد أمن الآن؛ لأن التحريم قد انقطع بانقطاع الوحي.

ذم كثرة السؤال في السنة وأقوال السلف

ذم كثرة السؤال في السنة وأقوال السلف عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، فالشيء الذي سكت عنه الشرع لا تبحث عنه ما دام أنه لم يذكر في القرآن ولا في السنة، فالأصل هو استصحاب الأصل الذي هو الإباحة في مثل هذه الأشياء؛ فالحلال بين والحرام بين. فقوله: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وسكت عن أشياء غير نسيان) ما تركه الله لم يكن عن نسيان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، فاتركها ولا تتتبعها؛ فإن الله لم يكن لينساها، فكونها لم يحتويها القرآن ولا السنة يدل على أن الأصل فيها هو العفو. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلفوا) يعني: لا تتنطعوا ولا تتتبعوا ولا تفتشوا وتتعنتوا. لماذا؟ لأن من وصف الرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء في القرآن: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] والحديث رواه الترمذي والحاكم وابن ماجة. وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع)، وفي رواية مسلم: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع)، وانظر إلى شدة تهيب الصحابة رضي الله عنهم من كثرة الأسئلة، حتى إنهم كانوا ينتظرون مجيء الرجل من البادية ليسأل؛ لأنه لن يعامل مثل الصحابي الذي يعيش ليل نهار مع الرسول عليه الصلاة والسلام. والرسول عليه الصلاة والسلام يعذر من جاء من البادية، فمن جاء من أهل البادية وكان عاقلاً فهذا ما كانوا يفرحون به؛ لأنه سيسأل أسئلة تفيدهم، فلذلك كانوا يفرحون. وهذا الحديث يبين المعنى الذي نقصده بياناً واضحاً جداً، وكيف أن الصحابة وعوا هذا الأدب والتزموه، حتى إنهم كانوا يمنعون أنفسهم من أن يكثروا من الأسئلة، وما يكاد يوجد لهم منفذ إلا أن يأتيه رجل غريب فيعذره الرسول عليه الصلاة والسلام فيسأل، لكن إذا كان الرجل عاقلاً فإنه يسأل أسئلة جيدة موضوعية فيفرحون بذلك لأنهم سيستفيدون حينها. (فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق)، إلى آخر الحديث. وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها). ولـ مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: أقمت بصفة أني رجل وافد غريب، وما أظهرت أني أريد الإقامة؛ لأنه إذا أراد الإقامة وصار من المهاجرين المقيمين فلابد أن يلتزم بهذا الأدب؛ لأنه أدب الصحابة المحيطين بالرسول عليه الصلاة والسلام. فما أجمع إقامةً وهجرةً سنةً كاملةً؛ لأنه سيظل يعامل معاملة الوافد الغريب، فقد كان يعطي نفسه فرصة الأسئلة ويستفيد من مساءلة النبي صلى الله عليه وسلم. يقول القاسمي: (ومراده أنه قدم وافداً فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم). وأخرج الإمام أحمد، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم -امتثلوا هذا النهي واتقوا أن يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام- فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء) وهذه رشوة غير محرمة وإن كانت في معنى الرشوة، ولكنها ليست رشوة في الحقيقة، قال: (فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء، وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم) لأنه أعرابي فله أن يسأل، وحتى يحرضوه على أن يسأل أهدوا إليه هذا الرداء كيما يقوم بالسؤال ويستمعوا هم إلى الجواب، وهذا -أيضاً- يعطينا معنى تمكنهم من هذا الأدب الذي أدبهم الله به. ولـ أبي يعلى عن البراء قال: (إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -يعني قدومهم- ليسألوا، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها). وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيحتمل أنه كان قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه فالنهي لا يتناول الأمور التي يحتاج إليها المسلم، وما من شك في أن كل مسلم تعرض له قضايا أو مواقف يحتاج فيها لمعرفة حكم الشرع، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال) فالجهل مرض ودواؤه السؤال، فمن يسأل عن شيء واقع له ثمرة فنعم، أما أن يسأل عن الافتراضات والتفريعات وسائر صور التنطع فهذا غير مأذون به. والمقصود أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يسألونه -فقط- عن بيان أحكام الدين التي يحتاجون إليها، وهذا ليس داخلاً في هذا النهي، كسؤاله عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219]، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، ويقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] ويقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220] وهكذا، فوجود السؤال عما سبق وغير ذلك مما ورد في القرآن يثبت أنهم سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهة كثرة المسائل عما لم يقع أخذوه بطريقة الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سبباً للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب، وأورد الإمام الدارمي في أوائل مسنده باباً أورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين أقوالاً كثيرة في ذلك. منها: قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن)، وعن عمر قال: (أحرم عليكم أن تسألوا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً) أي: نحن نشتغل بالأمور التي يترتب عليها ثمرة، أما الافتراضات والتفريعات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة ولا ثمرة فهذا مما نهينا عن أن نسأل عنه. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا وقع؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون. فلا تسأل عما لم يقع، فإن وقع فحينئذ تسأل. وعن أبي سلمة ومعاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل)، وهذا مرسل، فالأصل أننا نشتغل بالأمور التي يترتب عليها ثمرة، أما الافتراضات والتفريعات التي لا طائل من ورائها ولا فائدة ولا ثمرة فهذا نهينا عن أن نسأل عنه. ومثل ذلك الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع، وهي مسألة نادرة الوقوع جداً، فيفرغ زماناً كان صرفه في غيرها أولى، ولاسيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه. وأشد من كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحكمة، كمثل السؤال عن وقت الساعة، وهذا سؤال عما لا يعني؛ إذ علمها عند الله سبحانه وتعالى، فالسؤال عن وقت الساعة مما لا يفيد ولا ثمرة من ورائه، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة نقل السائل إلى ما ينفعه، وأعرض عن جواب سؤاله، وانتقل إلى ما يفيد فقال: (وما أعددت لها) إلى آخر الحديث. كذلك السؤال عن الروح، كما قال الله عز وجل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، كذلك السؤال عن مدة هذه الأمة، إلى غير ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، ولا سبيل إلى التعرف على جواب هذه الأسئلة إلا الوحي، وإذا كان الوحي نهانا عن الخوض فيها فلا مطمع أن نجد جواباً صحيحاً لها، فيجب الإيمان بذلك من غير بحث. وأشد أنواع هذه الأسئلة النوع الذي توقع كثرة البحث بسببه في الشك والحيرة، قال بعضهم: مثل التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب ب

مواضيع عشرة يكره السؤال فيها

مواضيع عشرة يكره السؤال فيها

السؤال عما لا ينفع في الدين

السؤال عما لا ينفع في الدين قال الشاطبي: (ويتبين من هذا أن الكراهية السؤال مواضع نذكر منها عشرة مواضع): الموضع الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين: كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ فهذا لن يعود عليه بأي فائدة، بجانب أنه لو افترض أن أمه قد قارفت ذنباً في الجاهلية، وأنه كان ثمرة هذا الذنب فأي أذية وأي عقوق يكون قد صدر منه في حق أمه وهي إنما كانت في الجاهلية؟! لكن -والحمد الله- الرسول عليه الصلاة والسلام برأها من ذلك. فأي فائدة تعود عليه بمثل هذا السؤال؟! إذاً يتحرى الإنسان، وربما يعاقب إذا بحث فيما نهى الشرع عن البحث فيه، فتكون العقوبة بقدر الله أن يصدر ما يسوؤه، كما في حديث: (نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطرق الرجل أهله ليلاً)، فلم يتخونهم أو يتلمس عثراتهم؟ لأنه إذا كان مسافراً أو غائباً يفاجئ زوجته في البيت في وسط الليل وهو يقصد بذلك التجسس عليها، ومن ثم ينشأ عن هذا شك وريبة، فربما إذا خالف الأدب الشرعي في أنه لا يطرق أهله ليلاً ربما يبتلى بأن يظهر له ما يسوؤه، كما حصل لبعض الناس حينما خالفوا هذا الأدب بشؤم مخالفة الأدب النبوي في عدم طرقهم لأهلهم ليلاً فرأوا ما يسوؤهم ويؤذيهم. إذاً الموضع الأول من مواضع كراهية Q السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: من أبي؟ وروي أيضاً أن بعض الناس سألوا: ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان. فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]، فأعرض القرآن الكريم عن إجابة السؤال، وأجاب بما يفيد السائل في دينه؛ لأنه سؤال ليس وراءه فائدة. وفي قوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون أنه يحرم على من عاد من الحج وأراد أن يدخل البيت أن يدخله من الباب، ولكن يدخله من الخلف من النافذة، فيمنعون المحرم من الدخول من باب البيت، وبعض العلماء يقول: إن المقصود هنا الإشارة إلى انتقاد هذا الذي سأل عن الأهلة بأن الهلال يبدوا دقيقاً ثم يصير بدراً ثم ينقص ثانية. فقوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) يعني أن المشتغل بهذه المسائل كالذي يأتي البيوت من ظهورها، لكن عليك أن تأتي البيوت من أبوابها بأن تسأل عما يفيدك في دينك لا عما لا يعنيك.

السؤال بعد بلوغ الحاجة

السؤال بعد بلوغ الحاجة قال: (الموضع الثاني: أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته): فالنص الشرعي قد يكون واضحاً وظاهراً، ثم بعدما يبلغه العلم يبدأ يشق على نفسه، ويسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، كالرجل الذي سأل عن الحج: أفي كل عام يا رسول الله؟ مع أن ظاهر قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] يكفي في امتثاله أن يوقعه الإنسان مرة واحدة في عمره، فظاهره أنه ليس إلى الأبد لإطلاقه، فمثل هذا السؤال يجعل موضعاً من مواضع كراهة السؤال، مع أن ظاهر الآية أنه يكفي أن تحج مرة واحدة، لكنه مصر أن يصرح ويسأل: أفي كل عام؟ حتى قال له: (لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم). ومن هذا سؤال بني إسرائيل عن البقرة بعد ما قال لهم موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] أيَّ بقرة، ولو ذبحوا أي بقرة لانتهى الأمر ولأدوا ما وجب عليهم، لكنه التنطع والتشدد، وكان يكفيهم النص الشرعي بذبح بقرة، فالسؤال في مثل هذا الموضع هو استجلاب للضيق وللعنت، وهو من التنطع.

السؤال في غير وقت الحاجة

السؤال في غير وقت الحاجة قال: (الموضع الثالث: السؤال عن غير احتياج إليه في الوقت). يعني: أن يسأل وهو غير محتاج إلى جوابه في ذلك الوقت، وليس في زمن الاحتياج إليه، وكأن هذا -والله تعالى أعلم- خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم)، وقوله -أيضاً- عليه الصلاة والسلام: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها).

السؤال عن صعاب المسائل وشرارها

السؤال عن صعاب المسائل وشرارها قال: (الموضع الرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها). أما السؤال عن صعاب المسائل وشرارها فكما جاء النهي عن الأغلوطات في حديث معاوية عند أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات) والأغلوطات هي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة، أي: ينصب فخاً لعالم، ويلقي له هذا السؤال كي يصدر منه الجواب، فيحصل بذلك شر وفتنة، وهي جمع أغلوطة.

السؤال عن علة الحكم

السؤال عن علة الحكم قال: (الموضع الخامس: أن يسأل عن علة الحكم). يعني هنا الحكم الشرعي من الأمور التعبدية التي لا يعقل معناها، وهي لها معنى وحكمة وإن لم يطلع على ذلك، كتقبيل الحجر الأسود، وبعض مناسك الحج، أو أي أمر تعبدي كما هو معروف، فيكون الأمر من قبيل التعبد، ثم هو يتنطع ويسأل عن علة هذا الحكم مع أنه من الأمور التعبدية؛ كالسؤال عن علة قضاء الصوم دون الصلاة في حق الحائض والنفساء. فعن معاذة رضي الله عنها قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: (أحرورية أنت؟!). أي: أأنت من الخوارج؟! والخوارج يرون أن الحائض تقضي الصلاة كما تقضي الصوم، فلم تقف هذه المرأة عند ما ورد وحُدَّ لها في الشرع، ولذلك جاء جواب عائشة رضي الله عنها أولاً بأن وبختها وقالت: (أحرورية أنت؟!) أي: أأنت تذهبين مذهب الخوارج؟! لأن الخوارج ينسبون إلى حروراء، وهي بلدة أو قرية في العراق خرج منها الخوارج. ثم قالت عائشة: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) فقولها: (كان يصيبنا ذلك) أي: في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

بلوغ السؤال حد التكلف والتعمق

بلوغ السؤال حد التكلف والتعمق قال: (الموضع السادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق). ويدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، والتكلف هو التنطع في الأسئلة والتعمق، ولما سأل عمر: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال صلى الله عليه وسلم: (يا صاحب الحوض! لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا). وأقوى ما يكون هذا في مسائل الطهارة، خاصة إذا كان الإنسان مبتلى بالوسواس فهذا مما يزيد الوسواس، فيعذب نفسه بيده؛ لأنه يظل يفتش وينقب بهذه الطريقة، ولو أنه أخذ الأمور بيسر وسماحة الإسلام الذي هو دين الفطرة واليسر والتبشير والتيسير ورفع الحرج والجناح لما عذب نفسه بنفسه بهذه الطريقة.

ظهور معارضة الكتاب والسنة بالرأي من السؤال

ظهور معارضة الكتاب والسنة بالرأي من السؤال قال: (الموضع السابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي). هذا من المواضع المذمومة، أن يكون واضحاً من صيغة السؤال أنه يريد أن يعارض القرآن والسنة بعقله وبرأيه وبهواه، ولذلك قال سعيد رضي الله تعالى عنه لما سأله رجل سؤالاً من مثل هذه الأسئلة فقال له: (أعراقي أنت؟!). لأن العراق اشتهرت بأنها منبع الفتن في كل زمان، أو: أأنت من الخوارج أو من المبتدعين الذين هم بالعراق؟ وقيل لـ مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه: الرجل يكون عالماً بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: (لا. ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت) فمع أنه مع الحق لكنه لا يماري ولا يجادل، وهذه أيضاً من الأخلاق المذمومة، فالجدل والمماراة والملاحاة من الأخلاق الذميمة عند السلف، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) والمراء: الجدال. يعني: حتى لو كنت محقاً فالأفضل أن تترك هذا الذي يريد الجدال وتسكت عنه، ويبشرك الرسول عليه الصلاة والسلام ببيت في ربض الجنة وبأنه ضامن لك بما قال، ولا تقل: أخشى أن أكون قد كتمت العلم. ولكن متى ما بدا لك أن هذا الشخص مجادل تصدق عليه بالسكوت حتى لو كان معك الحق؛ لأنه بجداله حرم نفسه من وصول الحق إليه. فمتى بدا لك أن الشخص الذي يحادثك يريد الجدل والمماراة فإنك تثاب إذا سكت عنه حتى لو كان معك الحق، وهذه أخلاق السلف، وهذا هو خلق الإسلام.

السؤال عن المتشابهات

السؤال عن المتشابهات قال: (الموضع الثامن: السؤال عن المتشابهات). وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، وفي الحديث: (متى رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، هؤلاء هم الذين حذرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم منهم، الذين يتتبعون المتشابهات، ولعلنا نجد صورة واضحة جداً في العلمانيين والملاحدة من الكفار، هؤلاء الناس هذه مهنتهم وهذه حرفتهم، فهم يتقنون صناعة الشبهات والخوض في الأمور المشتبهة، وعدم رد المتشابه إلى المحكم، فالتمسك بالمتشابه والإعراض عن المحكم مما ينبئ عن وجود هذا المرض والزيغ في القلب، والعياذ بالله عز وجل. وقد روى يحيى بن يحيى التميمي، وجعفر بن عبد الله وطائفة قالوا: جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد في شيء كما وجد فيه من مقالته. يعني: ما رأى الإمام مالك غضب من أحد كما غضب من مقالة هذا الرجل. قال: وعلاه الرحضاء -من شدة غضب الإمام مالك احمر وجهه، والعرق ظل يتصبب من وجهه وجبينه -وأطرق ثم قال: (الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً) وأمر به فأخرج. فحملوه وطردوه خارج المسجد. وهنا ملاحظة، وهي أن بعض الإخوة يريد أن يسلك مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الخوض في أمور هي من علم الكلام وما أشبهه نتيجة الولع الشديد بمحبة شيخ الإسلام ابن تيمية ودوره التجديدي في الدفاع عن المنهج السلفي، ولأنه أنفق جزءاً كبيراً من عمره في المنافحة عن أهل السنة والجماعة والرد على أهل البدع، والظروف التي وجد فيها شيخ الإسلام اقتضت كثيراً من التفاصيل، حتى إنه لجأ أحياناً إلى مجادلتهم بنفس أسلحتهم سواء في المنطق أو علم الكلام أو غيره، وهذه حالة خاصة بـ شيخ الإسلام، ولا يطلب من كل مسلم أو طالب علم أن يخوض هذا الخوض في هذه الأمور. وقد رزقنا الله سبحانه وتعالى السلامة من الشبهات في هذا الباب، فلا تعتبر أنك قصرت في دراسة التوحيد إن لم تخض مثل هذا الخوض، فما دمت في عافية لا تخض في هذه المسائل، إنما شيخ الإسلام وأمثاله من العلماء المجاهدين في سبيل الدفاع عن المنهج السلفي وعقيدة أهل السنة والجماعة لهم وضع خاص، كالشخص الذي يرد على النصارى، وهل نطالب كل المسلمين أن يخوضوا في مثل هذا بهذه التفاصيل؟ هذه تعتبر من الفروض الكفائية، لكن مادمت في عافية من الخوض والتعمق في هذه التفاصيل فهذا أحد الملامح الأساسية للمنهج السلفي، أما شيخ الإسلام فلأنه كان في مرحلة تجديد ودفاع، والبيئة الثقافية أو العلمية في مجتمعهم كانت تحمل هذه الأمراض التي غلبت عليه اضطر إلى مواجهة الأشاعرة والصوفية والفلاسفة والمتكلمين والمناطقة بنفس أسلوبهم، وهذا لا يعني أننا ننتهج نفس الأسلوب إلا إن احتجنا إليه في ظروف مشابهة. وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني، عن ابن وهب قال: (كنت عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة. أخرجوه)، لماذا؟ لأن الله سبحانه لا يقال له: كيف. فـ (كيف) تقال لشيء أنت رأيته من قبل وتصورته، فإذا ذكر أمامك ستتخيله في ذهنك، وسوف تستطيع أن تتصوره، فمن رأى الله سبحانه وتعالى حتى يكيفه؟ والعقل لا يستطيع أن يقيس أو أن يكيف الله، وإذا كنا نعجز بعقولنا عن تكييف مخلوقات الجنة فكيف بالله عز وجل؟ فمن يستطيع أن يكيف الجنة ويعرف قصتها؟ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فمهما اجتهدت أن تتخيل في وصف الجنة فلن تصل إلى الحقيقة؛ فهي أعظم مما تتخيل، فإذا كان هذا مخلوقاً ونحن لا نقوى على تكييفه فكيف بالله جل وعلا؟ ويحكى أن شاباً كان يخوض في هذا الباب، ويقع في مثل تلك الهفوات -والعياذ بالله-، فسأله بعض العلماء عن حديث جبريل الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ورأيت جبريل له ستمائة جناح يسد ما بين المشرق والمغرب) فقال له: أخبرني عن خلق من مخلوقات الله له ستمائة جناح كيف تتخيلها وكيف صورتها؟ فعجز. فقال: فأنا أضع عنك منها سبعةً وتسعين وخمسمائة فيكون الباقي ثلاثة، فصف لي خلقاً من خلق الله تعالى له ثلاثة أجنحة؟ فعجز، وقال: يا فلان! قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز. هذه هي الحقيقة، لا يعلم كيف الله إلا الله {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] بينما هو أحاط بكل شيء علماً.

السؤال عما شجر بين السلف الصالح

السؤال عما شجر بين السلف الصالح قال: (الموضع التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح). أي: الخلاف الذي كان بين الصحابة رضي الله عنهم. فمن المكروه والمذموم أن يخوض الإنسان فيما كان بينهم من الخلاف، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: (تلك دماء عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا). وقال آخر وقد سئل عن ذلك في مناسبة أخرى مماثلة: (قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]). فالمقصود عدم الخوض حتى لو كان بعض الصحابة مخطئين في ذلك؛ لأن شأننا نحن مع هؤلاء السادة الأطهار الأبرار هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] يبين الله عز وجل الذين يستحقون أن يوزع عليهم مال الفيء، وهو المال الذي يتركه المشركون ويهربون إذا رأوا المسلمين من بعيد، أما الغنيمة فهي ما يؤخذ مغالبة عن طريق القتال. فيقول عز وجل في معرض توزيع مال الفيء لمستحقيه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] وهؤلاء هم المهاجرون. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، وهؤلاء هم الأنصار. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. ولذلك استنبط الإمام مالك من هذه الآية أن الشيعة الرافضة -قبحهم الله- لا يستحقون شيئاً من مال الفيء؛ لأنهم ليسوا من الطوائف التي ذكرها الله الذين يستحقون مال الفيء، وهم المهاجرون، والأنصار، ومن جاء بعدهم وكان محباً ومستغفراً للمهاجرين والأنصار، فما بالك بمن يلعن المهاجرين والأنصار والعياذ بالله؟! ما بالك بهؤلاء المجرمين الشيعة الذين يكفرون الصحابة ما عدا خمسة أو ثلاثة؟! فهل لهم حظ؟ لا. فإن هؤلاء قد غاظهم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إن الإمام مالك أخذ تكفيرهم من قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، وقال: كل من وجد في قلبه غيظاً على أصحاب الرسول عليه السلام فهو كافر لهذه الآية. وموضوع تكفيرهم له تفصيل، لكن الشاهد من الكلام قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] وهي تعني كل مؤمن إلى يوم القيامة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] فمن وجد في قلبه غلاً للذين آمنوا وثبت -ومعلوم أن المؤمنين منهم الصحابة، فهم أفضل أمة، وخير أمة أخرجت للناس- فلا يستحق أن يأخذ من مال الفيء. إذاً نحن نستغفر لهم فيما اجتهدوا فيه وأخطئوا، ونعتقد أن ما حصل من الصحابة من القتال في موقعه الجمل وصفين إنما هو عن اجتهاد خالص لله عز وجل، يريدون به إحقاق الحق، ولكن هذا أمر قدره الله وقضاه ووقع، وليس لنا أن نخوض في هذا الأمر بالوقوع في أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه المسألة من شدة أهميتها أصبح كل علماء السلف -تقريباً- يختمون بها عقائدهم ومتون العقيدة بأننا يجب أن نمسك عما شجر بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونترضى عنهم، إلى آخر النصوص المعروفة سواء في الطحاوية أو غيرها، فهم يدرجون هذه القضية في قضايا أصول العقيدة وأصول الإيمان، أي: الترضي عن الصحابة، والإمساك عما شجر بينهم وعدم الخوض فيه، فمن سأل سؤالاً من هذا الباب فقد وقع فيما نُهينا عنه من كثرة السؤال كما بينا.

سؤال التعنت وقصد غلبة الخصم

سؤال التعنت وقصد غلبة الخصم قال: (الموضع العاشر: سؤال التعنت والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام). وفي القرآن في ذم نحو هذا قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، (ألد الخصام) أي: مجادل. ومنه قوله تبارك وتعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] وهو الجدل، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. ومناسبة هذا أنهم قالوا: هل ما قتله الله حرام وما قتلتموه أنتم أو ما ذبحتموه أنتم يكون حلالاً؟ انظر إلى التلبيس وإيقاع الشبهات في قلوب المؤمنين! فنزل قوله وتعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. فهذا من الجدل القبيح والمذموم، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) (الألد الخصم) الشخص الشديد الجدل والشديد الخصومة والتعنت، فهذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، ويقاس عليها ما سواها. وأعيد التذكير برءوس هذه المواضع العشرة، وهي المواضع التي يكره فيها Q الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين، ومثاله قول عبد الله بن حذافة: من أبي؟ وكذلك سؤالهم: ما بال الهلال يبدوا رقيقاً؟ الذي نزل فيه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189]. الموضع الثاني: أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، ومثاله سؤال الرجل عن الحج: أكل عام؟ وكذلك سؤال بني إسرائيل عن صفات البقرة. الموضع الثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، ويدل عليه قوله: (ذروني ما تركتكم)، وقوله: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان). الموضع الرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كالأغلوطات التي ورد النبي عنها. الموضع الخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات، أو يكون السائل ممن لا يليق به السؤال، كما قالت عائشة للمرأة: (أحرورية أنت؟) لما سألت عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة. الموضع السادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وقد قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، كذلك سؤال صاحب الحوض عن طهارته. الموضع السابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة في الرأي. الموضع الثامن: السؤال عن المتشابهات. الموضع التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح. الموضع العاشر: سؤال التعنت والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام. فهذه جملة من المواضع التي يكره فيها السؤال، ويقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها على درجة واحدة، بل منها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها يكون محل اجتهاد، وعلى جملة منها ما يقع النهي عن الجدال في الدين، كما جاء في الحديث: (إن المراء في القرآن كفر) أي: أن يأتي الناس ويضربون الآيات بعضها ببعض. وهذا أوضح ما يكون في مسائل القدر، فهذا يأتي بالآيات التي تدل على في مذهبه الضال إذا كان جبريا، والآخر يأتي بآية تعارضه إذا كان قدرياً، ويضرب القرآن بعضه ببعض. وقد قال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه، والجواب بحسبه. وبعض المفسرين قالوا: لابد من تقييد النهي في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]. فقالوا: إلا لما تدعوا إليه الحاجة؛ لأن الأمر الذي تدعوا إليه الحاجة هو من أمور الدين، وقد أذن الله بالسؤال عنه فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي رواه جابر رضي الله عنه فقال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده). قالوا: إنه لابد من تقييد الآية بـ: (لا تسألوا إلا عن الأشياء التي أنتم محتاجون إليها في الدين) وهذا القيد لا داعي لتقديره؛ لأن هناك في الآية قيداً يفيد ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] فمعناها: لكم أن تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تفيدكم وتنفعكم في دينكم. فمن مفهوم الآية نستغني عن افتراض مثل هذا القيد، فيقال: أما إذا كنتم تسألوا عن أشياء تفيدكم في دينكم ولابد لها من أمر الدين كما يسأل السائل الذي يبحث عن الحق فلا حرج في ذلك. فما تدعو إليه الحاجة لا تشمله الآية كما يتضح من نظمها الكريم مع ما قيدته السنة في سبب النزول؛ لأنه معروف وواضح سبب النزول، سواء أكان في هذا الرجل الذي قال: من أبي؟ أم من قال: أكل عام؟ أم غير ذلك، فيتضح أن النهي إنما هو عن الأشياء التي تشق عليهم من التكاليف الصعبة، أو الأشياء المستورة التي يفتضحون بجوابها، مما القول فيه فضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفيه المفسدة، والعاقل مطالب بأن يحترز عما ينتج عنه مفسدة. فتحرج الصحابة رضي الله عنهم عن السؤال معلوم أنه فيما لا ضرورة إليه، وإلا فكتب السنة طافحة بالأحاديث التي تدل على أنهم سألوه كثيراً جداً، وسألوه عن الشيء الذي لابد منه في الدين إما من الضروريات وإما من الحاجيات. وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل خشية أن تفضي إلى حرج أو مساءة أو تعنت، روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كتب إلى معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال). وروى أحمد وأبو داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات أو الغلوطات) وهي صعاب المسائل، والآثار في ذلك كثيرة. والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رحمة النبي للعالمين

رحمة النبي للعالمين تضمن المقطع الأخير من سورة الأنبياء توجيهات للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أمته، فقد أمره الله تعالى بالدعوة إلى التوحيد، وبيان عاقبة الإعراض عن إجابة هذه الدعوة، وأن يرد أمره إلى الله تعالى فيما شجر بينه وبين قومه، وأن يستعين ربه على ما يصدر منهم من إفك وكذب، كما تضمن المقطع بيان رحمته صلى الله عليه وسلم للعالمين في معرض مقارعته قومه؛ ليعلم الناس أن دعوته صلى الله عليه وسلم إنقاذ لهم من المهالك.

رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بأمته

رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بأمته الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها) وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه يتقحمن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها). هذا الحديث من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة التي تجلي صفة الرحمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الرحمة ملأت قلبه حتى كادت تهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم حزناً وحسرة على هذه الأمة، قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، ففاضت هذه الرحمة وفاضت حتى كادت تقتل صاحبها صلى الله عليه وسلم حزناً لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار. يقول صلى الله عليه وسلم: (مثلي) وفي بعض الألفاظ (مثلي ومثلكم) أي: مثلي ومثل الناس (كمثل رجل استوقد) أي: أوقد ناراً فاتقدت هذه النار واشتعلت وسرى ضوءها (فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها). والفراش جمع فراشة، وهي دواب مثل البعوض تطير وتتهافت في السراج وتنجذب ناحية الضوء، فإذا رأت السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم وأن السراج فوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فتظل تطلب هذا الضوء وترمي بنفسها إلى هذه الفوة، فإذا ذهبت بعيداً عنها ورأت الظلام ظنت أنها لم تصب تلك الفوة، فتعود إليها إلى أن تحترق بهذه النار التي تحسبها نوراً. والجنادب، جمع دابة، وهي التي تقع في النار كالفراش والبعوض والجندب حيث ينجذبن إلى النار ويقعن في هذه النار، (وجعل الرجل يحجزهن) أي: يمنعهن عن النار مخافة عليهن (ويغلبنه) فرغماً عنه تصر هذه الدواب على أن تقع في النار وتتقحمها، قال: (فيغلبنه فيقتحمن فيها) أي: فيدخلن في النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذلكم مثلي ومثلكم) أي: ما ذكر من حال الرجل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها صار الفراش والدواب يقتحمن فيها والرجل يمنعهن من ذلك وهن يغلبنه يقتحمن في النار. ثم زاد هذا الأمر بياناً فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا آخذ بحجزكم عن النار) والحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزار، ومن السراويل هي موضع التّكّة، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار) أي: أقبلوا إلي عن النار، أقبلوا إلي ولا تنجذبوا ناحية هذه النار، ففي متابعتي السلامة منها (فتغلبوني تقحمون فيها) أو: (تتقحمون فيها) على الروايتين، أي: تدخلون فيها هجوماً عليها من غير روية. فشبه صلى الله عليه وسلم تساقط العصاة في نار الآخرة بجهلهم عاقبة الشهوات بتهافت الفراش في نار الدنيا بسبب جهلها وعدم تمييزها لما تقصد إليه، فهي تعتقد نفع النار وهي سبب هلاكها، فكذلك أهل الشهوات في شهواتهم الغالبة، يعتقدون أنها نافعة وهي مضرة، والعاقل منهم الذي تحقق له أنها مضرة، لكن كان أسيراً للشهوات، فإنه لا ينفعه علمه بالضرر الذي فيها عن أن يسلك طريق النار فيقتحم فيها اقتحام الفراشة في النار مع علمه بأن فيها هلاكه. يقول بعض العلماء: إلى الله أشكو طوع نفسي للهوى وإسرافها في غيها وعيوبها إذا سقتها للصالحات تقاعست ودبت على كره إليها دبيبها وتهب نحو الموبقات نشيطة إذا ساوقتها الريح ساقت هبوبها وما هي إلا كالفراشة إنها ترى النار ناراً ثم تصلى لهيبها فهذا الحديث من أجلى ما يبين رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة، كيف أنه يحرص أشد الحرص على إنجاء الناس من النار، وإنما يهلك من هلك رغماً عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم

صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم خلق الرحمة وصف الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن في قوله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، هذا الخلق من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وآله وسلم التي تجلت مع كل العالمين، ليس مع المؤمنين فقط، ولكن كان رحمة لجميع الأمم وجميع العالمين، الجن والإنس والدواب والطيور والحيوانات، فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة لهم أجمعين. لقد آذوه واضطهدوه وهو يقول صلى الله عليه وسلم (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) يتمثل قول نبي سابق قال لقومه كذا. وهذا ملك الجبال جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما آذاه قومه فقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فيجيب صلى الله عليه وسلم قائلاً: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً). فما كان مقصوده صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يعبد الله فلا يشرك به شيء، ولا يبالي في سبيل ذلك بما أصابه، فإذا وحد معبوده حصل مقصوده، وإذا عبد محبوبه حصل مطلوبه، وإذا ذكر ربه رضي قلبه، وأما نفسه فما يبالي بما أصابه في سبيل ربه، على حد قول القائل: إن كان سركم ما قد بليت به فما لجرح إذا أرضاكم ألم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فجلس إلى الفقراء وذكرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت لأني لم أكن منهم)؛ وذلك من شدة رحمته بالضعفاء صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذات يوم رجلاً أسود فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله. قال: أفلا آذنتموني -أي أفلا أعلمتموني بموته حتى أشيعه-؟ فقالوا: إنه كذا وكذا. فكأنهم حقروا من شأنه، فقال: دلوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه صلى الله عليه وسلم). وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه)، فنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة ينوي أن يطيل فيها، فإذا سمع بكاء الصبي ترك إطالة الصلاة، وما دفعه إلى التجوز في الصلاة إلا الشفقة على أمه، وقد يتبادر إلى الذهن أنه الشفقة على الصبي نفسه وبكائه، لكنه صلى الله عليه وسلم يعلم مدى شدة هذا الأمر على أمه، فيخفف في الصلاة شفقة على أمه، فما أعظم خلقه صلى الله عليه وسلم! وما أبعد كثيراً من المسلمين اليوم عن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم! فحينما يصطحب بعض الناس معه صبية صغاراً إلى المسجد فبحكم صغر سنهم لا أقول: يبكون. لكنهم يصيحون أو يتحركون أو يفعلون في المسجد أشياء هم فيها معذورون، فبمجرد تسليم الإمام نرى كثيراً من الكبار يصيحون صياحاً أشد من صياح هؤلاء الأطفال، وينتهكون حرمة المسجد، ويشنعون على أبيه، وربما طردوا الأولاد من المسجد، وفعلوا معهم وفعلوا، ولو أن الواحد منهم قُدِّر أن هذا الولد هو ولده ما تأذى منه. لقد كان الحسن يركب على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ويطيل السجود لأجل ذلك، ويقول بعدما أطال السجود: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله) صلى الله عليه وآله وسلم. ولما أُسر أبو عزة الشاعر أول مرة استعطف النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلق سراحه بشرط أن لا يقف بعد يوم بدر ضده صلى الله عليه وسلم، وتدور الأيام، ويحضر أبو عزة المعركة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأسره مرة أخرى ويستعطفه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بقتله، وهذا الشيء هو الذي أخذ به القانون الدولي في القرن الأخير، بأن الأسير السابق إذا أسر في معركة مرة ثانية في حربه ضد تلك الدولة فإن من حقها أن تقتله.

حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على الرحمة

حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على الرحمة يقول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عنه أنس رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم. قالوا: كلنا يرحم. قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة). وعن جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتب الله عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وقال للرجل الذي لم يُقبِّل أحداً من أولاده معاتباً له: (أوأملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة؟!). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (في الكبد الحارة أجر) أي: كل حيوان حي لم يؤمر بقتله، ويكون كبده حاراً من شدة العطش نتيجة الحر. وقد كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال. ويقول عليه الصلاة والسلام: (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) يعني النساء اللاتي يسبين في الحرب لا يجوز لأحد أن يفرق بين الأم وولدها من السبي.

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالحيوانات

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالحيوانات الحيوانات ممن شملتهم رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من مثل بالحيوان) أي: من شوهه فمثل به. وعن معاوية بن قرة عن أبيه: (قال رجل: يا رسول الله! إني لأذبح الشاة فأرحمها -أي: عندما أذبح الشاة أشعر برحمة تجاهها- فقال صلى الله عليه وسلم: والشاة إن رحمتها رحمك الله) فأقره على هذا الشعور بالرحمة. وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة). ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وآله وسلم ما صح عن عبد الله بن جعفر قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخل، فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى الجمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفريه فسكن، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه). وعن معاذ بن أنس عن أبيه رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (اركبوا هذه الدواب سالمة، وابتدعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي) يعني: اتركوها وخففوا عنها إذا لم تحتاجوا لركوبها، ولا تتخذوها كراسي، بل استعملوها فقط لما سخرت من أجله. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله تعالى إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم). ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه -أي: فقد شحمه ونقص وزنه وهزل حتى التصق ظهره ببطنه- فقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة) (وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في هذه البهائم، واركبوها صحاحاً واركبوها سماناً. كالمتسخط) أي: قال ذلك متسخطاً هذا الفعل الذي فعله صاحب هذه الدابة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا قبل هذا؟! أتريد أن تميتها موتتين؟!) يعني: أفلا حددت شفرتك بعيداً عنها؟! وفي بعض الروايات: (أتريد أن تميتها موتات؟! ألا حددت شفرتك قبل أن تدمعها؟!). وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجة فرأينا حُمَّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش -يعني: جعلت ترفرف بأجنحتها حتى تقترب منهم- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها، ورأى صلى الله عليه وسلم قرية نمل قد أحرقناها فقال: من حرق هذه؟! قلنا: نحن. قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار). وصح عنه صلى الله عليه وسلم -أيضاً- قوله: (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) وخشاش الأرض الحشرات والهوام. وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب وخرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش -يعني: يلعق التراب من العطش- فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر). وفي بعض الأحاديث -أيضاً-: (بينما كلب يطيف برَكِيَّة قد كاد يقتله العطش -الركية: هي البئر التي طويت- إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فاستقت له به فسقته إياه فغفر الله لها به).

الرحمة في حياة السلف الصالح

الرحمة في حياة السلف الصالح وردت آثار كثيرة تدل على تخلق الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم والسلف الصالح بهذا الخلق الكريم، فعن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً حد شفرة أمام شاة ليذبحها فضربه عمر بالدرة، وقال: أتعذب الروح؟! ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها؟ وعن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يجر شاة ليذبحها فضربه بالدرة، وقال: سقها -لا أم لك- إلى الموت سوقاً جميلاً. وعن وهب بن كيسان أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى راعي غنم في مكان قبيح، وقد رأى ابن عمر مكاناً أمثل منه، فقال ابن عمر: ويحك يا راعي! حولها، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل راع مسئول عن رعيته). وعن معاوية بن قرة قال: كان لـ أبي الدرداء جمل يقال له: دمون. فكان إذا استعاروه منه قال: لا تحملوا عليه إلا كذا وكذا فإنه لا يطيق أكثر من ذلك. فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون! لا تخاصمني غداً عند ربي، فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق. وعن أبي عثمان الثقفي قال: كان لـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه غلام يعمل على بغل له، ويأتيهم بدرهم كل يوم، فجاء يوماً بدرهم ونصف فقال: ما بدا لك، فقال: نفقت السوق. قال: لا، ولكن اتعبت البغل، أجمه -أي: أرحه- ثلاثة أيام. فهذه بعض الآثار التي تدل على تخلق المسلمين بخلق الرحمة الذي غرسه فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأتي مزيد بيان لمعنى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، عند تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنبياء.

تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]. يخبر تعالى عما قدره وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدارين ووراثة الأرض فيهما، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، وأخبر تعالى أن هذا الأمر وهذا القضاء السابق مذكور في الكتب الشرعية والقدرية، وهو كائن لا محالة، ولهذا قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] والزبور: هو الكتب التي أنزلت على الأنبياء، فهو اسم جنس لكل ما زبر -أي: كتب- من الكتب التي أنزلت على الأنبياء، وهو -أيضاً- اسم الكتاب الذي أنزل على داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قولع تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) المراد من الذكر هاهنا: أم الكتاب الذي كتب الله فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة، والمعنى أن الله تعالى كتب في التوراة والإنجيل والقرآن وفي الصحف التي أنزلت على الأنبياء جميعاً من بعدما سبقت كتابة ذلك في أم الكتاب في اللوح المحفوظ (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، من كل الأمم المؤمنة بالله تعالى، فإنه تعالى يكفل لهم السعادة والمجد والحكم والفتح، ويوليهم على أمم الأرض بالحق والعدل، وذلك في الدنيا، كما قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] فهذه سنة ماضية، وكون بعض الناس يظنون أن أمر الدين أو أمر الإسلام يكون دائماً في انحسار، وأن هذا الدين يمكن أن يأتي يوم يستأصل ولا يبقى منه باقية هو أقبح الظن بالله تبارك وتعالى، وهذا هو عين ما سماه الله عز وجل في سورة الفتح {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]، ظننتم أنه يستأصل هذا الدين، ولا يبقى منه شيء، فهذا أسوأ الظن بالله الذي يتنزه الله عز وجل عنه، وإنما الأيام دول، وإنما الله عز وجل يبتلي عباده بعضهم ببعض، كما قال عز وجل: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، فالله عز وجل قادر بكلمة (كن) أن يدمر ما على الأرض من الكفر، لكنه يشاء سبحانه وتعالى أن يبتلي العباد؛ لأن هذه دار الامتحان ودار البلاء، فكم من أمم أقوى من هذه الأمم التي تسيطر على العالم اليوم ضاعت وصارت في خبر (كان) {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98]، كم توالت أمم وقوى على ظهر هذه الأرض ثم اندثروا وكانوا في خبر (كان)، فهذه سنة الله عز وجل، فلابد من أن يمكن الله لدينه، لابد من أن تكون العاقبة في النهاية للتقوى، كما قال الله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، ويقول عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]. وإذا تدبرنا آيات الله تبارك وتعالى في السابقين من المجرمين الهالكين لأيقنا بهذه الحقيقة الكونية التي هي كائنة قبل أن تخلق هذه الدنيا، وهي أن العاقبة تكون للتقوى، يقول الله عز وجل: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] هذا في الدنيا، أما في الآخرة فيورثهم أرض الجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم.

كلام الشنقيطي في تفسير الآية

كلام الشنقيطي في تفسير الآية يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب، فالزبور هنا لا يراد به خصوص الكتاب الذي نزل على داود عليه السلام، لكن هنا المراد به جنس الكتاب، فيشمل الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل وزبور داود وغير ذلك، والمراد بالذكر أم الكتاب، وعليه فالمعنى: ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب، وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه. وقيل: الزبور في الآية زبور داود، والذكر التوراة، وقيل غير ذلك، وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك -كتاب: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن- أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء، وكلاهما حق يشهد له القرآن، فنذكر الجميع؛ لأنه كله حق داخل في الآية، ومن ذلك هذه الآية الكريمة، فالمراد بالأرض في قوله هنا: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] للعلماء فيه وجهان: الأول: أن هذه الأرض التي يرثها عباد الله الصالحون هي أرض الجنة، يورثها الله يوم القيامة عباده الصالحين، وهذا القول يدل له قوله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] ومعنى إيراث الجنة ورد -أيضاً- في سورة مريم في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40]، وفي قوله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، ويقول عز وجل: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر:23]. الوجه الثاني في تفسير الأرض: أن المراد بالأرض أرض العدو يورثها الله المؤمنين في الدنيا؛ لا أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة لعباده الصالحين. ونضيف إلى المعنى قوله تبارك وتعالى في سورة المؤمنون: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] فقد جاء حديث في تفسير هذه الآية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل عبد له مقعد في الجنة ومقعد في النار، فحينما يدخل المؤمنون الجنة يرثون مقاعد الكافرين في الجنة؛ لأن الكافرين يذهب بهم إلى النار، ويرث الكافر مقعد المؤمن في النار.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) في هذه الرحمة وجهان: الأول: أنها رحمة للمؤمنين فقط، وأما الأمم النائية عنه صلى الله عليه وسلم فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته. الوجه الثاني: أنها رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكنهم لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواء لهذا المرض. قال الرازي: إنه صلى الله عليه وسلم كان رحمة في الدين والدنيا، أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام. ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قريناً له، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44]، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه صلى الله عليه وآله وسلم. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في محاسن التأويل: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، لقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح، واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات، وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة، وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال الأجيال الطوال حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح، فأحدث بعد ذلك أمراً، وجعل بعد عسر يسراً، فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولت، وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولاً ليعتقهم من أسر الأوثان ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنهم الأصرار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].

تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد) قال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108]. يأمر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ المشركين ويقول لهم: (إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي: متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له؟ وهذا أسلوب قصر، فيه قصر الوحي في كلمة التوحيد: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، وقصر الوحي على استئثاره تعالى بالوحدانية فيه إشارة إلى أن التوحيد هو الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه، فكل ما عدا (لا إله إلا الله) راجع إلى (لا إله إلا الله)، فكأن كل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام إنما المقصود بها تحقيق كلمة (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد وكلمة النجاة، وليس معنى ذلك أن الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات وكل الأحكام لا تدخل في (لا إله إلا الله)، لكن هذا إشارة إلى أن الأصل الأصيل في الدين هو توحيد الله تبارك وتعالى وتحقيق هذا التوحيد، وإذا تأملنا القرآن نجد أن القرآن من أوله إلى آخره كله في التوحيد؛ لأن القرآن إما دعوة إلى التوحيد وتنفير من ضده وهو الشرك، وإما بيان لحال الأنبياء والدعاة الذين دعوا إلى التوحيد، وبيان حال الذين اهتدوا وأسلموا في الدنيا، أو بيان حال القوم الذين أعرضوا، وكيف كانت عاقبة المؤمنين في الدنيا نتيجة التزامهم بالتوحيد وحقوق التوحيد، وكيف كانت عاقبة الكافرين الذين تولوا عن التوحيد وحقوقه، ثم أحوال أهل الجنة الذين استجابوا لدعوة التوحيد، وأحوال أهل النار الذين أعرضوا عن التوحيد، وإما إخبار بأوامر وتكاليف هي حقوق التوحيد، فإذا قلنا: (لا إله إلا الله) فمعناه: لا يستحق أن يعبد إلا الله، فكيف إذاً نعبد الله؟ لقد أتت الشرائع لتبين العبادات، وهي من حقوق التوحيد، كما جاء في الحديث المعروف: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل)، فهذه كلها من حقوق التوحيد. إذاً: كل الرسالة موضوعها تحقيق (لا إله إلا الله)، فمن أجل ذلك قصر وحصر الله سبحانه وتعالى الوحي في (لا إله إلا الله).

تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء)

تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء) قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [الأنبياء:109] أي: تركوا ما دعوتهم إليه {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم؛ لأن معنى الأذان: الإعلام (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي: أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، وأنا بريء منكم كما أنكم برآء مني، وذلك كقوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]، ومثل قوله تبارك وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] أي: ليكن علمك وعلمهم لنبذ العهود على السواء، وهكذا هاهنا قال عز وجل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم ببراءتي منكم، وبراءتكم مني لعلمي بذلك. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في نفس هذه الآية: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه: (فَََقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنتم برآء مني. واستدل بنفس هذه الآيات التي ذكرنا، وبين أن معنى (آذنتكم) أعلمتكم، ومنه الأذان للصلاة، وقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:3] يعني: إعلام من الله، وقال عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:279] أي: اعلموا. ومنه قول بعض الشعراء: آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء يعنى: أعلمتنا ببينها، فالمقصود: (فَََقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، وإن كان بيننا وبينكم أي عهد فقد نقضناه. إذاً: (آذنتكم) أي: أعلمتكم، ويكون علمي وعلمكم بهذه الحرب سواء {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. فقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] يعني: إن كان بينك وبين قوم عهد وميثاق وخفت منهم الخيانة فأعلمهم أولاً بأن هذا العهد انقضى ولا تغدر؛ فإن الأنبياء لا يغدرون، بل أعلمهم قبل أن تقاتلهم بأنك قد نقضت هذا العهد، فاستويت أنت وهم في العلم بذلك، فليس لفريق عهد ملزم في حق الفريق الآخر. قال الزجاج: معنى الآية: أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به. وهذا تفسير آخر، أي: كل الناس سواء في هذا الحق، لم أكتم عن فريق ما أظهر به لفريق، لكنني أعلمتكم جميعاً ما أوحي إلي، ولم أكتم منه شيئاً، وكلكم سواء في العلم بما أوحي إلي، ولم أظهر لأحد شيئاً كتمته عن غيره.

تفسير قوله تعالى: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون)

تفسير قوله تعالى: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَدْرِي} [الأنبياء:109] يعني: ما أدري، فـ (ما) هي النافية {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء:109] يعني: ما توعدون من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم، فـ (مَا تُوعَدُونَ) واقع لا محالة، لكن لا أدري متى هو، فهو واقع لا محالة، لكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.

تفسير قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون)

تفسير قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) قال تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110] أي: إنه يعلم سبحانه وتعالى الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره عباده وما يسرون، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل، يقول تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13]، ويقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99]، ويقول عز وجل: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]، ويقول عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، ويقول عز وجل: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].

تفسير قوله تعالى: (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين)

تفسير قوله تعالى: (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) قال عز وجل: {وَإِنْ أَدْرِي} [الأنبياء:111] يعني: ما أدري {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111] يعني: لعل هذا الإمهال والتأخير اختبار وامتحان لكم، ولعل إمهال هذا الموعد المرتقب وتأخيره فتنة لكم ومتاع إلى حين، وهذا هو الواقع، فإننا نرى الكفار يغترون بإمهال الله تبارك وتعالى إياهم، ويحسبون أن الله إذا أمهلهم فقد يهملهم، لكن الله عز وجل يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وهذا نراه عياناً في مشارق الأرض ومغاربها. فقوله: (وَإِنْ أَدْرِي) يعني: ما أدري (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ)، أي: تمتيع يمتعكم الله بالدنيا (إلى حين) حتى يأتي القدر المقدور. وقال ابن جرير: أي: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم، أي: استدراج وابتلاء ومتاع إلى أجل مسمى.

تفسير قوله تعالى: (قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون)

تفسير قوله تعالى: (قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) قال الله سبحانه: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112]، وفي بعض القراءات: (قل رب احكم بالحق). فعامة القراء السبعة ما عدا حفصاً عن عاصم يقرءون: (قل رب احكم بالحق) بصيغة الأمر، فقراءة الجمهور تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول ذلك، وقراءة حفص (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) تدل على أنه صلى الله عليه وسلم امتثل الأمر بالفعل. وما أمره الله أن يقوله هنا قاله نبي الله شعيب عليه السلام كما ذكره الله عنه في قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] (افْتَحْ بَيْنَنَا) أي: احكم بيننا. فقوله: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق أي: بحكمك الحق. {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112] أي: الله عز وجل الرحمن المستعان على ما تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب بادعاء الشركاء والأولاد وغير ذلك، كما قال عز وجل: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل:62]، وقال عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل:116]، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قاله يعقوب عليه السلام لما علم أن أولاده فعلوا بأخيهم يوسف غير ما أخبروه عنه، وأخبروه خبراً كاذباً حيث زعموا أن الذئب أكل يوسف عليه السلام، وعلم أنهم كاذبون في ذلك، فذكر نص هذه العبارة فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] والمستعان هو المطلوب منه العون تبارك وتعالى، فقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق، والله المستعان عليكم على ما تقولون وتفترون من الكذب بجعل الأنداد لله تعالى وعبادتها من دونه عز وجل. يقول الرازي: قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: (قل رب احكم بالحق) لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية. يعني: استوفى كل ما يستطيع في بيان حقيقة هذا التوحيد، والدعوة إلى هذا الدين، استوفى كل ما أمكن في بيان رسالته، فقد كان قد بلغ في البيان لهم الغاية. وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه، فهو استفرغ وسعه وجهده في أداء الرسالة وهم بلغوا النهاية وأقصى حد ممكن في أذيته وتكذيبه، فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له (قل رب احكم بالحق)، تسلية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم، فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق، إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره، وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر قريب، فكل ما هو كائن قريب، فالله عز وجل توعد هؤلاء الكافرين المعرضين بالإهلاك وبالعذاب الأليم، وأخبر أنه يمهل ولا يهمل سبحانه وتعالى، فمن أجل ذلك أمره الله عز وجل أن يقول هذا القول كالاستعجال بالأمر بجهادهم حتى يجعل الله للمسلمين مخرجاً. هذا آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام فلله الحمد والمنة.

فتنة النساء

فتنة النساء أشد ما يُخاف على الرجال هي فتنة النساء، وقد جاء الإسلام بمقاصد كلية منها: حفظ الأعراض، وشرع لأجل ذلك التدابير الواقية من الافتتان بالنساء المؤدي إلى هتك العرض، كما شرع سبل الحلال التي تحفظ العرض، وتشبع الرغبة عند الناس.

عظم الفتنة بالنساء

عظم الفتنة بالنساء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً!)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان الذي امتن الله عليه بعصمته من الفتن، وبتثبيته إذا ابتلي بالصبر، فإنه هو السعيد حق السعادة. وكلمة الفتن تنصرف في أذهاننا إلى فتن آخر الزمان، وما يكون من أشراط الساعة، والفتن منها هذا القسم بلا شك، وقد بدت ولاحت كثير منها، ومنها فتن موجودة مع البشر بحكم كونهم بشراًً، سواء في ذلك فتنة الشهوات، أو فتنة الشبهات، وأشد فتنة من فتن الشهوات هي الفتنة بالنساء، فمن ثم اختصت هذه الفتنة بكثير من التحذير والاحتياط والتنبيه على لسان الشرع الشريف.

تحذير الشرع من خطر الفتنة بالنساء

تحذير الشرع من خطر الفتنة بالنساء كان الإشفاق من وبال هذه الفتنة أشد ما خامر قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد ما أشفق منه على أمته، وفي سبيل تحذير هذه الأمة من خطر هذه الفتنة ألقى على السابقين الأولين من المسلمين كلمته خالدة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه). بين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كيف أن الافتتان بالمرأة قد يؤدي إلى إحباط عمل من أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ألا وهو الهجرة إلى الله سبحانه, وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وأشار القرآن الكريم إلى خطر فتنة المرأة فقال سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] فقدم سبحانه وتعالى على رءوس هذه الفتن كلها فتنة النساء لعراقتهن في هذا الباب؛ ولأن أكثر الرجال إنما دخل عليهم الخلل من قبل هذه الشهوة، ولعله لأجل ذلك أيضاً قدم الله سبحانه وتعالى المرأة على الرجل في قوله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]؛ لأن دواعي الفتنة قد تكون من جانب المرأة إذا تساهلت أكثر منها من جانب الرجل، في حين قدم الرجل في السرقة لأنه هو الحريص على جمع المال؛ لأنه المسئول عن النفقة فقدم سبحانه وتعالى الرجل فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، أما في الزنا فإن الخلل إذا أتى من قبل المرأة تكون الفتنة أشد. وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن عزيز مصر قوله: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]. وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتنة المرأة ونصح لأمته في هذا الباب أعظم النصح فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) قال بعض العلماء: المعنى المتبادر من هذا الحديث أنه ما دامت المرأة في خدرها لم يطمع الشيطان فيها لإغواء الناس، فإذا خرجت المرأة من بيتها الذي هو قرارها ومستقرها طمع فيها الشيطان وأطمع فيها الناس؛ لأنها حبائله. وقوله صلى الله عليه وسلم: (استشرفها الشيطان) أصل الاستشراف وضع الكف فوق الحاجب حينما تريد أن تنظر إلى شيء بعيد. يقول المنذري: يستشرفها الشيطان أي: ينتصب ويرفع بصره إليها، ويهم بها؛ لأنها قد تعاطت سبباً من أسباب تسلطه عليها، وهو خروجها من بيتها. وهذا في حق شياطين الجن، فما بالك بشياطين الإنس في هذا العصر الذين هم أضر على المرأة من ألف شيطان جني، حيث إن أغلب هؤلاء الشباب لا مروءة عندهم ولا دين ولا شرف، ويتعرضون للنساء بشكل مفجع وهيئة تدل على خساسة ودناءة وانحطاط، فلا شك أن فتنة هؤلاء الشباب بهذه المرأة إذا خرجت -خاصة إذا كانت متبرجة- شديدة. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس، فيستشرفها الشيطان فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه، وإن المرأة لتلبس ثيابها فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضاً أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها. فأعظم أنواع العبادة وأعلى درجات الثواب للمرأة أن تعبد ربها داخل حدود بيتها، كما أمر الله سبحانه وتعالى في القرآن العظيم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].

فتنة نساء بني إسرائيل

فتنة نساء بني إسرائيل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). أوغل بنو إسرائيل في المعاصي، وتفنن نساؤهم في فتنة الرجال؛ لذلك حذرنا النبي عليه السلام من هذه الفتنة، وقرن هذه الأمة ببني إسرائيل مباشرة؛ لأنها أكبر الأمم التي سبقتنا، والقرآن يربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين هذه الأمة وبني إسرائيل. وعلى أي الأحوال فإن نساء بني إسرائيل أوغلن في المعصية. ومن مظاهر تفننهن تفنن نساء بني إسرائيل في فتنة الرجال ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: (كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب، وخاتماً من ذهب مغلق مطبق ثم حشته مسكاً، وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها فقالت: بيدها هكذا) يعني جعلت في هذا الخاتم مسكاً ثم جعلت له شيئاً مثل الغطاء فإذا مرت بمجلس رجال وأرادت أن تفتنهم حركت هذا الغطاء حتى تفوح هذه الريح، وفي رواية: (فكانت إذا مرت بالمجلس حركته فتمسح ريحه أو فتنفخ ريحه) فينشر ريحه في الجو لتفتن بهذا الطيب الرجال. أيضاً هذه المرأة كانت قصيرة، وكانت ستظهر قصيرة إذا مشت مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب، وهو يشبه ما يسمى الآن بالكعب العالي، حتى تبدو طويلة، وهي في الحقيقة قصيرة.

حكم صلاة النساء في المساجد إذا خشيت الفتنة

حكم صلاة النساء في المساجد إذا خشيت الفتنة روى عروة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: (كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلاً من خشب يتشرفن للرجال في المسجد، فحرم الله عليهن المساجد وسلطت عليهن الحيضة). تبين عائشة أن نساء بني إسرائيل كن يصلين في المسجد مع الرجال، فإذا كان للمرأة خليل وتريد أن يعرفها وسط النساء تتخذ رجلين من خشب حتى تتطول لخليلها فيراها، فيتشرفن للرجال في المسجد عن طريق هذه الأحذية العالية، فحرم الله عليهن المساجد، وسلطت عليهن الحيضة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجال والنساء من بني إسرائيل يصلون جميعاً، فكانت المرأة إذا كان لها خليل، تلبس القالِبين أو القالَبين -بالفتح أو الكسر وهو نعل من خشب كالقبقاب -تطول بهما لخليلها؛ فألقى الله عليهن الحيض، فكان ابن مسعود يقول: أخرجوهن من حيث أخرجهن الله. يعني: إذا سلك النساء المسلمات نفس هذا المسلك، فأخرجوهن من المساجد كما أخرج الله نساء بني إسرائيل من قبل. وفي لفظ آخر: فأخروهن من حيث أخرهن الله. يعني: باعدوا بينهن وبين الرجال. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت -فيما روته عنها عمرة بنت عبد الرحمن -: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل، قيل لـ عمرة: أومنعن؟ قالت: نعم. أي أن نساء بني إسرائيل منعن لما أحدثن الزينة والتبرج داخل المساجد. والنساء اللائي يحضرن عقود القران وبعض الاحتفالات في المساجد وهن في منتهى التبرج والتهتك؛ لا شك أن لهن نصيباً من مثل هذه الزواجر. يقول الإمام الكرماني رحمه الله تعالى: فإن قلت: من أين علمت عائشة رضي الله تعالى عنها هذه الملازمة، والحكم بالمنع وعدمه ليس إلا لله تعالى، يعني: كيف تجزم عائشة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لو رأى ما أحدثته النساء من الزينة لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل؟ قلت: مما شاهدت من القواعد الدينية المقتضية لحسم مواد الفساد. جاء في كتب بني إسرائيل -حتى الكتب التي لا زالت بين أيديهم مع تحريفها- ما يشير إلى وقوع هذا العقاب الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء في الإصحاح الثالث من سفر أشعيا: (إن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والحلق والأساور والبراقع والعصائب). وفي هذا أن النقاب له أصل في التوراة والإنجيل، وأن النساء كن يتنقبن في الأمم السابقة، بدليل قوله: (والبراقع)، وإن كنا لا نحتاج لكتبهم؛ وإنما هذا كنوع من الشاهد يستأنس به. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع بعض نساء أمته في نفس هذه الكبيرة، وذكرهن بأسوأ مصير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فيريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن مثل هؤلاء النساء بعيدات عن الجنة حتى لا يجدن ريح الجنة فضلاً عن أن يدخلنها. وصفة هؤلاء النساء أنهن كاسيات عاريات، وفي العصور السابقة كان العلماء يختلفون في معنى (كاسيات عاريات)، أما في هذا الزمان فأصبحنا لا نحتاج لشرح الحديث مما نراه من تطبيق هذه الأحاديث حتى ممن يزعمن أنهن محجبات وهن عين المتبرجات المتهتكات الكاسيات العاريات. وقوله: (مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) هي نوع من الإبل لها سنام.

تفسير قوله تعالى: (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم)

تفسير قوله تعالى: (إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم) قد يقع الافتتان بالمرأة من وجه آخر، وذلك إذا سحرت المرأة لب الرجل وزينت له ترك الواجب أو فعل الحرام، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن). لهذا يقول بعض الشعراء: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أَركانا قال الله عز وجل مبيناً هذا النوع الخفي الدقيق من الفتنة بالمرأة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:14 - 15]. قال المفسرون: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق لهم فيقيم ويقعد عن الجهاد، فنزلت الآية منبهة لذلك محذرة من الركون إلى الأزواج والأولاد. وروي أنها نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد زمان طويل ورأوا الناس قد فقهوا في الدين، هموا أن يعاقبوا أولادهم ونساءهم الذين كانوا يمنعونهم من الهجرة مبكراً. فكان أحدهم يقول: لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن، فأنزل الله عز وجل: ((وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)). يقول العلماء رحمهم الله: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته -أي أن الأزواج والأولاد في مثل هذه الحالة ليسوا بأعداء على الحقيقة- وإنما كان عدواً لفعله، فإذا فعلت الزوجة والولد فعل العدو كانوا هم العدو، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين طاعة ربه عز وجل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه وآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك، وتنكح نساؤك، ويقسم مالك؟ فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة). وقعود الشيطان الوارد في الحديث يكون بوجهين: أحدهما: بالوسوسة. الثاني: أن يحمله على ما يريد من ذلك الزوجة والولد والصاحب. فإما أن يوسوس لك الشيطان مباشرة بهذه الأشياء، أو يسلط عليك الزوجة أو الولد فينطق على لسانهم بما يريد من تثبيطك عن طاعة الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]. وكما أن الرجل يكون له ولده وزوجته عدواً كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً بهذا المعنى بعينه، فإن قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)) يشمل الرجال ويشمل النساء، فالمرأة يمكن أن تفتن الرجل في دينه، وكذلك الرجل يمكن أن يكون عدواً للمرأة يفتنها في دينها بنفس هذا المعنى، فيفعل فعل العدو، فقوله تعالى: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)) يدخل فيه الذكر والأنثى، وهذه الآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد، ومن ذلك أن يبكي الأولاد يريدون جهاز التلفزيون كما أن أولاد الجيران عندهم جهاز تلفزيون، فيأتي ويقول: الأولاد بكوا وضغطوا علي وما استطعت أن أفعل شيئاً، وهذا أحسن من أن يذهبوا بيوت الجيران وينظروا عندهم، وهكذا كأنه سلطان بلا تاج، وكأنه لن يسأل عن هذه الرعية التي يهلكها بنفسه! ومن ذلك السكوت على الزوجة والأولاد إذا قعدوا عن فريضة من فرائض الله كالصلاة والصيام وغيرها، أو ارتكبوا معصية من معاصي الله تبارك وتعالى. ومن ذلك: إقرار الزوجة والبنات على التبرج والتكشف والسفور والاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، وسماع آلات اللهو، وإقرار النساء على مخالطة المتبرجات، ومماشاتهن في الشوارع والطرقات، ومجالستهن في المجامع والضيافات. قال العلماء: إن في النساء فتنتين، وفي الأولاد فتنة واحدة. أما الفتنتان اللتان في النساء: فإحداهما: أن تؤدي إلى قطع الرحم؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطع الأمهات والأخوات، وإذا لم يتفطن لهذه المحاذير فإنه ربما طاوع امرأته حتى أدت هذه المطاوعة إلى أن يقطع رحمه من أمهات أو أخوات إلى آخره. الفتنة الثانية في الزوجة: أن يبتلى بجمع المال لها من الحلال أو الحرام. أما الأولاد فالفتنة فيهم واحدة، وهي أنه ابتلي بجمع المال من أجلهم. فإذا بحث الإنسان عن ذات الدين، سلم له دينه؛ لذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم وشدد في الوصية وقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)؛ لأن المرأة إما أن تكون ستراً من النار، أو تكون هي النار بعينها، أو السبب المؤدي للإنسان إلى النار إذا لم يلتفت لهذه الفتنة.

الفرق بين النظام الإسلامي وغيره في جانب حفظ الأعراض

الفرق بين النظام الإسلامي وغيره في جانب حفظ الأعراض قبل أن نذكر احتياطات الإسلام لحماية المجتمع من فتنة المرأة لا بد من مقدمة مهمة نقول فيها: إن كل مجتمع من المجتمعات له عقيدة، فإنه يحدد أهدافاً له يحققها في هذه الحياة طبقاً لما يعتقد. هذه الأهداف يحققها عن طريق وسائل ونظم تكون خادمة لأهدافه الأولى الأصيلة، وفي إطار هذه العقيدة، فالإسلام عقيدة الحق بلا شك، وهو يهدف من خلال نظامه الاجتماعي إلى تحقيق هدف معين، وهو صيانة الأعراض وترويض الشهوات وضبطها بضوابط أخلاقية تضمن الطهر والعفاف، وتؤدي إلى سعادة الدنيا وسعادة الأخرى. إذا تأملت في نظام الإسلام ستجد الأحكام كلها تصب في خمسة روافد أساسية، وهي: حفظ الدين، والعرض، والعقل، والمال، والنفس، فأي حكم شرعي ستجده يحافظ على شيء من هذه الأشياء، فالصلاة مثلاً تتعلق بالدين، والزكاة تتعلق بالدين وتتعلق بالمال، وهكذا، فجميع الأحكام الإسلامية لا بد أن تدخل لخدمة أحد هذه المقاصد أو أكثر من مقصد. والمحافظة على العرض أحد مقاصد الشريعة العليا التي تشكل رافداً أساسياً من روافد الشريعة، فأحد أهداف المجتمع الإسلامي تحقيق هذا الهدف الأكبر من مقاصد الشريعة العليا الخمسة، ومن أجل صيانة الأعراض تجد مئات من الأحكام تصب في هذا المجرى. وهناك جملة كبيرة من العقائد تمثل خلفية للنظم الإسلامية، كلها تنبثق عن أننا لم نخلق عبثاً ولن نترك سدى، اعتقادنا في هذه الغيبيات: جنة نار حساب صراط ميزان حشر، فكل هذه الأهوال ستصير بين أيدينا ونوقن بوقوعها، من أجل ذلك فنحن ننضبط فنراعي حق الله، ونراعي حق المجتمع، وحق النفس، فحق الله سبحانه وتعالى مراعى في النظام الاجتماعي الإسلامي، فتارك الصلاة وإن لم يؤذ أحداً فإنه مضيع لحق الله. فالمقصود أن عقيدة المجتمع التي يتبناها لا بد أن تنعكس على نظامه، بحيث يكون النظام خادماً لهذه العقيدة ومتماشياً مع أسانيدها. النظام الغربي نظام مادي إلحادي، وقضية الدين عندهم قضية شخصية، وكل إنسان حر في تدينه: يكفر، يعبد الشيطان، يعبد الهوى، يعبد الحجر، يعبد الشجر، فهذا أمر يرجع إليه. اليابان: من أكبر الدول المتقدمة في العالم، وما زال اليابانيون الذين أوتوا القدرة العجيبة على الاختراع يعبدون صنم بوذا! إذاً: هذا مجتمع عقيدته أن الدنيا هي فرصته الوحيدة في الوجود، وأن الدنيا ليس وراءها آخرة ولا حساب، فبالتالي لا شك أن هذه العقيدة ستنعكس على أهداف المجتمع وعلى وسائله، فأهداف هذا المجتمع الملحد الذي يسقط حق الله، أن يحول الحياة إلى متع ومسرات وملذات وشهوات؛ لأنها فرصته الوحيدة، ثم لا يخشى حساباً من أحد، ولا يعرف حق الله، فمن أجل ذلك تجد هذا المجتمع سلك إلى تحقيق هذه الأهداف وسائل كثيرة، ومن هذه الوسائل: رفع الحجب تماماً بين الرجال وبين النساء، وإشراك المرأة مع الرجل في كافة مجالات الحياة، واستعمال الشهوات والتفنن في تزيينها وتحويلها إلى أوضاع بهيمية كما هو معلوم عن أحوالهم. ففي أمريكا نسبة الزواج (30 %)، وهي لا تتم إلا بعد معاشرة قد تطول، ثم بعد ذلك قد يقررون الزواج وقد لا يقررون، والمقصود أن هذا انعكاس لعقيدة المجتمع الذي لا يؤمن بالله. وتعريف الحرية عندهم أنك حر ما لم تضر، ونحن نقول: أنت حر ما لم تضر الآخرين وما لم تعص أوامر الله عز وجل. وعندهم أن لك أن تعتقد ما شئت من العقائد، لكن هذه العقيدة تظل حبيسة الصدر، ولا يكون لها أي تأثير على واقع المجتمع، فقد يعتقدون أن الله خلق العالم ثم حركه ثم تركه، فلا أوامر ولا نواه، ولا شريعة ولا حساب، ولا عذاب. إذاً: هذه القضية تنعكس على سلوك المجتمع، ولذلك فهم لا يراعون صيانة العرض، قال بعض الباحثين: إن قواميس الأوروبيين تخلو من كلمة العرض، فلا يعرفون الغيرة والشرف والعرض، بل يعتقدون أن الغيرة على النساء من الأمراض النفسية التي ينبغي أن يتخلص منها الإنسان، أو أنها من العقائد الشرقية المتخلفة! فالمقصود من هذه المقدمة: أن المجتمع لا بد أن تكون له عقيدة، وهذه العقيدة تحدد له أهدافاً، وهذه الأهداف يسلك المجتمع وسائل من أجل تحقيقها. هدف الإسلام من نظامه الاجتماعي هو صيانة الأعراض، فمن أجل ذلك شرع مجموعة من الضوابط كلها تصب في هذا الرافد، وهو صيانة أعراض الناس وترويض شهواتهم وتصريفها فيما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. ونحن نوقن أنه ليس من الإنصاف أن نسلك سلوك النظام الغربي في هذا الجانب، ثم نحاول الترقيع بأن نصبغ عليه أدلة من الإسلام، ونصوغه بقواعد النظام الاجتماعي في الإسلام، فهذا ليس من الإنصاف، فضلاً عن أنه يخالف الحقيقة، فيأتي أناس لهم هوى في إباحة الاختلاط، فيفتشون في أعماق الكتب، لعلهم يجدون نصاً قابلاً للتأويل أو حديثاً ضعيفاً، أو أي نوع من القصص المنحرفة فيقولون: الإسلام يبيح الاختلاط، ويستدلون بما ليس فيه دلالة، يقول لك: بعض النساء كن يساعدن الرجال في القتال، فيوسعون هذه الرخصة، ويقولون: لا بد من خروج النساء إلى المجتمع!

احتياطات الإسلام لصيانة الأعراض

احتياطات الإسلام لصيانة الأعراض احتياطات الإسلام شرعت من أجل صيانة الأعراض، فما هي هذه الاحتياطات التي شرعها الله سبحانه وتعالى لسد ذرائع الفتنة بالمرأة؟ لا شك أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهو أعلم به، قال عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ركب في الإنسان شهوة الفرج تركيبا قوياً، وجعل لها عليه سلطاناً شديداً، فإذا ثارت فإنها تكون أشد الشهوات عصياناً، فإن لم يكن عند الإنسان تقوى وورع وخوف من الله، فإنه لا يمنعه من المعصية شيء. قالت مريم عليها السلام: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]، علمت أن التقوى تحجب صاحبها عن المعصية فأرادت أن تذكره بالتقوى. والدليل على شدة هذا الميل في الإنسان أنه يحتمل بكل الرضا مشاق وتكاليف الزوجية، وتربية الأولاد والكد والتعب من أجلهم، بحيث صار الإنسان مسوقاً عن طريق هذه الشهوات إلى التناسل وعمارة الدنيا؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. والمرأة من طبعها استهواء الرجل، والسيطرة على مشاعره، وامتلاك حسه ولبه، وفي سبيل إغوائه وتوجيه نظره إليها؛ قد تصنع من ألوان الفتن ما يجر إلى المنكر. فإذا ترك الناس لدواعي هذه الشهوات فسدت الأعراض وفشت الإباحية، فالله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة والشيطان، وقد بين الله أن هدف الشيطان الأساسي في موضوع المرأة أن يوقع العبد في حضيض الفاحشة الكبرى والعياذ بالله والشيطان عنده خبرة بهذه الأحابيل وهذه الأساليب، فيسلك مسالك الاستدراج وإغراء الإنسان بالشهوات عن طريق خطوات بعضها يقود إلى بعض كدرجات السلم، ولذلك عندما يحذرنا الله سبحانه وتعالى من فتنة الشيطان يقول: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، سماها خطوات؛ لأنه يستدرج الإنسان خطوة خطوة، فإن أول ما يبدأ الشيطان بفتنة الإنسان في هذا الباب بالنظرة، فإذا تسامح الإنسان في النظر فإن النظرة تولد خطرة، وهذه الخطرة -أي: الفكرة- تطرق القلب، فإن دفعها العبد استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت وصارت شهوة، فإن عالجها وإلا صارت إرادة، فإن عاجلها وإلا صارت عزيمة، فإذا وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولا بد. ودفع مبادئ هذه الفتنة أسهل مما بعد ذلك، فإذا غض المرء بصره كما أمر الله كفي شر هذه الفتنة، لكن إذا اتبع الشيطان فلم ينته واستجاب لهذا الاستدراج فإنه يقع فيما هو أصعب، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، ولهذا لما أراد ربنا سبحانه وتعالى أن ينهى العباد عن فاحشة الزنا لم يقل لهم: ولا تزنوا، ولكنه قال لهم: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فنهى عن مجرد الاقتراب منه، وهذا أبلغ؛ وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فكيف بمن يتعداها ويتخطاها؟! فنقول: إن من أجل شدة هذه الفتنة على العباد فإن الشريعة الإسلامية جعلت أحد مقاصدها العليا الحفاظ على العرض، فإذا تأملت جميع الأحكام التي تتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة في الإسلام وجدتها كلها تصب في هذا الهدف، وهو الحفاظ على الأعراض، ومنع وقوع فاحشة الزنا والعياذ بالله. فمن أجل تعظيم حرمات الله، وصيانة الأعراض، والمحافظة على النفس، وتطهير المجتمع من الرذيلة؛ اتخذت الشريعة في مواجهة هذه الفتنة اتجاهين: اتجاه وقائي، واتجاه علاجي. الاتجاه الوقائي يمنع وقوع الفاحشة عن طريق سد الذرائع التي تؤدي إليها سداً محكماً. والاتجاه العلاجي عن طريق فتح أبواب التعفف والحصانة على مصارعها، وشق الطرق المعبدة الممهدة التي توصل إلى ما أحل الله سبحانه وتعالى.

التدابير الوقائية من الفتنة بالنساء

التدابير الوقائية من الفتنة بالنساء

التقوى والورع

التقوى والورع أول ما اهتم به الإسلام لمنع فاحشة الزنا وغيرها من الفواحش أن جعل الإيمان وتعمير القلب بمراقبة الله سبحانه وتعالى والخوف منه أعظم رادع عن المعاصي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فصلاح القلب هو أول أسباب الوقاية من المحرمات. التربية الإيمانية، التوجيه الواعي، لزوم جماعة المسلمين الصالحين، اجتناب صحبة الفاسقين، ومع أن الشريعة تحثنا على مراقبة الله سبحانه وتعالى، لكن الشريعة لا تكلنا فقط إلى ضمائرنا؛ لأن الضمير يمكن أن يطرأ عليه انحراف، والقلب الحي يمكن أن يطرأ عليه المرض. فمن أجل ذلك وضعت ضوابط صارمة، فلا يحل للإنسان أن يتعلل مثلاً بطهارة قلبه، ويقول: سأخلو بهذه المرأة وقلبي طاهر، أو سأصافح هذه المرأة وقلبي سليم، هناك ضوابط لا بد من سلوكها وعدم التهاون بها.

تحريم الزنا

تحريم الزنا الإجراء الوقائي الثاني: تحريم فاحشة الزنا، وبيان أنه خراب للدين والدنيا: فقد أجمعت كل الشرائع السماوية على تحريم هذه الفاحشة، واعتبرت هذا الفعل من أكبر الآثام وأعظم الجرائم التي تدنس النفس البشرية، وتحول بينها وبين سعادتها وكمالها، ووضعت له أشنع عقوبة في الحدود الشرعية، وهي الرجم بالحجارة حتى الموت للزاني المحصن، وتوعدت فاعليها بالعقوبات الآجلة والعذاب الأليم في العاجلة، قال الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]. ليس هذا فحسب، بل قرن الله سبحانه وتعالى الزنا بأكبر الكبائر فقال عز وجل في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69] إلى آخر الآيات. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الكسوف: (يا أمة محمد! والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) تخيل الأب كيف يغار على عرض ابنته، وكيف يغار الزوج على عرض زوجته، فالله عز وجل أشد غيرة من هذا الرجل على ابنته أو امرأته، فيغضب الله سبحانه وتعالى حين تنتهك حرماته وتعصى أوامره. ثم قال: (يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثم رفع يديه فقال: اللهم هل بلغت؟). ليس هذا فحسب، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان من قلوب هؤلاء الذين استمرءوا الكبائر، وبين انسلاخهم من الدين، يقول صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة) يخرج الإيمان من قلبه، ويبقى بعيداً عنه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)، وقال صلى الله عليه وسلم (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم). وعن بريدة مرفوعاً: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عز وجل عليهم الموت). بلغ التنفير من هذه الفاحشة وتبغيضها إلى قلوب المؤمنين أن أم جريج العابد دعت على ابنها حينما أتته في صومعته ونادته ثلاث مرات، وفي كل مرة كان يتنفل بالصلاة ويقول: يا رب! أمي وصلاتي، فيقبل على صلاته، فدعت عليه أمه بعقوبة شديدة، وهي ألا يموت حتى يرى وجوه الزانيات، فكان أن افترت عليه امرأة زانية وادعت أنه هو الذي فعل بها الفاحشة، وكان مظلوماً، فأتى إلى الغلام المولود من الحرام، فغمزه بيده وقال: من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فبرأه الله سبحانه وتعالى، لكن المقصود من هذه القصة: أن مجرد وقوع العين على الذين يقعون في هذه الفاحشة عقوبة كما دعت بها أم هذا العبد الصالح عليه بأن يعاقب بها. وجعل الله سبحانه وتعالى التعفف من هذه الفاحشة من صفات المؤمنين المصلحين، قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:1 - 7]. وقصة يوسف دليل على فضيلة العفة وحسن عاقبتها، وفي السنة أحاديث كثيرة صحيحة في هذا المعنى، مثل حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال عليه الصلاة والسلام: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة). وفي حديث الثلاثة الذين توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم بعدما أطبقت عليهم الصخرة في الغار، توسل كل منهم بصالح عمله، فاستشفع أحدهم ببره بوالديه، والآخر برده أجر العامل الذي تركه عنده فاستثمره له، واستشفع الثالث بأنه كانت له ابنة عم يهواها، فما زال يراودها عن نفسها حتى ألم بها قحط فراودها فخضعت له، فلما تمكن منها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فإذا هو يرتعد من خشية الله، وينصرف عنها ويترك لها المال الذي أعطاها ابتغاء وجه الله، فأزال الله الصخرة عن فم الغار بفضل هذه الأعمال الصالحة. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان فيمن كان قبلكم رجل اسمه الكفل، وكان لا ينزو عن شيء، -وفي رواية: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتى امرأة علم بها حاجة، فأعطاها عطاءً كثيراً -وفي رواية: أعطاها ستين ديناراً-، فلما أرادها على نفسها ارتعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله، فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك، ووالله لا أعصيه أبداً، فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله تعالى قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلى نبي زمانهم بشأنه) هذا الحديث رواه الترمذي في صفة القيامة وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

عقوبات الزنا في الإسلام

عقوبات الزنا في الإسلام شدد الله سبحانه وتعالى ي عقوبة الزاني الأثيم من الناحية المادية والمعنوية، أما العقوبة المادية فهي العذاب الأليم بالجلد أو الرجم، وأما العقوبة المعنوية فهي ألا يرأف به المؤمنون، ولا يجدوا في قلوبهم أي رحمة له، قال عز وجل {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]. وزادت السنة الشريفة بعد هذه العقوبة الحكم بجلد الزاني البكر والزانية البكر مائة جلدة أن يغربا عاماً، وزادت أيضاً الرجم بالحجارة للمحصن، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). وهنا إشارة يسيرة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (نفي سنة) فإنها عقوبة فيها حكمة عظيمة جداً، وهي: أن من مقتضيات التوبة أن يغير الإنسان البيئة التي كان يعيش فيها، والتي عرف فيها بمزاولة المعصية؛ لأنه ربما كان له في هذه البيئة أصحاب سوء يزينون له المعاصي، فإذا هاجر إلى مكان جديد تمكن من التوبة. فخص الله سبحانه وتعالى عقوبة هذه الجريمة بثلاث خصائص: أولها: القتل بأشنع القتلات، وحيث شدد العقوبة بالجمع بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة. الأمر الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينهم، بحيث تمنعهم من إقامة الحد. الأمر الثالث: أنه سبحانه وتعالى أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهم أحد؛ لأن ذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر. وقد ثبتت أحاديث كثيرة بتعذيب الزناة في قبورهم إلى يوم القيامة، كما جاء في الحديث المشهور في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله سلم. وهذه الفاحشة لها مراتب، ففعل هذا الأمر بأجنبية لا زوج لها عظيم، وأعظم منه بأجنبية لها زوج، وأقبح منه زوجة الجار، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره). وزنا الشيخ لكمال عقله أقبح من الشاب، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر).

من مفاسد الزنا وشنائعه

من مفاسد الزنا وشنائعه من مفاسد هذه الفاحشة وعواقبها الوخيمة: أن يَعْمى القلب، ويُطمَس نوره، والزنا يحقر النفس ويقمعها، ويسقط كرامة الإنسان عند الله وعند خلقه، ويؤثر في نقصان العقل، ويمحق بركة العمر، ويضعف في القلب تعظيم الله، ويوجب الفقر، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس. ومن مفاسده أيضاً: أنه يشتت القلب ويمرضه، ويجلب الهم، والحزن، والخوف، ويباعد صاحبه من الملك، ويقربه من الشيطان، وليس بعد مفسدة القتل مفسدة أعظم من الزنا، فلهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبد أن امرأة من نسائه قُتِلت لكان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت. وروي أن الجزاء من جنس العمل، فإن الله سبحانه وتعالى قد ينتقم من هذا الزاني بأن يسلط على عرضه من لا يتقي الله فيه، فينال من عرضه كما نال هو من أعراض الناس، يقول بعض الشعراء: يا هاتكاً حُرَم الرجال وتابعاً طرق الفساد فأنت غير مكرَّمِ من يزن في قوم بألفي درهم في أهله يزنى بربع الدرهم إن الزنا دَين إذا استقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم وصف بعض العلماء آثار هذه الفاحشة المدمرة فقال: عاره يهدم البيوت الرفيعة، ويطأطئ الرءوس العالية، ويسود الوجوه البيض، ويصبغ بأسود من القار أنصع العمائم بياضاً، ويخرق الألسنة البليغة، ويبدل أشجع الناس من شجاعتهم جبناً لا يدانيه جبن، ويهوي بأطول الناس أعناقاً وأسماهم مقاماً وأعرقهم عزاً إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة، ليس لها من قرار. وهو أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما استتر، ونباهة الذكر مهما بعدت، وإنبات ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كان في بيوتهم لفتة احترام. وهو -أي الزنا- لطخة سوداء إذا لحق التاريخ أسرة غمرت كل صحائفه البيض، وتركت العيون لا ترى منها إلا سواداً حالكاً. وهو الذنب الظلوم الذي إن كان في قوم لا يقتصر على شين من قارفته من نسائهم، بل يمتد شينه إلى من سواها منهم، فيشينهن جميعاً شيناً يترك لهم من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهن النسوي، وهو العار الذي يطول عمره طولاً، فقاتله الله من ذنب، وقاتل فاعليه! يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رءوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبياً ليس منهم، فورثهم وليس منهم، ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم. وأما زنا الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضاً، وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد، ففي هذه الكبيرة خراب الدين والدنيا.

منع الزواج ممن عرف بالفاحشة ومنع الاختلاط والبذاءة

منع الزواج ممن عرف بالفاحشة ومنع الاختلاط والبذاءة اتخذ الشرع نتيجة خطورة هذه المعصية إجراءات كثيرة جداً، منها منع الزواج ممن عرف بالفاحشة ومنع الاختلاط، وأنت إذا فتشت عن أي معصية وقعت من هذا النوع، وجدت أن أسبابها الأولى التي أدت إليها وجود خلل في نظام الأسلاك الشائكة، فالإسلام جعل من الرجال الأجانب والنساء نظام أسلاك شائكة تمنع اختلاط الحابل بالنابل، وتمنع ما يحدث في مثل هذه المجتمعات المتحللة، فإذا بحثت وفتشت فلا بد أن تجد ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة، قد تكون بدأت بنظرة، بمصافحة، بخلوة، بأي شيء من هذه الإغراءات التي سنذكرها، والتي من شأنها أن تمنع وقوع الفاحشة. ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى حرم البذاء والفحش من القول، لأن الآذان تتعود على سماع الألفاظ القبيحة، فمنعها من الاحتياطات التي يسد بها ذرائع الفاحشة: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]. وحرم الشرع أن يظن السوء بالمؤمن، وأوجب على المؤمن إذا سمع عن أخيه سوءاً أن يظن به البراءة من الإثم، والطهارة من السوء كما أنه يثق بنفسه أنه طاهر وبريء، كما قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:12] يعني: بإخوانهم {خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:12 - 13]. وقد حدث في عهد عمر أنه شهد ثلاثة بالفاحشة شهادة مفصلة، وتلكأ الرابع ولم يضبط الشهادة الشرعية المفروضة، فحد الثلاثة حد القذف، وبعض الناس في هذا الزمان يظنون الخوض في أعراض الناس أمراً سهلاً؛ لأنهم لا يعاقبون عقوبات شرعية، لكن أين يفرون من عقاب الله في الآخرة؟! فبعض الناس يعتبر الخوض في الأعراض بطولة، وبمجرد الظن أو الشك في الناس يشيع الفاحشة في المؤمنين، ويغفل عما ينتظره من العقاب الأليم! إذاً: يجب على أي مسلم إذا أتاه رجل فرمى شخصاً بالفاحشة أن يقول له: هل معك ثلاثة شهداء؟ فإذا لم يأت فلك أن تقول له: إنك من الكاذبين، إن هذا هو الإفك المبين الذي حذرنا منه الله سبحانه وتعالى.

خطر إشاعة الفاحشة والإيلاء من النساء

خطر إشاعة الفاحشة والإيلاء من النساء حرم الشرع إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]، فإذا كان مجرد حب إشاعة الفاحشة يترتب عليه هذه العقوبة، فكيف بمن يشيع الفاحشة في المجتمع الإسلامي، ويدفع الناس إليها دفعاً؟! وحظر الشرع على الرجل أن يغيب عن زوجه مدة طويلة، قال عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]. إذا حلف الرجل ألا يقرب زوجته ترك أربعة أشهر، فإما أن يرجع بعد فترة الإيلاء ويتوب فيغفر الله له، وإما أن يطلق.

فرض الحجاب على النساء

فرض الحجاب على النساء من أعظم التدابير الوقائية في أمر هذه الفتنة: فرض الحجاب على النساء، واعتبار قرار المرأة في بيتها هو الأصل الأصيل في دائرة عملها، قال صلى الله عليه وسلم: (والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها) فأصل مقر المرأة هو البيت، وليس كما يحصل في هذه الأزمان، وإنما تخرج محجبة، وتخرج بشروط معروفة، وهذه الشروط لحمايتها وحماية المجتمع من فتنتها. من ذلك أيضاً: أنه حرم التبرج وإظهار الزينة والتجمل للفت نظر الأجانب، يقول تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].

تشريع الاستئذان عند دخول البيوت وغض البصر

تشريع الاستئذان عند دخول البيوت وغض البصر من هذه الإجراءات تشريع الاستئذان وعدم دخول البيوت إلا بإذن، فربما وقعت عين خائنة على عورة غافلة فوقع المحرم. أيضاً من هذه الاحتياطات: الأمر بغض البصر، يقول تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وهنا فعل مقدر محذوف، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا يغضوا إلخ، فحذف صيغة الأمر (غضوا) وأتى A ( يغضوا). فكأن المؤمنين ليس لهم شأن أمام أوامر الله إلا الامتثال، فأصل الآية: قل للمؤمنين: غضوا يغضوا من أبصارهم، أي: سوف يستجيبون لك إذا قلت لهم ذلك؛ لأن هذا شأن المؤمنين. وقرن الله سبحانه وتعالى الأمر بغض البصر بالأمر بحفظ الفرج، لأن غض البصر هو السبيل إلى هذا الحفظ، ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، حتى يراقب الإنسان ربه ولا يراقب عين الناس، ولا يقع في خائنة الأعين، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء تمر به، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود لو اطلع على عورتها، وأن لو قدر عليها لزنى بها! وقال الثوري: الرجل يكون في مجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة التي تمر بهم، فإذا رأوه ينظر إليها اتقاهم فلم ينظر، وإن غفلوا نظر. ((وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)) يعني: ما يجد في نفسه من الشهوة، ولا شك أن خائنة الأعين في هذا الزمان تضاءلت، لأن المرأة الآن تخرج في الشارع على أقبح صورة وأبلغ زينة، فلم يبق احتمال وجود خائنة الأعين إلا عند المسلمين الذين تستتر نساؤهم، أما الذين فتنوا بتقليد الكفار فقد عدمت فيهم خائنة الأعين، وحل محلها تسريح النظر في النساء الأجنبيات ومضاحكتهن ومجالستهن، والتحدث معهن في الخلوة وفي غير الخلوة! يقول تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} [غافر:19] يقول سفيان: هي النظرة بعد النظرة فالنظرة الأولى معفو عنها كما في الحديث: (يا علي!، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة). ويشترط للعفو عن الأولى ألا تكون عمداً، بل تكون نظرة فجأة عفواً بغير قصد، فإذا كان الإنسان ينظر عمداً فلا تحل له الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، فإنما الكلام هنا في نظرة الفجأة التي لا يتعمدها الإنسان. كذلك يجب على من رأى رجلاً يترصد امرأة أن ينصحه ويرشده إلى غض البصر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر) فهذا إنكار باليد، وهو أبلغ مراتب الإنكار. وننبه هنا إلى خطأ يقع من بعض الناس حتى المتدينين، وهو التساهل في النظر إلى المخطوبة، فالمخطوبة يجوز لك أن تنظر إليها إذا أردت الخطبة، فإذا لم يكفك النظر مرة طلبت الثانية، ولا يجوز أن يظل الباب مفتوحاً؛ لأنها أجنبية، وإلا أصبحت بنات الناس معارض ومسارح للناظرين، فالخاطب ينظر إليها عند الحاجة، ويتكلم معها عند الحاجة، شأنها شأن أي امرأة أجنبية، لأن الخطبة ما هي إلا وعد بالزواج، لا يترتب عليه أي أثر، فالتساهل في هذا الباب لا شك أنه خلل في نظام الأسلاك الشائكة.

تحريم مس الأجنبيات

تحريم مس الأجنبيات أيضاً من هذه الإجراءات: تحريم مس الأجنبية ومصافحتها، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). وقال عليه الصلاة والسلام: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه). الشاهد قوله عليه الصلاة والسلام: (واليد زناها البطش) وهو أن يمس بها امرأة أجنبية. وبعض المتساهلين بمصافحة النساء يقول: الصغيرة مثل أخته، والكبيرة مثل أمه! إذاً: حدود الله تنسى وتمحى، فيتساهل الناس في هذه المعصية، ويحتجون بطهارة القلب وسلامة النية، ويقول بعضهم: إنه لا يتأثر بذلك! فلا شك أن هذا ينادي على نفسه بنقص صفات الرجولة، وهو كذاب في دعواه قطعاً؛ لأن أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا أصافح النساء)، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها) أي: يملك نكاحها، فهل هو أطهر قلباً من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أيضاً: هناك تنبيه تمس الحاجة إليه فيما يتعلق بالمصافحة وغيرها، وهو أن بعض الناس يتهاونون بمثل هذه الأحكام بزعم أن المرأة تمد يدها فيصافحها، ويقول: أنا استحييت، أو المرأة تقول: أنا استحييت، فيقول: صافحت حتى لا أحرجه أو حتى لا أحرجها، فهذا في الحقيقة ليس بحياء، هذا عجز عن المحافظة على حدود الله، فأنت راعيت حق العبد وضيعت حق الله، وكان ينبغي أن تغار على حدود الله سبحانه وتعالى أكثر من خشيتك أن تغضب هذا العبد. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء ويأمر به، ويحث عليه، ومع ذلك لا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكاً بقوله في الحديث: (إن الله لا يستحيي من الحق). وهذا هو نهاية الحياء وكماله، وحسنه واعتداله، فإن من فرط عليه الحياء حتى منعه من الحق، فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء، واتصف بالنفاق والرياء، والحياء من الله هو الأصل والأساس، فإن الله أحق أن يستحيا منه، فليحفظ هذا الأصل فإنه نافع.

تحريم الخلوة بالأجنبيات

تحريم الخلوة بالأجنبيات من هذه الإجراءات أيضاً: تحريم الخلوة بالأجنبية، وحقيقة الخلوة أن ينفرد الرجل بامرأة أجنبية عنه في غيبة عن أعين الناس، فهذه من أعظم الذرائع وأقرب الطرق إلى وقوع الفاحشة الكبرى. وهذه الخلوة كما ذكر القرطبي من الكبائر، ومن أفعال الجاهلية، قال مجاهد في قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] لا تخلو المرأة بالرجال، وقال بعض السلف: لا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر إلا مع ذي محرم. فالخلوة بالأجنبية من أخطر الذرائع التي تؤدي إلى المحرم، فهي من أسباب القرب التي قال عز وجل فيها: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فتجد أن الله سبحانه وتعالى حينما يعالج جريمة القتل، ينهى عن القتل نفسه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]؛ لأن النفس أصلاً تكره القتل، لكن هذه الفاحشة يعالجها بالحجز عن أسبابها: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]. فشدد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الخلوة، حتى تسد منافذ الفاحشة، وتجفف منابع الفتنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا لا يخلون رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان)، فأي إنسان يقول بخلاف قول رسول الله فهو كذاب، ينادي على نفسه بالكذب والفجور والفسوق والعصيان، فما دام الرسول الذي لا ينطق عن الهوى يقول (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) فحتماً يكون ثالثهما الشيطان، وهذا الحديث يعم جميع الرجال حتى الصالحين، ويعم جميع النساء حتى الصالحات والعجائز. وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان). وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على المغيبات)، والمغيبة هي المرأة التي غاب زوجها. وعنه أيضاً: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان)، وفي حديث آخر: (لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم). أيضاً قرابة الزوج من الرجال غير الأب لا يحل لهم أن يدخلوا على المرأة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ -الحمو هو قريب الزوج- قال: الحمو الموت) يعني: أنه يفسد حياة الزوجية كما يفسد الموت البدن. وقد حكى الإجماع على تحريم الخلوة بالأجنبية غير واحد من العلماء منهم النووي وابن حجر، وقال النووي: وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحوه، فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام. ويقول الإمام الأبي رحمه الله تعالى: لا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد وإن قل الزمن. يعني: مثل داخل المكتب، أو المصعد وأي شيء تقع فيه خلوة لا يحل، يقول: لعدم الأمن، لاسيما مع فساد الزمن، والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب. يقول بعض الشعراء: لا يأمنن على النساء أخ أخا ما في الرجال على النساء أمين إن الأمين وإن تعفف جهده لا بد أنه بنظرة سيخون فالمقصود: ألا يوكل الأمر إلى الضمائر والثقة، ولا بد من مراعاة حدود الشرع، يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: ائتمنوني على خزائن الذهب والفضة، ولا تأتمنوني على أمة سوداء. يقول بعض السلف: ولا تدخل على امرأة وإن قلت: أعلمها القرآن.

تحريم سفر المرأة بغير محرم

تحريم سفر المرأة بغير محرم من ذلك أيضاً: أن الشريعة حرمت سفر المرأة بغير محرم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجّة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. قال: انطلق فحج مع امرأتك) فأمره أن يترك الجهاد حتى يحج مع امرأته ولا يدعها تسافر بدون محرم. يقول الإمام النووي: المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته وحيائه. فالذين يتهاونون بالخلوة والاختلاط ويقولون: إن بناتنا أو أبناءنا تربوا على الفضيلة ورعاية الخلق إلى آخر هذا الكلام، هؤلاء تماماً مثل قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لن يقع، لأنه مكتوب على البارود تحذير من الاشتعال والاحتراق، فهل يغني هذا التحذير شيئاً؟ فهذا خيال ومغالطة للواقع.

تحريم خروج المرأة متعطرة

تحريم خروج المرأة متعطرة من هذه الإجراءات: تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة، فما يشمه الرجل من ريح المرأة لا شك أنه من دواعي الفتنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم يجدون ريحها فهي زانية، وكل عين زانية)، فالحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس ألا يحتمل حتى هذا العامل الخفي اللطيف! خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه متطيبة، فوجد ريحها فعلاها بالدرة، ثم قال: تخرجن متطيبات فيجد الرجل ريحكن، وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تفلات، يعني: غير واضعات هذه الروائح.

تحريم الخضوع بالقول

تحريم الخضوع بالقول من هذه الإجراءات: تحريم الخضوع بالقول؛ فإن خضوع القول يؤدي إلى بلية المعصية أو بلية العشق، قال بشار الشاعر: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا فربما أوقع صوت المرأة الرجل في هذه الفتنة؛ فلهذا نهيت المرأة عن الخضوع بالقول، لكن تتكلم بجفاء وبقسوة؛ حتى تنفر الرجل الأجنبي منها. بعض الناس رأى أختاً منتقبة تلبس ثياباً ذات ألوان غامقة بحيث إنها تنفر الذي يراها، فقال: هذا لا يصح هذا منفر! فكان A إن المفروض أنها تنفر، فليس المقصود مد جسور المودة بين الرجال والنساء، والكلام إنما يجوز للحاجة بقدر الحاجة: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، فهذا الخطاب وجه لأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن، فكيف بمن دونهن؟! قال عليه الصلاة والسلام: (والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام)، فهذا أيضاً من المحرمات.

تحريم الاختلاط

تحريم الاختلاط أعظم وسائل الإسلام في تجفيف منابع هذه الفتنة تحريم الاختلاط، والاختلاط هو: اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم له اجتماعاً يؤدي إلى ريبة، أو هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر، أو الإشارة أو الكلام أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد. أقوى دليل على تحريم الاختلاط قول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وإذا رجعنا إلى كتب التفسير، لننظر ما يذكره المفسرون عن تبرج الجاهلية الأولى، نجد أن الجاهلية الأولى تستحي مما عليه الجاهلية الأخيرة الآن، ففي تفسير الآية يقولون: كانت المرأة تخرج فتمشي بين أيدي الرجال، أو تخرج وقد غطت رأسها وأظهرت نحرها، فهذا هو تبرج الجاهلية الأولى، فماذا نقول عن تبرج الجاهلية الأخرى ولا حول ولا قوة إلا بالله! ويقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} [الأحزاب:53] يعني فتوى، أو طعاماً، أو صدقة {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ثم علل الحكم فقال: {ذَلِكُمْ} يعني: الحجاب، أو السؤال من وراء حجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] ثم يأتي بعض الناس الذين لم يشموا رائحة الفقه، ويقولون: إن هذه خاصة بأمهات المؤمنين. سبحان الله! إذا كان الخطاب موجهاً لأمهات المؤمنين اللاتي هن محرمات علينا، وموجهاً لجيل الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس، وعلل الحكم بأن ذلك الحجاب والكلام من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن، فكيف نقول في رجال ونساء هذا الزمان! يقول النبي عليه الصلاة والسلام (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها). وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء بالطريق، فقال لهن: (استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق) أي: ليس لكن أن تمشين في حاق الطريق وهو وسط الطريق. الآن الرجال لكي يتقوا شر النساء يمشون على الرصيف، ويتقون بالجدران! النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به، أي من شدة الحرص على عدم المخالطة أوقات الخروج من المسجد. وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد باباً خاصاً بالنساء لا يشاركهن ولا يخالطهن فيه الرجال، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات، وكان عمر بن الخطاب ينهى أن يدخل المسجد من باب النساء. وقد شرع الرسول عليه الصلاة والسلام للمصلين ألا يخرجوا فور التسليم من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة بالمسجد نساء حتى يخرجن. قال أبو داود: باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم مكث قليلاً، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال). وجاءت أم حميد الساعدية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي) أي: المسجد النبوي، ومعروف فضيلة الصلاة في المسجد النبوي. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن). وقال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)، وهذا في حالة العبادة والبعد عن الشيطان، فما بالك بما خالف ذلك! كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حذرة، أي تطوف حول الكعبة بالليل حتى لا تخالط الرجال، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين! فقالت: انطلقي أنت، وأبت، وكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن، أي: إذا أراد نساء المؤمنين أن يدخلن الكعبة وقفن على بابها حتى يخرج الرجال، ثم تدخل النساء. ودخلت على عائشة رضي الله عنها مولاة لها فقالت لها: يا أم المؤمنين! طفت بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال، ألا كبرت ومررت! ومن أجل ذلك تجد الشرع حث على صلاة الجمعة، ولكن ليست واجبة على النساء، وجعل جهادهن هو الحج المبرور، ولما أرادت فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم سليم، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك). كل هذه الإجراءات تبين لنا أن روح الشريعة يرفض تماماً انفتاح النساء على الرجال واختلاطهن بهم بهذه الصورة المزرية.

صور من الاختلاط يتهاون بها الناس

صور من الاختلاط يتهاون بها الناس هناك صور من الاختلاط يتهاون بها الناس لا بد من الالتفات إليها. أول صور الاختلاط المحرم: اختلاط الإخوة الذكور والإناث بعد التمييز في المضاجع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع كما في الحديث: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) فلا بد من التفريق بين الذكور والإناث حتى لو كانوا أشقاء في المضاجع. صورة ثانية: اتخاذ الخدم من الرجال، بعض الناس يأتون بخدم في المنزل من الرجال، فيختلطون بالنساء، وقد تحصل بهن الخلوة. الصورة الثالثة: اتخاذ الخادمات في بعض البيوت، وقد تحصل بهن الخلوة. الصورة الرابعة: السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، يقول: هذا خطيبها، فيخلو بها، فيجرهم الاختلاط إلى الخلوة ثم إلى ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف وأن يدرس بعضهم بعضاً. الصورة الخامسة: استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب أو أصدقاؤه في حال غيابه ومجالستهم، وهذا مما ينافي أحكام الإسلام. الصورة السادسة: الاختلاط في دور التعليم والمدارس والجامعات والمعاهد والدروس الخصوصية. الصورة السابعة: الاختلاط في الوظائف والأندية والمواصلات والأسواق والمستشفيات والزيارات بين الجيران. الصورة الثامنة: الخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد والمكاتب والعيادات عند الطبيب إلى غير ذلك، فلا ينبغي حصول خلوة أبداً، ولا يسمح للرجل بخلوة امرأته برجل حتى في الطريق. والحاصل أننا ينبغي أن نحذر الخلوة والاختلاط والتبرج، وكل هذه الأشياء والزنا رفيقان لا يفترقان، وصنوان لا ينفصمان أبداً، يقول بعض الشعراء: إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل السباع تطوف باللحمان إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان فالإسلام وضع حصوناً وقلاعاً؛ لأن الإسلام يعرف ما معنى العرض، وما معنى الشرف.

حال الغربيين بسبب الاختلاط

حال الغربيين بسبب الاختلاط هؤلاء الغربيون يعيشون كالبهائم العجماوات، وإذا سبرت أغوارهم وعرفت أحوالهم؛ وجدت الحيوانات أفضل منهم، فليسوا هم أسوتنا، لكن أسوتنا خير أمة أخرجت للناس، فإذا لم نحل بين الرجال والنساء الأجانب بهذه الحصون والقلاع، فلا بد أن تسقط الأعراض أمام هذه الهجمة الشرسة ويقع المحذور، ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة، واللوم أولاً وأخيراً على ولي البنت الذي ألقى لها الحبل على غاربه، وأرخى لابنته العنان، فيداه أوكتا وفوه نفخ، يقول بعض الشعراء: نعب الغراب بما كرهـ ت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر ويقول الآخر: أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت فاعل فلا يلومن أحد إلا نفسه، كل أب أو ولي يفرط في هذه الواجبات فمسئوليته أمام الله سبحانه وتعالى. أخيراً نقول: إن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية والفضائح المشينة التي تمثل صفعة قوية في وجه كل من يجادل في الحق بعدما تبين، وإن الإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي فشا فيها الاختلاط صارخة بخطر الاختلاط على الدين والدنيا، لخصها العلامة أحمد وثيق باشا العثماني رحمه الله، فقد كان من الأتراك المشهورين، وكان قد سأله بعض عشرائه من رجال السياسة في أوروبا في مجلس إحدى العواصم الأوروبية، فقال له: لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشين مجامعهم؟ فأجابه في الحال قائلاً: لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن! وكان هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر. ولما وقعت فتنة الاختلاط في الجامعة المصرية على يد طه حسين وقعت حوادث يندى لها الجبين، وسئل طه حسين: ما رأيك في الاختلاط والسنة السيئة التي أدخلتها في بلاد المسلمين، وقد حدث منها كذا وكذا، مما يندى الجبين عرقاً من حكايته؟ فكان جوابه: لا بد من ضحايا! لكنه لم يبين بماذا تكون التضحية؟ وفي سبيل ماذا لا بد من ضحايا؟ وهل يوجد شيء أغلى وأثمن من أعراض المسلمين حتى يضحى به في سبيل غيره؟! نستطيع أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها، وهي أنك إذا وقفت على جريمة دنس بها العرض وذبح العفاف وأهدر الشرف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها؛ فإنك حتماً ستجد أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28]. فلأن الإنسان ضعيف ولأن الله بنا رحيم، شرع لنا هذه القيود وهذه الضوابط كي تصب في هذا المجرى العظيم، صيانة العرض وحماية المجتمع من هذه الفاحشة.

التدابير الإيجابية لصيانة الأعراض

التدابير الإيجابية لصيانة الأعراض ذكرنا بعض الإجراءات الوقائية التي تسد باب الفتنة، فما هي التدابير التي شرعها الإسلام بهذا الصدد؟

الترغيب في النكاح

الترغيب في النكاح فتح الإسلام أبواب الحلال على مصارعها، وقضى على أي عقبة تعترض النكاح بكل قوة، فرغب الإسلام في الزواج المشروع وحث عليه، وبين أنه من سنن الهدى، وجادة الإسلام، ونهت الشريعة عن التبتل والرهبانية، وأنها مولود مبتدع في الملة النصرانية، وشدد الله النكير على فعلتها، فليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ولا يحل لأي إنسان أن يستحسن العزوبة بأي عذر، فإنه يقع حينئذ تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن رغب عن سنتي فليس مني). ومعروف حديث الثلاثة الرهط الذين أتوا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى)، فمن أحد المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية تكثير نسل المسلمين. فبعض المضلين يستدلون ببعض الحالات الفردية أو بعض الأحاديث الواردة في إباحة العزل على إباحة استئصال النسل المسلم والتآمر عليه، فهناك فرق بين دراسة الحالات الفردية كرخص طبقاً لظروف شخصية لبعض الناس، وبين أن الدولة تتبنى سياسة تنافي وتضاد مقاصد الشريعة الإسلامية، فلا تحل المناداة برفع شعار يتعارض مع المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، وقد ذكرنا أن من مقاصد الشريعة الإسلامية العليا حفظ العرض عن طريق هذه الوسائل التي نذكرها. فالمقصود: أن الترغيب في النكاح أصل مقطوع به من دين الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى). قال طاوس رحمه الله: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج، أي: لا يحل للواحد أن يقول: أنا اشتغل بالتعبد ويترك الزواج. وقال لـ إبراهيم بن إبراهيم بن ميسرة: تزوج أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ أبي الزوائد: لا يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور. فالتعبد لا يمنع من النكاح، قال المروزي: قال أبو عبد الله -يعني الإمام أحمد بن حنبل -: ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة، ومات عن تسع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عندهم شيء من الفقر، وكان يختار النكاح ويحث عليه، ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير الحق. وتزوج يعقوب في حزنه وولد له، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إلي من دنياكم النساء). وقال الإمام أحمد: لبكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه خبزاً أفضل من كذا وكذا. يعني: حتى لو كان فقيراً؛ لأن الله يحب أن يكثر نسل المسلمين الذين يشهدون له بالتوحيد، فما يدريك لعله أن يخرج منهم من ينقذ الله به الأمة! ويقول الإمام أحمد: أنى يلحق المتعبد المتزوج! وعن عثمان بن خليل أن شداد بن أوس قال: زوجوني، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني ألا ألقى الله عزباً. وقال ابن مسعود: لو لم يبق من أجلي سوى عشرة أيام، أعلم أني أموت بعدهن، ولي طول النكاح فيهن؛ لتزوجت مخافة الفتنة. ففقهاء الإسلام يقررون أن النكاح سنة مؤكدة، والبعض يقول بالوجوب؛ أخذاً من قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء). وأرشد الإسلام إلى الصيام كشيء بديل؛ لأنه مما يعين على غض البصر، وفي القرآن إشارة إلى هذا في قوله سبحانه وتعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب:35] ثم عقب بقوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب:35] لأن الصيام يعين على هذا الأمر، يقول بعض العلماء: لو سأل سائل فقال: إني رجل مستطيع النكاح ولا أخاف على نفسي الحرام لو لم أتزوج، وأريد أن أظل عزباً ليكفيني أقل مال وعمل لكسب معيشتي، وسأشغل وقتي كله بالعبادات من صلاة وصوم وذكر وقرآن إلى آخره؛ لقال العلماء لهذا الرجل: الزواج مع أداء العبادات المفروضة والسنن الراتبة أفضل. ولكي يزيد الإسلام فتح في باب الحلال كتدبير إيجابي لسد باب الفتنة؛ رخص لمن لم يقدر على نكاح الحرائر أن ينكح الإماء، وأمر المسلمين بالتعاون على تزويج عزابهم من نساء ورجال حتى لا يبقى في القرية أو الحي عزب تخشى فتنته، والدليل قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، والأيامى: جمع أيم، وهو من ليس له زوج من رجل أو امرأة، قال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، ثم تلا هذه الآية: ((إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)). وقال عمر: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى: ((إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))! وقد بين هذا وشرحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حق على الله عون من نكح التماس العفاف عما حرم الله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة حق على الله تعالى عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف).

تيسير النكاح

تيسير النكاح حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تيسير النكاح، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير النكاح أيسره) وهذا إرشاد إلى التساهل من جانب الأولياء ومن جانب الأزواج. وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الصداق أيسره). وأمر الله عز وجل من لم يجد النكاح بالاستعفاف، ولم يفتح أي ثغرة إلى ما حرم الله، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] فأي وسيلة غير هذه التي أحلها الله فهي من العدوان الذي حرمه الله سبحانه وتعالى. هكذا نظم الإسلام الحياة الاجتماعية تنظيماً دقيقاً، ووضع لنا التشريعات التي تكفل السعادة والاستقامة، وبينا كيف أن الشريعة حينما تحرم شيئاً تحرم كل الأسباب التي تؤدي إليه، حتى تستوقف المرء على مسافة بعيدة قبل أن يفضي إلى حدود الجريمة الأصلية. لا ترتضي الشريعة الإلهية المحكمة حين تحرم شيئاً من الجرائم أن تشعر الناس أن العقوبة قد شرعت لمجرد التمثيل بهم ومحاسبتهم، بل تشعرهم أنها ناصحة لهم، ومصلحة لمفاسدهم، ومزيلة لمفاتنهم، فتستخدم كل ما يؤثر من التدابير الوقائية الممكنة والتدابير العلاجية التي توصد باب الفتنة، وتعين على اجتناب الموبقات: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28]. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

منكرات التمثيل

منكرات التمثيل التمثيل أمر محدث لم يكن من هدي السلف، والناظر في واقعه يجد أغلبه يحوي أموراً منكرة، كالغيبة بالمحاكاة أو القول، والاستهزاء بالدين وعلمائه، وتشويه تاريخ المسلمين، واختلاط الرجال بالنساء، والنظر إلى العورات، كما أن فيه إهداراً للأموال والأوقات في باطل يعود على المسلم بالضرر في دينه ودنياه.

حرمة الغيبة

حرمة الغيبة

الغيبة بالقول والإشارة

الغيبة بالقول والإشارة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا وكذا -تعني: قصيرة-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته! قالت: وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) رواه أبي داود والترمذي، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني. قول عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية) أي: يكفيك من عيوبها البدنية أنها قصيرة، ولعلها قالت بلسانها: إنها قصيرة، وأشارت بيدها إلى كونها قصيرة، فأرادت التأكيد بالجمع بين القول والفعل، فقالت بلسانها وحكت أيضاً بيدها أنها قصيرة. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت كلمة) أي: كلمة طويلة عريضة مرة ومنتنة عند أرباب الحواس الكاملة (لو مزجت بماء البحر) أي: لو خلط بها على فرض أن الكلمة كأنها تجسدت وأصبحت سائلاً مائعاً بحيث تختلط بماء البحر، والمزج هو الخلط بين المادتين، فينتقل من المعنى إلى الحس (لمزجته) أي: لغلبت عليه وغيرته. والمعنى أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته، فكيف بأعمال قذرة قد خلطت بها هذه الغيبة؟! وفي هذا الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذه الكلمة منك ولو كانت صغيرة وقليلة عندك فهي عند الله كبيرة وكثيرة بحيث لو أن هذه الكلمة مزجت بكل البحار بأجناسها وأصنافها وأنواعها من طولها وعرضها وعمقها لغلبتها ولغيرتها وعكرتها! فهذا من البلاغة في غاية مبلغها، وفي البليغ من الزجر نهاية حده ومنتهاه.

الغيبة بالمحاكاة

الغيبة بالمحاكاة قالت عائشة رضي الله عنها: (وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا). فقوله: (ما أحب) يعني: ما أود (أني حكيت إنساناً) أي: فعلت مثل فعل أحد. يعني: ما أحب أن أتحدث بعيب أحد سواء أكان هذا الحديث قولياً أم فعلياً. وقولها: (وحكيت له إنساناً) بمعنى: حاكيت. أي: فعلت مثل فعله. أي: قلدته فمثلت بشخصه، وفعلت نفس حركته أو مشيته أو كلامه. يقال: حكاه، وحاكاه. وأكثر ما تستعمل المحاكاة في القبيح، ولو حملنا قوله: (ما أحب أني حكيت إنساناً) على المعنى الحسن -أي: المحاكاة الحسنة- فيكون هذا إشارة إلى المبالغة، أي: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم زجر في المحاكاة الحسنة وقال: (ما أحب أني حكيت إنساناً) فكيف بالمحاكاة في الأفعال القبيحة؟! قوله: (وأن لي كذا وكذا) هذه جملة حالية، يعني: لا أحب أني أقلد إنساناً، أو أمثل بشخص فلان، أو أقلد حركاته (وأن لي كذا وكذا) أي: ولو أعطيت كذا وكذا من الدنيا. يعني: حتى لو وزن لي من المال أو من الدنيا الشيء العظيم حتى أقوم بفعل المحاكاة ما أحب ذلك، ولا أقبل ذلك. قال الإمام النووي رحمه الله: من الغيبة المحرمة المحاكاة، بأن يمشي متعالياً أو مطأطئاً رأسه أو غير ذلك من الهيئات. فالإنسان لا يقلد شخصاً فيحاكيه في حركاته أو في مشيته. وقال -أيضاً- رحمه الله تعالى: هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ. وما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.

التمثيل أحكامه وأنواعه

التمثيل أحكامه وأنواعه يقودنا الكلام في تفسير قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] إلى بيان معاني الهمز واللمز المقصودين في هذه الآية الكريمة، فالذم حاصل لكل من أتى بهما أو بأحدهما، يعني: ويل لكل هامز لامز يكثر منه الهمز واللمز للآخرين، وفي قراءة: (ويل لكل هُمْزَة لُمْزَة) يعني: الشخص الذي يهمز ويلمز، وهو المفعول، وذلك بأن يأتي بحركات سفيهة أو يمثل أو يفعل نحو هذه الأشياء بحيث يضحك الناس، فهذا المعنى يستفاد من قراءة: (ويل لكل هُمْزَة لُمْزَة) بتسكين الميم، فهي تعني المفعول، أو الشخص الذي يتعرض للناس ليهمزه ويضحكوا منه. والآية تتناول أحد أنواع التمثيل على هذه القراءة، وهو التشخيص، والمعروف أن الممثلين كانوا معروفين منذ زمن بالحقارة والمذلة والهوان، وكانوا أحقر ناس، حتى كان القضاء الوضعي نفسه يرد شهادة الممثلين، ولا تقبل شهادتهم تفسيقاً لهم؛ لأنهم يتعاطون مهنة قبيحة وحرفة خبيثة، وبعض هؤلاء الممثلين كان يفخر بإنجازات بعض الرؤساء فقال: إن من ضمن إنجازات هذا الرئيس أنه جعل عيداً للفن، وأنه بعد أن كان القضاء يرد شهادتنا أصبحنا الآن الأبطال والقدوة، ويقال لأحدنا: المربي الكبير والأستاذ القدير إلى آخر هذه الألقاب! ومن الأنواع المذمومة من أنواع التمثيل التي تبلغ من القباحة غايتها ما يسمونه الكوميديا أو الضحك أو النكت أو ما شابه هذه الأشياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له). فالكلام على هذا النوع من الهمز واللمز يقود إلى بيان وعيد الذي يكذب في حديثه ليضحك به الناس. والمراد هنا الكلام على سائر أنواع هذا التمثيل، لكن حينما نتكلم في هذا التمثيل فإننا نقصد به المعنى العرفي؛ إذ أصبح علماً على الفسق والفجور الذي نعرفه جميعاً ونعلمه ونسمع به. إن التمثيل المقصود به النوع الشائع المعروف الذي يتفق على تحريمه العلماء والعقلاء وذوو الفطرة السليمة، ولا يدخل فيه النوع المختلف فيه الذي هو -كما نسميه- التمثيل الأخلاقي الذي يدعو إلى الفضيلة والحث على الجهاد ونحو ذلك، فهذا فيه خلاف شرعاً هل هو محرم لذاته أم لا، أما إن كان التمثيل يحتوي على الفواحش كالتبرج والفساد المعروف فهذا محرم للأدلة الكثيرة في ذلك، لكن التمثيل فيما يهدف إلى إبراز المقاصد الأخلاقية، الذي يعرى عن وجود النساء المتبرجات أو غير المتبرجات، ويدعو إلى الأخلاق والحث على الفضائل هل هو محرم لذاته؟ بعض العلماء يرى أنه محرم لذاته، لكن هذا لا يفيدنا كثيراً، فلا نحتاج إلى أن نتكلم عن التمثيل الأخلاقي بصحة أو خطأ؛ لأننا لسنا نقصده؛ لأنه لا يوجد الآن تمثيل أخلاقي أبداً، وليس هناك أحد يدعي ذلك، بل الذي يبدأ بالأخلاق ينتهي بما نعلم! فهو نادر أو معدوم. ومن أنواع التمثيل المعروفة ما تجرأ عليه بعض الملاحدة وقاموا بتمثيل بعض الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، بل منهم من وصل به هذا الفجور والفسوق إلى تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا حرام أو كفر، كما يأتي بيانه إن شاء الله. وكذلك في هذه الأوضاع المذمومة تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم. أما التمثيل المعروف الآن بكل ملابساته فيقول أحد العلماء الذين ألفوا في هذا الموضوع: اعلم أنه لا يختلف اثنان ممن يعرف شيئاً عن دين الإسلام أن التمثيل من أعظم المحرمات وأكبر الكبائر، ولا يشك في ذلك إلا من لا يعرف شيئاً عن دين الإسلام، أو كان من المنحلين المارقين الذين يدسون فيه الدسائس لمحو رسومه وإتلاف معالمه والقضاء عليه بتحليل محرماته وإسقاط واجباته، كما هو الواقع من الكثيرين، بل لا يشك عاقل ولا يمتري فاضل في أن التمثيل مناف للمروءة والعقل، منابذ للأخلاق والفضيلة، لا يرضاه ذو نفس شريفة، ولا همة أبية فضلاً عن ذي دين ومروءة، بل لا يرضاه لنفسه إلا دنس الأصل، وضيع النفس، ساقط المروءة، فاقد الشعور بالكرامة، خفيف العقل، قليل الدين أو ذاهبه بالكلية. وهذا هو المشاهد من الممثلين، فإننا لا نرى في الممثلين ذا أهل وكرامة ودين ومروءة.

تنبيهات بين يدي الحديث عن التمثيل

تنبيهات بين يدي الحديث عن التمثيل

مكانة الصحابة رضي الله عنهم وحرمة تصويرهم

مكانة الصحابة رضي الله عنهم وحرمة تصويرهم نقدم بين يدي الكلام في هذا الموضوع بعض التنبيهات: اتفق العلماء على حرمة تصوير الصحابة رضي الله عنهم، وهناك اعتبارات لابد أن نراعيها قبل الكلام في موضوع التمثيل: الأول: ما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكانة العليا في الإسلام بحكم معاصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم بواجب نصرته وموالاته، والتفاني في سبيل الله ببذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم رضي الله عنهم، فقد اتفق أهل العلم على أنهم صفوة هذه الأمة وخيارها، وأن الله شرفهم وخصهم بصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم في كتابه الكريم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] إلى آخر الآيات. وجاءت الأحاديث الصحيحة بتسجيل فضلهم، وأن لهم قدم صدق عند الله، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم) ففي الجيل الثاني قال: (أفيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) يعني أصحاب الصحابة، وفي المرة الثالثة: (أفيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم) فمدار الفضل على هذا الشرف الذي يلحق الصحابة ومن يصحبهم ومن يصحب من يصحبهم. وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) أي: البدانة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعض أصحابه رضوان الله عليهم: (ذروا لي أصحابي -أي: دعوني وأصحابي- فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) رضي الله عنهم.

التمثيل وقضاؤه على الأوقات وشغلها باللهو والعبث

التمثيل وقضاؤه على الأوقات وشغلها باللهو والعبث التنبيه الثاني: قبل الكلام في منكرات التمثيل تأتي النظرة العامة إلى مشاهدة التمثيل من أنه حال من أحوال اللهو والتسلية وشغل فراغ الوقت، فمشاهده في الغالب يذهب إلى السينما، أو يجلس أمام الأفلام ونحوها، ولا يريد أن يجلس ليتعظ، بل هو يريد أن يضيع وقته، ويحصل إشباع غرائزه بما يشرح النفس وينسي الهموم وينقل المرء من حال الجد إلى حال العبث والهزل؛ ولذلك يقول قائلهم: كم ساعة تريد أن تجلس فيها لضحك متواصل؟! فهو هروب من الهموم، أو هروب من المسئوليات ولجوء إلى البطالة وإلى العبث، كما يلجأ الإنسان إلى أي شيء قبيح ومنكر مثل الخمور والمسكرات، وكذلك يلجأ طوائف من الناس إلى هذه المسارح والسينما وغيرها، ويقصدون بذلك الترويح على أنفسهم بهذا اللغط والعبث.

تردي أخلاق الممثلين

تردي أخلاق الممثلين التنبيه الثالث: حال محترفي التمثيل من الناحية السلوكية، لو تأملنا في وضع التمثيل وحال محترفي هذا النوع من الفسق، فسنخرج بنتيجة واحدة هي: أن غالبهم سقط من الناس، ليس للصلاح ولا للتقوى مكان في حياتهم العامة، ولا للأخلاق الإسلامية محل في دائرة أخلاقهم، ولا للقيم النبيلة اعتبار عندهم، فإذا تقمص أحدهم شخصية امرئٍ صالح أو نبيل أو شهم أو عفيف أو جواد فذلك لأجل ما سيتقاضاه ثمناً لهذا الدور، وليس لأنه يعظم هذه المبادئ أو يحترم هذه القيم، لكن هذا الدور يفرض عليه أنه يتمثل برجل طيب أو صادق أو نبيل مقابل الثمن، ثم يعود إلى سيرته الأولى ضاحكاً لاهياً ساخراً معرضاً عن الجوانب المشرقة في حياة هؤلاء النبلاء! بل إن منهم من فلمه المعروض يبين حال فسقة، ولا أعتقد أنهم يقدرون على رفع قضايا سب وشرف إلى المحكمة؛ لأن الفسق معروف عنهم تماماً الآن، بل هم أنفسهم يجهرون به، ولا يحتاج إلى اتهام، بل القضايا التي تنشر لهم بين وقت وآخر تدل على اتهامهم نساء ورجالاً بأقبح أنواع القبائح، نسأل الله العافية. وإننا لنتذكر كلمة قالها محمد الصباغ -حفظه الله- في بعض المناسبات في رمضان لما كان في مسجد الفتح، فكان يذكر حديث جريج العابد لما أتته أمه وهو يتعبد في صومعته فنادت عليه فقال: صلاتي أو أمي؟ فأقبل على صلاته ولم يجب أمه، وذلك ثلاث مرات، فدعت عليه أمه في المرة الثالثة بأنه لا يموت حتى يرى وجوه المومسات (الزانيات) فهذه الدعوة عقوبة دعت بها عليه أمه، وهي أن تقع عينه على هؤلاء النساء، فهذه عقوبة، فكيف -إذاً- بالمسلم الذي يتعمد النظر إلى الفاسقات! ويسعى إلى النظر إلى الفاسقات! فهذا أمر عظيم بلا شك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ علي: (لك الأولى وليست لك الآخرة) والأولى هي نظر الفجأة، فكيف بالنظر المتعمد؟! فبعضهم يبذل ماله ووقته وعمره ليسعى إلى أماكن الفساد، ويبذل المال والوقت ويسعى إلى الفاسقات حتى يرى صورهن القبيحة، بل ويستلذ بهذه المعاصي ويستحسن ذلك ويفرح! فهذا النوع من الفرح شؤم على صاحبه في الدنيا والآخرة.

حرص أرباب التمثيل على المكاسب المادية

حرص أرباب التمثيل على المكاسب المادية التنبيه الرابع: أغراض التمثيل، فلا يختلف اثنان أن الهدف الأول لأرباب المسارح في إقامة التمثيل فيها هو المكاسب المادية، ومكاسبهم المادية لا تحصل إلا بمداعبة غرائز المشاهدين وشهواتهم، فإذا عرفنا أن غالب المشاهدين لا يقصدون من مشاهدتهم التمثيل إلا قضاء فراغ أوقاتهم بما فيه العبث واللهو والتسلية، وفهمنا أن الهدف الأول والأخير من التمثيل الكسب المادي؛ أدركنا أن القائمين على التمثيل سيحرصون على إنماء رصيد مشاهدي مسرحيتهم، بتحقيق رغبة المشاهد في إشباع غرائزه، وعرض ذلك على شاشة التمثيل وخشبات المسارح، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالأمة، وتحطيم طاقات شبابها، وإفساد أخلاقهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا ضرر ولا ضرار) فالحديث يدل على تحريم كل أنواع الضرر، وأبلغ أنواع الضرر ما يثلم الأعراض ويقصم الأديان ويقضي عليها ويفسدها.

التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية ومحاولة تشويه التاريخ الإسلامي

التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية ومحاولة تشويه التاريخ الإسلامي التنبيه الخامس: اعتماد كثير من المؤرخين في مؤلفاتهم التاريخية على التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية، فإن مجموعة من ذوي الميول المنحرفة والأهواء المغرضة قد نفثوا سمومهم في التاريخ الإسلامي، حتى الأفلام التاريخية تجد فيها تشويهاً بشعاً لحقائق التاريخ الإسلامي، فيصورون لنا العهد العباسي أو العهد الأموي بأنه كان عهد في غاية الفساد والانحطاط، وأن هارون الرشيد كان إنساناً ما له شغل غير معاقرة الخمور ومجالسة الندامى والجواري! في حين أن ابن خلدون حينما تكلم على هذا الخليفة المظلوم قال: ما علمنا عليه من سوء، وكان هارون الرشيد يحج سنة ويغزو سنة، وكان على قدر من الصلاح والتقوى والورع والجهاد، وقد أدب أسلاف هؤلاء الذين يشوهون سيرته من أعداء الإسلام من الكفار اليهود والنصارى، فلذلك من الطبيعي أن يحقدوا على الخلفاء ويشوهوا صورتهم في نظر الأجيال، فهو الذي كتب الرسالة المعروفة لـ نقفور وقال له فيها: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم. وكان نقفور معروفاً بعدائه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان المرتدون من حوله ينشئون له القصائد في سب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطعن في الإسلام، فقال الرشيد لـ نقفور: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم: قد بلغني كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسار إليه بجيوشه وأدبه! فهذا الرجل كان يحج سنة ويغزو سنة، والسنة التي كان لا يحج فيها يرسل ثلاثمائة من المسلمين على نفقته لحج بيت الله. وصلاح الدين الأيوبي كم شوه تاريخه إلى ما ينقض المفاهيم الإسلامية، والأمثلة كثيرة جداً، فهي عبارة عن نشاطات مغرضة لاستغلالها كوسيلة من وسائل الأعلام في الانحراف بمفاهيم الإسلام والكذب على السلف الصالح. ومن ذلك أنها تحرف مفاهيم الناس حول بعض القضايا الإسلامية مثل قضايا الطلاق وتعدد الزوجات. وقد سمعنا عن فلم مُثِّل فيه الرسول عليه السلام للناس، وأظهروا أن الإسلام ثورة كأية ثورة لنصرة الفقراء والضعفاء، وكأي هدف من أهداف الثورات الهمجية في الأرض، وليس لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فيصورون أن الإسلام هدفه جزئي محض، وأنه نوع دعوة من دعوات العدل أو المساواة أو التحرير، ولا يذكرون حقيقة الدين الإسلامي! فإذا ألقينا نظرة على هذه الاعتبارات قبل أن نخوض في منكرات التمثيل، وألقينا نظرة على واقعنا الذي نتألم منه، بل إذا خرجنا خارج مصر نجد أن المصريين يصورون في صورة مخزية جداً نتأسف لها كثيراً، فالإنسان الذي هو خارج مصر يرى المصريين في منتهى الفسق من خلال هؤلاء الفجرة المردة؛ لأنهم يصورون لنا أن هذا هو المجتمع المصري، والمصريون ما زال فيهم الخير، وما زال فيهم الإسلام والمساجد والصلاة، لكنهم يحاولون أن يخدعوا المجتمع بهذه الغاية في الفسق التي ليس بعدها فسق إرضاءً لأسيادهم من الأوروبيين وغيرهم.

منكرات التمثيل

منكرات التمثيل نبدأ في سرد بعض منكرات التمثيل امتثالاً لقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]؛ فكم نسمع عن أناس طيبين ومصلين ويفعلون الخيرات ومع ذلك يظنون أن هذا من اللهو المباح، وأن التمثيل ما فيه شيء، وأن فلاناً من الشيوخ أباحه!

منافاته للمروءة والعقل السليم

منافاته للمروءة والعقل السليم فأول شيء من منكرات التمثيل هو أن التمثيل ينافي المروءة والعقل السليم، فنحن لا نرى في التمثيل أناساً من الفضلاء، لكن نرى الساقطين الذين تسمح لهم نفوسهم الوضيعة بوقوف تلك المواقف السائمة المخزية، وتساعدهم عقليتهم السخيفة على أن ينصبوا أنفسهم ضحكاً للضاحكين وهزأة للساخرين.

بدعيته المخالفة لنهج السلف رضوان الله عليهم

بدعيته المخالفة لنهج السلف رضوان الله عليهم الأمر الثاني: مخالفته لنهج السلف، فهو من البدع المحدثة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وهذا ما كان أبداً، فما سمعنا أن أحداً من الخلفاء الراشدين ولا من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من فضلاء المسلمين استباح هذا النوع من التمثيل قبل ذلك، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد كانوا أحرص الناس على نصر الإسلام وخدمته، ولا نتخيل أبداً أن أحد الصحابة أو التابعين يقف يمثل شخصاً آخر مهما كان الهدف، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.

التشبه بالكافرين

التشبه بالكافرين الأمر الثالث: أنه تشبه بالكفار، وهم الذين ابتدعوه، وفتن بهم غيرهم، فـ رفاعة الطهطاوي لما سافر إلى أوروبا فتن بالوضع الذي في فرنسا، فرجع يقول: إن المسرح والتمثيل ليس من الفسق، بل هو من الفتوة والرجولة! وظل يدافع عن معالم فرنسا، وذلك مصداقٌ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم. قلنا -أي: قال الصحابة- اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أو: (فمن الناس غيرهم؟!)، فما أتانا هذا الشر إلا لما استعبدنا الأوروبيون، وصدروا إلينا هذا الفساد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) فهذه ليست سنة المسلمين، لكن نشأت في الأوربيين، ثم هي من جملة الملاهي التي غزوا بها بلادنا.

كونه من اللهو الباطل

كونه من اللهو الباطل الأمر الرابع: أنه من اللهو الباطل واللعب المذموم شرعاً وعقلاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شيء يلهو به ابن آدم باطل، إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته). فقوله: (كل شيء يلهو به ابن آدم) يعني: يلهو به ويلعب به (باطل) لا أجر فيه (إلا رميه بقوسه) يعني: يتدرب على الجهاد (أو تأديبه فرسه) أيضاً ليقوى على الجهاد (أو ملاعبته امرأته)؛ لأن هذا يحببه فيها أو يحببها فيه، ويورث المودة والألفة، وجاءت زيادة في بعض الروايات: (وتعليمه السباحة). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة) والشرة هي النشاط والخفة، والإنسان عليه أن يكون حريصاً على أن يأتي بالعمل، فكل عمل يبدأ دائماً بحماس واندفاع وهمة، (إن لكل عمل شرة) وهي الهمة (ولكل شرة فترة) فإذا الإنسان استمر قليلاً يصيبه نوع من الفتور والتراخي، قال: فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك). وقال الله عز وجل في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، ثم قال عز وجل: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11]، وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55]. رأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أناساً يلعبون الشطرنج فقال لهم: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟! فكيف -إذاً- بالتماثيل المعبودة الآن، أليست هي معبودة؟ ألا يقولون: هي معبود الجماهير؟! ألا يقولون: هي فاتنة يعنون الممثلة؟ فإذاً الفتنة مقصودة، وتعبيد الناس لغير الله مقصود. فالله تعالى يقول: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55] فشيمة المسلم أن يعرض عن هذا اللغو وهذا الفساد، ولا يغره كثرة الهالكين.

دخول الكذب فيه للإضحاك

دخول الكذب فيه للإضحاك الأمر الخامس: في التمثيل المزاح والإضحاك بالكذب المتوعد عليه في الحديث: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له) فيظن أنه بطل، فيضحك الناس، وأحياناً يمثل صوت امرأة، ويتمادى في هذا الفسق وهذا الفجور، وقد يكون الإضحاك بما هو كفر أو حرام، إذ قد يكون الإضحاك بتعبيرات فيها استهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى أو بالصالحين، أو إهانة لشيء من حدود الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء -أي: الجدل0 وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه). والممثلون يتكلمون بما يضحك الحاضرين ولو كان محظوراً أو كفراً، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)، وفي لفظ: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً)، وفي لفظ: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها سبعين خريفاً في النار)، وفي رواية البيهقي بلفظ: (إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن الرجل ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدمه).

منافاة التمثيل لخلق الحياء

منافاة التمثيل لخلق الحياء الأمر السادس من منكرات التمثيل: أنه ينافي الحياء ويدل على السفه وقلة العقل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر) فالإنسان أول ما يتجرأ على أن يرتاد هذه الأماكن النجسة مثل المسارح والسينما، وكذلك ما هو داخل البيوت في هذا الوقت وهو أخبث وأشد وأطم، ألا وهو الفيديو أو التلفزيونات، فإذا تجرأ إنسان وجلس أمام هذه المعبودات وأما هذه الأصنام الجديدة فلا شك أنه يبذل حياءه ومروءته ودينه، ويبيع إيمانه بالتدرج، وهؤلاء الممثلون معروفون بنقص العقول وسفاهتها؛ لأنهم يفعلون أفعالاً يأبى الحمقاء أن يفعلوا بأنفسهم مثلها ليضحكوا الناس، فتارة يجعل الممثل نفسه حماراً يمشي على أربع وينهق نهيق الحمير، وتارة يجعل نفسه كلباً يعوي عواء الكلب، ويقلد الكلاب في مشيها وفي حركاتها وجلوسها وأكلها، وتارة يجعل نفسه امرأة حاملاً ذات بطن منتفخة ثم يجلس للولادة، وأخرى يجعل نفسه مجنوناً عاري البدن مقلداً للأحمق في سائر أفعاله، حتى البول على عقبه ونحو ذلك، وأخرى يجعل نفسه سكران مقلداً هيئة السكارى، ثم هو في كل ذلك يفعل بحواجبه ومناخيره وفمه ولسانه وشفتيه أفعالاً مشوهة للخلقة ما رأينا -والله- مجنوناً مطبقاً يأتي بربعها، بل ولا عشرها، ثم مع كل هذا يعدون هذه الخسة والحقارة وصفاقة الوجه والوقاحة من العلوم والفنون، ويسمون الممثل السفيه الجاهل الأحمق الساقط الفاسق الفاجر -بل الملحد الكافر الذي يفسد أخلاق المسلمين ودينهم ودنياهم- يسمونه البطل والأستاذ الكبير والمربي القدير، ونحو ذلك من الألفاظ الجليلة والألقاب السامية، نعوذ بالله من الفجور والجهل! ونستطيع نحن أن ندرك مدى فتنة الناس بهؤلاء الفساق حينما نتأمل جنائزهم أو جنائز بعضهم، فهذه المرأة الفاسقة التي ملأت الدنيا فسقاً بغنائها وفسادها ترى الناس أفواجاً حول جنازتها، ففي ثاني يوم من وفاة أم كلثوم كانت الجرائد حافلة بالتمجيد وما يسمونه بالتأبين، وفيها الصور والأحداث، فقال بعض مشايخنا: ينبغي الاحتفاظ بهذه الجريدة؛ لأنها وثيقة تاريخية لإدانة هذه الأمة، وتصوير لمدى التفريط الذي نحن عليه من تعظيم مَنْ حقه أن يحتقر وأن يوضع وأن ينفى من الأرض، كما قال الله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61]، فهاتان الآيتان في ذم أمثال هؤلاء ونظرائهم في العهد النبوي.

إضاعة الأوقات الثمينة

إضاعة الأوقات الثمينة الأمر السابع: هذا التمثيل والجلوس والوقوف أمام هذه الأصنام ما هو إلا تضييع للوقت الثمين النفيس الذي لا يعوض، وقد أوضح الله تعالى مسألة الوقت في سورة العصر، وسورة العصر تصلح لأي مجلس فيه تذكير وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فهذا الوقت أقسم الله عز وجل به فقال: {وَالْعَصْر * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] كل بني آدم في خسر {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فهذا هو الميزان، الميزان الحساس لنقيس به الأفعال والتصرفات والأشخاص، فهل الذين يجلسون في بيوت التمثيل يعلمون الناس الفسق والفجور {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]؟! كلا، إذاً هم في خسر، والذي يقتدي بهم ويحبهم وينقاد لضلالهم في خسر، قال الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، وقال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف:102]. فينبغي مجانبتهم والحرص على هذا الوقت الثمين، ويكفي استدلالاً على شرف الوقت -بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً- أن الإنسان لو بذل كل مال الدنيا وكل علم الدنيا وكل طاقات الدنيا، واجتمع كل من في السماوات والأرض ليعيدوا لحظة قد فاتته من أمسه لا يستطيع أبداً، فاليوم والوقت الذي يفوت إما لك وإما عليك، فما هناك طريقة لتداركه إلا أن يتوب الله على الإنسان، فالوقت ثمين، وهو جزء من عمرك، وإذا ذهب الوقت ذهب بعض منك فلا يعود أبداً.

منافاته للهدي النبوي في ترك السهر بعد العشاء

منافاته للهدي النبوي في ترك السهر بعد العشاء الأمر الثامن: من منكرات التمثيل والجلوس إلى أصنامه: السهر والسمر بعد العشاء. فكما يفرح المؤمنون لخلوتهم بربهم لمناجاته وقراءة القرآن وقيام الليل والتهجد في الأسحار وصلاة العشاء والفجر ونحو هذه الأعمال الصالحات فكذلك أهل اللهو يفضلون الوقت الذي خلق للمناجاة والأعمال الصالحة للهوهم وفسادهم، فتجدهم يسمرون حتى وقت الفجر أحياناً ثم يختم على قلوبهم فلا يصلون! وقد ورد نهي الشارع عن السمر بعد العشاء إلا لحاجة دينية أو دنيوية مباحة لا محرمة، كمؤانسة أهل أو محادثة ضيف أو السهر في طلب العلم ونحو ذلك، ففي الصحيح من حديث أبي برزة: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها)، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا دخل الليل ترسل إلى أمهات المؤمنين وتقول لهن: ألا تُرحْن الكتَّاب؟! والكتاب: جمع كاتب، تعني: الملائكة الذين يكتبون ويحصون الأعمال، وهي تعني أن يشتغلن بالأعمال الصالحة، وكتاب الشمال يكتبون سيئات أصحاب التمثيل والسهرات التي تضيع الدين والدنيا. وفي حديث الطبراني (نهى عن النوم قبل العشاء والحديث بعده).

دخول المنهي عنه كوصل الشعر ونحوه في التمثيل

دخول المنهي عنه كوصل الشعر ونحوه في التمثيل الأمر التاسع من منكرات هذا الفسق: وصل الشعر والنمص وما يسمونه المكياج، فهذه أشياء لا يمكن أن ينفك عنها التمثيل، وهذا من تغيير خلق الله عز وجل، فيعقدون الشعر تارة في الرأس بلبس ما يسمى الباروكة، وتارة في الوجه، وكل ذلك حرام ملعون صاحبه، ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أسماء أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي أصابت الحصبة شعرها وإني زوجتها، أفأصله؟ تعني: هل تبيح لي أن أصل لها شعرها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواصلة والمستوصلة). وفي الصحيحين -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فمتعص شعر رأسها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك وقالت: إن زوجها أمرني أن أصل شعرها، فقال: (لا؛ إنه قد لعن الواصلات). وفي الحديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة) فإذا كانت المرأة حالها أصلاً كما يقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] يعني أن الطفلة من صغرها تنشأ على حب الزينة لتكملة نقص ظاهرها بهذه الزينة والحلي، وتحرص على الزينة، فإذا كانت ملعونةً إذا وصلت شعرها بشعر غيرها فكيف بالرجل الذي يستعمله لمجرد اللهو واللعب؟!

تغيير خلق الله تعالى في التمثيل

تغيير خلق الله تعالى في التمثيل الأمر العاشر من منكرات التمثيل: النمص، وهو نتف شعر الحاجب أو الوجه وتحسينه وتلميعه، وهو حرام ملعون فاعله، ففي الحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، ولما لعن ابن مسعود رضي الله عنه فاعلات ذلك قالت امرأة لـ ابن مسعود: كيف تلعنه؟! فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟! ثم تلا عليها قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. والحديث إذا كان فيه: (لعن الله كذا)، فهذا دعاء، فنقول على وجه الخبر: إن الله عز وجل لعن فاعل كذا، والدليل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. والنمص -الذي هو نتف الشعر من الحواجب- منكر شائع في كثير من المسلمات، ولا يلتفتن ولا يأبهن بهذا التهديد باللعن والطرد من رحمة الله عز وجل، وإذا كانت المرأة تلعن على النمص الذي تتجمل به لزوجها فكيف بالرجل أو المرأة إذا فعلا النمص لغرض التمثيل؟!

إضاعة المال فيما يعود بالضرر وفساد الأخلاق

إضاعة المال فيما يعود بالضرر وفساد الأخلاق الأمر الحادي عشر: في التمثيل تبذير المال وإضاعته في الباطل وما لا يعود على الإنسان بالنفع، بل يعود عليه بالضرر المحقق وإفساد الأعراض والأخلاق، وذهاب المروءة وخسران الدين، وما أكثر الأموال التي تنفق للممثلين في شراء هذه الاحتياجات، والملايين التي تنفق في هذا الفسق! أيضاً الأموال التي يشترى بها جهاز الفيديو أو التلفزيون الذي يشغلهم عن ذكر الله لابد أن العبد سيسأل عنها يوم القيامة، فإنه سيسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: المبذرون هم الذين يتلفون المال في غير الحق. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، فإذا كان الإسراف في النفقة المباحة منهياً عنه مبغوضاً فاعله إلى الله تعالى لقوله عز وجل: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] فماذا يكون حال الإسراف في معصية الله عز وجل؟! ومعلوم أن المال من أغلى الأشياء على الإنسان، فإذا الإنسان بذل الكثير من ماله في هذه المعاصي من مسارح وسينما ونحوها فمعنى ذلك أن حب المعصية متمكن في قلبه، حتى إنه غلب حبه للمال.

دخول الغيبة والمحاكاة في التمثيل

دخول الغيبة والمحاكاة في التمثيل من النصوص الواردة المحكية في خصوص التمثيل ما جاء في كتب السير وخرجه جماعة من المصنفين في أخبار الصحابةِ أن الحكم بن أبي العاص الأموي كان يحكي النبي صلى الله عليه وسلم ويمثله في مشيته وحركاته، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فرآه فلعنه ونفاه إلى الطائف، واللعن لا يترتب إلا على كبيرة كما هو مقرر في محله من كتب الفقه والأصول؛ لأن الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم هو من الكفر والردة، والعياذ بالله. ومن أعمدة التمثيل وأصوله التي لا يقوم إلا بها: الغيبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره) فإذا كان التمثيل يتناول شخصاً بعينه ليمثل به فلا شك أن هذا فيه غيبة، وصاحب الأمر يكرهه، خاصة إذا كان التمثيل بميت، فيمثل به ليس فقط في السينما، بل أمام الناس في المحافل والأعداد الغفيرة، فإذا كان مجرد الإشارة باليد غيبة، فكيف بتمثيل الشخص في ملابسه ومشيته وسيرته وكلامه وصوته وسائر حركاته وسكناته؟! لا شك أن ذلك أفحش من الاغتياب بمجرد اللسان. والغيبة من الذنوب الكبيرة، وإذا تاب الإنسان منها فإنه لا تتم توبته -في رأي كثير من الفقهاء- إلا بأن يطلب من الشخص الذي اغتابه أن يجعله في حل.

التعدي على شرع الله والاستهزاء بالمسلمين

التعدي على شرع الله والاستهزاء بالمسلمين وفي التمثيل الاحتقار والسخرية والاستهزاء بالمسلمين، لذلك ترى الممثلين لا يمثلون من يخافون سطوته، ونحن لعلنا قد تأثرنا بالجو الذي نعيش فيه، وأصابنا شيء من دخن هذه الفتن، أي أننا نعطي هذا الأمر حجمه، ونشعر بخطورة هذا الأمر، فهل هناك أحد عنده مروءة يقبل أن يقف ليمثل أمام الناس حتى لو كان يبيح للناس التمثيل؟ فهل يقبل الشيخ الذي يبيح التمثيل أن يمثل بنفسه؟ وهل يقبل أن يقف ليمثل ويرقص ويغني؟ أنا أعلم حادثة حدثت قبل سنوات في مسجد في الإسكندرية، حصل فيها أن بعض الناس الذين يروجون لمنكر التمثيل مثلوا داخل المسجد، وزعموا أنهم يمثلون قصة أخلاقية من أجل أن يستفيد الناس من التوبة، فقعد شخص يمثل على طاولة في المسجد أنه يسكر ويحتسى الخمر، وجاء آخر يلبس لباساً أسود قبيحاً يمثل صورة الشيطان، ويوسوس لهذا الشخص ويزين له المعصية! فهل هذا يليق بالمسجد وبحرمة المسجد؟ فإذا فتحت هذه الذريعة جرت إلى فساد كبير بلا شك، ولقد انتهى ذلك إلى أن بعض الجماعات فيما مضى في مصر في دمنهور قاموا بتمثيل قصة الذبيح، فأتوا بشخص يمثل جبريل يمسك خروفاً، وآخر لبس فراء خروفٍ، وصوت يقول: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105]، كأنه يمثل صوت الله! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! إذاً: فتح هذا الباب يأتي بشر مستطير، وتجد أن الممثلين لا يمثلون الأحياء المعظمين، فلا يأتون إلى ملك أو رئيس في حياته ليمثلوه؛ لأنه يعتبر هذا نوعاً من التنقص والازدراء له، ويعاقب فاعله، كما قال بعض الشعراء: يقاد للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار فالذي يسب الدين ويطعن في دين الله عز وجل حر لا يعاقب عندهم. أحد الممثلين الفسقة قام بالظهور في أحد الأفلام -واسمه سيف شرف وليس فيه رائحة الشرف-، قام يمثل دور امرأة منقبة، ولا أعرف ما هو المقصود بهذا؟ فهل مقصودهم أن المرأة المنتقبة تختفي تحت نقابها وهي لصة أو سارقة؟ فهم يضلون الناس، ويمثلون لهم بهذه المعاني البغيضة التي يبغضون للناس بها دين الله عز وجل. فلا يمثلون الشخص الذين يجلونه أو يخافون سطوته من الملوك أو الرؤساء الأحياء؛ لأن القانون يمنعهم من ذلك، ويفرض عليهم عقوبة صارمة؛ لأنه من الإهانة بهذا المنصب الذي يعظمونه، وإنما يمثلون من الأحياء من يريدون إهانته، أو الملوك الأقدمين الذين لا يمنعهم القانون من تمثيلهم، كملوك بني أمية وبني العباس وملوك الأندلس أو نحوهم، فلا يخفى أن هذا ممنوع في الشرع، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، وهذه من السخرية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله) رواه مسلم في صحيحه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً! فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس) أي: احتقار الناس. وفي رواية الحاكم: (ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس) أي: احتقر الناس، فهذا من الاحتقار لهؤلاء الخلفاء، وهؤلاء الملوك المسلمين الذين فتحوا الأرض من مشرقها إلى مغربها، فنقول للممثلين: أنتم ماذا فعلتم للإسلام؟!

إهانة التعليم واحتقار العلماء

إهانة التعليم واحتقار العلماء وفي نفس الوقت الذي يحقرون فيه الشيوخ، ويأتون بالشيوخ -مثلاً- في هيئة منكرة وقبيحة ويسخرون منهم ويهزءون بهم؛ لا يجرؤ أحد منهم أن يمثل دور القسيس أو الحاخام احتراماً للأديان، وديننا نحن ينتهكون حدوده ويسخرون من علمائنا ومن المشايخ! يقول بعض العلماء في هذه المسألة: وإن كان التمثيل بأشخاص غير معينين فتقع المنكرات فيه كثيرة، منها أنهم يمثلون علماء الإسلام ورجال الدين على العموم، فيلبسون ملابسهم وعمائمهم على هيئة منكرة مشوهة، ويلصقون اللحى المصطنعة في حالة مزرية تدل على غاية الاحتقار والاهانة، ويقلدونهم في كلامهم، ويحكونهم في النطق بالقاف، ويأتون بالكلمات المعربة، والحاضرون يضحكون، وفيهم اليهود والنصارى، فيسرون بذلك غاية السرور، ويحتقرون هؤلاء الفجرة المارقين أشد الاحتقار؛ إذ يرونهم يمثلون علماءهم في حين أنهم يجلون أحبارهم غاية الإجلال، فتكون المصيبة بهذا التمثيل أعظم. فالمقصود من هذا التمثيل إهانة العلم، وإهانة الدين الذي ينتمي إليه العلماء، وليس المقصود الأشخاص والهيئات؛ لأن أكثر العوام يشاركونهم في ذلك اللباس، فالإزراء والإهانة راجعان إلى العلم والدين، وذلك كفر بإجماع العلماء، وقد حكم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بكفر من قال لعمامة العالم: (عميمة) بالتصغير يقصد بها احتقارهم، فلو أن أحداً يتكلم على عمامة أحد الأئمة أو العلماء ويقول: عميمة هذا الرجل، ويقصد بذلك الاحتقار والازدراء والتصغير والاستخفاف والإهانة، فهذا راجع إلى وصف العالم الذي هو حامل علم الشريعة المطهرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه). وتجدهم يخصون من أهل اللحى ذوي الشيبة في الإسلام، فيمثلون الناس الذين شابوا في الإسلام، حتى إنهم يلصقون أحياناً قطعاً من الفراء الأبيض مبالغة في التشويه والإهانة والسخرية، فهي لحى مصطنعة ترمز لذوي الشيبة من المسلمين، وهذا مع كون فاعله ملعوناً -كما في الحديث- فإن فيه اعتداءً وانتهاكاً لحرمة المسلم الذي قد شاب، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله -أي: من تعظيم الله سبحانه وتعالى- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) فأين هذا الإكرام من هذه المهانة؟! وقال الله عز وجل في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وهناك ألفاظ أخرى للحديث، منها: (من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) وفي لفظ آخر: (من آذى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة).

أذية المسلمين وتتبع عوراتهم

أذية المسلمين وتتبع عوراتهم أيضاً من منكرات التمثيل أن فيه أذية للمسلمين وتتبع عوراتهم ونشرها بين الناس بالمحاكاة، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع) أي: مرتفع عال (فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته) فلا شك أن تمثيل المسلمين بهذه الصورة هو من هتك حرمة المسلمين، ففاعله ممن لم يدخل الإيمان في قلبه كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا كان الشخص الممثل به من سلف الأمة من الخلفاء والملوك والعلماء والصلحاء ففي التمثيل بهم مساس بحرمتهم، ومخالفة للشريعة الآمرة بالثناء على موتى المسلمين والكف عن مساوئهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) والمقصود: لا تسبوا الأموات الذين ليسوا بكفار ولا فجار بعد موتهم، ولا يدخل فيه الجرح والتعديل، وحكاية أقوال الناس وأفعال الناس الذين طعنوا في دين الله وصدوا عن سبيل الله بقصد هدم أفكارهم المضادة لدين الإسلام، فالمقصود (لا تسبوا الأموات) الذين ليسوا كفاراً ولا فجاراً يصدون عن سبيل الله ويحاربون دين الإسلام (فتؤذوا الأحياء). ومن هذا الحديث أخذ بعض الفقهاء أن من سوء الأدب أن الإنسان يتكلم في حق أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطيل في ذكر أن والديه صلى الله عليه وسلم كانا مشركين، فمن الأدب عدم إكثار الخوض في مثل هذه القضية؛ لأن هذا مما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساوئهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) فهذا في أي ميت، حتى لو كان مسلماً فاسقاً أو عاصياً أو مفرطاً، فأي ميت له هذه الحرمة في الإسلام، فكيف بأموات السلف الصالح رضي الله عنهم، سيما العلماء والصالحون منهم الذين أمرنا بتعظيمهم واحترامهم والدعاء لهم، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].

احتواء التمثيل على الكذب وقول الزور

احتواء التمثيل على الكذب وقول الزور من أصول التمثيل: الكذب وقول الزور. يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل:105] فإن قيل: إن هذا الكذب هو مزاح! أي: هو أناس يضحكون على بعضهم، فالممثل يضحك على الناس ويعرف أنهم يعرفون الذي يضحك عليه، فالمسألة خداع وكذب من الطرفين، فالممثل عارف أنه يضحك على الناس، والناس تعرف أنه يضحك عليهم، وهؤلاء يدفعون فلوساً له، ويشجعونه على هذا الكذب وهذا الفجور. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) سواء كان مزاحاً أو كان جداً فإنه يطلق عليه الكذب، وروى أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن عامر قال: (دعتني أمي يوماً -أي: وهو صغير- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: تعال لأعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) حتى مع الطفل الصغير الإنسان يراعي ألا يكذب عليه في وعد أو في غيره، وقد ورد الترغيب في ترك الكذب كما سبق في الحديث: (أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فهذا من التعبد بالتروك؛ أن تتعبد بترك الكذب ابتغاء هذا الثوب العظيم. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظهور التمثيل في آخر الزمان وسماه كذباً، فروى الإمام أحمد في المسند برجال الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن) وفي بعض الأحاديث عن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه وفيها ذكر انتشار الفتن ثم قال: (حتى ينظر المؤمن من حوله من كل الجهات فلا يجد شبراً من الأرض لم تقع فيه هذه الفتنة)، وهذا موجود فعلاً، فلا يجد الإنسان الآن شبراً من الأرض لا يسمع فيه أحياناً صوت الغناء والموسيقى، فهذا تلفزيون من هنا، وهذا جاء بالفيديو من هنا، وهؤلاء يغنون من هنا، وهؤلاء يعملون فرحاً من هنا، فتجد أصوات الغناء ما تركت مكاناً إلا دخلته، فنسأل الله العافية! وفي الحديث الآخر: (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمان، ويكثر الهرج. قلت: وما الهرج؟ قال: القتل) فحمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ويكثر الكذب) على الأفلام والمسرحيات وكل هذه الفتن. ومما يقع بسبب التمثيل أن كل المنكرات إن كانت متعلقة بالممثلين فالذي هو عاكف على هذه الأفلام ومقر لها يشاركهم في الوزر، فمن يجلس أمام هؤلاء الفاسقين فرحاً ومنبسطاً ومستمتعاً ومستلذاً بهذا الفساد وهذا الفجور فهو مشارك لهم في الوزر؛ لأن الواجب أن المنكر تحاربه، فأزله أو زل عنه، أما أنك تجلس مع ناس يشربون خمر وتقول: أنا أنكرت عليهم وأنت قاعد معهم قادر على هجرتهم والانصراف عنهم فأنت وهم في الوزر سواء، لكن يعذر الإنسان عندما يزيل المنكر أو يزول عنه بقدر استطاعته. ومن المنكرات التي تقع -أيضاً- الحلف، فيحلفون على أشياء كذباً. وأيضاً: ليس هذا التمثيل من الأمور التي جوز الشرع أن تكذب فيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أباح الكذب في ثلاث: في الحرب مع الأعداء في الجهاد، وفي حديث الرجل لامرأته، فيمدح -مثلاً- طعامها أو هيئتها أو شيئاً تفعله تألفاً لها، وفي الإصلاح بين الناس، فلم يكذب الذي ينمي بين الناس فيقول لأحد المتخاصمين: والله فلان ذكرك بخير، ويحبك ويعزك، وهو نادم على ما فعله في حقك، ويذهب إلى الآخر فيقول له كذلك؛ ليصلح بينهما، فليس بكاذب، فهذه هي الاستثناءات الثلاث في حكم الكذب. فهل التمثيل كذب؟ كلهم متفقون على أنه كذب، لكن هل هو من الكذب الذي استثني وأبيح؟! إذاً: هذا من الأدلة التي يصلح الاستدلال به على الزجر عن هذا النوع من الكذب. أما قول بعض الناس: إنهم يقصدون بالتمثيل إظهار عظمة الإسلام ومجد المسلمين الأولين فهذا لا يغني عنهم شيئاً، فأغلب الأفلام الدينية يكون فيها تصوير حالة الجاهلية، فيتمادون في وصف الفسق والرقص والفساد والعري والتبرج وغير ذلك من حالات الجاهلية. فهذا لا يغني شيئاً؛ إذ عظمة الإسلام تظهر بنشر محاسنه وتعاليمه، وطبع المؤلفات النافعة فيه، لا بإقامة رواية تمثيلية بين جداران أحد دور الملاهي أو الجمعيات يقصد أغلب من يحضرها التسلية لا غير، هذا أولاً. ثانياً: إن المسلمين الأولين لم يكونوا يحبون الإعلان عن أنفسهم وأعمالهم؛ لأنهم كانوا يخلصون العمل لله لا يريدون غيره، فإظهارهم على خشبة المسرح ينافي غرضهم ويباين مقصودهم. ثالثاً: لو كانت هذه الحجة تجيز التمثيل، ولو أن المبرر هذا معقول بأننا نظهر أمجاد هؤلاء الصالحين فإنا لو أخذنا بهذه الغاية -بغض النظر عن الوسيلة أياً كانت- فإن هذا سيقال في وضع القبور -مثلاً- في المساجد، فسيقال: نتذكر الصالحين ونزورهم، وكذلك التماثيل التي تصنع وتوضع في الميادين وإن كانت -والحمد لله- لا تصنع للصالحين، فالتماثيل هذه أصلاً لا يجوز نصبها في الميادين، ولا يجوز النظر إليها كما ذكر ذلك بعض علماء الشافعية، وكذلك من المالكية الإمام الدردير المالكي قال: ما يحرم صناعته يحرم النظر إليه، فهذه التماثيل حرمت صناعتها فلا يحل لك أن تنظر إليها.

دخول النساء في التمثيل والقيام بدور الكافرين

دخول النساء في التمثيل والقيام بدور الكافرين من منكرات التمثيل أن التمثيل لا يمكن أن يستغني عن وجود نساء في الغالب، وإذا كان بغير نساء فإنه يقوم رجل بتمثيل دور امرأة، وهذا أخبث وأطم، فيلبس الرجل ملابس المرأة ويتزين بزينتها، وهذا ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن التمثيل قد يفضي بالشخص إلى أن يصل ويقف مواقف شائنة مخزية؛ إذ يمكن أن الشخص يقوم بدور إبليس، ومن الذي يقبل أن يقوم بدور إبليس أو يقوم بدور خروف؟! هذا حصل، وقد يقوم بدور كافر مثلاً، فربما يضحك عليه الناس ويستهزئون به، فلا شك أن هذا الشخص الذي يقبل لنفسه هذا الوضع الشائن فاقد المروءة، فاقد الشهامة، وأنه ضيع الكرامة التي أكرمه الله عز وجل بها في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فهو يجعل نفسه حماراً أو حيواناً أو نحو ذلك. الشافعي رضي الله عنه يقول: والله لو أعلم أن شرب الماء البارد يخرم مروءتي ما شربته! إن كان شرب الماء يقدح في مروءته ما شربه حفاظاً على مروءته وهيبته رضي الله عنه. ولو فرض وجود ممثل مسلم، فإن قام بدور الملك الكافر أو القائد الكافر يلبس ملابسه ويجعل نفسه هو ذلك الكافر أو الراهب أو القسيس، وتراه يشد في وسطه الزنار، وينطق بما هو كفر حسبما تقتضيه الرواية، فلو مات على هذه الحالة فكيف سيكون أمره؟! لو مات وهو يسجد للمسيح، أو وهو واضع الصليب على صدره أو يسجد للأصنام كيف ستكون خاتمته؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يبعث المرء على ما مات عليه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) فبماذا يختم لهذا الشخص؟ وعلام يبعث يوم القيامة؟! (يبعث المرء على ما مات عليه) فهل يشفع له قوله: كنت أمزح وإنما كنا نخوض ونلعب؟! وماذا يحصل لو مثل عقبة بن أبي معيط وهو يضع السلا والقاذورات على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، أو يتلفظ بسب النبي عليه الصلاة والسلام أو التنفير عن الإسلام؟! فهل هناك إنسان عاقل أو مسلم عاقل يقبل مثل هذا الوضع؟! ومن يقبل أن يمثل دور فرعون ويقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] ويسب موسى عليه السلام؟! فلا شك أن التمثيل يحتوي على هذه المنكرات التي تئول بصاحبها إلى الكفر، ومن ثم فظاهره أننا ننظر إليه أمامنا وهو راضٍ بهذا الكفر، والرضا بالكفر كفر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي) فاليمين بمثل هذا من المهالك العظيمة والمخاطر العظيمة للإنسان الذي يتلفظ بهذه الألفاظ، فمن يقول: هو يهودي إن فعل كذا أو إن حصل كذا فهذه الصورة فيها تهاون بدينه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام، فهو بريء من الإسلام، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم. قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: وإن صام وصلى) رواه أبو يعلى والحاكم وقالا: صحيح الإسناد.

احتواء التمثيل على الكلام فيما لا يعني

احتواء التمثيل على الكلام فيما لا يعني في التمثيل الكلام فيما لا يعني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر أو ذكر الله تعالى). وقال أنس بن مالك: (توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: أبشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك! لعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه) فهذا كله مما لا يعني، فهو يمثل والجماعة ينظرون، وهذا مما لا يعني، فكيف بالإنسان يجلس أمام هذه الأجهزة الفاسدة يتلقن منها تلك الأشياء؟ وفي الأثر: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي). وبعضهم يقول: يزيد أن نعمل تمثيلاً دينياً! لا يوجد تمثيل ديني، وهل أحد سمع عن تمثيل ديني يقول: الآن مع القرآن قبل نشرة الأخبار؟ بل يقال: مع الموسيقى الدينية حتى وقت نشرة الأخبار، فهل هناك موسيقى دينية؟! لا توجد موسيقى دينية، وهذا مثلما يقولون: الفن الإسلامي، ولا يوجد شيءٌ اسمه فن إسلامي، وإنما يوجد الفن العربي مثلاً، لكن الفن الإسلامي لا يوجد، فالإسلام ما دعا إلى هذا الهراء وهذا اللغو وهذا الباطل.

تشبه الرجال بالنساء في التمثيل

تشبه الرجال بالنساء في التمثيل من منكرات التمثيل أنهم إذا ما وجدوا نساء يأتون برجال يتشبهون بهؤلاء النساء، وفي الحديث الذي رواه ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال). وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل). ورأى عبد الله بن عمرو بن العاص أم سعيد بنت أبي جهل متقلدة سيفاً وهي تمشي مشية الرجل فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال) رواه الإمام أحمد.

اختلاط الممثلين بالممثلات والخلوة بهن

اختلاط الممثلين بالممثلات والخلوة بهن من المنكرات الفاحشة العظيمة في التمثيل وجود النساء الممثلات في هذا التمثيل مع الرجال، فإنه يترتب عليه من المفاسد الهدامة والقاضية على الخلق وعلى الدين ما لا يمكن أن يتصور، فلو أحضرنا اليهود من أجل أن يفسدوا الأمة فلن يقدروا على أن يفسدوها بمثل الممثلين، فاليهود لا يقدرون بجيوشهم على أن يحطموا المسلمين كما يحطم أعداء الله ورسوله من الممثلين الذين يسمون الفنانين الأبطال، ولذلك فإن اليهود هم وراء صناعات السينما في العالم كله؛ حرصاً على إفساد أخلاق الناس. فنجد أنه تحدث منكرات كثيرة الإنسان يستحي من الكلام فيها كما تذكرها الكتب، ومنها اختلاط الممثلات بالممثلين واندماجهن معهم اندماجاً لا يوافق عليه عقل ولا دين، ويكشفن العورات، ويلبسن الثياب الرقاق مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات) قال الشيخ إسماعيل حقي في تفسير قوله: (مميلات) أي: قلوب الرجال إلى الفساد بهن. أو مميلات أكتافهن كما تفعل الراقصات. أو مميلات مقانعهن عن رءوسهن لتظهر وجوههن. قال صلى الله عليه وسلم: (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا). وبعض الفقهاء فسر قوله (مائلات مميلات) فقال: مائلات في أنفسهن، مميلات غيرهن من النساء بدعوتهن إلى مثل هذا الفساد، فيدخل فيه رائدات تحرير المرأة والتبرج والسفور، فهن مائلات في أنفسهن ويضللن غيرهن، ويدعين غيرهن من النساء إلى الوقوع في مثل فسادهن ويحرضنهن عليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) فهذا دليل على بعدهن الشديد عن الجنة، فإذا كان هذا عقابهن على ذلك اللباس -وهو شر عقاب بل منتهى العقاب في الشدة لاقتضائه الخلود في النار- فكيف إذا انضم إليه أنواع الفجور الذي تقع فيه الممثلات في تمثيلهن؟! إذا كان هذا للنساء الكاسيات العاريات فكيف بما هو أشد من ذلك كالرقص ونحوه من الأشياء المعروفة؟! وكثرة الرقص والممثلات أثرت في نفوس الناس، وأصبحت مشاهدتها هي الأصل عند بعضهم، حكي عن رجل كان ابنه في مدرسة، فحضر اجتماع لمجلس الآباء والمعلمين، فحضرت إحدى الأمهات ساخطة رافعة صوتها قائلة: أنتم أفسدتم ابني! فالمدير والمدرسون أخذوا في تهدئتها ثم قالوا لها: ماذا حصل؟ فقالت لهم: إن الولد كلما يجد منظر رقص في التلفزيون أو يرى امرأة يرمي ببصره نحو الأرض، فمن الذي علمه هذا التصرف؟ لابد أنكم الذين علمتموه هذا التصرف! فكان رد المدير والأساتذة أن تبرءوا من ذلك، وأنه لا يمكن أن يكون عندهم أحد بهذه الصورة، وأنهم ملتزمون بمنهاج الوزارة! إلى هذا الحال وصل المسلمون! هذه المرأة قلقة لأن يغض بصره حتى لا ينظر إلى الراقصات ونحو هذه الأشياء، فإننا لله وإنا إليه راجعون! كما أن الممثلة تنفرد بالممثل وتكون معه في خلوة، وقد حكي لي أن بعض الممثلين كانوا في لحظة القيام بدور معين من الأدوار القذرة، فمن شدة الغيرة قام زوج الممثلة فأمر كل العمال الموجودين في الأستوديو أن يخرجوا إلى الصالة من أجل ألا ينظر أحد إلى زوجته وهي في منظر مخل مع الممثل الآخر! أليست هذه الصورة ستعرض على ملايين الناس؟! فانظر إلى التناقض والمسخ وذهاب العقل والحماقة والجنون! نسأل الله العافية. والناس تقول لك: لا، هذا تمثيل! وفي التمثيل مصافحة ولمس وغير ذلك مما هو معلوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) حتى مجرد المصافحة وفعل أدنى شيء، لكن مع ذلك يقع في هذا الوعيد. تقول السيدة عائشة: (لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط حتى في المبايعة، إنما كان يبايعهن قولاً) أي: بايعهن بالكلام. ويفعل الممثلون كل القبائح والموبقات أمام الجماهير الناظرة من رجال ونساء، وذلك منتهى الهمجية، ولو أن هذا الشخص القبيح الدنيء كانت الممثلة التي يمثل معها زوجته لمقتها الله عز وجل على هذا الفعل، ولمقتهما الناظرين إليهما على ذلك، فما بالك وهي أجنبية عنه؟! فلا يقر هذا الوضع إلا الهمج الرعاع الأوباش المنسلخون من الدين ومن العقل، الذين هم في درجة الأنعام بل هم أضل؛ فالكلاب تغار على الأنثى، وكذلك سائر الحيوانات المعروفة، ومع ذلك تجد هؤلاء يستحلون هذه المفاسد ويتعارفون عليها ويستمرئونها. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)، وفي بعض روايات هذا الحديث التعبير عن هذا الفعل بأنه من أعظم الإهانة عند الله، قالت أسماء بنت يزيد: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود، فقال: لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها! فأرم القول -أي: سكتوا- ولم يجيبوا، فقلت: إي والله -يا رسول الله- إنهن ليفعلن وإنهم ليفعلون! قال: فلا تفعلوا؛ فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون). وقال عز وجل: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]. فذلك هو حال هؤلاء القوم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أشراط الساعة التي لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأخبر أن الساعة لا تقوم حتى يجامع الرجل المرأة في الطريق، وحتى يقول له أعقل امرئ في ذلك المجتمع: لو تنحيت عن الطريق! يتنحى فقط عن الطريق والعياذ بالله! وكل شخص يجلس أمام هذه المناظر فهو يقع في أعظم الوزر وأعظم الإثم، فويل له من الله سبحانه وتعالى إن لم يتب من هذه المفاسد! تجد الأب مع بناته ومع نسائه يرون مناظر في منتهى الفساد والانحلال، والسائر في الشارع يسمع بعض عامة الناس -غير المتطرفين ولا الملتحين- في شكوى وأنين من الفساد، وتسمع أحدهم في الشارع يقول لآخر: لا يوجد حل مع التلفزيون غير أن الواحد يكسره. وهؤلاء أناس بسطاء بلغ عندهم سخط الفساد إلى هذا الحد، فكيف تكون غيرة أهل الدين والمروءة على حرمات الله عز وجل؟!

نظر الممثلين والناظرين إليهم إلى العورات المحرم كشفها

نظر الممثلين والناظرين إليهم إلى العورات المحرم كشفها يقع الممثلون والناظرون إليهم في كبيرة النظر إلى العورات التي يحرم كشفها؛ والتي هي بإجمع الفقهاء محرم كشفها، فكيف بما عدا ذلك؟! قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأه فقال: اصرف بصرك) ونظر الفجأة معناه أن الإنسان لا يقصد أن ينظر، لكن يفاجأ بامرأة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اصرف بصرك)، وأنت تفتح التلفزيون، وتمشي وتقطع المسافات لتجلس إلى هؤلاء الفسقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: (اصرف بصرك)، وأنت تتعمد أن تستخدم هذه النعمة في معصية الله سبحانه وتعالى، وهو قادر على أن يحرمك إياها، فربنا قادر على أن يخطف هذا البصر الذي تستعمله في محاربته ومبارزته بالمعاصي مع هؤلاء الفساق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية) فإذا كان هذا في نظر الفجأة والنظر الذي لم يقصد فكيف بالنظر الدائم مدة التمثيل الذي يقصد به التلذذ ويدفع المال من أجله؟! قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] والمعنى: قل للمؤمنين غضوا من أبصاركم، فحال المؤمنين الالتزام بأمر الله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المقصود بكلمة (يغضوا) التي هي جواب الطلب، لكن حذفت كلمة (غضوا) التي هي فعل الأمر؛ لأن المؤمنين حالهم الاستجابة، أي: قل للمؤمنين: غضوا من أبصاركم يغضوا من أبصارهم. وقال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان وزناهما النظر) فهذا المشارك والجالس أمام هذه التماثيل التي يعكفون أمامها واقع في هذا النوع القبيح من الزنا، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبست نساؤهم الزينة وتبخترن بها في المساجد لفتنة الرجال. وهذا التبرج هو من عادات الجاهلية، يقول الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] فالتبرج لعن بسببه بنو إسرائيل، فكيف بالتبرج والعري الذي ظهر في نساء هذه الأمة، والتبختر في دور الرقص والتمثيل واللهو؟! وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية). ومن منكرات التمثيل أكل أموال الناس بالباطل، وهو حرام، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء:29 - 30]، ولا باطل على وجه الأرض أبطل من التمثيل وإنفاق المال في هذا الفساد.

وقوع الناظرين في إهدار المال في الباطل وارتكاب المحرمات

وقوع الناظرين في إهدار المال في الباطل وارتكاب المحرمات من منكرات التمثيل أنه يوقع الناظرين في عدة كبائر، فمنها: أنه يدعو إلى إنفاق المال في الباطل والحرام، ورؤية المحرمات وارتكاب المعاصي؛ لأنهم لا يشترون ذلك إلا بالمال، وقد عد الفقهاء من جملة الكبائر إنفاق المال -ولو ريالاً واحداً- في محرم، كما عدوه سفهاً وتبذيراً موجباً للحجر، واستدلوا بأنه لا أعز عند النفس من المال، فإذا هان عليها صرفه في معصية دل على الانهماك التام في محبة المعاصي، كما هو مفصل في كتب الفقه. ومن منكرات التمثيل المعروفة التي لا ينفك عنها المستمع بحال من الأحوال سماع الغناء وأصوات النساء والآلات المطربة، والله عز وجل يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، فهن يتفنن في الخضوع بالقول واستدعاء الفواحش ممن يسمعونهن ويجلسون إليهن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمرة يسمونها بغير اسمها ويضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير).

صرخة نداء وتذكير

صرخة نداء وتذكير التوجيه الأخير الذي نحتاج إلى أن نذكر به هو مسئولية تربية الإنسان لأولاده وأهله ونفسه ومن هم في سلطته، فالله عز وجل يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]. ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. ويقول عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. وقال عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. وقال عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، فالله أرحم بكم من أولادكم وهو يوصيكم في أولادكم. وقال عز وجل: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]. وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) فهل من النصيحة للأولاد والنساء والبنات والذرية والإخلاص لهم والمنفعة لهم أننا نطلق لهم العنان أمام التلفزيون والفيديو وكل هذه الصور من الفساد المعروض الذي جره إلينا التمثيل وغيره، وفي نفس الوقت نقصيهم عن المساجد وعن الصحبة الصالحة؟! قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل يقول الفضيل ين عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. فبعض الناس مساكين يظنون أن تربية الأولاد هي إيجاد الغذاء لهم، فيمكث الأب يمتعهم ويلبسهم أحسن الملابس، ويظن أن هذه هي التربية، فإن كان الأمر بهذه الصورة فما هو الفرق بين الإنسان وبين الحيوان؟! التربية مسئولية أضخم من ذلك بكثير، ليست بنوع التغذية والتنمية، ولكن بتربية هذا النشء حتى ندخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، وندخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له) يعني: ينفعه دعاؤه في قبره بعد موته. فكيف نسلم بأنفسنا أهلنا ونساءنا وبناتنا لهؤلاء الفسقة والفجرة ليعلموهم هذا الفساد؟! ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فالأب مشغول والأم مشغولة، فيتركان الأولاد لهذه المفاسد، والنتيجة بعد ذلك الندم حيث لا ينفع الندم، يقول الشاعر: تبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع فلا ينفع الندم بعد فساد الأولاد، وما أكثر الحوادث التي تطرق أسماعنا، والسبب فيها هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. يقول بعض الشعراء: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحجىً ولكن يعوده التدين أقربوه ويقول الآخر: وليس النبت ينبت في بناء كمثل النبت ينبت في الفلاة وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثُديَّ الناقصات فهذه جمل بسيطة رأينا أن نجمع فيها منكرات التمثيل تحذيراً للمسلمين ونصيحة لهم بشأن هذا المنكر الفظيع، ونحذر من موالاة الممثلين أو تعظيمهم أو الافتتان بمفاسدهم، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]. اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا -اللهم- بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. اللهم! أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم! توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، وصل -اللهم- على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.

السلفية منهج ملزم لكل مسلم [1]

السلفية منهج ملزم لكل مسلم [1] السلفية منهج رباني، وطريقة محمدية للحاضر والمستقبل، بل هي الإسلام والدين الذي ارتضاه الله لعباده، فمن خرج عنه كان مبتدعاً. والسلفية هي الجماعة، وهي الفرقة الناجية التي لا تتغير ولا تتبدل، ولكن للأسف قيد بعض الجهلة اسم السلفية، وضيق الخناق على الناس في المسائل الاجتهادية، فمن أخذ برأيه فهو السلفي وإلا فلا؛ وهذا ليس من الدين في شيء.

الدوافع التي دعت إلى الحديث عن منهج السلفية

الدوافع التي دعت إلى الحديث عن منهج السلفية الحمد لله الذي جعل اتباع رسوله على محبته دليلاً، فأوضح طرق الهداية لمن شاء أن يتخذ إليه سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد مخلص لم يتخذ من دونه وكيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي اختص أمته بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير الناس هدياً وأقومهم قيلاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد بعد العهد بتناول أمثال هذه القضية المهمة الخطيرة، وبإذن الله تبارك وتعالى -نتيجة لضخامة هذا الموضوع وتشعبه وتوسعه- سنجعل هذه المحاضرة مجرد مدخل يتناول رءوس أقلام في موضوعات شتى، وإن كان كل منها يستحق أن يفرد في محاضرات، فهناك دوافع كثيرة لإحياء بحث هذه القضية والتنبيه إلى حقائقها، منها: بيان حقيقة السلفية، وأنها منهج حياة، وأنها أسلوب في فهم الإسلام وتلقيه، ومنهج عملي في تطبيقه، وبيان أن الانتماء إلى السلفية هو حتم واجب على كل مسلم. السلفية هي منهج لكل مسلم، وليست قضية اختيارية يكون الإنسان مخيراً فيها، نقول هذا وإن كان سلوك بعض من ينتسبون إلى السلفية يرسخ في نفوس العوام أو المخالفين كأنها كيان مبتور من جسد هذه الأمة، بعض الناس يتصور أن السلفية مذهب من المذاهب، أو طائفة منغلقة لها رسومها وأفكارها الخاصة بها. نريد أن نبين أن السلفية منهج حياة، وهي الفهم الصحيح للإسلام، ولا نقول: فهم الإسلام الصحيح؛ لأنه لا يوجد إسلام صحيح وإسلام غير صحيح، إنما الذي يطرأ عليه الصحة أو الخطأ الفهم البشري. وكذلك نريد أن نوضح أن قضية السلفية هي في الحقيقة أعمق مما يتصوره بعض المشنعين حيث زعم أن السلفية سواك، وقميص قصير، ولحية طويلة إلى غير ذلك من هذه الأشياء التي يحاولون أن يبرزوا بها السلفية في هذه القضايا الجزئية. كذلك نريد أن نبين أنه لا تعارض على الإطلاق بين الإسلام وبين السلفية، بعض الناس لا تطيق قلوبهم الإعلام بهذا الانتماء إلى السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فيقولون: لماذا لم نكتف باسم الإسلام؟ ويقولون: الله تعالى قال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78]، وإنما ينشأ هذا لأنه يتصور أن هناك تعارضاً بين التسمي بالإسلام وبين الانتماء إلى السلفية، وفي الحقيقة: العلاقة بين الإسلام وبين السلفية هي عبارة عن علاقة بين العام والخاص، فالاتصاف بالسلفية -أو مرادفاتها من الألقاب الشريفة التي سنذكرها- لا تعارض الإسلام على الإطلاق، بل هو تخصيص بعد تعميم على نحو قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فهل هناك تعارض بين قوله تعالى: (وملائكته) وقوله: (وجبريل وميكال)؟ كلا، بل هذا عام أتبعه بذكر الخاص. ونريد لكل من يسمع هذا الموضوع أن ينزع من قلبه الحساسية تجاه هذا اللقب، ونحن نعذر كثيراً من الناس لما نشأ عندهم من الحساسية نتيجة أخطاء بعض من ينتسبون إلى السلفية، وهم بشرٌ غير معصومين، يخطئون ويصيبون، فينبغي أن نتحرر من هذه الحساسية، خاصة ونحن نرى جميع الجماعات الإسلامية أو الاتجاهات الإسلامية تتسرف بمحاولة الانتماء إلى المنهج السلفي لكننا نقول: وكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك إذ اشتبكت دموع في جفون تبين من بكى ممن تباكى ويقول آخر: إن كنت تنوح يا حمام البان للبين فأين شاهد الأحزان أجفانك للدموع أم أجفاني لا يقبل مدع بلا برهان فالدعوة سهلة (وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان)، فنريد أن نتعرف على ملامح هذا المنهج حتى نتعرف من هم أحق الناس به، ومن هم أهله على الحقيقة. أقرر -بادئ ذي بدء- أنني لا أوظف هذا المصطلح الشريف ومرادفاته -كأهل السنة والجماعة أو الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة إلخ- خدمة لتجمع بعينه؛ لأن المنهج لا يخدم أحداً، إنما هو مخدوم. ولا أقصد أيضاً أن أوظفه مسوغاً لواقع تجمع معين أو فكرة حزبية؛ لأن المنهج السلفي هو منهج معصوم في حقيقته، فهو يقوم على أصول معصومة، السلفية تقوم على الكتاب والسنة والإجماع، وخاصة إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، المنهج فوق الجميع، أما السلفيون فهم بشر يخطئون ويصيبون، ويجب أن يحاكم كل واحد منهم وفق هذا الميزان الحساس الدقيق, وكل من ينتمي إلى السلفية يجب أن يراجع نفسه وأحواله عن طريق النقد الذاتي، ويزن نفسه بهذا الميزان الذي ذكرنا أنه ميزان معصوم. إذاً: بعبارة أخرى: نحن نريد أن نفرق بين ما نحن عليه من حيث انتمائنا إلى السلفية وبين ما ينبغي أن نكون عليه إذا تشرفنا بهذا الانتماء. أيضاً من الدوافع لتناول هذا الموضوع: أننا لا نبرئ كثيراً ممن ينتمون إلى السلفية من تسرب بعض مظاهر التحزب والتعصب ممن ينتمون إليها، وهم في الحقيقة لا يفهمون كنهها وجوهرها. ومن دوافع الكلام في هذا الموضوع: أن هناك محاولات لتصحيح الانتماء إلى السلفية، وتذويب هذا المصطلح النوعي، وسنشرح إن شاء الله تعالى ما نقصد بكلمة النوعية. من الدوافع: بيان أن السلفية هي الميزان الحساس الذي يقاس به كل الناس بمن فيهم السلفيون، ودرء محاولات فرض الوصاية على المنهج، فهناك بعض الناس يريدون أن يحتكروا الكلام باسم السلفية، ويريدون هم أن يستأثروا بمفاتيح الدخول إلى السلفية، وبعضهم قد يمارس الإرهاب الفكري: وافقني على فهمي وإلا فلست سلفياً! فليس في السلفية صكوك خاصة بها يحتكرها بعض الناس، وإنما السلفية بابها مفتوح على مصراعيه لكل من أراد أن يلج هذا الباب، ويسلك طريق النجاة. أيضاً: من الدوافع أننا نلاحظ وجود تباين شديد بين فئات شتى كلٌ منها ينتسب إلى السلفية، بالرغم من وجود نتوءات شاذة في فهم كثير من هؤلاء السلفيين، حتى رأينا في الحقيقة ثلاثيات وليس ثلاثية واحدة، ولا شك أن هناك منطقة من الخلاف المباح بين تجمعات السلفيين، لكن هناك مفاهيم لا يجوز أن يحصل فيها اختلاف أو تفاوت في الفهم. نريد أيضاً أن نبين أن السلفية أو منهج أهل السنة والجماعة أو الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة أو أهل الحديث إلخ تلك الأسماء هو العلاج الوحيد الناجع الذي يستأصل شأفة الفرقة الواقعة بين المسلمين؛ لأن كلاً منا يقطع بأن جميع مشكلات المسلمين وخلافاتهم ويمكن أن تنقشع فوراً إذا ما عاد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بيننا، لو فرضنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلينا فلا شك أنها ستنقشع الخلافات بين من ينتمون إلى دينه ودعوته وإلى طريقه صلى الله عليه وآله وسلم. بعض الناس قد يتحسر ويقول: قد مات رسول الله عليه السلام ولن يعود إلى الحياة، لكن نقول: لا تأس ولا تحزن؛ لأنه إن كان قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحجة قائمة، وما قبض حتى بين لأمته كل شيء صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعود إلينا ليحكم بيننا، ويحسم خلافاتنا، ويعالج مشكلاتنا، فهذا ليس في الحقيقة خيالاً، وإنما هو أقرب إلينا جميعاً من حبل الوريد؛ لأن المنهج السلفي الصحيح ومنهج أهل الحديث يفعل ذلك؛ لأنه يوقفنا على موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونصيحته لنا لو عاش حتى أدرك هذا الواقع الذي نعيشه، ولهذا أيضاً مزيد من التفصيل نبينه إن شاء الله تعالى.

أهمية معرفة منهج السلفية وما يلزم من سلكه

أهمية معرفة منهج السلفية وما يلزم من سلكه إذا خرجت مثلاً على الطريق الزراعي فستجد عدة طرق رئيسية، فإذا وقفت على تقاطع الطرق التي كل منها يؤدي إلى عدة مدن رئيسية، فإنك تختار الطريق التي توصلك إلى البلدة التي تقصدها، لكنك لا تضمن وصولك سالماً غانماً إلى الموضع الذي تقصده إلا بمراعاة أمور مهمة جداً أثناء سيرك في الطريق. بعبارة أخرى: نحن نحتاج إلى هدايتين: نحتاج إلى هداية إلى الطريق عند اختيار طريق رئيسي من عدة طرق، ثم نحتاج إلى هداية في الطريق ونحن نسلك هذا الطريق، والنجاة لا يحصلها الإنسان إلا بتحقيق هاتين الهدايتين، فالطرق الرئيسية هي بمثابة الأديان المختلفة سواء أديان سماوية ثم حرفت كاليهودية أو النصرانية أو أديان وضعية كالزرادتشية أو البوذية وغير ذلك من الملل الكفرية، فالهداية إلى الطريق هي الهداية إلى طريق الإسلام ونبذ طرق الكفر، فالإسلام بين الملل: هو الدين الوسط كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. أيضاً: لا بد من معرفة قواعد السير بهذا الطريق وإلا تعرض الإنسان للحوادث، لا بد أن يحترم إشارات المرور، ويعرف أن هناك منحنى خطر، وهناك مكان -مثلاً- مرتفع، وهذه المنطقة مليئة بقطاع الطريق، فينبغي للإنسان أن يحفظ ضوابط السلوك في هذا الطريق، فهناك قواعد للسير في داخل الطريق وهي ضوابط المرور، ويجب أن يكون الإنسان منتبهاً إلى التحذيرات المعلنة على جانبي الطريق، وهي تضمن لك السلامة ما دمت قد راعيتها.

وجوب اتباع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة والأدلة عليه

وجوب اتباع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة والأدلة عليه الهداية هدايتان: هداية إلى الطريق، والهداية إلى الطريق هو طريق الإسلام دون طرق الكفر، ثم هداية في الطريق تحميك من الانحراف في السبل التي يقف على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وهو ما نسميه بالفرق النارية، وكذلك هداية تحميك من الدجاجلة الذين يقفون على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. إذاً: وقف الإسلام وقف عام يشمل كل من دخل في الإسلام، وهم من نسميهم بأهل القبلة، ثم نحن في حاجة إلى وقف آخر مع وقف الإسلام، فلا يمكن للإنسان أن ينال النجاة إلا بالحق الواضح، بأن يكون أولاً مسلماً ثم يكون من أهل السنة والجماعة أو من السلفيين أو من الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة أو أهل الحديث أو من الجماعة أو من السنة أو غير ذلك من الأوصاف، فهذه الألقاب كلها تشير إلى منهج متميز هو الأخذ بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان. إذاً: لا بد من الاهتمام بنقطة الابتداء، الإنسان عندما يختار طريقاً لا بد أن يكون على بصيرة في اختيار هذا الطريق؛ لأنه إذا أخطأ الطريق منذ البداية فسينفق ردحاً من حياته يتجول ويتلون مع الفرق الضالة، والقاعدة تقول: (إن فساد الانتهاء من فساد الابتداء) ولذلك قالوا: إن من سعادة الحدث والأعجمي إذا أسلم أن يقيض الله له رجلاً من أهل السنة يعلمه السنة ويحمله عليها؛ لأنه بهذا سلم من كثير من العناء، فلو أن رجلاً نصرانياً أسلم على يد شيعي فكم من الجهد والوقت سوف يضيع منه في تعلم مذهب باطل ضال، ثم إذا أراد الله رحمته قيض له من أهل السنة من ينقذه، أيضاً يقول بعض السلف: من سعادة الشاب إذا نسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها، وهذا كله إشارة إلى أن فساد الانتهاء من فساد الابتداء. دعا بعض الناس فقال: اللهم توفني على الإسلام فقال له عالم: والسنة، أي: اللهم توفني على الكتاب والسنة، وهذا إشارة إلى المعنى الذي سنذكره بأن الإسلام وقف عام، أما السنة فهي وقف خاص، يعني: كأن دائرة أهل القبلة داخلها طوائف شتى، فهي بضع وسبعون دائرة كلها في النار إلا واحدة، وهي الفرقة الناجية التي سوف نبين شأنها. إذاً: يجب اتباع الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسلف الأمة، فإن كل فرقة ضالة تدعي الكتاب والسنة سواء الخوارج والشيعة وغيرهم، وهكذا عامة الفرق الضالة تتفاخر باتباع الكتاب والسنة، لكن إذا أردت الامتحان والتمييز والتمحيص قل لهم: اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، فهم لا يلتزمون بهذا الضابط وهذا القيد وهو: بفهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى؛ لأن هذا الضابط هو الذي يسد على الأمة منافذ الانحراف، هل هذا الضابط أتى بدون بينة وبدون دليل؟ كلا، بل هناك كثير من الأدلة عليه، منها: قوله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فرض علينا ربنا أن ندعوه بهذا الدعاء على الأقل سبع عشرة مرة في اليوم والليلة، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ثم بين هذا الصراط أنه (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وقد بينهم في آية أخرى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69]. إذاً: من هم الذين أنعم الله سبحانه وتعالى عليهم؟ هم المسلمون أهل السنة والجماعة، يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، ويقول أيضاً: {فَإِنْ آمَنُوا بمثل} [البقرة:137] والسياق في اليهود والنصارى من أهل الكتاب، وتأملوا كلمة (بمثل) فهذه هي السلفية، انظر إلى هذه المثلية {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137] لا هداية إلا بأن تؤمن بمثل ما آمن به الصحابة {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137] ولحكمة بالغة لم يقل الله تبارك وتعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنت به يا محمد، وهذا فيه إشارة إلى صحة إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ويقول تبارك وتعالى في شأن الصحابة أيضاً: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، ولم يقل تبارك وتعالى: وألزمه كلمة التقوى وإنما قال: (وألزمهم كلمة التقوى)، وهذه شهادة من الله عز وجل للصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم هم أهل التوحيد والجماعة. (وكانوا أحق بها) يعني: كانوا أحق من حملها، وأهلاً لتطبيقها؛ وقد شهد الله سبحانه وتعالى لهم بالفوز، فيقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ما هو سبيل المؤمنين؟ قطعاً هو سبيل أفضل أمة على الإطلاق، وهي أمة الصحابة؛ لأن الصحابة أفضل البشر بعد الأنبياء، أفضل أمة بعث فيهم نبي هم الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين (ويتبع غير سبيل المؤمنين) يعني: غير سبيل الصحابة. ويقول تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ َّ} [لقمان:15] والصحابة بلا شك هم أعظم من أناب إلى الله سبحانه وتعالى بعد الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. ويقول تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] تأملوا هذه الآية: يحينما ذكر الله عز وجل المهاجرين والأنصار لم يقيد حالهم بالإحسان؛ لأنهم محسنون بطبيعة الحال، أما كل من أتى بعدهم فاشترط فيه أن يكون تابعاً لهم بإحسان، ولم يشترطه في الصحابة، وهذا فيه إشارة إلى أنهم بطبيعة الحال محسنون رضي الله تعالى عنهم أجمعين. بل إن منهج السلف والصحابة رضي الله تعالى عنهم والاقتداء بهم مما أثنى الله سبحانه وتعالى به على عباد الرحمن، ففي صفات عباد الرحمن -في آخر سورة الفرقان- يقول تعالى حاكياً لنا دعاء عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] ومعنى هذه الآية كما فسرها العلماء: اجعلنا نقتدي بمن سبقنا فنصلح لأن يقتدي بنا من بعدنا، هذا خلاصة الكلام في تفسير هذه الآية، فلا يصير الإنسان إماماً إلا إذا ائتم بالسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ثم الله تعالى حكى عنهم قولهم: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ولم يقل (واجعلنا للمتقين أئمة)؛ لأن طريق المتقين واحد، ومعبودهم واحد، وكتابهم واحد، ونبيهم واحد، فكأنهم إمام واحد لمن بعدهم لا كالأئمة المختلفين، وقال مجاهد: اجعلنا مؤتمين بالمتقين مهتدين بهم، فلا يكون الرجل إماماً حتى يأتم بالمتقين وهم السلف، ومن ائتم بأهل السنة قبله ائتم به من بعده ومن معه. إذاً: يجب الائتمام بالمنهج الذي كانوا عليه، والإمام في الحقيقة هو منهج النبي صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين، ويدل على ذلك عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة (صلوا كما رأيتموني أصلي) وفي الرواية الأخرى: (صلوا كما تروني، وليأتم بكم من بعدكم) فعموم قوله (وليأتم بكم من بعدكم) لا يقتصر على أحوال الصلاة، وإنما يتعدى إلى كل أمور الدين الأخرى؛ لأن الصحابة هم الذين حملوا إلينا هذا الدين. ومن الأدلة أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى قص علينا قول الكافرين للصحابة: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] أي: لو كان الإسلام حقاً وخيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء والفقراء، وعلق ابن كثير على هذه المقولة بقوله: أما نحن أهل السنة والجماعة فإننا نرى السلف الصالح رحمهم الله تعالى أولى الناس بكل خير، ونحن لا نقول كما قال هؤلاء: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، ولكننا نقول في أي شيء لم يفعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لو كان خيراً لسبقونا إليه، فهم أولى الناس بكل خير. أيضاً في الحديث الصحيح في افتراق الأمة يقول عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، وفي رواية: (قيل: ومن هي يا رسول الله؟! قال: هي الجماعة) ومن ألقاب أهل السنة: الجماعة، وفي رواية أخرى: قال: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فلا شك أن هذا الحديث من النصوص الواضحة الدلالة جداً على هذا الضابط، وأنه لا بد من هذا القيد: (الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى ورضي عنهم)، وأنه لا بد أن ينضم إلى اتصافك بالإسلام اتصافك بأن تكون من الفرقة الناجية، وإلا كنت من هذه الفرق النارية أيضاً.

المتبعون للكتاب والسنة على منهج السلف هم الفرقة الناجية

المتبعون للكتاب والسنة على منهج السلف هم الفرقة الناجية من ألقاب الجماعة: الفرقة المنصورة أو الطائفة المنصورة كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك) وهم الطائفة المنصورة إلى يوم الدين، وقد توارد كلام أئمة العلم في أن المقصود بهم أهل الحديث، وهنا نقطة مهمة جداً وهي: أن أهل الحديث هم أولى الناس بمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسنزيد ذلك بياناً إن شاء الله تعالى. أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) وفي بعض الروايات زيادة: (ثم الذين يلونه) فدخل فيها القرن الرابع كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى، وقال عز وجل: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] فهذا فيه ثناء ومدح للصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. والنصوص الواردة في تزكية الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين كثيرة جداً، وهذا باب واسع يحتمل كلاماً أوسع من هذا، لكن نقتصر في آخر هذه الجزئية على قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء). وخلاصة الكلام في هذه القضية: أنه كما أن الإسلام قاض وحاكم ومهيمن على سائر الأديان فإن منهج الصحابة رضي الله تعالى عنهم قاض ومهيمن وحاكم على فرق الإسلام، وكما أن الإسلام وسط بين الأديان فإن أهل السنة هم الوسط بين الفرق الإسلامية، والنجاة: هي بالاقتداء بالصحابة في كل أمور الدين، ابتداء بأعلى شعب الإيمان (لا إله إلا الله) وانتهاء إلى إماطة الأذاء عن الطريق.

افتراق الأمة

افتراق الأمة

سبب الخلاف الموجود في الأمة

سبب الخلاف الموجود في الأمة الاقتصار على حسن النية في التمسك بطريق، بدون أن يكون الإنسان واثقاً من أن طريقه هو طريق الفرقة الناجية، هذا من تلبيس الشيطان، وكل الفرق الموجودة الآن متفقون على أمرين، ومختلفون على أمر واحد، متفقون على حسن النية والغاية وهي: أن ينصروا الإسلام، ولكنهم مختلفون في الطريق التي توصل إلى نصرة هذا الدين؛ فحري بنا أن نتبصر وأن نعي الطريق الذي نسلكه، خاصة أنه مما يحير الإنسان أنهم جميعاً يرفعون شعار الكتاب والسنة، فلماذا الاختلاف؟! والجواب واضح مما تقدم من الكلام على الانحراف في باب المنهج أو العقيدة أو الأصول، وقد كان الانحراف يعامل بمنتهى الشدة من النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلين مع أهل المعاصي كقصة الشاب الذي استأذنه في الزنا، وكذلك قصة الرجل الذي قبل المرأة ونال منها دون فرجها ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنزل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وكذلك أيضاً قصة أبي محجن الثقفي، والمواقف الشرعية مع أهل المعاصي فيها لين ورفق. أما أهل البدع فقد اشتد عليهم موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وأدل دليل على ذلك هو هذا الحديث الذي ذكرنا آنفاً: (كلها في النار إلا واحدة). وكذلك قصة الرهط الثلاثة الذين قال النبي عليه السلام في شأنهم: (فمن رغب عني سنتي فليس مني) فهذا منتهى الشدة. وكذلك شدته على الذين أصروا على الوصال في الصيام، ولو سكتنا عن الانحراف في قضايا الأصول والعقيدة للزم من ذلك أن نخطئ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عندما قتل الخوارج. إذاً: ينبغي أن نستحضر -ونحن نطرق هذا البحث وهذا السبيل- أننا نريد النجاة لأنفسنا، لا تؤملوا أن يرضى الناس عنكم؛ لأن إرضاء الناس غاية لا تدرك، وإرضاء الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يكون هو الهدف الوحيد؛ لأن إرضاء الله مقدور ومأمور، وإرضاء الناس ليس بمقدور ولا مأمور، إرضاء الله سبحانه وتعالى داخل في قدرة العبد؛ لأن الله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وكما أنه مقدور فهو مأمور به، قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، وقال عليه الصلاة والسلام: (فعليكم بسنتي) أما إرضاء الناس فهو غير مقدور؛ لأن الفرقة أمر كوني قدري كسائر الشرور التي خلقها الله سبحانه وتعالى ولا يرضاها، يقول تبارك وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119] إذاً: الافتراق سنة كونية. وجاء في وصف النبي عليه السلام في التوراة (ومحمد فرق بين الناس).

المراد بالأمة في حديث الافتراق

المراد بالأمة في حديث الافتراق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) لا يمكن أن يقال: إن (أمتي) هنا هي أمة الدعوة، فأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قسمين: أمة الدعوة التي يوجه إليها الدعوة إلى الإسلام، ويدخل فيها اليهود والنصارى، وكل من على وجه الأرض من يوم بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهذه كلها أمة محمد بمعنى أنها أمة الدعوة، فمن أجابه ودخل في الإسلام فهو من أمة الإجابة. وأمة الإجابة تنقسم إلى فريقين: الفرق النارية وأهل السنة والجماعة، فالفرق النارية التي توعدها النبي عليه الصلاة والسلام بالهلاك في النار، والفرقة الناجية هي فرقة واحدة وهي: أهل السنة والجماعة.

المقصود بافتراق الأمة

المقصود بافتراق الأمة الافتراق هنا هو الافتراق في أصول الدين، وليس في فروع الدين، إلا إذا تكاثرت المخالفات في الفروع حتى ترتب عليها من هجر الأدلة ما يترتب على الأصل المتبع الذي يتحاكم إليه. إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي) المراد الافتراق على أساس أصول الدين، وهذا ملاحظ، فالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية والجبرية والمرجئة كل هذه الفرق الضالة إنما خالفت في الأصول أساساً.

لا يقطع لمن انتمى إلى السنة بجنة ولا نار

لا يقطع لمن انتمى إلى السنة بجنة ولا نار هنا تنبيه مهم جداً وهو: أننا حين نقول: إن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية وأهل الجنة، فهذا من حيث الأنواع لا من حيث الأعيان. فإنه لا يقطع لمن ينتمي إلى أهل السنة والجماعة بالجنة إلا إذا دل عليه الوحي، وكذلك لا يقطع لمن خالفهم أنه في النار إلا إذا دل الوحي على ذلك، فنحن نتناول هنا الأنواع وليس الأعيان. فباختصار: هذا هو المعنى الكامن وراء تسمية أهل السنة والجماعة بالفرقة الناجية، فحري بالمسلم العاقل ألا يهدأ له بال، ولا يكتحل بنوم، ولا يهنأ بطعام ولا شراب، حتى يتيقن أنه من هذه الفرقة الناجية.

الحكمة الكونية من هذا الافتراق

الحكمة الكونية من هذا الافتراق قد يرد Q ما الحكمة من هذا الافتراق؟ كثير من الناس يتناولون الموضوع بطريقة عاطفية، ويتألمون لافتراق المسلمين وتمزقهم، ويقولون: هلا جعل الله سبحانه وتعالى الأمة فرقة واحدة ناجية وتدخل في الجنة؟ نقول: إن الافتراق هذا شر من الشرور، وهو أمر كوني قدري أوجده الله لحكمة، فالأمور الكونية القدرية قد يوجد منها أشياء يبغضها الله ويكرهها، لكن يشاؤها سبحانه وتعالى قدراً وكوناً لحكم عظيمة تترتب على ذلك، فالافتراق أمرٌ كوني قدري لكننا أمرنا شرعاً بعلاج هذا الخلاف، والدليل قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] ولا يزالون مختلفين كما اختلف الناس من أهل الكفر إلى يهود ونصارى، كذلك أهل الإسلام قدر الله وقضى بهذه الفرقة لحكم عظيمة، ولما يترتب على هذا من ألوان العبودية والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فنحن خلقنا للابتلاء، فلا يجوز أن نقول: نقترح على الله سبحانه وتعالى أن يجعل المسلمين فرقة واحدة كي لا يتمزق المسلمون وتذهب شوكتهم؟! كل هذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، ونحن خلقنا للابتلاء: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، وقال تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]،) وقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فخلق الله سبحانه وتعالى نعيم الدنيا لينبهنا إلى نعيم الجنة، وخلط هذا النعيم بالمنغصات لندرك أن الدنيا ليست دار الجزاء ولا دار النعيم، وخلق النار في الدنيا تذكرة ومتاعاً للمقوين، نستدفئ بها ولنتذكر بها نار الآخرة، ونحن الآن في دار الابتلاء، وفي لجنة الامتحان، فالامتحان منعقد، وعواقب أعمالنا محجوبة عنا، ولا تنكشف إلا في الدار الآخرة التي هي دار ظهور النتائج، ومع ذلك زودنا الله سبحانه وتعالى بأسباب النجاة والنجاح والفوز العظيم، وأوضح لنا السبيل الذي يوصلنا إلى الجنة دار القرار، وأخذ منا الميثاق حين استخرجنا من صلب آدم عليه السلام، وفطرنا على التوحيد الخالص، ومنحنا العقول والأسماع والأبصار لنهتدي بها، ومع كل هذا تضمن وتكفل أنه لا يعذب أحداً حتى تقام عليه الحجة الرسالية. والشيطان له أساليب متنوعة لجر الناس إلى النار، وابن القيم له كلام رائع في مدارج السالكين في شرح هذه العقبات السبع التي يحاول الشيطان أن يجر الناس بها إلى النار، فأعظم أمنية يتمناها الشيطان أن يوقع الإنسان في الكفر، فإن عجز ينتقل به إلى البدع، فإن عجز فإلى الكبائر، فإن عجز فإلى الصغائر، فإلى المباحات، فإلى تقديم المفضول على الفاضل. ولو سألنا أي آية في كتاب الله عز وجل هي أخوف؟ لوجدنا العلماء يختلفون في هذا اختلافاً كثيراً، وربما بعضهم يقول مثلاً هي قوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] وبعضهم يقول: هي قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31] لكن قال بعض أهل العلم: أخوف آية في القرآن هي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] يجتهد الرجل في العبادة ما شاء الله أن يجتهد، ثم يفاجأ في يوم القيامة بأنه ليس فقط خاسراً لكنه من الأخسرين أعمالاً، بصيغة (أفعل) التفضيل! (بالأخسرين أعمالاً) فهم أشد الناس خسراناً، والله تبارك وتعالى قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] (عاملة ناصبة) كانت تكد وتكدح في العبادة في الدنيا، ومع ذلك انظر إلى مصيرهم في الآخرة! وكما يحرص العبد على حسن صلاته وعبادته، ويحرص على أن يتجنب الخنا والخمر؛ فلا بد أن يحرص على سلوك الصراط المستقيم، يقول تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] هؤلاء الخوارج تقرحت جباههم، وتيبست أقدامهم من شدة الاجتهاد في العبادة، ومع ذلك هم كلاب النار؛ لأنهم انحرفوا في الأصول، وكانوا من الفرق النارية.

تضعيف بعض العلماء لحديث (افتراق الأمة) والرد عليهم

تضعيف بعض العلماء لحديث (افتراق الأمة) والرد عليهم عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة) هذا الحديث قال فيه الحاكم بعد ما ساق أسانيده: هذه أسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح الحديث، ووافقه الذهبي، وقال شيخ الإسلام: هو حديث صحيح مشهور، وصححه الشاطبي في الاعتصام. وبعض العلماء أشار إلى تضعيف زيادة في الحديث وهي (كلها هالكة إلا واحدة) وأيضاً: (ثنتان وسبعون في النار)، وهذا مشهور عن الشوكاني وابن الوزير وابن حزم، بل صديق حسن استحسن قول من قال: إن هذه الزيادة من دسيس الملاحدة، فإن فيها التنفير عن الإسلام، والتخويف من الدخول فيه. إذاً: بعض العلماء نظر إلى متن الحديث فاستنكره، وظن أن هذه الزيادة: (ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة) من دسيس الملاحدة، وإن فيها التنفير عن الإسلام، والتخويف من الدخول فيه. وهذا في الحقيقة ليس صحيحاً فمن ناحية صحة الحديث فالنقد العلمي الحديثي دل على صحة هذه الزيادة، فلا عبرة بقول من ضعفها كما بين ذلك العلامة الألباني رحمه الله تعالى، والذين صححوا هذا الحديث أكثر وأعلم من ابن حزم رحمه الله تعالى، فلا ينبغي أن يحتج بتضعيفه، فهو معروف في نقد الأحاديث إذا انفرد فكيف وقد خالفه هؤلاء الأئمة، وابن الوزير يرد الحديث من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، فذكر أن هذا الحديث يقتضي أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل، والنصوص الصحيحة تدل على أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير يبلغون شطر أهل الجنة كما صح في الحديث، والرد على هذا من وجوه، منها: ليس معنى انقسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة أن يكون أكثر الأمة في النار؛ لأن أكثر الأمة عوام، وهم لم يدخلوا في تلك الفرق، وإنما هم تبع لعلماء أهل السنة، والذين افترقوا وأصلوا وقعدوا مخالفين للسنة هم قليل بالنسبة للذين جانبوا ذلك كله. أيضاً ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من المسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بهم الذين تبنوا أصولاً تجعلهم فرقة مستقلة بنفسها، وتركوا بسبب هذه الأصول كثيراً من نصوص الكتاب والسنة كالخوارج والمعتزلة والرافضة، أما الذين يتبنون الكتاب والسنة، ولا يحيدون عنهما، فإنهم إذا خالفوا في مسألة من المسائل لا يعدون بذلك فرقة من الفرق. بعض الفرق يصل ضلالها إلى حد الكفر، فهؤلاء يكونون خالدين في النار كغلاة الباطنية الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، كالإسماعيلية والدروز والنصيرية ونحوهم، ومن هذه الفرق من خالف أهل السنة في مسائل كبيرة عظيمة لكنها لا تصل إلى الكفر، فهؤلاء ليس لهم وعد مطلق بدخول الجنة، وإنما يكونون تحت المشيئة، إن شاء الله عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وقد تكون لبعضهم أعمال صالحة عظيمة تنجيه من النار، فالفعل الذي يستحق صاحبه النار مشروط بحصول شروط وانتفاء موانع، وربما ينجون من النار بشفاعة الشافعين، وقد يدخلون النار فيمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين، ورحمة أرحم الراحمين عز وجل، وهذه إجابة عابرة وسريعة على هذه الشبهة.

فضل السلفيين على الأمة الإسلامية

فضل السلفيين على الأمة الإسلامية مما يلفت النظر أن ماسنيون المستشرق الفرنسي الشهير الذي كان تابعاً لوزارة الخارجية الفرنسية أخذ تعريفاً عن الحركة السلفية بواسطة الإمام عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء في الجزائر، ثم حذر قومه في فرنسا مما سماه بحركة السلفيين المتشددين، وما هي في حقيقتها إلا انتفاضة إسلامية تبغي التخلص من نار الاستعمار الغربي، فلا شك أنه كان لهذه الحركة دور مشرف في المحافظة على أصالة الأمة الإسلامية؛ لأن المؤامرة كانت في الجزائر موجهة نحو الانتماء الإسلامي للجزائر، ونحو طمس اللغة العربية، فتصدت لذلك هذه الحركة السلفية، وحافظت على هذه الهوية حتى لا تتميع أو تهتز تحت ضربات الغزو الأجنبي، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ظهر فيها السلفيون بهذا المظهر، فقد قاموا بالدفاع عن الإسلام أيام الاشتباك العقلي مع خصوم الإسلام حينما نقل الفكر الغربي واليوناني، فانتقده السلفيون، ورفضوا هذا المنهج، وكان الأمر واضحاً في الدوائر السلفية أكثر من غيرهم. ومن فضل الدعوة السلفية: المحافظة على التوحيد في جوهره النقي، فمنعت السلفية في كل العصور تردي العقيدة الدينية إلى صورة من صور الوثنية، كما هو معلوم ومشاهد. ومفهوم السلفية -كمنهج في الإسلام- لا يعني جيلاً أو أجيالاً مضت كما يزعم بعض الكتاب ممن كتب عنهم، حيث زعم أن السلفية فترة زمنية محددة، وليست مذهباً بعينه، وهذا الكلام ممن لا يفقه معنى السلفية، فالسلفية ليس فيها بعد زمني، ولا تقتصر على جيل أو أجيال مضت، وإنما تتسع دائرة السلفية لتشمل الحاضر والمستقبل أيضاً؛ لأنها لا تتعلق بالعصور والزمن، ولكن باتباع الطريقة الواحدة الثابتة.

فضائل أهل الحديث

فضائل أهل الحديث الألقاب التي تدعى بها السلفية ويعبر بها عنها: أهل السنة، الجماعة، أو أهل السنة والجماعة، أهل الحديث، الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية. أما بالنسبة لفضائل أصحاب الحديث ففضائلهم كثيرة، ومن أعظم هذه الفضائل قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، وليس لأصحاب الحديث إمام سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) رجح كثير من العلماء أن هذه الطائفة هم أصحاب الحديث، يقول الإمام أحمد: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم. والنبي عليه السلام لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (ما أنا عليه وأصحابي) فإذا كانت النجاة بمعرفة ما كان عليه هو وأصحابه فلا بد من معرفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن طريق معرفة حال الرسول وأصحابه إما بالمشاهدة، فيلزم أن يكون الإنسان صحابياً أو تابعياً بعد وفاة النبي عليه السلام، وإما بطريق النقل، فكما أننا نرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة، ونرجع في النحو إلى أهل النحو، كذلك نرجع في معرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أهل الحديث والنقل، قال النبي عليه السلام: (وألا ننازع الأمر أهله) وأولى الناس بمعرفة ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أهل الحديث قطعاً.

كلام الخطيب البغدادي في مدح أهل الحديث

كلام الخطيب البغدادي في مدح أهل الحديث وحتى لا نطيل في هذه الجزئية نكتفي بسرد عبارات للإمام أبي بكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى وهو يتكلم عن فضائل أصحاب الحديث يقول: وقد جعل الله تعالى أهله -يعني أهل الحديث- أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث؛ فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول قدوتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع، منهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهدٍ في قبيلة، ومخصوصٍ بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن. وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم سبيل المتقين، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر إليهم بالسوء حسير، وإن الله على نصرهم لقدير، ثم يقول: فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين؛ لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار؛ في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً، حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها، والقوامون بأمرها وشأنها، إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون. هذه نبذة من فضائل أصحاب الحديث، وهذا الأمر يحتاج إلى وقت أطول من هذا.

ألقاب أهل الحديث ومصطلحاتهم

ألقاب أهل الحديث ومصطلحاتهم من الأمور المهمة أن مصطلح السلفية مصطلح نوعي بمعنى: أن كلمة (سلفي) هي عبارة عن عنوان لطائفة كبيرة لها من الصفات والمواقف التي يعبر عنها بكلمة (السلفي)، فكلمة (سلفي) يفترض أنها تعني كثيراً جداً من المعاني التي تتحقق في صاحبها، ومواقف الشخص الذي يتبناها، فالسلفي لا يتصور أبداً أن يوالي الشيعة أو الروافض أو يلبس عليه هذا الأمر؛ لأنه على بصيرة من دينه. والفرقة الناجية هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا كانت النجاة باتباع الصحابة فكيف يتصور أن يجتمع في قلب مؤمن حب الصحابة مع حب من يلعنون الصحابة ويكفرونهم ويجعلون الاشتغال بلعن أبي بكر وعمر أفضل من التسبيح والحوقلة والتهليل إلى غير ذلك من فضائح الروافض؟! إذاً: كلمة (سلفي) تدل أن صاحبها ليس شيعياً، وليس خارجياً يكفر المسلمين بالمعاصي مثلاً، وليس قدرياً، وليس جهمياً، وليس جبرياً، كلها عبارة عن صفات سلب وإثبات، تثبت له مواقف محددة في قضايا محددة، فلا يكون الإنسان سلفياً إلا إذا تبنى كل هذه الأصول والقواعد بحذافيرها، ولا يشذ في شيء منها خاصة فيما يتعلق بالعقيدة وأصول الدين. إذاً: كلمة (السلفية) مصطلح نوعي يعكس كثيراً جداً من الصفات والمواقف التي لا بد أن يتبناها هذا الإنسان، ومن لم يتحل بهذه الصفات الإيجابية، ويتخل عن هذه الصفات السلبية؛ فلا يستحق أن يكون سلفياً. هناك ألقاب كثيرة لأهل السنة والجماعة، وأشهرها (السلفية)، وهذا المصطلح لم يكن شائعاً في الصدر الأول، حتى نفس مصطلح أهل السنة والجماعة -بنفس الحروف- لم يكن موجوداً في عهد السلف الأول كما سنبين، وإن كان معناه صحيحاً وموجوداً. وكلمة (أهل السنة والجماعة) لقب شريف تتنازعه ثلاث طوائف: أولاً: أهل الحديث أو السلفيون أو الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة إلى آخره. ثانياً: الأشاعرة. ثالثاً: الماتريدية. وفي الحقيقة أن الأشاعرة والماتريدية -عند الفحص والتمحيص- لا يستحقون هذا الوصف، فنحن مطالبون بأن ننزع عنهم هذا الوصف الشريف، ونخرجهم عنه ليعود لمن هم أحق به وأهله. وبعض الناس -اعتزازاً بهذا المنهج- يتلقبون بلقب أهل السنة والجماعة، وهذا المنهج لا ينبغي أن يكون مقصوراً على طائفة معينة تماماً كوصف السلفيين، ولذلك أنا ضد عبارة (السلفيين) أو أي عبارة تغذي العصبية والحزبية، بل هذا المنهج يجب على كل المسلمين أن ينتموا إليه، ولا يعبر بهذا المنهج عن طائفة مبتورة من جسد الأمة، كلا، بل السلفية هي قلب الأمة النابض. إذاً: أهل السنة والجماعة لقب لا ينبغي لأحد أن يحتكره؛ لأنه إذا احتكرته طائفة من الناس فبالتالي يترتب على ذلك أن أخطاءهم سيتحملها المنهج نفسه، وهم كبشر سيسلكون مسالك معينة أو يخطئون في قضايا معينة يترتب عليها أمور، ويحدث تولد حساسية عند الناس من هذا الاسم تماماً كما هو حاصل نتيجة أخطاء بعض السلفيين، فينبغي أن يكون المنهج فوق الجميع، ولا يحتكره أحد أبداً للمعاني التي ذكرناها.

فضائل السلفية

فضائل السلفية من الأمور المهمة أن مصطلح السلفية مصطلح نوعي بمعنى: أن كلمة (سلفي) هي عبارة عن عنوان لطائفة كبيرة لها من الصفات والمواقف التي يعبر عنها بكلمة (السلفي)، فكلمة (سلفي) يفترض أنها تعني كثيراً جداً من المعاني التي تتحقق في صاحبها، ومواقف الشخص الذي يتبناها، فالسلفي لا يتصور أبداً أن يوالي الشيعة أو الروافض أو يلبس عليه هذا الأمر؛ لأنه على بصيرة من دينه. والفرقة الناجية هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا كانت النجاة باتباع الصحابة فكيف يتصور أن يجتمع في قلب مؤمن حب الصحابة مع حب من يلعنون الصحابة ويكفرونهم ويجعلون الاشتغال بلعن أبي بكر وعمر أفضل من التسبيح والحوقلة والتهليل إلى غير ذلك من فضائح الروافض؟! إذاً: كلمة (سلفي) تدل أن صاحبها ليس شيعياً، وليس خارجياً يكفر المسلمين بالمعاصي مثلاً، وليس قدرياً، وليس جهمياً، وليس جبرياً، كلها عبارة عن صفات سلب وإثبات، تثبت له مواقف محددة في قضايا محددة، فلا يكون الإنسان سلفياً إلا إذا تبنى كل هذه الأصول والقواعد بحذافيرها، ولا يشذ في شيء منها خاصة فيما يتعلق بالعقيدة وأصول الدين. إذاً: كلمة (السلفية) مصطلح نوعي يعكس كثيراً جداً من الصفات والمواقف التي لا بد أن يتبناها هذا الإنسان، ومن لم يتحل بهذه الصفات الإيجابية، ويتخل عن هذه الصفات السلبية؛ فلا يستحق أن يكون سلفياً. هناك ألقاب كثيرة لأهل السنة والجماعة، وأشهرها (السلفية)، وهذا المصطلح لم يكن شائعاً في الصدر الأول، حتى نفس مصطلح أهل السنة والجماعة -بنفس الحروف- لم يكن موجوداً في عهد السلف الأول كما سنبين، وإن كان معناه صحيحاً وموجوداً. وكلمة (أهل السنة والجماعة) لقب شريف تتنازعه ثلاث طوائف: أولاً: أهل الحديث أو السلفيون أو الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة إلى آخره. ثانياً: الأشاعرة. ثالثاً: الماتريدية. وفي الحقيقة أن الأشاعرة والماتريدية -عند الفحص والتمحيص- لا يستحقون هذا الوصف، فنحن مطالبون بأن ننزع عنهم هذا الوصف الشريف، ونخرجهم عنه ليعود لمن هم أحق به وأهله. وبعض الناس -اعتزازاً بهذا المنهج- يتلقبون بلقب أهل السنة والجماعة، وهذا المنهج لا ينبغي أن يكون مقصوراً على طائفة معينة تماماً كوصف السلفيين، ولذلك أنا ضد عبارة (السلفيين) أو أي عبارة تغذي العصبية والحزبية، بل هذا المنهج يجب على كل المسلمين أن ينتموا إليه، ولا يعبر بهذا المنهج عن طائفة مبتورة من جسد الأمة، كلا، بل السلفية هي قلب الأمة النابض. إذاً: أهل السنة والجماعة لقب لا ينبغي لأحد أن يحتكره؛ لأنه إذا احتكرته طائفة من الناس فبالتالي يترتب على ذلك أن أخطاءهم سيتحملها المنهج نفسه، وهم كبشر سيسلكون مسالك معينة أو يخطئون في قضايا معينة يترتب عليها أمور، ويحدث تولد حساسية عند الناس من هذا الاسم تماماً كما هو حاصل نتيجة أخطاء بعض السلفيين، فينبغي أن يكون المنهج فوق الجميع، ولا يحتكره أحد أبداً للمعاني التي ذكرناها.

حفظ السلفية لتاريخ السلف وتدوينه وحمايته

حفظ السلفية لتاريخ السلف وتدوينه وحمايته من فضائل السلفية: أنها أعظم منهج يؤدي وظيفة صيانة تاريخ السلف، فهذه من المواقف المهمة جداً عند السلفيين، فهم يحفظون جداً تاريخ السلف، ويدفعون محاولة التشويه لهذا التاريخ من خلال أدق منهج علمي عرفته الأمم كلها، وهو علم الإسناد، الذي يقول فيه مرجوليوت اليهودي المستشرق الخبيث: فليتخذ المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم. فعلماء السلفيين وعلماء الحديث هم أعظم وأقوم من ينقش ويصفي هذه الروايات، ليمحص تاريخ السلف من البدع والضلالات والأكاذيب، ومعروف أن أعداء الإسلام لم يفشلوا في أن يطعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، بل تحولوا إلى الطعن في الصحابة؛ لأن الطعن في الصحابة يئول إلى نفس الهدف، وهو طعن الإسلام في الصميم، يقول الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى: إذا رأيت الرجل ينتقد أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق يدعي الإسلام -لكنه في الباطن كافر-، إنهم يريدون أن يجرحوا شهودنا ليعطلوا الكتاب والسنة، وإنما أدى إلينا هذا الكتاب والسنة الصحابة، فلا يجرح الصحابة إلا الزنادقة، من الذي حمل إلينا القرآن؟ الصحابة. من الذي حمل إلينا السنة؟ الصحابة، والشيعة يقولون: ارتد الصحابة عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا خمسة! هذا ذبح للإسلام، هذا الذي يريده أعداء الدين من الشيعة والروافض عن طريق الطعن في تاريخ الأكابر كـ أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار. في ترجمة أبي الأحوص سلام بن سليم وكان ثقة صاحب سنة، أنه كان إذا امتلأت الدار من أصحاب الحديث قال لابنه الأحوص: يا بني! قم فمن رأيته يشتم أحداً من الصحابة فأخرجه، ما يجيء بكم إلينا؟! يأمر ابنه أن يخرج أي واحد تلبس بشتم أحد الصحابة، وأن يطرده من المجلس ويقول: ما يجيء بكم إلينا؟! ليس هذا مكانكم. إذاً: صيانة تاريخ السلف وظيفة مهمة جداً، وبالذات ما يتعلق بالفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم، ولعل من أفضل الكتب في هذا (العواصم من القواصم) للقاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وهذا عنوان يحتاج إلى كثير جداً من التفاصيل، ودور السلفية في صيانة التاريخ الإسلامي سواء في عهد البعثة أو عهد الخلفاء الراشدين أو من تلا ذلك؛ لا شك أن هذا الدور مهم جداً.

عقائد السلفية هي عقائد جميع الأئمة

عقائد السلفية هي عقائد جميع الأئمة عقيدة السلفيين هي عقيدة الأئمة كلهم من عهد الصحابة إلى عهد التابعين وتابعي التابعين، وهي عقيدة أئمة السلف كلهم بمن فيهم الأئمة الأربعة. والنماذج كثيرة جداً، وهذا بحث مستقل في موقف الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السلف في قضايا العقيدة، وهو بحث طويل جداً لا يمكن أن نتناوله الآن في هذه اللحظات، لكن نقف عند قصة الإمام أحمد رحمه الله، ولماذا الإمام أحمد بالذات يوصف بالإجماع بأنه إمام أهل السنة؟ لماذا كل من كان أشعرياً أو في أي فرقة ضالة، ثم تاب وأراد أن ينزه نفسه من البدعة والضلالة يتشرف بالانتساب إلى المنهج السلفي، ويعلن أنه اتخذ الإمام أحمد إماماً وقدوة، ويقول بقول الإمام أحمد؟ فمثلاً: الإمام الأشعري نفسه في كتابه الإبانة وغيرهما من كتبه التي رجع فيها إلى منهج السلف رحمه الله تعالى، قال بكل صراحة: إنني على ما كان عليه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، فإنه ناصر السنة، وإنه الرئيس الكامل، والإمام الفاضل إلخ عباراته. فكل من أراد أن يعلن انتماءه للسلفية ينتمي إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين نقلوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعاً عند أهل السنة والجماعة، وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولاً، بل إن السنة كانت موجودة معروفة قبله، علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، هذا هو السر في هذا الأمر، فـ الشافعي ومالك وغيرهما ماتوا قبل الإمام أحمد، والإمام أحمد عاش بعدهم وتعرض للمحنة المعروفة، وهي القول: بخلق القرآن، وصمد أعظم صمود، فلذلك كافأته الأمة بإطلاق لقب (إمام أهل السنة) عليه، وهذا تعبير عن العرفان بجميل الإمام أحمد، وبفضله في صيانة هذا المذهب، وصيانة هذا المنهج، فهذا هو السر. مع أنه في تخريج الأحاديث تلاحظون المحدث يقول: رواه أبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد، فلا يذكر هذا لغيره إلا قليلاً، فأغلب المخرجين يحفظون له هذا اللقب، وهذا تعبير عن الولاء للإمام أحمد والاعتراف بفضله في صبره على المحنة. يقول شيخ الإسلام: فإن السنة كانت موجودة معروفة قبله، علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، وثبت الإمام أحمد على ذلك الأمر؛ فصار إماماً من أئمة السنة، وعلماً من أعلامها؛ لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لصحيح إسنادها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأياً. إذاً: هذا هو السر في حرص السلفيين في كل عصر على الانتماء إلى الإمام أحمد بالذات في أصول العقيدة، ولذلك هناك عبارة مشكورة بالنسبة لعلاقة المذاهب الأربعة بالمنهج السلفي، يقولون: المذهب لـ مالك والشافعي والظهور لـ أحمد، يعني الظهور والشهرة حصلت للإمام أحمد للسبب الذي ذكرناه.

السلفية أصلها ثابت وفرعها في السماء

السلفية أصلها ثابت وفرعها في السماء السلفية كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، عميقة الجذور، جذورها متغلغلة تصل إلى عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ما الذي يثبت هذا المنهج؟ الذي يثبته علم الإسناد وعلم الحديث؛ لأن الإسناد بالنسبة للسلفية هو شريان الحياة، وهو سر أصالتها وثباتها، والتمكين للدين لا يكون إلا على منهاج النبوة كما في الحديث: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها) إلى أن تدرج النبي عليه السلام في هذه المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية إلى أن قال في النهاية: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة). إذاً: لن تعود الخلافة إلا على منهاج النبوة، كيف نتعرف على منهاج النبوة؟ إن منهاج النبوة يدرك إما بالمعاينة -وهذا متحقق لمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم وعايشه- وإما بالرواية وهي مهمة أصحاب الحديث، فأولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمعرفة هديه هم أصحاب الحديث، ولذلك نحن نقول: إن هذه العقيدة عقيدة مسندة، لا توجد قضية واحدة من قضايا العقيدة إلا وهي مسندة إلى أصلها وجذورها، مسنده إلى الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة الدين، وهذا يدل على أهمية دراسة العقيدة من الكتب المسندة، إذا أردنا أن نتعلم العقيدة تعلماً صحيحاً فعلينا أن نرجع إلى الكتب المسندة التي ألفت في القرون الأولى كصحيح البخاري ومسلم، وسنن أبي داود وغيره من أهل السنن، وكتب السنة والسنة فيها بمعنى: العقيدة -وغيرها من كتب أصول الدين ككتاب السنة لـ أحمد ولـ ابن أبي عاصم والإبانة لـ ابن بطة وعشرات الكتب التي ألفت في الصدر الأول، ودونت المذهب السلفي، وأثبتته بأسانيده. فالمذهب السلفي في الحقيقة ليس مذهب الإمام أحمد ولا الشافعي ولا مالك، بداية المذهب السلفي يوم أن نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] هذا هو المذهب السلفي باختصار شديد، ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عندما كان يحاج مخالفيه والمشنعين عليه يقول لهم: أنا أمهلكم عشر سنين، ابحثوا وفتشوا وائتوني بأي قول مما قلته لم يقله السلف الصالح رحمهم الله تعالى، أخرجوا أي شيء من كلامي يخالف ما كان عليه السلف، ولم يستجب أحد منهم لهذا التحدي.

السلفية هي الإسلام

السلفية هي الإسلام السلفية هي منهج الخيرية، وهذه ليست دعوة مجردة عن الدليل، إنما هي دعوة مسندة، وهي أقوى ما نفحم به كل من خالف المنهج السلفي، هناك محاولات لقطع السلفية عن جذورها الحية، وقطع هذا الشريان الممتد والضارب إلى أعماق التاريخي الإسلامي، ومن هذه المحاولات محاولة نسبة المذهب السلفي إلى الإمام أحمد بن حنبل أو نسبته إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أو نسبته إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فنقول: نحن لسنا تيميين، ولسنا وهابيين كما يدعوننا، هذه في الحقيقة مغالطة، صحيح أن الإمام أحمد له خصيصة، وأنه لقب بإمام أهل السنة، بل نقول: لو قدر أن ابن تيمية لم يخلق أصلاً، ولو قدر أن محمد بن عبد الوهاب لم يخلق، ولو قدر أن الإمام أحمد لم يخلق، فهل كان سيضيع المنهج السلفي؟ ما كان ليضيع أبداً؛ لأنه هو الإسلام الصافي في جوهره الأصيل، هؤلاء المجددون كل الذي فعلوه أنهم نفضوا الغبار عن هذا المنهج، لكنهم لم يبتدعوا ولم ينشئوا مذهباً، إنما ضبط ابن تيمية المنهج وحرر قواعده، وأصلها ولم يخترع شيئاً في دين الله تبارك وتعالى. التشنيع على هذا المنهج بالافتراءات الظالمة هدفها قطع جذور هذا المنهج، أحد المعاصرين له كتاب اسمه: تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد، وأنا أعجب من صاحب هذا الكتاب، فهو يذكر الفرق والمذاهب السياسية المتفشية ويقول: التعريف الإجمالي آثارهم فرقهم المبادئ التي تجمعهم اختلافهم ومناقشتهم إلخ، ثم ذكر الجبرية، القدرية، المعتزلة، الأشاعرة، ثم وضع في ضمن الفرق: السلفية وقال: السلفيون، ثم يقول: ونقصد بالسلفيين أولئك الذين نحلوا أنفسهم ذلك الوقت، وسنناقش بعض آرائهم من حيث كونها مذهب السلف، وقد ظهروا في القرن الرابع الهجري، وكانوا من الحنابلة، وزعموا بأن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيا عقيدة السلف، وحارب دونها، ثم تجدد ظهورهم في القرن السابع الهجري، فأحياه شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ظهرت تلك الآراء في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري إلى آخره، وقد ذكر جميع الفرق وقال مني كل فرقة: مذاهبهم آراؤهم أما عند ذكر السلفيين فانظر إلى العنوان الرئيسي في الصفحة حيث يقول: منهاج هؤلاء السلفيين! يعني: توتر في العبارة، وابتعد عن الإنصاف، لماذا بالذات عند ذكر السلفيين تقول: منهاج هؤلاء السلفيين؟ ثم انظر هذه الجملة التي هي في الحقيقة سهم الأقربين، وهي وسام شرف على صدر السلفيين يقول: علمنا أن المعتزلة نهجوا في بيان العقيدة الإسلامية منهجاً فلسفياً قبسوه من منطق اليونان ومن طرائق الفلاسفة في الجدل والمناظرة، وقد كان الدفاع عن الإسلام باعثاً لهم لأن ينهجوا ذلك المنهج -كأنه يدافع عن المعتزلة في سلوكهم هذا المنهج- وجاراهم في ذلك المنهاج الفلسفي الأشاعرة والماتريدية -وأيضاً الأشاعرة تلطخوا بالفلسفة والماتريدية كذلك-، وهؤلاء الأخيرون قاربوهم في أكثر ما انتهوا إليه من النتائج، وإن ناقشوهم على الأساس، ولقد جاء أولئك السلفيون فخالفوا ذلك المنهاج! انظر إلى المصيبة! السلفيون خالفوا ذلك المنهاج ورفضوا الفلسفة والمنطق اليوناني، ورفضوا علم الكلام، ما جريمة السلفيين؟! وهذا من باب (شهد شاهد من أهلها)، قال: جاء أولئك السلفيون فخالفوا ذلك المنهاج، وأرادوا -انظر يا لهول ما قال! - أن تعود دراسة العقائد إلى ما كانت عليه في عهد الصحابة والتابعين، -أنا أنقل إليكم من الكتاب دون واسطة- فلا يأخذونها إلا من الكتاب والسنة، فيأخذون من القرآن أصل العقيدة، والدليل الذي بنيت عليه العقيدة، ويمنعون العلماء من أن يفكروا في أدلة القرآن. وإذا كان الباقلاني قد سوغ لنفسه أن يقيد السلفيون الناس بأدلة الأشعري فأولى ثم أولى أن يقيدوا الناس بأدلة القرآن، وفي الحقيقة من أراد أن يمدح المنهج السلفي فلن يجد أعظم من هذا الاقتباس كي يمدح به هذا المنهج العظيم. وبعدما أفاض في الكلام، قال في آخره: مذاهب حديثة! يعني: هذه الفرق التي مضت هي المذاهب القديمة، والآن يتكلم عن المذاهب الحديثة، فتكلم على ثلاثة مذاهب، وقرن السلفيين بمذاهب حديثة فقال: الوهابية البهائية القاديانية! فانظر كيف يصل التوتر والتعصب إلى حد أن يدرج السلفيين ويقرنهم بالبهائية والقاديانية، ويسميهم: الوهابيين! نكتفي بهذا الاقتباس للتعبير عن نموذج من نماذج التشنيع على السلفية بالافتراءات الظالمة، وبالألقاب المنفرة.

تحقيق السلفيين للولاء والبراء

تحقيق السلفيين للولاء والبراء قضية الولاء والبراء أكثر القضايا أدلة بعد قضية التوحيد، وأشد الناس حفاظاً على مفاهيم الولاء والبراء هم العلماء السلفيون، فموقفهم صارم من قضية التشبه بالكفار، وتذويب الهوية الإسلامية، ولعل أبرع وأنفس كتاب ألف في ذلك هو اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حتى أن الغماري -رغم عداوته الشديدة لـ ابن تيمية، وشتمه له في كل كتبه عندما يذكر هذا الكتاب لا يملك نفسه من الإعجاب بـ شيخ الإسلام، حتى إنه لا يذكر اسمه وإنما يكنيه فيقول: قال أبو العباس يعني بذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية؛ تكريماً له وإعجاباً بكتابه هذا. السلفي يتصدى لمحاولة تمييع الإسلام، وتقسيمه إلى قشر ولب، كما يفعل بعض الناس ويقول لك: أنا متمسك بروح النصوص، وهم -علم الله- لا يرضيهم إلا إزهاق روح هذه النصوص! السلفيون هم الذين يقومون بالتصدي للغزو الفكري الدخيل، يقول المستشرق شاتليه: إذا أردتم أن تغزو الإسلام، وتخمدوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم؛ فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم. وهذا هو الانتماء إلى منهج السلف والإعجاب به، الآن الطلاب يدرسون حضارة الغرب، ويحفظون سير مفكريهم وتاريخهم؛ حتى تقطع الصلة بشريان الحياة -الذي هو الاعتزاز بهذا المجد- الذي يمثل القمة بالنسبة إلينا، والذي حققه السلف الصالح، يقول هذا المستشرق: عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم، وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، حتى ولو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها.

صيانة الهوية الإسلامية من الذوبان

صيانة الهوية الإسلامية من الذوبان من فضائل السلفية صيانة الهوية الإسلامية من الذوبان، لم يحافظ أحد على الإطلاق على الهوية الإسلامية مثلما حافظ عليها المنهج السلفي، فالسلفية هي أشرف نسب ينتسب إليه الإنسان، أشرف نسب لمن أدى حق هذا الانتساب، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، وقال أيضاً: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، والله تعالى يقول: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، وأولى الناس بكل هذه النصوص هم من حققوا وصف السلفية. وعوام الناس عندما يتفاخرون بالنسب فأشرف نسب على الإطلاق قطعاً هو الانتساب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا بد أن يضم إلى شرف الانتساب لآل البيت شرف الانتساب إلى منهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فـ أبو لهب مات كافراً وهو عم النبي عليه الصلاة والسلام: لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب كان شريفاً لكن لم يغن عنه نسبه شيئاً، فأشرف نسب هو الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا الفخر لأهل الحديث الذين هم أقرب الناس وأولى الناس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول عليه الصلاة والسلام: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين) من أجل ذلك فالسلفي الحق لا يُعرف إطلاقاً بما يسمى الآن بأزمة الهوية والانتماء، هذه الأزمة التي يشيع الكلام عنها الآن، ونرى آثارها في الشوارع الآن، نرى الشباب الذي يرفع علم أمريكا ويفتخر به، وهو في الحقيقة يفتخر بالذي يغل رقبته ويغل أمته! تحدث بعض الشباب الذين كانوا يلبسون البرنيطة مع الأستاذ الشيخ محمد المجذوب فقال له: يا بني! اخلع عنك هذه البرنيطة، فقال: لا أخلعها حتى تأتيني بحجة مقنعة، فقال: إن هذه البرنيطة هي رمز الذين أذلوا أمتك، وامتهنوا كبرياءك! هذه هي الحجة القاطعة! الآن يوجد فرع مكدونال هنا بجوارنا في نادي سموحة، ومكدونالد هذا يعني الاستعمار بالسندوتشات فإنه سيأكلها الناس في القاهرة، وعندما افتتحوا أول فرع له حضر الافتتاح السفير الأمريكي بجلالة قدره! فعلى أية حال، أزمة الهوية وأزمة الانتماء لا يمكن أبداً أن يقع فيها السلفي. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: روينا عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما أنه سأل ابن عباس: (أأنت على ملة علي أو على ملة عثمان؟ فقال: لست على ملة علي ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم). الإمام مالك كان يحدث أصحابه يوماً فقص عليهم قصة رجل كان يحتضر فقال له بعض الحاضرين: أنت تموت على ملة من؟ فقال: أموت على ملة فلان! شيخ له أو زعيم، فعلق الإمام مالك بعد ما روى القصة وقال: يدع المشئوم ملة محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: أموت على ملة فلان! فالسلفي لا يمكن أبداً أن ينتسب إلى غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قاعدة: السنة هي الأصل والبدعة طارئة عليها

قاعدة: السنة هي الأصل والبدعة طارئة عليها من الأمور المهمة التي نحتاج إلى ذكرها وهي في غاية الأهمية: أن السنة هي الأصل، أما البدع فهي طارئة عليها، يعني: إذا استتبعنا تاريخ ظهور البدع نعرف أن البدع تأخرت إلى أواخر عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وتصدى الصحابة لهذه البدع، فبعض الناس قد يسأل: منذ متى بدأ المنهج السلفي؟ ما هي بداية تاريخ أهل السنة والجماعة؟ متى ظهرت هذه الفرقة بهذا الاسم؟ عندما نتناول لقباً شريفاً كلقب أهل السنة والجماعة فإننا نعنى بالبحث عن نشأته أو بداية التميز باسم أهل السنة والجماعة كدلالة على اتجاه معين واعتقاد متميز، لكن لا نسأل أبداً عن تاريخ بداية مذهب أهل السنة والجماعة أو المنهج السلفي، ولا يصح أبداً السؤال عن بدايته ومتى بدأ؟ كل فرقة يصح أن تسأل عنها: متى بدأت؟ ومن أسسها؟ إلا أهل السنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وطريقتهم -أي: أهل السنة- هي دين الإسلام. إذاًً: كلمة أهل السنة والجماعة هي الإسلام، يعني: أن هذا الشخص من أهل السنة أنه مسلم خال من البدع والضلالات التي شاعت في الفرق، فهذا يدل على أن التميز باسم أهل السنة والجماعة حصل عندما حدث الافتراق الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قبل ظهور الفرق لم يكن ظهر شيء من تلك المصطلحات مثل التسنن أو التشيع، كان الإسلام والمسلمون هم الاسم وهم المسمى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] أما تحديد بداية هذا التميز فيقول الدكتور مصطفى حلمي حفظه الله تعالى: كان المسلمون على ما كان عليه رسول الله من الهدى ودين الحق الموافق للصحيح المنقول، والصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه ووقعت الفتنة واقتتل المسلمون بصفين؛ مرقت مارقة الخوارج التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق) وكان مروقها لما حكم الحكمان، وافترق الناس على غير اتفاق، فهذا أول صدع في وحدة العقيدة في الجماعة المسلمة، فحركة الخوارج تعتبر أقدم انشقاق ديني حدث في صفوف الأمة. ثم حدث بعد بدعة الخوارج بدعة التشيع، وتصدى لهم الصحابة، فمثلاً: السبابة الذين كانوا يسبون أبا بكر وعمر لما بلغ ذلك علياً رضي الله تعالى عنه طلب ابن السوداء الذي تكلم بهذا الكلام وقيل: إنه أراد قتله، فهرب، وهو رأس الشيعة الذين غلوا وادعوا في علي الألوهية، وادعوا أن النبي عليه الصلاة والسلام نص على إمامته، وجمعوا إلى ذلك سب أبي بكر وعمر وقد عاتب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الخوارج وقاتلهم، أما مبتدعة الشيعة الذين زعموا فيه الألوهية فأمر بإحراقهم وقال في البيت المعروف: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا أما المفضلة الذين كانوا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر فروي عنه أنه قال: (لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد الفرية)، وتواتر عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر). وفي بداية الأمر الابتداع لما ظهر لم يكن في الغالبية العظمى والقاعدة العريضة من المسلمين الذين التزموا بالسنة والجماعة، وكانوا غير محتاجين للتميز بهذا اللقب؛ لأنهم الأصل الذي انشق عنه المخالفون، فما احتاجوا إلى التميز باسم من الأسماء، ثم طرأت بعد ذلك الفرق الضالة المنحرفة، فالأصل ليس بحاجة إلى ما يميزه، إنما الذي يحتاج لاسم يميزه هو الفرع المنشق الذي سرعان ما يشتهر ببدعته حينما يتنكب السبيل. أحد الأئمة الأذكياء دخل على أحد الخلفاء وعنده أحد الرافضة مقدماً ومعظماً فقال له: يا أمير المؤمنين! كيف تقرب الرافضة وقد سرقوا نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فانبرى له ذلك الرافضي فقال: لا تصدقه يا أمير المؤمنين! فإن الشيعة لم يكونوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك العالم: هذا ما كنا نبغي، أن تعترف بلسانك أنكم فرقة طارئة على الأصل، فرقة طارئة يمكن تحديد بدايتها، ومن الذي أسسها، أما أهل السنة والجماعة فلا يحتاجون إلى السؤال عن بداية المذهب أو متى نشأ، بدايته لما نزل جبريل في ليلة القدر في غار حراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

السلفية منهج ملزم لكل مسلم [2]

السلفية منهج ملزم لكل مسلم [2] منهج أهل السنة والجماعة منهج قديم، لم يبتكر في عصر من العصور لا اسماً ولا رسماً، فتعلقه دائماً ملصق بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله، وبما أجمع عليه سلف الأمة، وساروا عليه، ولهذا المنهج مزايا وخصائص ميزته عن سائر الفرق، وجعلته دائم الثبات في كل العصور.

بداية التسمي باسم أهل السنة والجماعة

بداية التسمي باسم أهل السنة والجماعة الحمد لله الذي جعل اتباع رسوله على محبته دليلاً، وأوضح طرق الهداية لمن شاء أن يتخذ إليه سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد مخلص لم يتخذ من دونه وكيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اختص أمته بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير الناس هدياً وأقومهم قيلاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. سئل الإمام مالك عن أهل السنة فقال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا قدري ولا رافضي. يقول الدكتور مصطفى حلمي حفظه الله تعالى: إن أهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ولا نستطيع أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع باقي الفرق، والسؤال عن نشأة أهل السنة والجماعة سؤال ليس له موضع كما هو الحال إذا تساءلنا عن منشأ الفرق الأخرى، ولذلك الإمام اللالكائي رحمه الله تعالى افتتح كتابه القيم: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) بذكر أئمة السنة الذين ترسموا بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بذكر أبي بكر، ثم الخلفاء الثلاثة بعد أبي بكر، وبقية أهل العلم والدين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى زمنه رحمه الله، وقد ذكر كثيراً من أئمة أهل السنة في معظم الأمصار الإسلامية. وقال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم، وبداية التميز بين أهل السنة وغيرهم هي الفتنة التي وقعت في آخر عهد عثمان رضي الله تعالى عنه. إذاً: خلاصة الكلام في هذه النقطة: السؤال عن نشأة مذهب أهل السنة كما يسأل عن نشأة سائر الفرق لا مكان له ولا محل له؛ لأن مذهبهم هو مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لكن السؤال ينبغي أن يوجه إلى بداية التسمي بهذا الاسم؛ لا نشأة المسمى وهو المذهب وأهله، فمن الخطأ أن يخلط بين الأمرين، فبداية بروز الاسم غير بداية هذا المنهج. فالأصل في التسمي بأهل السنة هو ما ورد من النصوص التي تأمرنا باتباع السنة وبلزوم الجماعة، فالتسمية مأثورة في السنة، وواردة في كلام السلف، أما بداية التسمي بهذا الاسم فهذا يعني أمراً آخر؛ لأن بعض الناس يخلط بين بداية التسمية وبين نشأة المسمى وهو المذهب وأهله، حتى رأينا من يتحدث عن السنة كأنها فرقة أو طائفة طارئة في الإسلام كسائر الفرق الأخرى التي انشقت عنها. فمثلاً: الدكتور مصطفى الشكعا يزعم أن تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنة تسمية متأخرة يرجع تاريخها إلى حوالى القرن السابع الهجري، أي: بعد الإمام أحمد بأربعة قرون؛ وهذا كلام لا يثبت أمام التحقيق العلمي كما بينا؛ وإنما كلما هبت أعاصير البدع تجلى وشاع التميز لأهل السنة بسبب جهود علمائهم في المنافحة عن هذه السنة، وهناك رسالة بعث بها إلى المأمون نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي يكتب تقريراً للمأمون يتكلم عن الإمام أحمد ومن معه، فيقول: ونسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة، فواضح أن الاصطلاح كان بارزاً جداً في تلك المرحلة. والعلاقة بين كلمة (أهل السنة) وبين كلمة (الجماعة) كالعلاقة بين الإسلام والإيمان، يعني: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ إذا ورد واحد منهما في النص فإنه يشمل المعنيين، وإذا اجتمعا في نص واحد افترقا، فيقال: أهل السنة والجماعة، فمعنى السنة: الاعتقاد الحق؛ والجماعة: أهل الاعتقاد الحق، فإذا قلت: الجماعة فقط، ففي هذه الحالة فإنها تجمع الاعتقاد الحق وأصحابه، وإذا قلت: السنة فقط، فإنها تجمع الاعتقاد الحق وأصحابه، فإذا اجتمعا معاً افترقا في المعنى، فدل كل لفظ على معناه الخاص به.

خصائص أهل السنة والجماعة

خصائص أهل السنة والجماعة

من خصائص المنهج السلفي: شيوع الاستدلال بالآيات والأحاديث

من خصائص المنهج السلفي: شيوع الاستدلال بالآيات والأحاديث من خصائص المنهج السلفي الضبط الدقيق للعلاقة بين العقل والنقل، وهذا بحث كبير جداً لا نستطيع أن نوفيه حقه، لكن هذه من خصائصهم على سبيل الاختصار: الضبط الدقيق للعلاقة بين العقل والنقل. رفض التأويل الكلامي. كثرة الاستدلال بالآيات والأحاديث. يبين الدكتور الأشقر حفظه الله تعالى في كتابه: (العقيدة في الله) أن هذه الخصلة ينبغي أن تشيع وتنتشر بين السلفيين، وهي: موضوع شيوع الاستدلال بنصوص القرآن والسنة، فهي التي ترطب القلب: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وتلينه من قساوته. والحقيقة -وللأسف الشديد- أنه يشيع بين كثير من السلفيين مفهوم مؤلم جداً، وهو أنهم أحياناً ينزلقون إلى أساليب المتكلمين عند الاستدلال، يعني: نحن نذم الكلام والفلسفة ثم نكتب أحياناً بأساليب المتكلمين! ولعلكم تلاحظون هذا في بعض الكتب كشرح العقيدة الطحاوية، مثل مسألة التسلسل والدور ونحو هذا الكلام الكلامي الذي يتعذر على كثير من العقول فهمه؛ لأنه غير موافق للمنهج السلفي؛ وهذه الأساليب الكلامية الخالية من القرآن والسنة هي التي تجفف وتنشف القلوب، وهناك عبارة نطق بها بعض الدعاة -وهو ينتقد بعض كتب العقيدة- فقال: إن هذه النصوص فيها جفاف، ولا يمكن أن يظن بواحد من عوام المسلمين وجهلتهم أنه يقصد أن نصوص القرآن والسنة جافة، وأقل قدر من حسن الظن يقتضي أن تحمل هذه الكلمة على أنه لا يقصد القرآن والسنة، فإن هذا كفر، ولا تليق بعامي من عوام المسلمين، ولذلك بعض الناس أساءوا فهم هذه العبارة، وظلموا صاحبها ظلماً بيناً. الذي يسبب الجفاف في القلب -وهو الذي نتكلم فيه- هو الوقوف مع ضوابط العقيدة، وتناولها بأسلوب كلامي متناقض تماماً مع منهج السلف، حتى إن بعض الدعاة أراد انتقاد السلفيين يوماً فكان مما قال: إن السلفيين يعتمدون في تناول العقيدة على علم الكلام؛ وذلك من كثرة ما شاع في الكتب من علم الكلام وأسلوب أهل الكلام في تناول قضايا العقيدة، حتى إن هذا الشخص الجاهل بحقيقة المنهج السلفي شنع على السلفيين بأنهم أهل كلام، فالسلفية تقوم أساساً على محاربة أهل الكلام والفلسفة، الإمام الشافعي رحمه الله يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر، وينادى: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة إلى ما عداهما أو كما قال رحمه الله. فإذاً: السلفية تتميز بمحاربة علم الكلام، وتبديع أهله، وهجرهم وذمهم، والمشكلة أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كان يناظر هذه الفرق كلها، فاستلزم الأمر أن يقاتلهم بأسلحتهم في كثير جداً من الأحيان، فبعض السلفيين يأخذ من شيخ الإسلام مثل هذه الأساليب في حين أنهم ليسوا في وضع مثل وضع شيخ الإسلام، حتى إن طلبة العلم الصغار يتدارسون هذه القواعد، وهذا خطأ، فهذه فرض كفاية على طائفة معينة من المتخصصين، أما أن نجعل الأصل هو تناول العقيدة بطريقة كلامية فهذا لا يمكن، وهذا هو الذي أحوج شرح الطحاوية إلى كثير من الاختصار لكي يحرر من هذه النصوص الجافة، ونعني بها أساليب علم الكلام التي تؤثر على قلوب الناس، والتي تقسي القلب وتجففه. فالسلفية قائمة على نبذ الفلسفة، ونبذ علم الكلام، يقول بعض العلماء: يا أيها الرجل الذي هو جاهد في الفلسفة ماذا يروقك من تعلمها وأكثرها سفه فالفلسفة أو علم الكلام كلاهما مرفوض تماماً، ولا يجوز أبداً أن يسمى علم العقيدة أو مسائل الإيمان أو التوحيد بعلم الكلام، هذا نوع من العدوان، والشيخ الجديع في كتابه: العقيدة السلفية في كلام رب البرية له كلام رائع في الرد على من يسمون العقيدة بعلم الكلام.

من خصائص المنهج السلفي: أنه وسط بين الفرق

من خصائص المنهج السلفي: أنه وسط بين الفرق من خصائص السلفية أنها المنهج الوسط بين الفرق، كما أن الإسلام وسط بين الأديان؛ في كل قضية من قضايا العقيدة تجد السلفية وسط، في قضايا الكفر والإيمان هم وسط بين إفراط الخوارج وتفريط المرجئة، في مسألة القضاء والقدر هم وسط بين المرجئة وبين القدرية، وهكذا في عامة قضايا الإيمان نجد أن مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب السلف وسط بين هؤلاء الفرق النارية، كما أن الإسلام وسط بين الأديان. ومن هنا نضع تعريفاً للمتطرف؛ فالمتطرف: هو الذي يأخذ بأطراف الأمور، فيتطرف إلى الغلو أو الجفاء. يقول الشاعر: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً والخلاف في تعريف كلمة المتطرف ناشئ عن تحديد ما هو الوسط؟ نحن نقطع جزماً أن الوسطية والاعتدال هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الوسط، فكل من حاد عنه يمنةً أو يسرةً فهو متطرف، من حلق لحيته فهو متطرف؛ لأنه انحرف عن هديه عليه الصلاة والسلام، ومن صافح النساء فهو متطرف؛ لأنه خالف هدي النبي عليه الصلاة والسلام وأمره. إذاً: المتطرف هو كل من ليس مسلماًَ من أهل السنة والجماعة، (كل من ليس مسلماً) يعني: كل يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بوذي، كل من ليس مسلماً فهو متطرف، فلا تصدقوا ما تسمعونه في نشرات الأخبار: قام بعض المتطرفين اليهود بفعل كذا وكذا، فكل يهودي متطرف؛ لأنه ليس من الأمة الوسط الذين هم أهل الاعتدال. كذلك: كل مسلم ليس من أهل السنة والجماعة فهو أيضاً متطرف من حيث بعده عن منهج السلف. يقول تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع والافتراق، والآن كلما ازددت ارتباطاً بأصول السلف الصالح زاد حظك من وصف التطرف، فهذا هو التطرف عندهم! إن كان الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام تطرفاً فليشهد الثقلان بأني متطرف، إذا كان التمسك بالإسلام تطرفاً -قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170]- فنحن متطرفون قطعاً، لكن في الحقيقة المتطرف: هو من حاد عن الإسلام أو عن منهج أهل السنة والجماعة؛ لذلك كلما زاد ارتباطك بالأصول زاد قدر الأعداء، بعض الجماعات المتسيبة تفرح عندما يصفها بعض الصحفيين العلمانيين أو أعداء الإسلام بأنها جماعة معتدلة، وهذا الوصف منهم لا يشرف في الحقيقة، فيجب عليها أن تراجع منهجها، وتراجع أصولها، يغازلون هذا الجماعات بأنها معتدلة، فلماذا السلفيون -عندهم- متطرفون؟ لأنهم يتمسكون بالفهم الصحيح للإسلام. السلفية هي دعوة العلم والبصيرة، موقف السلفية من العلم الصحيح مشهور، يهتمون بالتحقيق واتباع الدليل، وهذه القضايا كلها موقف السلفيين منها معروف ومشهور لا نفيض في ذكره.

من خصائص المنهج السلفي: أنه عاصم من الحيرة والتلون

من خصائص المنهج السلفي: أنه عاصم من الحيرة والتلون من خصائص السلفية ما يعبر عنه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، السلفية عاصمة من الحيرة والتلون، وهي سبب من أسباب الثبات على الدين، فالسلفي هو من حفظه الله سبحانه وتعالى وعصمه، ومن نشأ على المنهج السلفي فقد وفر كثيراً من عمره، أما غير السلفي فدائماً يتلون: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل فالسلفي الحق لا يتلون، تعطيه السلفية نوعاً من الثبات، الثبات على المنهج، والوضوح في الانتماء، فطريق السلفية غالباً طريق في اتجاه واحد، قد يرتد بعض الناس لا عن السلفية فقط لكن عن الإسلام كله والعياذ بالله! هذا وارد، لكن القاعدة أنه طريق ذو اتجاه واحد، من مشى فيه لا يرجع إلى الوراء، مثال ذلك: ما جاء في حديث هرقل لما قال لـ أبي سفيان: (وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب). ولذلك لا تجدون أبداً عالماً سلفياً يرتد ويرجع إلى الأشعرية أو الاعتزال أو مذهب الخوارج أو غيره، لكن نجد كثيراً جداً من رءوس هذه الفرق يهديهم الله سبحانه وتعالى إلى الحق، ويلحقون بقافلة السلفيين، والأمثلة كثيرة جداً، وأشهرها على الإطلاق الإمام أبو الحسن الأشعري الذي مر بمرحلة الاعتزال، ثم مرحلة التأويل -وهو المذهب الشائع الآن- ثم بمرحلة التزام المنهج السلفي. ووالد إمام الحرمين عبد الله بن يوسف أبو محمد الواسطي الشافعي ألف رسالة يقول فيها: كنت برهة من الدهر متحيراً في مسألة الصفات والفوقية والكلام في القرآن الكريم، وكنت متحيراً في كذا وكذا، وحكى رحلته مع المنهج، وأنه كان في حيرة وتردد وصراع نفسي ما بين هذا الكلام الذي تعلمه في هذا المذهب غير السلفي وبين نصوص القرآن والسنة، إلى أن هداه الله سبحانه وتعالى، وصار من أئمة أهل السنة، وله رسالة ينصح الناس فيها ويدعوهم إلى مذهب السلف. ويوجد كتاب: التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار، ألفه الشيخ الإمام عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي وفي كتاب آخر غير هذا الكتاب حكى فيه قصة اهتدائه على يد شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو كلام في غاية الروعة في الحقيقة. هذه النماذج تدل على أن السلفية عصمة من الحيرة والتلون، فالذي ينشأ على المنهج السلفي لا يتلون، بينما تجد جماعة التكفير والخوارج الجدد، يتنقل أحدهم من فرقة إلى فرقة، والفرقة يحصل فيها انشطارات داخلية، فتنقسم الفرقة الواحدة إلى فرقتين، ويكفر بعضهم بعضاً، وقد يقاتل بعضهم بعضاً! وهكذا. فمن طبيعة المنهج السلفي أنه يجمع، فهذا من خواصه الكامنة فيه، فالمنهج السلفي منهج تجميع، ولذلك دائماً تقترن السنة بالجماعة (أهل السنة والجماعة) السنة في مقابلة أهل البدع، والجماعة في مقابلة الافتراق، الحق واحد، أما الباطل فكثير، والقرآن دائماً يأتي بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً -ثم ذكر العلاج- فعليكم بسنتي)، فالسنة هي علاج الفرقة. وهنا تجربة واحدة أشير إليها باختصار، وهي تجربة الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى وعفا عنه: الإمام الغزالي تجول في كثير من المناهج المنحرفة والضالة، أمضى معظم عمره في التجول والبحث عن الحق في هذه الفرق، وللأسف الشديد لم ينتبه إلى منهج النجاة الحقيقي -وهو منهج أهل السنة والجماعة والمنهج السلفي- إلا في آخر عمره، وحاول أن يكفر عما مضى بأن ينهل ما استطاع من القرآن والسنة، حتى أنه مات وصحيح الإمام البخاري على صدره! فالإمام الغزالي يعتبر تجربة فريدة تستحق أن تدرس؛ ليتبين فضيلة المنهج السلفي، وكيف أن من أراد الله به خيراً يئول حاله في النهاية إلى الندم على ما مضى، وإلى الانتقال إلى المذهب السلفي، ومن الرسائل التي تناولت تجربة الغزالي كتاب الأخ عبد الرحمن دمشقية: أبو حامد الغزالي وكتابه إحياء علوم الدين، أو أبو حامد الغزالي والتصوف، وهذه الرسالة سبق أن درسناها منذ زمن. وهذه مقارنة بين الغزالي وابن تيمية كتبها رجل هو من أخبر الناس بتراث ابن تيمية وهو الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى، يقول: لا شك أن الغزالي وابن تيمية من أكبر علماء هذه الأمة، وهما من الرجال الذين ملئوا الدنيا، وشغلوا الناس، فقد أحب كلاً منهما فريق من المسلمين، حتى وصلوا في محبته إلى درجة التعصب، والواقع أنني لا أقصد بالمقارنة بين شخصية وآراء الرجلين مجرد المتعة الذهنية، بل إنني أقصد بذلك الموازنة والمفاضلة بين أكبر تيارين فكريين يؤثران على المسلمين حتى أيامنا هذه، فـ الغزالي يمثل التيار الأشعري الصوفي، وابن تيمية يمثل التيار السني السلفي، ولكل من التيارين أنصاره ورجاله، إلى أن يقول الدكتور رحمه الله تعالى عبارة قوية جداً يقول: ولن أحاول أن أدعي حيازاً كاذباً بين الاتجاهين، بل إنني أحدد موقفي بوضوح فأقول: إنني أعتقد أن نهضة المسلمين وانبعاثهم من رقدتهم وغفوتهم إنما تتوقف إلى حد كبير على مدى أخذهم بهذا التيار السلفي السني، أخذاً قائماً على الفهم والدراسة والعلم والعمل بالعلم، لا أخذاً قائماً على التعصب الفارغ والحماسة العاطفية. ثم يختم بنصيحة رائعة جداً يقول: فليحرص المسلمون على بداية أبنائهم، وتنقية ثقافة شبابهم؛ حتى نعود إلى أصالتنا، ونتحرر من الآثار المدمرة للغزو الفكري الدخيل القديم والحديث. انظر إلى كلمة: (على بداية أبنائهم) فهو ينبه على أن البداية مهمة جداً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن يقيض لك أهل السنة والجماعة عند نقطة البداية. ونماذج الحيرة والتلون بسبب البعد عن المنهج السلفي كثيرة، وكثير من أهل الكلام كـ الرازي والجويني وعامة علماء الكلام ندموا بعدما أنفقوا عمرهم في لا شيء. الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى -وهو من أفاضل علماء السلفيين المعاصرين، ومن علماء أنصار السنة- كان له قصة مع السلفية، فهو أراد أن يقدم دراسة عليا ينتقد فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال له أستاذه: ما وجدت أحداً أعفش -هذه عبارته- من ابن تيمية حتى تقدم فيه دراسة؟ قال له: أنا أعمل دراسة حتى أبين عفاشته! وأنا لا أدري هل هي كلمة فصيحة أم لا؟! لكن هذا هو اللفظ الذي سمعته، فذهب إلى الشيخ محمد منير آغا الدمشقي رحمه الله تعالى، وكان عالماً سلفياً، وكانت عنده مكتبة قيمة جداً، فشرح له مراده، فالشيخ محمد منير آغا تلطف بالدكتور خليل هراس رحمه الله، وما اشتد عليه، مع أنه قال: أنا أريد أن أبين عورات منهج ابن تيمية، وكان عنده فراسة وبصيرة، فماذا فعل؟ وفر للدكتور خليل هراس رحمه الله تعالى كتب شيخ الإسلام فأخذ ينهل منها وينهل، وإذا به ينتهي بالبحث المشهور المتداول الذي اسمه: ابن تيمية السلفي، وقد كان عنوان بحثه: ابن تيمية ليس سلفياً، فتحولت الرسالة إلى: ابن تيمية السلفي، فأصبح مدافعاً عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

من خصائص المنهج السلفي: أنه يحتكر مهمة تجديد الدين

من خصائص المنهج السلفي: أنه يحتكر مهمة تجديد الدين من خصائص السلفية: أن السلفية تحتكر مهمة تجديد الدين، لا يمكن أبداً أن يكون شخص يصدق عليه وصف مجدد وهو خارج من أهل السنة والجماعة، يشترط في المجدد أن يكون منتمياً إلى المنهج السلفي، وإلى منهج أهل السنة والجماعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)؛ لأنه إذا لم يكن المجدد من أهل السنة والجماعة فماذا سيجدد؟ لو كان المجدد خارجياً -مثلاً- فإنه سيضيع الدين، فمن شروط المجدد أن يكون ممتثلاً دعاء المؤمنين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] اجعلنا نقتدي بمن قبلنا فنصلح لأن يقتدي بنا من بعدنا. عندما نتكلم عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الكلام على معجزة هي من أقوى معجزاته عليه الصلاة والسلام، وهي آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في البشرية، فقد أحيا أمةً ميتة، وأخرجها من الهوان والذل والجهل إلى أن صيرها خير أمة أخرجت للناس.

المنهج السلفي طريق عزة المسلمين

المنهج السلفي طريق عزة المسلمين قال النبي عليه السلام: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) فالعز مرتبط بالرجوع إلى الدين. وتعلمون قصة عمر لما ذهب إلى بيت المقدس، فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ولما اقترب عمر من بحيرة صغيرة نزل عن الناقة وخلع نعليه ووضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام الناقة وخاض في الماء فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أنت تفعل هكذا؟! ما يسرني أن أهل الشام وبطارقة الشام استقبلوك، فقال رضي الله عنه: أوه! لو قال ذا غيرك يا أبا عبيدة لجعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم! وفي هذا فائدة: وهي مراعاة أقدار الرجال، قال: لو قال ذا غيرك لجعلته نكالاً، لكنه لم يفعل مراعاة لقدر أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح: قال: أوه! لو قال ذا غيرك يا أبا عبيدة لجعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، جملة شرطية وهي من صيغ العموم، مهما نبتغي العزة في غيره أذلنا الله، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فما دمنا نكفر بنعمة الله فإننا سنعود إلى ما كنا عليه أذل قوم، حتى إن أخبث خلق الله وأرذل خلق الله -وهم اليهود لعنهم الله- يذلوننا هذا الذل، ولا مخرج لنا منه إلا بالعودة إلى التماس العزة في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إن الباطل قد يعلو لكنه علو الزبد والاستكبار، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. قال عليه الصلاة والسلام: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وهذا أوضح دليل على أن التمكين لا يقع إلا بهذا المنهج، وتأملوا القضية! ليست قضية إقامة دولة، فهناك دولة تدعي زوراً أنها جمهورية إسلامية -وهي إيران- ولكنها وبال على الإسلام والمسلمين، وهناك صراع الآن يجري في أفغانستان بين هذه الفصائل المعروفة في أفغانستان، يقتل ويدمر بعضهم بعضاً كالوحوش الضارية ولا حول ولا قوة إلا بالله! وتأملوا موقفهم! ماذا كان موقفهم من العقيدة السلفية؟ قتل الشيخ جميل الرحمن بسبب منهجه السلفي، فهل هؤلاء يصلحون لأن يكونوا دولة إسلامية؟ لا بد أن يبنى البناء على أساس العقيدة والفهم الصحيح؛ الإمام مالك يقول: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لم يظهر دين محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأديان إلا بأهل السنة، فالصحابة جاهدوا وانتشروا في آفاق الأرض ينشرون نور الله سبحانه وتعالى في ربوع العالمين، وأحسنوا إلى البشرية هذا الإحسان. إذاً: كلمة الله هي المتمثلة في المنهج السلفي أحسن تمثل، ونحن لسنا الذين نرفعها، إنما نحن نرتفع بها؛ نحن نرتفع بهذا المنهج، وإذا سلكناه فإننا نكون مستحقين للتمكين الذي وعده الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، فكلمة الله لا يرفعها البشر؛ لأن كلمة الله مرفوعة على كل حال، ولذلك قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]؛ ويقول في الآية الأخرى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة:40] وإعراب: (السفلى) يكون مفعولاً به ثاني، والمفعول الأول (كلمة)، هذا في قوله: (وجعل كلمة) أما قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40] فهذا استئناف وليست معطوفة على ما قبلها وإلا لكانت منصوبة؛ لأن كلمة الله عليا في كل الأحوال، والباطل يرتفع مثلما يرتفع الزبد أو الفقاعات الهوائية على سطح الماء لفترة محدودة، لكن لا تلبث أن تتلاشى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلينا كي نرفع كلمته، لكننا نرتفع بكلمة الله، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]. فمنهج أهل السنة والجماعة هو الدواء الأمثل الذي يستطيع التعامل بنجاح مع الأجواء التي انتشرت في واقع المسلمين المعاصر تماماً كما فعل من قبلنا، فهذا الواقع الأليم ليس له حل إلا أن نرفع شعارين: الأول مع بعض التجوز: الإسلام هو الحل، الثاني: السلفية هي الحل. وقد سبق أن بينا أن الإسلام وحده لا يكون هو الحل، فالإسلام هو قرآن وسنة بفهم سلف الأمة، فإذاً: هناك شعار آخر، وحتمية الحل السلفي ليست مسألة اختيار، ولكنها طريق متعينة للتمكين لدين الله سبحانه وتعالى في الأرض، وأهمية ذلك تكمن في النماذج التي نراها. الدولة الشيعية في إيران دولة تدعي أنها إسلامية، وفيها شيء كثير من الأشياء الطيبة -إذا سمعت عن أحوالهم- لكنها على غير أساس من العقيدة الصحيحة، فهي وبال على الإسلام في الحقيقة، وهذا موضوع طويل وكبير جداً لا نستطيع أن نخوض فيه الآن، والأفغان ضيعوا منهاج النبوة، وانتشرت فيهم الشركيات، ولم يهتموا بتصحيح العقيدة، وحاربوا السلفيين الذين دعوهم إلى العقيدة، فكان ما كان وما نراه الآن من هذه المآسي. وأقول أخيراً: المنهج الوحيد الذي قدر على أن يقيم دولة في هذه العصور المتأخرة، وهو المنهج الوحيد الذي قام على منهج السلف: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، والتي لا زالت أصداؤها وبركاتها إلى اليوم وإلى ما شاء الله سبحانه وتعالى تتردد في ربوع العالمين.

من خصائص المنهج السلفي: أنه الميزان الحقيقي لكل الناس

من خصائص المنهج السلفي: أنه الميزان الحقيقي لكل الناس من خصائص المنهج السلفي أنه الميزان لجميع الناس، البشر غير معصومين، وهم الذين يوزنون به، فليس لأحد الحق في أن يحتكر مفتاح الدخول إلى السلفية عن طريقه، كأن يقول لك: وافقني وتابعني وإلا فأنت كذا وأنت كذا من هذه الألقاب التي يتنابزون بها، ويكفي للتدليل على أصالة هذه القاعدة أن أعظم من خدم المنهج السلفي من بعد القرن السابع هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن تيمية مع أنه أعظم من خدم هذا المنهج هو نفسه حوكم بالمنهج السلفي، فإذا افترضنا جدلاً صحة ما نسب إلى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم من القول بفناء النار، فماذا كان موقف علماء السلف من هذه القضية؟ مع أن منهم من يقول: هو لم يقل ذلك؛ لأن هذا كلام في غاية الخطورة، ففيه خرق للإجماع، ومنهم من اعتذر عنه، ومنهم من أول كلامه بأنه يقصد فناء طبقة معينة من النار وهي طبقة عصاة الموحدين. لكن هل يوجد أحد من علماء السلفيين وافق ابن تيمية لأنه ابن تيمية؟ لا نعرف هذا، فهذا يدل على أصالة هذا المنهج، وأن هذا المنهج هو الميزان، وأن السلفية لا تعرف صكوك غفران ولا بابيه، لا يوجد في السلفية: إن فلاناً هو باب إلى السلفية لا يمر إليها إلا من خلاله، ولا يتشرف بالمنهج أحد إلا إذا أعطاه الصك، فنحن لا نجزع إذا صدرت مخالفة أو اجتهاد خاطئ من بعض أعلام السلفية؛ لأننا نثق أن المنهج يعلو فوق الأشخاص، حتى إذا وجد خطأ من بعض من ينتسبون إلى السلفية فنكون مطمئنين تماماً؛ لأنه ما دامت الأرضية واحدة، والأصول التي يتحاكم إليها واحدة؛ فيسهل جداً حسم أمثال هذه القضايا.

علاقة المنهج السلفي بالتوحيد والعقيدة

علاقة المنهج السلفي بالتوحيد والعقيدة تعتبر العقيدة قطب رحى المنهج السلفي، وهي المحور الذي تدور عليه، وهذا من أعظم مناقب المنهج السلفي على الإطلاق، وهو القيام بصيانة جناب التوحيد، وتعظيم قدره، والتصدي لجميع المظاهر الشركية، ولا يعرف أحد يهتم بالتوحيد كما يهتم به علماء السلفيين في كل العصور، ويصح فيهم العبارة التي قالها البعض: ليس التوحيد علماً ينتقل منه إلى غيره، ولكنه علم ينتقل معه إلى غيره. فاهتمام السلفيين بقاعدة التوحيد، وإعطاء الأولوية المطلقة لدعوة التوحيد، هذا متوائم تماماً مع رسالة القرآن؛ لأن القرآن كله أمر بالتوحيد، والقرآن إما إخبار بالتوحيد، أو أمر بالتوحيد، أو تحذير من الشرك الذي يضاد التوحيد، أو بيان لدعوة الرسل للتوحيد، وموقف أممهم من التوحيد، وجزاء الذين يتبعون التوحيد، وجزاء الذين انحرفوا عن التوحيد، وحقوق التوحيد من الأحكام الفقهية والعبادة وغير ذلك، إذاً: كل القرآن في التوحيد. وأيضاً السلفية تعتبر أعمق مظاهر التغيير العقدي، لا تحتقروا هذه الوظيفة، كونك تأخذ بيد شخص وتخرجه من عقيدة زائفة صوفية شركية باطلة إلى عقيدة السلف هذا إنجاز في غاية الخطورة، فبعض الناس إذا ذكرت عنده كلمة التغيير يصرفها إلى مفهوم الانقلابات، وإلى إقامة حكم إسلامي، ويحتقر كل ما عدا ذلك من التغيير، فأعمق صور التغيير هي تصحيح عقيدة الناس، وهي بلا شك من أعظم وأقدس الوظائف التي يقوم بها المنهج السلفي.

الرد على من يزعم أن قضايا العقدية قضايا نظرية

الرد على من يزعم أن قضايا العقدية قضايا نظرية بعض الناس يسمون قضايا العقيدة قضايا نظرية، ويقولون: مالكم تحيون معارك تاريخية عفا عليها الزمان، ونحتاج إلى توضيح هذه الشبهة. أولاً: قولهم إنها قضايا نظرية. نقول: كيف تكون قضايا نظرية والاعتقاد والتصديق أساساً هو عمل القلب؟! الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] فالقلب يكسب ويعمل، ويبغض ويحب، ويوالي ويعادي، فهذا كله عمل قلبي، وهو ركن من أركان العبادات القلبية، والعبادات القلبية أخطر من كل أنواع العبادات الأخرى، وكبائر القلب أخطر من كبائر الجوارح، فنقول: ليست كل القضايا العقدية هي عبارة عن ردود أفعال تجاه معارك تاريخية، لا، أنتم تعرفون أن أي مذهب شيوعي أو ماركسي له جانب نظري اعتقادي أو أكاديمي كما يقولون، ثم هناك جانب تطبيقي بعد ذلك، فلا يوجد مذهب إلا ويلزم أن يكون له ميثاق نظري يضبط أصوله وقواعده. فكذلك هنا بالنسبة للمنهج السلفي أنت لا تستحق وصف الإيمان إلا إذا آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى، وهذا قول مجمل كما في حديث جبريل، وفسره القرآن والسنة، وأنت مطالب باستيعاب هذه النصوص بقدر استطاعتك حتى يصح وصفك بالإيمان. فإذا تأملنا مثلاً أعظم آية في كتابة الله، هل سيسميها هؤلاء القوم آية نظرية لا داعي للاهتمام بها، مع ما لها من الفضائل؟ أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى، نفي وإثبات، نفي النقص، وإثبات الكمال قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إلى آخر الآية. ما هي السورة التي هي تعادل ثلث القرآن؟ سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن، ليس فيها إلا صفة الله سبحانه وتعالى، فالعقيدة ليست قضية نظرية، وهذا من جهل هؤلاء الناس الذين يزهدون في تعلم التوحيد بحجة أنها قضايا نظرية ينبغي الاشتغال بما وراءها. ثانياً: إن الاهتمام بالقضايا العقدية إحياء لمعارك تاريخية. نقول: نعم، إذا كانت الفرقة قد انقرضت، وقامت مساجلات ومعارك بين أهل البدع وبين علماء السلفيين فيما مضى، وانقرضت هذه الفرقة الآن؛ فعموم الناس وعموم طلبة العلم لا يحتاجون إلى الخوض وتجديد وإحياء معارك قديمة، لكن إذا كانت الانحرافات والضلالات والبدع الضالة سائدة وموجودة فيتعين على المسلم أن يتعلم ما يدفع به هذه الشبهات، فمثلاً: من خصائص السلفية صيانة التاريخ السلفي، وتحديد موقفنا مما شجر بين الصحابة كما هو منصوص عليه في متون الاعتقاد، فهل هذه قضية تاريخية؟ انظروا في كتب التاريخ التي تدرس لعامة الطلبة في المدارس، بكافة مراحلها، كيف تتناول الصحابة رضوان الله تعالى عنهم؟ كيف تتناول معاوية رضي الله عنه؟ كيف تتناول عمرو بن العاص؟ عمرو بن العاص الذي له في عنقنا -أهل مصر- أعظم المنة، عمرو بن العاص الذي قيضه الله لأن ينقذنا من الكفر إلى الإيمان، ومن الظلمات إلى النور، عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ماذا يقال عنه في كتب التاريخ؟ تجد فيها سب بعض الصحابة، وهذا موجود، فهل يقال: هذا إحياء لمعارك تاريخية؟! دولة الرافضة موقفها من الصحابة لا يخفى، ولابد من توعية حتى لا يلتبس الأمر على الشباب. وهكذا قضية الاعتقاد في صفات الله، ما هو المذهب المعتمد الآن في مصر وفي كثير جداً من بلاد العالم الإسلامي؟ المذهب المعتمد هو منهج الأشاعرة أساساً، وفي بعض البلاد مذهب الماتريدية. يوجد الآن في عمان وبقاع من الجزائر وليبيا مذهب الإباضية من الخوارج، فضلاً عن الفرق التي ظهرت كفرقة التكفير والهجرة أو الخوارج الجدد. مذهب المعتزلة الآن منهج محترم تماماً، ويدرس منهجهم في الجامعة، ويتحدث عن أبطال المعتزلة، ومآثرهم في الإسلام وكذا وكذا!! وهذا موجود في كراسي الجامعة. فإذاً: الضلالات منتشرة في الحقيقة، ونحن نحتاج إلى المناعة من هذه الضلالات، وليست القضية قضية إحياء قضايا تاريخية كما يزعم هؤلاء الناس.

التفريق بين العقيدة وضوابطها

التفريق بين العقيدة وضوابطها هنا نقطة مهمة جداً، وهي تهتم ببذل النصيحة للسلفيين أسداها فضيلة الدكتور عمر الأشقر حفظه الله تعالى، وهي بعنوان: ضرورة التفريق بين العقيدة وبين ضوابطها، يقول الدكتور الأشقر حفظه الله تعالى: هنا أمر عظيم لا بد أن يتنبه إليه، ألا وهو الفارق بين العقيدة وبين القواعد والضوابط التي وضعها علماؤنا في تمييز معتقد أهل السنة حماية لهم من أن يلتمس بغيره، ومخافة أن يضل المسلمون في باب الاعتقاد، والاعتقاد: هو العلم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وقد تكفل الكتاب والسنة بتوضيح هذه الأصول توضيحاً ليس عنه بديل. لا بد من أجل أن تدرس العقيدة وتكون مؤمناً مستحقاً لوصف الإيمان أن تعرف كيف تؤمن بالله؟ كيف تؤمن بأركان الإيمان الستة؟ أما ضوابط الاعتقاد: فهي تلك القواعد المنهجية التي تعصم صاحبها من الضلال في باب الاعتقاد، وقد وضع علماء أهل السنة والجماعة هذه القواعد في مقابل انحرافات الفرق الإسلامية في مجال الاعتقاد، فإن عامة المتون التي ألفت أو الكتب التي ألفت في شرح عقيدة أهل السنة والجماعة هي تدور حول قضايا أصول الدين في مقابلة الانحراف في هذه القضايا، وهي أحياناً لا تستوعب جميع القضايا، إنما فقط تخص القضايا التي تحقق اختلافاً في العقيدة، فيأتي بعقيدة أهل السنة والرد على البدع الضالة في نفس هذه العقيدة، فهذه الضوابط في غاية الأهمية لأنها تعصم من الانحراف في مجال الاعتقاد، وتحصن المسلم ضد تلك الانحرافات وذلك الضلال، فالعالم بهذه الضوابط يعرف كيف يرد على شبهات الخصوم ودحضها، وتحتاج دراستها إلى وقت طويل، لكن يقول الدكتور الأشقر: وأحب أن أقرر هنا أن هذه الضوابط والقواعد مع عظيم أهميتها لا يمكن أن توجد العقيدة الحية النابضة الدافعة إلى العمل والجهاد والمجاهدة، إن العقيدة التي ننشد إقرارها في أعماق النفوس وخفايا القلوب لا يمكن أن تبنيها القواعد الجافة، والضوابط المقننة، إن هذه الضوابط كالحائط الذي يوضع على حافة الطريق ليمنع السالكين من الخروج عن الجادة السوية، ولكن الحواجز التي تحجز السالكين عن الانحراف لا يمكن أن تمنح السالكين القوة الدافعة التي تجعلهم ينطلقون في مسارهم بالسرعة المطلوبة؛ إن الذي يوجد القوة الدافعة النابضة في أعماق النفوس لون آخر من العقيدة، وأعني بذلك العقيدة التي تقوم على العلم الذي يسوقه القرآن والسنة في الحديث عن الله وعظمته وقدرته، ورحمته وهدايته، وأفعاله في خلقه. وهو نقل هذه المسألة عن السفاريني حيث يقول: فما ينبغي أن يعلم أن القواعد الكلامية ما رتبت هذا الترتيب وبوبت هذا الترتيب لتؤخذ منها الاعتقادات الإسلامية والقواعد الدينية، بل المقصود منها ليس إلا دفع شبه الخصوم، ودحض نهج أهل البدع والضلال. ثم يقول الدكتور الأشقر: وإذا كان الأمر على ما بينت فإن مسايرة العاملين بالإسلام تحتاج إلى شيء من المراجعة والتدقيق، فليس العقائديون هم الذين يعلمون ضوابط العقيدة وحدها، ويعنون بها عنايةً كبيرة، ثم يظنون أنهم حققوا المطلوب، وأصبحوا الفئة المختارة المتميزة عن غيرها، إن معرفة الضوابط والعلم بها أمر ضروري ولكنه لا يكفي، والذي يجب أن تشغل به الجماعات ويشتغل به الأفراد شغلاً كبيراً هو بناء المعرفة الواسعة بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر. تعرفون مجموعة الدكتور الأشقر (العقيدة في ضوء الكتاب والسنة) هذه هي العقيدة، وبعض كتب التوحيد تفصل الاعتقاد مثل معارج القبول مثلاً، وبعض الكتب العقدية فيها بعض الزلل، وهي لا تكفي في استيعاب العقيدة التي تتفاعل مع الخلق كما قال تبارك وتعالى في شأن المؤمنين: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:26 - 27] فالإشفاق يحصل من التصديق الذي يترتب عن التأثر بهذه النصوص.

من خصائص المنهج السلفي المهمة

من خصائص المنهج السلفي المهمة من خصائص السلفية سد ذرائع الشرك، والكلام في هذا طويل جداً. كذلك: السلفية درع الأمة الواقي من الضلالات القديمة والمعاصرة، ومعروف كلام السلف في ذم أهل الهوى والبدع، وكيف حذروا منهم، وهذا موضوع مستقل، وهناك مواقف محددة للسلفية من هذه الفرق مثل الأشاعرة الماتريدية الشيعة الخوارج المعتزلة الصوفية وأيضاً الفرق المعاصرة. كذلك من خصائص السلفية: التزكية التي هي وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، فالسلفية لا بد أن ينعكس فيها السلوك العملي، فنحن لا نجزئ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هدي محمد صلى الله عليه وسلم شامل في كل أحواله، في عقيدته في عبادته في جهاده في سلوكه، فالسلفية لها منهج شامل لكل نواحي الحياة. عن عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلةً عند أحمد بن حنبل فجاءني بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل! هذا هو المنهج السلفي، فيحتاج الأمر للمقارنة بين منهج التزكية -تصفية النفوس وتزكيتها- عند أهل السنة الجماعة والصوفية، لكن نحيل إلى مصادر تتتبع أحوال السلف في جانب العبادة مثل كتاب حلية الأولياء وسير أعلام النبلاء. كذلك من خصائص السلفية: الاتباع، فإن الاتباع هو ثمرة محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمرنا به في القرآن، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فالسلفية موقفها معلوم من التقليد والمذهبية والاتباع، وجهود السلفية كبيرة في تطهير الأمة من أدران البدع بأنواعها، وبلا شك فإن السلفية أبعد الجماعات من البدع، وهذا أمر لا يجادل فيه أحد. كذلك من خصائص السلفية: أنها علاج لمرض الفرقة، بل هي العلاج الوحيد الناجع لمرض الفرقة، ويكفي أنها دائماً تقترن بأهل السنة والجماعة، فالسلفية تجمع على الحق، وليست تجمعاً على حساب الحق، بعض الناس العاطفين يتألمون لفرقة المسلمين، لكنهم لا ينهجون منهجاً علمياً في التجميع، بل قد يكون تجمعهم على حساب الحق، يقول لك: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فهل نعذر الشيعة في اعتقادهم بتحريف القرآن؟! هل نعذر الخوارج بتكفيرهم الصحابة؟ نقد هذه القاعدة موضوع مهم وكبير، ولكن كما قلنا: السلفية تجمع على الحق، التجمع شبه كلمة (الجماعة)، على الحق شبه كلمة (السنة)، فهم أهل السنة والجماعة، تجمعوا على الحق، وليس تجمعهم على حساب الحق. يقول تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137]؛ فإذا خرجنا عن المثلية وقعنا في الشقاق، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103]، وقال عليه السلام لما أخبر بوقوع الفرقة: (فعليكم بسنتي) فهذا هو علاج الفرقة، (وإياكم ومحدثات الأمور!) فالبدع تفرق كما ذكرنا.

منهج السلف هو المنهج الوحيد الذي يتبنى مبدأ إصلاح ذات البين

منهج السلف هو المنهج الوحيد الذي يتبنى مبدأ إصلاح ذات البين منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الوحيد الذي يتبنى بحق مبدأ إصلاح ذات البين، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]. مما يمارسه علماء السلفيين ودعاة أهل السنة والجماعة من تنقية العقيدة من الشوائب، وتطهير المنهج من الأدران، وتوضيح المنهج الصحيح؛ كل هذا الجهاد هو عين إصلاح ذات البين، أما أن نقول: إن إصلاح ذات البين أن نؤلف رابطة مشتركة بين الشيعة والسنة والخوارج والجهمية والقدرية والقرآنيين وكل هؤلاء الضلال، فهذا تجمع على حساب الحق، وليس تجمعاً على الحق. إصلاح ذات البين مارسه أئمة السلفيين في كل العصور، مارسه ابن عباس حينما حاور الخوارج، فإصلاح ذات البين: أن تنقذهم من الفرق النارية، وأن تعيدهم إلى الفرقة الناجية، هذا هو إصلاح ذات البين، وهذا هو الفهم الصحيح لإصلاح ذات البين. الإمام أحمد أصلح ذات البين عندما صبر أمام البدعة رغم امتحانه، وشيخ الإسلام ابن تيمية أصلح ذات البين بجهاد الفرق الضالة. يوجد كلام طيب جداً للدكتور سفر الحوالي في كتابه: منهج الأشاعرة في العقيدة، فيه الرد على الذين يطالبون بالتجميع العاطفي بين أهل السنة والجماعة وغيرهم، وهو كلام في غاية القوة، وفيه رد على قاعدة المنار التي يسمونها القاعدة الذهبية، ويبدو أنها ذهب مزيف! فبعض الناس يقول: أنتم تفرقون بين المسلمين، والكلام في التوحيد يفرق بين المسلمين! فنقول: إذا كان الكلام في التوحيد هو الذي يفرق فهذا تفرق مطلوب؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام فرق بين الناس، يفرق بين الحق وبين الباطل. ونقول: من أراد توحيد المسلمين فأيدينا في يده، والباب مفتوح على مصراعيه، ونشترط عليه فقط أن يرجع إلى منهج أهل السنة والجماعة، ويتبنى المنهج السلفي، فلا طريق لتوحيد المسلمين إلا أن يتجمعوا على هذا المنهج. والسلفية: عبارة عن فكر واحد لكل العقول، وهذا يؤدي إلى حل واحد لكل المشاكل في الغالب، إذا توحدت العقيدة والمواقف فإنك تجد أن هناك أشياء لا يمكن أن يتورط فيها سلفي، لما قامت ثورة الخميني عليه من الله ما يستحقه، تورط كثير من قادة العمل الإسلامي للأسف الشديد، وإلى الآن لا يستحون من مدح الخميني ويسمونه إمام المسلمين! والسلفيون على غير تواطؤ منهم في شتى بقاع العالم لم يقعوا في هذه الزلة، لا يعرف أن سلفياً واحداً تورط في موالاة الخميني ودولته الشيعية، هل هناك تواطؤ؟ وهل عملوا مؤتمراً ووحدوا فيه الموقف؟ لا، إذا توحدت المفاهيم والأفكار والموازين ينشأ عنها تلقائياً توحد المواقف، فالنجاة من النار بأن تكون على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهؤلاء يلعنون أصحابه، ويكفرونهم، ويشتمون جميع أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فكيف تكون النجاة سالمةً مع هؤلاء المجرمين؟ هذه قضية كبيرة، لكن نقول باختصار شديد: التجميع العاطفي هو إضافة أمراض إلى أمراض الأمة، وتضليل للأمة، والتجميع الصحيح هو قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وهذا هو الحل الصحيح لهذه المشكلة.

نقد بعض القواعد المشاعة في العصر

نقد بعض القواعد المشاعة في العصر هناك قواعد مضادة للسلفية يتحاكم إليها بعض الناس ينبغي التحذير منها، من هذه القواعد: تقديم العقل على النقل. وقولهم: منهج السلف أسلم ومنهج الخلف أعلم وأحكم، ومعناه: أن الخلف أعلم من السلف، وحجتهم في ذلك: أن الخلف ألفوا مئات المجلدات، والسلف ما ألفوا، ويظنون أن كثرة الكلام تدل على كثرة العلم، وهذا جهل، وقد تصدى لبيان هذا الأمر الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه: فضل علم السلف على الخلف. ومن هذه القواعد قول البوطي: السلفية فترة زمنية مباركة، وهذا ضلال، لا، السلفية ليست فترة زمنية مباركة، السلفية منهج شامل وممتد إلى آخر الزمان: (لا تزال طائفة من أمتي) أي: باستمرار. وتوجد عبارة يقولها بعض الإخوة الأفاضل، وينبغي التحرز منها وهي قولهم: سلفية المنهج عصرية المواجهة، السلفية ينبغي ألا تعطى بعداً زمنياً، ونحن نتسلح بقواعد المنهج السلفي، ونتعامل مع كل المتغيرات ومع كل العصور، بمعنى آخر: نتعامل مع المستجدات بالأسلوب الذي كان سيتعامل به الصحابة وأئمة السلف لو عاشوا في عصرنا. وهذه قاعدة يساء تطبيقها: (من لم يكفر الكافر فهو كافر)، فيستعملها بعض الخوارج الجدد لإرغامك على أن تتبنى تكفير المسلمين، ولا يطبقونها في موضعها الصحيح. يبقى الكلام على مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأعلام السلفية في العصر الحديث كالشيخ محمود شكري الألوسي والقاسمي والشيخ محمد بهجت البيطار والإمام عبد الحميد بن باديس والعلامة أحمد شاكر والشيخ محمد حامد الفقي والدكتور هراس والشيخ عبد الرزاق عفيفي وهناك كثير من العلماء المعاصرين معلومون لدينا جمعياً. أيضاً هناك بحث حول السلفية في مواجهة التحديات، والصراعات في شتى أحقاب التاريخ بين السلفيين ومخالفيهم، وهذا موضوع طويل. وهناك مناقشة للموقف من العلماء الذين أولوا بعض الصفات أو خالفوا المنهج السلفي في بعض القضايا، هذه المسائل نرجو إن شاء الله أن نبينها فيما بعد.

هل نحن سلفيون حقا؟

هل نحن سلفيون حقاً؟ هل نحن سلفيون حقاً؟ قد عرضنا بحسب الاستطاعة، ولكن نحن مطالبون بالنقد الذاتي حتى لا نظلم السلفية ونسيء إليها، وعلينا أن نراجع أنفسنا كثيراً جداً، والآن ينتشر إهمال دارسة التوحيد، وإهمال ضبط ضوابط العقيدة السلفية، وقد حصل من إهمال العقيدة نفسها نتوءات موجودة في بعض السلفيين ومنها: تطاول البعض على الأئمة والعلماء، وادعاء أن هذا من ملامح السلفية. تسرب المظاهر الحزبية العصبية الجاهلية في التعامل مع الآخرين، بل وظهور التحزب. عدم التثبت في النقل، ولا بد من احترام المنهج السلفي في كثير من الاتهامات، والتشنيع على كثير من الدعاة ما حصل إلا بسبب عدم احترام المشنعين للمنهج السلفي الذي ينتمون إليه، فالتحقق والتثبت في النقل قل التورع فيه عند كثير من الدعاة. كذلك موضوع الجدل والمراء، والتنطع بكثرة الأسئلة، وتشديق الكلام، فهذا كله يخالف المنهج السلفي، وغير ذلك من الأشياء التي نرجو إن شاء الله تعالى فيما بعد أن نفصلها.

أبرز علماء الجماعة السلفية ابن تيمية

أبرز علماء الجماعة السلفية ابن تيمية نختم الحديث عن أبرز أعلام السلفية بعد الإمام أحمد، ونحن نحتاج إلى دراسة تراجم للأئمة السلفية، وبالذات المحطات الرئيسية، مثل أحمد بن حنبل ابن تيمية محمد بن عبد الوهاب لكن ابن تيمية أنا أسميه: رجل كل العصور، وشيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر نادرة الزمان في الحقيقة، وهو باعث النهضة السلفية، ومجدد الدين بلا نزاع رحمه الله تعالى، شيخ الإسلام ترك آثاراً في كل العصور التي جاءت بعده إلى اليوم، وكثير من القضايا الدعوية والعلمية في شتى مجالات المعرفة الإسلامية نحتاج فيها إلى أن نغترف من مائدة شيخ الإسلام ونقتبس من أنوار كلماته، وهي قضايا معاصرة كثيرة جداً مثل: قضية الحزبية الجاهلية، وقضايا تصنيف الناس، وقضايا البرلمانات، وقضايا العمل الجماعي يعني: قضايا كثيرة جداً من القضايا الحيوية والواقعية، ونتعامل مع كتب شيخ الإسلام كأنه يعيش معنا في نفس الواقع، ونستفيد جداً من كتبه، أنا أقتبس عبارة قالها الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري المعروف رحمه الله تعالى، عبارة لو أنصف الناس لانتبهوا لها جيداً يقول: اجتهاد ابن تيمية وتراثه يمثل الترسانة الفكرية التي لا زالت تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية إلى اليوم.

ثناء ابن شيخ الحزامي على ابن تيمية

ثناء ابن شيخ الحزامي على ابن تيمية ممن حثوا على الاحتفال بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية الشيخ عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي المعروف بابن شيخ الحزاميين رحمه الله تعالى، فهذه بعض العبارات التي يقولها في هذه الرسالة: إلى فلان وفلان وفلان وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم، وشيخنا السيد إمام الأمة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفائق عن الحقائق وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلا قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم، ونسيت الأمة حذوهم، فذكرهم بها الشيخ، فكان لدارس نهجهم سالكاً، ولموات حذوهم محيياً، ولأعنة قواعدهم مالكاً، الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى. وابن تيمية نشأ في بيت علم، أبوه وجده أئمة، وجده هو المجد بن عبد السلام يقولون فيه: كان إماماً جليلاً، وكان نجماً لكنه لم يظهر بسبب نور الشمس وضوء القمر، نور الشمس يعني: حفيده شيخ الإسلام، وضوء القمر والد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى؛ لأن شيخ الإسلام سطع نوره بحيث غطى على أبيه وجده رحمهم الله تعالى أجمعين. ثم يقول مخاطباً السلفيين في عصره: واعلموا أيدكم الله -وهو من تلامذة شيخ الإسلام - أنه يجب عليكم أن تشكروا ربكم تعالى في هذا العصر، حيث جعلكم بين جميع أهل هذا العصر كالشامة البيضاء في الحيوان الأسود، لكن من لم يسافر إلى الأقطار، ولم يتعرف أحوال الناس، لا يدري قدر ما هو فيه من العافية، فأنتم إن شاء الله تعالى في حق هذه الأمة الأولى، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وكما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج:41]، أصبحتم تحت سنجق -يعني: لواء وراية- رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى، مع شيخكم وإمامكم، وشيخنا وإمامنا، فقد تميزتم عن جميع أهل الأرض -فقهائها وفقرائها، وصوفيتها وعوامها- بالدين الصحيح. ثم ظل يسرد الفروق بينهم وبين هذه الطوائف التي ذكرها في كلام رائع جداً في الحقيقة فقال: ثم اعرفوا -إخواني- حق ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك، واعرفوا طريقكم إلى ذلك، واشكروا الله تعالى عليه، وهو أن الله أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب، وكشف به عن البصائر عمى الشبهات، وحيرة الضلالة، حيث تاه العقل بين هذه الفرق، ولم يهتد إلى حقيقة دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أن يقول أيضاً: فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من يبين لكم أعلام دينكم وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبين لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافتهم إلى آخره. ثم يقول: ثم إذا علمتم ذلك فاعرفوا حق هذا الرجل -الذي هو بين أظهركم- وقدره، ولا يعرف حقه وقدره إلا من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه وقدره، فمن وقع دين الرسول صلى الله عليه وسلم من قلبه بموقع يستحقه عرف حق ما قام به هذا الرجل بين أظهر عباد الله، يقوم معوجهم، ويصلح فسادهم، ويلم شعثهم جهد إمكانه في الزمان المظلم الذي انحرف فيه الدين، وجهلت السنن، وعهدت البدع، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخطره لا يعرف. ثم يقول: فالله الله في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حرماته في الغيب والشهادة، وحب من أحبه، ومجانبة من أبغضه وتنقصه، ورد غيبته والانتصار له في الحق. ثم يقول أيضاً في شيخ الإسلام: واعلموا -رحمكم الله- أن هنا من سافر إلى الأقاليم، وعرف الناس وأذواقهم، وأشرف على غالب أحوالهم، فوالله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم علماً وعملاً، وحالاً وخلقاً، واتباعاً، وكرماً وحلماً في حق نفسه، وقياماً في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدق الناس عقداً، وأصحهم عزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفاً، وأكملهم اتباعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسنتها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقةً، إذا علمتم ذلك -أيدكم الله تعالى- فاحفظوا قلبه، فإن مثل هذا قد يدعى عظيماً في ملكوت السماء، واعملوا على رضاه بكل ممكن، واستجلبوا وده لكم وحبه إياكم بمهما قدرتم عليه، فإن مثل هذا يكون شهيداً، والشهداء في العصر تبع لمثله. ثم يقول أيضاً: فإني أستخير الله تعالى، وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل وأقول انتصاراً لمن ينصر دين الله بين أعداء الله في رأس السبعمائة، فإن نصرة مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن كما قال ورقة بن نوفل: لئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً.

ثناء ابن القيم على ابن تيمية

ثناء ابن القيم على ابن تيمية ابن القيم نفسه رحمه الله تعالى ما هو إلا شعاع من نور ابن تيمية، وإلا فأشعة شيخ الإسلام كثيرة كـ ابن القيم وابن عبد الهادي وابن كثير والذهبي وغيرهم من الأئمة، كلهم أشعة من نور شيخ الإسلام، وقد حكى ابن القيم قصته مع شيخه في شعره المشهور فقال: يا قوم بالله العظيم نصيحةً من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني حبراً أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران أخذت يداه يدي وسار فلم يلن حتى أراني مطلع الإيمان وأبصرت أسوار المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن وأبصرت آثاراً عظيماً شأنها محجوبةً عن زمرة العميان إلى آخر كلامه في النونية المعروفة.

ثناء ابن مري على ابن تيمية

ثناء ابن مري على ابن تيمية آخر شيء نختم به الكلام هذه الرسالة القيمة، وهي عبارة عن قطعة من مكتوب الشيخ الإمام الزاهد شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية كتبه إلى حنابلة دمشق يعزيهم بالمصاب بعد وفاة الشيخ، ويوصيهم بنسخ تآليفه من المسودات والاحتفاظ بها، وبمراجعة الإمام ابن القيم، ويبشرهم بالعاقبة الحسنة، ويذكرهم بأخلاق الشيخ عليه الرحمة والرضوان. وقد تعجبت من فراسة هذا الرجل، لما بلغه موت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أرسل يعزي أصحاب الشيخ رحمه الله تعالى، وعلى رأسهم ابن القيم في المصيبة الجلل التي وقعت بوفاة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وأوصاهم وقال عبارات هي في غاية الروعة. فيقول مثلاً: وكما انتفع بكلام الأئمة قبله، فكذلك ينتفع بكلامه ممن بعده إن شاء الله تعالى، أي: كما أن ابن تيمية أسس مذهبه على اتباع الأئمة الماضين فسوف يكافئه الله بأن يجعله إماماً يقتدي به من يأتي بعده. تعرفون أن الدعوة الوهابية ما هي إلا صدى تطبيقي لدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وأنتم تعرفون الآن الاهتمام العجيب بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية مما يدل على أن هذا بركة إخلاصه والقبول الذي وضع لعلمه رحمه الله تعالى، رغم الحرب الضروس التي حوربت به مؤلفات شيخ الإسلام؛ حتى إن الأمير عبد القادر الجزائري هذا كان أخذ على نفسه أن يستأصل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يبحث عن كتب شيخ الإسلام، فمن كان عنده شيء منها أحرقه، ولعلكم تعرفون أن شارح الطحاوية أبهم اسمه، وكتاب: غاية الأماني في الرد على النبهاني طبع بغير اسم المؤلف محمود شكري الألوسي؛ لشدة الاضطهاد الذي كان يمارس في زمن الدولة العثمانية لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والعجيب أنه إلى اليوم يوجد في تركيا مراكز تنشر كتباً ومطبوعات توزعها مجاناً، وبعض هذه الكتب تشتم شيخ الإسلام، وتشتم الدعوة الوهابية بطريقة مضحكة، إلى الآن تركيا التي وصلت إلى ما وصلت إليه ما زالت بعض الهيئات هناك تقوم بمحاربة الدعوة السلفية. فالشيخ محمود شكري الألوسي أبهم اسمه خوفاً من الاضطهاد الذي كان سيتعرض له لو جهر باسمه على أنه سلفي؛ كذلك شرح الطحاوية لـ ابن أبي العز بقي الكتاب مدة كبيرة لا يعرف مؤلفه؛ وعلة ذلك أن السلفيين كانوا مضطهدين في ذلك الزمن. فانظر سبحان الله! كيف مرت العصور والأجيال، وها نحن اليوم نشاهد الأمة تنتفع الآن بتراث شيخ الإسلام. ثم يقول: ووالله -وتأملوا هذه العبارة العجيبة- إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه وتعالى لنصر هذا الكلام ونشره، وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم! وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصي عدده غير الله تعالى، ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أخرج طريداً ثم مات بعد ذلك غريباً، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما كان لا يخطر في بال، وشيخ الإسلام مات وهو في السجن، والدولة كانت ضده، لكن انظر إلى احتفال الأمة به وبتراثه. وقد ذكر هنا أن البخاري طرد ومات غريباً رحمه الله تعالى، وعوضه الله سبحانه وتعالى عن ذلك بما لا خطر في باله ولا مر في خياله، من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن؛ وذلك لكمال صحته، وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب، ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير إن شاء الله تعالى؛ لأنه كان بنى جملة أموره على الكتاب والسنة، ونصوص أئمة سلف الأمة، وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده، ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخالفة أحد من الناس في نصرة هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة، وتسهيل العبارات، وجمع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب بحقائق فصل الخطاب ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين. يقول: فكانت مقاصده وتحقيقاته في هذا الباب العظيم عجباً من عجائب الوجود. ثم يوصيهم بشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول لهم: تلميذه ابن القيم حافظوا عليه، هو أعلم الناس بعلم شيخ الإسلام. ولو قرأتم الرسالة فهي شيء عجيب يقول لهم: انتبهوا! كتاب شيخ الإسلام في الفلسفة كتاب لا نظير له في الرد على الفلاسفة، توجد منه نسخة عند الشيخ فلان، وناقصة منها الورقة الأخيرة، فابحثوا عنها في المكان الفلاني، يعني: كان يعطيهم تعليمات على الرغم من البعد، ويبين لهم كيف يحصلون على هذا التراث لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم يوصيهم بـ ابن القيم وكنيته أبو عبد الله يقول: والشيخ أبو عبد الله سلمه الله فهو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر العظيم فأعدوه، وأزيلوا ضرورته، واجمعوا همته، واغتنموا بقية حياته، واقبلوا نصيحتي فيمن الحقيقة من هذا كله كما كنت أتحقق، إن اغتنام أوقات الشيخ وجمعها على التأليف والإتقان والمقابلة خير من صرفها في مجرد المفاكهة اللذيذة والمنادمة، النفوس فرطت كثيراً في ذلك الحال، والله المسئول بأن يكفها مضرة كمال الفوت الذي لا يعوض عنه بحال إنه رءوف رحيم جواد كريم؛ فإن يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة صارت إن شاء الله مؤلفات شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعة الله). فهو يقول لهم: حافظوا على تراث شيخ الإسلام حتى تأتي أجيال فيما بعد تنتفع بهذا التراث؛ لأن الرسول قال: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعة الله) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

دور المرأة في التربية والدعوة إلى الله

دور المرأة في التربية والدعوة إلى الله لقد كرم الدين الإسلامي المرأة، وجعل لها حقوقاً وجعل عليها واجبات، وأناط بها أعظم وأهم وظيفة، ألا وهي القيام على إعداد الأجيال الذين سيكونون هم حملة هذا الدين، فأنعم بها من مهمة وأنعم به من قائم بها حق القيام. إن دور المرأة في التربية لهو النواة الأساسية لقيام المجتمعات القوية المترابطة المتماسكة، وكذلك في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

ضرورة المحافظة على الفطرة منذ الصغر وأهميتها

ضرورة المحافظة على الفطرة منذ الصغر وأهميتها الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن المسلمين لما صحوا من غفلتهم رأوا الهوة بينهم وبين الإسلام عميقة، فقد علموا أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أيقنوا أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشدنا لمنع هذه الفجوة، ويقودنا في المقام الأول -كي نصلح أحوالنا- إلى أن نسلك نفس النهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الاهتمام بتربية الجيل الأول -الجيل القرآني الفريد- ببناء المجتمع المسلم، وبناء النواة الأساسية له، ألا وهي الفرد المسلم، وكثرت بعد ما يسمى بالصحوة الإسلامية البيوت الإسلامية، وتضاعف عددها عن ذي قبل عشرات، بل مئات المرات، هذه البيوت ينتظر منها أن تقدم اللبنات، أولئك الأفذاذ الذين يشكلون أعمدة رأسية في البناء؛ كي تحمل ثقل هذا البناء فيما بعد، واليوم يعد البيت من أهم المؤسسات التربوية، ودوره أخطر من دور المدرسة والشارع والمجتمع بإعلامه وأنديته وأجهزته، فالبيت يتسلم الطفل من البداية في أهم وأخطر مراحل حياته، فالطفل يولد على الفطرة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فإذا قدر لهذا المولود بيئة سليمة نقية حافظت على هذه الأمانة، وهي نقاء الفطرة وصفاؤها، ورسخت في قلبه العقيدة والتوحيد والولاء لله عز وجل ولرسوله. وأذكر هنا قصة ذكرها أستاذنا الدكتور محمد الصبار حفظه الله تعالى عن الشيخ مالك بن نبي الفيلسوف الجزائري المعروف، فقد جاءه رجل ولدت له بنت، فسأله عن نصائحه وتوجيهاته في تربية البنت، فقال: كم عمرها؟ قال: ثلاثة أشهر. قال: فاتك القطار، فاتك القطار. فقال بعد ذلك: ظننت أني كنت مبالغاً في هذا الجواب الذي أجبت به ذلك المستنصح. يقول: لكنني لما تأملت حال الناس وجدت أن ما قلته عين الإصابة، وأنني لم أخطئ ولم أبالغ في قولي لهذا الرجل: فاتك القطار؛ لأنه تأخر عن الاستعداد لتربية ابنته لمدة ثلاثة شهور أو تزيد. يقول: وذلك أن الأم إذا عودت طفلها من اللحظات الأولى على أنه كلما صرخ تلقمه الثدي كي يرضع وتسكته بذلك فإن هذا يشب على نفس هذا الأسلوب التربوي، فكلما ضربه اليهود تراه يفزع إلى مجلس الأمن صارخاً وباكياً! ففي الحقيقة أن الطفل شديد الصلة ولصيق الصلة بأمه التي تعد العماد الأساسي للعملية التربوية، وأي خطأ ترتكبه الأم الجاهلة خاصة في هذه المراحل الأولى فإنه ينعكس في مراحل بعيدة جداً من حياة هذا الصغير. والغربيون نجحوا أيما نجاح في دراسة هذه الأمور وتحليلها ودراستها من الناحية النفسية، حتى عرف عنهم أن الأم تبدأ في تربية الطفل قبل أن يولد، فإن الأم في فترة معينة من مراحل نمو الجنين وهو في بطنها تبدأ تمرنه وتعوده على حركات معينة تفعلها، بل إنها تكلمه حتى يتعود على صوتها وهو في داخل رحمها، وتعوده على بعض التعبيرات حتى إذا ما خرج يكون قد ألف هذا الصوت، وتقفز لذلك مراحل كثيرة. أما نحن فنظل ننظر إلى الطفل في أغلب أحوالنا على أنه مضغة لحم، وأنه لعبة ملهية نتسلى بها ونضحك بها، ويشب على المبالغة في التدليل الذي يفسده، ونعامله دائماً على أنه طفل، وعلى أنه صغير، نحقره ونهمله ولا نهتم به، وهذه من التربية المنحرفة. فالطفل يبدأ حينما يولد بالتعرف على الأم، فأول ما يبدأ يتعرف على أمه برائحتها، ثم بعد ذلك يتعرف على أمه بصوتها، وتكون لغة الأم هي أول ما يخلده ذلك الطفل. ومن المعلوم أيضاً أن أثر غياب الأم بالذات في هذه المراحل الأولى من التغذية يفوق أثر غياب الأب على الأطفال، ونلمح ذلك من حكمة الشريعة الحنيفية حينما شرعت حق الحضانة في هذه المراحل الأولى للأم؛ لأن الأب لا يستطيع أن يقدم ما تقدمه هذه الأم. ومما يدل على خطورة هذه المرحلة طول الفترة التي يقضيها الطفل في البيت أطول من غيرها، كذلك الوالدان هما أقرب الناس إلى الطفل، وينحصر الطفل في مصادر التلقي التي يتلقى منها القيم والمفاهيم والآداب والأخلاق فقط بصفة أساسية في والديه، ويكون أبواه في عينيه أعظم إنسانين في الوجود، فيتلقى كل ما يلقيان إليه بقبول مطلق، لذلك فإن مهمة الأبوين ومهمة الأم المسلمة والأسرة المسلمة في المقام الأول هي المحافظة على هذه الفطرة التي فطر الله تبارك وتعالى عليها الطفل.

وظيفة البيت في التربية وأهميتها

وظيفة البيت في التربية وأهميتها مرحلة الطفولة الإنسانية في بني الإنسان أطول منها في سائر الكائنات الحية الأخرى، وما كان ذلك كذلك إلا من أجل أن تتوافر فترة أطول لتربية هذا الكائن المتميز، مما يؤكد خطورة وظيفة البيت في التربية؛ لأن المدارس الإسلامية في العالم الإسلامي الآن قليلة مع وجود كثير من القيود، وفي بعض البلاد تقوم المدارس التي تصنع المستقبل عن طريق صياغة عقول هذه الأجيال وهؤلاء الأبطال، فهي في الحقيقة لا تقصر فقط في تربيتهم التربية الإسلامية التي تؤهلهم كي يكونوا جنوداً لدين الله تبارك وتعالى، ولكي يحملوا الرسالة التي حملها أجدادهم وآباؤهم، وإنما تقوم بالعكس، تقوم بدور تخريبي لإفساد فطرة الأبناء عن طريق المناهج المسمومة، ومن ذلك ما يحصل من بذر بذور الشك في الدين والإيمان، والطعن في الإسلام، وتحطيم حاجز الولاء والبراء بين المسلمين والكافرين، ونسف أخلاق الإسلام نسفاً، وزرع الأفكار العلمانية والأفكار الشركية، ونفخ روح النعرات الإقليمية -خصوصاً الوطنية منها- كالنعرة الفرعونية، وغير ذلك من النعرات، وكذلك تهوين المعاصي على الأبناء. فنشاهد أن مناهج التعليم تقوم أساساً بدور تخريبي هدام، وكان حرياً بمن شاركوا في فتح هذا الشر المستطير وأعلنوا المؤامرة على التعليم، كان الأولى -لو أن هذه الأمة بقي فيها حياة وغيرة على دينها- أن يحاكموا محاكمة مجرمي الحرب بتهمة الخيانة العظمى؛ لأنهم يدمرون الدين في نفوس الأجيال، ويقتلون الرابطة بينهم وبين دينهم، ويريدون أن يخرجوا أجيالاً تكره الله وتكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أولى من أن يصعد أحدهم إلى منصب أعلى أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى لله ولرسوله وللمؤمنين، ولن نستطرد، وأذكر مثلاً واحداً على موضوع المؤامرة على التعليم والمناهج التعليمية التي يدرسها الآن أبناؤنا: فهناك كتاب (قواعد اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي) وهو تابع لوزارة التربية والتعليم بمصر، وفي هذا الكتاب فقرة يقرؤها الطلاب والطالبات، ويطلب منهم استخراج بعض الأحكام النحوية واللغوية منها، هذه الفقرة مقتبسة من كتاب (إلى ولدي) لـ أحمد أمين، يقول فيها: قال الأب لأحد أصدقائه متحسراً على الماضي: رحم الله زماناً كان فيه الأب آمر الأسرة وناهيها، فلا راد لقوله، ولا مناهض لرأيه، ينادي فإذا كل من في البيت يتسابقون إلى ندائه، تحدثه الزوجة ويحدثه الابن في إذلال، أما البنت فتحدثه وهي غاضة طرفها من الحياء. فأجابه ذلك الصديق قائلاً: إن أبناءك خلقوا لزمان غير زمانك، لقد نشأت في جو الخيل والطاعة والتقليد، ونشئوا في جو الحرية والتطور والتجديد، فأنت ابن الماضي، وهم رجال المستقبل! هذا أنموذج عابر؛ لأنه ليس من صلب موضوعنا الآن حتى نكثر ذكر الأمثلة، لكن الشاهد أن أبناءنا يربون على العقوق، على التمرد على الأبوين، على التحرر من سلطان الدين، على إفساد هذه الفطرة التي يودعها الله تبارك وتعالى أمانة في أعناق الآباء وأعناق هذه الأمة. فهذا مما يجسد أهمية حماية الأجيال والأبناء من هذه اللوثة العقائدية الخطيرة. وبعض المناهج في بعض البلاد الإسلامية لا توجد فيها أصلاً مقررات دينية، أو بعضها الآخر قد يقدم للطلاب مقررات تعليمية دينية، لكن بعد أن يحصل لها عملية تحريف وتبديل، وتسخير الدين من أجل خدمة قيم هذه النظم وأهدافها. وحينما نتأمل واقعنا اليوم فنحن نجزم أن كل انحراف موجود فينا إنما منشؤه البعد عن هذه التربية الإسلامية، وأن هذا الانحراف لا يمكن تصحيحه إلا بالتربية الإسلامية، مصداق ذلك في قوله تبارك وتعالى: {ِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. إن لم نتدارك خطورة مناهج التعليم فسيخرج من أصلابنا ملاحدة، هذه المناهج تخرج أناساً لا علاقة لهم بالدين، فإن لم يستدرك المسلمون والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى والأمهات بشكل خاص ثم الآباء هذه الأشياء فإننا على خطر عظيم، وهو أن يخرج من أصلابنا ملاحدة وزنادقة يبغضون الله ورسوله، ويصير الإسلام أشد غربة مما هو عليه الآن، فواجب البيت إزاء هذا الخطر هو في شكل من أشكاله وقائي، وفي الشكل الآخر هو علاجي فالوقائي قبل الالتحاق بالمدرسة، يأتي دور البيت في التربية قبل أن يلتحق الطفل بالمدرسة. والعلاجي حيث يجب أن يطعم في البيت كما نفعل في تطعيم الأطفال ضد الأمراض والأوبئة، كذلك ينبغي أن يقوم البيت بإعطاء مضادات لهذه السموم التي تعطى لأبنائنا، والتي يتجرعها في المدرسة. إن تربية الأطفال التربية الوقائية والعلاجية بجانب تربيتهم على القيم الإسلامية التي يستقونها من الأسرة تعين على أن يتغلب على كثير من هذه العقبات. ثم أيضاً يجب التحذير من قرناء السوء، وقبل ذلك على الرجل إذا أراد أن يتزوج أن يسأل عن العائلة، فيقول: ما شأن عائلتها؟ كيف عائلتها؟ هل هم أناس طيبون؟ ولا ينبغي أن يسأل عن المال ولا الحسب، لكن يسأل عن دور العائلة في الأخلاق والآداب والتربية. فعلى أي الأحوال إذا استمر الأمر على هذا الإهمال الموجود في الخلية الأولى التي هي الأسرة والأطفال فنخشى أن يخرج من أصلاب المؤمنين ملاحدة، كهؤلاء الملاحدة الذين يخرجون الآن ويعملون معاولهم في عقول الأمة، في الإعلام، وفي الصحافة، وفيما يسمى بالأدب وغير ذلك، فهؤلاء يحملون أسماء إسلامية، وآباؤهم كانوا مسلمين، لكنهم حرموا من هذه التربية، وربوا على أعين أعداء الإسلام، فخرجوا أعداء لله ورسوله والمؤمنين. ولقد وصل أمر إهمال الدين في التعليم إلى حد أن خريج الجامعة في الغالب لا يتقن قراءة القرآن، وقد يلحن في فاتحة الكتاب إن كان يصلي، علاوة على جهله بالوضوء وبالصلاة والفرائض المتعينة عليه، لماذا؟ لأنه حرم من هذا التعليم. ومعلوم أنه إذا لم يتعلمه في البيت أو المدرسة فإنه يخرج بهذه الصورة الشوهاء.

أهمية دور الأم في تربية الأبناء

أهمية دور الأم في تربية الأبناء حينما نتحدث عن موضوع التربية وخطورة موقع الأسرة يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ولا بد من أن نكون أكثر تحديداً في ألفاظنا، وفي ربط المهام وإناطتها بالمسئولين عنها، فإذا كنا نقول: إنه لا مخرج من الوضع الذي نحن فيه إلا بالتربية فإننا نتدرج إلى القول بأن البيت هو أول مؤسسة تربوية، ثم لا بد أن نكون صرحاء، ونجزم أيضاً بأن الأم هي العماد في العملية التربوية، فإن الواقع الذي نعيشه يؤكد خطورة موقع الأم اليوم في عملية التربية أكثر من الرجل، وفي الواقع الذي نعيشه ربما بعض الناس تكون نفوسهم مهيأة لأن يتبوأ الرجل منصبه الطبيعي، وذلك بقوامته وأنه القيم على كل شيء، بما في ذلك تربية الأولاد، هذا هو المطلوب، وربما بعض الناس يحظون بمثل هذا، لكن الواقع الذي تعيشه عامة الأمة الآن هو أن عملية التربية صارت بسبب أن الأب في الغالب في خارج البيت يكابد مشاق الحياة ويكدح بحثاً عن الرزق الحلال من أجل أن يوفر نفقة البيت ونفقة الأولاد، ويغلب على الأسر الآن في العام الأغلب إهمال الآباء لمسئولياتهم التربوية، فمن حيث الواقع صارت الأم هي المتولية لعملية التربية. إذاً إذا لم تكن الأم من الأمهات الهاربات، والأم الهاربة هي التي يسمونها الأم العالمة العاملة، فالأم هذه في الحقيقة ليست عاملة؛ لأن عملها في بيتها، وهذه الوظيفة هي أخطر وأقدس وظيفة على الإطلاق، فهذه امرأة هاربة من محل وظيفتها الأساسية وليست امرأة عاملة. ومما يرشح وظيفة الأم ويؤكد خطورتها أن الأم أكثر ملازمة للطفل من الأب، كذلك الأم أقدر من الأب على معايشة الطفل وتلبية احتياجاته بحب وحنان فطري غرسه الله سبحانه وتعالى في قلبها، فهي تضحي بكل شيء حتى بحياتها في سبيل ولدها الذي هو قطعة من بدنها، ولذلك يلاحظ عندما يرجع الأب من العمل منهك القوى مكدوداً من سعيه في طلب الرزق الحلال أن كل همه أن تكف الأم الضوضاء التي يحدثها الأولاد؛ لأنه يريد أن يستريح أو ينام أو يأكل، فتراه يقول: كفي عني شر هؤلاء الأولاد وضوضاءهم. بخلاف الأم فإنها تكون راضية مطمئنة، فالأم طول عمرها لا تشتكي أبداً، بل تضحي بكل أنواع التضحية، أما الأب فربما إذا كلفته الأم أن يحمل الرضيع -مثلاً- لدقائق معدودات فإنه يضج، وليس عنده صبر في الغالب على مثل هذا، إلا من شاء الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الصبر، ومن أجل ذلك نوه القرآن بمكانة الأم، كما في قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، فالأم عبارة عن موظف متفرغ تماماً لهذه الوظيفة الخطيرة، والوظيفة الأساسية للأم بعد عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته هي رعاية الأطفال وتربيتهم.

ضرورة الاهتمام بالمرأة المسلمة وإعدادها

ضرورة الاهتمام بالمرأة المسلمة وإعدادها مما يجسد خطورة هذه القضية أيضاً في الحقل الإسلامي أنه إذا لم توجد الأم المسلمة أو الأخت التي ربيت تربية إسلامية أنه إذا أراد شخص ملتزم أو داعية أن يتزوج فتزوج امرأة غير ملتزمة فإنها تؤثر عليه بالسلب إذا تزوجها ولم تكن على نفس المستوى من القوة في الدين، فإنه ربما تجذبه إلى الوراء، وتشده إلى الأرض حتى يتراجع عن دعوته، ويسقط بتأثير هذه الفتنة على الدرب كثير من الأزواج، وهذه إحدى سلبيات عدم الاهتمام بتربية الأخت أو الأم المسلمة. وعلى أي الأحول كل هذه الاعتبارات تؤكد ضرورة إعداد الأم إعداداً يتناسب مع مهمتها، فإنشاء الأم المسلمة الواعية الفاهمة هو شيء خطير وعظيم؛ لأنه يعطي النموذج العملي لإعادة الفطرة إلى حقيقتها، مما يؤكد خطورة موقع الأم المسلمة في بناء المجتمع المسلم. لقد اهتم أعداء الإسلام بدارسة الأم المسلمة، فهذا قائد الطيران الإسرائيلي في حرب عام سبعة وستين وستمائة وألف من الميلاد أعد رسالة ماجستير، أو رسالة في دراسة عليا، هذه الدراسة كانت حول المرأة العربية، فلماذا يهتمون بالمرأة العربية؟ لماذا تعقد هذه الدراسات؟! إنه من أجل إفسادها، ومن أجل تعطيلها عن وظيفتها الحقيقية والخطيرة، ولأنها تدير داخل البيت مصنع الأبطال والمجاهدين، مصنع الأمهات الصالحات والزوجات التقيات، فهي التي تهز المهد بيمينها، فربما كان هذا الذي يركض في المهد هو الذي سيهز العالم فيما بعد بقوته وعلمه وبأسه وسطوته، ليس هو قطعة لحم ملهية، بل يمكن أن تكون هناك أمم تنتظر أن ينقذها هذا الولد أو هذا الابن مما هي فيه من الذل والهوان. لقد أدرك الغرب أهمية دور المرأة في بناء الأسرة، فالآن تجد الإعلانات في العالم الغربي كله، في أمريكا وأوروبا تنادي بعود المرأة إلى البيت بمنتهى الصراحة والقوة، بعد أن ثبت فشل هذا الاتجاه وهذه النظرية التي تدعو إلى هروب المرأة من البيت. ولقد اعتاد بعض الأطباء الأمريكيين -وهو طبيب أطفال- أنه إذا أتته أم من الأمهات الأمريكيات بطفلها المريض أن يكتب في ورقة العلاج: العلاج هو العودة إلى الأم الحقيقية. إن فطر القوم قد فسدت بسبب هروب المرأة من وظيفتها الأساسية وخوضها فيما ليس من مجالها. وعلى أي الأحوال فهروب المرأة من بيتها وتخليها عن وظيفة التربية مع انشغال الأب الذي يدفع ثمنه هم الأولاد، ثم المرأة نفسها، ثم زوجها، ثم الأمة بأسرها. يقول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا

أهمية التربية في التغيير

أهمية التربية في التغيير إن التربية هي وسيلة التغيير الأساسية؛ لأن الوسائل الأخرى لإحداث التغيير في المجتمعات إنما تتعامل فقط مع أمور نظرية بصفة أساسية، أعني التغيير الاجتماعي أو العسكري أو الثورة الاجتماعية، إنما تتعامل مع أمور ظاهرية، أما النصوص فلا تتغير بهذه الأساليب، النصوص لا تتغير إلا عن طريق التربية، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن حينما نخاطب بهذا المستوى من الأعمار أعمار شباب الصحوة الإسلامية فمن الخطأ أن نقول: نحن نحتاج إلى تربية مع التعاون مع مثل هذا السن فمما يؤسف له أننا بحاجة إلى إعادة تربية الشباب الذي ينتقل من مرحلة عدم الالتزام بالدين إلى الالتزام بالدين، فهو بالفعل قد ربي طبقاً لما نشأ عليه منذ الصغر في بيته، ثم في المدرسة، ثم في الجامعة، ثم في اختلاطه بالمجتمع. فنحن الآن -فيما يتعلق بالكبار- نحتاج إلى إعادة تربيتهم من جديد، نحتاج أولاً إلى هدم ركام الأفكار المضادة المستقرة منذ فترة، ثم إعادة بناء الشخصية وفق المنهج الرباني كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تصفية العقيدة والقيم والمفاهيم، وبالتالي يتغير السلوك، ثم تأتي الابتلاءات والمحن التي هي سنة كونية من الله سبحانه وتعالى، فيصلب عود المرء ويثبت أمره على دينه ويشغل بذلك، لكننا لا نريد أن نغفل هذا الأمر، وصحيح أننا ننشغل الآن كثيراً بطلب العلم، وبأمور الدعوة، ولكن في الحقيقة ينبغي أن يكون نظرنا إلى الأساس أكثر، أن نعطي الأمور أولوياتها التي تستحقها، ولا ينبغي أن ننظر إلى هذا نظرة احتقار أو ازدراء، أو أن هذا الكلام مثل الواجب في التربية الوطنية، أو التربية القومية، أو كلام صحف، إنما نقول: الأطفال هم المستقبل، وهذه الحقيقة. لقد كنا في يوم من الأيام أطفالاً، وأي إنسان أدى دوراً من الأدوار فقد كان طفلاً، وظهر حسب التربية فيما بعد، كما هو معلوم أن المستقبل الحقيقي للدعوة والأمة الإسلامية إنما يصنعه هؤلاء الأطفال إن أحسنا تربيتهم من الآن.

مراحل التغيير في التربية

مراحل التغيير في التربية لابد من المضي في عدة خطوط: تربية مستمرة للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى علماً وعملاً، فينبغي أن يكون لك تربية علمية منهجية ومرحلية ويكون فيها العلم بجانب العمل جنباً إلى جنب، ثم تربية أطفال الدعاة والمنتمين إلى الدعوة، فهم يأتون في المرتبة الثانية بعد الدعاة. فلابد من الاهتمام الشديد بأطفال الدعاة، وليس هذا نوعاً من التمييز العنصري، كلا؛ لأن الغالب أن أطفال الدعاة والمنتمين إلى الدعوة قد توافرت لهم بيئة صالحة غير معادية للإسلام أو جاهلة بالإسلام، بل المفروض أن تكون البيئة التي ربينا نحن أبناءنا فيها أفضل من الأجيال الماضية؛ لأن الأخ الملتزم والأخت الملتزمة صارا ركنين أساسين في الأسرة، ولن يعانيا ما عانته من قبل أسرتاهما، وكذلك الملتزم إذا التحى والتزم بصلاة الجماعة وغير ذلك فإنه لن يتلوث ببعض الأمور التي نشأنا عليها من الاختلاط والمفاهيم الخاربة في مناهج التعليم أو في الأسر، وإنما هذا المفترض أن يكون حظه أسعد من غيره؛ لأن هناك أباً مسلماً وأماً مسلمة يوفران عليه كثيراً من العناء، ويوفران عليه كثيراً من المراحل التي قطعها الجيل السابق. إن عملية تربية الطفل -كما قال مالك بن نبي رحمه الله تعالى- لا تبدأ بالولادة، وإنما تبدأ بانتقاء الزوجة، وإيثار ذات الدين على غيرها، تبدأ عند إتيان الأهل، وذلك بذكر الله سبحانه وتعالى حتى لا ينالهما الشيطان بسوء، أو الولد إن قدر بينهما ولد لم يمسه الشيطان، تبدأ إذا كان الولد نطفة في رحم أمه أو مضغة، وذلك بالدعاء ليل نهار أن يخرج الله من صلبهما من يجعل عز الإسلام على يديه، كما حصل من الأئمة الأجلاء من قبل، فقد كانوا يستعدون للذرية الصالحة كما حكى الله عن عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فإذاً العملية بالفعل تبدأ قبل ذلك وقت اختيار الزوجة. فالشاهد أن أطفال الدعاة المفترض أن العقبات الموجودة في الأسر الأخرى ليست موجودة أمامهم؛ لأنهم متشبعون بروح الدعوة، ومتشبعون بمفاهيمها، فالمفترض أن يكون هؤلاء أجدر من الآخرين، أن يكونوا امتداداً لآبائهم؛ لأن فرصتهم -كما ذكرنا- أحسن من غيرهم. المرحلة الثالثة: الاهتمام عموماً بتربية أطفال المسلمين، عن طريق المساجد والمدارس ووسائل الإعلام إن أتيح، فإذا نشأ الطفل منذ الصغر على التربية الإسلامية تغلغلت فيه، وأصبحت جزءاً من كيانه، وشكلت سمات ومميزات شخصيته البارزة والثابتة.

المرأة والطفل في نظر الأعداء ونظر الشريعة

المرأة والطفل في نظر الأعداء ونظر الشريعة يقول أحد المنصرين: يجب نؤثر وأن يدور التفكير في جانب العمل بين الصغار، ونجعله عمدة عملنا في البلاد الإسلامية. إذا أردتم أن تفسدوا أولاد المسلمين فخططوا بأن تبدءوا مبكرين جداً. يعني: منذ الصغر. والحقيقة أن كل هذه المقدمة ليست بعيدة عن الموضوع الأساسي الذي قصدنا الحديث فيه، وهو دور المرأة في التربية والدعوة؛ فإننا جميعاً متهمون -ونحن نستحق هذا الاتهام فعلاً- بالتقصير الشديد جداً في حق الأخوات المسلمات، فأغلب خطط الدعوة تهدر حق الأخوات من الاهتمام اللائق بخطورة منصبهن، هذه الأخت هي التي تمارس العملية التربوية واقعياً وحقيقياً، وفي الغالب تجد الإخوة يشتغلون بالأنشطة الخارجية الكثيرة التي تستهلك طاقتهم، ويتركون الجبهة الداخلية خاوية، وإذا تركت خاوية فإنهم سيدفعون الثمن بلا شك. ونحن حينما نتكلم عن حق الأخوات المسلمات في الاهتمام بهن عند التخطيط في التربية والدعوة فإن هذه ليست منة، وليست لأننا نخاف على الأبناء وليس لهن أهمية في المقام الأول، كلا، بل سنرى كيف كرم الإسلام المرأة وأعطاها من الحقوق ما لم تحظ به المرأة في أي شريعة من الشرائع ولا دين من الأديان. هؤلاء يقولون: إن المرأة نصف الأمة. ونحن لا نقول: المرأة نصف الأمة. بل المرأة هي الأمة بسائرها، من منا ليس له أم أو أخت أو بنت أو زوجة، هذه هي العلاقات بيننا وبين النساء المسلمات. درج أعداء الدين على أن يسموا كل من لا يسايرهم في أهوائهم وضلالتهم يسمونه (عدو المرأة)، فكل من لا يمشي في ركابهم يعتبر عدواً للمرأة، ويوصم بهذا اللقب المكذوب. فمن الذي يعادي المرأة؟! كيف للمسلم أن يعادي المرأة والمرأة هي أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته؟! فكيف يعاديها؟! وإذا كانوا يقولون: المرأة نصف المجتمع فنحن نقول للمرأة: أنت نصف الأمة، ثم إنك تلدين لنا النصف الآخر، فأنت أمة بأسرها. ومن ثم تهتم الشريعة هذا الاهتمام بالمرأة، وقد لاحظنا ذلك كثيراً في الشريعة الإسلامية. فانظر إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:233]، أي أنه عندما ينفصل الزوجان بالطلاق يحصل تنظيم لعملية الرضاع ويجعل للمرأة دورٌ في موضوع الشورى في مثل هذه العملية؛ لأن عملية الرضيع مسئولية الزوجين معاً. قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] أي: من الأب والأم مع وقوع الطلاق. كذلك هناك مواقف كثيرة تبين احترام الشرع لرأي المرأة وتعظيم قدرها، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى فيما بعد، لكن في موضة العصر المرأة تطالب بالحقوق قبل أن تؤدي الواجبات، والمقصود المرأة غير الصالحة وغير الملتزمة التي تعتني غالباً بالمظهر وتهمل الجوهر، أو تعتني بالجسم قبل الروح، أو تعتني بزينتها في الشارع وتهمل ذلك في البيت، ولا يجوز خارج البيت. خرجت المرأة في الغرب للعمل وزاحمت الرجال وهي مضطرة غير مختارة؛ لأنها إن لم تفعل ذلك في الغرب ستهلك وتموت جوعاً، فلا تجد من يؤويها وينفق عليها، فالبنت في الغرب إذا بلغت سن الثامنة عشرة تطرد من البيت إلى الشارع، ويمكن أن تقيم في البيت، لكن بشرط أن تدفع فاتورة الهاتف، وفاتورة المياه، وتدفع إيجاراً، وتدفع كذا وكذا وكذا، لكن أين هذا من تكريم الإسلام للمرأة؟! وبعبارة أخرى: أين هذا من تفريغ الإسلام المرأة من أجل اشتغالها بالوظيفة التي كلفها الله سبحانه وتعالى بها؟! فالمرأة في الإسلام هي مكفولة الحاجات ليس عليها نفقة، فإما أنها بنت في بيت أبيها، فأبوها يجب عليه أن ينفق عليها، وإما زوجة تحت رعاية زوجها، فالنفقة مسئولية زوجها، ففرغت من كل ما يشغلها عن وظيفتها الأساسية كما سنبين. ونحن نحتاج قبل أن نستطرد في بحثنا إلى أن نشير إشارات عابرة إلى تكريم الإسلام للمرأة بعد الإهانة التي تعرضت لها في الجاهلية، فمعروف ما كان يحصل من كراهة الجاهليين للبنات، قال عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59]. ولما أشرقت شمس الإسلام على المرأة ما نظر الإسلام إلى المرأة كما نظر إليها الآخرون، فالنصارى -مثلاً- نظروا إلى المرأة على أنها عبارة عن جرثومة خبيثة. وفي الديانة اليهودية والنصرانية المرأة عدو لدود للرجل، وهي شيء خبيث ونجس يجب الابتعاد منه، بل بعض الناس كان يتمدح بأنه يهرب من ذل المرأة لأنه لم يتزوج، ويسوغ فعله ذلك بقوله: إن المسيح لم يتزوج، فهذا يدل على أن الزواج دنس ينبغي على الإنسان أن يتطهر منه ويتنزه عنه. كذلك عقد في العصر الذي كان يقابل فترة شباب النبي صلى الله عليه وسلم مجلس عن المرأة في فرنسا، كان هذا المؤتمر مجتمعاً كي يناقش: هل المرأة إنسان فيه روح أم ليس فيه روح؟ وإذا كانت فيها روح فهل هي جديرة بالخلاص أم ليست جديرة بذلك؟ ونحو ذلك من الكلام. وفي آخر المؤتمر قرروا أن المرأة إنسان فيه روح، ولكنها أقل من روح الرجل.

تكريم الإسلام للمرأة ومساواتها بالرجل في كثير من الأحكام

تكريم الإسلام للمرأة ومساواتها بالرجل في كثير من الأحكام شرع الله سبحانه وتعالى تكريم المرأة بقوله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]. ويقول عمر: (ما كنا في الجاهلية نعد النساء شيئاً، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم) فسوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الإنسانية، فقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ} [الحجرات:13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، و (شقائق): جمع شقيقة. كذلك سوى الإسلام بينهما في أغلب تكاليف الإيمان، وفي الأهلية كأهلية الوجوب وأهلية الأداء، فهذه ثابتة في حق الرجل وفي حق المرأة. ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] إلى آخر الآيات. وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]. ومما يعلم من دين الإسلام بالضرورة أن المرأة عليها ما على الرجل من أركان الإسلام، إلا الصلاة فإنها تسقط عنها في زمن الحيض والنفاس، وتتركها ولا تعيدها لأنها كثيرة، أما الصيام فيسقط عنها في زمنهما فقط كما هو معلوم ثم تقضي، أما الحج فيصح منها في كل حال، إلا الطواف فلا يصح منها حال الحيض. وكذلك هناك مساواة بين الرجل والمرأة في المسئولية المدنية والحقوق المدنية، قال عز وجل: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32]. ويقول تبارك وتعالى أيضاً: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] فالمسئولية واحدة. كذلك هناك مساواة بين الرجل والمرأة في جزاء الآخرة وثواب الآخرة، يقول تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، وقال تبارك وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]. وفي مشاهد القيامة يقول تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12]. فالإسلام سوى بين الرجل والمرأة في الإنسانية وفي التكاليف، وفي الجزاء والثواب في الآخرة، فالقضية التي نناقشها اليوم ليست هي قضية المساواة بين الرجل والمرأة وتفاصيل ذلك، وإلا فهناك مجالات ليس فيها مساواة، هناك أحكام تخص الرجل وأحكام تخص المرأة ليس هذا أوان الكلام فيها، لكننا نريد الكلام على موضوع المساواة في قضية بعينها، وهي أن للمرأة حقاً بأن تتعلم وأن تعلم، خصوصاً داخل المنظومة الإسلامية، فلها حق التعليم في ضوء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، فنخص قضية المساوة في الحقوق التعليمية والتربوية والدعوية دون ما عداها؛ لأنها ألصق بموضوعنا، فيقول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] واضح من هذه الآية أن للمرأة دوراً في الدعوة، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغاية ما في الأمر أن هناك ضوابط لعملها، وأولويات في وظائفها تختص بها عن الرجل. ونحن عندما نبدأ بهذه القضية يجب أن نطرحها موثقة بأدلتها الشرعية، بأن نزيل عنها ما لحق بها من سوء فهم، ونزيل الشبهات التي أثيرت حولها، فبعض الناس يزعمون أن الدعوة هي واجب الرجال دون النساء، والرد عليهم واضح في قوله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71] إلى آخر الآية، ويقول عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. فقوله: (ومن اتبعني) تشمل كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء أكان من الرجال أم من النساء؛ لأن (من) تشمل كل العقلاء رجالاً كانوا أو نساءً. كذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وقال أيضاً: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

دور المرأة في الإسلام وعظمته

دور المرأة في الإسلام وعظمته المرأة المسلمة مارست دوراً في الدعوة، وكان لها أبلغ الأثر في تدعيم هذه الدعوة كما سنبين إن شاء الله تعالى. فمن هو أول قلب خفق بالإسلام؟ أول قلب خفق بالإسلام واستجاب لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كان قلب خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. وما أول دم أريق في سبيل الله؟ إنه دم سمية بنت خياط رضي الله عنها. ومن هي أول فدائية في الإسلام؟ إنها أسماء بنت أبي بكر. وهكذا فإن للنساء فضائل عظيمة جداً في عامة مسيرة الدعوة. والتاريخ الإسلامي في هذا الجانب لم يكن مغفلاً أو مهملاً من تاريخ المسلمين الأوائل دور المرأة في الدعوة إلى الله. يذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه ((ميزان الاعتدال في نقد أحوال الرجال)) آلافاً من الرجال، ثم ختم كتابه بهذه الشهادة، وهي شهادة تزكية للنساء يفخرن بها على طول الزمن. يقول: ولم أجد من النساء من اتهمت ولا من تركوها. فالمرأة كان لها دور رائع في بناء الصرح الإسلامي، وانتفعت الأمة من سلاح المرأة، فكان ما كان من المجد والخير. حتى إذا ما تخلت المرأة عما خلقت له تحول الأمر عما كان عليه، ومصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).

الحكمة والغاية من وجوب نفقة الزوجة على الزوج ورفع بعض التكاليف عنها

الحكمة والغاية من وجوب نفقة الزوجة على الزوج ورفع بعض التكاليف عنها وفّر الإسلام للمرأة كل ما يمكن من الأسباب والظروف التي تؤهلها وتمكنها من القيام بالوظيفة الأساسية بعد عبادة الله سبحانه وتعالى، ألا وهي تربية الأولاد وحسن التبعل للزوج، فرفع عنها مئونة العيش والاكتساب، فلا يجب عليها النفقة والاكتساب والشغل والعمل؛ لأنه فرض على الزوج أن ينفق عليها وعلى أولادها، فلم تعد لها حاجة إلى العمل خارج البيت؛ لأن العمل يقصد به الكسب وتحصيل الرزق، وكفيت هي ذلك لقاء أنها منصرفة ومتفرغة لعمل خطير جليل هو تربية الأولاد في البيت. كذلك رفع الإسلام عنها إيجاب بعض ما فرضه على الرجال تحقيقاً للغرض ذاته؛ لأن المرأة عبارة عن موظفة متفرغة، وفي الحقيقة هي موظفة كثيراً ما يهدر حقها، وهي ليس لها معاشات ولا مرتبات، وأحياناً كلمة الشكر لا توجد إن لم تكن الأذية والاضطهاد. فالمرأة تعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم والليلة يومياً، فهي تحت أمر أي واحد في البيت، الطفل الصغير ليس له مواعيد، الرضيع يوقظها في أي ساعة من ليل أو نهار، إن كانت نائمة فتستيقظ كي تغذيه وكي ترضعه، وتنظفه وترعاه، بينما الأب قد يتأفف من فعل عشر معشار ما تفعله المرأة، لكن انظر إلى الرحمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في بيتها، فوفر لها الشرع كل ما أمكن، وذلك لقدسية وظيفتها وخطورة وظيفتها، ولا يصرح لها بالخروج من مكان العمل إلا في أحوال استثنائية، فالأصل أن تظل في مكان العمل مرابطة ليل نهار، ومكان العمل هذا لا يستغني أبداً عنها، ولا يطيق غيابها، وتختل الأمور إذا غابت عنه ساعة من النهار، فلذلك الشرع لأجل هذه الوظيفة الخطيرة رفع عنها كثيراً من الواجبات حتى تظل عاملة في مكان عملها، فهو وفر لها الوقت الكافي للانصراف إلى مهمتها. فمثلاً: الجهاد في سبيل الله ليس واجباً عليها، فوجوبه على الرجل. والصلاة في المسجد واجبة على الرجال وليست واجبةً على المرأة. وصلاة الجمعة غير واجبة على المرأة، إلى غير ذلك من الأحكام التي تدل على أن الإسلام يرغب المرأة في بقائها في بيتها، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وفي الحديث: (أما إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن) يعني: عند الحاجة إلى الخروج. فالمرأة لها أن تخرج من مكان عملها عند الحاجة، كأن تخرج للعلاج، أو لصلة الرحم، أو لدروس العلم، لكن ليس هذا هو الأصل في المرأة تماماً كما يخرج الرجل. فأعداء الإسلام دائماً يزيفون الحقائق، وذلك بتسمية الأسماء بغير اسمها، عن طريق تسمية الأسماء بأسماء منفرة، أو أسماء ملبسة، فهم يصفون كل ملتزم بدينه بأنه مفرق أو رجعي أو متخلف أو أصولي أو إرهابي، وغير ذلك من الأسماء. كذلك في هذه القضية نفس الشيء، فيقولون عمن خرجت للعمل: هي المرأة العاملة، ويكتب في البطاقة (تعمل)، أما التي تعمل في بيتها فيكتبون في البطاقة (لا تعمل) وبالتالي يسمونها (ربة بيت) إذاً ربة البيت حسب مفهوم هؤلاء هي التي لا تعمل، وهذا من التدليس الذي أشار إليه بعض العلماء بقوله: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحًا وذمًا وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فيخرجون المعاني القبيحة في ألفاظ مقبولة، وبالعكس، ويطلقون على الحق الأسماء المنفرة، فهذه امرأة عاملة، وهذه امرأة عاطلة؛ لأنها ربة بيت، ولأنها متفرغة لرعاية زوجها وأولادها، فهذه مغالطة مكشوفة. والمرأة في القديم في الحقيقة كان لها عدة وظائف، فالمرأة خياطة، وهي تخدم البيت وتنظفه، والمرأة ممرضة تمارس التمريض وتعالج، وتسهر على راحة أي عضو من أعضاء الأسرة، فهي في حالة رباط دائم ليل نهار، تخدم الجميع، تسهر على المريض، تعد الطعام للجائع، تذاكر لأبنائها التلاميذ، ومع ذلك لا تنتظر جزاءً، وربما حرمت من كلمة الشكر ومن العرفان. وكانت نهضة المؤمنين أو المسلمين في القرون الأولى سببها المرأة، فنحن ننظر إلى النتائج ونغفل الأسباب، فنفخر بـ الشافعي، ونفخر بـ سفيان الثوري، ونفخر بالصحابة ونفخر بالمجاهدين والعلماء والمجددين وننسى من كان وراء هؤلاء. فهل هؤلاء خرجوا من فراغ؟ لا، بل هؤلاء كان وراءهم من يربيهم، كان وراءهم من يتعاهدهم منذ الصغر وهم أطفال، إنها الأم بصفة أساسية، وكذلك إذا قدر غياب الأب بموت أو غير ذلك كسفر من الأسفار فالأم هي التي تتولى زمام التربية. وصحيح أننا نتحدث عن عمر بن عبد العزيز وشخصية عمر بن عبد العزيز، لكن لا ينبغي أن نهمل التربية التي ترباها عمر بن عبد العزيز، كذلك حينما نتحدث عن الإمام الشافعي -وما أدراك ما الشافعي رحمه الله تعالى- فليس من الإنصاف أن نهمل من صنع الشافعي، الذي صنع الشافعي ورباه هي أمه التي اجتهدت جداً في تربيته ورعايته ودفعه إلى العلم. فينبغي حينما نتحدث عن المرأة أن نتذكر الأعمال المهمة الجليلة التي تدور خلف الخدور، أن نتذكر ذلك النشاط المكثف الذي يحصل من المرأة في تربية الأولاد وتغذيتهم بالعقيدة الإسلامية وحمياتهم بها، لا ينبغي أن نغفله ونهمله حتى نعطي المرأة حقها، ونعطيها الآن نفس الدور ونفس الأهمية ونشعر بخطورة موقعها. فوثب المسلمون الأوائل وثبةً ملئوا بها الأرض قوة وبأساً، وفطنةً وعلماً، فقادوا الأمم، وهابهم الملوك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات أفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب وتتقلب بها الألسنة، بعد أن كانوا طرائق قدداً، لا نظام، ولا قيام، ولا علم، ولا شريعة. فمن أين تخرج الجيل الأول؟ في أي المدارس درسوا؟ ومن أي المعاهد خرجوا؟ لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي شهد لها الدهر ووجم لنوعيتها التاريخ ولم يبنوا معهداً ولم يبنوا جامعة، بل كانت دورهم وقصورهم معاهد ومدارس، وتولى أمر هذه المدارس التي تربى فيها الجيل الأول أمهات صدق، أقامهن الله على نشئه، واستخلفهن على صنائعه، وائتمنهن على دعاة حقه ورعاة خلقه، فكن أقوم خلفائه بواجبه، وأثبتهن على عهده، وأمهرهن للفادح الشديد من أمره. لقد كان الله سبحانه وتعالى أبر بهذه الأجيال من أن يخرجهم مخرجاً سيئاً.

نقد الآخرين

نقد الآخرين على المرء المسلم أن يهتم بإصلاح نفسه وتزكيتها من العيوب والآفات، كما أن عليه أن يكف عن تتبع عورات الآخرين والخوض في أعراضهم؛ فإن هذا مما لا يجوز فعله، والإنسان سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل عن ذنوبه لا عن ذنوب غيره، فالأولى اشتغاله بها.

أهمية اشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوب الآخرين

أهمية اشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوب الآخرين الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه!)، وهذا الحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (33). فقوله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه) القذى: هو ما يقع في العين أو في الماء والشراب من نحو تراب ووسخ أيَّ قاذورات أو أذى أو تراب يقع، سواء في العين أو في الماء أو في الشراب، فيطلق عليه القذى. إذاً المقصود به الأشياء الهينة الصغيرة التي تكاد لا تدرك، يبصرها الإنسان ويفتح عينيه لها ما دامت في عين أخيه -يعني: أخاه في الإسلام- وفي نفس الوقت ينسى الجذع في عينه، والجذع هو واحد جذوع النخل، وهذه من المبالغة، وكأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ثم هو يتجاهله ولا يشتغل بإصلاحه، في حين أنه يدقق ويتحرى مع الآخرين بحيث يدرك عيوبهم مع خفائها. فيؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لنقصه ولحب نفسه يدقق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس وتتبعها لكف عن أعراض الناس، ولسد باب آفات اللسان وأعظمها الغيبة، يقول الشاعر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى وقال الإمام أبو حاتم بن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، ومن ذمهم ذموه. يقول الشاعر: المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه كما أن العليل السقيم أو المريض يشغله الألم الذي يجده في مرضه عن ألم غيره، فكذلك ينبغي للإنسان أن يشتغل بعيب نفسه عن عيب غيره على حد قول الشاعر: أي: الجراح التي في غيري لا تداوي الجراح التي فيَّ، وقوله (ما به به وما بي بي) يعني: الأولى أن يشتغل الإنسان بالعيوب التي في نفسه. وعن مجاهد قال: ذكروا رجلاً -يعني: كأنهم ذكروا عيوب هذا الرجل- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك). وهذا علاج لهذا الداء على الإنسان أن لا يسهو ولا يغفل عنه، وهو أنه إذا هم أن يتكلم في عيوب الآخرين فليفكر أولاً وليذكر عيوب نفسه وينشغل بها، فسيجد فيها غنية عن أن يشتغل بعيوب الآخرين، فهذا من أدوية هذا الداء (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك)، فإذا فتشت سوف تجد كثيراً جداً يشغلك إصلاحه في نفسك عن الاشتغال بذم غيرك. وقال أحد السلف: إن من تصرف في نفسه فعرفها صحت له الفراسة في غيره وأحكمها. وعن بكر قال: تساب رجلان، فقال أحدهما: محلمي عنك ما أعرف من نفسي. يعني: تشاتما وسب أحدهما الآخر، فرد الشخص المسبوب فقال له: محلمي عنك -يعني: الذي يجعلني أتحلم وأصبر عن أن أرد عليك بالمثل- ما أعرف من نفسي. يعني: أنا أعرف أن في نفسي من العيوب الكثير، فهذا يجعلني عوناً لك عليها، ولست أتخذ موقف الدفاع عنها؛ لأن فيها من العيوب ما تستحق به أن تُذم، ولذلك قال له: محلمي عنك ما أعرف من نفسي. وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ولقي زاهد زاهداً فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله. فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله -يعني: بدل أن تحبني في الله- فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك. يقول الشاعر: قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى ولو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. يعني: هذا يدل على أنه إنسان غافل؛ حيث يشتغل بتراب وقع على ثوب غيره أو نملة تمشي على ثوبه، في حين أن داخل ثيابه هو العقارب والحيات والآفات تنهش فيه، فيشتغل بهذا الذي لا يعنيه -وهو أمر يسير مهما كان- عن هذا الأمر الخطير الذي يحدث به. وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: (كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس) أي: لأنه إذا اشتغل الإنسان بخطايا وبعيوب الناس لا شك أن هذا سيشغله عن إصلاح نفسه، وبالتالي تكثر خطاياه، ولا يتوب منها، ولا يعاتب نفسه؛ لأنه غير متفرغ لإصلاح نفسه.

بعض أسباب الحسد والبغي وتتبع عيوب الناس

بعض أسباب الحسد والبغي وتتبع عيوب الناس وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير. وهذه إشارة إلى أسباب هذا الداء، وهو حب وتتبع عيوب الناس، وتصيد أخطاء الآخرين، وسبب الحسد والبغي هو حب الرياسة وشهوة الرياسة، وهي الشهوة الخفية، فما من أحد أحب الرياسة إلا حسد -يحسد الآخرين- وبغى، وتتبع عيوب الناس؛ لأنه يكره أن يُذكر الآخرون بخير، وبالتالي يحاول دائماً أن يهزمهم ويحطمهم ويكشف عيوبهم من أجل أن تكون له الرياسة والعلو.

تتبع الإنسان لعيوب غيره دليل على عيبه ونقصه

تتبع الإنسان لعيوب غيره دليل على عيبه ونقصه وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين. فقوله: (كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً) أي: هو في نفسه ليس من الصالحين، وليس رجلاً صالحاً. وقوله: (ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين) أي: يغتابهم ويذكر عيوبهم. وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم. وقال الشاعر: لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس والأعراب هم البدو الرحل الذين لا يعيشون في المدن، ولا يسمعون القرآن، ولا يحضرون دروس العلم، والأصل فيهم الجهل والجفاء إلا ما استثني، كما ذكر الله تبارك وتعالى في سورة التوبة، لكن هذا الأعرابي مع ذلك نطق بالحكمة، ونطق بما تدل عليه أحدث الاتجاهات في علم النفس الحديث، حيث إنهم يفرحون بهذه الأشياء، ويظنون أنهم هم الذين أوجدوا هذه العلوم، لكن انظر هذا الأعرابي مع بساطته عبر بما يطلقون عليه الآن: (الحيل الدفاعية) التي يسلكها الإنسان ليدفع عن نفسه العوص والعيب، ومنها حيلة الإسقاط، أي: يسقط أخطاءه على الآخرين، فهو يشعر بعيب معين في نفسه، فكي يلفت النظر بعيداً عن أن ينتبه الناس إلى هذا العيب الذي هو في نفسه يرمي الناس بما فيه من العيوب، وكلما كثرت فيه هذه العيوب كلما كثر تتبع هذه العيوب في الناس، فهي حيلة من الحيل الدفاعية بالاصطلاح الحديث في علم النفس، فهذا الأعرابي سمع رجلاً يقع في أعراض الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها -أي: للعيوب- يطلبها بقدر ما فيه منها. أي: فكثرة الاشتغال بعيوب الناس تدل على وجود نفس هذه العيوب في نفسه هو، فهي عبارة عن عملية دفاعية بكونه يسقط هذه العيوب على الآخرين. يقول: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها. وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب أي: صاحب العيوب. وقال الشاعر: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل فالإنسان لو في جسمه جروح مكشوفة، وفيها الدم وفيها كذا وكذا، فتجد الذباب يحب أن يتتبع مواضع العلل والداء كي يقف عليها، فكذلك هناك أناس لهم هواية التفتيش في القمامة، فترى أحدهم عنده هذه الهواية، ويحب التفتيش في القمامة، فما يقع إلا على العلل، ولا يذكر محاسن الآخرين، لكن دائماً يفتش في القمامة، ويقلب هذه الأشياء، وهذا ما يعبر عنه الشاعر بقوله: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل وهذا التفتيش في القمامة ليس فقط على مستوى العلاقات الفردية، لكن يوجد أيضاً فيما يُسمى زوراً بالبحوث التاريخية، يزعمون أنهم يكتبون أو يبحثون بحوثاً علمية وتاريخية، ثم هم ما يقعون إلا على مواضع المؤاخذة في التاريخ الإسلامي، فمثلاً: ما يعرفون عن معاوية رضي الله تعالى عنه إلا كذا وكذا وكذا، وينسون أنه صحابي، وأنه خال المؤمنين، وأنه كاتب الوحي، وأنه المجاهد في سبيل الله، وأنه الحاكم بشريعة الله، كل هذا يُنسى، ويُركز فقط على المآخذ، سواء على معاوية رضي الله تعالى عنه مثلاً، أو على الدولة الأموية، أو على الدولة العباسية، وينسون أن واجب كل مسلم من أهل السنة أن يكون له ولاء لكل هذه الولايات الإسلامية أو الخلافات الإسلامية، سواء أكانت راشدة -بلا شك- أو أموية أو عباسية؛ لأنها في الجملة كانت خلافة إسلامية ترفع راية الشريعة، وتحكم بكتاب الله تبارك وتعالى، فينشغلون بذم تاريخ بعض السابقين وبعض الصور التاريخية السابقة بهدف التنفير من هذا التاريخ، وقطع اعتزاز الخلف بهذا السلف بالتركيز فقط على عيوبهم، ولو سلكوا المنهج المثيل لأمسكوا عما شجر بينهم، ولأمسكوا عن هذه العيوب، ولقالوا ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وجوب احتراس الإنسان من لسانه

وجوب احتراس الإنسان من لسانه وقال ابن السماك: سبعك بين لحييك. يعني أن كل إنسان يجب أن ينظر إلى لسانه هذا المحبوس في قفصين: قفص من عظم وقفص من لحم، فالعظم هو الأسنان، واللحم هو الشفتان، فلا يتمكن اللسان من أن ينطق ويخرج الكلام إلا بأن يخرج من بين هذين القفصين وهذين السجنين. فشبهه بالسبع بأنه يوجد داخل هذا الفم سبع -أي: أسد- لو فتحت له الباب لخرج ولأكل الناس، ونال من أعراضهم، وأهلك صاحبه، ولذلك يقول ابن السماك: سبعك بين لحييك -يعني: بين فكيك- تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور. أي: فرغت من غيبة الأحياء وغيبة الرائح والجائي، وبعد أن انتهيت من الأحياء انتقلت إلى الأموات، فأخذت أيضاً تنبش الموتى، وتذكر عيوب الموتى، فأنت تؤذي الموتى في قبورهم، وتؤذي أقرباءهم من الأحياء، وتؤذي نفسك. قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم. (فما ترثي لهم) أي: ألا تشفق عليهم؟ وقد انقطع عملهم وفنيت أجسادهم وتحللت وانتهوا، والآن هم في دار الجزاء؟ فلذلك أدبنا النبي صلى الله عليه وسلم مع الأموات -حتى لو كانوا من الظلمة أو الفسقة أو المقصرين- أننا لا نذكر عيوبهم، قال عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم -يعني: أمسكوا عن عيوبهم-؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) أي: ما عملوه في فترة الحياة الآن هم يحاسبون عليه، فأنت دعه وربه، ولا داعي أن تنشغل أيضاً بذم الموتى. قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم. فهل تعتقدون أن نبش الموتى فقط هو حفر القبر من جديد وسرقة الأكفان؟ وهل هذا هو النبش؟ A لا بل النبش له معنىً آخر لا يقتصر على الاستيلاء على الكفن كما يفعل النباشون، ولذا قال ابن السماك: وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، فإذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال. هنا يرشد ابن السماك إلى ثلاثة أشياء وثلاث صفات وخصال إذا التزمها الإنسان منعته من إطلاق لسانه بذكر عيوب الآخرين. قال: أما واحدة فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟! أي: فيك نفس العيب الموجود في هذا الشخص، وأنت تذمه بسببه، فمن أولى بالذم؟ قال: ما ظنك بربك -يعني: أن يفعل بك- وأنت تذكر أخاك بأمر هو فيك؟! الثانية: ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك. الثالثة: ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت: (ارحم أخاك واحمد الذي عافاك). يعني: إما أنك مبتلىً بشيء مثل الذي فيه، وإما أن تفعل شيئاً أشر مما يفعله هو فالعيب عندك أشد، وإما أن يكون الله قد عافاك من هذا العيب، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! إذا كان الله قد عافاك من هذا العيب وبرأك منه، فهل جزاء هذه النعمة أن تشتغل بذم الآخرين، أم أنك تحمد الله سبحانه وتعالى، وترحم العصاة؟! روي عن المسيح عليه السلام أنه قال: (لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية). يقول الشاعر: لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل وقال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت باذان المدايني يقول: رأيت أقواماً من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب، ورأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب اشتغلوا بعيوب الناس فصارت لهم عيوب. قوله: (فصارت لهم عيوب) يعني: فانكشفت عيوبهم التي كانت مستورة. ولعل في قاعدة (الجزاء من جنس العمل) -هذه القاعدة العدلية الإسلامية- زاجر للذين يخوضون في عيوب الناس، فيكفون عن الاشتغال بها خشية أن يعاملهم الله سبحانه وتعالى بما تقتضي هذه القاعدة، وهي أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن البلاء -كما يقولون- موكل بالقول. فعن إبراهيم قال: إني لأرى الشيء مما يعاب ما يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به. أي أنه يرى شيئاً يُعاب، ويخشى أن يغتاب صاحبه، فإذا اغتابه وذمه بهذا العيب يخشى أن يعاقبه الله سبحانه وتعالى بأن يُبتلى بنفس هذا الشيء. ويقول الأعمش: سمعت إبراهيم يقول: إني لأرى الشيء أكرهه، فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا ما مخافة أن أُبتلى بمثله. وقال عمرو بن شرحبيل رحمه الله: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكتُ منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. يعني: لخشيت أن يعاقبني الله سبحانه وتعالى بأن يجعلني أفعل نفس هذا الشيء الذي صنعه هذا الرجل الذي رضع العنز.

قصة معاوية بن أبي سفيان مع المسور بن مخرمة رضي الله عنهم

قصة معاوية بن أبي سفيان مع المسور بن مخرمة رضي الله عنهم وقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، فقضى أمير المؤمنين معاوية حاجة المسور، ثم خلا به -انفرد به- فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة -يعني: على أمير المؤمنين معاوية وبني أمية- ما فعل طعنك على الحكام المسلمين الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. أي: دعنا من هذا الموضوع ولا يجوز أن نتكلم فيه دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله! لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي. يعني: صارحني بما تعيبه علي، وقل لي مباشرة. فقال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له. فقال معاوية رضي الله عنه: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا -يا مسور - ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟ أي: كما أحصيت هذه العيوب هل تضع بجانبها في الكفة الأخرى المحاسن التي نليها من إصلاح أمر المسلمين، والجهاد في سبيل الله، وفتح البلاد، وتمصير الأمصار، ونشر الإسلام وغير ذلك من المحاسن التي يفعلها أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه؟ قال: فهل تعد لنا -يا مسور - ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك -يا مسور - ذنوب في خاصتك تخشى بأن تهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ أي: فما الذي يجعلك أولى مني بأن ترجو مغفرة الله وعفو الله في هذه العيوب أو في هذه الذنوب؟ قال معاوية: فوالله! ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي. أي: الإصلاح الذي يحصل على يدي بصفتي أميراً للمؤمنين أكثر مما تلي أنت باعتبارك واحداً من الرعية. قال: ولكن -والله- لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه، وإني على دين يُقبل فيه العمل، ويُجزى فيه بالحسنات، ويُجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها. قال المسور: فخصمني. يعني: غلبني. قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه. يعني: دعا له بعد هذه المناظرة.

هدي السلف فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم

هدي السلف فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر، فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان، وما قولك فيهما؟ فقال: هل غير؟ قال: لا. قال: جهزوا الرجل -أي: أعدوا له متاعه كي يسافر فوراً في الحال إلى حيث أتى- فلما فُرغ من جهازه قال: (اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أن قولي فيهم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]). وعن شريك قال: سألت إبراهيم بن أدهم عما كان بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فبكى، فندمت على سؤالي إياه، فرفع رأسه فقال: إنه من عرف نفسه اشتغل بنفسه، ومن عرف ربه اشتغل بربه عن غيره. وقال الشافعي: قيل لـ عمر بن عبد العزيز: (ما تقول في أهل صفين؟ قال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها).

هدف أعداء الإسلام من إثارة ما وقع من خلاف في زمن الصحابة والسلف

هدف أعداء الإسلام من إثارة ما وقع من خلاف في زمن الصحابة والسلف قال الرياشي رحمه الله تعالى: لعمرك إن في ذنبي لشغلاً لنفسي عن ذنوب بني أمية على ربي حسابهم جميعاً إليه تناهى علم ذلك لا إليه وليس بضائري ما قد أتوه إذا ما الله يغفر ما لديه يعني: أنت في القبر لن تُسأل، ويوم القيامة لن تُحاسب على ذنوب بني أمية، فهذا لا يعنيك في شيء، (ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فكون الناس -حتى الآن- يشتغلون بذم بني أمية هذا الانخراط وقوف في خندق واحد مع أعداء الإسلام؛ لأن لهم غرضاً خبيثاً من وراء إبراز هذه المآخذ والمبالغة فيها، بل وحشو هذه الأخبار بالكذب، كل هذا هو من أجل تنفير الناس من ماضي المسلمين، ومحاولة تصوير التاريخ الإسلامي أنه ما هو إلا عبارة عن صراع على السلطة فحسب، وأنه ليس دعوة ربانية ولا هداية إلهية، وإنما هو أغراض شخصية ومطالب دنيوية، فمن أجل ذلك يحاولون إبراز السلف الصالح رحمهم الله تعالى في هذه الصورة المنفرة للتنفير وللصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، فينخدع الأغرار ممن يجارون هذا المنهج الخبيث، ويسمون الخوض في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وما وقع منهم بحثاً علمياً، والعلم منه براء، بل هم مزورون كذابون. ولذلك نجد هذه الظاهرة لا يهتم بها أساساً ولا يسقي شجرتها الخبيثة إلا أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمستشرقين وتلامذتهم وأذنابهم من أعداء الإسلام كـ طه حسين، وغيرهم ممن وضعوا السموم في الآبار الإسلامية، حتى يسمم شباب المسلمين بهذه المفاهيم، فإذا صوروا الصحابة أنهم كانوا طلاب دنيا فقدت الثقة بهم، وبالتالي لا يرغب الناس في إعادة هذا المجد وهذا التاريخ الإسلامي. وكون هذا إذا صدر من أعداء الإسلام فهذا وضع طبيعي ومتوقع منهم، لكن الأمر الشنيع أن يصدر هذا ممن ينتسب زوراً إلى الإسلام! في حين أن من أصول أهل السنة والجماعة الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأن هذا مقتضى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، فالعجيب أن هناك بعض المنتسبين لبني البشر بل للإسلام يتعبدون بالغل على الصحابة، كالشيعة الروافض في إيران وغيرهم، فإنهم يتعبدون بذلك، ويعتبرون أن الاشتغال بلعن معاوية وبلعن أبي بكر وعمر عبادة يثاب عليها أكثر من ذكر الله -والعياذ بالله- كما لبس الشيطان عليهم، وهذا من الأمور العجيبة! وأعجب منه أيضاً أنا نرى بعد هذه الحملة التي حصلت ضد التنظيم الشيعي الذي اكتشف يخرج أيضاً أعداء الإسلام من بين البحور في الإعلام يدافعون عن الشيعة، ويقولون: ينبغي أن نذكر محاسن الشيعة وكذا وكذا. المهم أنهم في كل معركة بين أهل السنة وأهل الإسلام وبين أعدائهم ينضمون إلى الصف المعادي؛ لأجل إضعاف المسيرة الإسلامية، فالله حسيبهم.

حكم سب الحجاج بن يوسف الثقفي

حكم سب الحجاج بن يوسف الثقفي عن الهيثم بن عبيد الصيدلاني قال: سمع ابن سيرين رجلاً يسب الحجاج، فقال: مه أيها الرجل -أي: انصت وتعقل وتفكر-! إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملت قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج. أي أنه يقول له: كف عن هذا، ولا تضيع وقتك بالاشتغال بسب الحجاج، مع أن الحجاج رجل ظالم فعل ما فعل من الكبائر، لكن انظر إلى هنا إلى طريقة تفكير ابن سيرين، حيث إنه يدل الإنسان على أن يشتغل بعيب نفسه حتى لو كان في غيره من العيوب ما الله به عليم. فيقول: مه أيها الرجل! إنك لو وافيت الآخرة -أي: إذا قامت القيامة ووقفت بين يدي الله سبحانه وتعالى- فأيهما أخطر عليك: أقل ذنب أنت عملته بنفسك، أم أعظم ذنب عمله الحجاج؟ A ما عملته أنت بنفسك، فلهذا ينبغي أن تخاف من ذنبك أكثر من ذنوب غيرك؛ لأن هذا سوف يضرك إن لم يتب الله عليك. قال ابن سيرين: إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله عز وجل حكم عدل، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئاً فشيئاً أخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد. أي أن الله سبحانه وتعالى حكم عدل، فإذا أنت جاوزت الحد وبغيت على الحجاج نفسه -مع أن الحجاج كان ظالماً وباغياً- فالله سبحانه وتعالى حكم عدل، وإن أخذ من الحجاج لمن ظلمه - الحجاج - شيئاً فشيئاً للمظلومين الذين ظلمهم الحجاج؛ لأنه سوف ينتقم الله من الحجاج إن شاء ذلك، ويأخذ من الحجاج بقدر ظلمه لهؤلاء الناس، لكن بجانب ذلك أيضاً الله سبحانه وتعالى لأنه حكم عدل سوف يأخذ للحجاج ممن ظلم الحجاج، فإذا أنت اشتغلت بذنبه وسبه وبغيت في ذلك فلا تأمن أن الله سبحانه وتعالى سوف يعاقبك بأن ينتقم منك من أجل الظلم الذي ظلمته الحجاج، فلا تشغلن نفسك بسب أحد.

واجب الإنسان تجاه نفسه

واجب الإنسان تجاه نفسه تلك بعض الفوائد التي استقيناها من مشكاة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)! وجاء في بعض الروايات: (وينسى الجذع معترضاً في عينه) أي: كأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ومع ذلك ينسى هذا الذي أمام عينه من عيوب نفسه، ويشتغل بأبسط شيء في عيوب أخيه، ففي تدبر هذا الحديث الشريف والتفكر فيه ما يزجر الإنسان عن التمادي في الاشتغال بعيوب غيره؛ لأن أوجب الواجبات أن يصلح الإنسان نفسه؛ لأنه لن يلي إصلاحها غيره، فهذا متعين عليه، ومن سنة القتال أن يبدأ المقاتل بالعدو الأقرب فالأقرب، ومن أقرب الأعداء بالنسبة للإنسان نفسه التي بين جنبيه، فهي أقرب عدو قريب منه، فينبغي أن يشتغل الإنسان بهذا العدو أولاً، ولا يشتغل بغيره في حين يدع العقارب والحيات والآفات تنهش في جسمه وتؤذيه في دينه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

الالتزام بالسنن

الالتزام بالسنن فضل الله عز وجل على الإنسان كبير، ومن فضله سبحانه وتعالى عليه أنه شرع له باب التطوع والتنفل؛ حتى يزيد حسناته، ويسد القصور في واجباته، فعلى المرء المسلم أن يجتهد في المحافظة على النوافل والسنن، وألا يفرط فيها.

فضل صلاة التطوع

فضل صلاة التطوع الحمد لله كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وصلى الله على رسوله محمد الذي أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيه أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الدرجات وحط الخطايا

الدرجات وحط الخطايا وعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة -أو قال: قلت: أخبرني بأحب الأعمال إلى الله- فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة). قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان. وهذا الحديث أخرجه مسلم واللفظ له، والنسائي وابن ماجة والترمذي. هذا الحديث يدل على فضيلة عظيمة لصلاة التطوع، وإنما استدللنا به على فضيلة صلاة التطوع رغم أنه يشمل الفرائض، بسبب قوله صلى الله عليه وسلم هنا (عليك بكثرة السجود لله)، فالفرائض غير قابلة للزيادة على ما شرع الله فيها، أما التطوع فمنه ما هو مقيد، ومنه ما هو مطلق، فهذا ترغيب في كثرة التطوع لله سبحانه وتعالى. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بكثرة السجود لله)، المقصود به: عليك بالإكثار من صلاة التطوع، وفي بعض الأحاديث يقول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن شاء فليستقل ومن شاء فليستكثر)، وهنا قال: (عليك بكثرة السجود لله)، فالمراد بالسجود صلوات التطوع؛ لأن السجود لغير صلاة أو السجود بلا سبب غير مرغب فيه على انفراده، ومن العلماء من يجيز التعبد بالسجدة المفردة، لكن عامة العلماء يمنعون ذلك. والسجود وإن كان يصدق على الفرض لكن الإتيان بالفرائض لابد منه لكل مسلم، وإنما أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم هنا في هذا الحديث إلى شيء يختص به، وينال به ما طلبه من دخول الجنة؛ حيث ذكر له أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى. والسر في التعبير عن الركعة بالسجود: أن السجود أكثر أعمال الصلاة تحققاً في العبودية لله عز وجل، فإنه مظهر لانكسار النفس وذلها لربها تبارك وتعالى. وفيه يتحقق معنىً من أعظم معاني العبودية، وهو الخضوع لله عز وجل؛ حيث إن حقيقة العبادة تمام الحب مع تمام الخضوع والذل. وأي نفس انكسرت وذلت لله عز وجل استحقت الرحمة. وأيضاً ورد في فضيلة السجود قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء)، يعني: أكثروا الدعاء في السجود.

كثرة التطوع سبب لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة

كثرة التطوع سبب لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وورد حديث قريب من معنى هذا الحديث الذي ذكرناه، وهو حديث ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه وحاجته -وضوئه: يعني الماء الذي يتوضأ به- فقال لي: سل -يعني: أراد أن يجزيه عن هذه الخدمة- فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، وهذا أخرجه مسلم وأصحاب السنن، والشاهد فيه أنه سمت همته وارتقت إلى أن يطلب هذه المرتبة الخطيرة حيث قال: (أسألك مرافقتك في الجنة)، فلما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أو غير ذلك؟) يعني: اطلب شيئاً أخف من ذلك، أصر، ولو قيل لغيره أو فتحت هذه الفرصة لشخص آخر ربما طلب من أعراض الدنيا، أو حتى لو طلب من الآخرة لربما طلب مجرد النجاة من النار، لكن انظر كيف رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على الارتقاء بهمتهم لنيل أعلى المراتب، كما علمهم ذلك أيضاً في قوله: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. فلما قال له: (أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك)، يعني: لا أتنازل، وأنت الذي أعطيتني هذه الفرصة وقلت لي: (سل) وأطلقتها، فقال عليه الصلاة والسلام: (فأعني على نفسك بكثرة السجود). إذاً: هذا يدل على أن الوسيلة لنيل هذه المرتبة العالية كثرة السجود لله سبحانه وتعالى، وهذا الأصل أنه يكون في الصلاة، والذي يقبل الكثرة هو صلوات التطوع بخلاف الفريضة؛ فإنه لابد لكل مسلم من الإتيان بها. إذاً: هذه من فضائل صلوات التطوع.

التطوع يجبر النقص الذي يطرأ على الفريضة

التطوع يجبر النقص الذي يطرأ على الفريضة ومنها أيضاً: ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا جل وعز للملائكة وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؛ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فرضيته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم)، أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة. فهذه إحدى الحكم أيضاً من وراء مشروعية صلاة التطوع: أن بالتطوع يجبر النقص أو الخلل الذي يطرأ على صلاة الفريضة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة)، والمقصود (من أعمالهم) يعني: المتعلقة بحق الله تبارك وتعالى، وهذا لا يتعارض مع الروايات الأخرى التي فيها: (إن أول ما يقضى فيه بين الناس الدماء)؛ باعتبار أن ذلك متعلق بحقوق العباد، أما قوله: (أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة) فيعني: الحقوق المتعلقة بحق الله عز وجل، وهي الصلاة. وقوله: (يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي: أتمها أم نقصها) قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكمل له ما نقص من فروض الصلاة وأعدادها بفضل التطوع. أي: إما أن النقص يكون من صلاة لم يصلها، أو نقص عددها، أو يحتمل أن يكون هذا النقص هو ما نقص من الخشوع الواجب عليه في الصلاة، فيحتمل أنه يكمل النقص الذي يطرأ في الخشوع. يقول القاضي أبو بكر بن العربي: والأول عندي أظهر. يعني: أنه يكمل به نقص عددها أو فرضها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم الزكاة كذلك، وسائر الأعمال)، وليست في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة، وفضل الله تعالى أوسع، ووعده أنفذ، وعزمه أهم وأتم. وقال العراقي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعة فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وأنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيه وإنما فعله في التطوع. أي: أنه يكون قد صلى صلاة تطوع خاشعة، أتى فيها بأذكار كثيرة، وأتى بهذه الآداب كلها، ويكون نقص ذلك من فريضة، فيكمل النقص الذي في الفريضة بما فعله وأتى به في التطوع. يقول العراقي: ويُحتمل أن يُراد به ما انتقص أيضاً من فروضها وشروطها، ويُحتمل أن يُراد ما ترك من الفرائض رأساً فلم يصله، فيُعوض عنه من التطوع، والله سبحانه وتعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضاً عن الصلوات المفروضة. فهذا فيما يتعلق ببعض الأحاديث في فضيلة صلوات التطوع ذكرناها في معرض كلامنا على حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة -أو قال: بأحب الأعمال إلى الله- فسكت، ثم سألته، فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة) قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان. فهذا فيما يتعلق بما ورد في صلوات التطوع.

أنواع التطوع

أنواع التطوع والتطوع -كما هو معلوم- نوعان: تطوع مطلق، وتطوع مقيد. أما التطوع المطلق: فهو الذي لم يأت فيه الشرع بحد، فلم يحدده بعدد أو يربطه بوظيفة أو وقت، فمثلاً: صدقة التطوع لك أن تتبرع في سبيل الله بما شئت، ولو نصف تمرة، ولك أن تتطوع بالصلاة في الليل والنهار مثنى مثنى، لكن التطوع المطلق لا يداوم عليه الإنسان مداومته على السنن الرواتب. أما التطوع المقيد: فهو التطوع الذي جاء له حد في الشرع، فمثلاً: من أراد أن يأتي بسنة الفجر الراتبة فلا يتحقق منه الإتيان بها إلا بركعتين قبل صلاة الفجر، ولابد من مراعاة عدد الركعات أنها اثنتان، ووقتها بعد دخول وقت الفجر، وأن يصليها بنية راتبة الفجر. كذلك مثلاً: من أراد أن يصلي صلاة الكسوف لا تتحقق صلاته إلا بالصفة المشروعة، وكذا صلاة العيدين، وهكذا غيرها من السنن التي جاء الشارع بوصف محدد ومعين لها.

الحث على التمسك بالسنة

الحث على التمسك بالسنة لكن كلامنا على التطوع المطلق بصفة أساسية، ونلخص لكم رسالة مباركة من تأليف الشيخ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم بعنوان: (ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية). والشيخ ابن برجس كتبه مباركة وعظيمة النفع جداً، ككتابه (التمني) وكتابه الآخر (عوائق الطلب)، يعني: عوائق طلب العلم، وهذا أيضاً من كتبه التي فيها فوائد مهمة، إن شاء الله نلخصها فيما يأتي:

الآيات الحاثة على التمسك بالسنة

الآيات الحاثة على التمسك بالسنة عقد فصلاً في الحث على التمسك بالسنة، فقال: السنة هي الجنة الحصينة لمن تدرعها، والشرعة المعينة لمن تشرعها، درعها صافٍ، وظلها ضاف، وبيانها وافٍ، وبرهانها شافٍ، وهي الكافلة بالاستقامة، والكافية في السلامة، والسلم إلى درجات المقامة، والوسيلة إلى الموافاة بصروف الكرامة، حافظها محفوظ، وملاحظها ملحوظ، والمقتدي بها على صراط مستقيم، والمهتدي بمعالمها صائر إلى محل النعيم المقيم، ولقد تواصلت النصوص الشرعية وأقوال الصحابة والتابعين المرضية على الترغيب فيها، والحث على التمسك بها، فمن الكتاب قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال أيضاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. وهذا لا شك أنه في الاتباع المطلق، وذلك بأن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً مطلقاً، لا يُقيد بفرض مثلاً، بل اتباع في الفريضة وفي النافلة وفي العادات؛ فالإنسان كلما ازداد اقتداؤه بالنبي عليه الصلاة والسلام في جميع موارده ومصادره وأحواله، كان ذلك علامة على رسوخ المحبة في قلبه. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال أيضاً: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].

الحث على التمسك بالسنة من السنة

الحث على التمسك بالسنة من السنة ومن السنة: ما رواه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). ولا شك أن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) ينبغي أن يكون شعاراً لكل مسلم، فكل مسلم لابد أن يرفع هذا الشعار في كل أحواله وفي كل ما يعرض له من مسائل يشك فيها أو يرتاب فيها، فيسأل نفسه: هل هذا يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم أم يصادمه؟ بحيث تحسم له كثير من الأمور التي يتشكك فيها أو يرتاب في الإقدام عليها، فهذا هو المخرج مما وصل إليه المسلمون، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو أمماً وشعوباً، فإنهم محتاجون إلى هذا لكي يعودوا إلى ما كانوا عليه من العز والتمكين، فعليهم أن يرفعوا هذا الشعار من جديد: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، وكل ما خالفه فهو شر كما قال: (وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)، ومن ثمَّ كان صلى الله عليه وسلم دائماً ما يستفتح خطبه بهذه الخطبة -خطبة الحاجة- التي تتضمن هذا الشعار المقدس: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم). وفي المسند عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ فقال: قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها -يعني: ليلها أبيض كنهارها- لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين). إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يخبر مسبقاً بما وقعت فيه هذه الأمة بالفعل من افتراقها إلى الفرق المعروفة، ولهذا قال: (من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ووصف الداء ثم وصف الدواء، فأخبر بالداء، وهو داء الفرقة، ثم لم يدعنا حتى وصف لنا العلاج الذي نداوي به هذا الداء وهو السنة؛ فإن السنة هي التي تجمع المختلفين، والعلاج ينبغي أن يكون على معتقد سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك قال: (ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ). وقوله: (بالنواجذ)؛ فيه كناية عن شدة التمسك بها؛ ولذلك يُربط في تسمية أهل السنة لفظ (السنة) بلفظ (الجماعة) فيقال: (أهل السنة والجماعة)؛ لأن السنة تجمع وتؤلف القلوب، أما البدع فيقال: أهل البدع والافتراق، فطريق الحق واحد، والباطل هو الذي يتعدد. و (الجماعة)، يعني: التي تجتمع على السنة في مقابلة البدع فإنها كثيرة الافتراق، فهي التي تشتت الأمة، فهذا أيضاً دواء لكل أدوائنا، وخاصة داء الفرقة والاختلاف الكثير، ولذا قال: (ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين). وفي سنن ابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟! والذي نفسي بيده! لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلا هي، وايم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء). وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)، وهذا الحديث رواه أحمد والطبراني، وزاد: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُين لكم)، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يُسم. يعني: هذا الحديث فيه كلام.

الحث على التمسك بالسنة من أقوال السلف والعلماء

الحث على التمسك بالسنة من أقوال السلف والعلماء أما أقوال الصحابة والتابعين في الحث على السنة فما أكثرها! منها: ما رواه الدارمي عن الذهلي رحمه الله قال: (كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة). وعن هشام بن عروة عن أبيه رحمه الله قال: (السنن السنن! فإن السنن قوام الدين). وعن الأوزاعي رحمه الله قال: (كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله). وأخرج البيهقي من طريق مالك: (أن رجاء حدثه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وحاله، ويهتم به؛ حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك). وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما جلس يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم- يتتبع الدباء من حوالي الصحفة، فما زلت أحب الدباء من ذلك اليوم)، ولذلك بوب الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث فقال: باب جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين. واليقطين: هو الدباء. وعن عبد الله بن الديلمي قال: (بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنن، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة). وعن عبد الله بن عون رحمه الله أنه قال: (ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني: أن ينظر الرجل المسلم القرآن فيتعلمه، ويقرأه، ويتدبره، وينظر فيه، والثانية: أن ينظر ذاك الأثر والسنة فيسأل عنه، ويتبعه جهده، والثالثة: أن يدع الناس إلا من خير). وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: (إن لله عباداً يحيي بهم البلاد، وهم أصحاب السنة). وعن أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء أنه قال: (من ألزم نفسه آداب السنة عمر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه، والتأدب بآدابه قولاً وفعلاً ونية وعقداً). وعن الجنيد قال: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته؛ فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه). فمتى ما حافظ المسلم على السنة محافظته على الطعام والشراب الذي به قوام البدن أو أشد غمرته الفوائد الدينية والدنيوية. والحقيقة: أن التشبيه الذي ذكره تشبيه مؤلم، فالإنسان منا إذا راجع نفسه وسأل نفسه: هل يحافظ على السنن -بمعناها الواسع- محافظته على الطعام والشراب؟ فللأسف الشديد قد يكون حال كثير من الناس أنه لا يمكن أن يفرط في الطعام والشراب، لكن يهون عليه أن يفرط في السنة، مع أن حاجة الإنسان إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم أهم وأقوى من حاجته إلى الطعام والشراب. يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله: (وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضا الرب سبحانه وتعالى، ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودعة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم). وقال ابن حبان رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه: (وإن في لزوم سنته عليه الصلاة والسلام تمام السلامة، وجماع الكرامة، لا تطفأ سرجها، ولا تدحض حجتها، من لزمها عُصم، ومن خالفها ندم؛ إذ هي الحصن الحصين والركن الركين الذي بان فضله، ومتن حبله، ومن تمسك به ساد، ومن رام خلافه باد، فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل).

انتشار الفهم السيئ والتطبيق الخاطئ لمصطلحات الفقهاء في السنة والمستحب

انتشار الفهم السيئ والتطبيق الخاطئ لمصطلحات الفقهاء في السنة والمستحب وقال الغزالي رحمه الله في كلام له في هذا الصدد: (اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، لست أقول ذلك في آدابه في العبادات فقط؛ لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة في غيرها، بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يتحقق الاتباع المطلق). يعني: حتى يتحقق الاتباع المطلق لابد من الاقتداء بكل ما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، فجاء الأمر بالاتباع اتباعاً مطلقاً. فما أكثر ما نُسيء استعمال ألفاظ العلماء والفقهاء! وموضوع التفريق بين السنة والمستحب والنوافل وهذه الاصطلاحات التي أنشئت متأخرة عن زمن الوحي وعن القرون الأولى، هذا من باب التصنيف والتسهيل على طالب العلم، لكننا اعتدنا الآن أن نرى أناساً يسيئون فهم هذا التصنيف، فهذا التصنيف ما قُصد به أن تأتي بما شئت من الفرائض حتماً ولزوماً، لكن أنت مخير في الإتيان بالسنة أو تركها، فمثل هذه المفاهيم مخالفة لهدي السلف الصالح، فعلى الإنسان ألا ينظر للسنة بأنها شيء يسهل ويهون على الإنسان أن يفرط فيه، ولا يشعر بمصيبة إن فاته. كما يحصل أيضاً في جانب طلب الترك غير اللازم كما في المكروه، فالناس أيضاً تعودوا أن يستعملوا اصطلاح (المكروه)؛ وأن المكروه شيء يمكن فعله، فتكلم أحدهم في السجائر فيقول: بعض العلماء قالوا: مكروه. يعني: مكروه كأنه لا حرج في أن يأتي بمكروه. فمثل هذا التقسيم ما أُريد به أن ينصبغ المسلمون بهذه الصبغة التي يشيع فيها التساهل والتفريط وهوان السنة على قلوبهم، وإنما هو لإعطاء الأمور مراتبها فقط، وما قُصد به هذا الفهم السيئ، يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فقوله: (ما آتاكم): هذه تفيد العموم، فلا يليق بعاقل بعد ذلك أن يتساهل في امتثال السنة، ولا شك أن غربة الإسلام في زماننا تُعتبر عنصر ضغط على المتبعين لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن الإنسان يصبر، فما هي إلا أيام قلائل ويُطوى هذا العمر، ثم يجني ثمرة صبره على هذه الغربة، ويكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (طوبى للغرباء؛ أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم). يقول الغزالي: (فهل بعد ذلك يليق بعاقل أن يتساهل في امتثال السنة، فيقول: هذا من قبيل العادات فلا معنى للاتباع فيه؟! فإن ذلك يغلق عنه باباً عظيماً من أبواب السعادة)، أي: أن هذا يحرم نفسه من باب عظيم جداً من أبواب السعادة وهو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع موارده ومصادره، وفي كل أحواله، وفي حركاته وسكناته. يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى في (الشفاء): (وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس، وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة: فما زلت أحب الدباء من يومئذٍ). فانظر إلى شدة المحبة! واتباع السنة ثمرة طبيعية للمحبة، وكلما قرت المحبة في القلب حرص الإنسان على أن يقتدي بمحبوبه، وهذا نراه في أحوال الناس، حتى الذين يقتدون بلاعبي الكرة أو بالممثلين أو بالفنانين، حيث تجد أحدهم يغير شكله لشدة محبته لهذا الشخص بما يتوافق مع هيئته، ويهتم جداً بماذا يأكل وماذا يلبس، وأي الألوان يحب، وأي الطعام يحب، وما هو المشروب المفضل عنده! وكل هذه التفاهات في أمثال هؤلاء الناس، فأولى ثم أولى أن يتحرى المسلمون الاتباع المطلق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا ابن جعفر أيضاً رضي الله تعالى عنهما أتوا سلمى، وسألوها أن تصنع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطعام الذي طلبوه لا يريدونه طعاماً أي طعام، وإنما بشرط أن يكون مما كان يحب ويعجب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية، ويصبغ بالصفرة؛ إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

فوائد وثمار الإكثار من السنن والنوافل

فوائد وثمار الإكثار من السنن والنوافل فلو أن كل فرد من أبناء هذه الأمة نشأ وبين عينيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها آدابه وأخلاقه وحركته وسكونه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً لنشأ جيل إيمانه كالجبال، يقذف الرعب في قلوب أعدائنا على مسيرة شهر، وينهض بالأمة إلى أعلى ما تصبو إليه من السعادة والسيادة، كما قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].

من ثمرات النوافل والسنن محبة الله عز وجل للعبد

من ثمرات النوافل والسنن محبة الله عز وجل للعبد ونذكر من ثمرات الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنك إذا حافظت على السنة فإنك ترتقي إلى درجة المحبة، يعني: محبة الله عز وجل لعبده المؤمن، فليس أنك تحب الله؛ لأن هذا حتم عليك بالعقل قبل الشرع؛ فإنه يجب أن تحب من أحسن إليك وأوجدك من العدم، وأفاض عليك نعمه ظاهرة وباطنة، فهل هذا شأن عظيم أن يحب العبد سيده الذي أنعم عليه، وأوجده من العدم، وأفاض عليه النعم؟! هذا أقل ما يجب، لكن الشأن: أن يحب الرب العبد، أي: أن الله سبحانه وتعالى يحب العبد، فما هو الباب المؤدي إلى هذا السبيل؟ وكيف يصل الإنسان إلى هذه المرتبة العظيمة؟ فتخيل أن الله سبحانه وتعالى يحبك، وتخيل أنك إذا فعلتك هذا الشيء -وهو المحافظة على السنن- يذكر اسمك في الملأ الأعلى؛ لأنه إذا أحبك الله (ينادي سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام: (يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في الملأ الأعلى -في الملائكة-: إن الله سبحانه وتعالى يحب فلاناً فأحبوه)، فانظر إلى الموالاة كيف يربط هذه المرتبة بين قلوب المؤمنين في الأرض وبين الملأ الأعلى من الملائكة في أعلى السماوات! قال: (ثم ينادي في الملائكة: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يُوضع له القبول في الأرض)،كل هذا نشأ عن ماذا؟ وبدأ بماذا؟ فإذا أحب الله عبده وضع له هذا القبول في السماوات قبل الأرض، فما أعظمها من منزلة! ولا يبعد عنها إلا دنيء الهمة سافلها. إذاً: هذه أول ثمرة من ثمرات الحرص الشديد على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو أعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة. وهذا عدل، فمن السهل أن الإنسان يدعي لنفسه أنه يحب الله عز وجل، أو أن الله يحبه، لكن لابد من بينة، كما يقول الشاعر: إن كنت تنوح يا حمام البان للبين فأين شواهد الأحزان أي: أين الدليل على أنك حزين؟ أجفانك للدموع أم أجفاني لا يقبل مدعٍ بلا برهان ويقول الآخر: إذا اشتبكت دموع في جفون تبين من بكى ممن تباكى فليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، فقيل: لا تقبل الدعوى إلا ببينة، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية يمتحن بها الصادق من الكاذب: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فتأخر الخلق كلهم، وعند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان. فحينما طالبهم الله سبحانه وتعالى بإقامة البينة نكص الخلق كلهم على أعقابهم، وارتدوا وفشلوا في أن يقيموا البينة، وثبت فقط أتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله وأخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، وهؤلاء فقط هم الذين صدقت لهم دعوى المحبة، وطُرد الباقون من قاعة المحبة، ووقف فقط الذين أتوا بالدليل وبالوثائق التي تثبت صدق المحبة، وأنهم فعلاً عندهم البينة، وهي: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. فالله لا يحب إلا من اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الإكثار من النوافل والسنن يجعل المرء من الأولياء

الإكثار من النوافل والسنن يجعل المرء من الأولياء روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، هذا الحديث لا شك أنه نص واضح وصريح على أن المثابرة والمداومة والملازمة على الإتيان بسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكون سبباً من أسباب الحصول على محبة الله سبحانه وتعالى للعبد، فالله سبحانه وتعالى يتولى من يواليه، ويعادي من عادى هذا الولي، كما قال سبحانه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فهذا إعلان حرب على من يعادي أولياء الله عز وجل. وقوله: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه)، هذا يبين أهمية الإتيان بالفرائض أولاً. ثم يقول تبارك وتعالى: (وما يزال) وتأملوا كلمة (ما يزال) التي تفيد الثبات والاستمرار والمداومة، وقد عبر عنها في الحديث الآخر: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة) إلى آخره، فقوله: (من ثابر)، يعني: من واظب، فالعبرة بأن يواظب الإنسان ويستمر ولا ينقطع؛ لأننا أمرنا بالاستقامة. ولما سأل أبو عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (حدثني في الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك. فقال: قل آمنت بالله، ثم استقم)، يعني: سأل النبي عليه الصلاة والسلام بحسن نظره وحصافته وذكائه أن يلخص له في كلمات وجيزة كل ما أجمله خلال ثلاث وعشرين سنة -وهي مدة البعثة الشريفة- فقال: قل لي في الإسلام قولاً يكفيني، بحيث لا يحوجني إلى أن أسأل عنه أحداً بعدك، فقال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم). فقوله: (آمنت بالله) هذا يشمل الإيمان بكل شعبه: القلبية، والعملية، والاعتقادية وكل أمور الإيمان. وقوله: (ثم استقم) هذا شرط الثبات على التقوى، فكلمة (الاستقامة) مركبة من معنيين: تقوى، وثبات على التقوى. وأحياناً النصوص الشرعية يعبر عنها في لفظ واحد هو (الاستقامة)، وأحياناً تُفصل كما في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، فلابد من تقوى وثبات على التقوى حتى الممات؛ لأن الأعمال بالخواتيم، والخواتيم مغيبة. فإذاً: لابد من التقوى والثبات على التقوى، فهذا هو الشأن؛ ولذلك يهتم الشرع الشريف بموضوع الثبات. وقوله: (وما يزال عبدي يتقرب إلي)، أي: أنه لم يكتف بأداء الفرائض كما أمره الله سبحانه وتعالى، بل من شدة محبته لله هو حريص على أن يتقرب إلى الله، فلما فتح له باب النوافل واجتهد فيها وثابر وثبت عليها أحبه الله. والأصل في المسلم أنه يعبد الله سبحانه وتعالى حتى لو قدر له أن يعيش في الدنيا حياة خالدة لا تنتهي؛ لأنه لا يعرف متى يموت، فهو يصبر على طاعة الله عز وجل إلى الأبد، وينوي الإيمان والثبات على الطاعة إلى الأبد، فمن ثمَّ جوزي بهذه النية بأن يبقى في الجنة خالداً فيها أبداً، فإذاً: التأبيد في الجنة إنما هو جزاء على نية التأبيد على الطاعة في الدنيا. وكذلك بالنسبة للكفار، فالكافر ينوي أن يجلس على الكفر ولو عاش إلى الأبد، فيؤخذ بهذه النية، ويعاقب بالخلود في نار جهنم -والعياذ بالله تعالى- خالداً مخلداً لا يموت فيها ولا يحيى. فإذاً: نية التأبيد والمثابرة أنت تثاب عليها بهذا الخلود في جنة الرضوان. وقوله: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)، أي: يوفقه الله سبحانه وتعالى أنه لا يستعمل أذنه إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا من تيسير الطاعات، وتبغيض الكفر والفسوق والعصيان إلى هذا العبد، فالله سبحانه يحبب إليك الإيمان ويزينه في قلبك، حتى لا تستعمل حواسك إلا فيما يرضيه، فمن أعظم أبواب التوفيق أن يوفقه الله إلى أن يستعمل حاسة السمع فيما يرضيه. وقوله: (وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، يعني: أنه يكون مجاب الدعوة، فلا شك أن النوافل في ضوء هذا الحديث من أعظم الأسباب الجالبة لمحبة الله سبحانه وتعالى للعبد ولثمرات هذه المحبة وبركاتها. وأيضاً جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وهذا لفظ البخاري، ولا شك أن هذه أيضاً ثمرة عظيمة كان منبعها أن الله أحب هذا العبد، فجعل له هذا القبول.

من ثمرات المحافظة على السنن والنوافل جبر نقص الفرائض

من ثمرات المحافظة على السنن والنوافل جبر نقص الفرائض وأيضاً من ثمرات النوافل والسنن: أنها تجبر كسر الفرائض: كما ذكرنا الحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب الناس عليه يوم القيامة من أعمالهم الصلاة. قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي: أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كُتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؛ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تُؤخذ الأعمال على ذاكم)، يعني: سائر الأعمال، فينظر مثلاً الزكاة فيها صدقة فريضة وصدقة تطوع، فإذا كان هناك نقص في الفريضة يجبر من التطوع، وكذلك الحج، وكذلك العمرة على القول بوجوبها، وهكذا الصيام وغيره. ومما لا ينكره منكر أن الإتيان بالفرائض كما أراد الله سبحانه وتعالى متعذر على أكثر الناس؛ لأنه لا يكاد أن تخلو العبادة من نقص؛ كترك الخشوع، أو ترك الطمأنينة في الصلاة، ولا يكاد يخلو أحد من اللغو، أو الغيبة حال الصيام مثلاً والعياذ بالله، أو الجدال والفسوق في الحج إلى آخر ذلك مما يعتبره العبد من النقائص والتفريط بصفته البشرية، ولا شك أن هذه الأشياء تنقص ثواب فرضه ويؤاخذ بها، لكن الله سبحانه وتعالى فتح لنا باباً يجبر هذا الكسر، ويقوم هذا الخلل، ويتمم هذا النقص في الفرائض بالمحافظة على ما شرعه من السنن والنوافل. والمندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم من الاعتبار المتقدم وجدته خادماً للواجب؛ لأنه إما مقدمة له بين يديه، أو تكميل له، أو تذكار به إن كان من جنس الواجب.

من ثمرات المحافظة على السنن مضاعفة الأجر

من ثمرات المحافظة على السنن مضاعفة الأجر ومن ثمرات التمسك بالسنة والمحافظة عليها: ما رواه المروزي في كتاب (السنة) عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين. قالوا: يا نبي الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم)، وهذا أخرجه الترمذي وغيره. وأيضاً عن جاء أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)، قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: (قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه أيضاً الحاكم، ووافقه الذهبي. فالشاهد في هذا الحديث الشريف أولاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمى أيام الفتن والإعراض عن الدين بأنها أيام الصبر، ونسبت إلى الصبر للمشقة التي يلقاها الإنسان في الاستقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى، فيحتاج إلى قدر أقوى من المجاهدة؛ لأن البيئة من حوله تثبطه وتخذله عن الثبات؛ فلذلك هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا أنه يشاركنا الإحساس بهذه الغربة، ويشاركنا بهذه الآلام، ويبشرنا بأنها لن تضيع سدى؛ لأن الإنسان إذا وُجد في بيئة صالحة تعينه على البر وعلى الطاعة فهذا يسهل عليه الطاعة، فإذا انتقل إلى بيئة معاندة تصده عن طاعة الله سبحانه وتعالى وتحرضه على الانحراف، فإذا ثبت وقاوم فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، إنما يحتاج هنا إلى مجاهدة أقوى وأكثر، فبالتالي إذا ثبت على الطريق فإنه يثاب. قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين)، فتأملوا كلمة (بما أنتم عليه)؛ لأنها تتضمن فضيلة لمنهج من يتبع السلف اتباعاً صحيحاً، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]، تأمل كلمة (مثل)! ففيها أيضاً إشارة إلى عصمة هذا المنهج الذي يقوم على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا هداية إلا بأن نكون على مثل ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما جاء في بعض الروايات أيضاً لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). فإذاً: هذه المثلية ليست أمراً اختيارياً، بل هي أمر محتم علقت عليه الهداية، وعلقت عليه النجاة من النار. وقوله: (للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم)، يعني: أن المسلم الذي يعيش في مثل هذه الأزمان -أزمان الغربة- ويعمل نفس الطاعة التي كان يعملها الصحابي يؤجر مثل خمسين صحابياً كانوا يفعلون نفس العبادة، فاستكثروا ذلك وقالوا له: (يا نبي الله! منا أو منهم -أي: هل تقصد منا أو منهم- قال: بل منكم)؛ لأنه روي في بعض الزيادات: (لأنكم تجدون على الخير أعواناً، ولا يجدون على الخير أعواناً)، فهذه وإن لم تصح فهي تفسير صحيح لظاهرة الغربة. فمن هو الغريب؟ الغريب: هو الذي يعيش في مكان ليس له أهل، أو له أهل قليلون، فهكذا المتمسك بالسنة، وقد قال: سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (استوصوا بأهل السنة خيراً؛ فإنهم غرباء)، وشأن الغريب أن يرفق به، فهنا الغرباء متمسكون ومسئولون على التمسك بهدي النبي عليه الصلاة والسلام رغم أنهم غرباء في هذا المحيط الهادر من الفتن. وقوله في الحديث الآخر: (فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر)، أي: أن الصبر فيهن على الدين مثل القبض على الجمر، ليس فقط مجرد الاقتراب من الجمر أو إمساك الجمر، وإنما عبر عنه بكلمة (القبض)، يعني: التمسك مع الألم الذي يحس به نتيجة القبض على الجمر والتمسك بالسنة، لكن الجزاء: (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم).

العمل بالسنن عصمة من الوقوع في البدع

العمل بالسنن عصمة من الوقوع في البدع وأيضاً العمل بالسنة فيه عصمة من الوقوع في البدعة، يقول أبو محمد عبد الله بن منازل رحمه الله: لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يُبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يُبتلى بالبدع. فهذا هو تدرج الشيطان بالإنسان؛ إذا ضيع فريضة لابد أن يُبتلى بتضييع السنة؛ لأنه إذا هانت عليه الفريضة فأولى أن تهون عليه السنة، فلم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يُبتل بتضييع السن أحد إلا يوشك أن يُبتلى بالبدع؛ ولذلك قال بعض السلف: (الاعتصام بالسنة نجاة)، يعني: النجاة من كل ما يعيقك عن الله سبحانه وتعالى وبالذات البدع. ولذلك نجد البدع تفشو في المجتمعات التي لا ينتشر فيها نور السنة، فلم تر جاهراً بالسنة ولا داعياً إليها ولا حاثاً على امتثالها، ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة؛ حتى تحيا البدع وتموت السنن).

الحرص على إقامة السنن من تعظيم شعائر الله

الحرص على إقامة السنن من تعظيم شعائر الله أيضاً: الحرص على إقامة السنن هو من تعظيم شعائر الله عز وجل: وهذا داخل في قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وهذا مظهر خارجي يعكس وجود التقوى في القلوب، فتقوى القلب تنضح على الظاهر بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشعائر جمع شعيرة، وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه والترغيب فيه. وقوله: (ومن يعظم شعائر الله) يشمل ما هو أعم من المناسك والهدايا والقربان للبيت، فكل ما أشعر الله تعالى بتعظيمه وإجلاله والقيام به وتكميله على أكمل ما يقدر عليه العبد داخل في ذلك، فمثلاً: تعظيم الهدايا التي تهدى إلى البيت ينبغي مراعاة السنة فيها أن تكون ثمينة حسنة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. ومثل هذه الأشياء لا يقوى عليها إلا من كان ذا قلب تسنم ذروة التقوى، فلذلك تجود نفسه بأن يخرج لله عز وجل من ماله طيبة بذلك نفسه أحسن ما يقدر عليه؛ لأن هذا يوجهه إلى الله سبحانه وتعالى. ومن أعظم شعائر الله عز وجل: السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالمحافظة عليها والوصية بها من إجلال هذه الشعائر وتعظيمها المنبعث من تقوى القلوب.

أجر من اقتدي به في العمل بالسنة

أجر من اُقتدي به في العمل بالسنة أيضاً من فضائل التمسك بالسنة: أن الإنسان إذا عمل بالسنة ثم اُقتدي به في العمل بهذه السنة فإنه يؤجر مثل أجر كل من اتبعه لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً: والدليل حديث جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر؛ بل كلهم من مضر، فتمعر -تغير- وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة -أي: لما رأى من آثار الفقر الشديد عليهم- فدخل ثم خرج -يبدو أنه دخل يبحث عن شيء في بيوته فما وجد- فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:18]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة -يعني: ليتصدق ولو بشق تمرة- قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت،)، ووضعها أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فالصحابة لما رأوا هذا الرجل الأنصاري يفعل ذلك اقتدوا به فيما فعل، فيقول: (ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة -يعني: كأنه فضة- حينئذٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) إلى آخر الحديث. قوله: (ولو بشق تمرة) فيه حث على الابتداء بالخيرات، فالإنسان يحرص دائماً على أن يبتدئ بالخيرات، فإما أن يفعل هو خيرات ابتداءً فيقتدي به الناس، أو يحرضهم؛ لأن: (الدال على الخير كفاعله). وقوله: (من سن) يعني: من أحيا. وليس المقصود: من اخترع أو ابتدع؛ لأنه يتصادم مع عموم قوله: (كل بدعة ضلالة)، فلا يمكن أبداً أن يقبل ما يقوله أهل البدع حين يخترعون في الدين، ثم يقولون: (من سن)، فهل الصدقة اختراع؟ وهل هذا الصحابي الأنصاري الذي تصدق اخترع الصدقة أم أنه أحيا سنة الصدقة فاقتدى الناس به في ذلك؟ فإذاً قوله: (من سن) لا يمكن أن يكون معناه: من أحدث في الدين ما ليس منه، بل هذا بدعة وضلالة كما نعلم. وسبب ورود هذا الحديث هو ما جاء في أوله (فجاء رجل أنصاري كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، فتتابع الناس) إلخ. فإذاً: كان لهذا الرجل فضل فتح هذا الباب من الإحسان، وهذا طبعاً يفيد التحريض على أن المسلم حيث ما كان ينبغي أن يحرض الناس على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

اتباع السنة أمان من الفرقة

اتباع السنة أمان من الفرقة أيضاً من فضائل اتباع السنة: أن في التزامها أمناً من الافتراق: لأن الاجتماع على عمل بالسنة يسد باب الاختلافات والافتراقات التي تؤدي إلى العداوات والبغضاء، كما في الحديث: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي). إذاً: لا يصلح أبداً أي علاج للفرقة إلا إذا كان على وفق سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك كلما كان المجتمع أكثر تمسكاً بالسنة انقطعت فيه البدع وأهلها، يقول شيخ الإسلام: والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، في مقابلة: أهل البدع والافتراق، وقد قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، قال قتادة في تفسيرها: يعني أهل البدع. وقال عبد الرحمن بن مهدي: سئل مالك بن أنس عن السنة؟ فقال: (هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153])، ولذلك أهل السنة لا ينسبون إلى أحد خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

رفقا أيها المربي

رفقاً أيها المربي يعتبر المربي هو حجر الزاوية والمحرك الأساسي في عملية التربية؛ لذا لابد أن يخص بنصائح خاصة مميزة تعطيه ملكة في التعامل مع من يربيهم، ويدرك بها خطورة المهمة الملقاة على عاتقه، والتي سيسأل عنها يوم القيامة. ومما ينصح به المربي: أن العقاب البدني الشديد يجب أن يتجنبه، وإن استخدم فهو للتربية والتوجيه لا للتشفي وإخراج ما في النفس من حنق على المتربي، فالعقاب البدني الأهوج والكلمات المهينة لها أثر نفسي قد لا يزول مدى العمر.

التربية الإسلامية وأهميتها للأمة

التربية الإسلامية وأهميتها للأمة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن التربية الإسلامية ربانية المصدر، عالمية الشمول، ثابتة الأصول، مرنة التطبيق، تشمل ميادين الحياة الدنيا وكذلك الحياة الآخرة في توازن واعتدال، فهي تُعد الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى حق عبادته، وعمارة الأرض وخلافتها، وفق منهج رضيه الله لعباده، واختاره لهم، تلك التربية التي تؤصل العقيدة في النفوس، وترسخ الإيمان في القلوب، وتحبب شرع الله عز وجل إلى عباد الله. إلا أن الأمة الإسلامية لما بدأت تتطفل على غير المصادر الإسلامية، أو تطلب الخير من غير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وابتعدت عما أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ انهمكت في تقليد ومحاكاة الأمم الكافرة، فبقدر ما عبت ونهلت من هذه المنابع الأجنبية بقدر ما حصل من الخلل في التربية الإسلامية، والفكر التربوي الإسلامي. وهذا الأمر انعكس بلا شك في العمليات التربوية، ونرى آثاره واضحة في بعض المؤسسات التربوية في العلاقة بين المعلمين والمتعلمين، حيث نرى عدم التوافق وعدم الانسجام، نرى عدم الاحترام، نرى أن الصغير لا يحترم الكبير، وأن الكبير لا يرفق ولا يرحم الصغير، فصارت التربية في مجتمعنا -خاصة في هذا الزمان- تسير باتجاه مخالف لذلك الاتجاه الذي كان عليه سلف الأمة الصالحون، فالتربية صارت عديمة الجذور، تنزوي بسرعة، وتجتاحها أخف الرياح وأقل الأمطار، مثل البناء المقام على أرضية رخوة ينهار لأدنى عامل مضاد؛ وذلك لأن المناهج التربوية الغربية في قسم كبير منها غير موصولة بخالق هذا الإنسان الذي قال سبحانه وتعالى عنه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الإنسان، وهو الذي يعلم ما يصلحه وما يفسده كي يجتنبه، فإذا طالعنا الصحف كم نرى من الأخبار المؤذية والسيئة التي تعكس انهيار الجانب التربوي في المجتمع حوادث مؤسفة يصل فيها الأمر إلى اعتداء الابن على أبويه، أو قتل الأب لابنه، أو مدرس يضربه التلاميذ إلخ، ونحو ذلك من الحوادث الأليمة المؤسفة، وما ذاك إلا لبعدنا عن هدي منهجه صلى الله عليه وسلم الذي هو خير الهدي، وبسبب بعدنا عن الاستفادة منه في معالجة تجاوزات الطلاب.

مبدأ الرفق في التربية وأثره

مبدأ الرفق في التربية وأثره مبدأ الثواب والعقاب مبدأ أساسي جداً، ومبدأ في غاية الأهمية، ولا يمكن أن تتم أي تربية بغير الثواب والعقاب، أو بغير الترغيب والترهيب، لكن بعض الناس يسيء فهم بعض النصوص، خاصة مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (واضربوهم عليها لعشر سنين)، فيتصرف في تطبيق هذا الحديث، فنجد الضرب منذ الثلاث سنوات والأربع، وعلى أمور في غاية البساطة، إن أهم أمر في الدين بعد التوحيد هو الصلاة، فإذا كان لا يضرب على الصلاة حتى سن العاشرة، فما بالك بما دون الصلاة؟! وما بالك بدون ذلك السن بكثير؟! فنجد الضرب أول وسيلة، ولا يشعر الأب أو المربي بالتقصير لأنه يستند إلى فهمه المنحرف لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم! الرفق في العملية التربوية مفيد جداً لكثير من الناس، سواء في المساجد أو المنازل أو المدارس؛ ولذلك فإن المربي لا يمكن أن يندم أبداً إذا ترك الرفق بخلاف ما إذا سلك طرقاً أخرى، فكثيراً ما يندم بسبب عواقبها السيئة. إننا نشبه موضوع الرفق مع المربي بحزام الأمان في السيارة، فسائق السيارة يحزم به نفسه حتى إذا ما اصطدمت السيارة فجأة بشيء أو وقع حادث مفاجئ، فإنه لا يخرج منها بدافع القصور الذاتي، وإذا وقفت السيارة بسبب صدمة شديدة فالمفروض أن الجزء الأعلى من السائق ينصدم في الزجاج، كما يحدث في الحوادث المعروفة، فأخذ هذا الإجراء الوقائي مطلوب، حتى إذا ما حصل حادث مفاجئ فإن الحزام من طبيعته أنه يحجز الإنسان عن الاندفاع للأمام، وتجد أن هذا الحزام إذا سحبته برفق فإنه يسير معك، أما إذا سحبته بشدة فإنه يعاند ويشاكس ولا يتحرك، وهكذا إذا أردت ثمرة جيدة للتربية فلا تعدل عن الرفق أبداً، ولا تستبدل به أي وسيلة أخرى. الرفق هو البداية وهو الأصل، فلذلك تجد الطفل -في الغالب- تكسبه إذا رفقت به، أما الشدة فإنها تستخرج منه العناد استخراجاً، وتوجد كثيراً من الآثار السلبية فيما بعد.

الآثار السلبية للعقاب البدني في التربية

الآثار السلبية للعقاب البدني في التربية إن القفز من التدرج المعروف في العلمية التربوية أو التوجيهية إلى عملية المعاقبة والضرب أو العنف هو اعتراف بالفشل، ولذلك نجد الكاتب سلمان العمري له مقالة في المجلة العربية عنوانها: العقاب البدني، هل هو أبغض الحلال إلى المربين؟ عنوان يحمل معان جميلة جداً في الحقيقة، فالطلاق حلال، ويباح في كثير من الأحوال، لكن هل معنى ذلك أن أي مشكلة يواجهها الزوج مع زوجته يفزع إلى الطلاق؟! الطلاق حلال، لكن هل يفزع إليه كأول حل؟ لا، آخر العلاج الكي والبتر، لكن لا بد أن يواجه الإنسان المشاكل بطريقة متدرجة، حتى الضرب الذي ورد في القرآن له عملية تدرج وشروط وضوابط إلى آخره. فما بال بعض الناس يقصدون مباشرة إلى العنف والشدة مع ما لذلك من آثار جسيمة وخطيرة تنعكس على الأسرة والأبناء؟! يقول أحد الباحثين: إن لجوء الوالد أو المدرس إلى العقاب يعتبر اعترافاً بالهزيمة، لماذا يلجأ إليها فوراً من أول خطوة؟ لأنه في الحقيقة ينسى أن العقاب هو عملية تربوية، فيحول العملية التربوية إلى عملية انتقام وتشفي، وإهدار للقاعدة التي دائماً نكررها: (طفلك ليس أنت). معظم الأخطاء التربوية التي تحصل، وكثرة النقد والعنف والشدة التي تنشأ، هي بسبب أنه يجعل عقله مثل عقل الطفل سواء بسواء، ويوازي خبرته بخبرة الطفل، وفهمه بفهمه، وكأنهما أمام ند، لو أنه تفكر قليلاً سيجد أنه ليس نداً! هذا المسكين هو طفل صغير وليس شخصاً كبيراً، حتى لا يوجد هناك تكافؤ عضلي أو جسدي، فهل من المروءة والقوة أن تضرب طفلاً أو تلميذاً بهذا العنف لأنك أكبر منه؟! ولذلك تجد الطالب المراهق إذا عومل بهذه المعاملة، وعنده عضلات وهو قوي، ربما يضرب المدرس؛ لأنه يجد لديه إحساساً بالكفاءة، وأن له القدرة على ضربه، أما الطفل المسكين فماذا يعمل؟ وكيف يدافع عن نفسه؟ وهكذا رجل يضرب امرأة، فهل هذه مروءة؟! عندما يضرب إنسان امرأة بغاية العنف وغاية القسوة، كأنه يصارع ملاكماً؛ هذه دناءة وخفة عقل وقلة مروءة، لماذا تستعرض عضلاتك على امرأة؟! هل هذا هو الضرب الذي ورد ذكره في القرآن؟! هذه قضية ناقشناها من قبل بالتفصيل، وإذا كانت هناك فرصة ناقشناها أيضاً، وهذه قضية مهمة، وينبغي أن نفهم هذا الموضوع بطريقة صحيحة، لكن لا يمكن أن الشرع يبيح أن تضرب المرأة ضرب غرائب الإبل، أو ضرب العبيد، بهذه الطريقة التي يتصورها بعض الناس. فالشاهد أن العقاب عند بعضهم يتحول من عملية تربوية إلى عملية تشفي، صدره يغلي من خطأ ارتكبه هذا الطفل، أو هذا الصبي، فيفزع إلى الضرب وهو في غاية العصبية لأجل الضرب وليس التربية، هدفه أن يشفي غليله، ويطفئ نار الثورة في قلبه، فيظل يضرب إلى أن تهدأ ناره، ويهدأ هو؛ فيطلق هذه الشحنة في جسد هذا الصبي بالضرب والتعذيب الذي يحصل! وبالتالي يمكن أن يكسر له عظماً، أو يسبب له العمى كبعض الحوادث، أو يكسر له بعض أطرافه كيداه كما حصل في حوادث كثيرة جداً نتيجة إيذاء الأطفال، وبسبب أن الهدف ليس الهدف التربوي، هو لا يضرب لمصلحة الطفل، ولكنه يضرب لكي يشفي غليله. الشرع الشريف يمنع المربي أن يعاقب بالضرب وهو غضبان، وهذا أهم شرط: أنه لا بد أن يكون المربي في غاية الاتزان والرزانة والهدوء بحيث يوقن أن الطفل سوف ينتفع بالعقاب، وأن الهدف هو معالجته ومداواته، وتحسين خلقه أو أدائه، ليس الهدف الانتقام، هناك فرق كبير، فلا نحتج بالنصوص الشرعية ونحن منحرفون عن الشرع في تطبيق هذا الأمر؛ لذلك كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه وتوقف ثلاثة أيام، إلى أن تهدأ أعصابه ثم يصدر الحكم عليه وهو خال من الغضب والثورة، وحتى يضمن أن عنصر التشفي وشفاء الغليل غير موجود عند إصداره هذا الحكم. فلماذا نفزع إلى اختصار الطريق بالضرب؟ لأننا نفشل في الأساليب الحقيقية في مواجهة المشاكل، ولا نسلك المسالك التربوية الصحيحة؛ لذلك يقول بعض الباحثين في بحث بعنوان: (الحب أولى من العقاب): إنك تستطيع أن تعالج اعوجاج الطفل بالمحبة والعطف والحنان، ويأتيك بثمار أعظم بكثير جداً مما تتوقعه من العقاب الذي ربما يأتي بأضرار كثيرة يقول: إن لجوء الوالد أو المدرس إلى العقاب يعتبر اعترافاً بالهزيمة، مؤداه: أنه لم يتمكن من تحقيق أغراضه باستعماله أي وسيلة أخرى، أي: أنه عجز عن توجيهه وجهة حسنة، أو معاونته على تنفيذ ما يتوقع منه بأي طريقة أخرى. لذلك فإن استخدام العقاب ما هو إلا مبرر للفشل، وعدم وجود ما يقوم مقامه لدى المربي معناه: أن جعبة هذا المربي خاوية، وليس عنده علم، ولا خبرة، ولا حكمة، لا بشرع، ولا بآداب شرعية، ولا حتى بآداب تربوية يتفق عليها العقلاء أجمعون؛ ولذلك لجأ إلى آخر وسيلة وهي العنف والشدة؛ لأنه عاجز عن أن يستخدم الوسائل التربوية الأصلية.

الآثار النفسية للعقاب البدني

الآثار النفسية للعقاب البدني يوضح بعض المربين أن استخدام العقاب له آثار خطيرة في نفسية الطالب فيقول: ولا يمكن أن يؤدي معه هذا العقاب إلى نتيجة ما. هذه هي طريقة العقاب التي يسلكها بعض المربين أو المدرسين، وكان فيما مضى -للأسف الشديد- يستعملها محفظو القرآن الكريم، ونسمع عن بعض المشايخ أنه كان يضرب بعنف، وبعض المشايخ الكبار عندما يقصون علينا مثل هذه الذكريات يقول: ربنا لطف، وكانت سليمة! ثم يأتي الأب ويقول: نحن تربينا بالطريقة هذه، وكنا على خير خلق. هذا خطأ كبير، لطف الله سبحانه وتعالى أن نجى ابنك من عواقب هذا الأمر، أو أنك نجوت منه، وليس معنى أنك تعرضت لنفس الأسلوب من آبائك أنه أسلوب صحيح. وهذه من أخطر المزالق في الناحية التربوية: أن الإنسان دائماً يقدس ما كان عليه الأبوان، بما أن أبي رباني بهذه الطريقة لا بد أن تكون هذه هي أفضل طريقة على الإطلاق؛ فيكررها مع أبنائه! فالشاهد أن الكثير من المشايخ في تحفيظ القرآن كان يضرب ضرباً شديداً، ويحكي بعضهم كيف ضربه الشيخ حتى سال الدم على وجهه وثيابه؛ لأن الشيخ ضربه بعصا غليظة على رأسه، ويفخر بوسام شرف موجود في رأسه من أثر هذا الضرب! وهناك أناس من ضحايا هذا الأسلوب التربوي الذين اتجهوا بعد ذلك الاتجاه العلماني، وكتبوا عن هذه الذكريات الأليمة، وأنها كانت السبب في انحرافهم، مثل: طه حسين، حتى سيد قطب رحمه الله كان في (كُتّاب) في القرية، وحكى عن نفسه بنفس طريقة طه حسين، وذلك قبل أن يتجه الاتجاه إسلامي، فكان يحكي الذكريات، وما كان يفعله الشيخ، ويتندر من تصرفات بعض المحفظين فيما مضى. وأنا أركز على هذه الوقفة لأني أسمع أن بعض المحفظين ما زال يستعمل نفس الأساليب مع بعض الأطفال، وأطفال اليوم في حاجة إلى معاملة دقيقة جداً؛ لأنهم يختلفون اختلافاً شديداً عن الأجيال الماضية. يقول بعض الباحثين: ولا يمكن أن يؤدي معه هذا العقاب إلى نتيجة ما؛ سوى أن يجعله يحقد على المدرسة، ويتمرد على أهله في سبيل الحضور إليها، ويكره الذهاب إلى المدرسة، وهذه نراها بالذات في الأطفال الصغار في سن الحضانة أو بعدها بقليل، لا يريد أن يذهب إلى المدرسة، ويعاند، وفي كل يوم يصنع مشكلة كبيرة من أجل ألا يذهب إليها؛ وعندما تبحث في الأسباب تجد أن مدرساً يسيء معاملته أو يضربه أو يهينه إلى آخره؛ فيكره الذهاب إلى المدرسة، وهذا بلا شك مما يحطم مستقبله، ويؤدي به في النهاية إلى حياة التشرد، فهذا خلل في التربية، ويسبب أن الأم تحرم من أعز ما تملك من طاقتها؛ لأن عزتها مرهونة بتربية أبنائها التربية السليمة. فركنا العملية التعليمة هما: المربي والمربى، المدرس والتلميذ، الأب والابن، أو الأم والابن، فإذا ساءت العلاقة بين الركنين الأساسيين في العملية التربوية فإن هذا بلا شك سوف يحدث لها الفتور والتوتر والتمزق؛ فبالتالي تنتهي العملية التربوية. الآن الطلبة في المدارس الثانوية -لما زال الاحترام بين المدرس والطالب- نسمع عنهم أشياء تشيب لها الرءوس، ويشيب لها الشعر مما يفعله الطلبة مع المدرسين، وأحياناً يكون المدرس هو المسئول؛ لأنه لم يجعله يحترمه، نتيجة عدد من التصرفات المعروفة، في الأجيال الماضية التلميذ كان إذا رأى المدرس في الشارع يجري حتى لا يجتمع معه في الشارع، أو يهرب أو يدخل في بيت إلى أن يمر المدرس. الآن الله المستعان! نسمع أشياء لا تكاد تصدق أنه وصل التدهور في العلاقة بين هذين الركنين الأساسين في العملية التربوية إلى هذا المستوى. فمن أسوأ آثار العنف: الهروب من المدرسة أو التغيب عنها، ومن الممكن أن تكون هناك صدمات نفسية للأطفال تسبب لهم عقداً في حياتهم، أو بسبب حدوث مصادمات مع المدرسين. أيضاً: إذلال الطفل وإحساسه بالذل والهوان والحقارة، وتعريض شخصيته لكثير من الانحراف الخطير، والاضطراب الأليم، فالعقوبة البدنية بالصورة التي تحصل لا تجدي شيئاً، وتضر بالطالب، وتكون النتيجة بغض الطالب لمعلمه، ولو بغير إرادته وشعوره. يمكن ألا يعبر صراحة عن هذا البغض، إلا أنه يظهره في صورة مقاومة التعليم وكراهية المدرسة، وبالتالي تنهدم علاقة الثقة والمحبة التي ينبغي أن تكون بين المعلم وبين طلابه، فالعقاب يؤدي إلى أن الطالب يشعر بفقدان الأمن. أعرف بعض المدرسين كان مميزاً جداً، كان يأتي إلى الطالب وهو يبتسم، وبمنتهى الهدوء، وفجأة يصفعه صفعة شديدة على وجهه إلى أن يسقط على الأرض من هذه الصفعة! ويصبح حينها كل طالب متوتر يرى أنه سيفاجئ بنفس العمل في المرة القادمة، لأن هذا السلوك فيه من العدوان ما يذهب الشعور بالأمان، فيتكون عند من حضر عدم الأمن وكراهية الآخرين، وينمو فيه شعور بالمقاومة والكذب والمخاوف إلى غير ذلك من العادات الذميمة. فالجو المشحون دائماً بالانفعال والتوتر له أسوأ الأثر على الشخصية في سنوات الطفولة والمراهقة؛ لأن هذه المرحلة في غاية الحساسية. المرحلة التي يوضع فيها أساس الشخصية من سن الطفولة الباكرة إلى سن الثامنة عشرة تقريباً، وبعدها يصعب جداً أي تعديل إلا إذا شاء الله، لكن هذه هي فترة التكوين، بعض الناس يقول: إن في الخمس السنوات الأولى تكون النسبة العظمى من تكوين الشخصية ووضع أساسها والباقي يكون إلى هذا السن الذي أشرنا إليه، فإذا حصل خلل في هذه الفترة فسيؤدي إلى الاضطراب النفسي والانفعالي والاجتماعي، وممكن أن يؤدي إلى معاناة وليست معاناة على المستوى الفردي بل ممكن أن يكون هذا الشخص عدواً للمجتمع بعد ذلك، أو مضاداً للمجتمع، ويبدأ يؤذي الآخرين بارتكاب الجرائم مثلاً.

علاقة التربية بالعبادة

علاقة التربية بالعبادة من أجمل الأشياء في التربية الإسلامية: أن هذه الأمور تدخل في حيز العبادة، أي: أن المنهج التربوي الإسلامي عبادة، وليس مجرد منهج فكري نظري أو منحنى من المناحي، بل هي عبادة، والإنسان مطالب بأدائها على أكمل وجه كما سنبين ذلك من القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول ابن خلدون رحمه الله تعالى في مقدمته: فصل في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، وذلك أن إرهاق الجسد في التعليم مضر بالتعليم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر، وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له. هذه الخبرة التربوية الموجودة في كتابات المؤلفين من المسلمين، تعكس تؤثرهم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية، وخبرتهم ودرايتهم بالأساليب التربوية الملائمة في التعامل مع المتعلمين. وهذا أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى يقول في وظائف المعلم: أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ. وهذا مأخوذ من السنة النبوية الشريفة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يواجه أحداً في وجهه بالنقد المباشر، إنما كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!)، دون أن يحرج الذي فعل هذا الشيء، فهذه من الأساليب التربوية الرائعة، وهي التعريض؛ لأن التوبيخ المباشر يهتك حجاب الهيبة، ولن تبقى هناك هيبة بين المربي وبين الطالب أو الابن، ومتى هتك حجاب الهيبة فسيكون الأثر في المرة الأولى فقط، وبعد ذلك يصبح الولد مثلاً يدخن، وانتهى الموضوع بمرور الصدمة الأولى، ثم يتطور الأمر، ويصبح التدخين أمام أبيه أو نحو ذلك من هذه السلوكيات أمراً عادياً، فدائماً ما أمكن الوصول إليه عن طريق التعريض وعدم التصريح والمواجهة المباشرة كلما كان أفضل وأعون للابن على عدم العناد، وبالذات المراهق؛ لأن المراهق لابد من الحساسية الشديدة في التعامل معه، وأقرب طريق هو الإقناع والحوار، مع الحب والحزم والعطف، فالإقناع والحوار ضروري، ولا تلغي شخصيته، ولا تعامله دائماً على أنه هو الطفل الذي كان بالأمس، لا، هو الآن في مرحلة يريد أن يحقق ذاته، ويعترف له بالرجولة، ولو كانت فتاة فيعترف بأنها صارت ناضجة ولم تعد طفلة، فبالتالي لابد أن تتغير المعاملة، وتواكب المعاملة التغيرات التي تحصل فيه؛ لأنه سينمو غصباً عنك، وسيظل ينمو نفسياً واجتماعياً وعقلياً شئت أم أبيت، فبالتالي لابد أن تتغير المعاملة حتى لا تحصل عواقب غير حميدة. إذاً: الغزالي يرى أن من وظائف ودقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ؛ لأن التوبيخ المستمر والنقد اللاذع الذي لا يتوقف على كل سلوك وكل تصرف يرشح الصغير بعد ذلك بكثير من الأمراض النفسية الخطيرة، والتي تنشأ غالباً بسبب عائلة نقادة، كل تصرف منه ينتقد ويعلق عليه، ويوبخ، ويحقر، فيكون الحصاد: أن تدفع كل الأسرة الثمن، وتحصل أمراض ليست بالهينة.

تربية الأنبياء لأقوامهم

تربية الأنبياء لأقوامهم إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه صلى الله عليه وآله وسلم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل شيء من الأمور، سيما هذه القضية التي نتناولها، وهي قضية الرفق بمن يربيه الإنسان، وليس هذا فحسب، بل هذا طريق سلكه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إخوانه الأنبياء والمرسلون، فهذا نوح عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف:59] انظر بماذا بدأ؟ (يَا قَوْمِ)، أصلها: يا قومي، فهو ينتمي إليهم، ويبين لهم أنه منهم، وأنه حريص عليهم ومشفق بهم، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] انظر الشفقة! إني أخاف عليكم، وأنت لا تخاف إلا على من تحبه وترجو له الخير، وهذا من رفق نوح عليه السلام في الدعوة؛ حيث خاف عليهم من العذاب الأليم، والشقاء السرمدي. وكذلك أيضاً نلاحظ موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام كيف واجها أعتى وأشد جبابرة الأرض، وهو فرعون الذي طغى وتجبر حتى وصل به الأمر إلى ادعاء الألوهية، يقول تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]، وهذه الآية يستدل بها على مسألة من مسائل العقيدة وهي: أن الله فوق خلقه، عالٍ عليهم؛ لأن موسى عليه السلام لابد أنه أخبر فرعون أن الله في السماء، فرد على ذلك بقوله لوزيره: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا) ابن لي بناء عالياً جداً (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) وأنظر، هل موسى صادق أن هناك إلهاً في السماء (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ). الشاهد: مع عظم الجرم الذي ارتكبه فرعون، وما واجه به موسى وهارون عليهما السلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون إذا أتيا فرعون أن يخاطباه باللين وأن يترفقا به. إذاً: الشدة والغلظة سلوك مناف للسلوك الإسلامي القويم، وبعض الناس يظن أن هذا من الحماس للدين، ومن النصرة لله ورسوله، لا، أنت لا تتنازل عن الحق، لكن عامل هذا الإنسان بشفقة وبرحمة كي ينجو من عذاب الله تبارك وتعالى، كالطبيب الذي يعالج الناس بالدواء، والدواء قد يكون في غاية المرارة، لكن يخلط بأشياء حلوة المذاق حتى يستسيغ المريض الدواء وينفعه، ونفس الشيء التلطف في العبارة، مع عدم التنازل عن الحق، يقول الله سبحانه وتعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44] هل هناك دليل أعظم من هذا في أهمية الرفق؟! فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] والذي فعل ما فعل؛ يرسل الله إليه نبيين كريمين ويقول لهما: (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). يقول القرطبي رحمه الله تعالى: فإذا كان موسى عليه السلام أمر بأن يقول لفرعون قولاً ليناً فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه وأمره بالمعروف. يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حصل له الكيد والأذى من أعز الناس وأقربهم إليه، من إخوته، إلى أن وضعوه في البئر، ثم بيع بعد ذلك، وهذا البيع اقترن به نفي إلى مصر، وابتعد عن أبيه، ولحق أباه الحزن الشديد حتى كف بصره عليه السلام، وسجن يوسف عليه السلام بضع سنين، وحصل له الأذى، وكان المتسبب في ذلك إخوته، مع ذلك ضرب أسمى الأمثلة في الإحسان وحسن الخلق، وكمال العفو والصفح، حيث قال لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] لا لوم ولا عتاب، ولا توبيخ، {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] أي: قال لهم يوسف كرماً وجوداً: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)، أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فسمح لهم سماحاً تاماً من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا في نهاية الإحسان الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين. وجميع الأنبياء إذا استعرضنا سيرهم سوف نجد أن جانب الرفق واللين والرحمة استعملوه بكثرة مع قومهم، وهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة في تربية أصحابه رضي الله تعالى عنهم، يقول الله سبحانه تعالى في وصف رسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] (فَبِمَا رَحْمَةٍ) أي: رحمة عظيمة لهم كائنة من الله، (لِنْتَ لَهُمْ) أي: كنت معهم لين الجانب، وعاملتهم بالرفق والتلطف، حيث لنت لهم بعدما حصل من مخالفة أمرك، وإسلامك للعدو، وكان هذا في غزوة أحد (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). وقال تعالى في بيان صفات النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم ل عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعطي الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم الرفق فقد حرم حظه من الخير)؛ فانظر كيف ربط الحصول على الخير بمبدأ الرفق؛ لأن من أراد الخير فلن يحصل عليه إلا بالرفق، فهذا من مكارم الأخلاق ومن معالي الأمور. ولذلك بلغ تعظيم أمر الرفق إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به) أي شخص يلي أمر أحد من الأمة سواء كان مدير مدرسة مدرساً أباً مع أبنائه حاكماً مع رعيته وهكذا أي إنسان استرعاه الله سبحانه وتعالى على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يرفق بالمسلمين، حتى يدخل تحت دعوته صلى الله عليه وآله وسلم، وينجو من الدعوة عليه على لسان خير البشر صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به). وعن عمر بن أبي سلمة قال: (كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة -يعني: الإناء، فيديه تتحرك في كل أجزاء الإناء ولا يأكل مما يليه- فقال لي: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، رواه مسلم، فلم ينهره ولم يعنفه ولم يزجره، بل أمره برفق ولين وعطف مستخدماً أسلوب النداء (يا غلام)، ففيه ألفة وقرب ورحمة مع أنه أخطأ، مع أنه حاد عن آداب المائدة وآداب الطعام، لكن مع ذلك انظر كيف رفق به وعلمه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بوب الإمام مسلم رحمه الله تعالى فقال: باب: جواز قوله لغير ابنه: يا بني. واستحبابه للملاطفة، يجوز للإنسان أن يقول لمن ليس ابناً له من صلبه. يا بني. تلطفاً به وتودداً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني) وهذا هو الشاهد، وقال النووي رحمه الله: في هذين الحديثين جواز قول الإنسان لغير ابنه ممن هو أصغر منه سناً منه: يا بُني ويا ولدي. وهذا معناه: التلطف كأنه عندك بمنزلة ولدك في الشفقة، ويقول لمن هو في مثل سن المتكلم: يا أخي! وهذا نوع من التلطف والتودد لنفس هذا المعنى.

مواقف من رفق النبي بأمته

مواقف من رفق النبي بأمته نذكر قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام أصحابه ظناً منه أن أرض المسجد مثل أرض الصحراء والفلاة التي عاش فيها، ويعمل فيها ما يشاء، فبال في المسجد، فقام عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليزجروه ويمنعوه، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم ومنعهم وقال: (لا تزرموه) أي: لا تقطعوا عليه هذا الذي يفعله، وحال بينهم وبين أذية هذا الأعرابي، وتركه حتى فرغ من قضاء حاجته في المسجد، وعالج الموقف الطارئ بأحسن علاج وأكمل منهج كما سنبينه إن شاء الله تعالى. كذلك ضاقت عليه صلى الله عليه وسلم مكة بأوديتها وسهولها وجبالها؛ بسبب سفهاء قريش الذين أسرفوا في إيذائه والصد عن دعوته، ولم يجد بداً إلا أن يخرج إلى الطائف لعله يجد من ينصره؛ لكي يبلغ رسالة ربه، ويجد المؤازرة والدفاع، فلم يظفر بشيء من هذا، بل وجد الأذى والتهكم والطرد بالحصى والحجارة، حتى دميت عقباه صلى الله عليه وسلم، وتلطخت نعلاه بالدم، وسال دمه الزكي على أرض الطائف صلى الله عليه وآله وسلم، لقي كل هذا من سفهاء الطائف وعبيدهم وغلمانهم وأطفالهم، ثم غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف وهو مهموم النفس مكلوم الفؤاد؛ فلم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، وهو ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة، فرفع رأسه فإذا هو بسحابة قد أظلتهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (فنظرت فإذا فيها جبريل، قال: فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد! إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) الأخشبان جبلا مكة: أبو قبيس والذي يقابله، ولو أطبقا عليهم لهلك أهل مكة أجمعون (قال: يا محمد إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) رواه البخاري ومسلم. تأمل هنا: هل توجد القدرة على الانتقام أم لا توجد؟ توجد حتى أنه ضامن أن الله سبحانه وتعالى راض عما يفعل؛ لأن الله أجاز له ذلك لما أرسل جبريل وملك الجبال معه، فبلا شك أنه يباح له الانتقام، بعض الناس ينتقم شفاء لغليله، ويعرف أن الانتقام محرم عليه، لكن هنا هو مطمئن تماماً أنه لا وزر عليه أبداً في الانتقام، وقادر على الانتقام، وأمره لا يرد؛ لأنه من الله سبحانه وتعالى بتسخير الملائكة، كان يقدر أن يرد اعتباره عن هذه الأذية التي تعرض لها من العبيد والغلمان في الطائف والأشراف حتى ضربوه بالحجارة حتى دميت قدماه، وأصابه ما أصابه صلى الله عليه وسلم، فالأسباب والدوافع للانتقام موجودة، ووسيلة الانتقام مضمونة تماماً، وهناك حاجة موجودة إلى رد الاعتبار وإلى شفاء الصدر من الكفار، ولكن الرحمة والشفقة في صدر نبي الله صلى الله عليه وسلم للناس عموماً، ورفقه حتى بالذين يعاندونه موجود حتى أنه غلب جانب الانتقام والبطش صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: الأذية موجودة، للنبي عليه الصلاة والسلام وهو من هو، والاستحقاق للانتقام يشتد كلما كان الشخص الذي أخطأت في حقه أشرف وأعظم، فمن في البشرية كلها أشرف وأعظم وأجل من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع وجود كل الدوافع والقدرة على الانتقام إلا أنه آثر جانب الرحمة، وتمنى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا شريك له، فبلا شك أن الصغار هم أولى بهذه الرحمة، وأولى بالرفق، وأولى بأن تتحرر من الدافع للانتقام، تتشفى مِن من؟ من ابنك الذي هو فلذة كبدك، تتشفى فيه وتضره أبلغ الضرر، وتؤذيه أشد الأذية! فلا شك أننا محتاجون إلى إعادة التذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الأنبياء ومن تبعهم في هذه الناحية التربوية؛ لأن أسلوب التشدد والغلو والعنف والتنطع والقسوة كلها أساليب حذرت منها شريعة الإسلام، يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] هذا عموم يدخل فيه أي سلوك نسلكه، ولذلك ورد: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون قالها ثلاثاً) رواه مسلم، وهم المتعمقون الضالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. وقال عليه الصلاة والسلام أيضا كما رواه البخاري: (إن الدين يسر) لم يقل: إن الدين يسير، لكن جعل الدين هو اليسر، (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، فأمر باليسر، وأمر بالأخذ بالأسهل والأرفق في الأمور كلها؛ لأن (الرفق -كما قال صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه). إذاً: المربي المسلم سواء كان مدرساً أو مدرسة أو أباً أو أماً ينبغي أن يكون عطوفاً شفوقاً ودوداً محباً لمن يربيهم، مترفقاً بهم، صبوراً عليهم، متأنياً في تعليمهم، حريصاً على نفعهم، وهو في ذلك يقتدي بأسوته وقدوته الذي كان نموذجاً يحتذى وأسوة يقتدى به في هذا الخلق القويم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان قمة في الرحمة والشفقة والعطف والرفق واللين لأمته. كانت هذه مقدمة لاستعراض هذا البحث، وهو بحث تربوي، وهو عبارة عن رسالة ماجستير، أعدها الشيخ صالح بن سليمان المطلق البقعاوي بعنوان: مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين من منظور التربية الإسلامية، وسوف نأخذ بعض المقدمات من الكتاب ثم نكمله إن شاء الله تعالى فيما بعد.

الرفق في اللغة ومعانيه التربوية

الرفق في اللغة ومعانيه التربوية الرفق يتضمن عدة معان، وكل ما فيه مادة رفق فهو يدل على موافقة ومقاربة بلا عنف، فالرفق خلاف العنف، وضد العنف، والرفق لين الجانب، أرفق بي، وترفق، ورفق، وفيه رفق، أي: هو لين الجانب، لطيف القول والفعل، واسترفقته فأرفقني بكذا، يعني: نصحني بكذا، وارتفقت به أي: انتفعت، مثل المرافق، سميت بذلك لأننا ننتفع بها، الارتفاق الانتفاع؛ لأن الرفق يؤدي إلى المنفعة، والرفق ما استعين به، واللطف هو الرفق أيضاً، رفق به وعليه رفقاً ومرفقاً، والرفيق ضد الأخرق، ورفق فلان أي: نفعه، يقال: الله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة، فهو فعيل بمعنى فاعل، والرفق لين الجانب وهو خلاف العنف. إذاً: خلاصة الكلام في تعريف اللغة والمعاني اللغوية لمادة الرفق: أن الرفق نفع الآخرين، والرحمة والرأفة بهم، والأخذ بالأيسر والأسهل، وعدم التشديد ولين الجانب، واللطف بالقول والفعل، والرفق ضد العنف وضد الخرق. وحينما نطبق معنى الرفق على هذا البحث نقول: إن الرفق بالمتعلم وبالذي نربيه هو: إرادة نفع المتعلم ومعاملته بالسهولة وعدم التشديد عليه في مادة الدراسة وأعمالها، بحيث لا يحمله المربي ما يشق عليه، ويكون رحيماً به، لين الجانب، لطيف القول والفعل معه، ولا يوقع العقوبة عليه ابتداءً، ولا يكون عنيفاً في التأديب بل في حالة وسط بين العنف وبين الضعف متحملاً ما يصدر من المتعلم برحابة صدر وصبر، غير مكترث لعتابه.

مواضع ذكر الرفق في القرآن

مواضع ذكر الرفق في القرآن ورد في القرآن الكريم لفظ الرفق ومشتقاته في خمس آيات كريمات: الأولى: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] فرفيقاً معناه: صاحباً، لماذا سمي الصاحب رفيقاً؟ لانتفاعك في صحبته؛ وسبق أن الارتفاق: هو الانتفاع؛ لأنك إذا صاحبت هؤلاء تنتفع بصحبتهم، فيسمى الصاحب رفيقاً لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض؛ لأن الصحبة التي تكون رفقة ينفع بعضهم بعضاً. الثانية: قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]. الثالثة: قال تبارك وتعالى: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] فمرفقاً يعني: يهيئ لكم ما تنتفعون به، قال المهايمي: يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات، على أن لذاتها لم تخل من أذية، وهذه خالية عن الأذيات كلها. ولماذا جزموا بهذا الأمر فقالوا: (ينشر لكم)؟ هذا جواب الأمر، يعني: أن العاقبة إن أويتم إلى الكهف وهجرتم الكفرة الوثنيين ستكون هي الرفق؛ فمن أين جاء هذا الجزم؟ جاء من يقينهم وقوة رسوخهم بفضل الله تبارك وتعالى، وأنه لن يضيعهم، ومن قوة وشدة توكلهم على الله سبحانه وتعالى. إذاً: هذه الآية توضح أحد معاني الرفق: (ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً) المرفق هنا: النفع الذي لا أذية فيه، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الفتية المؤمنين، (ويهيئ لكم من أمركم) الذي أنتم فيه ما ترتفقون به وتنتفعون بحصوله، فهم لجئوا إلى الكهف فراراً من هؤلاء المشركين الذين قد يجبرونهم على الكفر، فنشر الله لهم من رحمته، ووسع عليهم، وسهل لهم الأمر، وجعل لهم الانتفاع والفائدة من هذا اللجوء إلى الكهف حيث أبعدهم عن أعين الكفار، وسلموا من القتل والبطش والفتنة في الدين. الرابعة: قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] (ساءت مرتفقاً) أي: ساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق، وهذا ذم لحالة النار نفسها، أنها ساءت المحل الذي يرتفق به؛ لأنه ليس فيها ارتفاق، وإذا كانت النار بهذه الوصفة، هل فيها ارتفاق أو منفعة؟ لا، (ساءت مرتفقاً) بمعنى: ليس فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة، فهذا يجمل ما ورد في الآيات الأخرى من التهكم حيث يقول: (بشر) وكأن البشرى ستكون بخبر عظيم، إلا أنه يفاجأ السامع بأنه عذاب أليم، (وساءت مرتفقاً) يعني: ليس فيها ارتفاق وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة ولا نفع فيها على الإطلاق. الخامسة والأخيرة: قوله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31] فهذه الدار الجليلة، هي نعم الثواب للعاملين، (وحسنت مرتفقاً) أي: يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور والفرح الدائم واللذات المتواترة والنعم المتوافرة، وهذا بلا شك أحد معاني الرفق. إذاً: من هذه الآيات القرآنية الخمس يتضح لنا بعض معاني الرفق ومرادفاته: الآية الأولى هي قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] الرفق بمعنى: لين الجانب والصحبة. الآية الثانية قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] المرافق جمع مرفق، وهو ما يتكئ عليه ويستفاد منه وينتفع به؛ لأن المرافق يتكئ عليها الإنسان، فينتفع بهذا الاتكاء. الآية الثالثة: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] فالمرفق هنا بمعنى: الانتفاع وسهولة الأمر وتأثيره. أما الآيتان الرابعة والخامسة التي فيها: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31] فالمعنى اختلف بحسب فعل الذم أو المدح، فـ (ساءت مرتفقاً) يعني: ساء المحل والمقام الذي يسكنون فيه، ولا يوجد فيه نفع ولا فائدة، والآخر: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) المراد حسن التمتع والفائدة وحصول النفع لغيره، وهذا أحد معاني الرفق. نكتفي بهذا القدر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المنهج العلمي [1]

المنهج العلمي [1] طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف، ومن تعدى سبيلهم عمداً ضلّ، ومن تعداه مجتهداً زل، وأول ما ينبغي الاشتغال به في العلم هو كتاب الله عز وجل حفظاً وفهماً، وذلك بحفظ وفهم ما يعين عليه من لسان العرب، ومعرفة الأحاديث الواردة في تفسيره، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، ودراسة أخباره وأحكامه.

شهر رمضان، ومواسم الخير فيه

شهر رمضان، ومواسم الخير فيه الحمد لله الذي جعل العلم النافع حصناً لأوليائه وجنة، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الأهواء المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس مطمئنة، ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، وصلى الله على عبده ورسوله محمد قائد الغر المحجلين وممهد السنة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعة للآخرة، وميداناً للتنافس، وكان من فضله تبارك وتعالى على عباده وكرمه أنه يجزي على القليل كثيراً، ويضاعف الحسنات، ومن فضله ومنته على عباده أن يجعل لهم مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات. قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]: من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب. ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلها شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن المجيد، ولذا فإنه حريٌ بالمؤمن الاستعداد لهذا الشهر الكريم حال قدومه، والتفقه في شروط ومستحبات وآداب العبادات المرتبطة بهذا الموسم الحافل؛ لئلا يفوته الخير العظيم، ولا ينشغل بمفضول عن فاضل ولا بفاضل عما هو أفضل منه. ولو أن كل واحد منا استحضر في قلبه أحب الناس إليه وقد غاب عنه أحد عشر شهراً، ويفترض أنه قد بشر بقدومه وعودته خلال يومين أو ثلاثة أو خلال أيام قلائل وأنه سيعود أحب الناس إليه بعد أن غاب عنه أحد عشر شهراً فكيف ستكون فرحته بقدومه واستبشاره بقربه وبشاشته للقائه؟ إن أول الآداب الشرعية لشهر رمضان أن نتأهب لقدومه قبل الاستهلال، وأن تكون النفس بقدومه مستبشرة، ولإزالة الشك في رؤية الهلال منتظرة، وأن تستشرف لنظره استشرافها لقدوم حبيب غائب من سفره؛ لأن التأهب لشهر رمضان والاستعداد لقدومه من تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى الذي يقول في محكم كتابه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، فيفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان، ويستبشرون به، ويحمدون الله على أن بلغهم إياه، ويعقدون العزم على عمارته بالطاعات وزيادة الحسنات وهجر السيئات، وأولئك يبشرون بقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وذلك لأن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل الذي فرضها علينا، والله تبارك وتعالى يقول: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] هكذا يستبشر الصالحون بقدوم رمضان لما يرون فيه من الفرصة كي يتقربوا إلى الله عز وجل. وفي حديث الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام الذي رواه عنه أبو هريرة رضي الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان إن الله ليكتب أجره ونوافله ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله، وذلك لما يعد فيه المؤمنون من القوة للعبادة، وما يعد المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر).

الارتباط الوثيق بين شهر رمضان وقراءة القرآن

الارتباط الوثيق بين شهر رمضان وقراءة القرآن مواسم الخيرات وأنواعها في رمضان كثيرة، ولكن الذي ينبغي أن نبدأ به ونهتم به جداً أن نلاحظ أن رمضان يرتبط ذكره ارتباطاً وثيقاً ليس -فقط- بفريضة الصيام، ولكن أيضاً يرتبط رمضان المعظم بالقرآن ارتباطاً وثيقاً، حتى إن الله تبارك وتعالى في آية الصيام قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، فهناك ربط وثيق بين شهر رمضان والقرآن العظيم. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة) فقرن أيضاً بين الصيام وبين القرآن، إذاً هذا هو شهر القرآن، وينبغي أن تكون علاقتنا فيه بالقرآن علاقة متميزة تختلف عن سائر الشهور، فمن كان يحتفي بالقرآن في كل شهر وفي كل أسبوع وفي كل يوم فليتضاعف احتفاؤه به حتى ولو هجر كل ما عدا قراءة القرآن من الطاعات والعبادات الأخرى، فحقيق وحري بهذا الشهر أن يمحضه العبد لتلاوة القرآن الكريم وتعظيمه والتدبر فيه، يقول صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب! منعته النوم بالليل فشفعني فيه. فيشفعان). ففي هذا الشهر خصوصاً السبب الوحيد الذي ينبغي أن يمنعنا من النوم بالليل هو الاحتفاء بالقرآن الكريم، حتى تدخر ذلك عدة لك يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، حتى يشفع لك القرآن، ويقف ويتكلم بين يديك قائلاً لله عز وجل: (أي رب! منعته النوم بالليل فشفعني فيه) تشفع لك قراءته.

فضائل القرآن الكريم

فضائل القرآن الكريم لقد ثبتت فضائل عظيمة جليلة للقرآن العظيم في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أبشروا؛ فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً). ويقول صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين) وإنما سمى الكتاب والسنة ثقلين لأن الأخذ والعمل بهما ثقيل فيحتاج إلى مجاهدة، أو لأن كل واحد منهما ثقيل في الميزان، ومن الأول قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]. قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي). ويقول صلى الله عليه وسلم: (القرآن شافع مشفع وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار). فقوله: (القرآن شافع مشفع) يعني: إذا شفع في شخص تقبل شفاعته (وماحل مصدق) (ماحل) مخاصم مجادل. إذا جادل وخاصم رجلاً أمام الله عز وجل فإن الله يصدق شهادته في هذا الرجل، ويعاقبه بهجره القرآن. ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض). ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم -أيضاً- في فضيلة القرآن: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) و (الإهاب) في اللغة هو الجلد، والمقصود به في هذا الحديث الجسم الذي يحفظ القرآن والصدر الذي يعي القرآن، والإشارة هنا إلى أن من وعى قلبه القرآن وعمل به فإنه يأمن من أن يحرق صدره بالنار وهو وعاء لكلام الله تبارك وتعالى. يقول عليه الصلاة والسلام: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) فكيف لو جمع القرآن في صدر عبده المؤمن؟! ويقول صلى الله عليه وسلم في رواية في أخرى: (لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار). وهناك فضائل كثيرة في فضيلة تعلم القرآن وتلاوته، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه) فهذا فيه توثيق الصلة بالقرآن حتى لا ينساه صاحبه. وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فتلك ثلاثون) فكل حرف من القرآن يؤجر عليه الإنسان عشر حسنات، ويضاعف الله تبارك وتعالى لمن شاء. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) يعني أن موقف كل إنسان من القرآن إما يكون سبباً في رفعته في الدنيا والآخرة، وإما أن يكون سبباً في هبوط منزلته وانحداره. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله تعالى أهلين من الناس. فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته). ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنكِ -يعني فاطمة عليها السلام- أول أهل بيتي لحاقاً بي، فاتقي الله واصبري؛ فإنه نعم السلف أنا لك). فقوله: (إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين) يعني: في العام الذي توفي فيه (ولا أراه إلا حضر أجلي) استأنس وفهم من ذلك أن تكرار العرض في هذه العام مرتين لمزيد من الاحتياط في تثبيت القرآن، فعلم بذلك واستأنس أن أجله قد اقترب عليه الصلاة والسلام، ثم قال لـ فاطمة: (وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي، فاتقي الله واصبري؛ فإنه نعم السلف أنا لك). ومنها أيضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط). فقوله: (إن من إجلال الله) يعني: من تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى ومن تعظيم الله الاهتمام بهذه الأشياء وتعظيم هذه الأشياء التي ذكرها عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث، وفي التنزيل الكريم: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، فمن تعظيم شعائر الله تعظيم هؤلاء. (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) أي: المسلم الذي شاب رأسه في الإسلام ونور الله تبارك وتعالى وجهه بالشعر الأبيض الذي يدل على أن هذا الشخص قد عبد الله عز وجل مدة طويلة في هذا العمر الذي امتد به حتى هذا الوقت. وهذا الذي يستحي الله تبارك وتعالى أن يعذبه بعدما شاب رأسه أو شعره في الإسلام وفي طاعة الله تبارك وتعالى والصيام والصلاة وذكر الله عز وجل، فمن تعظيم الله وإكرام الله وإجلال الله أن تكرم ذا الشيبة المسلم. (وحامل القرآن) وأيضاً من إجلال الله إكرام حامل القرآن، ولم يقيده بسن، فينبغي تعظيم حامل القرآن سواء أكان صغيراً أم كبيراً؛ لأنه في النوع الأول ذكر إكرام ذي الشيبة المسلم لأجل السن فقط، أما هنا فقال: (وحامل القرآن) دون تقييده بسن، لكن اشترط فيه شرطين: الأول: (غير الغالي فيه) وهو الذي لا يتجاوز الحد، والثاني: (ولا الجافي عنه) وهو الذي يهجره ويتركه، فاشترط في حامل القرآن كي يكون مستحقاً لهذا الإكرام وهذا الإجلال أن لا يكون غالياً في القرآن يتجاوز حدود الله فيه ولا جافياً عنه تاركاً له. (وإكرام ذي السلطان المقسط)، وهو الخليفة أو الوزير أو الحاكم إذا كان عادلاً مقسطاً يرضي الله تبارك وتعالى ويتقي الله في رعيته. ومما ورد كذلك في بيان فضل القرآن الكريم قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض الصحابة: (أوصيك بتقوى الله تعالى؛ فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض). ويقول عليه الصلاة والسلام: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان؟) يعني: يجد في بيته ثلاث خلفات قد رزقه الله إياها. والخلفة: هي الحامل من النوق. والناقة الحامل قد يكون فيها أجنة متعددة، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان -ثلاث نوق حوامل عظام سمان-؟ فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان) وتأمل من الذي يقول هذا ومن الذي يخبر ويبشر به! إنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فحينما يقول صلى الله عليه وسلم: إن هذا خير فإنه قطعاً يكون خيراً. ويقول -أيضاً- عليه الصلاة والسلام: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين؟) يعني بالكوماء الزهراء عالية السنام ذات البهجة عظيمة الخلقة (في عير إثم ولا قطع رحم، فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل) وجعل محل وموضع تعلم القرآن وقراءته المسجد، فالقرآن هو أفضل ذكر على الإطلاق، وهو كلام الله عز وجل، فإذا انضاف إليه شرف المكان وهو المسجد كان ذلك سبباً للحصول على ثواب أعظم وأكثر. وفي الحقيقة هذه السنة مهملة إلى حد كبير في مساجدنا، مسألة قراءة القرآن في المساجد خصوصاً في الأوقات التي يتردد فيها المسلمون خمس مرات في اليوم، ونلاحظ أنه في بعض البلاد -كالسعودية مثلاً- عندما تدخل أي مسجد بين الأذان والإقامة تجد للقرآن دوياً كدوي النحل، فالناس يأتون إلى المسجد قبل الأذان أو عند الأذان أو بعد الأذان، وهناك تترك فترة بين الأذان والإقامة، فتجد جميع الناس -تقريباً- منشغلين بالقرآن تماماً إلا من كان يصلي. فالإنسان لو أنه قرأ قبل كل صلاة حتى ولو صفحة واحدة من القرآن فإنه سوف يختم القرآن في مدة وجيزة كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى. يقول عليه الصلاة والسلام: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم ولا قطع رحم، فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل). ويقول صلى الله عليه وسلم: (خياركم من تعلم القرآن وعلمه)، وفي رواية: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). ويقول صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة -أي: الملائكة-، والذي يقرأه ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران). وكثير من الناس يهجر قراءة القرآن لأنه يشق عليه قراءة الحروف ولا يتمكن من ذلك فيهجر القرآن، فالإنسان لو قرأ القرآن وهو ماهر به يقيم حدوده فهو مع السفرة الكرام البررة، أما إذا كان القرآن شاقاً عليه ويتتعتع فيه ولا يستطيع قراءته فإنه لا يتركه لكن يقرأ؛ لأن له أجرين كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)، ومن الذي لا يحب أن يحب الله ورسوله؟! بل لاشك أن كل إنسان يريد أن ينور قلبه بمحبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسبيل إلى ذلك هو أن يقرأ في المصحف، كما قال عثمان رضي الله تعالى عنه: (لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله عز وجل). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في

فضل سورتي البقرة وآل عمران

فضل سورتي البقرة وآل عمران ثبت كثير من النصوص في فضائل سور أو بعض سور من القرآن الكريم، ونذكر منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه). وقوله: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان -سحابتان- أو كأنهما فرقان من طير صواف -أي: جماعتان من الطيور التي تصف أجنحتها عند الطيران - (يحاجان) عن أصحابهما) (يحاجان) يدافعان ويشفعان لصاحبهما. وقوله: (اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة) يعني السحرة، فقراءة سورة البقرة تحمي من هذا الشر. فعمم أولاً ورغبنا في قراءة القرآن عموماً، ثم خص الزهراوين البقرة وآل عمران، ثم خص البقرة آخراً. ومن هذه الأحاديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران يأتيان كأنهما غيايتان وبينهما شرف -يعني ضوء-، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلتان -أي: تشبهان السحاب- من طير طواف يجادلان عن صاحبهما). فهذا فيما يتعلق ببعض الفضائل الثابتة في تلاوة القرآن المجيد.

علاقة المسلم بالقرآن في شهر رمضان

علاقة المسلم بالقرآن في شهر رمضان لابد من أن تكون علاقتنا بالقرآن في رمضان علاقة استثنائية، ومهما كان اهتمامنا بالقرآن خلال العام كله فلابد من أن يكون هناك مزيد من الاهتمام الخاص في رمضان الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالقرآن، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1 - 5]. فالقرآن جمع له الشرف من كل الوجوه، فهو أشرف كتاب نزل على أشرف أمة بسفارة أشرف الملائكة جبريل عليه السلام، نزل على أشرف نبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام في أشرف شهور السنة وهو رمضان في أشرف ليالي هذا الشهر الكريم وهي ليلة القدر في أشرف بقاع الأرض وهي مكة بأشرف لغة وهي اللغة العربية، فهذا القرآن الكريم قد جمع له الشرف من كل الوجوه. فإذاً ينبغي أن تكون أيام رمضان ولياليه فرصة لعقد صلح مع القرآن، وتكون الخطة هي التهيؤ لرمضان قبل حلوله، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه في كل ليلة من رمضان ينادي مناد: (يا بغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر). فمن أعظم الخير الذي ينبغي أن ينتهزه الإنسان في رمضان هو تلاوة القرآن الكريم؛ لأن رمضان هو شهر القرآن، فينبغي أن يكثر العبد من تلاوته وحفظه وتدبره وعرضه على من هو أقرأ منه. وقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، وفي العام الذي توفي فيه دارسه فيه مرتين.

حال السلف مع القرآن في رمضان

حال السلف مع القرآن في رمضان كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها. وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرأها في غير الصلاة، فهذا في الحقيقة ليس له تفسير سوى البركة العظيمة التي وضعها الله تبارك وتعالى في أعمار وأوقات هؤلاء الصالحين. وكان الأسود يقرأ القرآن كل ليلتين في رمضان. وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة. وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة المصحف. وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك نوافل العبادات وأقبل على قراءة القرآن. وقال الزهري: إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام فهذا شغله الشاغل، قراءة القرآن وإطعام الصائمين. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم. ونحن لن نقول: نختم القرآن في ثلاثة أيام أو في يومين أو في يوم أو في اليوم الواحد ختمتين. لكن نقول: على الأقل كل مسلم يختم مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات، لكن السنة كما روي في الأحاديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ختم القرآن في أقل من ثلاث)؛ لأن الإنسان إذا قرأ القرآن في أقل من ثلاث فإنه يهزه هزاً، أي: لا يستطيع أن يتدبر الآيات جيداً، فحده في كل يوم أن يقرأ عشرة أجزاء، فهذا يعني أكثر ما يمكن أن يكون. لكن الذي ثبت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في تحزيب القرآن أنهم كانوا يختمونه في كل سبع مرة، فكانوا يختمون السور الثلاث الأولى غير الفاتحة في أول يوم، فيبدأ في اليوم الأول بثلاث سور: البقرة وآل عمران والنساء، وفي اليوم الثاني خمس سور: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة، واليوم الثالث سبع، واليوم الرابع تسع، واليوم الخامس إحدى عشرة، واليوم السادس ثلاث عشرة، وهذا ينتهي عند سورة الحجرات، ويبقى اليوم السابع فيبدأ بسورة (ق) -التي هي حزب المفصل- إلى الناس، هذا هو اليوم الأخير، فهذا هو تحزيب الصحابة رضي الله تعالى عنهم للقرآن الكريم. ولا شك أن مسألة طلب العلم أو هذه الوظائف الشريفة تتفاوت حسب ظروف كل إنسان كما سنبين إن شاء الله تعالى، لكن من وجد فرصة لذلك فلا يضيعها؛ فإنك لا تدري هل يمتد بك العمر ويأتي عليك رمضان الآخر أو لا، فهذه فرصتك كي تعتق من النار، فرصتك أن تغتنم ثواب قراءة القرآن العظيم وتكون فرصة لإصلاح الحال والتوبة إلى الله تبارك وتعالى.

فضيلة قيام شهر رمضان كله

فضيلة قيام شهر رمضان كله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وجاء (من صام رمضان). فكلما حافظت على قيام رمضان كان ثوابك أتم، فاحرص على أن لا تخلي ليلة من ليالي رمضان من قيام. والحقيقة أن عامة الناس يفوتهم ثواب عظيم جداً، فكثير منهم يجتهد في قيام رمضان ولكن لا يلتفت إلى أن رمضان يبدأ برؤية الهلال، فالناس تعودوا أنهم يبدءون القيام في الليلة الثانية فيفوتون ليلة من رمضان، فإذا ثبت أن هذه الليلة من رمضان فلا ينبغي تفويت القيام لله في أول ليلة من رمضان، بل المفروض أن تكون الهمة أعلى درجة في أول ليلة، فنحرص عليها. وحتى يتم للإنسان ثواب القيام عليه أن يحرص على أن لا يفارق الإمام قبل إتمام القيام؛ فإن من صلى خلف الإمام حتى يسلم وينصرف كتب له قيام الليلة كلها. وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من قضاعة فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وصمت الشهر وقمت رمضان وآتيت الزكاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء)، فقوله: (من مات على هذا) يعني: ثابتاً على هذا (كان من الصديقين والشهداء)، فانظر كيف جمع وقرن قيام رمضان بفرائض وأركان الإسلام، وليست العبادات الواجبة فحسب، لكنها أركان الإسلام المذكورة في هذا الحديث. وهذا فيما يتعلق بالتنبيه على أن كل إنسان يخصص لنفسه حزباً معيناً وظيفة معينة في كل يوم بالنسبة للقرآن الكريم، لا يهجره ولا يقصر فيه في هذه الفرصة العظيمة التي يصعب تعويضها إن فاتت.

نصائح وتوجيهات لطلبة العلم

نصائح وتوجيهات لطلبة العلم هذا الموضوع قد كثر سؤال بعض الإخوة فيه وطلبهم أن نتكلم بالتفصيل فيما يتعلق ببعض التوجيهات في طلب العلم الشرعي، سواء أكان ببعض التنبيهات والنصائح أم كان بتحديد أفضل الكتب في شتى العلوم الشرعية. والكلام أساساً يتوجه إلى الإخوة طلاب العلم المجدين الذين عندهم همة في طلب العلم، والراغبين في التحصيل بصورة منهجية تجمع بين المنهجية والمرحلية. وكل طبقة حسب ظروفها واستعدادها يمكن أن يكون لديها الحد الأدنى من الأرضية التي تشكل الثقافة الإسلامية إذا جاز التعبير، والتي لا يليق أن تنقص عن هذا الحد بالنسبة لأي مسلم من العوام أو من طلبة العلم.

أهمية تغيير الأفكار وتصحيح المفاهيم الخاطئة

أهمية تغيير الأفكار وتصحيح المفاهيم الخاطئة نحن نتذكر دائماً قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ونقول: إن بداية التغيير هي فكرة، فلابد من أن يكون هناك تغيير في الفكر؛ لأن أي سلوك عملي سواء أكان جهاداً دعوياً أم موقفاً عملياً يتخذه الإنسان هو عبارة عن مرآة تعكس ما عنده من فكر، فكل إنسان يكون في ذهنه أو في قلبه مادة معينة يحاول أن يوظف حياته وطاقته لخدمة هذا المادة، فإذا تكلمنا على تغيير أحوال الأمة -سواء في نطاق الأفراد أو الجماعات- فالتغيير يبدأ من أنفسنا، ولا نستطيع أن نغير أنفسنا إلى ما يوافق رضا الله تبارك وتعالى حتى نستوثق أن هذا الفهم الذي سنسعى لأجل التمكين له ونشره في الناس هو موافق لما يرضي الله عز وجل. والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد أشار إلى هذا المعنى في حديث ذكر فيه مراحل السقوط التي تمر بها الأمة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (تكون نبوتي فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها) ثم ذكر أنه بعد ذلك سيكون ملك عاض، ثم بعده سيكون ملك جبري، ثم قال في آخر هذه المراحل عليه الصلاة والسلام: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) ثم سكت صلى الله عليه وسلم، فتأمل أنه بعد مراحل الضعف أخبر عليه الصلاة والسلام أنه ستكون خلافة على منهاج النبوة. إذاً لابد من أن نركز على منهاج النبوة، وأن نفهم هذا الحديث في ضوء هذا المعنى، فلا يمكن أن يحصل تمكين للمسلمين من جديد، ولن يعودوا إلى عزتهم إلا بمنهاج النبوة، وأي منهج يخالف منهاج النبوة فليس هو سبب التغيير، ولن يؤدي إلى هذا التمكين. وبقاء جماعة المسلمين أمر لاشك فيه؛ إذ الجماعة لها معنيان: معنى سياسي ومعنى منهجي، فالجماعة بالمعنى السياسي: الكيان والبناء الذي يمكن أن يتخلف في بعض الأعصار والأزمان. والشاهد لهذا في حديث حذيفة: (فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام) فإنه يدل على إمكانية أن يبقى المسلمون بدون جماعة بالمعنى السياسي، وهي جماعة الخلافة، لكن الجماعة بالمعنى المنهجي العلمي قد ضمن الله تبارك وتعالى بقاءها إلى أن يأتي أمر الله في آخر الزمان، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة أن ضمن لها بقاء هذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. فإذاً موضوع الفهم الذي نسعى لأجل تحقيقه أمر مهم جداً؛ لأن كل معاني ذلك هو وسيلة، فبعض الناس يركز على قضية الجهاد، ولا شك أنه ذروة سنام الإسلام، لكن إذا تأملنا في الجهاد عرفنا أنه عبارة عن وسيلة لتمكين الدين، فالجهاد شرع من أجل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر كلمة الإسلام والدفاع عن حوزته، فإذاً الجهاد وسيلة للدعوة ووسيلة لنشر الفهم الصحيح للإسلام الذي يوافق منهاج النبوة ويوافق منهج الفرقة الناجية. فالغاية والهدف تعبيد الناس لربهم تبارك وتعالى، أما وضع أهداف خلاف هذا الهدف فإنه في الحقيقة يترتب عليه كثير من الأضرار، فبعض الناس إما أنه يجعل الهدف هو إقامة دولة الإسلام، ولا يشترط أن تكون دولة الإسلام في زمن من الأزمان أو ظرف من الظروف هي الهدف، إنما ينبغي أن يكون الهدف هو إرضاء الله تبارك وتعالى، وإرضاء الله يكون بأن تنفذ ما يكلفك الله سبحانه وتعالى به حسب طاقتك وحسب الظروف التي تحيط بك، فإن الدعوة -بلا شك- تمر بمراحل شتى مختلفة سواء بالنسبة للزمان أو بالنسبة للمكان، فإذا جعلنا الهدف هو إقامة الدولة الإسلامية ثم لم تحقق الدولة فسيحصل نوع من الإحباط، وكأنه ليس هنالك شيء يعمل الإنسان من أجله، لكن إرضاء الله تعالى هو هدف أعم، فإرضاء الله يكون بأن تفعل ما تستطيعه، فأنت غير مطالب بالنتائج إذا ما قصرت، لكن أنت مطالب بالأخذ بالأسباب حسبما تستطيع.

ضرورة الاجتهاد في نشر المنهج الحق

ضرورة الاجتهاد في نشر المنهج الحق ينبغي أن نوقن أن بداية التغيير هي فكرة، وأساس التغيير يكون في الفكر وفي الفهم وفي العقيدة، وتصحيح وتغيير المفاهيم الفاسدة في عقول كثير من المسلمين فضلاً عن غير المسلمين، فهذا في الحقيقة من أعظم مقاصد هذا التغيير الذي ننشده، فلا ينبغي أن تحتقر أبداً أنك تصحح عقيدة رجل -مثلاً- يعبد القبور وينذر للموتى ويطوف بالأضرحة ويسجد لها، بأن تقنعه وتصحح عقيدته وتطهر قلبه من هذا الشرك، فهذا تغيير حقيقي، بل هو أعظم أنواع التغيير من حيث عمق الأثر والفائدة التي تترتب عليه. وفي الحقيقة نحتاج إلى مقدمة بين يدي الكلام في هذا الموضوع، ونحن نريد أن نتعلم كي نفهم الإسلام فهماً صحيحاً، هذا الفهم الصحيح سينعكس في سلوكنا وفي عملنا، ثم ينعكس أيضاً في دعوتنا للآخرين كي ندعوهم إلى فهم صحيح للإسلام، وكثير من الجماعات يجتهدون اجتهاداً عظيماً في الدعوة، فالشيعة -مثلاً- إذا اطلعت على جهادهم في سبيل دعوتهم واستماتتهم في سبيل التبشير بهذه الدعوة الخبيثة رأيت ما يستحي أهل الحق من ربهم تبارك وتعالى أنهم لا يفعلون عشر معشار. وكذلك الصوفية فإنهم مبتدعون وضالون، وتجدهم ينفقون أموالهم وأوقاتهم في سبيل نشر أفكارهم الخبيثة، وهكذا، فتجد أن كثيراً من الذين في فكرهم الانحراف والضلال من حيث العمل والحركة عندهم حركة كثيرة، لكن نشكوا إلى الله عز وجل -كما يقول عمر رضي الله عنه- جلد الفاجر وعجز الثقة، ونجد أن كثيراً من أهل الحق يتقاعسون عن نشر دعوتهم وتصحيح المفاهيم وإحداث هذا التغيير العميق والخطير، فالتغيير ينبغي أن ينصب في إحداث تغيير في الفكر وتصحيح في العقيدة وفي المفاهيم حتى ينعكس على السلوك، وهذا هو الأسلوب الذي يبني، أما مجرد التربية الجماهيرية للناس بكثرة العدد فإنها أشبه ما تكون بمجموعة من الأثاث غير المنظم، والمتراكم بعضها على بعض، لكن إذا هذبت وصقلت فهذه هي التي تصلح أن توضع لبنة في بنيان، فتكون الجماعة كالبنيان المرصوص الذي امتدح الله عز وجل أهله، فإذاً لا بد من التعامل مع الناس بهذا الطريق طريق التصحيح الفردي والاقتراب من كل شخص لتصفية عقيدته وتصفية مفاهيمه ومراقبة سلوكه والتدرج معه حتى يكون هناك إنجاز بعد وقت، أما التربية العامة فإنها في الغالب بعد وقت لا تنجز شيئاً إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى، فهذا هو الهدف. لذلك فالعلم هو السبيل الذي يعطينا هذه البصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، إذاً لا بد من أن تكون الدعوة على بصيرة، وإنما نحصل على البصيرة من العلم، فالعلم هو الشيء الوحيد الذي كلف الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطلب منه المزيد، فما أمر الله نبيه أن يستزيده من شيء إلا من العلم، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. فهذا ما نريد أن نمهد له في هذا الكلام، أن التغيير لابد من أن يكون تغيير فكر وتغييراً في المفاهيم؛ لأن كل ما عدا ذلك فهو وسيلة للتمكين لهذا المفهوم، فإذا اجتمعت كل الاتجاهات -مثلاً- أو كل الجماعات أو كل هذه الألوان وتوحدت على الدعوة وعلى الجهاد، وبقي فيما بينهم اختلاف في الفهم فإنها ستعود الفرق من جديد، حتى إذا حصل تمكين سيحصل ما رأينا له صورة مصغرة في أفغانستان من التناحر الفكري والقبلي، وهذه الأشياء نتيجة عدم توحد المفهوم أو عدم وجود المفهوم الصحيح الكامل للإسلام في هذه الأشياء.

آداب طلب العلم

آداب طلب العلم هناك بعض النصائح التي نحتاج -أيضاً- للكلام فيها بين يدي الكلام في موضوع طلب العلم.

تصحيح النية

تصحيح النية أول هذه النصائح هو تصحيح النية، فالذي لا يصحح نيته يتعب نفسه، ويكون تعبه هباء منثوراً، فلا بد أولاً من تصحيح النية، بأن يريد بالعلم وجه الله عز وجل ونيل فضائله.

مراعاة فقه الأولويات

مراعاة فقه الأولويات وأمر مهم آخر فيما يتعلق بموضوع طلب العلم، وهو مراعاة الأولويات في المقاصد التي يطلبها الإنسان في العلم، وفقه الأولويات معناه أن هناك من العلوم ما هو علوم خادمة وهي علوم الوسائل، وعلوم مخدومة وهي علوم المقاصد، فلابد للإنسان من أن يبتدئ أولاً بالانشغال بهذه العلوم المخدومة، فيعطي أولوية لنوعين من العلوم، وهي فقه الإيمان وفقه الأحكام، أو بعبارة أخرى: الفقه والتوحيد. وفقه الإيمان يعني أمور العقيدة ومسائل التوحيد والإيمان، أن يفقهها ويتعلمها على مذهب السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فالأولوية المطلقة هي للتوحيد الذي هو فقه الإيمان والعقيدة. ثانياً: فقه الأحكام، وهو فقه العبادات الذي به يصحح الإنسان عبادته ويعبد ربه تبارك وتعالى، فالعلوم إذاً علوم غاية وعلوم وسيلة. فعلوم الغاية هي التوحيد والفقه. وعلوم الوسيلة هي العلوم الخادمة، كاللغة والنحو والصرف، وغير ذلك من العلوم التي تكون خادمة ووسيلة لخدمة ما عداها من العلوم. والنجاة في فقه الإيمان أن يكون على مذهب السلف، والنجاة في فقه الأحكام أن لا يتعصب الإنسان لآراء الرجال ويخالف الدليل إذا ثبت لديه، حتى ولو تمذهب لا يكون متعصباً، فلا يقدم آراء الرجال على حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الشمولية والتوازن

الشمولية والتوازن ومن النصائح المهمة في هذا الباب الشمولية والتوازن. والتوازن معناه أن الإنسان يأخذ من العلم حسب وظائفه؛ لأن الناس تتفاوت أشغالهم، فمنهم التاجر، ومنهم طالب العلم، ومنهم طالب في الكلية، وهكذا تتفاوت الظروف، وبالتالي يتفاوت حظ الإنسان من هذه العلوم بقدر تفاوت وظائفه الأخرى، فالمطلوب أن يكون عند الإنسان نوع من التوازن بين هذه الواجبات، حتى لا يضيع حق أي طلب، وفي الحديث: (إن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لربك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه)، فحتى لا ينقطع الإنسان ينبغي أن يوجد من البداية نوع من التبادل بين وظائفه، ويختار الدرجة من العلم التي تناسب ظروفه حتى لا يحدث اضطراب يؤثر على سيره في طلب العلم.

التدرج في طلب العلم

التدرج في طلب العلم ولابد من التدرج في سلم التعلم، فيتلقى المبادئ الأولية من كل علم، خاصة علمي التوحيد والفقه، فلابد من المبادئ الأولية أولاً، ولا يقفز مباشرة إلى المراجع الكبيرة أو إلى العلوم التي يمكن تأجيلها، فلا ينشغل بشيء أهم عما هو أهم منه.

تلقي العلم عن الشيوخ

تلقي العلم عن الشيوخ الأصل في العلم أن يتلقاه الإنسان عن الشيوخ مشافهة، فهذه هي الطريقة الصحيحة مطلقاً لطلب العلم. أما عند العجز عن ذلك فنضطر في مثل هذا الزمان إلى البدائل، فالإنسان يطلب العلم عن الشيوخ، فإذا لم يجد شيوخاً يرحل إلى أقرب بلد فيها شيوخ ويطلب العلم على أيديهم ويلازمهم ويكثر الجلوس إليهم، فإن لم يجد فالبديل أن يترقب الأمثل فالأمثل، وهو الأقرب نسبياً للشخص الذي يمكن أن يكون أعلم منه ويفيده في توجيهه في طلب العلم، فإن لم يجد فالبديل هو التلقي عن طريق الكتب، لكن لابد من الأخذ عن شيخ يعلمه مبادئ العلوم الخادمة كعلوم اللغة العربية ومنها علم النحو، وأغلب من يصل اليوم إلى مرحلة الثانوية العامة في الغالب له شيخ -بل شيوخ- في اللغة العربية؛ لأنه يدرسها في المدرسة بصورة تؤهله لأن يستفيد من هذه الدراسة في العلوم الشرعية. فالأصل هو تلقي العلم عن الشيوخ، إلا إذا تعذر أو تعثر ذلك فيبحث عن بديل، والبدائل -كما ذكرنا- طالب علم أقوى منه أو أسبق تجربة فيفيده، أو أشرطة الشيوخ، وهناك بعض المتون والكتب قد شرحها كثير من الشيوخ الأفاضل فينبغي الرجوع إليها للإستفادة منها والاقتباس من نورهم، أو قراءة الكتب.

احترام العلماء

احترام العلماء حتى لا يحرم الإنسان من بركة العلم فإنه محتاج لبعض التوجيهات، وأهمها احترام العلماء، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]. ويقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فهذه علامة التقوى في القلب، تعظيم شعائر الله، والشعيرة: هي كل ما أذن الله به وأشعر بفضله وتعظيمه. كل شيء أذن الله به وأشعرنا بفضله وتعظيمه فهذا هو الشعيرة، وتعظيم أهل العلم وأهل الخير من شعائر الإسلام، فإهانتهم إهانة للإسلام، وفي الحديث السالف الذكر: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط). ويقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: (اعلم -يا أخي، وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء مسمومة). يعني أن لحوم العلماء من أكلها بالغيبة سم ومات وهلك، قال: (أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت في القلب). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين ولا تستبيحوا عوراتهم؛ فإن من يتتبع عورة أخيه يتتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في عقر داره) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ويقول عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه) (ليس منا) هذا تبرؤ من النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ليس على طريقنا ولا من أهل هدينا. وكان السلف يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار. وقال بعضهم: أعراض العلماء حفرة من حفر جهنم. وقال الله عز وجل في الحديث المعروف: (من عادى لي ولياً فقد بارزته بالحرب)، ولذلك جاء عن الأئمة أبي حنيفة والشافعي: (إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي). إن لم يكن أهل العلم أولى الناس بالله وبنصرة الله ومحبته فلم يبق في هذه الأرض أولياء، فالأولياء ليسوا مجانين وليسوا أطفالاً يسيل لعابهم من أفواههم كما يقول بعض المعتوهين من أمثالهم: هذا ولي. ويبنون عليهم الأضرحة بعد أن يموتوا، والواحد منهم يكون معتوهاً -أي: يكون مريضاً بالعته ونقص العقل- يمشي متجرداً من ثيابه، أو يسيل لعابه في الطرقات، أو يفعل هذه الأشياء وهو في الحقيقة معذور؛ لأنه ليس عنده عقل، وهو غير مكلف، ثم يقولون: هذا ولي من أولياء الله، ويبالغون في ذلك، خاصة في الأرياف فإنه معروف وكثير، فهذا لا يمكن أبداً أن يصدق، بل أولياء الله ليس فيهم مجنون، ولابد من أن يكون أولياء الله عقلاء، بل هم أعقل الناس على الإطلاق. فهذا الأمر من ضمانات الفلاح في طلب العلم، أن يراعي الإنسان حرمة أهل العلم ولا يطعن فيهم ولا يتطاول عليهم، وإلا نزعت منه بركة هذا العلم.

الحذر من الاشتغال باختلافات العلماء

الحذر من الاشتغال باختلافات العلماء أيضاً من النصائح التي أهداها العلماء في مثل هذا الموضوع ما قال بعضهم: على طالب العلم أن يحذر في ابتداء أمره الاشتغال بالاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقاً. فينبغي لطالب العلم إذا حدد لنفسه هذا الهدف أن يبني على هذا الهدف ويبعد نفسه تماماً عن الاختلافات والصراعات، ومن ذلك الاختلافات في الأمور الفقهية والأمور العلمية، لا يفتح عينه أول ما يفتحها على أمور تتناطح فيها الجبال ويقوم فيها العمالقة من العلماء والمجتهدين، فعليه أن يحذر في ابتداء أمره الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقاً، سواء في العقليات أو السمعيات، فإنه يحير الذهن ويدهش العقل، بل عليه أن يتقن أولاً كتاباً واحداً في فن واحد -أو كتباً في فنون إن كان ذلك أحسن له- على طريقة واحدة يرتضيها له شيخه، فإما أن يبقى على كتاب واحد ويتقنه تماماً حتى يحفظه ويترك الشيخ يمتحنه فيه مثلاً، وإما أن يشتغل بأكثر من فن إذا كان الشيخ يرجح له أنه يناسبه أن يشتغل بأكثر من فن في وقت واحد حسب الأمثل له، فالمهم أن يبقى على شيء ولا يشتت نفسه.

الحذر من القراءة العشوائية

الحذر من القراءة العشوائية ينبغي أن يحذر الإنسان من القراءة العشوائية، وهذه آفة الآفات، فالموضوع عند بعضهم تسلية، فلا يؤديه بصورة مسئولية أو عبادة عظيمة أو فرض كفاية، لكن المسألة عنده عبارة عن قراءة عشوائية يجمع الكتب ويحسنها ثم لا يقرأ من هذه الكتب شيئاً إلا أنه يأخذ ما يروق لمزاجه، فالشيء الذي يأتي على هواه يقرأ فيه، أما الشيء الصعب عليه فلا يصبر عليه، فهو يتبع ما يوافق هواه فقط وما يحبه من العلوم، أما العلوم الصعبة فإنه يذاكرها إن كان في الجامعة فقط، فإذا كان هناك في الجامعة مادة صعبة فإنه يسهر الليالي ويبتدع كل وسيلة ممكنة كي يفهم هذه المسألة، يذهب إلى المدرس، ويذهب إلى زميله يأتي بالكتب والمراجع، ويكد الليل والنهار في سبيل أن يفهم ما صعب عليه فهمه. أما العلوم الشرعية فهو إما أن يقرأها على السرير إلى أن ينام، أو يقرأ الشيء الذي يروق له ويبتعد تماماً عن الشيء الذي يجده صعباً، فمثل هذا لا يأتي بنتيجة، هذه قراءة جرائد ليست قراءة طالب العلم. فليحذر -كما قال العلماء- في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات، فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه، تمر سنوات وسنوات وفي النهاية يجد نفسه ما حصل شيئاً؛ لأنه لم يحقق بل شتت نفسه. فعليه أن يعطي الكتاب الذي يقرؤه أو الفن الذي يدرسه كُلِّيته حتى يتقنه، فيهتم به ولا يشتت نفسه في قراءة المجلدات وفي قراءة الكتب في العلوم الأخرى. وطالب العلم ينبغي أن يكون في سلوكه وفي منهجه مختلفاً تماماً عمن عداه، ولماذا نعذر الطالب الذي يكون في كلية أو في معهد أو مدرسة ونقول: لا أحد يزوره؛ فعنده امتحانات ويكون في حالة طوارئ لا أحد يقترب من البيت ولا يزوره؟ وهو عذر كل الناس تقبله، فلماذا طلب العلم الشرعي لا يكون فيه هذا التعظيم؟ وهو أولى بالتعظيم والتركيز وقطع العلائق في سبيل تحصيل هذا الهدف ولو إلى حين. كذلك يحذر من التنقل من كتاب إلى كتاب من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الإفلاح، فالانتقال من كتاب لكتاب من غير ما يوجب ذلك هو علامة الضجر، ومثل هذا لا يفلح ولا يأتي منه خير، هذا إذا كان مبتدئاً، أما إذا تحققت أهليته وتأكدت معرفته فالأولى أن لا يدع فناً من الفنون من العلوم الشرعية إلا نظر فيه، فإن ساعده القدر وطول العمر على التعمق فيه فذاك، وإلا فقد استفاد منه ما يزيل به عداوة الجهل بذلك العلم، ويعتني من كل علم بالأهم فالأهم، ولا يغفلن عن العمل الذي هو المقصود بالعلم.

طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها

طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها فطلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، فالإنسان لا يقفز على السلم، فلا ينبغي تعديتها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً ذل. فأول ما ينبغي الاشتغال به في العلم حفظ كتاب الله تبارك وتعالى وتفهمه وكل ما يعين على فهمه، وهذا ما سنفصله إن شاء الله تعالى، لكن قبل ذلك أيضاً نشير إلى أمر مهم جداً بالنسبة لطالب العلم، وقد أشرنا إليه من قبل، وهو أنه لابد من أمرين: لابد من المنهجية ولابد من المرحلية، لابد من أن يتوافق الأمران منهجياً، لابد من أن يكون هناك منهج محدد في كل علم من العلوم تدرسه، وحبذا لو تقرأه على شيخ، فلابد من المنهجية، لابد من منهج يحصر في كتب محددة يتم انتقاؤها بعناية، ولا تتجاوزها ولا تقرأ في غيرها، وتسهر فيها الليل والنهار تلخص وتحفظ وتذاكر وتسمع وتتعاون مع إخوانك في حفظها ومذاكرتها، فلابد أولاً من المنهجية، ثم لابد من المرحلية الزمنية، بأن يكون هناك جدول زمني للقراءة في مادة معينة أو في فن معين أو في كتاب معين، فقد تمر الأيام الطويلة ولا تحاسب نفسك ولا تشعر بأن مراحل العمر تطوى وأنت لا تشعر ولم تحصل بعد شيئاً، فلابد من الأمرين: منهجية ومرحلية زمنية. وأهمية هذا الموضوع الذي نتكلم فيه تنشأ وتتسرب إلى الذهن بمجرد أن الإنسان يزور معرضاً من معارض الكتب، فنحن عندنا الآن في هذا الزمان ما يصح أن نطلق عليه -إذا لم يكن في العلوم الشرعية- أنه نوع من إسهال تأليفي كما يقول بعضهم، فقد كثرت الكتب كثرة غير عادية، حتى وصل بعض الخبثاء والشياطين في هذه الأيام إلى أن أعادوا طباعة كتب السحر، وتجد جناحاً مستقلاً في كثير من معارض الكتب لكتب تعليم السحر، والعياذ بالله تبارك وتعالى، وهذا -بلا شك- كفر، ويجب على كل مسلم في معرض من هذه المعارض أن يكلم صاحب تلك الكتب، فعلى الأقل إن لم يكن يخاف من الله ويستحيي يخاف على تجارته أن تبور، فقل له: هذا حرام وهذا كفر. ولو أن كل أخ دخل وأنكر عليه فإنه سيتشكك في مسلكه، وعلى الأقل يبعد هذه الكتب التي يمكن أن تفتن الناس وتعصف بإيمانهم عصفاً وتقتلعه من جذوره. فينبغي على أي أخ مسلم يوجد في مثل هذه المعارض أن يتوجه إلى من يبيع تلك الكتب وينصحه في الله ويتلو عليه الآيات في سليمان عليه السلام ويقول له: قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] وأنت بهذا تساعد على تعليم الناس السحر، والمال الذي تأخذه من هذا حرام، وهذا السحر كفر. ونحو هذا.

طالب العلم وموقفه من العلوم ومعارض الكتب

طالب العلم وموقفه من العلوم ومعارض الكتب فمعارض الكتب لو أن إنساناً صاحب اتجاه علمي أو فكري محدد دخل معارض الكتب في هذا الزمان تصيبه حيرة وملالة الله بها عليم، فكيف يكون الشاب الذي ليست عنده خلفية أصلاً؟ أو طالب العلم الذي ليس عنده خلفية؟ أو أي أحد يرغب في طلب العلم ولا يعرف أي اتجاه يسلك، أيسلك اتجاهاً سلفياً أو اتجاهاً خلفياً صوفياً أو أشعرياً أو سنيّاً أو بدعياً؟ وهل يقرأ في كتب الفكر أو الفقه، لا يعرف شيئاً وما عنده خبرة، لاشك أن هذا يكون أشد ملالة وأشد تشتيتاً إذا دخل معارض الكتب، فهذا يعكس تأكيد النصيحة فيما يتعلق بالاهتمام بمنهج محدد في طلب العلم. وأيضاً يحذر الإنسان -كما أشرنا ضمناً- أن يميل فيقرأ العلوم التي يميل إليها فقط، بل على طالب العلم أن لا يقتصر على العلوم التي يميل إليها، فهذه العلوم التي يميل إليها يمكن أن يكون لها وقت آخر إذا أصابه ضجر أو ملالة، لكن لابد من أن يدرس العلم بصورة منهجية، حتى وإن كانت هناك بعض العلوم التي لا يميل إليها، أو يجد فيها صعوبة كأصول الفقه مثلاً أو غيره من العلوم التي يكون فيها شيء من الجفاف أو الصعوبة، فعليه أن يصبر ويحتال حتى يعرف طريقة حلَّ رموزها أو الاستعانة بمن هو أخبر منه في طلب العلم حتى يفرغ منه مع مرور الوقت ومرور الزمن.

قضيتان حول كتب العلم

قضيتان حول كتب العلم إن الكتب المؤلفة ليست كتباً معصومة، فنضطر أحياناً في بعض الفروع أو بعض العلوم أن نختار المتيسر من الكتب ونحاول علاجه ونحن ندرسه، فننبه إلى الأخطاء الموجودة في كل كتاب حتى يكون الإنسان منها على بينة، لأنه لا يوجد كتاب معصوم بعد كلام الله عز وجل وبعد القرآن الكريم، بل أحياناً يضطر الإنسان للقراءة في كتب بعض المبتدعة ممن يكون قد فتح عليه في هذا الباب، فنستفيد منه ونحذر من ضلاله أو بدعته التي ابتدعها أو التقصير الذي وجد في كتابه؛ لأنه لم يوجد بديل نقي خالص نعتمد عليه. وليس بشرط أن يكون الكتاب الذي تأخذه كتاباً معيناً، بل يمكن أن أي كتاب يصلح أن يكون بديلاً مع خلاف في المبدأ، فلا تتكلف شراء كتاب جديد وعندك نفس الكتاب مع خلاف في المبدأ، وإن اختلف معه في الأسلوب، فننبه إلى أنه قد توجد مآخذ في بعض هذه الكتب نحاول التنبيه عليها ما استطعنا، وإن لم ننبه فينبغي أن ينتبه الإنسان إلى أن هذه الكتب ليست معصومة وليست معتمدة كلها، بل لا يكاد يخلو كتاب من مؤاخذة. وكذلك حينما نجيب على Q لمن تقرأ؟ فإننا إذا استقصينا كل أنواع أو أسماء المؤلفين والعلماء في القديم وفي الحاضر فهم آلاف وآلاف من العلماء جزاهم الله خيراً، وحينها سنضطر إلى الاقتصار على أسماء بعض المؤلفين وليس كلهم، فلا يعتبر أحد أن عدم ذكر أسماء بعض المؤلفين يتعمد لسبب الأخذ، وإنما المسألة أننا لابد من أن نقتصر على بعض منهم دون بعضهم الآخر؛ لأنهم لا يحصون كثرة.

طالب العلم والقرآن الكريم

طالب العلم والقرآن الكريم العلم الأول الذي سنتكلم فيه والذي ذكره العلماء أنه أول العلم هو حفظ كتاب الله عز وجل وفهمه وفهم كل ما يعين على فهمه، وأهم ذلك على الإطلاق بالنسبة لعلوم القرآن الأمور الآتية: أولاً: الحفظ. ثانياً: ما يعين على فهم القرآن من لسان العرب. ثالثاً: الأحاديث الواردة في التفسير. رابعاً: معرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن. خامساً: دراسة آيات الأحكام واختلاف العلماء في ذلك.

وظائف طالب العلم مع القرآن الكريم

وظائف طالب العلم مع القرآن الكريم لابد لكل طالب علم من ثلاث وظائف مع القرآن الكريم، والمفروض أنها لكل مسلم وليست فقط لطالب العلم. فلابد أولاً من ختم القرآن الكريم، أن تكون له دورة مستمرة يختم فيها القرآن باستمرار لا تنقطع، وهي التي تسمى الأوراد أو الأحزاب، وهذه ليست تسمية صوفية، فكلمة (الورد) وكلمة (الحزب) كلمة شرعية خالصة، فالرسول عليه السلام حينما تأخر عن بعض الناس الذين كانوا يطلبونه خرج إليهم وهو يقول: (إنه قد حضر حزبي من القرآن فكرهت أن آتيكم حتى أقضيه -أو حتى أتمه-) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وفي الأثر: (كان الصحابة يحزبون القرآن على كذا وكذا). وفي الحديث أيضاً: (من فاته ورده من الليل فليقرأه من النهار) إلخ الحديث المعروف. وكلمة (الورد) أو (الحزب) في الأصل هي النوبة في ورود الماء، فالعرب كانوا يأتون بالجمال -مثلاً- فيردون بها الآبار يستقون الماء، لكن كل واحد يأخذ نوبة، أي: يأخذ دوراً. فهذا هو الورد، فالورد: أن يأتي عند البئر ويأخذ دوره ويأخذ الحزب والنوبة من الماء. فلابد من أن يكون هناك حد لارتباطه بالقرآن، حتى لو قرأ عشر آيات في اليوم، أو ربع حزب في اليوم، لكن لا يترك أبداً يوماً وليلة من قراءة كتاب وكلام الله عز وجل. إذاً هناك ثلاث وظائف: ختم القرآن، ومراجعة المحفوظ، وحفظ غير المحفوظ. فالبنسبة لختم القرآن الكريم -كما أشرنا- لابد من أن يعين لنفسه حزباً يومياً من القرآن العظيم طبقاً لظروفه، ويفضل أن أي مسلم لا يمر عليه شهر إلا وقد ختم القرآن، وفي الحقيقة ختم القرآن باستمرار أعظم وسيلة تسهل الحفظ، وتعينك على تسهيل الفهم فيما بعد. وذكرنا من قبل تحزيب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كانوا يقرءون ثلاثاً فخمساً فسبعاً فتسعاً فإحدى عشرة فثلاث عشرة سورة، ثم الحزب المفصل وحده. وأيضاً -كما ذكرنا- لا يختم في أقل من ثلاث، للنهي عن ذلك، وللأسف الشديد نحن في هذا الزمان لا نحتاج للتكلم في هذه النقطة كثيراً؛ لأنه يندر من يختمه حتى في ثلاثين! ولا يزيد عن شهر بقدر المستطاع، وهذا ليس أمراً واجباً متحتماً، لكن حسب الظروف؛ لأن لبعض الناس أحياناً ظروف الكسب والعمل قد لا تعينهم على ذلك، لكن على الأقل لا يزيد عن شهر بقدر المستطاع. أما الكتاب المتعلق بهذا الموضع فإن أول كتاب نرشحه -ولابد لطالب العلم من أن ينشئ علاقة متميزة مع القرآن- فهو الكتاب المبارك لذلك الإمام المبارك الإمام النووي رحمه الله كتاب (التبيان في آداب حملة القرآن) وهو كتاب معروف ومبارك من كتب الإمام النووي رحمه الله العظيمة النفع والبركة. ثانياً: المراجعة، وهناك أحاديث كثيرة جداً تأمر المسلم بتعاهد القرآن؛ لأنه يمحى من ذاكرة الإنسان إذا لم يتعاهده باستمرار، خاصة الآيات المتشابهة في الألفاظ، فلابد من أن يكون له ورد في المراجعة، وينبغي أن يكون أكثر من ورد الحفظ، ويقدم المراجعة على الاشتغال بحفظ ما لم يحفظه. أما فيما يتعلق بالحفظ -وهي الوظيفة الذهبية فيما يتعلق بالقرآن فنقول باختصار: يدرس كتيباً مباركاً لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله، وهذا الكتاب المبارك اسمه (القواعد الذهبية لحفظ القرآن الكريم)، وهنا نذكر هذه القواعد على شكل عناوين فقط إذ قد شرحها بالتفصيل: أولاً: الإخلاص. ثانياً: تصحيح النطق والقراءة. ثالثاً: تحديد نسبة الحفظ كل يوم وترديده مع التغني. رابعاً: لا تجاوز مقررك اليومي حتى تجيد حفظه تماماً. خامساً: حافظ على رسم واحد لمصحف حفظك؛ لأن الحفظ يكون بالبصر والسمع، فحافظ على نسخة معينة من القرآن وواظب عليها، كطبعة الملك فهد مثلاً، حافظ على طبعة واحدة تحفظ فيها، وقد يختلف الحجم، لكن لابد من أن تكون نفس الطبعة؛ لأن الإنسان يحفظ بعينه وبسمعه. سادساً: الفهم طريق الحفظ ومعرفة وجه ارتباط الآيات ببعض، فهناك ارتباط بين الآيات في المعاني يساعد على الحفظ، ولذلك تجد الإنسان يحفظ الآيات التي فيها قصة بأسرع من غيرها، لأن فيها ارتباطاً في المعاني وتسلسلاً. سابعاً: لا تجاوز سورة حتى تربط أولها بآخرها. ثامناً: التسميع الدائم والعرض على حافظ آخر أو متابع في المصحف. تاسعاً: المتابعة الدائمة حتى لا يتفلت. فلابد من متابعة دائمة للمراجعة عن طريق الورد اليومي كما ذكرنا، والحد الأدنى يكون جزءاً، والحد الأقصى عشرة أجزاء في اليوم. عاشراً: العناية بالمتشابهات، والمقصود بهذا التشابه هو التشابه في الألفاظ في الآيات التي يكون فيها تشابه في خواتمها أو في ألفاظها، فإن ثلث آيات القرآن فيها تشابه. الحادي عشر: اغتنم سني الحفظ الذهبية التي هي من خمس سنوات إلى ثلاث وعشرين سنة، فلا تفتك هذه السنوات الذهبية، وكلما كان الأمر مبكراً جداً كلما كانت درجة الحفظ قوية جداً، خاصة عند الأطفال، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، أن يطيق قلب الطفل الصغير الذي لم يتعلم شيئاً أن يحمل كلام الله سبحانه وتعالى بين أضلعه وبين جوانحه تصديقاً لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فهل هناك تيسير أكثر من هذا؟ كلام الله عز وجل يطيق حمله الصبي الصغير الذي لم يتجاوز سبع سنوات أحياناً أو أقل.

معرفة طالب العلم شرف حفظ القرآن الكريم

معرفة طالب العلم شرف حفظ القرآن الكريم فالمسألة في الحقيقة تحتاج إلى همة عظيمة جداً، فالإنسان لابد من أن يضع هذا في مقدمة مشاغله، أن يتم حفظ القرآن، وهذا شرف ليس بعده شرف، إذا شرفك الله تبارك وتعالى بأن جعل صدرك مستودعاً لكلامه فهذا أعظم من مليون شهادة دكتوراه، ومن أن تكون ملك ملوك الدنيا وإمبراطور الإمبراطورات وأغنى الأغنياء، فإن هذا هو الغنى الحقيقي، ففي الحديث: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) وأحد وجوه تفسير أن كلمة (يتغن) تعني: يستغني به عما عداه. فأعظم شرف هو لحامل القرآن والشريعة، لذلك وضعت أحكام خاصة بحامل القرآن وبيان عظمته، كما نعرف من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يؤمر أميراً على مجموعة من الناس، فاستعرض ما معهم من القرآن فاختار واحداً معه سورة البقرة وأمره عليهم، فقال: (أنت أميرهم)؛ لأنها أفضل سورة في القرآن، كذلك الأحكام تفاوتت بموضوع الحفظ، فالذي يلي الإمام من اليمين أولوا الأحلام والنهى، فيلي الإمام أكثر الناس حفظاً للقرآن، كذلك عند الدفن يقدم أكثرهم قرآناً، إذاً هذا هو الشرف الذي يرفع الله عز وجل به أقواماً ويضع بالإعراض عنه آخرين كما بينا من قبل. فالنصيحة هي لأبناء المسلمين لاغتنام سني الحفظ الذهبية من سن خمس سنوات، وربما بعض الأطفال يظهر فيهم النبوغ مبكراً قبل حد خمس سنوات، فمتى ما تفتق ذهن الصبي وعرفت منه أنه يطيق الحفظ فأعطه ما استطعت وقربه لذلك، واجتهد في أن تشغله بالقرآن لا بالأناشيد ولا بالإعلانات وبالأغاني والكتب الفارغة، بل اجتهد في أن تحفظه كلام الله تبارك وتعالى. هذه خلاصة القواعد الذهبية لحفظ كتاب الله تبارك وتعالى.

أهمية جعل جدول زمني لحفظ القرآن الكريم

أهمية جعل جدول زمني لحفظ القرآن الكريم فيما يتعلق بجدول زمني لحفظ القرآن الكريم هناك كتاب وضعه أخ فاضل من اليمن يدعى مزاحم طالب العاني، كتاب اسمه (دليل الحيران لحفظ القرآن)، وهو تجربة لا بأس بها لعلها تفيد كثيراً جداً، حيث إنه وضع جدولاً زمنياً لحفظ القرآن ومراجعته، بحيث يتم في أربع سنوات تقريباً إذا كان لا يحفظ شيئاً على الإطلاق، فيحفظ شيئاً قليلاً جداً من الآيات لكن مع الوقت يكمل حفظه، كما قال عليه السلام: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قَّل)، فإذا داومت والتزمت بهذا الجدول فهو موجود ومطبوع اسمه (دليل الحيران لحفظ القرآن) لـ مزاحم طالب العاني.

أهمية أخذ القرآن عن طريق المشافهة عن الشيوخ

أهمية أخذ القرآن عن طريق المشافهة عن الشيوخ ننبه تنبيهاً مهماً جداً، وهو أن المشافهة هي الأصل في تعلم القرآن؛ لأن معنى القرآن القراءة، ولا يسمى قارئاً إلا بالمشافهة، فلابد حتماً من أن تتعلم القرآن على يد شيخ، حتى الأشرطة لا تفيد إذا كنت تريد طلب العلم بدقة، فموضوع الأشرطة أو الكتب كل هذا ليس مما يصح مع القرآن، وقد يصلح مع غيره من العلوم، لكن في القرآن لابد من المشافهة، لابد من أن تتأكد أن كل حرف قد ضبطته وقرأته قراءة صحيحة وأخرجته من مخرجه مع شيخ يعلمك ويشرف على تعليمك هذا الأمر. وهناك بديل لكن لا يكفي، وهو سماع الأشرطة، لكن إلى حد كبير يصيب في تصحيح السماع وتصحيح النطق بالآيات، خاصة المصحف المعلم للشيخ الحصري رحمه الله تعالى أو غيره من المشايخ، فيمكن الاستفادة من سماع الأشرطة كبديل مؤقت، أو يكون بجانب التعلم من الشيوخ.

أهمية معرفة الآيات المتشابهة في القرآن الكريم

أهمية معرفة الآيات المتشابهة في القرآن الكريم بالنسبة لمعرفة الآيات المتشابهة في الحفظ العلماء خصوها ببعض الكتب، فالإمام السنحاوي رحمه الله تعالى له منظومة في الآيات المتشابهة في القرآن من حيث الألفاظ، وعليها شرح يسمى (التوضيحات الجلية شرح المنظومة السنحاوية في متشابهات الألفاظ القرآنية)، وهناك كتاب صغير جداً، وطباعته جميلة جداً ومفيدة؛ لأن الحروف المتشابهة في الكلمة تتميز باللون الأحمر بحيث تتميز تماماً عما يشبهها، وهو يسمى (تنبيه الحفاظ للآيات المتشابهة في الألفاظ) للشيخ محمد بن عبد العزيز المسلم.

الكتب والعلوم المتعلقة بالقرآن الكريم

الكتب والعلوم المتعلقة بالقرآن الكريم العلم الأول الذي سنتكلم فيه والذي ذكره العلماء أنه أول العلم هو حفظ كتاب الله عز وجل وفهمه وفهم كل ما يعين على فهمه، وأهم ذلك على الإطلاق بالنسبة لعلوم القرآن الأمور الآتية: أولاً: الحفظ. ثانياً: ما يعين على فهم القرآن من لسان العرب. ثالثاً: الأحاديث الواردة في التفسير. رابعاً: معرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن. خامساً: دراسة آيات الأحكام واختلاف العلماء في ذلك.

كتب تجويد القرآن الكريم

كتب تجويد القرآن الكريم وفيما يتعلق بالتجويد لابد -كما ذكرنا- من المشافهة والقراءة على الشيخ، لابد في التجويد من أن تتعلمه على شيخ، وننصح بمحاولة الالتصاق بالشيوخ الأزهريين في هذا الفن؛ لأن الأزهريين يتقنون هذا الفن اتقاناً شديداً، ويمكن أن يتفق الإنسان مع شيخ ممن تعلم في الأزهر أو شيخ في المعهد الديني أو مجموعات من الإخوة يتفق معهم ويعلمهم التجويد ويشرف على هذا الأمر، وهذا الأمر حتمي ليس فيه خيار. وأما مؤلفات التجويد فيحفظ (متن تحفة الأطفال)، وله شروح وأبسط هذه الشروح ولعله أفضلها مع صغر حجمه (بغية الكمال شرح تحفة الأطفال) للشيخ أسامة عبد الوهاب، وتحفة الأطفال ليس هو للأطفال الصغار فحسب، وإنما للكبار أيضاً، أي: بالنسبة لابتدائهم في طلب العلم وليس شرطاً أن تأخذ نفس الاسم ونفس الكتاب، بل من الممكن أن يكون عندك بديل ثانٍ لشرح تحفة الأطفال، فالشروح كثيرة فلا بأس بأي كتاب. وكذلك حفظ متن الجزرية، كذلك -إن أمكن- حفظ (إغاثة الملهوف) في صفات الحروف، فهذا بالنسبة للمتن في التجويد، ومن الممكن أن يدرس علم التجويد بتوسع أكثر في طبقة أعلى أو في مرحلة فيما بعد، بدراسة عدد من الكتب منها: كتاب (فتح المريد في علم التجويد) للشيخ عبد الحميد يوسف منصور، وهو في جزأين صغيرين، وهذا الكتاب هو أحد الثلاثة الكتب وهو أحسنها، وهناك كتاب جيد كذلك، هو (العميد في علم التجويد)، أو (غاية المريد في علم التجويد) وهذا أيضاً مفيد جداً، فيأخذ واحداً من هذه الثلاثة وليس كلها.

أهم الكتب في علوم القرآن

أهم الكتب في علوم القرآن بالنسبة لعلوم القرآن نحتاج إلى كتاب في علوم القرآن يعطينا فكرة أولاً عن علوم القرآن وأنواعها والأرضية أو الخلفية التي لا يليق بطالب العلم أن يكون خالياً عنها، وهناك عدة كتب، والكتاب الأساسي المرشح -لأنه أبسطها وفيه فوائد جمة- (لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير) لأستاذنا الدكتور محمد الصباغ حفظه الله، أو (مباحث في علوم القرآن) للدكتور صبحي الصالح أو (التبيان في علوم القرآن) للشيخ محمد علي الصابوني، والشيخ الصابوني عليه ملاحظات كثيرة على منهجه في (صفوة التفاسير)، وهذه الأشياء لكونه متحمساً جداً لمذهب الأشاعرة في موضوع الصفات، ولكن أنبه على أن بعض المؤلفين قد تكون هناك بعض الملاحظات على كتبه، لكن يكون متخصصاً في هذا المجال فيفيدنا. أو كتاب (مناهل العرفان في علوم القرآن) للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني وهو وإن كان أشعرياً -للأسف الشديد، والكتاب يحتاج لمن يهذبه وينقيه من هذه الأشياء- إلا أن طريقة الترتيب والجمع مفيدة جداً في بعض المواضع، فلذلك اخترت أولاً كتاب الدكتور الصباغ لأنه أنقاها من حيث هذه الملحوظة، وهو (لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير) يليه (مباحث في علوم القرآن) ثم (التبيان في علوم القرآن) (مناهل العرفان في علوم القرآن).

أهم الكتب في علم التفسير

أهم الكتب في علم التفسير بالنسبة لعلم التفسير هناك الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي، ويسمى (تمهيد خطير في علم التفسير) للشيخ محمد جمال الدين القاسمي، لكن الكتاب المعتمد أو الذي نوصي به مع هذا كتاب مفيد جداً للشيخ خالد عبد الرحمن العك، وهو (أصول التفسير وقواعده) فهذا من أفضل الكتب وأقواها. وأيضاً هناك كتاب مفيد وفيه بحث عظيم جداً للدكتور محمد حسين الذهبي اسمه (التفسير والمفسرون)، فهذا فيما يتعلق بعلوم التفسير.

أهم الكتب في أسباب النزول

أهم الكتب في أسباب النزول بالنسبة لأسباب النزول، وبالنسبة للأحاديث التي صحت في تفسير بعض الآيات ولابد للإنسان من أن يكون على إلمام بها هناك كتاب جديد اسمه (الصحيح المسند من التفسير النبوي للقرآن الكريم) للشيخ سيد إبراهيم أبو عمة. وفي أسباب النزول هناك كتاب (الصحيح المسند من أسباب النزول) للشيخ مقبل بن هادي الوادعي. وفي القراءات كتاب (القراءات أحكامها ومصدرها) للدكتور شعبان محمد إسماعيل. وفي موضوع إعجاز القرآن هناك دراسة معاصرة اسمها (المعجزة الخالدة) للدكتور حسن ضياء الدين. وبالنسبة لاستطلاع مواقف المفسرين -على اختلاف تفسيراتهم- من الآيات والصفات هناك بحث مفيد للشيخ محمد عبد الرحمن المغراوي اسمه (المفسرون بين التأويل والإثبات).

كتاب (بدع التفاسير) للغماري

كتاب (بدع التفاسير) للغماري هناك علم ابتكره الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري ومعروف عنه أنه من أعداء السلفية، وإذا أمسكت كتاباً له ففتش عن شتيمة ابن تيمية، لكن مع ذلك له بحوث جيدة جداً منها هذا الكتاب؛ لأنه في الحقيقة ابتكر هذا الكتاب وليس فيه محاكاة لغيره ممن سبقه، كتاب (بدع التفاسير)، واحذر جداً من أخطائه والمؤاخذات عليه، خاصة فيما يتعلق بالعقيدة السلفية أو نيله من بعض العلماء الأفاضل، لكن مع ذلك هو كتاب فيه فوائد عظيمة.

أهم الكتب المؤلفة في معرفة الإسرائيليات والموضوعات في التفاسير

أهم الكتب المؤلفة في معرفة الإسرائيليات والموضوعات في التفاسير بالنسبة لمعرفة الإسرائيليات والموضوعات في التفاسير فهناك كتاب للدكتور محمد أبو شهبة (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير).

الناسخ والمنسوخ في القرآن، وأهم الكتب المؤلفة في ذلك

الناسخ والمنسوخ في القرآن، وأهم الكتب المؤلفة في ذلك وبعد ذلك يبقى نوع آخر من علوم القرآن وهو الناسخ والمنسوخ، وهو من أهم العلوم، وهذا الموضوع فيه كلام طويل جداً، وموضوع النسخ فيه نقاش واختلافات، خاصة في العصر الحديث، فكثير من الناس تطاولوا في هذه القضية، واتبعوا كلاماً كثيراً، وهناك كتاب يناقش موضوع النسخ اسمه (نظرية النسخ في الشرائع السماوية) للدكتور شعبان محمد إسماعيل، وهو كتاب جيد. والكتب التي تتناول الناسخ والمنسوخ تستعرض الآيات التي فيها النسخ، وهناك كتب في الناسخ والمنسوخ، ككتاب لـ ابن العربي وجمال الدين البذوري أو ابن الباذري وقتادة بن دعامة وهبة الله بن سلامة وغيرهم، وفي الحقيقة الكلام كثير جداً في موضوع الناسخ والمنسوخ، فهناك آيات كثيرة يزعم أنها فيها ناسخ ومنسوخ وهي ليست كذلك، والإمام السيوطي رحمه الله قد اختصرها جداً، ونظمها في قصيدة في صفحة واحدة، هذه القصيدة ضمنها العلامة القرآني الشنقيطي رحمه الله كتابه (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، وعمل حاشية على قصيدة السيوطي، فالآن يستطيع الطالب أنه يحفظ قصيدة السيوطي ويتقن شرحها للشنقيطي رحمه الله، فيكون قد جمع علماً في هذا الباب، وهو معرفة الناسخ والمنسوخ، وهو علم أساسي، فيستطيع الطالب أن يحفظ قصيدة السيوطي ويتقن شرحها المكون من صفحتين، فهي عبارة عن ثلاث صفحات: صفحة قصيدة، وصفحتان شرح، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكتب المختارة في بعض علوم القرآن

الكتب المختارة في بعض علوم القرآن الكتاب المعتمد الذي ننصح به: تفسير المشكل من القرآن العظيم على الإيجاز والاختصار، لـ أبي محمد مكي القيطي، يفضل أن يلحق به كتاب أيضاً عظيم جداً من كتب التراث لا يقل عنه أهمية للإمام بدر الدين بن جماعة وهو: غرر التبيان فيمن لم يسم في القرآن، كلامنا يكمل بعضه بعضاً. لنفرض أن الكتابين غير متوفرين، فما المخرج؟ هناك كتب بسيطة أي كتاب في غريب القرآن، مثلاً: كتاب كلمات القرآن توضيح وبيان، وهو كتيب صغير جداً لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف رحمه الله، أو: مختصر معاني مفردات القرآن الكريم للشيخ محمد سند الطوخي. أما المرجع في مفردات القرآن الكريم فهناك المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، مجلد واحد كبير، وهذا المرجع إن تمكن طالب العلم من حفظه واستظهاره فهذا جيد، وإن كان الراغب الأصفهاني يقال إنه شيعي إمامي، لكن الله أعلم بصحة ذلك، لكن الكتاب جيد من حيث اللغة، لكن يكون الإنسان على حذر؛ لأنه أحياناً تشم هذه الرائحة الشيعية في مواضع قليلة جداً. وهناك علم آخر يسمى: مشكل القرآن، أي: الآيات التي يتعارض ظاهرها في نظر من لم يحكم دراسة القرآن وفهمه، يقوم بعض العلماء بتوضيحها والجمع بينها وإزالة هذا الإشكال، فأشهر كتاب ألفه السلف في ذلك هو عبارة عن رسالة هي أوراق قليلة جداً للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في الرد على الزنادقة والجهمية. وهناك كتاب قيم جداً في هذا الباب وهو كتاب: "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" للعلامة الشنقيطي رحمه الله. وهناك علم من العلوم الخطيرة جداً والمهمة، بل يعتبر أهم علوم القرآن هو: علم أحكام القرآن وآيات الأحكام، هذا علم مهم جداً، وهو باختصار: عبارة عن الآيات التي تضمنت أحكاماً فقهية، وأفضل كتاب نرشحه في هذا هو: روائع البيان تفسير آيات الأحكام، للشيخ محمد علي الصابوني، والكتاب عليه مآخذ من حيث تساهله في أحاديث ضعيفة، وعدم إتقانه لتخريج الأحاديث، فهذه مآخذ معروفة لأنه غير متضلع من علم الحديث، لكن كناحية تنظيمية كتاب "روائع البيان" من أحسن الكتب في التنظيم والترتيب وحسن التسهيل في التدريس، فالكتاب الذي يعتمد: "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن الكريم" للصابوني. وهناك مراجع أخرى يحتفظ بها الإنسان مثل: جامع أحكام القرآن للقرطبي أو لـ ابن العربي، وكذلك: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي رحمه الله تعالى.

الكتب المختارة في التفسير

الكتب المختارة في التفسير أخيراً تفسير شامل للقرآن ككل، ما هو التفسير الذي يرشح بأن يدرس كتفسير شامل؟ في هذه المرحلة نحن نركز على أن نختار مصدراً للحجم الأقل بحيث يستطيع الطالب أن يأخذ خلفية في كل العلوم، وبالنسبة لأفضل كتاب تفسير على الإطلاق هو جامع البيان في تفسير آيات القرآن للإمام الطبري، والإمام الطبري شيخ في السنة على الإطلاق، وأفضل كتاب في الإسلام كله في تفسير القرآن هو كتاب الإمام ابن جرير الطبري وقد حققه العلامة أحمد شاكر لكن لم يتمه للأسف الشديد، لكن دراسته تحتاج وقتاً طويلاً، ويحتاج إلى بداية مبكرة عن البداية التي يبدأ منها أغلب الإخوة. بالنسبة للمرجع المختار في موضوع التفسير الشامل للقرآن بحيث إذا أنهيته تنتقل إلى مرحلة أعلى منها -فهناك مرحلة أولى من كل علم وبعد ذلك مرحلة أخرى- هو: تفسير الجلالين للجلال السيوطي والجلال المحلي، وهو كتاب جيد وميسر للفهم، ويكفي أنه شرح في مجلدات، وكل كلمة فيه موضوعة بهدف وبدراسة، ليس مسألة عشوائية، فهو تفسير مركز جداً بحيث يصلح أنك تحفظه، تحفظ التفسير وتتقنه. وهناك بعض المؤاخذات على تفسير الجلالين: أولاً: وجود أحاديث ضعيفة فيه. ثانياً: تأويل الآيات والصفات بما يخالف منهج السلف رحمهم الله تعالى. ثالثاً: وجود بعض الإسرائيليات. فاحذر من هذه الثلاث، وقد حاول كثير من العلماء تهذيبه حتى يخلو من هذه المآخذ، ويكون صافياً نقياً، وأنجح محاولة حتى الآن قام بها القاضي محمد كنعان، وهو موجود في مجلد واحد كبير يسمى: قرة العينين على تفسير الجلالين، وهو موجود متوفر، فهذا التفسير شامل لكل القرآن بإيجاز، فهو يجمع أحياناً بين أشهر القراءات فيعطيك فائدة في معرفة القراءات، ويعطيك أحياناً أسباب النزول، وأحياناً يذكر أحاديث في تفسير الآيات، وكذلك توضيح غريب اللغة، والربط بين الآيات بعضها ببعض، وقرة العينين مع تفسير الجلالين هذا أفضل لصغر حجمه وتركيزه، وهناك أيضاً كتاب مدرسي يفيد جداً لو أن مجموعة تأخذ التفسير كدراسة في معهد في مدرسة أو في مجموعات، وهو كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير لفضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري حفظه الله تعالى، في كتاب مدرسي، خاصة إذا كان الإنسان يحفظ فقرة ثم يدرس تفسيرها بمنتهى البساطة. أو تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير؛ لأن تفسير ابن كثير يعتبر تلخيصاً لتفسير ابن جرير الطبري وزاد عليه فوائد كثيرة، فإذا كنت تدرس كتاباً أكبر أو فرغت من مرحلة قرة العينين على تفسير الجلالين، فليكن تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير أو أحد مختصراته، وأفضل مختصر لـ ابن كثير على الإطلاق هو: عمدة التفاسير أو عمدة التفسير للعلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى، فهو أروع اختصار على الإطلاق، وقد حافظ فيه على روح ابن كثير، فالاختصار لم يخل بروح المؤلف الأصلي، وصدر منه للأسف فقط خمسة أجزاء، فيمكن للطالب أن يدرس أولاً هذه الخمسة الأجزاء الأولى للشيخ أحمد شاكر ثم يتم ذلك بمختصر آخر، ولعل أيسرها: تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير، للشيخ محمد نسيب الرفاعي رحمه الله، لكن الشيخ رحمه الله اشترط في مقدمة التفسير أنه اقتصر على الصحيح، ولم يوفق في هذا، فكثير من الأحاديث التي يرمز لها بالصحة أو الحسن تكون ضعيفة! فإما أن تدرس تفسير ابن كثير أو أحد مختصراته كما أشرنا، أو تدرس أيضاً تفسيراً نقياً جداً في الحقيقة هو محاسن التأويل للقاسمي، والحقيقة أنك إذا قرأت في محاسن التأويل تشعر أنك تقرأ في حوالي عشرة أو عشرين مرجعاً، فعنده رحمه الله القدرة على الجمع وامتصاص الرحيق من الأزهار في التفاسير الأخرى ويضمها، وأحياناً يتوسع في بعض البحوث فيخرج بحثاً مفيداً جداً. إذاً يمكن الاقتصار إما على تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير في هذه المرحلة، أو على محاسن التأويل للقاسمي. هذا فيما يتعلق بأهم الكتب التي نرشحها فيما يتعلق بعلوم القرآن، والكتب كثيرة جداً، فلا يعترض أحد بأن بين الكتب الأخرى كتباً بديلة؛ لأن هذا تنبيه على بعض الأنواع، فقد يكون نفس الكتاب وقد يكون ما يقوم مقامه، إذاً هذه أسماء الكتب المرشحة فيما يتعلق بعلوم القرآن، وفيما بعد سيأتي الكلام على موضوع المنهجية والمرحلية. أولاً: التبيان في آداب حملة القرآن، القواعد الذهبية لحفظ القرآن الكريم، دليل الحيران لحفظ القرآن، تنبيه الحفاظ بالآيات المتشابهة في الألفاظ، حفظ تحفة الأطفال، دراسة بغية الكمال، شرح تحفة الأطفال، حفظ الجزرية، دراسة فتح المريد في علم التجويد، لمحات في علوم القرآن لهذا التفسير، أصول التفسير وقواعده، قصيدة السيوطي في الناسخ والمنسوخ وشرحها للشنقيطي، تفسير المشكل من القرآن العظيم لـ مكي القيطي، قرة العينين على تفسير الجلالين للشيخ القاضي محمد كنعان، دراسة روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للصابوني. ولا تزال عندنا بعض التنبيهات فيما يتعلق بهذا الموضوع.

المنهج العلمي [2]

المنهج العلمي [2] كثير هم أولئك الذين يقبلون على طلب العلم أو يتفرغون له، ولكن القليل منهم من يحسن سلوك طرائقه ودخول أبوابه، وذلك بحفظ أهم المتون في أغلب العلوم والفنون، والتدرج في أخذ العلم والتريث فيه، والتلقي عن أهل العلم الذين يحلون له ما أعضل ويوضحون له ما أشكل. فعلى الطالب الصبر والاجتهاد والتدرج، فمن رام العلم جملة ذهب عنه العلم جملة، فإنما يؤخذ العلم على مر الأيام والليالي، كما يحسن بطالب العلم أن يختار الكتب المفيدة في كل فن من الفنون.

فضائل الصيام

فضائل الصيام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه). وفي رواية لـ مسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله سبحانه وتعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) يعني: لا حد لمضاعفته، (يدع شهوته وطعامه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك). قوله عز وجل في هذا الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم) له يعني له أجر محدود ومعين، الحسنة بعشرة أمثالها، أو تضاعف إلى سبعمائة ضعف (إلا الصوم) يعني: أجره غير محدود (فإنه لي وأنا أجزي به) فأجره بدون حساب، والذي يؤيد ذلك الرواية التي في صحيح مسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم) فيدل على أن المستثنى هنا هو هذه المضاعفة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والصيام جنة) الجنة من الوقاية يقي الإنسان عذاب الله تبارك وتعالى، (والصيام جنة) أي: يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، أو يقي صاحبه عذاب النار، (فإن كان أو فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث) الرفث: النطق بالكلام الفاحش، (ولا يسخط، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم) يحتمل أنه يقوله بلسانه حتى يذكر هذا الشخص الذي يؤذيه بحرمة هذا الشهر فيزدجر ويراعي حرمته، وإلا فيحدث بها نفسه حتى يمنعه ذلك من مشاتمته، يعني: يقول بينه وبين نفسه: إني صائم إني صائم، حتى يزجر نفسه عن أن يقابله بالمثل، أو يرفع بها صوته حتى ينزجر الشخص الآخر ويتذكر حرمة الصيام: (والذي نفس محمد بيدي لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) هذه الرائحة المتغيرة التي تخرج من المعدة وتكون في فم الصائم، هذه عند الله تبارك وتعالى أطيب من ريح المسك. (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره) وهذا فرح فطري، فرح طبيعي أن الإنسان إذا جاع أو عطش فوجد الطعام والشراب فإنه يفرح بذلك فرحاً فطرياً، (وإذا لقي ربه فرح بصومه) يعني: إذا عاين ثواب هذا الصيام. وفي حديث الحارث الأشعري مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وآمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة مسك كلهم يحبُّ أن يجد ريحها، وإن الصيام أطيب عند الله من ريح المسك). وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)، وفي رواية: (ومن دخله لم يظمأ أبداً). وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة يستجن بها العبد من النار). وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا هاتف فوقهم يهتف -سمعوا الصوت ولم يروا شخصاً-: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه. فقال أبو موسى رضي الله عنه: أخبرنا إن كنت مخبراً. قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف يوم حر سقاه الله يوم العطش)، والجزاء من جنس العمل، وهذا حديث حسن. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أسندت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري فقال: (من قال: لا إلا الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! مرني بعمل؟ قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له. قلت: يا رسول الله! مرني بعمل؟ قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له)، وفي رواية: (فإنه لا مثل له). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً). هذا فيما يتعلق بفضل الصيام عموماً.

فضائل شهر رمضان

فضائل شهر رمضان أما الترغيب في صيام رمضان خصوصاً إيماناً واحتساباً، وقيام ليله وقيام ليلة القدر، فقد جاء في فضل ذلك أحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: من قام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) يعني: من قام كل رمضان رغبة في الثواب من عند الله تبارك وتعالى لا مستثقلاً ولا متضجراً. وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر). وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احضروا المنبر فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال عليه الصلاة والسلام: إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له - دعا عليه بالإبعاد - قلت: آمين) (بَعُدَ) يعني: بعداً وشقاءً لمن أدرك رمضان ووافته هذه الفرصة ثم مر رمضان ولم يغفر له، يعني: أنه لم ينتهز هذه الفرصة الثمينة ولم يغتنمها حتى مر رمضان ولم يغفر له، أي: أن هذا الإنسان مفرط غاية التفريط إذ فاته رمضان دون أن يغفر له، ورمضان فرصة ذهبية ليبدأ الإنسان فيها صفحة جديدة من التوبة والاستقامة، فهي فرصة لكل الناس وسوق مفتوح لكل من يريد أن يربح؛ فلذلك دعا النبي عليه الصلاة والسلام بالإبعاد والمهلكة في حق من أدرك رمضان ولم يغفر له، قال: (فلما رقيت الثانية قال -بعد يعني جبريل-: بعد من ذكرتَ عنده فلم يصل عليك -صلى الله عليه وسلم- فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين). وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)، ففي كل ليلة هناك طائفة من المسلمين يعتقها الله تبارك وتعالى من النار، ويحكم عليها بالنجاة والبراءة من النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين منهم. فالمنادي ينادي ونحن لم نسمعه، ولكن الصادق المصدوق أخبرنا أنه يقول: (يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر) فكل من نوى شراً في رمضان فعليه أن يقصر وأن يتوقف عن هذا الشر ويحترم ويراعي حرمة هذا الشهر، حتى لا يعكس ما وظف له هذا الشهر، فهذا الشهر شهر الانقطاع عن الشهوات وليس شهر الشهوات والطعام! هذا شهر حبس النفس عن الغضب والانفعال وليس شهر الضجر وسوء الخلق مع الناس، ثم إذا أصبت بذلك تقول: اعذروني فإني صائم! هذا شهر الجهاد والعمل، وليس شهر التكاسل والخمول وهكذا، فالكثير من الناس عكسوا رمضان الذي هو موسم الطاعات والعبادات إلى موسم للهو واللعب والمعاصي. وكان صلى الله عليه وسلم قد قال للصحابة رضي الله عنهم عشية أول ليلة من رمضان: (أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم). وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لله عند كل فطر عتقاء). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة - يعني في رمضان - وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة) لكل مسلم في كل يوم وليلة من رمضان دعوة مستجابة، وهذا صحيح.

الوعيد في حق من ترك صيام رمضان

الوعيد في حق من ترك صيام رمضان أما الوعيد في حق من يضيع صيام رمضان فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) أي: يتعجلون الإفطار قبل أذان المغرب قبل أن تغرب الشمس، كأنهم يصومون كل اليوم ثم يتعجلون في الإفطار قبل دخول وقت المغرب، فكيف يكون حال من لا يصوم أبداً، لا قبل تحلة الإفطار ولا غير ذلك، فلا شك أن هذا من أقبح الكبائر التي لا تليق بمن ينتسب إلى هذا الدين؛ ولذلك كما ذكر العلماء: أن من أفطر عامداً كان تفويته لهذا الصيام من كبائر الذنوب، من يفطر في رمضان متعمداً، وعند بعض العلماء أن من ترك صوم رمضان بلا عذر فهو أشر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه وينسبونه إلى الزندقة والانحلال. هذه بعض الأحاديث الثابتة في فضيلة الصيام عموماً، وفي فضيلة صيام شهر رمضان خصوصاً. فهذه فرصة لكل إنسان مهما بلغ من المعاصي أو التفريط في حق الله تبارك وتعالى، يمكن أن تكون هذه بداية جديدة في السير إلى الله عز وجل، مهما كان ما مضى من المعاصي أو من التفريط في جنب الله، فالمحسن فيما مضى عليه أن يزداد إحساناً، والمسيء عليه أن ينزجر ويغتنم هذه الفرصة العظيمة.

إثبات دخول شهر رمضان

إثبات دخول شهر رمضان نضطر في بداية كل رمضان تقريباً منذ عدة سنوات إلى التنبيه على هذا الموضوع المتعلق بالرؤية، والأحاديث في تعليق ثبوت دخول شهر رمضان على الرؤية البصرية معلومة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، والمقصود: الرؤية البصرية، والعلة الشرعية للأحكام لا تعلم إلا من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام، فالعلة الشرعية هي: الرؤية البصرية وليست الرؤية العلمية، أو كما يقول المبتدعة: الحساب الفلكي، فالعبرة -كما أشرنا إلى هذا من قبل بالتفصيل- بالرؤية البصرية. والعلماء اختلفوا: هل لكل جهة من جهات البلاد الإسلامية المتباعدة مطلع خاص بالنسبة لرؤية الهلال؟ القائلون بتعدد المطالع لهم أدلة، والقائلون بتوحيدها لهم أدلة، والقضية ليست بهذه الخطورة، لكن كلا الفريقين متفقون على أن المعتمد هو الرؤية البصرية، حتى وإن قالوا بتعدد المطالع.

لا ينبغي الاختلاف في ثبوت دخول رمضان

لا ينبغي الاختلاف في ثبوت دخول رمضان وقد نبتت طائفة ممن شذوا عن إجماع السلف الصالح رضي الله عنهم وبدءوا ينشرون هذه الفتنة بين وقت وآخر، وهي: الكلام في موضوع الحساب الفلكي والاعتماد عليه، وتقديمه على الرؤية البصرية إلى آخر هذا الكلام الذي يتكرر بصورة موسمية كلما آن هذا الأوان، لكن الذي ينبغي أن نلفت النظر إليه هو أن جميع علمائنا بلا استثناء متفقون على عدم مخالفة المفتي على الأقل في الظاهر، فكل علمائنا يفتون بهذا؛ لأن المخالفة في الظاهر تؤدي إلى فتنة عظيمة جداً بين الناس وإلى بلبلة، والناس في الحقيقة غير محتملين لمزيد من البلاء، يكفيهم التشنيع والحملات الصحفية والإعلامية على الدعوة الإسلامية، وعلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى الملتزمين بدينهم، فلا نريد مزيداً من التشنيع، فعلماؤنا ينصحون بأن الإنسان في مثل هذا الوقت لا يخالف على الأقل في الظاهر، ينقسمون فرغم أن المفتي يقيم فتواه على الحساب الفلكي بصفة أساسية إلا أن كثيراً من أهل العلم يرون متابعته حتى لو كان الأمر على هذا النحو، وهذا قول كثير من العلماء المعاصرين أن يتابع حتى وإن كان مخطئاً في ذلك، بناءً على أن الشهر هو ما اشتهر وعرف بين الناس أنه هو الشهر، ويعتمدون أيضاً على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي في الترمذي: (الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فلابد أن ندرك هذه القاعدة: أن موضوع عدم الجهر بمخالفة المفتي هذا موضع اتفاق بين جميع العلماء، لا يوجد أحد من العلماء أبداً يقول لك: اخرج للناس في الطريق وإذا كانوا صائمين تظهر الإفطار أو العكس، أو تقيم صلاة عيد والأمة بجملتها لا تصلي العيد في هذا اليوم، فينبغي أنه لا يوافق أحد من العلماء على أن يجهر بالمخالفة، غاية ما في الأمر أن من لا يوافق العلماء، أو لا يأخذ بقول العلماء الذين يقولون بموافقة المفتي، أن يكون قلبه غير مطمئن، فهو يرى شرعاً أنه قد هلّ هلال رمضان، وصام هذا اليوم من رمضان وقلبه لا يطيق، إذاً يكون هذا مسلكاً شخصياً في السر لا يجهر بالمخالفة ولا يدعو أحداً إلى ذلك، فله أن يقوم الليل مثلاً لأن هذا في اعتقاده أول ليلة من رمضان، يقوم الليل مع أهله في بيته ولا يجهر بالمخالفة، كذلك في نهاية رمضان، حتى نفوت على أعداء المسلمين وأعداء الأمة هذا الغرض الخبيث، وهو المزيد من التمزيق لنفوسنا، وإحلال الحزن والهم والغم محل الفرحة التي اعتدنا عليها منذ شرف الله بلادنا بالإسلام، فأنت تشعر بطعم العبودية وطعم التعبد وأنت تجلس وتنتظر هل غداً سيحرم علينا الطعام والشراب أم لا؟ ماذا سيحكم الله عز وجل علينا في الطعام والشراب الذي هو حلال لنا في نهار اليوم ثم غداً يكون حراماً بحكم الله عز وجل؟ فكان هناك طعم للعبودية ولترقب رؤية الهلال! فنجزم جزماً على الإخوة ألا يجهر أحد ولا يدعو غيره، لكن يكون الأمر محدوداً جداً، ولا تظهر المخالفة بأي صورة لعموم المسلمين، فهذا فيما يتعلق بهذا الأمر، أنه من سيوافق المفتي في فتواه وفي منهجه لا تنكر عليه، فإذا كنت غير مطمئن لهذه الفتوى، ويعظم في قلبك أن هذا ثبت بصورة شرعية في أحد البلاد الإسلامية، بالذات التي فيها قضاء شرعي وفيها علماء ثقات وتعظيم لهذا الأمر ومراعاة لحدود الشرع فيه، فإن أخذت بذلك فلا تدع إلى المخالفة، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الفتن، ويوفق جميع المسلمين في هذا الأمر.

العلوم الشرعية التي ينبغي أن يلم بها طالب العلم

العلوم الشرعية التي ينبغي أن يلم بها طالب العلم كنا شرعنا في موضوع المنهج العلمي بالنسبة لقراءة الكتب المختارة أو المرشحة في بعض العلوم، ولابد من إتمام الوفاء بالوعد؛ لأن بعض الإخوة لاحظوا أننا معتدلون جداً في هذه المحاضرة من حيث الكلام وعدم التفصيل، وبعض الإخوة اقترح أن يكون ذلك بعد رمضان، لكن مبادرة بالأعمال ووفاء بالوعد فإننا نتم ما بدأناه، ونرجو أن تكون هناك فرصة أخرى لمزيد من التفصيل في هذا الأمر. ونحن نتكلم على العلوم الشرعية التي ينبغي أن يلم بها الإنسان أو الداعية أو طالب العلم، من مثل التفسير وعلوم القرآن، الحديث والسنة، التوحيد والفرق، أصول الفقه، البدع، السيرة، التاريخ والتراجم، الرقائق والأخلاق والآداب الشرعية، اللغة العربية، الفكر والدعوة، هذه عموماً المجالات أو الفروع التي ينبغي الاطلاع عليها بصورة أو بأخرى، وقد تكلمنا عن التفسير وعلوم القرآن وسوف نتكلم الآن إن شاء الله عن الحديث.

المنهجية في دراسة علم الحديث

المنهجية في دراسة علم الحديث بالنسبة للحديث هناك قاعدة عامة للطالب عند اختيار الكتب أن يراعي ويتحرى الكتب المحققة والطبعات المحققة، خاصة إذا كان من قام على تحقيقها من أهل العلم المشهود لهم، والذين اشتهروا بالتدقيق في تحقيقهم وبذل أقصى وسعهم.

عدم الاشتغال بالحديث قبل حفظ القرآن

عدم الاشتغال بالحديث قبل حفظ القرآن أيضاً: مازال العلماء ينصحون الإنسان أن لا يشتغل بالحديث قبل أن يحفظ القرآن ويولي القرآن اهتماماً، فكان العلماء إذا أتاهم طالب يطلب سماع الحديث سألوه: هل حفظت القرآن؟ فإن قال: لا، أبوا أن يقرءوا عليه أو يسمعوه الأحاديث حتى يفرغ من قراءة القرآن وحفظ القرآن، فإذا جاءهم حافظ للقرآن اختبروه فيه، وحينئذ يبدءون في تسميعه، لكن اليوم في الحقيقة هناك آفة منتشرة جداً: أن بعض الناس يهجرون القرآن تماماً ويركزون فقط على علم الحديث، وليس على كل فروع علم الحديث، إنما في أبواب معينة أو علوم معينة من علوم الحديث، فيركزون عليها ويهملون سائر العلوم بما في ذلك التوحيد أو الفقه أو غير ذلك، وللأسف الشديد ظهر هذا كشعار لمن ينتسبون إلى الدعوة السلفية في كثير من بقاع الأرض، ظنوا أن السلفية هي هذا النموذج! أن يشتغل الطالب ليل نهار في علم الرجال وعلم الحديث ويهجر القرآن تماماً، ويهجر العلوم الشرعية الأخرى بما في ذلك الفقه وغيره من العلوم، حتى وصل الأمر ببعض الناس ممن ينتسبون إلى السلفية أن أنكروا علم أصول الفقه تماماً! والبعض يقول: التجويد هذا ليس له أي أصل، وما نعترف بعلم التجويد وهكذا!! وهذا من الخطأ في فهم هذه المسألة، فالسلف رحمهم الله تعالى كانوا يراعون هذا الأمر، وكانوا يرفضون قراءة الأحاديث على من لم يفرغ من حفظ القرآن الكريم.

عدم الاشتغال بفروع تخصصية في علم الحديث مع إهمال ما هو أهم منها

عدم الاشتغال بفروع تخصصية في علم الحديث مع إهمال ما هو أهم منها وكذلك هناك اشتغال بعض الإخوة أحياناً بفروع تخصصية في علم الحديث، وهذه الفروع قد خدمها من هم أعلم منهم وأقدر على خدمتها، لكن ينبغي الاشتغال بالسنة؛ ولهذا نجد الآن بعض الإخوة قد وصل إلى سن الأربعين أو الثلاثين مثلاً وبدأ الآن يحفظ الكتب بأسانيدها، هذا شيء طيب بلا شك، لكن إذا تقدم بك العمر وأنت ما زلت بعد بادئاً مبتدئاً في طلب العلم فلا تضمن امتداد العمر يكون إلى متى، فإذا أنفقت عمرك في حفظ الأسانيد الآن فمتى تنتهي؟ وما جدواها؟! والآن في الغالب يكون بعضهم مسئولاً عن نشاط دعوي معين يُسأل في العلم الشرعي، وهو في سلوكه وفي حياته يحتاج إلى معرفة حكم الشرع في مسائل كثيرة، فإن لم يكن عنده علم ووسائل لطلب العلم في هذه الفروع فإنه سيتكلم بدون علم، فالشاهد: أن هناك فروعاً في علوم الحديث قد كفينا شأنها، ليس المطلوب أن يكون جميع الإخوة طلاب العلم محققين للأحاديث، فالعلماء المحققون متواترون، ولا بأس من التدرب على تصحيح الأحاديث: أن يأخذ حديثاً من الأحاديث وتدرس أسانيده، وتنظر في كتب الرجال والتراجم، وتحاول أن تطبق ما تقرؤه على سبيل التدريب والتجربة، أما أن تستقل بتصحيح وتضعيف الأحاديث وأنت مازلت تخطو الخطوات الأولى في علم الحديث، فهذا ما لا يكون أبداً، وعلى أي الأحوال فإن هذا حديث المتون، ولكن الشاهد أنا قد كفينا ولله الحمد، سواء من علمائنا السابقين، أو العلماء المعاصرين الذين محضوا حياتهم لخدمة الأحاديث وتحقيقها.

التقليد في تصحيح وتضعيف الأحاديث ليس مذموما

التقليد في تصحيح وتضعيف الأحاديث ليس مذموماً فطالب العلم وخصوصاً من يبدأ متأخراً ربما يكون أقصى ما يحتاجه الآن في الواقع العملي أن يعرف الحديث هل هو حسن أم صحيح أم ضعيف، وهذا يسهل جداً الرجوع إليه من خلال كتب العلماء في ذلك، فالذي يبدأ بهذه الصورة لا يصلح لأن يكون مستقلاً في الحكم على الأحاديث، فعليه أن يقلد، كما قال الحافظ العراقي رحمه الله في شأن علم الحديث: ولا تأخذ بالظن، ولا تقلد غير أهل الفن، أي: فن الحديث، فهذا ليس من التقليد المذموم الذي أشرنا إلى ذمه في مسألة الفقه ومخالفة الدليل، لكن هذا من باب قبول خبر العدل؛ لأن الجهبذ مثل الحافظ ابن حجر أمير المؤمنين في الحديث رحمه الله تعالى، حينما يقول في الحديث مثلاً: إنه حسن أو صحيح، فهذا ليس مجرد كلمة تقال، بل هذه خلاصة بحث طويل، وربما سهروا الليالي والشهور وبذلوا جهداً جهيداً في دراسة الأسانيد، وتتبع طرق الحديث، والنظر في السند والنظر في المتن وغير ذلك، حتى توصل في النهاية إلى كلمة (حسن) فهي تساوي أن يخبرك هذا الحافظ أو هذا الإمام: بأني قد تتبعت طرق هذا الحديث وتتبعت رجال الأسانيد، وبحثت عن شروط الصحة والحسن، وانتهيت إلى أنه حديث حسن، فهي كلمة لا تقال جزافاً، وإنما هي ثمرة بحث طويل من ورائها، فهذا من باب قبول خبر العدل، عدل يخبرك بخبر فأنت تصدقه، وليس من باب التقليد المذموم المعروف. فهناك -كما ذكرنا- من العلماء من قدم السنة وسهلها وقربها من هذه الأمة، وما من شك أنه لا يستطيع أي إنسان أن ينكر أو يجحد فضل محدث الديار الشامية العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى، فعامة طلاب العلم في هذا العصر، بل ومن الخواص أيضاً من هم على كتبه وخدمته العظيمة والجليلة التي أداها إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا شك أنه جدير بأن يلقب بالفعل بمحدث العصر، بشهادة أئمة العلم وأئمة الهدى في مشارق الأرض ومغاربها، فمصنفات الألباني ما يكاد يستغني عنها أحد، حتى الذين يغيبون الألباني يستدلون من كتبه وإن جحدوا في الظاهر، فقل أن يستغني إنسان عن مؤلفات العلامة الألباني حفظه الله تعالى.

الكتب المختارة في الحديث وعلومه

الكتب المختارة في الحديث وعلومه هناك مجموعة من الكتب في علم الحديث مرشحة إن شاء الله: أولاً: رياض الصالحين، وهو كتاب مبارك، وتظهر في مؤلفات الإمام النووي رحمه الله تعالى علامات إخلاص هذا الرجل، فقد وضع لكتبه نوع من القبول ليس له تفسير إلا أن هذا الرجل كان يبتغي بها وجه الله عز وجل، رحمه الله تعالى ورضي عنه، فتتعامل مع كتبه كأنك تتعامل مع كائن حي لا تتعامل مع ورق وحبر، تشعر بروح ونفس لهذا العلامة الجليل في كتبه، وبالذات في هذا الكتاب المبارك الذي وضع له القبول في الأرض وفي كل الأعصار بصورة لا تكاد تتوفر في كتاب آخر مما ألفه العلماء، فرياض الصالحين كتاب أساسي جداً، وينبغي أن يعطى اهتماماً خاصاً، وهناك بعض المساجد في بعض البلاد يومياً بعد العصر لابد أن يقرأ باب في رياض الصالحين، فهذه سنة حسنة ينبغي المحافظة عليها وإحياؤها وتجديدها في الناس، أن يقرأ من رياض الصالحين حتى ولو ثلاثة أحاديث في اليوم تتلى على الناس، ثم شرح مبسط جداً لها يتعلق بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهديه، فرياض الصالحين يتربع في قلة كتب السنة الجامعة التي ينبغي الاهتمام بها. ومنها أيضاً: كتاب الترغيب والترهيب للحافظ ابن رجب، وقد حقق العلامة الألباني قسماً كبيراً منه في كتابه: صحيح الترغيب والترهيب. ومنها: جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، وهو عبارة عن الأربعين النووية، ثم أضاف إليها الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى عشرة أحاديث أيضاً، ثم شرحها في هذا الكتاب: جامع العلوم والحِكم، بكسر الحاء لا بضمها؛ لأن بعض الإخوة كانوا معتقلين، وكان أقاربهم يفتشون إذا أحضروا لهم كتباً، فأحد العباقرة قرأها: الحُكم! فمنعوا الكتاب وصادروه، قال: هذا يتكلم عن الحكم!! ومثله أيضاً أن عبقرياً آخر منع الأربعين النووية، قال: هذا يتكلم عن القنابل النووية!! ومنها أيضاً: كتاب مبارك قيم جداً للعلامة الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى هو: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. وفي هذه المرحلة لابد من حفظ الأربعين النووية، هذا أقل ما ينبغي، ومن القبيح جداً أن الإنسان لا يكون قد حفظ الأربعين النووية، وإذا أضاف إليها العشر الرجبية فتكون خمسين، وهي أحاديث أمهات الإسلام، وبعد حفظ الأربعين النووية، إن وجدت همة واستطعت أن تحفظ رياض الصالحين بعدما تكون حفظت العشر الرجبية فهذا أمر عظيم جداً. ومنها أيضاً: مختصر الشمائل للإمام الترمذي رحمه الله تعالى، وهو يتكلم باختصار عن شمائل الرسول عليه الصلاة والسلام وخصائصه صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله وأحواله، وقد حققه العلامة الألباني بهذا الاسم: مختصر الشمائل للترمذي، فهذه كتب عامة في السنة لابد من الإلمام بها: رياض الصالحين، الترغيب والترهيب، جامع العلوم والحكم، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، مختصر الشمائل للترمذي.

الكتب المختارة في حجية السنة والدفاع عنها

الكتب المختارة في حجية السنة والدفاع عنها وهناك موضوع آخر، أو نوع من القضايا الأخرى في السنة: وهي كتب تتكلم عن حجية السنة والدفاع عنها، وهذا مما نحتاجه في هذا العصر الذي انطلقت فيه كثير من الدعاوى المعادية لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كانت صدى لبدعة ظهرت في قرون سابقة، أو لبدع حديثة ناشئة، فهذا الموضوع من الموضوعات المهمة جداً: حجية السنة والرد على أعدائها والدفاع عنها، وفي هذا كتب كثيرة لكن نرشح كتابين أساسيين في هذا الموضوع: الكتاب الأول: زوابع في وجه السنة قديماً وحديثاً، للشيخ صلاح الدين مقبول من علماء باكستان، والكتاب طبع هناك لكن ما أظن أنه متوفر هنا، ولكن إن وجد فيكون فيه خير كثير إن شاء الله، وهذه الكتب التي يصعب توفرها لعلنا نجتهد في تدريسها إن شاء الله فيما بعد، والذي يهمنا كثيراً جداً في هذا البحث هو كلمة (حديثاً)؛ لأنه تطرق بجهد جيد جداً للدعاوى الحديثة ضد السنة، وذكر من هؤلاء الناس الذين كان لهم شيء من التخبط في بعض المواقف من السنة الغزالي، وهذا الكتاب قد كتبه قبل أن يطبع كتاب الغزالي المشئوم الأبتر الذي هو: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، وهو يأخذ على الغزالي مآخذ ويراه في مصاف الذين انحرفوا عن السنة، وهاجموا أحاديث صحيحة قبل أن يطبع، فما بالك لو كان قد طبع. أيضاً انتقد بعض مواقف المودودي رحمه الله تعالى في بعض القضايا في السنة وغير ذلك، فهو استقرأ وتتبع كثيراً من مواقف بعض المشاهير غير الحميدة فيما يتعلق ببعض القضايا المتعلقة بالسنة والحديث. الكتاب الثاني: السنة ومكانتها في التشريع، للشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى، فهذان هما الكتابان المرشحان في هذا، وهناك كتب أخرى جيدة لا بأس إن توفر منها شيء بديل فهو يغني، مثلاً: حجية السنة، للشيخ عبد الغني عبد الخالق رحمه الله تعالى فهو كتاب قيم جداً، وكتاب دفاع عن السنة، للدكتور محمد أبو شهبة رحمه الله، وهناك كتاب السنة قبل التدوين لـ محمد عجاج الخطيب. وهناك رسالة مختصرة ولطيفة الحجم ولكنها تحوي علماً غزيراً في هذه القضية بالذات، وهي: الأضواء السنية للدكتور عمر الأشقر، وقد سبق أن نوهنا أن فضيلة الدكتور عمر الأشقر إذا وجدت اسمه على كتاب فلا تنظر في عنوان الكتاب، إنما خذ الكتاب ما زال اسمه عليه، وإلا تكون قد خسرت خيراً عظيماً، فهو من المؤلفين الذين يجيدون في الكتابات، ولعل القبول الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لكتبه ناشئ عن الإخلاص إن شاء الله، كما ترون في المجموعة المباركة: مجموعة العقيدة في ضوء الكتاب والسنة، وكتابه المبارك: "مقاصد المكلفين" هو من أروع الكتب في مسألة النيات، وسنتكلم عنه إن شاء الله تعالى. وهناك رسالة للشيخ ناصر الألباني لطيفة الحجم تدعى: الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام، فيما يتعلق بقضية خبر الواحد، وهناك أيضاً رسالة جيدة للشيخ سليم الهلالي تدعى: الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد. وأخيراً فيما يتعلق بمشكلات الأحاديث: الأحاديث التي أشكل معناها على كثير من الناس كيف يتم التأليف بينها ودفع التعارض عنها؟ هناك كتاب جمعه الشيخ زكريا علي يوسف رحمه الله من علماء أنصار السنة يدعى: دفاع عن الحديث النبوي ومشكلات الأحاديث، وهذا الكتاب شطر منه في حجية السنة والدفاع عنها، والشطر الآخر في دفع التعارض عن الأحاديث المشكلة، إذاً حجية السنة والدفاع عنها أيسر من هذه الكتب الأساسية، وبالذات لو أمكن كتاب: زوابع في وجه السنة قديماً وحديثاً، والسنة ومكانتها في التشريع، فنحن نحتاج بعد هذه الزوبعة التي أثارها الغزالي في كتابه: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث إلى التنبيه لبعض الكتب التي ردت عليه؛ لأن لصوته صدىً عالياً، وأحياناً تنتشر الضلالة فنحتاج للرد عليه، وأشهر كتاب معروف في الرد عليه هو كتاب: حوار هادئ مع الشيخ محمد الغزالي للشيخ سلمان العودة، أو كتاب: "جناية الغزالي على السنة وأهلها" للأخ أشرف عبد المقصود وهو جيد ولا بأس به، أو كتاب: المعيار لعلم الغزالي، لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، أو كتاب: أزمة الحوار الديني، وهذا من أفضل الردود للشيخ جمال سلطان، وإلا فهناك عشرات الكتب ألفت في الرد على الغزالي، لكن أوجزها من حيث التركيز والقوة مع صغر حجمها هما هذان الكتابان: المعيار لعلم الغزالي، وأزمة الحوار الديني، لـ جمال سلطان.

الكتب المختارة في علم مصطلح الحديث

الكتب المختارة في علم مصطلح الحديث بالنسبة للمصطلح: فإنه يحفظ فيه أي متن في مصطلح الحديث، مثلاً: نزهة النظر في مصطلح أهل الأثر" للحافظ ابن حجر العسقلاني، أو " القصيدة البيقونية" أو قصيدة "غرامي صحيح" هي قصيدة في ظاهرها أنها قصيدة غزلية، ولكنها استوعبت أحكام الحديث، أو يحفظ "متن التقريب" للنووي، وفي الحقيقة فإن عامة الكتب التي تناولت علم المصطلح إنما هي فرع على كتاب ابن الصلاح في مصطلح الحديث، فإما اختصروه وإما هذبوه وإما شرحوه، فعامة الكتب الموجودة في المصطلح سواء هذه الكتب التي ذكرناها أو غيرها يدور حول كتاب الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى. وهناك ألفية السيوطي، وألفية العراقي، من وجد همة فالباب مفتوح، ولكن هذه من أخصر المتون، لو حفظت البيقونية ودرست شرحها فهذا جيد، أو نزهة النظر، أو غرامي صحيح، أو التقريب للنووي، وعلى حسب الكتاب الذي ستدرسه، فإن كنت مثلاً ستدرس "تدريب الراوي" للسيوطي فتحفظ معه متن التقريب للنووي، كذلك أيضاً كتاب الباعث الحثيث وهو شرح "مختصر علوم الحديث" للحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى كذلك قواعد التحديث للقاسمي، وتوضيح الأفكار للصنعاني، هذه كلها كتب في المصطلحات، إن كان ولابد من كتاب واحد مختصر على الطريقة المدرسية المبسطة والمجدولة، فليأخذ كتاب تيسير مصطلح الحديث للشيخ الطحان، لكن الكتاب الذي يرشح هنا أن يحفظ متن تقريب النووي ويدرس شرحه تدريب الراوي فهذا يكفي، أو نزهة النظر أو الباعث الحثيث -كما ذكرنا- أو قواعد التحديث للقاسمي أو توضيح الأفكار. ويمكن أن تقرأ رسالة موفقة جداً في الناسخ والمنسوخ وهي: إخبار أهل الرسوخ بالناسخ والمنسوخ للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى.

الكتب المختارة في علم التخريج ودراسة الأسانيد

الكتب المختارة في علم التخريج ودراسة الأسانيد وهناك فرع آخر من علوم الحديث هو علم التخريج ودراسة الأسانيد، فأول كتاب ألف هو كتاب للدكتور الطحان أيضاً اسمه: أصول التخريج ودراسة الأسانيد للشيخ محمود الطحان، وهو شقيق الشيخ عبد الرحيم الطحان وهناك كتاب آخر اسمه "طرق تخريج أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الكتاب المختار والمرشح في هذا الفن هو كتاب قيم ومفيد جداً، وهو أوسع كتب التخريج كتاب يدعى: كشف اللثام عن تخريج أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقع في مجلدين.

أحاديث الأحكام

أحاديث الأحكام فرع آخر من فروع علم الحديث: أحاديث الأحكام، كما أن في القرآن آيات الأحكام فهناك كتب متخصصة ألفت في آيات الأحكام، كذلك في السنة هناك أحاديث الأحكام، وهي التي يمكن أن نعبر عنها بفقه الحديث أو فقه السنة؛ لأن البعض يقرأ ويحصل عندهم خلط، فبعض الإخوة إذا قلت له: ماذا تدرس في الفقه؟ يقول لك مثلاً: أدرس سبل السلام أو غيره من كتب أحاديث الأحكام، وأحسن منها دلالة فقه السنة، لكن الذي يحصل في أحاديث الأحكام هو أن الأئمة العلماء يجمعون أمهات الأدلة في المسائل الفقهية المشهورة في طريقة أبواب، ثم يشرحها عالم آخر أو هو نفسه، فهذا الفقه مقيد بفقه السنة مثل آيات الأحكام، فأنت إذا درست آيات الأحكام لا تكون قد ألممت بالفقه كله، وإنما ألممت فقط بالآيات التي تتعلق بالأحكام، كذلك أحاديث الأحكام هناك فرق بين دراسة الفقه، وبين دراسة فقه الحديث أو فقه السنة أو أحاديث الأحكام، فهذا خاص، أما الفقه ككل فهو لا يحتوي فقط على الأحكام من القرآن والأحكام من السنة، إنما يحتوي أيضاً جملة أخرى من الأدلة، سواء كانت أدلة متفق عليها أو أدلة مختلف فيها، هناك قياس، هناك الإجماع، هناك قول الصحابي، سد الذرائع، المصالح المرسلة، شرع من قبلنا وغير ذلك من الأدلة حسب الاختلاف في المذاهب في بعض هذه الأدلة من القرآن أو المذكورة أخيراً. إذاً: الفقه أوسع وأعم من فقه الحديث، أو فقه القرآن، أو آيات الأحكام، أو أحاديث الأحكام، ومن القصور: أن يقتصر في دراسة الفقه فقط على القضايا التي وردت فيها أدلة من القرآن أو أدلة من السنة ولا شك أن هذه أمهات المسائل، والأصول هي: القرآن والسنة، لكن علم الفقه يشمل أوسع من ذلك، يشمل اجتهادات الفقهاء، وحكايات الخلاف والتفريق إلخ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الهوية الإسلامية [1]

الهوية الإسلامية [1] لا عز للمسلمين ولا كرامة إلا بالمحافظة على الهوية الإسلامية المبنية على العقيدة الصحيحة؛ فالمؤمن عزه في عقيدته؛ فعقيدته هي كل شيء بالنسبة له، فهي وطنه وهي أهله ونسبه، سلفه في ذلك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.

حقيقة الهوية

حقيقة الهوية الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرف. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر؛ لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله! ما التفت إلي واحد منهما؛ مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، والله! قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ فأجاب: عداوته والله! ما بقي). كان حيي بن أخطب وأبو ياسر كلاهما من كبار علماء وزعماء اليهود في المدينة، وحينما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ذهبا إليه مغلسين، والغلس هو: الوقت الذي بعد الفجر مباشرة حين يختلط الضوء بظلمة الليل، فذهبا في هذا الوقت المبكر، ومكثا يراقبان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينى في غاية الإرهاق، قالت صفية رضي الله عنها: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله! ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ يعني: أهو النبي المبشر به في التوراة والموصوف في التوراة بالصفات والخصائص المعروفة؟ قال: نعم، والله! يعني: إنه لهو النبي الذي بشرت به التوراة، قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ أي: ماذا عن موقفك؟ قال: عداوته -والله- ما بقيت! وهكذا هم اليهود. والشاهد في هذا الحديث هو: كلمة (أهو هو؟) وإن كان علاقته بموضوعنا ليست علاقة مباشرة، لكن نحن نتخذه منطلقاً. فقوله: أهو هو؟ إشارة إلى هوية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الموصوف في التوراة. وحديثنا هو عن الهوُية، والهوُية هي: حقيقة الشيء أو حقيقة الشخص التي تميزه عن غيره؛ فهي ماهيته وما يوصف وما يعرف به، كما دل عليه هذا الحديث، فالهوية هي المفهوم الذي يكون عليه الفرد من فكره وسلوكه اللذين يصدران عنه، من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي، وبهذه الهوية يتميز الفرد، ويكون له طابعه الخاص. وهي -بعبارة أخرى-: تعريف الإنسان نفسه بفكر وثقافة وأسلوب حياة. والإنسان يحمل ما نسميها ببطاقة الهوية أو البطاقة الشخصية التي فيها: اسم هذا الشخص، وأنه -مثلاً- مسلم، يعمل كذا، وسنه كذا، ومولود في كذا، ويعيش في بلدة كذا، وهكذا، وإن كانت البطاقة الشخصية تحتوي فقط على بعض البيانات المحددة، أما مجال الهوية فمجالها أوسع؛ فهي تعبر عن كل قيم الإنسان، وكل ما فيه من صفات عقلية وجسمية وخلقية ونفسية. فمثلاً: حينما يقول الإنسان: أنا مسلم. فهذا انتماء لدائرة كبيرة جداً من دوائر الهوية ديانتها الإسلام، فإذا قال: أنا مسلم تعرف أنه مسلم، وإذا زاد وقال: أنا منهجي الإسلام الذي أحيا به فقد وضح أكثر، فإذا زاد أكثر حدد الدائرة بصورة أدق وأوضح، فإذا قال: أنا مؤمن ملتزم بالإسلام تميز أكثر عمن ينتسب إليه بالاسم، وإذا زاد وأوضح فقال: أنا مسلم سلفي عرفنا بمجرد كلمة (سلفي) أنه ليس خارجياً ولا معتزلياً ولا مبتدعاً، وأنه يعتقد في القضية الفلانية كذا وفي القضية الفلانية كذا، وأن هذه الصفة عبارة عن لافتة تعنون لجملة من الصفات الثابتة التي لا تتغير فيما بين الذين ينتمون إلى هذه الهوية. فالفرد كما أن له هوية كذلك المجتمع والأمة لها هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها، وإلا تشابهت الأمم كما يتشابه السمك في الماء. وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كلما تعمق إحساسه بالانتماء لهذا المجتمع واعتزازه به، أما إذا تصادمتا فهناك تكون أزمة الهوية وأزمة الاغتراب، وإلى معناها أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء) وفي بعض الروايات (قيل: من الغرباء؟ فقال: أناس قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

منبع الهوية وتأثيرها

منبع الهوية وتأثيرها الانتماء الوجداني والانتساب إلى الهوية ينبع عن إرادة النفس، فالنفس تكون راضية بهذا الانتماء، إلى هذه الهوية، قابلة لهذا الانتماء راضية عنه، معتزة به، فهذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس ويقودها، ويحدد أهداف صاحب الهوية، وهو الذي يرتب أولوياته في الحياة، فتعتز النفس به، وتندمج فيه، وتنتصر له، وتوالي وتعادي فيه، وفي نفس الوقت تبرأ من الانتساب إلى أي هوية أخرى مضادة أو مزاحمة لهذه الهوية التي يعتز بالانتماء إليها. إذاً: هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بطبيعة الحال اقتناء حواجز نفسية بين الشخص وبين كل من يخالفه في هذه الهوية، وفي نفس الوقت يقع الاندماج والتوحد مع الذين يوافقونه في هذه الهوية. والهوية لها علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، والهوية هي التي توجه لاختيار هذا الفرد عند تعدد البدائل، فأنت إذا عرفت أن هذا هويته -مثلاً- مسلم فالأصل أن هذا المسلم يجتنب لحم الخنزير، ويجتنب الخمر، ولا يفعل كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، وإذا عرضت عليه عدة اختيارات في أي قضية فطبقاً لانتمائه الاعتقادي وطبقاً لهويته فهذه الهوية هي التي سوف توجه اختياره أمام البدائل المتعددة، وبعبارة أخرى: الهوية هي التي تقوم بتهذيب سلوكه، وسلوكه يكون محدداً في إطار هذه الهوية، حيث يصبح سلوكه له غاية، كما أنها تؤثر تأثيراً بليغاً في تحديد سمات شخصيته، وإطفاء صفة الرجولة والاستقرار والوحدة على هذه الشخصية، وبالتالي إذا تحققت له عناصر وأفكار لهذه الهوية ونتج عنها الانتماء الذي تحدثنا عنه، فلا يمكن أبداً أن يكون صاحبها ذا وجهين يقابل هؤلاء بوجه وهؤلاء وجه كما وصف الله تعالى المنافقين بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]. فالشخص الذي حدد هويته لا يمكن أن يقع في هذا التذبذب، ولا يمكن أن تضطرب شخصيته، بل تكون ثابتة ومستقرة وشخصية واحدة، لا يمكن أن تتعدد وجوهه كما يحصل للمنافقين. أما بالنسبة للمجتمع ككل فإن الهوية الواحدة أو المتحدة تصبح هي الواحة النفسية التي يلوذ بها أفراد الجماعة، وتكون هي الحصن الذي يتحصنون داخله، والنسيج أو المادة اللاصقة التي تربط بين لبناته، والتي إذا فقدت تشتت المجتمع، وتنازعته التناقضات.

العقيدة الصحيحة هي الركن الأعظم للهوية الإسلامية

العقيدة الصحيحة هي الركن الأعظم للهوية الإسلامية الهوية لها أركان عدة، لكن أهم أركانها على الإطلاق هو العقيدة، يليها التاريخ واللغة، فإذا تحدثنا عن الهوية الإسلامية نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة، بحيث إن الهوية الإسلامية -بضم الهاء- تستغني تماماً عن أي لقاح أجنبي عنها، وتستعلي عن أن تحتاج إلى لقاح أجنبي يخصبها؛ فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة وأصول ثابتة رصينة تجمع وتوحد تحت لوائها جميع المنتمين إليها، وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه أمة من الأمم، وتتكلم لغة عربية واحدة، وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة وممتدة، وتحيا لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم، وتحريرهم من عبودية الأنذال إلى عبودية الله عز وجل، وأي واحد من جنود الجيش الإسلامي الذي كان يفتح البلاد ويبشر وينشر ضياء ونور الإسلام إذا سألته سيردد جواب ذلك الصحابي الذي سئل: ما جاء بكم؟ فقال: الله جاء بنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الأديان، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، أو كما قال رضي الله تعالى عنه. فالمسلم يعرف الهدف الذي يعيش له بمنتهى الوضوح، ويعرف الهدف المحدد الذي يحيا لأجله، وهذا ثمرة من ثمرات هذه الهوية، لكننا سنلقي أكثر الضوء على الركن الأعظم من أركان الهوية الإسلامية وهو ركن العقيدة، فجنسية المسلم هي عقيدته، ووطنه هو دينه الذي هو عصمة أمره، والهوية الإسلامية في المقام الأول تعني الانتماء للعقيدة انتماءًَ يترجم ظاهراً في مظاهر دالة على الولاء لها، والالتزام بمقتضياتها؛ فالعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت على الإطلاق في هوية المسلم وشخصيته، وهي أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان ينتمي إلى بني آدم؛ لأنها انتماء إلى أكمل دين، وأشرف كتاب نزل على أشرف نبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أشرف أمة، وقد أرسل هذا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أشرف أمة بأشرف لغة وبسفارة أشرف الملائكة في أشرف بقاع الأرض في أشرف شهور السنة في أشرف لياليه وهي ليلة القدر، وبأشرف شريعة وأقوم هدي، ولذلك مدح الله القرآن العظيم وعظم هذه الهوية، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. وإن كانوا يذكرون هذه الآية في فضائل المؤذن، لكن هي في عمومها تشمل كل من ينتمي إلى الهوية الإسلامية، فالمؤذن تتجاوب معه كل المخلوقات، إذ لا يبلغ مدى صوت المؤذن شجر ولا حجر ولا أي مكان إلا وهو يصدقه فيما يقول، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، يقول الشجر والحجر وكل ما يسمع: صدقت. ويقره على افتخاره ودعوته إلى هذه الهوية. ويقول الله سبحانه وتعالى مبيناً أنه لا أحسن ولا أكمل من الهوية الإسلامية: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125]، وقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. وبين تعالى أن صبغة الله هي التوحيد والإسلام والعقيدة، فإذا كان النصارى يصبغون أولادهم لينصروهم بما يسمى بالتعميد فصبغة الله هي فطرة التوحيد وعقيدة التوحيد، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138].

كذب اليهود في ادعائهم أنهم شعب الله المختار

كذب اليهود في ادعائهم أنهم شعب الله المختار قال الله عز وجل مبيناً شرف هذه الهوية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فأمة الإسلام وأمة التوحيد بشروطها هي خير أمة على الإطلاق؛ لأنها تجتمع على العقيدة وعلى التوحيد، لا على عرق ولا جنس ولا وطن ولا أرض ولا كلأ ومرعى كما تجتمع الحيوانات، وإنما تجتمع على هذه العقيدة وهذا التوحيد؛ ولذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وقال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] الآية؛ ولذلك في ضوء هذه الآية الكريمة كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجهون كاهانا بقوله: نحن شعب الله المختار، فإنه كان يردد مزاعم اليهود أنهم شعب الله المختار، فكان المجاهدون يردون عليه بقولهم: بل نحن المسلمين شعب الله المختار؛ لأن الله تعالى قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). فهم يقولون: نحن شعب الله المختار، بصفة عنصرية، وأن ماعدا ذلك من الأمم فهم عبارة عن بهائم خلقت ليس فيها استعمال البشر، وإنما خلقت ليسخرها اليهود لعنهم الله تعالى، ولذلك لا نجد في العقيدة اليهودية تبشير باليهودية؛ لأنهم -كما قال بعض الظرفاء يعلل ذلك في ضوء أخلاق اليهود- يخافون أن الناس يشاركونهم في الجنة، فإذا دخلوا اليهودية واعتنقوها فسيشاركونهم في الجنة على زعمهم، وهم لشدة بخلهم وشحهم يخشون أن يدخل الناس معهم الجنة، وهذا قاله على سبيل المزاح، لكن هم يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ لأنهم فئة مستقلة وعنصر معين، وهو هذا العنصر الإسرائيلي. أما نحن فنحن بحق شعب الله المختار، لا بصفة قومية ولا عنصرية ولا عرقية، وإنما بصفة التوحيد الذي هو صبغة الله، وبصفة الهوية الإسلامية، وكيف لا تكون الهوية الإسلامية أشرف صبغة وأحسن دين وأعظم انتماء وهي في الحقيقة انتماء إلى الله عز وجل وانتماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتماء إلى عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين من كانوا ومتى كانوا وأين كانوا؟! يقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].

أهمية الانضمام تحت لواء الهوية الإسلامية

أهمية الانضمام تحت لواء الهوية الإسلامية قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]. هذا هو الانتماء لأمة الإيمان وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] يقول بعض المفسرين: إن عباد الله الصالحين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعا الحواريون فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53] وقال الذين آمنوا من النصارى: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84] يعني: أمل وغاية من أسلم منهم أنه يطمع ويسعى سعياً حثيثاً إلى الانطواء تحت لواء هذه الهوية الإسلامية، ولذا قالوا: (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ). وكل مسلم يقول في صلاته: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، انتماءً وانتظاماً في هذا النظام وهذا العرق الذي يضم كل من ينتسب إلى حزب الله عز وجل، يقول الشاعر: ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا صلى الله عليه وسلم، فالأمر مهم جداً، وينبغي أن نلتفت إليه؛ لأنه في غاية الأهمية، ونحن نناقش أن موضوع الانطواء تحت الهوية الإسلامية والاندماج في الهوية الإسلامية ليس أمراً اختيارياً، وهذا كلام ليس فقط للمسلمين، ولكن لجميع البشر ولكل الناس، فيجب على جميع بني آدم أن ينتموا إلى الهوية الإسلامية، فالهوية الإسلامية ليس الانتماء إليها أمراً مستحباً، ولا أمراً تكميلياً أو كمالياً، ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، والآيات كثيرة جداً في بيان أن دعوة الإسلام دعوة شاملة لجميع البشر، حتى يندمجوا في الهوية الإسلامية، ويشهدوا شهادتي التوحيد، وينقادوا لحكم الله سبحانه وتعالى، ويكونوا من المسلمين، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ} [الأنعام:19] يعني: يا من أنتم حاضرون! وهم قريش (ومن بلغ) يعني: ومن يبلغه القرآن إلى أن تقوم الساعة أيضاً، كلكم أنا أنذره بذلك، ويقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي وبما أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم. إذاً: هذه الأمة محملة برسالة إدخال جميع البشر في الهوية الإسلامية، وهذا هو موقعها الطبيعي والقيادي، وذلك باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، وباعتبارها الأمة الوحيدة المؤهلة لإنقاذ البشرية من الضياع في الدنيا ومن عذاب الآخرة. فالسبيل الوحيد إلى النجاة في الآخرة لجميع الناس هو أن يذوبوا ويندمجوا في الهوية الإسلامية؛ لأن الهوية الإسلامية هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية، وتحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وهوايته في هذه الحياة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].

الهوية الإسلامية مصدر العزة

الهوية الإسلامية مصدر العزة الهوية الإسلامية هي مصدر العزة والكرامة، قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، وقال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] قال عمر رضي الله عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله). وهي هوية متميزة عما عداها؛ حيث إنها هوية في غاية الوضوح، ولا يمكن أبداً أن تختلط أو تلتبس بغيرها من الهويات، وهذا هو مبدأ البراءة من الشرك والمشركين، ويدل عليه قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) والخطاب للكافرين: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 2] حالياً {مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ} [الكافرون:2 - 3] الآن {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا} [الكافرون:3 - 4] في المستقبل {عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ} [الكافرون:5] في المستقبل {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:5 - 6] الباطل الذي أنا بريء منه {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] الحق.

سؤال الله عز وجل الهداية من أركان الهوية

سؤال الله عز وجل الهداية من أركان الهوية هذا التميز بين الهوية الإسلامية وما خالفها من الهويات ثابت في كل حين، وقد فرض الله سبحانه وتعالى علينا معشر المسلمين في كل يوم وليلة أن ندعوه سبع عشرة مرة أن يهدينا الصراط المستقيم؛ حيث إن كلنا يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ثم يزيد هذا الصراط وضوحاً فيقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] الذي نحن ننتمي إليهم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهذا من أركان الهوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا). وعرف اليهود ذلك، وشعروا أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى أن يخالفهم في كل شئونهم الخاصة بهم، حتى ضجر اليهود من ذلك، وقالوا: ما يريد هذا الرجل -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، وذلك حرصاً منه على تميز الهوية الإسلامية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم). وقد صحت كثير من الأحاديث التي تفصل هذه المخالفة وتحض عليها في كثير من أبواب الدين، وهناك أحاديث كثيرة جداً في الصلاة وفي النكاح وفي الصيام وفي العادات وفي الأكل والشرب واللبس وفي سائر الأعمال حض النبي صلى الله عليه وسلم فيها على التميز عن المشركين وعدم موافقتهم.

العلاقة بين الهوية الإسلامية والوطنية القومية

العلاقة بين الهوية الإسلامية والوطنية القومية إذا قلنا: إن وطن المسلم أو وطن المسلم هي عقيدته، وجنسيته هي دين الإسلام، فما علاقة الهوية الإسلامية بالوطنية القومية؟ وهل هي علاقة تعارف؟ نقول: إن الهوية الإسلامية ابتداءً لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه المسلم، ولا تعارض حب الخير لهذا الوطن، بل في الحقيقة إن المسلمين الصادقين هم أصدق الناس وطنيةً، وهم أنفع الناس لوطنهم؛ لأنهم يريدون لوطنهم سعادة الدنيا والآخرة، وذلك بتطبيق الإسلام وتبني عقيدته؛ لإنقاذ مواطنيهم من النار، كما قال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} [غافر:29] وأدخل نفسه في جملة القوم، قال: {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]. أيضاً هؤلاء هم الذين يدأبون ويجتهدون في حماية أمتهم من التبعية لأعدائهم الذين يكيدون لأوطانهم، وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون المذكورة في سورة (غافر)، ويتجلى ذلك في كل مواقف وجهاد رموز الدعوة الإسلامية في كافة البلاد الإسلامية. والوطن الحقيقي في مفهوم الهوية الإسلامية هو الجنة؛ لأن هذا هو الوطن الأصلي للمؤمنين؛ حيث كان فيه أبونا آدم عليه السلام. ونحن في الدنيا في حالة نفي عن الوطن، وفي معسكر اعتقال عدونا الشيطان، فنحن في حالة نفي عن ذلك الوطن الحقيقي، ونحن في هذا المنفى ساعون في العودة إلى هذا الوطن، والمنهج الإسلامي والهوية الإسلامية هي الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى الوطن الأم، وهذا المعنى عبر عنه الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى بقوله: فحيَّ على جنات عدنٍ فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم فالجنة هي دار السعادة التي لا يبغي أهلها عنها حولاً، لا كما قال من سفه نفسه: وطني لو سئلت بالخلد عنه نزعتني إليه في الخلد نفسي أما في الدنيا فأيضاً الهوية الإسلامية تتحكم حتى في قلوبنا وفي عواطفنا، فنحن نحب جميع الأنبياء، ثم هناك مكانة خاصة للرسل، وأولهم أولو العزم من الرسل، وأفضلهم أشرف المرسلين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد الأنبياء الأولياء، وأعظم الأولياء على الإطلاق الصحابة، وأعظم الصحابة على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، ويليه عمر. إن السمع والبصر والفؤاد والعواطف والحب كل ذلك ليس متروكاً لاختيارك، بل الهوية الإسلامية تحدد بقعة المحبة لكل شخص في قلبك، وأوليات هذه المحبة، وترتيب ذلك. وكذلك بالنسبة للأوطان، فأحب الأرض إلى المؤمن في هذه الدنيا هي أولاً مكة المكرمة، ثم المدينة النبوية، ثم بيت المقدس، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن محبته مكة المكرمة مبنية على أنها أحب بلاد الله إلى الله، وبعض الناس الذين يتبنون المفهوم الوثني للوطنية يحاولون أن يستدلوا بالحديث على ما يدعون إليه، حيث يحاولون أن يغذوا مفهوم الوطنية الوثنية بالحديث، ويقولون هذا دليل على حب الوطن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حنَّ إلى مكة وقال: (لولا أن قومكِ أخرجوني منكِ ما خرجت). وهذا ليس دليلاً على حب الوطن، وإنما هو دليل على حب مكة؛ لأن مكة أحب بلاد الله إلى الله، فلذلك كل مسلم يحب مكة المكرمة قبل أي مكان آخر على وجه الأرض، وكذلك المدينة النبوية الطيبة، وكذلك بيت المقدس الذي بارك الله حوله؛ فمحبتنا لهذه البقاع التي اختارها الله وباركها وأحبها فوق محبتنا لمسقط رءوسنا، ومحضر الطفولة، ومرتع الشباب. أما ما عدا هذه البلاد المقدسة فإن الإسلام هو وطننا، وهو أهلنا، وهو عشيرتنا؛ وحيث تكون شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة فثمَّ وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس، ونذود عنه بالدم والولد والمال، يقول الشاعر: ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني

الوطنية الوثنية منتج غربي

الوطنية الوثنية منتج غربي الوطنية بمعناها المحصور في قطعة أرض إذا سألنا من الذي وضع هذه الحدود الوهمية التي لا نراها إلا على الخرائط، نجد أن الاستعمار هو الذي قسم هذه الحدود، وهو الذي شطرنا بهذه الطريقة؛ في حين أننا إذا رأينا الحدود بين دولهم في أوروبا نجدها بخلاف ذلك، وأنا رأيت الحدود بين هولندا وألمانيا عبارة عن شارع في وسطه رصيف ارتفاعه حوالى نصف متر أو أقل، يعني: ممكن أن تكون أحدى رجليك في هولندا والأخرى في ألمانيا، والناس يتحركون بمنتهى الحرية، هذه هي الحدود بينهم، والآن هم ساعون في إزالة هذه الحدود، بل فعلوا ذلك بالفعل عن طريق الوحدة الأوروبية التي تحققت بالفعل، فهم بقدر ما اجتهدوا في تمزيقنا كما تمزق الجبنة الرومي هم أيضاً يندمجون ويتوحدون ويلغون الحواجز بينهم، فهذه الحدود ليست في القرآن ولا في السنة، بل هذه الحدود إنما رسمها أعداؤنا، فالوطنية بمعناها المحصور في هذه الحدود أو في عرق أو لون أو جنس خاطئة، وهذا المفهوم مفهوم دخيل، لم يعرفه السلف ولا الخلف، وأول من أدخل مفهوم الوطنية الوثنية في بلاد المسلمين أو في مصر على الأقل هو رفاعة الطهطاوي لما أرسله محمد علي إلى فرنسا ورجع ملوثاً ببعض الأفكار من فرنسا منها فكرة الوطنية، وهو أول من بدأ ينشر روح الوطنية بالمعنى الوثني، والارتباط بالتراب وبالأرض ونحو هذا الكلام الذي استورده من الأفكار التي تأثر بها في فرنسا، فطرأ علينا هذا المفهوم المحدود الضيق ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الغربيون وأذنابهم لمزاحمة الانتماء الإسلامي، وتوهين الهوية الإسلامية التي ذوبت قوميات الأمم، والتي فتحتها في قومية واحدة هي القومية الإسلامية، والوطنية الإسلامية، ودمجتها جميعاً في أمة التوحيد. وهاكم شهادة شاهد من أهلها، وهو المؤرخ اليهودي برنارد لويد، حيث يقول هذا المؤرخ اليهودي: كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي وصحبه وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها الدولة والعنصر والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال هرطقة القومية العلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً. وهذا اعتراف صريح من هذا اليهودي بأن الغرب هو الذي زرع ظلماً وعدواناً مفاهيم القومية والعلمانية ليوهن ويضعف الهوية الإسلامية. ويقرر هذا المؤرخ نفسه حقيقة ناصعة فيقول: فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدلها أتباعها في الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة، وتعبر عن كتل المشاعر الجماهيرية، وبالرغم من أن كل الحركات الإسلامية قد هزمت حتى الآن غير أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة. انتهى كلام هذا اليهودي.

العقيدة الإسلامية هي منظار القيم والأفكار والمبادئ

العقيدة الإسلامية هي منظار القيم والأفكار والمبادئ إن العقيدة الإسلامية هي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادئ، ومن خلالها يحكم على الأشخاص وينزلهم منازلهم، والعقيدة الإسلامية هي المرشح المهيمن الذي يقوم بترشيح التراث التاريخي، وكل تراث كان لأي أمة قبل دخول الإسلام فهذا التراث يخضع لهيمنة الإسلام، إذ لابد أن يقوم الإسلام بترشيحه في ضوء عقيدة التوحيد، فتراث الأجداد والآباء والتاريخ القديم يخضع لهذا المشرح؛ فما وافق العقيدة يُقبل، وما خالفها يُتخلص منه وينبذ؛ فالعقيدة هي المرشح المهيمن الذي يقوم بترشيح التراث التاريخي؛ ليحدد ما يُقبل منه وما يُنبذ. مثال: فرعون وملؤه كانوا مصريين، لكنهم كانوا كفاراً وثنيين، وموسى عليه السلام وأتباعه من بني إسرائيل كانوا مؤمنين مسلمين، فواجب المؤمن في ضوء العقيدة الإسلامية ألا يفخر بفرعون ويعادي موسى وأتباعه المؤمنين، رغم عدائنا لليهود؛ فإن أكثر علماء اليهود ليسوا مسلمين، لكن نقول: الذين اتبعوا موسى هم على دين الإسلام، فواجب المؤمن أن يعادي أعداء الله ويبرأ منهم ولو كانوا من جلدته ويتكلمون بلسانه، ويوالي حزب الله وأولياءه من كانوا وأين كانوا ومتى كانوا، يقول تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28]. ويقول تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]. إلى آخر الآيات الكريمات، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. مثال آخر: قال تعالى في الملأ المؤمنين من بني إسرائيل: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:250] وجالوت وجنوده كانوا كنعانيين فلسطينيين، ومع ذلك نحن بقلوبنا نوالي بني إسرائيل المؤمنين، ونعادي الكفار ولو كانوا فلسطينيين، قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:250 - 251] إلى آخر الآية. إذاً: نحن حينما نتلو هذا القرآن الكريم نعد هذا النصر نصراً لعقيدتنا ولديننا ولهويتنا الإسلامية على هؤلاء الكافرين وإن كانوا فلسطينيين. أوضح من هذا وأصرح أن نقول: إنه لو قُدر أن الله سبحانه وتعالى بعث الآن في هذا الزمان داود وسليمان عليهما السلام إلى الحياة من جديد فنحن نجزم حتماً وقطعاً أنهما سيكونان متبعين لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مصداق قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] فما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وأنت حي لتؤمنن به ولتنصرنه، فداود وسليمان لو عادا الآن لانضما قطعاً إلى المسلمين المجاهدين، ولما وافقا اليهود على ما يسمونه بإعادة بناء هيكل سليمان؛ لأن سليمان يعرف أن شريعته نُسخت، وأنه إذا بعث بعد محمد عليه السلام فلا مكان له إلا أن يكون متبعاً له ولشريعته، فسيبقي المسجد الأقصى، ويصلي فيه، ويحارب اليهود أعداء الله عز وجل. ومصداق ذلك أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى الصحائف من التوراة في يد رجل من المسلمين من الصحابة رضي الله عنهم غضب أشد الغضب وقال: (أمتهوكون أنتم؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فنحن في ضوء الهوية الإسلامية أولى بموسى عليه السلام من اليهود، ونحن على دين موسى، وهم ليسوا على دين موسى، ولو بعث الله موسى وداود وسليمان لحاربوا اليهود والنصارى والعلمانيين وسائر الملحدين، ولعبدوا الله في المسجد الأقصى على شريعة الإسلام كما كانوا يعبدونه وحده فيه قبل نسخ شريعتهم، ولرفعوا راية الجهاد في سبيل تطهير فلسطين من قتلة الأنبياء أحفاد القردة والخنازير الملعونين على لسان الأنبياء. ونذكر مثلاً حياً سيقع قطعاً، وهو: أن عيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان سوف يحكم بالإسلام، ويحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويصلي أول نزوله مأموماً وراء المهدي، ويقاتل اليهود، بل هو الذي سيقود المسلمين في حربهم ضد اليهود، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي). فنحن المسلمين أولياء المسيح وأحباؤه، ونحن أتباعه على دين الإسلام الذي جاء به ودعا إليه، ونحن المقصودون بقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، وما أحسن ما قاله صاحب الظلال غفر الله له: عقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله، ومن ثمَّ يتجمع البشر عليها وحدها لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج، والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان، إنه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

رابطة الأخوة الإسلامية من أعظم أركان الهوية الإسلامية

رابطة الأخوة الإسلامية من أعظم أركان الهوية الإسلامية قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] تربط هذه العقيدة الإسلامية -التي هي الركن الأعظم في الهوية الإسلامية- المسلم بأخيه، حتى يصير المسلم وأخوه كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتواددهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). ومن الأشياء البديعة أن القرآن الكريم يطلق النفس ويريد بها أخاك في الإسلام وفي الهوية الإسلامية؛ تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه، كما قال تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:84] والمقصود: لا تخرجون إخوانكم في العقيدة وفي الهوية الإسلامية من دياركم، فأطلق على الإخوان الأنفس، مما يدل على قوة الاندماج والذوبان في الهوية الإسلامية، وقال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، والمقصود: ظنوا بإخوانهم خيراً، فعبر عن الإخوان بالأنفس، وقال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا تلمزوا إخوانكم على أصح التفسيرين. إذاً: العقيدة -كما قلنا- هي المادة اللاصقة التي تربط لبنات المجتمع الإسلامي، وإذا وجدت فإنها تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية، حيث لا يمكن أن تقع، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، ومع ذلك فالإيمان هو الفيصل في هذه القضية، يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، ويقول تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]. هذه الرابطة التي تجمع المختلف وتألف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله، هذه الرابطة تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ولم تربط فقط بين أهل الأرض من المؤمنين، وإنما أيضاً ربطت بين حملة العرش ومن حول العرش من الملائكة وبين بني آدم المؤمنين في الأرض، مع ما بينهم من الاختلاف؛ فإن هؤلاء ملائكة وهؤلاء بشر من بني آدم، وهم مختلفون في الخلق والتكوين، لكن مع ذلك فإن الانتماء للهوية الإسلامية يربطك ليس فقط بالمؤمنين على وجه الأرض، وإنما يربطك بكل هذا الكون المؤمن، وتشعر بالولاء له، لا كما يفترض الغربيون الجهلة بالله وبسننه عز وجل، حيث يجعلون الإنسان دائماً في حالة صراع مع الطبيعة. فهذه الطبيعة ليست عدوة للإنسان، بل -إن جاز التعبير- مظاهر الطبيعة هي إخوان له في الله، وإخوان له في التوحيد، والأدلة على ذلك كثيرة جداً. نذكر مثالاً على ذلك بالوزغ الذي حرضنا الرسول صلى الله عليه وسلم على قتله، وعلل ذلك بأنه كان ينفخ النار على إبراهيم لما ألقاه قومه في النار، فانظر إلى العداوة لهذا النوع من الحيوانات لأجل أنه فعل ذلك مع إبراهيم، وانظر إلى جبريل عند إغراق فرعون، فإنه: (لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90])، يقول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (فلو رأيتني -يا محمد- وأنا أدس في فيه من حال البحر خشية أن تدركه الرحمة). فجبريل كان يعادي فرعون لأنه عتا وطغى ونازع الله سبحانه وتعالى، وكفر بالله العظيم، فجبريل كان يبغضه من أجل ذلك، فخشي جبريل أن تنقذه هذه الكلمة التي قالها وهو يهلك، فكان يأخذ من طين البحر ويدس في فيه مخافة أن تدركه الرحمة إذا نطق بهذه الكلمة التي قالها عند الهلاك، والتي لا تنفعه قطعاً. كذلك إذا أحب الله عبداً في السماء، نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في ملائكة كل سماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وهذا مظهر من مظاهر هذا التوحد مع الكائنات من حولنا. يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7]، انظر إلى كلمة: (يؤمنون به) هي المادة اللاصقة، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] وهذا هو الرابط في العقيدة والهوية الإسلامية، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]. وتأمل قول الله سبحانه وتعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3]، وقابل ذلك بمكانة سلمان الفارسي، وبلال الحبشي وصهيب الرومي رضي الله عنهم أجمعين، فما خوطبوا أبداً على أساس أن هويتهم أن هذا رومي، وهذا فارسي، وهذا حبشي، كلا! وإنما كلهم متساوون كأسنان المشط أمام هذه العقيدة وهذا التوحيد، يقول الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم انظر ما آل إليه، وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا مات وليس له من الأقرباء إلا ابن واحد كافر فتركته وميراثه يئول إلى إخوانه المسلمين بأخوة الإسلام؛ لأن هذه هي القرابة الحقيقية، ولا يكون الإرث لولده لصلبه الذي هو كافر، مع أن الميراث دليل القرابة، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية. ويقول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) فوصفهم بصفة الإسلام، وما قال: المصريون، وما قال: الشاميون، وما قال: اليمانيون، وإنما قال: المسلمون. وهكذا كل خطاب في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) لم يخاطب قوماً غير أهل الهوية الإسلامية. واعتبر أيضاً هذا المعنى بقول الله تبارك وتعالى مخاطباً نوحاً عليه السلام في شأن ابنه الكافر حيث قال: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة: (أنه عَمِلَ غير صالح) وهو ابنه من صلبه، ولكن الميزان عند الله سبحانه وتعالى في ضوء الهوية الإسلامية ومدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولذا قال سبحانه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لماذا؟ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) لم يكن معك على عقيدة التوحيد، ولم يكن مندمجاً في الهوية الإسلامية كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: (ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته). واعتبر ذلك أيضاً بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه الكافرين، وتأمل قوله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. وتأمل موقف المسيح عليه السلام مع قومه بني إسرائيل، وكيف انقسموا فوراً إلى أنصار مؤمنين وأعداء كافرين، على أساس موقفهم من دعوتهم إلى الاندماج في العقيدة الإسلامية. وتأمل أيضاً كيف يأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نقتدي بهم في هذا، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] فهم في الحال صاروا أعداء لما خالفوهم في هذه العقيدة.

محافظة الكفار على هويتهم

محافظة الكفار على هويتهم الكفار يستكثرون علينا هذه الرابطة وهذه الهوية، في حين أن تصرفاتهم تبنى على أساس هذه الهوية. وأذكر على ذلك نموذجاً عابراً يبين كيف أن الهوية العقائدية هي التي تحدد وتوجه سلوك هؤلاء القوم: في كتاب الصربيون خنازير أوروبا للدكتور عبد الحي الفرماوي يقول: في رحلة من رحلات عبد الناصر لحضور أحد مؤتمرات عدم الانحياز في بلغراد، استعد المسلمون في يوغسلافيا وقالوا: عبد الناصر قادم من مصر بلد الأزهر وبلد الإسلام، وهناك صداقة حميمة بينه وبين تيتو، فأعدوا مذكرة لعرضها على الرئيس جمال عبد الناصر بصفته زعيم مصر الإسلامية بلد الأزهر الشريف، وموطن الأئمة الأعلام من العلماء والمحدثين والفقهاء، ومقر مجمع البحوث الإسلامية ومجمع اللغة العربية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، هذه المذكرة كان الغرض منها أن يتدخل جمال عبد الناصر لدى صديقه تيتو حتى يخفف من وطأة النظام الشيوعي على المسلمين في يوغسلافيا، لاسيما في البوسنة والهرسك وعاصمتها سراييفو؛ حيث يشكل المسلمون فيها أغلبية ساحقة بالنسبة إلى بقية البلدان الأخرى التي يتشكل منها الاتحاد اليوغسلافي، واشتملت المذكرة على المعاناة التي يلاقيها المسلمون على يد الشيوعيون اليوغسلافيين، وعلى حرمانهم من معظم الحقوق المشروعة التي يتمتع بها المواطن العادي، وعلى القوانين الجائرة التي كان يصدرها تيتو، والتي كانت تستهدف المسلمين وحدهم دون بقية الطوائف الأخرى في مجالات التعليم والثقافة والحقوق السياسية والتمثيل النيابي، وفي التضييق عليهم عند ممارستهم شعائرهم الدينية، وفي إهمال مساجدهم فلا بناء لجديد ولا ترميم لقديم، مما جعل معظم المساجد آيلة للسقوط، وما أن تسلم عبد الناصر المذكرة العاجلة من أحد زعماء المسلمين على رأس وفد من علماء سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك حتى امتعض وجهه، وتقطب جبينه، وقال بالحرف لرئيس الوفد: (إن مصر لن تسمح بأن تقحم نفسها في الشئون الداخلية للدول الصديقة، وأرجو ألا يتكرر ذلك مرة أخرى!) ثم أنهى المقابلة. وزيادة في مضايقة وفد المسلمين الذي جاء بالمذكرة ومجاملة لـ تيتو ألغى عبد الناصر المنح التعليمية والأزهرية لطلبة المسلمين في البوسنة والهرسك ذلك العام! إن جمال عبد الناصر الذي رفض مذكرة علماء المسلمين في يوغسلافيا هو نفس جمال عبد الناصر الذي استجاب لمطلب نيكيتا خروتشيف رئيس الاتحاد السوفيتي، فحين هبط خروتشيف إلى مطار القاهرة كان جمال عبد الناصر في استقباله، وبعد أن صافح كل منهما الآخر وضع خروتشيف يده في جيبه الأيمن وأخرج كشفاً بأسماء الشيوعيين المصريين في السجون والمعتقلات، وقال في دعابة خبيثة: لن أحضر احتفال غمر الأنفاق بالمياه قبل أن يفرج عن الشيوعيين المصريين في سجون مصر ومعتقلاتها، وقبل أن يغادر الرئيسان مطار القاهرة كانت التعليمات قد صدرت إلى مدير مصلحة السجون وأجهزة الأمن الأخرى بالإفراج عن الرفاق المحظوظين الواردة أسماؤهم في كشف خروتشتيف رغم أن بعضهم كان مداناً بجريمة الخيانة العظمى! ومع ذلك فلم يعتبر عبد الناصر ما حدث من خروشتوف تدخلاً سافراً عرياناً في شئون مصر الداخلية. ونفس الشيء حصل لما قدمت مذكرة طبق الأصل من مذكرة عبد الناصر لـ أحمد سوكارنو وكان مصيرها نفس المذكرة. والموقف الآخر أيضاً من يوغسلافيا فيما يتعلق بالمعاملة الوحشية للمسلمين، وهذه المذابح الأخيرة لفتت النظر، أما المذابح القديمة على يد خروتشيف وقبله أيضاً بعد الحرب العالمية فما كاد يسمع عنها أحد شيئاً، وكثير من المسلمين ما كانوا يعرفون أن يوغسلافيا في هذا الكم الهائل من الشعوب الإسلامية دولة في منطقة البلقان؛ لأننا نهمل الاطلاع ومعرفة أجزاء جسدنا، ولا نعرف هويتنا. كان هناك كاتب إسلامي يدعى علي عزت بيغوفتش كان قد ألف كتاباً في سنة (1970م) اسمه: (البيان الإسلامي)، اعتبر تيتو وحكومته الشيوعية هذا الكتاب خطراً يهدد أوروبا الشيوعية، فقالوا في إدانة هذا الكتاب: إن هذا الكتاب ميثاق عمل إسلامي يضم المسلمين من إندونيسيا حتى المغرب في اتحاد وسيف متكاتف، وفور ظهور الكتاب الإسلامي اعتقلوا صاحبه علي عزت بيغوفتش، وألقوه في غياهب السجون، وخلال إحدى زيارات تيتو المتكررة إلى مصر طلب الشيخ الباكوري وزير الأوقاف حينئذ من الرئيس عبد الناصر أن يفاتح تيتو في الإفراج عن الزعيم المسلم الذي أودع المعتقل، ويجري تعذيبه في بلغراد، وعندما استفسر جمال من صديقه تيتو عن هذا الموضوع أجابه قائلاً: إن هذا الرجل أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين عندكم في مصر، وهو يطالب بأن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في أي بلد تكون لها فيه الأكثرية العددية، كما أن هذا الرجل يرصد كل ما هو غير إسلامي في مجتمع المسلمين، ثم توقف تيتو قليلاً وسأل عبد الناصر: لماذا تتوسط له وأنت تتخذ نفس الموقف منهم في مصر؟! وسكت عبد الناصر لقوة الحجة والمنطق التي تحدث بها تيتو. وهذا موقف عقائدي ينبني على انتماء لهوية تتجاوز حدوث الأرض والأوطان؛ لكي تكون العقيدة هي المسيطرة، فلماذا يكون ذلك حلالاً لهم وحراماً علينا؟!

الهوية الإسلامية هي الفطرة

الهوية الإسلامية هي الفطرة إن الهوية الإسلامية المتميزة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، ولا يعرفها ثم يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وإلا من استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. إن الذي يفهم معنى الهوية الإسلامية وثمار الهوية الإسلامية سواء في الدنيا أو في الآخرة، والشرف الذي يطلبه من ينطوي تحت هذه الهوية الإسلامية إذا كان أستاذاً عاقلاً فضلاً عن مسلم مؤمن يدرك هذه المعاني؛ فالإنسان العاقل فضلاً عن المسلم المؤمن لا يأتي ويقول للذين كفروا: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، إذ لا يمكن أن يصدر ذلك ممن فهم معنى الهوية الإسلامية. ولا يعرف مفكر أو داعية مسلم مخلص لهذه الأمة قد تلطخ بالدعوة إلى هوية غير الهوية الإسلامية، بل العكس هو الصحيح، فالدعوة إلى الهويات المزاحمة والمضادة للهوية الإسلامية لم تترعرع إلا في أحضان أعداء ديننا الذين لا يألوننا خبالاً، وإلا في كنف الدعاة على أبواب جهنم الذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ممن رباهم الاستعمار في محاضنه، وصنعهم على عينه، وأقامهم وكلاء عنه في إطفاء نور الإسلام، ومحو الهوية الإسلامية من الوجود.

موقف المسلم من الهوية الإسلامية

موقف المسلم من الهوية الإسلامية ماذا عن موقفنا الآن من الهوية الإسلامية؟ لا شك أن المسلمين لم يكتشفوا أنفسهم، ومن المؤلم جداً أن أعداءنا يكتشفوننا بطريقة أفضل منا، ويفهموننا أكثر مما نفهم نحن حقيقة موقعنا في هذا الوجود، وبلا شك أن عند معظم شباب العالم الإسلامي الآن أزمة هوية، وأزمة اختراق؛ لأنهم يجهلون هذه الهوية؛ لأنه تم غسيل عقولهم. فمثلاً: هل يمكن أن ترى من يحمل الهوية الإسلامية ثم يفعل هذه الأشياء كالشاب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه، أو في سيارته، ويتزين ويفخر بالعلم الأمريكي؟! فما الذي يمنعه -إذن- أن يعلق علم إسرائيل؟! وهكذا ترى من يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم وفي مخبرهم، ومن المسلمين من يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ، ثم يفتخرون بأنهم فازوا بجنسية البلاد الكافرة، وللأسف الشديد! فهل هذا من المحافظة على الهوية الإسلامية؟ وكيف يتخلى طواعية عن جنسية إسلامية، ثم ينضوي تحت لواء كافر، ويقسم القسم للدفاع عن الدولة الكافرة في حالة تعرضها لاعتداء وهو منتسب للهوية الإسلامية؟! إن هذا ضلال مبين. وبعض الإخوة الذين يذهبون إلى الخارج لزيارة أهاليهم ممن تلطخوا بالجنسية الكافرة يشتكون من سوء مقابلة أهلهم الذين يقولون: إن أهالينا عندما نذهب لزيارتهم يقولون: ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ فأين الانتماء والهوية التي يحملها المتلطخون؟! مثل المذيع الذي يعمل بوقاً ينفخ فيه العدو الصائل على المسلمين لأجل حفنة دولارات أو جنيهات إسترلينية أو غير ذلك، فيذهب ويقبل أن يعمل مذيعاً بوقاً يستعملونه كآلة لمحاربة الإسلام وتوجيه حملات الحرب الباردة ضد المسلمين. وأقبح ما يكون هو ضياع الهوية في الشخص الذي يعمل جاسوساً لأعداء أمته وأعداء دينه، وأن يبيع نفسه لأعداء وطنه المسلم من أجل تحصيل متاع زائل، وهذا من أزمة الهوية، بل إنك تجد أستاذاً في الجامعة يسبح بحمد الغرب صباح مساء، ولا يقبل أي نقد للغرب ولا لضياع الغرب، وهذا يعاني من أزمة هوية. ومثل هذا مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدولة الكافرة المحاربة للإسلام، فبعض الناس ينظم للجيش الأمريكي، ومثل هذا ليس عنده هوية، بل قد ضاعت هويته. وهكذا كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته، ويرى بعيون الآخرين، ويسمع بآذانهم، وباختصار فإنه يسحق ذاته ليكون جزءاً من هؤلاء الآخرين. وهذا نموذج موجود الآن بكثرة وهو: أنه حتى في أدق الأشياء يقول لك بعض الناس: لا تعمل كذا، فإن الأجانب سيقولون علينا كذا! إنه شيء غريب جداً! وهكذا الناس الذي يحتفلون بالاحتلال الفرنسي لمصر! فإن فرنسا الآن لأول مرة تطلب رسمياً من مصر أن تحتفل بالحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر! يا للمصيبة! وبعض الناس تحتفل، ولا يحتفل بالاحتلال إلا الخونة؛ إذ كيف يحتفلون باحتلال مصر؟! وبالحملة الفرنسية التي قتلت المسلمين، والتي دخلت الجامع الأزهر بالخيول، وحولوا الأزهر إلى إسطبل، فضلاً عن غير ذلك من المسالك التي فعلها نابليون!! ومع ذلك يأتي يوم يحتفل بهم! ونحن نعجب فإن مثل هذا اليوم يوضع في ضمن أسباب عداء الغازين المحتلين، أما الآن فصار يحصل احتفال بهذا الاحتلال؛ والله المستعان!

حقارة من يتنازل عن الهوية الإسلامية

حقارة من يتنازل عن الهوية الإسلامية إن هؤلاء الذين يذوبون في هوية غيرهم، ويبتغون عندهم العزة في الحقيقة أنهم يعودون مذمومين مخذولين من الفريقين، ويعاملهم الله بنقيض قصدهم، فهم يريدون العزة عند الكافرين، فيتحقق فيهم قول القائل: باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا رضيت عنه العباد لأنهم يحتقرون من يتنازل عن هويته، وهذا شيء نعاير به واقع المسلمين في قضية الهوية. وكم رأينا الحيز الإعلامي الذي لم يسبق له مثيل الذي شغله موت أميرة ويلز في كل أرجاء العالم المنتسب إلى الإسلام وإلى الهوية الإسلامية! ورأينا ما صار إليه هذا الإعلام من السقوط، بينما نجد الإعلام غافلاً عن موت الشيخ محمود شاكر رحمه الله في نفس الفترة! وهذا يكشف لنا أزمة الهوية التي نعاني منها، وقضية الهوية هي قضية محورية أزعجت كل الناس إلا أصحابها والمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين اليوم لما يقتنعوا أن الأعداء من حولهم على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية وصهرها في دائرة العالمية الأممية، وإزالتها من الوجود؛ لأنها هي لا غيرها الخطر الماثل أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة، يقول تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. إن أي جماعة تملك الهوية سوف تجد في عالم تحكمه شريعة الغاب من يحاول الهيمنة عليها وتذويب شخصيتها عن طريق تدمير البنية التحتية لهويتها العقائدية والثقافية، ويجعل سياجاً على شخصيتها؛ فيتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل مغسول المخ تابعٍ مقلد. إن هويتنا الإسلامية هي مصدر عزتنا، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] فحين تمسكنا بهذه الهوية سدنا العالم كله، حتى كنائس أوروبا لا تجرئ على دق نواقيسها حينما كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط، يعني: أنهم لهيبتهم من المسلمين كانوا يتوقفون عن دق أجراس الكنائس إذا عبرت الجيوش الإسلامية البحر المتوسط أو مرت في موانيها. ومن أراد أن يدرك الفرق بين العزة التي تكتسبها الأمة من الهوية الإسلامية وبين الذل حين تخلت عن هذه الهوية الإسلامية فلينظر إلى النموذج التركي الممسوخ؛ إنه أقبح صورة لمسخ الهوية، وأقبح مثال يمكن أن يضرب بالضياع والذل والهوان والخيانة التي يتنفس بها من تخلوا عن الهوية الإسلامية، حتى إن كل إعلام العالم يشتكي من فساد القنوات الفضائية التركية والانحلال الذي فيها، فبعدما كانت عاصمة الخلافة صارت الآن يخشى من الفساد الذي يبث منها، فمن أجل أن يتخلوا عن الإسلام حاربوا الإسلام، وفعلوا كل ما فعلوا من أجل أن يرضى عنهم الغربيون، ويدخلوهم في التجمع الأوروبي، لكن مع كل هذا احتقروهم وساموهم سوء العذاب والهوان والذل، ومع أن الدواء واضح وهو العودة إلى مصدر العز، لكنهم يأبون إلا الذل والهوان، فهذا أقبح نموذج لمسخ الهوية وما يترتب عليه من ضياع وهوان ومذلة. فحين تخلينا عن هذه الهوية نزع الله من قلوب عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). فإضعاف الهوية الإسلامية هي عملية انتحار جماعي، إن أي خلل في الهوية هو عبارة عن انتحار، فينتهي إلى الضياع وإلى التذبيح؛ فإضعاف هذه الهوية هو أخطر وأشد فتكاً بالأمة من نزع سلاحها.

حرص أعداء المسلمين على إبعاد المسلمين عن هويتهم

حرص أعداء المسلمين على إبعاد المسلمين عن هويتهم مما يؤسف له أن أعداءنا يدركون جيداً أن الهوية الإسلامية أقوى سلاح، فالهوية الإسلامية في نظر أعدائنا أقوى من القنابل النووية أو القنابل الهيدروجينية والأسلحة الفتاكة كلها. وهذا الكلام ليس من جيبي ولا من عندي، وإنما هو من بعض تصريحات ساستهم، ففي آخر سنة (1967م) ألقى وزير خارجية الدولة اللقيطة محاضرة في جامعة برنستون الأمريكية فقال في هذه المحاضرة بعد النكسة مباشرة: يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل! انظر كيف يتكلم وهو منتصر في حرب الأيام الستة، ومع ذلك انظر إلى الخوف من الإسلام! فمع أنه كان في حالة انتصار لكنه يقول: يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيق على إسرائيل! ولذا كان من أول واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي! والمجتمع اليهودي في فلسطين يتألف من مهاجرين من أكثر من مائة دولة مختلفة، فهي تجمع من الشتات أنواعاً مختلفة، فهم من كل أفق أتوا من أكثر من مائة دولة من كل أنحاء العالم، ويتكلمون سبعين لغة مختلفة من شتات الأرض، ولكن جمعتهم عقيدتهم الواحدة رغم اختلاف اللغات والألوان والقوميات والعناصر والأوطان. وهذا أحدهم يعلنها ويقول: جنسيتنا هي دين آبائنا، ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى. والدعوة القومية تفكك، فالشيوعية نفسها كانت تقف حاجزاً دون انتشارها، وتدعو إلى تفضيل المذهب الشيوعي، ومع ذلك فإن المسلمين بالذات كانوا يشجعون القوميات، حيث شجعوا القومية العربية، وشجعوا انفصال باكستان الشرقية عن باكستان الغربية التي أصبحت الآن بنغلادش، ولذلك نرى الأستاذ يوسف العظم يحكي واقعة في أيام حرب حزيران أو يونيو حرب النكسة فيقول: لقد سمعت وزير إعلام عربياً إبان حرب حزيران يقول: دعونا من خالد بن الوليد وصلاح الدين، ولا تثيروها حرباً دينية، قال ذلك وهو يعلق على ما يذيعه بعض الدعاة من الحث للجندي على الثبات وتشجيع المقاتلين على الجهاد والاستشهاد، فقلت لمن كان حولي: منهزمون ورب الكعبة! وقد كان؛ لأن السلاح ليس بذاته أساساً مادام السلاح بمثل هذه العقيدة القتالية التي يعبر عنها هذا المصطلح الذي عبر عنه الوزير المذكور، فأين العقيدة إذا كنت تقول له: شادية معك في المعركة، وأم كلثوم معك في المعركة، وعبد الحليم معك في المعركة؟!! إن اليهود أول ما دخلوا سيناء دخلوا بنسخ كثيرة من التوراة حملوها على أول دبابة دخلت سيناء، وجاءت صحيفة أحرونوت اليهودية سنة (1987م) تقول: إن على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي: أننا نجحنا بجهودنا وبجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تمكين خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا!! حينما أراد الشاعر محمد إقبال أن يبين أثر تخلي المرء عن هويته وعن عقيدته ضرب هذا المثل فقال: كانت مجموعة من الكباش تعيش في مرعىً وفير الكلأ عيشاً رغيداً، ولكنها أصيبت بمجموعة من الأسود نزلت بأرض قريبة منها، فكانت تعتدي عليها وتفترس الكثير منها، فخطر ببال كبش كبير منها أن يتخذ وسيلة تريح من هذا الخطر الداهم الذي يهددها، فرأى أن استخدام السياسة والدهاء والحيلة هو الوسيلة الوحيدة، فظل يتوسد إلى هذه الأسود في مكانها حتى ألفته وألفها، فاستغل هذه الألفة، وبدأ يعرض الأسود ويدعوها إلى الكف عن إراقة الدماء والعيش في سلام وأمان ودعة وإلى أن تترك أكل اللحم، وأخذ يغريها بأن تارك أكل اللحم مقبول عند الله، وأخذ يزين لها الحياة في دعة وسكون، ويقبح لها الوثب والاعتداء، حتى بدأت الأسود تميل إلى هذا الكلام، فأخذت الأسود تتباطأ في افتراس الكباش، ومالت إلى حياة الدعة والهدوء، واكتفت بأكل الأعشاب كما تفعل الكباش، فكانت النتيجة أن استرخت عضلاتها، وتثلمت أسنانها، وتقصفت أظفارها، وأصبحت لا تقوى على الجري، ولم تعد قادرة على الافتراس، وبذلك تحولت الأسود إلى أغنام؛ لأنها تخلت عن هويتها وعن خصائصها ففقدت ذاتيتها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا). فالذي كان يفعله هذا الكبش هو الذي فعله الكثير من المستشرقين حيث كانوا يلقون الشبهة على المسلمين، وهم يعرفون عقدة النقص والانهزامية عند بعض المسلمين والمفكرين، ونتيجة العقدة في النفس والشعور بالدونية عند بعض المنهزمين هي أنهم أصبحوا يردون بأن الإسلام دين لا يعرف الجهاد، ولا يعرف كذا وكذا، وآخر يوم يوضع الإسلام في قفص الاتهام، ويوظف الغرب نفسه محامياً ليبرئه من هذه التهم، وبالتالي بدأ طمس مفاهيم الإسلام شيئاً فشيئاً من خلال هذه الحيل الماكرة، حتى وصلت محاولات طمس الهوية الإسلامية إلى حد أن يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفوا الكلم عن مواضعه أن نمارس مثلهم هواية التحريف لكلام الله؛ حيث كان من محاور اتفاقية (كامب ديفيد): ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في الإسلام، ونظفوا الإسلام من المفاهيم السلبية تجاه اليهود لعنهم الله، وإسحاق نافون رئيس الكيان اليهودي السابق خطب خطاباً في جامعة بن غوريون أمام السادات في (27/ 5/1979م) وقال: إن تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن الترتيبات العسكرية والسياسية، وصرح أيضاً أمام قيادات الحزب الوطني بمصر في (28/ 10/1980م) بأن أي صياغة أدبية أو دينية تخالف التصورات الإسرائيلية تعد مساساً بالسلام الإسرائيلي! ويقصد بالصياغة الأدبية والدينية القرآن الكريم، والآيات التي تفضح اليهود وتكشفهم. إذاً: يحرص هؤلاء على هويتهم، وفي نفس الوقت يجتهدون في تذويب هويتنا الإسلامية. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الهوية الإسلامية [2]

الهوية الإسلامية [2] إن أعداء الإسلام سواء كانوا من الداخل أو الخارج يحاولون جاهدين أن يطمسوا ويستأصلوا الهوية الإسلامية من المسلمين، ولهم في ذلك وسائل شتى، ولذا كان لزاماً على جميع المسلمين التيقظ والحذر من مخططات أعدائهم، كما يجب عليهم الحفاظ على هويتهم، وتجديد ما اندرس منها.

أعداء الهوية الإسلامية من الخارج

أعداء الهوية الإسلامية من الخارج إن أعداء الإسلام يحرصون على هويتهم، وفي نفس الوقت يجتهدون في تذويب هويتنا الإسلامية؛ فما يحرمونه علينا يحلونه لأنفسهم. فهذا نيكسون وهو من أخطر رؤساء أمريكا؛ لأنه رجل مفكر، وله أيدلوجية، وهو منظّر، وليس رئيساً عادياً، يقول في كتابه (انتهز الفرصة): إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب! فهذا معناه: أنهم ينظرون إلى موضوع الهوية الإسلامية أنها تهدد الهوية الغربية؛ فهي مسألة حياة أو موت بالنسبة إليهم. ويقول أيضاً نيكسون: إن العالم الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين. وبلغ إعجاب كلينتون بالهوية الأمريكية وبعبارة أخرى نقول: بلغ من اغتراره بهذه الهوية أن وجد في نفسه الجرأة بأن قال: إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً بتحويل العالم إلى صورتنا، قالها بالإنجليزية: ( To transfer the world in our image). ولكم أن تتخيلوا كيف تكون صورة هذا العالم الذي يكون نسخة من الغابات المتحدة الأمريكية! ومساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار جنسون لشئون الشرق الأوسط حتى سنة (1967م) يقول: إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي فلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي لفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها. إذاً: الصراع في الحقيقة هو صراع هوية وتذويب، ومنذ زمن قال أحد المسئولين في وزارة الخارجية الفرنسية: ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي؛ فهي حلقة لاحقة لحلقات سابقة، وإذا كان هناك خطر من الشيوعية فهو خطر سياسي عسكري فقط، ولكنه على أي حال ليس خطراً حضارياً تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي؛ والمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، وهم جديرون بأن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب، وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب، فإذا أصبح لهم علمهم، وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الفتي، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية، ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ. هذا كلام مسئول في وزارة الخارجية الفرنسية، فانظر كيف فهموا قضية الهوية! هذه حقيقة كل ما يجري الآن وما جرى من قبل وما سيجري -والله أعلم- فيما بعد. وقد حصل صراع سياسي في كندا بين المتحدثين بالإنجليزية وبين المتحدثين بالفرنسية الذين كانوا يريدون الاستقلال بهذه المقاطعة، وهذا كله صراع من أجل الهوية. وفرنسا رفضت التوقيع على الجزء الثقافي من اتفاقية الجات، والذي يضمن للمواد الثقافية الأمريكية أن تباع بفرنسا بمعدلات اعتبرها الفرنسيون تهديداً صارخاً لهويتهم القومية، وطالبوا بتخفيض هذه المعدلات انطلاقاً من الحرص على الهوية، مع أنهم في الهوى سوى!

تمسك اليهود بهويتهم الدينية

تمسك اليهود بهويتهم الدينية أما تمسك يهود بهويتهم الدينية فحدث ولا حرج، فإن دولتهم اللقيطة لم تقم إلا على أساس خالص من الدين اليهودي؛ فهي تحمل اسم نبي الله يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإن كان هو بريئاً منهم براءة الذئب من دم ابنه يوسف عليهما السلام. وإسرائيل ليس لها دستور؛ لأن دستورها هو التوراة، فالدستور في إسرائيل هو التوراة، واليهود يتشبثون بتعاليم التوراة، ويعضون عليها بالنواجذ في مجالات العلم والدين والسياسة والاجتماع، وفي حياة الفرد اليومية، حتى اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة بعثوها من مرقدها، حتى صاروا يتعاملون بها، ولم يقل لهم أحد: إن العبرية لها مدة ألفي سنة منقرضة، ولن تتسامى إلى العلم الحديث، كما يزعم المستشرقون في شأن اللغة العربية الآن، واليهود يدرسون بالعبرية الطيران والصواريخ وكل العلوم، مع أنها لغة ميتة، فمنذ ألفي سنة انقرضت العبرية، ولكنهم بعثوها من مرقدها، وألفوا بها أدباً نالوا به ما يسمى " بجائزة نوبل ". وعندما أراد اليهود إقامة سفارة لهم في القاهرة أصروا على أن يكون موقعها على الجهة الغربية من النيل، ولم يرضوا أن يكون لهم أي مبنى على الجهة الشرقية؛ احتراماً لعقيدتهم في أن حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية من نهر النيل. وعلم دولتهم فيه خطان أزرقان إشارة إلى النيل والفرات، ومنطقة السيادة بينهما عليها النجمة السداسية المسماة بنجمة داود. وفي جامعة تل أبيب عقدت ندوة في (19/ 2/1983م) حول دعم علاقة السلام بين مصر وإسرائيل، أثار اليهود فيها موضوع ما ورد في القرآن الكريم من اتهامات ضد اليهود، وتناقل هذا في مطبوعات أخرى بمصر، فقام الدكتور مصطفى خليل معتذراً إلى اليهود فقال: إننا في مصر نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية! فرد عليه ديفيد سيفان قائلاً: إنكم -أيها المصريون- أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط! فلو نظرنا إلى مكائد الغرب في هوياتنا المسلمة لعلمنا أن النسبة الأعلى هي طمس الهوية الإسلامية باستبدالها بأي هوية أخرى، سواءً كانت هوية وثنية أو قومية أو هوية قطرية تفتتنا وتشتتنا، أو هوية عالمية تميع انتماءنا بديننا، المهم هو أن تمحى الهوية الإسلامية المتميزة؛ كي يحال بيننا وبين أن يكون الإسلام عماد الحاضر والمستقبل، وكي نصير كمن قيده عدوه بعد أن جرده من سلاحه وانتزع أظفاره وخلع أسنانه، ثم وضع الغل في عنقه والقيد في معصمه، وإذا به يطالبنا أيضاً أن نشكر له هذا الصنيع، ونفخر بهذا الغل، ونتباهى بهذا القيد، ونعتز لأننا عبيد لهذا السيد!

أعداء الهوية الإسلامية من الداخل

أعداء الهوية الإسلامية من الداخل تقدم يتعلق بأعداء الهوية من الخارج على سبيل اختصار، فماذا عمل أعداؤها من الداخل؟ تشويه الهوية وإضعافها عمل إجرامي تآمري ينحط إلى مستوى الخيانة العظمى لأمة التوحيد. يقول الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر السابق رحمه الله تعالى: إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة كبرى وجناية عظمى. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من غير منار الأرض فكيف بمن يغير هوية أمة، ويضلها عن طريق النجاة؟! إن التاريخ المعاصر حافل بنماذج بشعة من ممسوخي الهوية الذين كانوا يخربون هويتهم بأيديهم، ونذكر بعضهم على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فما زالت الشجرة الخبيثة تخرج نكداً.

مصطفى كمال أتاترك وجهوده في مسخ الهوية الإسلامية

مصطفى كمال أتاترك وجهوده في مسخ الهوية الإسلامية أول ما يقفز إلى أذهاننا من ممسوخي الهوية مصطفى كمال أتاترك الذي مسخ هوية تركيا الإسلامية بالقوة والقهر، وكان يقول كثيراً: وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان في البحر! وهو الذي ألغى الخلافة الإسلامية، وكان يحسد الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد سمع مرة المؤذن يؤذن فقال: ما أعظم الشهرة التي بلغها هذا الرجل! لقد ألغى الخلافة، وعطل الشريعة، وألغى نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد، وألغى المحاكم الشرعية، والمدارس الدينية، والأوقاف، وألغى الأذان باللغة العربية، وجعله بالتركية، وألغى الحروف العربية واستبدلها باللاتينية، وكان يقول: انتصرت على العدو، وفتحت البلاد، فهل أستطيع أن أنتصر على الشعب؟! فانظروا إلى هذا بمثل هذه النفسية ماذا يتوقع منه؟ لقد جاء بالعجب العجاب! نشرت الأهرام بتاريخ (15/ 2/1968م) وثيقة نقلتها عن جريدة: (صانداي تايمز) تحت عنوان: كمال أتاترك رشح سفير بريطانيا ليخلفه في رئاسة الجمهورية التركية! حتى الهوية القومية ما أخلصوا لها، وما رعوها حق رعايتها، قالت الصحيفة: إنه في نوفمبر سنة (1938م) كان أتاترك رئيس تركيا يرقد على فراش الموت، وكان يخشى ألا يجد شخصاً يخلفه قادراً على استمرار العمل الذي بدأه، فاستدعى السفير البريطاني بيرج لودن إلى قصر الرئاسة في اسطنبول، وعرض عليه أن يخلفه في منصب رئيس الجمهورية، وبلباقة رفض السفير، وأبرق إلى وزير خارجيته بما دار بينه وبين أتاترك! فانظروا إلى ممسوخ الهوية كيف يصل به الحال!

نماذج من جهود بعض عملاء الغرب في طمس الهوية الإسلامية

نماذج من جهود بعض عملاء الغرب في طمس الهوية الإسلامية هناك نموذج آخر من تركيا أيضاً وهو: آغا أوغلي أحمد أحد غلاة الكماليين الأتراك يقول: إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم! ونحن نقول له: هنيئاً لك!! ومثله لطفي السيد خصم العروبة وخصم الوحدة الإسلامية، وصاحب شعار مصر للمصريين، وصاحب النعرة الفرعونية، لن نتحدث كثيراً عن لطفي السيد، لكن أتحدث فقط عن موقف يكشف عداءه للهوية الإسلامية: كان لطفي السيد يصف نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة المصرية بأنه النص المشئوم!! وذكر الشيخ محمد الخضر الحسين رحمه الله تعالى شيخ الأزهر الأسبق حكاية عن رجل لم يذكر اسمه فقال: وقد وصل ببعضهم الانحطاط في هوى الأجانب، والانغماس في التشبه بهم، أن اقترح في غير خجل قلب هيئة المساجد إلى هيئة الكنائس -أي: أن نغير شكل المساجد إلى شكل كنائس- وتغيير الصلوات ذات القيام والركوع والسجود إلى حال الصلوات التي تؤدى في الكنائس! ثم علق الشيخ الخضر الحسين رحمه الله تعالى على ذلك الاقتراح بقوله: وهذا الاقتراح شاهد على أن في الناس من يحمل تحت ناصيته جبيناً هو في حاجة إلى أن توضع فيه قطرة من الحياء. ومثلهم طه حسين عميل التغريب وداعية التبعية المطلقة للغرب، فـ طه حسين أقر كلمة قالها أحد الطلبة عنده يوماً حيث قال: لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه! إنها هوية فرعونية! وأيضاً طالب عميد التغريب طه حسين أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أنداداً، ونقول: بل ستكونون عبيداً؛ إذ لا يمكن أن يسمحوا لكم أن تكونوا أنداداً، فهو طالب أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد وما يُعاب! ولذلك قال مستشرق يدعى ماتريون: لو قرأنا كلام طه حسين لقلنا هذه بضاعتنا ردت إلينا! ومثلهم محمود عزمي الذي كان يكره الحجاب ويمقته مقتاً شديداً يقول: سبب مقتي للحجاب مقتاً شديداً هو اعتباره من أصل غير مصري، ودخوله إلى العادات المصرية عن طريق تحكم بعض الفاتحين الأجانب، فكان حنقي على أولئك الأجانب الفاتحين الإسلاميين يزيد! إنها أزمة هوية، والقائمة طويلة، وفيها نماذج مخزية جداً، ومن رءوسهم أيضاً: سلامة موسى، ولويس عوض، وجرجي زيدان، وفرج فودة، وحسين أحمد أمين، وزكريا نجيب محمود وغيرهم، لا كثر الله سوادهم!

ذكر بعض المدافعين عن الهوية الإسلامية

ذكر بعض المدافعين عن الهوية الإسلامية وفي الجهة المقابلة في معركة الهوية هناك فرسان دافعوا عن الهوية الإسلامية، وهم كثر ولله الحمد، كما قال عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، وعلى رأسهم رجل كل العصور شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولـ شيخ الإسلام جهد مشكور في صيانة الهوية الإسلامية، ويتجلى ذلك أعظم ما يتجلى في كتابه الرائع " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ". ومنهم في هذا العصر الأديب البارع مصطفى صادق الرافعي، ومنهم الدكتور محمد محمد حسين، ومنهم الأديب العملاق الأستاذ محمود شاكر رحمه الله تعالى، ومنهم الشيخ أبو الحسن الندوي حفظه الله، وهكذا سائر العلماء والمفكرين والدعاة في كافة بلاد العالم الإسلامي.

مجالات الهوية التي يحاول الأعداء طمسها

مجالات الهوية التي يحاول الأعداء طمسها

زعزعة العقيدة وإضعافها أحد أساليب طمس الهوية

زعزعة العقيدة وإضعافها أحد أساليب طمس الهوية المجالات التي كانت مسرحاً لطمس الهوية كثيرة جداً، والأساليب أيضاً كثيرة: وأول هذه المجالات العقيدة؛ لأن العقيدة هي خط الدفاع الأول، فإذا انهار ينهار كل شيء بعد ذلك، فكانت أحد أساليب طمس الهوية إضعاف العقيدة وزعزعة الإيمان بزرع الصراعات الفكرية التي تشوش الأفكار وتشتت الأذهان، وإحياء الفلسفات المضادة للتوحيد، وإحياء التصوف الفلسفي، ونشر تراث الفرق الضالة كالباطنية والمعتزلة والرافضة، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة الشريفة، وهدم الثقة في السلف الصالح، والتركيز على عرض ما يناقض التوحيد بصورة تغري بالإلحاد كنظرية داروين مثلاً، وعرض تاريخ الأمم الوثنية كالفراعنة وغيرهم دون أي نقد؛ لا لتستبين سبيل المجرمين، ولكن لنعتز بسبيل المجرمين، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] أي: كي تتجنبوها، أما نحن فنفصل سبيل المجرمين إعجاباً به، حتى إن الطلبة في المدارس كانوا يحفظون اسم إله كل محافظة في مصر القديمة، وكانوا يحفظون الأناشيد التي كانت يُعبد بها هذا الإله دون أي كلمة خدش أو نقد، فأين نحن من سلوك يوسف عليه السلام حينما سُجن في مصر فكان داعياً إلى التوحيد، كما حكى الله عنه أنه قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:39 - 40]، فيوسف عليه السلام افتخر بانتمائه إلى أمة التوحيد وإلى هوية الإسلام، كما قال عنه سبحانه: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف:37 - 38] إلى آخر الآية.

تغيير مناهج التعاليم الإسلامية من أساليب طمس الهوية الإسلامية

تغيير مناهج التعاليم الإسلامية من أساليب طمس الهوية الإسلامية من هذه الأساليب: تسميم الآبار المعرفية التي تستقي منها الأجيال من المهد إلى اللحد، وأنا أذكر حادثة حصلت من مدة عبر بها أحد الإخوة عن مظاهر طمس الهوية: كان السادات في مرحلة من المراحل ديمقراطياً، لكن جاءت فترة لم يتحمل وقال: الديمقراطية لها أنياب، وهي شرسة تعض وهكذا. فالحقيقة أن هناك محاولة لمسخ الهوية الإسلامية تماماً عن طريق تخريب مناهج التعليم بكافة مراحله، هذه أخطر مؤامرة ضد الهوية الإسلامية في هذا الوقت الآن، وهم يسمونها -بكل صراحة- تجفيف منابع الإسلام! هذه المؤامرة لم تبدأ اليوم، بل هي قد بدأت منذ أكثر من قرن، ولم تبدأ من الصفر، لكنها تستمد من معين المنطلقات التي صنعها الاستعمار والاستشراق والتبشير، وقد تمكن في عشرين عاماً مضت من تخريب العقول والنفوس والضمائر والعواطف من خلال سياسته التعليمية بصورة ما كانت تحلم بريطانيا بتحقيق ربعها، ولو جندت في سبيل ذلك مليون جندي بريطاني! وهذا كرومر رائد التغريب في مصر يقول: الحقيقة أن الشباب المصري الذي قد دخل في طاحون التعليم الغربي، ومر بعملية الطحن يفقد إسلاميته، وعلى الأقل أقوى عناصرها وأفضل أجزائها؛ إنه يتجرد عن عقيدة دينه الأساسية. وهذا المستشرق جب يقول: والتأثير الحقيقي في الحكم على مدى التغريب هو أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي، وعلى المتابيع الغربية، وعلى التفكير الغربي، هذا هو السبيل الوحيد، ولا سبيل غيره. وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين، وبعبارة أخرى: التعليم الغربي اللاديني هو عبارة عن الحامض الذي يذيب شخصية المسلم، فمناهج التعليم بالنسبة للهوية تفعل مثلما يفعل الحامض في تذويب هذه الهوية، وبعض الكتاب من شعراء باكستان القدامى كان له شعر ينتقد فيه مناهج التعليم الغربية، ويذكر خطرها على الهوية فيقول ما معناه: إن فرعون كان بليداً بالنسبة لما تفعله مناهج التعليم الغربية؛ لأن فرعون استجلب لنفسه الخزي والعار؛ لأنه كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، قال: ولو أنه هداه تفكيره إلى هذا الأسلوب من أساليب التعليم لاستغنى عن ذبح الأبناء تماماً، ولما تلطخت سمعته بهذا العار الذي لحق به، فإن هذا كان سيحقق له هدفه، ويقضي على الإسرائيليين بدون أن يناله هذا اللوم.

من أساليب طمس الهوية الإسلامية: فك ارتباط الأمة بتاريخها المجيد

من أساليب طمس الهوية الإسلامية: فك ارتباط الأمة بتاريخها المجيد من هذه الأساليب: محاولة محو ذاكرة الأمة وارتباطها بتاريخها المجيد؛ لأن التاريخ هو خميرة المستقبل، وتمجيد كل ما هو غربي وتحقير كل ما هو إسلامي يمحو الهوية الإسلامية؛ حتى إن جرجي زيدان له سلسلة التاريخ الإسلامي، وكلها مشوهة، وكلها كذب وتشويه، عملها لأداء هذه الوظيفة، التي هي احتقار التاريخ الإسلامي، حتى نصر المسلمين في الأندلس ألّف فيه قصة كاذبة فقال: إن انتصار المسلمين نشأ عن أن واحداً من الأسبان كان يعشق واحدة من المسلمات، وأنه دخل في جيش المسلمين وانضم إليهم، وكان هو سبب حصول هذا النصر؛ وإذ بمجرد انضمامه فتحوا الأندلس!! يقول هذا حتى يُظهر أن نصر المسلمين في الأندلس ليس نصراً عقائدياً، وإنما هذا الأجنبي هو الذي جعلهم ينتصرون!! وهذا كلام كذب، وقصة فتح الأندلس قصة معروفة. فعملية محو ذاكرة الأمة تعني فك ارتباطها بتاريخها السابق، وتمجيد كل ما هو غربي، وتحقير كل ما هو إسلامي، ومزاحمة رموز الإسلام برموز ضلالات التنوير والحداثة والعصرانية، وعرض أنماط الحياة الاجتماعية في الغرب بكل مفاسدها وسوءاتها بصورة جذابة ومغرية، وأن النموذج الأمثل في أن نقلد العادات الغربية، ونشرب الخمر، ونتهاون في الفواحش، ونلبس ملابسهم، ونتكلم بطريقتهم، وهذه هي عملية التذويب والقضاء على الهوية الإسلامية. يقول مستشرق فرنسي يدعى تشاتليه: إذا أردتم أن تغزو الإسلام، وتكسروا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها والتي كانت -أي: العقيدة- السبب الأول الرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم؛ فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية؛ بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها!! فانظر إلى هؤلاء الذين يفرحون بالغرب؛ فإن الغرب أنفسهم يعتبرونهم السذج المغفلين البسطاء، هكذا نظرتهم لمن يبيعون هويتهم ويتنازلون عنها!

من أساليب طمس الهوية الإسلامية: بث الجهل في العلوم الدنيوية

من أساليب طمس الهوية الإسلامية: بث الجهل في العلوم الدنيوية أيضاً من هذه الأساليب: تجهيل العلم، فالعلم أعظم النعم، وإذا قطعت صلة الروح بالله سبحانه وتعالى يفقد العلم صلته بالخالق، ودلالاته على التوحيد، ولا نتكلم عن ذبح العلم الشرعي الآن، وإنما نتكلم عن العلوم الحديثة، فهذا العلم هو أكبر وأقوى مؤيد لدعوة التوحيد الفطرية، والعلم صراحة مبدأ يكشف لنا عن آيات الله التي أمرنا بأن ننظر فيها، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، وأمرنا بأن ننظر فقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]، فكل هذه الدلائل تؤكد حقية دين الإسلام، وبطلان ما عداه من الأديان، وأنه هو الطريق الوحيد للسعادة والنجاة، فالعلم هو في أصله يخدم التوحيد، ويخدم دين الإسلام أعظم خدمة، فماذا يفعلون؟ يعمدون إلى تجاهل تذكيرك الله، وإن شئت فافتح كتاب طبيعة أو كتاب إحياء أو أي شيء من هذا، مع أن كل هذا خلق الله، وكل هذه السنن هي سنن الله، وهذه القوانين وضعها الله العالم، وقبل أن تكتشف هذه القوانين بملايين السنين هي تعمل، فمن الذي وضع هذه القوانين؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولكنهم يتعمدون تجاهل ذكرك بالله، وإذا واحد ذكر اسم الله يقال عنه: إنه لا يحترم المنهج العلمي، وهذا يتكلم عن الغيبيات، ونحن لا نعترف إلا بالأمور الحسية! لقد قطعت صلة الاعتقاد بالله عز وجل، وبالتالي لم يعد العلم كما كان ينبغي أن يكون خادماً لدعم التوحيد وللهوية الإسلامية، فيعمدون إلى نسبة الآيات الكونية إلى الطبيعة، والطبيعة عملت، والطبيعة كذا، ويريدون محاولة عزو أحداث الكون إلى الظواهر الطبيعية دون ربطها بمشيئة الله وقدرته عز وجل.

من أساليب طمس الهوية الإسلامية: التآمر على اللغة العربية

من أساليب طمس الهوية الإسلامية: التآمر على اللغة العربية ومن ذلك أيضاً: التآمر على اللغة العربية لشدة ارتباطها بالقرآن والإسلام، وأثرها في وحدة الأمة، وذلك عن طريق تشجيع اللهجات العامية، والمطالبة بكتابتها بالحروف اللاتينية، وتشجيع اللغات الأجنبية على حساب لغة القرآن الكريم، وتطعيم القواميس العربية بمفاهيم منحرفة كقاموس (المنجد)، والطعن في كفاءة اللغة العربية وقدرتها على مواكبة التطور العلمي. وإذا كانت الثقافة هي مجموع القيم التي ارتضتها الجماعة لنفسها لتميزها عن غيرها من الجماعات فإن اللغة هي وعاء الثقافة، ومظهرها الخارجي الذي يميزها، ولغة المسلمين والعرب ليست مجرد لغة قومية كأي لغة أخرى، لكنها لغة دينية، بمعنى: أنها توحد حولها جميع المسلمين عرباً وعجماً؛ إذ هي لغة القرآن الكريم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقال المرتضى: من بغض اللسان العربي أداه بغضه إلى بغض القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كفر صراح، وهو الشقاء الباقي نسأل الله العفو. اللغة لها دور عظيم في توحيد وتماسك الهوية الإسلامية، وتوحيد الأمة الإسلامية، وأنا سأضرب مثالين يوضحان لنا هذه الحقيقة، وللأسف الشديد نضطر لذكر أمثلة من غير المسلمين: المثال الأول: نضربه بإيرلندا التي رزحت تحت الاحتلال الإنجليزي منذ أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وذاقت من الاحتلال الإنجليزي الويلات، خصوصاً على يد كرومويل الذي أعمل السيف في رقاب الإيرلنديين، وشحن عشرين ألفاً من شبابهم، وباعهم عبيداً في أمريكا، ونفى أربعين ألفاً خارج البلاد، وتمكن من طمس هويتهم بمحو اللغة الإيرلندية، وتزويدهم بالمجتمع البريطاني. لما حاول بعض الوطنيين الإيرلنديين بعث أمتهم من جديد وبعث الهوية الإيرلندية من جديد أدركوا أن هذا لا يتم ما دامت لغتهم هي اللغة الإنجليزية، وما دام شعبهم يجهل لغته التي تميز هويته، وتحقق وحدته، وأسعفهم القدر بمعلم يتقن لغة الآباء والأجداد دفعه شعوره بواجبه إلى وضع الكتب التي تقرب اللغة الإيرلندية إلى مواطنيه، فهبوا يساعدونه في مهمته؛ حتى انبعثت لغتهم الإيرلندية من رقادها، وشاعت وصارت النواة التي تجمع حولها الشعب، فنال استقلاله، واستعاد هويته، وكافأ الشعب ذلك المعلم باتخاذه أول رئيس لجمهورية إيرلندا المستقلة، وهو الرئيس (ليبليرا) ما الذي وحدهم؟ وما الذي أعاد عليهم الهوية؟ إنها اللغة. المثال الثاني: ألمانيا كانت مقاطعات متفرقة متنابذة إلى أن هب (هاردن) الأديب الألماني الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، هب ينادي بأن اللغة هي الأساس الذي يوحد الشعوب، والنواة التي تؤلف بينها، فانطلق الأدباء يعكفون على تراثهم القديم أيام كانوا أمة واحدة، وقاموا بإنعاش تراثهم الأدبي، ونسجوا حوله قصصاً وبطولات شحذت ألباب الشباب، وتغنوا بجمال بلادهم وأمجاد أسلافهم، فتجمعت عواطفهم على حب الوطن الكبير، وتطلعت نفوسهم إلى الانضواء تحت لواء هوية ألمانية واحدة، وهو الأمر الذي مهد الطريق أمام بسمارك بتعبئة الشعور القومي وتوحيد ألمانيا وإقامة الإمبراطورية الألمانية التي كان بسمارك أول رئيس وزراء أو مستشاراً لها. فإذا علمت هذا علمت كيف توحد سلوك يهود مع لغتهم العبرية التي انقرضت لمدة ألفي سنة ثم أعادوها من رقادها. وإذا علمت هذا فاسمع وتعجب من المستشرق الألماني الذي يقول في شماتة: إن تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً؛ فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، وإن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية.

إحياء الأساطير الوثنية والتنقيب عن الآثار الشركية من عوامل طمس الهوية الإسلامية

إحياء الأساطير الوثنية والتنقيب عن الآثار الشركية من عوامل طمس الهوية الإسلامية من هذه الأساليب: الاهتمام المبالغ فيه بإحياء الأساطير الوثنية والخرافات الشركية، والتنقيب والحفريات عن الآثار الوثنية التي تبرز الهوية غير الإسلامية أو السابقة، كالفينقية أو الفارسية أو الفرعونية أو الكلدانية، وتسليط الضوء عليها لردها إلى الحياة، وربطها بالحاضر بصورة تزاحم بل تتعارض مع الانتماء الإسلامي، وهذا التراث مهما يكن فإن الإسلام يجب ما قبله، وهذا التراث مهما يكن فإن الإسلام قد نسخ كل دين قبله ولو كان أصله سماوياً، فكيف لا ينسخ الأديان الوثنية؟! إن اعتناق أي أمة للإسلام يشكل فاصلاً عقيدياً وحاجزاً فكرياً بين ماضٍ وثني وبين حاضر ومستقبل مشرق بنور الفطرة والتوحيد. وهذه الهوية السابقة الجاهلية قضى عليها الإسلام حين صهرها في بوتقة الوحدة الإسلامية. وما أكثر ما تستغل هذه الآثار في دعم النعرات الإقليمية لكل قطر، واستعلائه بآثاره وأحجاره الخاصة! وفي ذلك أعظم الخطر على الهوية الإسلامية. ولن ننسى أيضاً أن نذكر شاهداً من أهلها، وهو المستشرق جب في كتابه (وجهة الإسلام) حيث يقول: وقد كان من أهم مظاهر فرنسة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي إيران، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا من القومية، لكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً في تقوية الوطنية الشعوبية، وتدعيم مقوماتها، لكن في المستقبل سيضعف الإسلام، وستضعف الهوية الإسلامية! من ذلك أيضاً طمس المعالم التاريخية والحفريات التي تصحح تاريخ العقيدة، والتي تكشف أن التوحيد هو الأصل، وأن الشرك طرأ عليه. وكذلك طمس الوثائق التي تثبت التحريف في كتب أهل الكتاب، والتي تدعم الإسلام وتؤيده.

الدعوة إلى السامية ودورها في طمس الهوية الإسلامية

الدعوة إلى السامية ودورها في طمس الهوية الإسلامية نذكر رأياً موضوعياً عابراً، وهو: مؤامرة تزييف تاريخ الإبراهيمية الحنيفية؛ لأن جذور الإسلام هي الإبراهيمية الحنيفية؛ وذلك التزييف يأتي عن طريق الدعوة إلى نشر فكرة السامية، والسامية فكرة تركز على أن هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود، ويحاولون أن يأتوا بجذور بعيدة جداً عن الجد لإبراهيم، فهم لا ينسبوننا إلى إبراهيم عليه السلام، وملة إبراهيم. واليهود الآن شجعوا فكرة السامية، وذلك عن طريق تركز هذه الفكرة على القول بأن هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود وهو سام بن نوح؛ في حين أن القصد الحقيقي من ورائها هو التعمية على انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأعدوا تاريخ إسماعيل وذريته إلى مصدر غامض ليس له سند عملي؛ وبالتالي يحصل صرف الأنظار عن هويتنا الحقيقية التي هي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، والتي أولاها القرآن الكريم أعظم اهتمام، ونسبنا إليها، وحثنا على اتباعها، وبرأ إبراهيم من كونه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً. وطه حسين قدم خدمة جليلة لليهود في هذا الموضوع؛ لأن طه حسين شكك في صحة وجود شخصية اسمها إبراهيم أو إسماعيل، وقال في حكاية الكعبة ورحلة إسماعيل إلى الكعبة: هذا كله قضية مفبركة! يعني: هذه عبارة عن واحد حاول يألفها لأجل أن يربط بيننا وبين إبراهيم وإسماعيل، هذا كلام طه حسين، وقال: إن للقرآن أن يحدثنا ما شاء عن إبراهيم وإسماعيل، وللإنجيل وللتوراة أن تحدثنا ما شاءت عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن ورود هذين الاثنين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات حقيقتهما التاريخية! فالله المستعان! إذاً: موضوع السامية من عناصر هذه المؤامرة.

الدعوة إلى القومية من أساليب طمس الهوية الإسلامية

الدعوة إلى القومية من أساليب طمس الهوية الإسلامية من ذلك أيضاً محاولة تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً قومياً عربياً كما يفعل البعثيون، فالبعثيون يريدون أن يبتلعوا الإسلام في بطن القومية، ويظنون أن الإسلام هو مجرد مرحلة في تاريخ العروبة، ومحمد بطل عربي حقق المجد العربي بالدين والجنة والنار وهذه الأشياء، فهم كانوا يقولون: فحي على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم! ويقول الشاعر الآخر: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني فبعضهم كان يحاول أن يصور أن الإسلام هو مرحلة من المراحل في تاريخ العروبة فقط.

تشويه التاريخ الإسلامي أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية

تشويه التاريخ الإسلامي أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية من الأساليب أيضاً: تاريخ الإسلام على أنه تاريخ صراع بين الطبقات (البروليتاريا) وغيرها على الطريقة الماركسية. وبعضهم يصوره على ضوء تاريخ صراع ومناوآت بين الأمراء والحلفاء؛ وكل هذا كي يحال بين الأمة الإسلامية وبين اتخاذ تاريخها الحقيقي منطلقاً للنهوض من كبوتها. فإذا كانت كل هذه المناهج مناهج خاطئة في تفسير التاريخ فما هو المنهج الوحيد الصحيح والمثمر ثمرة نافعة وحقيقية في تفسير التاريخ؟ A هو النظر إلى كل التاريخ البشري على أنه تاريخ دين سماوي واحد هو الإسلام، من لدن آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام، وهو تاريخ الرسالات السماوية المتعددة الداعية إلى دين واحد هو دين الإسلام بمعناه العدل، فهذا هو الموقف الصحيح من قضية التاريخ. إن التاريخ عبارة عن مواقف الأمم إزاء الرسل الذين دعوهم إلى التوحيد، وكيف أهلك الله الأمم التي نفرت من التوحيد، وكيف أعز الأمم التي قبلت التوحيد، وكيف أن هذه الآثار تدل على أن الله أهلك الذين حادوا عن التوحيد، وهكذا. ومحور التفسير الحقيقي للتاريخ هو: أن التاريخ دين الإسلام الذي بعث الله به جميع الأديان والرسالات، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. فمنذ بداية آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها والتاريخ هو عبارة عن تاريخ الدعوة الإسلامية والهوية الإسلامية ما بين من قبلوها وانضموا إلى حزب الله وبين من رفضوها وكانوا من أحزاب الشيطان.

طمس المعالم التاريخية الإسلامية أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية

طمس المعالم التاريخية الإسلامية أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية من هذه الأساليب: طمس المعالم التاريخية التي تؤكد الانتماء الإسلامي، كما فعل النصارى في الفردوس المفقود في الأندلس؛ حيث حولوا المساجد إلى كنائس، وقاموا بالتطهير العرقي بالذبح. وكما فعل أتاترك حين حول مسجد أيا صوفيا إلى متحف وإلى بيت للأوثان، وطمس منه آيات القرآن والأحاديث، وأظهر ما كان الفاتحون المسلمون قد طمسوه من الصور التي زعم النصارى أنها للملائكة، وكانوا يسمونهم الصديقين والصبان والنقوش النصرانية. وكما فعلت الوحوش الصربية في البوسنة حيث كانت تختار بعناية المواريث التاريخية الإسلامية، ثم يتم قصفها وتدميرها؛ لتطهير الذاكرة الجماعية لشعب البوسنة من رموز الهوية الإسلامية ومعالم حضارتها. وكما يفعل اليهود لعنهم الله بالقدس وغيرها من مناطق فلسطين المحتلة. ومثل هذا ما عاناه المسلمون في بلغاريا، ومن أخف ما عانوه قهرهم على تغيير الأسماء الإسلامية لمحو الهوية الإسلامية، وحصلت محن شديدة بسبب هذا الأمر. ونحن الآن نرى أنه بدء المسلمون يشيع فيهم بسبب تمييع الأفلام أسماء غير إسلامية، بل قد تصل إلى أسماء علمانية، لقد انتشرت علمنة الأسماء؛ حتى إن بعض من يتسمى بهذه الأسماء لا تدري هل هو مسلم أم نصراني أم غير ذلك! فتجد بعض الأسماء المحايدة التي لا تعلن عن الهوية الإسلامية بصورة واضحة وصريحة، ولن نذكر أمثلة حتى لا نحرج أحداً.

النشاط التنصيري ودوره في طمس الهوية الإسلامية

النشاط التنصيري ودوره في طمس الهوية الإسلامية من هذه الأساليب: النشاط التنصيري، وهو أخطر عملية لطمس الهوية؛ لأنه التحويل من الهوية الإسلامية إلى الكفر، وهو أسلوب رخيص؛ إذ يستغلون الفقر والمرض، كما حدث ويحدث بالذات في إندونيسيا، وكما يحدث في التعليم في المدارس الأجنبية؛ حيث كانت هناك دعوة صريحة للتنصر، لكن الآن تم تطوير أساليب هذه المدارس الأجنبية، حيث تكتفي الآن بقطع صلة التلاميذ بالإسلام، وتذويب وتحقير هويتهم الإسلامية، وصبغهم بصبغة غربية، ولذلك قال أحدهم: المبشر الأول هو المدرسة! لكن الآن مثلاً: الجامعة الأمريكية هي جامعة تبشيرية إنجيلية، كان اسمها الجامعة الإنجيلية. وكل الأنشطة التنصيرية فشلت فشلاً ذريعاً في كل بلاد المسلمين بحمد الله. وهم دائماً يعودون بالخيبة والخسران، ولا يكسبون غير واحد مهوس أو جاهل. ولما فشلوا عملوا حيلة دفاعية أخرى، كما يقال: إن الذئب حاول أن يصعد على الشجرة لكي يأكل العنب، وكلما حاول فشل، فلما عجز قال: هذا العنب حامض! فهم لما فشلوا ماذا قال زويمر؟ قال: تنصير المسلمين وإدخالهم في النصرانية شرف هم لا يستحقونه، فلنغير الهدف الآن، ونجعل الهدف هو إبعاد أبنائهم عن الدين الإسلامي، ونحولهم عبارة عن أشياء ممسوخة لا هدف لها ولا عقيدة تجمعها ولا هوية لها!

إثارة القوميات والنعرات وأثرها في طمس الهوية الإسلامية

إثارة القوميات والنعرات وأثرها في طمس الهوية الإسلامية أيضاً من هذه الأساليب: استلاب الهوية الإسلامية وتشتيتها عن طريق ضربها بالهويات الأخرى، فيريدونها قومية وطنية، ثم يريدون أن يقسموا العالم الإسلامي إلى: عالم عربي وعالم غير عربي، ثم العالم العربي يقسمونه إلى عدة بلدان، ثم يثيرون نعرات إقليمية داخلية في البلد الواحد، حتى إنهم أخيراً حاولوا أن يبعثوا الروح القومية النوبية في مصر، حيث يقولون: النوبيون أصلهم يرجع إلى الجذور اليهودية! وفي الجزائر يقومون بتشجيع اللغة البربرية بين وقت وآخر؛ لأن هذا كله تشتيت وإضعاف للهوية الإسلامية. وفي نفس الوقت هذه الهويات المتعددة يمكن أن تسخر من قبل أعداء الأمة في إثارة القلقلة، وتسخر لضرب وحدة المجتمع، وإثارة البلابل والفتن، كما حصل في جنوب السودان، وبالتالي تفقد الأمة تماسكها.

العولمة ودورها في طمس الهوية الإسلامية

العولمة ودورها في طمس الهوية الإسلامية من هذه الأساليب أيضاً: الترويج لدعوة العولمة، والعولمة هي: توحيد الثقافة العالمية، وهم لا يهمهم لا قومية ولا علمانية، وإنما أهم حاجة عندهم ألا نكون مسلمين، وأي حاجة تضعف الإسلام يرحبون بها؛ حتى لو تصادمت مع عقائدهم وأفكارهم، لكن أهم شيء أنها تضعف الهوية الإسلامية، فأحياناً يشجعون القوميات والنعرات الإقليمية، وأحياناً يشجعون العولمة والترويج للثقافة العالمية، والحقيقة أن العولمة قناع تختفي تحته فكرة تزويد الثقافة الغربية التي كان يعبر عنها بصراحة مطلقة فيما مضى في عهد الاستعمار: رسالة الرجل الأبيض إلى العالم الملون! أي: أن الرجل الأبيض هو الذي سيهدي هذه البشرية، والرجل الأبيض هو أرقى ما وصل إليه التطور البشري، والآن يغلفونها بكلمة العالمية، فتهدف العالمية إلى تذويب هوية الأمم، وتبخير مثلها العليا، وصهرها في أصولها، ودمج الفكر الإسلامي واحتوائه في قيم تخالف الإسلام، وفي كل شيء يحاولون أن يذوبوا الهوية، حتى في أبسط الأشياء، وأبسط العادات؛ حتى عادات الأكل والشرب أصبحت الآن تقتبس من الغرب. سئل أحد المسئولين الأمريكيين عن رأيه فقيل له: هل تتوقع أن تحصل حرب بين مصر وإسرائيل؟ فقال: يصعب على المرء أن يتصور منذ الآن أن تقوم حرب بين دولتين في كل منهما فرع للاحتلال.

التغريب ودوره في طمس الهوية الإسلامية

التغريب ودوره في طمس الهوية الإسلامية أيضاً من هذه الأساليب: التغريب الذي استمر سمة ثقافية بارزة حتى بعد أن اضطر الغرب إلى تقويض خيامه، ثم الرحيل عن بلاد المسلمين، ولكن الذي حدث أنه لم يرحل إلا بعد أن أقام وكلاءه حراساً على مصالحه ومقاصده، فرحل الإنجليز الحمر وحل محلهم الإنجليز السمر، وبعبارة شاهد من أهلها -وهو صاحب كتاب (تغريب العالم) - يقول: لقد انتقل البيض إلى الكواليس، لكنهم لا يزالون مخرجي العرض المسرحي!

استغلال قضية تحرير المرأة المزعومة في طمس الهوية الإسلامية

استغلال قضية تحرير المرأة المزعومة في طمس الهوية الإسلامية من هذه الأساليب لتذويب الهوية: استقطاب المرأة المسلمة، وخداع المرأة المسلمة، والتغرير بها بدعاوى: تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل، والترويج لفكرة القومية النسائية، وفصل قضية المرأة المسلمة عن قضية الوطن المسلم، وترويج خبر امرأة في جنوب أفريقيا اشتغلت كذا، وأخرى في كذا، فعلت كذا وكان مصر يجب أن تقتدى بكل نساء العالم، وجعلوا رابطة قومية تربط النساء؛ تربط المسلمة باليهودية بالنصرانية بعابدة الأبقار والأوثان وبالملحدة، وكأن قضيتهن واحدة، ومعتقداتهن واحدة، ومطالبهن واحدة، ومعركتهن ضد الرجل واحدة!!

الاشتغال بالترفيه والشهوات من وسائل طمس الهوية الإسلامية

الاشتغال بالترفيه والشهوات من وسائل طمس الهوية الإسلامية من ذلك أيضاً: إشغال المسلمين بالترفيه وبالشهوات، ودفع المجتمع إلى السطحية في النظر إلى الحقائق، وذلك بزيادة معدلات تعرضه للإعلام الترفيهي، مع تقليل الزمن المتاح للتأمل والتفكر والتدبر في الأحداث اليومية. إذاً: وسائل الترفيه والإعلام هذه هي آلات الجراحة النفسية المطلوبة لاستبدال الهوية ومسخها.

استغلال الأوضاع الاقتصادية في طمس الهوية الإسلامية

استغلال الأوضاع الاقتصادية في طمس الهوية الإسلامية من ذلك أيضاً: استغلال العامل الاقتصادي في تذويب الهوية؛ لأن العطاء لابد له من مقابل، وغالباً هذا المقابل لابد أن يشمل إضعاف العقيدة والتنازل عن الهوية.

الحرب النفسية على الدعوة الإسلامية: ورموزها أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية

الحرب النفسية على الدعوة الإسلامية: ورموزها أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية من ذلك أيضاً: الحرب النفسية المدعمة بالأساليب التعسفية؛ لإنهاك الدعوة إلى الهوية الإسلامية، وتنحية رموزها عن مواقع التأثير الإعلامي والتربوي، وتسليط الحملات التي تصفهم بالتطرف والإرهاب والأصولية، مع تركهم مكشوفين في العراء عرضة لانتقاد وسخرية أعداء الهوية الإسلامية؛ لكيلا يشكل الدين أي مرجعية معتبرة للأمة.

من أساليب طمس الهوية الإسلامية تقسيم الدين إلى قشور ولباب

من أساليب طمس الهوية الإسلامية تقسيم الدين إلى قشور ولباب من ذلك أيضاً: تقسيم الدين إلى قشر ولباب، وإلى شكليات وجوهر، وهذه دعوة خبيثة من لحن قول العلمانيين، وقد فصلنا الكلام فيها في مناسبة أخرى، لكن باختصار نقول للكافرين: لكم دينكم ولنا دين، أيضاً نقول: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا، فينبغي أيضاً أن نتميز في الظاهر كما نتميز عنهم في الجوهر، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138].

كيفية المحافظة على الهوية الإسلامية واسترداد ما درس منها

كيفية المحافظة على الهوية الإسلامية واسترداد ما دُرس منها ما السبيل إلى استرداد هويتنا؟ نحن حينما نتكلم على قضية الهوية لا نخترع ولا نؤسس هوية مفقودة، لكننا نريد استعادة الوعي بالهوية الموجودة، والحقيقة أن الناس لا زال فيهم الخير، والجذور موجودة، والعاطفة موجودة، والاستعداد موجود، لكنهم ضحايا هذه الأساليب التي ذكرنا، ولهذا سمعنا أن الجنود المصريين الذين ذهبوا إلى حفر الباطن أيام حرب العراق ليحاربوا جيش العراق، أول ما سمعوا أن العراق أطلق أول صاروخ على إسرائيل ظلوا يهللون ويكبرون بهذا النصر العظيم، وهذا يكشف عن المعدن الأصيل والراسخ الذي أحدثه الإسلام في جذور هذه الأمة الإسلامية، فالحقيقة أننا لا نحتاج الآن إلى أن نؤسس هوية جديدة، وإنما نحتاج إلى استعادة الوعي بالهوية الموجودة بالفعل التي صارت كصفحة مكتوبة تراكمت عليها طبقات الأتربة حتى صارت غير مقروءة؛ لأن أحداً لم يحاول قراءتها منذ زمن، فالمطلوب إزالة هذه الأتربة، واستحضار الأفكار والقيم التي يطلب الوعي بها من وراء حائط النسيان.

الإعلام ودوره في إحياء الهوية والحفاظ عليها

الإعلام ودوره في إحياء الهوية والحفاظ عليها لابد من توظيف الطاقات المتاحة، وأهمها: تدعيم الإعلام الإسلامي والدعوة الإسلامية بكافة أشكالها؛ لتحصل إحياء حركة تجديد الدين بالمنهج وفقاً للمنهج السلفي الواضح، وبمنتهى الوضوح لابد أن يكون التجديد سلفياً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) فأي انحراف عن منهج النبوة -الذي هو منهج أهل السنة والجماعة منهج السلف الصالح- لا يمكن أن يحدث تجديداً ولا تمكيناً؛ لأن في الرجوع إليه عودة إلى منابع الإسلام الصافية، بعيداً عن مخلفات القرون.

الإسلام منهج شامل كامل لكل زمان ومكان

الإسلام منهج شامل كامل لكل زمان ومكان أيضاً: إظهار أهلية الإسلام لمعضلات واقعنا الأليم، وتحرير الهوية الإسلامية من كل مظاهر الخور والتبعية والتقليل، والتصدي لمحاولات تذويب الهوية الإسلامية وقطع الصلة بالأمة بدينها؛ خاصة من خلال تخريب مناهج التعليم، وتشويه التاريخ الإسلامي، وإضعاف اللغة العربية، ومزاحمة القيم الإسلامية بقيم غربية وغير ذلك من أنشطة التبشير، لا نقول: التبشير النصراني، لكن التبشير العلماني، والغزو الفكري وتسميم الآبار الإسلامية، أو ما يطلق عليه الذين لا خلاق لهم تجفيف منابع الدين، نسأل الله أن يجفف الدم في عروقهم، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأن يريح البلاد والعباد من شرورهم. هل ستعود الهوية الإسلامية؟ وبعبارة أخرى يمكن أن يصاغ هذا Q هل سيعود إلى المسلمين مجدهم وعزهم وسيادتهم؛ لأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين العودة إلى الهوية الإسلامية وبين النصر والتمكين؟ A نعم، كما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة). وقال تعالى في صفة الذين سيسلطهم على اليهود إن عادوا إلى الإفساد في الأرض: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5] انظر إلى الهوية: (عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]. فالهوية هي العبودية لله، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الهوية الإسلامية ستكون هي هوية الذين يقاتلون اليهود ويهزمونهم ويؤدبونهم؛ حتى إن الحجر والشجر سيتعاطف مع المسلم بهويته الإسلامية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلون اليهود؛ حتى إن الحجر والشجر يختبئ خلفه اليهودي يقول: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) والغريب أن اليهود الآن يستكثرون من زراعة نبات الغرقد في فلسطين! فالإسلام هو عبادة الله وحده، وهو مفتاح النصر والتمكين، أما شعارات الدجاجلة الذين يتبعون الذين كفروا، والذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا؛ فهؤلاء ستدركهم سنة الله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، وهؤلاء الضالون المضلون هم دعاة التغريب والقومية والعلمانية إلخ. وما أقوالهم سوى فقاقيع سنحت لها الفرصة لتطفو على السطح، ثم تتلاشى كأن لم تكن، وسينتصر الإسلام رغم أنف الجميع. إن العالم الإسلامي هو الآن الأجدر بالوصاية على المجتمع البشري بعد انسحاب الأديان الأخرى من معترك الحياة، وبعد انهيار الشيوعية الملحدة وإفلاس الغرب المادي من القيم الروحية السامية. والعالم الإسلامي له في المجد نسب عريق وطريق عميق، وله حضور تاريخي متميز، ويملك مقومات الانطلاقة المستقبلية الجادة؛ إنه صاحب القوة الكبرى الكاملة التي يحسب الغرب لها ألف حساب رغم ضعفه البادي والظاهر، ومن أجل ذلك كان للعالم الإسلامي الحظ الأوفر من مؤامرات تحطيم الهوية ومسخها، وفوق ذلك كله هو عالم إن عاد إلى هويته فهو عالم مؤهل بالثبات مؤيد بالمدد الرباني الذي لا يضعه الغرب في حساباتهم، قال تعالى مخاطباً إيانا بهذه الهوية: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].

شهادة صادقة من عدو كاذب

شهادة صادقة من عدو كاذب أخيراً: دعونا نتأمل هذه العبرة التي نطق بها عدو لدود، لكن لكونها توافق سنن الكون وقوانين الحياة نقول: صدق وهو كذوب، فقد قص الأستاذ يوسف العظم: أن وزير الحرب اليهودي موشي ديان لقي في إحدى جولاته في فلسطين المحتلة شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب في حي من أحياء قرية عربية باسلة، فصافحهم اليهودي الخبيث بخبث يهودي غادر، غير أن الشاب المؤمن أبى أن يصافحه، وقال له: أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لابد آتٍ بإذن الله؛ لتتحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: (لتقاتلن اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربيه) فابتسم ديان الماكر وقال: حقاً! سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً، ولكن متى؟ واستطرد اليهودي الخبيث قائلاً: إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قيمه الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

أدب التعامل مع الكفار

أدب التعامل مع الكفار الإسلام دين اليسر ورفع الحرج والمشقة، وقد اختص الإسلام بخصائص كثيرة عن غيره من الأديان السابقة، ومن تلك الخصائص أحكام معاملة الكفار وأهل الكتاب، فقد وضع الشرع آداباً وأسساً تقوم عليها العلاقة مع الكفار، والتعامل معهم، وهي أسس وضوابط مبنية على العدل وعدم الظلم، وهذا هو اللائق بهذا الدين العظيم، الذي فيه الدعوة إلى كل خير، والتحذير والنهي عن كل شر وضرر ومكروه.

الأسس العامة في علاقة المسلمين بغيرهم

الأسس العامة في علاقة المسلمين بغيرهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فقد كثر سؤال الإخوة في الحلقات السابقة عن كثير من الأحكام التي تتعلق بأدب التعامل مع الكافرين، والسلوك الذي ينبغي أن يسلكه المسلم مع الكفار باختلاف أنواعهم، وكنت أرجئ جميع هذه الأسئلة إلى مثل هذه الفرصة حتى نحاول أن نستوفي الموضوع من شتى جوانبه. وقد وجدت دراسة من أفضل الدراسات في هذا الموضوع، سبق أن مررنا بشيء يسير منها في أثناء فتنة الخليج، وهي في كتاب الدكتور عبد الله بن إبراهيم بن علي الطريقي المسمى: الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي. ونحن نعلم أن دين الإسلام هو الرسالة الخاتمة الكاملة، جاء الإسلام بتشريع دقيق واف شمل كل أمور الحياة البشرية في الدين والدنيا، ومن جملة ما شمله الإسلام: تنظيم العلاقات بين الناس بعضهم ببعض، سواء كان بين الراعي والرعية، أو بين الوالد وأولاده، أو بين الزوج وزوجته، أو بين الأقارب أو الجيران، أو بين المسلم والمسلم، أو بين المسلم وغير المسلم، أو بين الدولة وغيرها من الدول في حالتي السلم والحرب. لقد وضع الإسلام لكل ذلك حدوداً وشرع شرائع وأحكاماً بينة، ولعل من أهمها هي العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، فإننا إذا تحرينا وجدنا أن هذه المسألة قامت عليها أدلة كثيرة جداً، ولذلك قال بعض العلماء: إنها أعظم مسألة قامت عليها أدلة من القرآن والسنة بعد مسألة توحيد الله تبارك وتعالى، وسوف نجتزئ من الفصل الأول من الرسالة من الباب الأول: الأسس العامة في علاقة المسلمين بغيرهم. وقد ذكر الدكتور الطريقي حفظه الله بعض الأسس التي تقوم عليها هذه العلاقة بين المسلمين وغيرهم. الأساس الأول: سماحة الإسلام والمظاهر الإنسانية. سبق التنبيه على استعمال كلمة الإنسانية في نفس هذا السياق، وأن كلمة الإنسانية أحياناً لا تذكر في سياق المدح، فيكون بذلك إذاً مخالفة للقرآن الكريم، أو مخالفة لأسلوب القرآن وألفاظ القرآن؛ لأن القرآن لم يستعمل لفظ الإنسان إلا في سياق الذم، بحيث يشير القرآن إلى أن هذا المخلوق البشري من حيث هو مخلوق قبل أن ينتفع بهداية الله تبارك وتعالى إياه، فالمخلوق العاري عن التوفيق والهداية يسمى إنساناً، ولذلك نجد صفاته دائماً مذموماً؛ لأنه لم ينتفع بعد ولم يستجب لهداية الله تبارك وتعالى، لم يهتد ولم يوفق لذلك، فانظر إلى أي صفة للإنسان في القرآن: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، وقوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] وقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] وهكذا. الأساس الثاني: أن الإسلام دين خاتم عالمي. الأساس الثالث: العدل. الأساس الرابع: الوفاء بالعهود والمواثيق. الأساس الخامس: منع الفساد في الأرض. الأساس السادس: منع موالاة الكفار. الأساس السابع: القاعدة في معاملة الكافر وتوثيقه وقبول خبره.

سماحة الإسلام ومظاهر ذلك

سماحة الإسلام ومظاهر ذلك الإسلام دين اليسر ورفع الحرج والمشقة، فلا عسر فيه ولا أغلال ولا آصار، هذه الميزة خاصة بدين الإسلام أنه دين يسر، قال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فهذه الميزة اختصت بها الأمة المحمدية، لم يشاركها في هذه الميزة أمة من الأمم أو دين آخر، حتى كانت الأمم السابقة تكلف بتكاليف عسيرة، وتفرض عليها فرائض شديدة، وربما حظر الله عليها بعض المباحات والطيبات، وهذا ليس من طبيعة هذا الدين المنزل من عند الله تبارك وتعالى؛ ولكن لأن بعض تلك الأمم كانت مجبولة على العناد، والشقاق، والشكوك، وكثرة السؤال، والتعنت في معاملة أنبيائهم، فكانوا يشددون على أنفسهم فيشدد الله تبارك وتعالى عليهم، كما حصل مع بني إسرائيل في قصة البقرة التي أمروا بذبحها؛ لهذا جازاهم الله عز وجل بأن عسر عليهم بعض هذه الأمور جزاء تعنتهم وعتوهم، ولا يظلم ربك أحداً. والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تبارك وتعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء:160] فحصل تحريم لبعض الطيبات لأمرين: الأول: ظلم من الذين هادوا وهم اليهود لعنهم الله. الثاني: بصدهم عن سبيل الله تبارك وتعالى كثيراً. أما هذه الأمة المرحومة، الأمة المحمدية، الأمة الوسط، فبما رحمة من الله سمعت وأطاعت واستجابت لكل ما طلب منها، فخفف الله تبارك وتعالى عنها، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ولهذا فالمسلم يدعو دائماً بهذا الدعاء العظيم، الذي ختمت به سورة البقرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، وجاء في الحديث الصحيح: (أن الله جل وعلا قال: قد فعلت) يعني: استجبت دعاءكم ووهبتكم ذلك الذي سألتموني إياه. فرفع الآصار والأغلال والتخفيف هذا من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة؛ لكونها الأمة الخاتمة، صاحبة الرسالة الخاتمة إلى أن تقوم الساعة. فاختصت هذه الأمة بكثير من هذه الخصائص التي يتجلى فيها جانب الرفق والسماحة، فمثلاً: بعض الأحكام في الأمم السابقة كأحكام الطهارة، كان عند تلك الأمم إذا أصابت الثوب نجاسة فإنه يحرق، أما في شريعة الإسلام فمعلوم ما في ديننا من التيسير الكثير في شأن الطهارة والعبادات ومن رفع الحرج، بحيث إنه متى ضاق الأمر اتسع. كذلك كانوا لا يعذرون بالإكراه، وهذه الأمة عذرت بالإكراه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، فهذا يدل على أن هذا من خصائص هذه الأمة، في حين أن الأمم السابقة كما في قصة أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، فنفى عنهم الفلاح إلى الأبد، وهذا يبين أنه لم يكن لهم رخصة في النطق بكلمة الكفر، إما أن يثبتوا فيفلحوا أو يرتدوا فيهلكوا. أما الترخيص في النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، فهي من خصائص هذه الأمة المرحومة، كما هو معلوم من قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وهكذا كثير من الأحكام تولى فيها سبحانه رفع الإصر والأغلال عن هذه الأمة المرحومة، يقول عليه الصلاة والسلام: (دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني أرسلت بحنيفية سمحة) فالحنيفية: هي الميل عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام. من هذه القاعدة انطلق الإسلام، وشمل بيسره ورفقه الناس حتى غير المسلمين، فقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، كما وصفه الله عز وجل بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فبعثته شملت كل العالمين، حتى عالم الطيور وحتى عالم الأسماك، وحتى عالم الكفار والمشركين، فلكل أمة نصيب من صفة الرحمة التي اختص بها رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. تسامح الإسلام حتى مع هؤلاء الكفار غير المسلمين في كثير من القضايا والأحكام، ومنحهم كثيراً من الحقوق حتى أصبحت هذه الأمور قضايا عامة، وكل هذا بفضل رحمة الله بعباده ولطفه بهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) رواه مسلم.

مشروعية الرحمة العامة

مشروعية الرحمة العامة من أهم جوانب التسامح في هذا الدين مع غير المسلمين: مشروعية الرحمة العامة، هنالك رحمة عامة يرحم بها المسلم الخلق كافة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يضع رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس رحمة أحدكم صاحبه، ولكن يرحم الناس كافة) فأول مظاهر هذا التسامح الرحمة العامة؛ بل إن من أسماء الله عز وجل الحسنى المقدسة: اسمه عز وجل الرحمن واسمه الرحيم، ومعلوم اختلاف العلماء في تفسير هاتين الصفتين، وكيف أن الرحيم يختص بالمؤمنين، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة يشمل كل المخلوقات، فالرأفة والرحمة من صفات الله عز وجل. أيضاً أرسل الله تبارك وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق، قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ومن هنا حض الإسلام على هذه الرحمة العامة للخلق كافة ورأف بهم، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، الناس بكل أبعادها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم). قال ابن بطال في هذا الحديث: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك. إذاً: الرحمة شاملة لكل الخلق وليست خاصة بالمؤمنين أو بالمسلمين، وسبب هذه الرحمة ظاهر؛ فإن الحياة بمعنى الحيوانية في الشيء، فكلمة الحيوان مذكر الحياة، والدليل قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] أي: هي الحياة الحقيقية الباقية. وعندما نقسم المملكة الحيوانية يدخل فيها الإنسان، ويدخل فيها غيره من الدواب والطيور وغير ذلك، فوجود معنى الحيوانية في الشيء سواء كان هذا الشيء إنساناً أم حيواناً من أسباب الدعوة إلى الرحمة، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل في الإحسان إلى البهائم أجر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لك في كل ذات كبد رطبة أجر) ومعلوم حديث الرجل الذي رأى الكلب وهو يلهث أو يلعق التراب من شدة العطش، فنزل البئر وأحضر له الماء في نعله أو في موقه فسقاه، فغفر الله له بذلك. إذاً: الرحمة العامة لكل المخلوقات، سواء كان مسلماً أو كافراً أو من البهائم: (في كل كبد رطبة أجر). أيضاً وجود الكفر أو الفسوق أو العصيان في واحد من الناس هو أمر أصلاً يدعو إلى الرحمة والتأسف، أنت إذا تذكرت ما ينتظره من العذاب الأليم تشعر بالرحمة له والشفقة عليه من هذا العذاب، وتتأسف على حاله؛ لأنه إنسان مبتلى، فالمبتلى لا ينبغي إظهار التعالي عليه، بل على المسلم التقي الذي عافاه الله عز وجل أن يحمد ربه على العافية: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] أي: كذلك كنتم قبل أن تدخلوا في الإسلام. فالإنسان المسلم لا ينظر إلى أن هذه الهداية أو التوفيق جاءت من كده وكدحه، إنما هي برحمة الله إياه وبتوفيقه الذي حرمه ذلك الكافر، فلا تنظر للكافر بتعالٍ، فإنما الأعمال بالخواتيم، لكن انظر له بعين الرحمة العامة، فتحمد ربك على العافية وترحم هذا المبتلى، وما معنى رحمته؟ معنى رحمته أن تنصحه وتدعوه إلى الحق بالأسلوب المناسب. روى الترمذي عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش)، وكما ذكرنا من قبل فضيلة الدعاء (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) فالإنسان لو دعا بهذا الدعاء حينما يرى مبتلى بأي مرض من الأمراض، وتذكره ووفقه الله لاستحضاره ساعتها بإخلاص واستوفت شروط الإجابة، فإن الجائزة هي أن يعافى من هذا المرض مدة حياته كلها، فانظر إلى هذه الرحمة والناس في غفلة عنها. عندما ترى واحداً مشلولاً، أعمى، مريضاً بالسرطان، مريضاً بأي نوع من الأمراض، فإذا رأيته بهذا المرض وقلت هذا الدعاء، فهذا ضمان وتأمين من النبي عليه الصلاة والسلام أنك تعافى من هذا المرض ما عشت. أيضاً صاحب البلاء، لا ينبغي أن نقصر هذه الرحمة على البلاء الذي يتبادر إلى أذهاننا كفقدان الصحة والعافية وغير ذلك، لكن من أشد البلاء الذي يبتلى به الإنسان ويصاب به المصيبة في دينه، وأخطر ذلك الوقوع في الكفر والعياذ بالله، كذلك البلاء بالمعاصي، كأن ترى حاكماً رئيساً أو ملكاً أو قائداً عسكرياً كبيراً وكل هؤلاء قد سخروا سلطانهم في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، والتعالي على خلق الله والتكبر عليهم، وتعذيب الناس وأذيتهم في دينهم، وصدهم عن دين ربهم، فلا تنظر إلى ما هم فيه من المناصب المرموقة، أو أن معهم مالاً أو كذا وكذا من الأمور الدنيوية، وإنما تنظر إلى البلاء الحقيقي الذي هم فيه، وتحمد الله أن عافاك من حالهم، وجعلك مسلماً مؤمناً موحداً تقياً. فالإنسان المسلم يستحضر نعمة العافية من البلاء إذا رأى مكاساً، وإذا رأى أي واحد من الظلمة. لماذا لا نتذكر الداء فقط إلا عند الأمراض البدنية؟! إذا رأيت من يضيع وقته في الأفلام والتلفاز والمسرحيات والمباريات وكل هذه الضلالات، فإن عليك أن تستحضر نعمة الله عليك أن صرف عنك هذه الأشياء في حين زينها لغيرك: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، فتحمد الله أن عافاك من هذا وجعلك من أهل تعمير المساجد، وتعمير حلق الذكر، وطاعة الله تبارك وتعالى والدعوة إليه، فهذه كلها من النعم وعكسها من البلاء، فينبغي إذا رأينا صاحب البلاء أن نقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به. وهل يظهر الإنسان هذا الدعاء ويجهر به أمام المبتلى؟ يذكر العلماء في الآداب الشرعية: أن البلاء إذا كان في الدين، كالمعاصي والكفر والعياذ بالله أو غير ذلك، ويرجى من الجهر به أن ينزجر ذلك الشخص المبتلى بالمعصية أو بالكفر أو المخالفة فلا بأس، لكن لا على سبيل الشماتة ولا على سبيل التعالي، وإنما استحضار لنعمة الله، وطلب للعافية، ثم تذكير لهذا المبتلى بالمعصية لعله إذا سمعه ينزجر. إذاً: إذا كان يرجى من وراء الجهر بهذا الدعاء أن ينزجر هذا المبتلى فلا بأس أن تجهر بهذا الدعاء، أما إذا كان ذلك يدعو إلى إصراره فلا، وكذلك إذا كان الإنسان المبلتى مريضاً فلا تسمعه هذا الدعاء؛ لأن هذا ليس من الأدب الشرعي، لكن تسر به في نفسك حتى لا تؤذيه، فهذا مما ينبغي أن يلتفت إليه، وهذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجة ورمز له السيوطي بالحسن: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش). إذاً: هذه فرصة عظيمة جداً، وفعلاً كما قال عليه الصلاة والسلام: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، وهذا مما يلفت أنظارنا إلى أن كثيراً من أبواب الخير مفتوحة، ولكن الناس في غفلة عنها، ولذلك يحرمون، فمثل هذا هو محض توفيق من الله، قد تجد الناس تتذكر هذا الدعاء، لكن ليس كل الناس يكرمهم الله باستحضاره: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. فمن توفيق الله عز وجل للعبد أن يلهمه أن يستحضر هذا الدعاء في هذا الموضع، حتى يمتن الله عليه بالمعافاة من هذا الداء. إذاً: دائماً نكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) بتحريك الشفتين بألفاظ قليلة سهلة ميسورة في وقت قصير تنال أعظم المطالب في الدين والدنيا والآخرة، تنال الجنة والفردوس الأعلى بالدعاء، ومن عجز عن الدعاء مع سهولته وعظم الثمرة المرجوة من ورائه؛ فهذا أعجز الناس لا شك في ذلك.

رحمة الداعية بمن يدعوهم إلى الله تعالى

رحمة الداعية بمن يدعوهم إلى الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته لقومه هو المثل الأعلى في مجال رحمة الخلق، فينبغي أن تكون نظرتنا إلى من ندعوهم إلى الإسلام نظرة الرحمة العامة، نظرة الرحمة والشفقة لا نظرة الاستعلاء أو التكبر أو التشفي أو غير ذلك، بل إذا تأملنا القرآن الكريم فسنجد أنه قد بلغ من شفقته عليه الصلاة والسلام على أمته -أمة الدعوة وتشمل الكفار أيضاً -وصل حزنه وشفقته عليهم ونصيحته لهم إلى أنه كاد أن يهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلك نفسك. {عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أنت تهلك نفسك أسفاً عليهم، وفي الآية الأخرى يقول عز وجل: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، فالداعية إلى الله المقتدي بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يرحم الناس ويهتم بهم، لكن لا ينبغي أن تصل به هذه الرحمة وهذا الاهتمام إلى حد الأسى وتعذيب النفس وإرهاقها، لكن يعزي نفسه بأن الهداية بيد الله عز وجل، وما على الداعي إلا البلاغ المبين، ورسول الله عليه الصلاة والسلام الذي بعث رحمة للعالمين بالرغم مما كان يعانيه في سبيل الله من المشقة والجهد والتحدي، لما طُلِبَ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين أن يهلكهم الله وأن ينزل عليهم بأسه وعقابه، ماذا كان جوابه عليه الصلاة والسلام؟ يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، -فأخذ يردهن بيده وهن يتقحمن في النار، وأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تفلتون من يدي) رغماً عنه عليه الصلاة والسلام، يعني: كأن هناك ناراً والناس واقفون على شفير هذه النار ويقذفون أنفسهم فيها، وهو رحمة بهم يريد أن ينجيهم، فيمسك ما أمكنه أن يمسك، يمسك هذا من ذيل ثوبه، وهذا من أكمامه فيحاول أن يبعدهم عن النار رحمة بهم ونصيحة لهم، فمن هلك يهلك رغماً عنه، الذي يستطيع أن ينجيه يجتهد في ذلك، لكن ما الحيلة فيمن قضى الله عليهم بالشقاء والعذاب والتعاسة؟! إذاً: المسلم هو رحمة ورأفة وعطف وتواضع، وليس أبداً بحال من الأحوال هذا الوضع للمسلم هو عنوان الاستكانة أو الذل أو الضعف، لكن هذه الرحمة هي الرحمة التي هي طبع الأقوياء الأعزاء بالله وبدين الله تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. فإن قيل: وصف الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه بأنهم أشداء على الكفار غلاظ عليهم، هل يتنافى هذا مع الرحمة؟ ف A أن هذه الآية يفسرها قوله تبارك وتعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:7 - 9]. هذه الآيات توضح لنا أن من أبدى عداء للمسلمين وأضمر شراً لهم، فلابد أن يكون المسلمون أشداء عليهم جزاءً وفاقاً، فهذا هو المقصود بقوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، وبقوله عز وجل: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9]، فالكفار الذين أمرنا أن نكون أشداء عليهم هم من جاءت صفاتهم في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9]، مقاتلة المسلمين، فتنتهم عن دينهم، الاعتداء على المسلمين في ديارهم وإخراجهم منها، كذلك مظاهرة هؤلاء ومساعدتهم، أي: من لم يفعل بنفسه هذه الأشياء من الكفار لكنه عاون الكفار الآخرين وساعدهم على فعل هذه الجرائم فهو أيضاً له حكمهم. ثم إن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، فالطبيب الذي يأتيه المريض الذي حصلت به مثلاً الغرغرينة، إذا تركه ولم يبتر هذا العضو الميت من بدنه فسوف يزحف هذا المرض على بدنه ويتلفه كله، فتضيع حياته، فمن الرحمة بهذا المريض بتر هذا العضو الميت وفصله عن جسده، حتى ينقذ باقي الجسد، فكذلك أيضاً مشرط الجراح حينما يعمل في جسم الإنسان من أجل إنقاذه من خطر أكبر، فهذا في الحقيقة ظاهره أنه مؤلم، لكن هو في الحقيقة سبب إلى العافية وسبب إلى الرحمة، فالشدة لا تتنافى مع الرحمة، والأب الرحيم المحب لأولاده قد يشتد عليهم، لا يشتد من منطلق أنه يريد أن يقضي عليهم أو يغلظ عليهم، لكن يشتد ويتحكم في أبوته وعاطفته التي تدعوه إلى عدم الشدة، ويعمل عقله ويريد مصلحة هذا الولد حتى يقوّم خلقه، وحتى يستفيد من التجارب، وحتى يحسن تربيته وأخلاقه، فإنه ربما يحتاج إلى الشدة، كما سبق أن ذكرنا ذلك في مشكلة ضرب الأولاد. فالشاهد أن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، كما قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم فهذه الشدة من أجل مصلحة الإنسان نفسه، أما من أبدى تعاطفاً وسلماً من الكفار، أو كان له عهد وذمة، فالمشروع في حقه أن يحسن إليه، علاوة على هذه الرحمة، ولعل هذا ما أشار إليه قوله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8]، وكما قال عز وجل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61] فهذا فيما يتعلق بالمظهر الأول من مظاهر تسامح الإسلام مع الناس كافة، وهو مشروعية الرحمة العامة، وهي التي يحتاج إليها كثير من الناس، مثلاً: الطبيب إذا وجد مريضاً من الكفار يحتاج إلى مساعدته أو إنقاذه، ما لم يكن هذا الرجل حربياً معادياً للإسلام في وقت من الأوقات التي ذكرناها آنفاً؛ فإنه يرحم بالرحمة العامة، ولا يتحرج الطبيب المسلم من معالجته من باب أنه ذو كبد رطبة، وأنه مخلوق فيه روح، وهذه حرمة تجعل له حقاً أو نصيباً في الرحمة العامة ما لم يكن محارباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

مشروعية البر والإحسان إلى المسالمين من الكفار

مشروعية البر والإحسان إلى المسالمين من الكفار المظهر الثاني من مظاهر سماحة الإسلام: مشروعية البر والإحسان إلى المسالمين من الكفار، فالإسلام حث على البر والإحسان وبذل المعروف والنصح لجميع الناس، إلا من حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتربص بالمسلمين الدوائر، وهؤلاء هم الذين يسمون بالحربيين، فمن لم يكونوا حربيين يجوز أن يبروا وأن يسالموا؛ لأن الإسلام لا يمانع من برهم والعطف عليهم ما داموا مسالمين موادعين، كحال أهل الذمة الذين لهم عهد مع الخليفة أو الحاكم المسلم، فتراعى ذمتهم ويحسن إليهم، كذلك أيضاً أهل الصلح ونحوهم، يقول تبارك وتعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. يقول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: أولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم؛ لأن الله عز وجل عمهم في الحكم، وذلك بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة:8] لأن (الذين) اسم موصول يفيد العموم، فتعم جميع من كانت تلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ. ويقول الشوكاني أيضاً حول هذه الآية: ومعنى الآية: أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يظاهروا الكفار عليهم. وخلاصة الكلام: أن الإحسان وحسن الخلق وبذل المعروف مرغب فيه لكل أحد ولو كان لغير المسلمين، يقول ابن المرتضى اليمني: المخالفة والمنافعة وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف ونحو ذلك يستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذمة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب. يعني: إظهار المودة للكافر الحربي مما يجعلك في صورة المتذلل له المضطهد له حتى لا يؤذيك، أو يؤدي إلى نوع من الاعتزاز على المسلم، فمثل هذا لا يشرع، لكن فيما عدا ذلك كما أشرنا من قبل أن التسامح الإسلامي هو تسامح القوي، ورحمة الإسلام رحمة العزيز بلا ذل ولا هوان. إذاً: حسن الخلق مطلوب مع كل الناس، بعض الناس يتكلف إساءة الخلق مع الكافر غير الحربي، يظن أن هذا هو حقيقة الولاء والبراء، لكن إذا تأملنا موقف موسى عليه السلام من فرعون، وفرعون لا يرتاب أحد في أنه من أشد الناس كفراً، وأنه قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ومع ذلك أمر الله عز وجل موسى وهارون أن يقولا له قولاً ليناً قال عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فإلانة القول وحسن الأسلوب في الكلام والأدب وحسن الخلق هذا مرغوب مع كل أحد. أقول: وهذا القيد الذي ذكره ابن المرتضى قيد في محله، ففعل البر كله لابد أن يكون من يد عليا عزيزة، فإذا كان يفضي إلى ذل واستكانة فلا ينبغي فعله لغير المسلم.

البر والإحسان إلى الأقارب إذا كانوا غير مسلمين

البر والإحسان إلى الأقارب إذا كانوا غير مسلمين إن من أهم الذين يتعين برهم والإحسان إليهم من غير المسلمين هم الوالدان، ثم الأقربون على حسب درجات قربهم، يقول الله عز وجل مقرراً حق الوالد المشرك: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] وإن كان هذا الوالد المشرك لم يكتف بكونه مشركاً، ولم يكتف بدعوة ابنه إلى الشرك فقط؛ بل إنه يجاهده حتى يشرك بالله، ومع ذلك حفظ الله لهذين الأبوين الكافرين حقهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، وهذا فيه تعظيم شديد جداً لحق الوالدين المسلمين، فإذا كان هذا مع الكافر فكيف بالوالدين المسلمين؟! وقد ثبت عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قدمت أمي علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك) (قدمت أمي علي راغبة) أي: ترغب صلتي، أو ترغب أن تسألني شيئاً من المال، فأم أسماء غير أم عائشة رضي الله عنها، فأم أسماء هي قتيلة، قدمت من مكة إلى المدينة حتى تصل بنتها. قولها: (راغبة) إما في الصلة أو في أن تسألها شيئاً، (أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك)، فصلة الرحم هدف متفق عليه، وصلة الرحم مأمور بها لكل الأقارب أيضاً، وإن كانوا غير الأبوين، كما قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، هذا هو المقصود من قوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به) حين يقول أحدكم للآخر: أسألك بالله أو أسألك بوجه الله. قال ابن العربي رحمه الله تعالى: واتفقت الملة أن صلة ذوي الأرحام واجبة، وأن قطيعتها محرمة، ولتأكيد صلة الرحم المؤمنة ذكر الفضل في صلة الرحم الكافرة، وهذا يسمى: قياس الأولى أو القياس الجلي، إذا كان هذا في حق الرحم الكافرة فأولى أن يكون الصلة في حق الرحم المؤمنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها) أي: أصلها بصلتها، مع أن هؤلاء من أقاربه، لكن لا يعدهم له أولياء، وإنما يصلهم لأجل صلة الرحم فقط. فصلة الرحم من أبرز جوانب البر والإحسان المقدمة لغير المسلمين، لكن بشرط أن لا يكون الأب أو الأم أو الرحم محارباً لدين الإسلام، معارضاً محاداً لله ورسوله وللمؤمنين، فمثل هذا لا يلزم بره ولا صلته.

حسن الجوار مع غير المسلمين

حسن الجوار مع غير المسلمين أما موضوع حقوق الجار فهو موضوع مستقل بذاته، والأدلة فيه كثيرة جداً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) أي من شدة حق الجار ووجوب حفظ حقه. فحسن الجوار من علامات الإيمان أو من شعب الإيمان بالله واليوم الآخر، وجاء في الأثر: أن عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما دخل بيته فوجد أهل بيته قد ذبحوا ذبيحة، فسألهم: هل أعطيتم جارنا اليهودي؟ تكلم بلهجة الغضبان عليهم، هل أعطيتم جارنا اليهودي؟ وظل يعنفهم على عدم إعطائهم الجار اليهودي، وهذه صورة من صور الإحسان إلى الجار غير المسلم، إعطاؤه أو إهداؤه شيئاً من الطعام. إن الإحسان لغير المسلم قد يكون بمعنى المواساة، إذا أصابته مصيبة فيواسيه فيها كأن يموت ابنه أو أبوه، فإنه يعزيه ولا يدعو له بالرحمة؛ لأنه لا يستحق الرحمة، أي: الرحمة في الآخرة. كذلك أيضاً أقل الإحسان للجار أن تكف أذاك عنه، وكذلك حسن العشرة، كذلك نصرته إن كان صاحب حق وهكذا. وكما أن الإخوة الملتزمين يتميزون في مظهرهم بإعفاء اللحية وبالقميص غير المسبل، وبالمحافظة على الشعائر الإسلامية كصلاة الجماعة وغيرها، فينبغي أيضاً أن يتميز المسلمون الملتزمون بحفظ الجوار، وذلك بأن يحسنوا إلى جيرانهم ولا يسيئوا إليهم، هذا أيضاً من الشعائر الإسلامية التي ينبغي أن يتميز بها الملتزمون بدينهم، وينبغي أيضاً أن يتذكر الإخوة الملتزمون حكم الجوار وحكم الإحسان إلى جيرانهم. فالبر والإحسان إلى أهل الذمة ونحوهم والعطف عليهم، سواء كانوا أقارب أم أجانب لابد منه، ما لم يكن المحسن إليه منهم حربياً.

البر والإحسان إلى غير المسلمين لا يعني مودتهم ونصرتهم

البر والإحسان إلى غير المسلمين لا يعني مودتهم ونصرتهم ولابد أن نستذكر هنا أمراً آخر: وهو أن الإحسان إليهم والبر بهم وأداء المعروف إليهم لا يعني بأي حال من الأحوال حبهم ولا مودتهم ولا موالاتهم، فهناك فرق شاسع بين ذلك وبين الإحسان وبذل المعروف لهم كما في قصة أم أسماء التي ذكرناها، وفيها الأمر بالصلة والإحسان، وهذا لا يؤدي إلى محبتهم أو موالاتهم التي نهى الله تبارك وتعالى عنها. فالمؤمن الحقيقي لا يمكن أن يحب كافراً، أما من كان يحب كافراً فذاك ضعف في إيمانه وآفة ومرض في قلبه، فالذي يجد في قلبه حباً للكافر ورضىً عنه ومودة قلبية له، فهذا لابد أن يصحح إيمانه ويصحح إسلامه من جديد، فكل ما ذكرنا لا علاقة له بالمودة والمحبة والموالاة. يقول الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] إلى آخر الآية. قال: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة عنهم. الموالاة والنصرة والود والحب هذا للمؤمن فقط، لكن الكافر حتى وإن كان أباك أو أخاك أو أمك فهو ليس من أهلك، كما قال عز وجل: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] أو (إنه عَمِلَ غيرَ صالح) كما في قراءة أخرى، فقوله: (ليس من أهلك) ليس معناه كما يفهم بعض الناس أنه ولد زنا؛ لأنهم يربطون هذه الآية بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] كلا! لا يمكن أبداً لأزواج الأنبياء أن يخنّ بالفسق والفجور، لا يمكن ذلك أبداً؛ لأن الأنبياء منزهون من أن يقع ذلك من زوجاتهم، كما قال عز وجل: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] أي: الطيبات بالصفات الحميدة من العفة والطهر للطيبين. فالمقصود من خيانة زوجة لوط هو أنها كانت تدل قومها على ضيفانه، ومعونتهم على ما كانوا عليه من الحال الفاسدة أو الشرك والكفر، لكن لا يمكن أبداً أن يحصل الزنا من زوجة نبي؛ لأن هذا طعن في النبي نفسه، والله تعالى حفظ أنبياءه من أن تفجر نساؤهم بهذه الأفعال. والشاهد من الكلام أن ابن نوح هو ابنه من صلبه، وذلك لمن تأمل قوله عز وجل: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] أي: من صلبي ومن عشيرتي، وقد وعدتني من قبل أنك ستنجيني وأهلي. {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:45 - 46]، فأهلك هم أهل الإيمان وأهل التقوى والإسلام، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].

مشروعية الرفق بأهل الذمة

مشروعية الرفق بأهل الذمة أيضاً من مظاهر سماحة الإسلام: الرفق بأهل الذمة، من اليهود والنصارى الذين عاشوا تحت كنف الخلافة الإسلامية، ولهم عقد ذمة حدد ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، ونظم العلاقة بينهم وبين المسلمين، أما من عدا ذلك فليسوا بأهل ذمة. إذاً: يشرع في حق أهل الذمة أن يعاملوا معاملة حسنة، لا أذى فيها ولا ريبة، دون سب وشتم، أو قهر ونهر، أو إذلال وإهانة؛ لأن في كل هذه الأشياء إلحاق الأذى بهم، والدين لا يبيح أذيتهم بحال، فقد روى مسلم: (أن هشام بن حكيم رضي الله عنه مر على أناس من الأنباط -والأنباط: هم فلاحو العجم- قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية -يعني: حبسوا بسبب أنهم عجزوا عن أداء الجزية فلم يؤدوها- فقال هشام رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)، فيا ويل الذين يعذبون الناس في الدنيا! فانظر ما قاله الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق الكفار من العجم، فكيف بمن يعذب المسلمين الموحدين! ليس لغرض دنيوي؛ بل يعذبهم بسبب تمسكهم بدينهم، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (فويل لهم ثم ويل لهم، إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا). ولا شك أن المعاملة السيئة لمثل هؤلاء الذميين وإلحاق الأذى بهم يزهدهم في الإسلام، ويرغبهم عنه، وتسوء نظرتهم إلى الإسلام، وبذلك قد يحجبهم عن الدخول فيه، مع أن الإسلام قد حقن دماءهم، واكتفى منهم بأخذ الجزية؛ من أجل أن تكون لهم فسحة وقت، يتركون أحياء في وسط المجتمع الإسلامي، ويعايشون المسلمين عن قرب فيرون أخلاق الإسلام، وهذا حكمة عظيمة جداً، وباب من أبواب الرحمة؛ لأن كثيراً من المسلمين الملتزمين بدينهم، والذين حسنت أخلاقهم، تجده يتزوج مثلاً امرأة كتابية يهودية أو نصرانية في بعض الدول في الخارج، وفي النهاية تعجب هذه المرأة بحسن خلقه وحسن معاملته والتزامه بدينه مما يؤدي إلى أن تتبعه على دين الإسلام. وأنا لا أدعو إلى التزوج منهم مطلقاً، لكن الشاهد: أن حسن الخلق مع المخالفين في الدين بالذات من أهل الذمة له آثار طيبة في ترغيبهم في الإسلام، فالله عز وجل إنما شرع حقن دمائهم والإبقاء عليهم حتى يعطوا فرصة؛ لأن الكتابي هو الأقرب إلى الدخول في الإسلام من المشرك الوثني؛ لأن هذا لا يحتاج لجهد حتى تثبت له التوحيد أو النبوة والرسالة، أو أمور اليوم الآخر والقضاء والقدر، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي قد تقترب من شريعة إلى أخرى، فالقضية أساساً هي في إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وإثبات أن القرآن كلام الله، فالمهم أنه أقرب من الملحد أو الوثني والمشرك.

كيفية مجادلة أهل الكتاب وضوابطها

كيفية مجادلة أهل الكتاب وضوابطها يقول الله عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] يقول القرطبي: قوله: (إلا بالتي هي أحسن) أي: بالجميل من القول، إذا تناقشتم معه فتناقشوا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه، وهذا في الحقيقة قول مهم جداً؛ لأن أحسن القول هو كلام الله كما جاء في الحديث: (أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) فإذا كنا نجادلهم بالتي هي أحسن فنستحضر أحسن الحديث الذي هو القرآن، بعض الناس يقول: كيف نخاطب الكفار والمشركين بالقرآن وهم لم يؤمنوا به؟ نقول: نعم نخاطبهم به كما خاطبهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يرتعشون أحياناً خوفاً من العذاب الذي تنذرهم به آيات القرآن، فقد كانت تنزل على قلوبهم كالصاعقة؛ لما للقرآن من سلطان على النفوس. إذاً: فأول ما ينبغي الاهتمام به إقامة الحجة على الكافر بتلاوة كلام الله عز وجل الحق وقرآنه المجيد، ومن الخطأ الانصراف عن أحسن الكلام إلى ما عداه من كلام البشر، والزهد في الاستدلال بآيات القرآن عند مخاطبة الكفار بحجة أنهم لم يسلموا بعد، علينا أن نخاطبهم بآيات القرآن، إنما أنزلت لإنذارهم وإقامة الحجة عليهم؛ لما للقرآن من سلطان خفي مع الكفار، فنجد الواحد منهم إذا سمع القرآن تملكته الهيبة والرعدة ويقول: هذا الكلام ليس بكلام مخلوق. ما سر سلطانه وقوته؟ إنه يعطي صورة حية مع المسلمين الأعاجم كالهنود والباكستانيين، فالشعب الباكستاني يعتبر من أكثر الشعوب الإسلامية عاطفة دينية وحمية للإسلام، وكذلك عاطفة الهنود المسلمين، فتجد أحدهم يمسك القرآن وينظر فيه وهو لا يعرف حرفاً واحداً من اللغة العربية، ولا يستطيع القراءة، سوى أنه يمسك القرآن ويبكي ويضمه إليه ويقول: كلام ربي كلام ربي! وحدثني أحد الإخوة عن واحد من هؤلاء الأعاجم -وهو كردي- كان في مجلس فيه بعض الشيوخ، وفي أثناء حديثهم يأتي ذكر أبي هريرة فإذا ذُكِرَ أبو هريرة خاض في البكاء الشديد، مجرد أن يسمع ذكر أبي هريرة يبكي، ما أقسى قلوبنا، هذا الرجل يرق قلبه لذكر اسم الصحابي أبي هريرة راوية الإسلام، وحامل أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف سيكون حاله إذا سمع حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام أو كلام الله عز وجل؟!! حكى لي أحد إخواننا أن مجموعة من الكفار السواح مروا بأحد المحلات بعد العصر، وكان صاحب المحل فاتحاً لإذاعة القرآن الكريم، والشيخ يقرأ بترتيل، فوقف هؤلاء السواح مشدوهين منجذبين بشدة إلى هذا الكلام، وعبروا عنه تعبيراً له دلالة، قالوا بالإنجليزي: هذا موسيقى! فقد لفت نظرهم هذا الوقع الجميل للقرآن الكريم. الشاهد: أن القرآن له وقع على القلوب نحن لا نستطيع بأن نصفه، لكننا نحس بأثره حتى مع الكافر. فالقرآن له سلطان على قلبك، ونجد كذلك كثيراً من النصارى إذا تليت عليهم آيات من القرآن لا يقوون على الطعن في القرآن الكريم، خاصة النصارى الذين عاشوا مع المسلمين؛ لأنهم عرفوا حقيقة القرآن، بخلاف إخوانهم من الكفار في البلاد البعيدة، فمن رحمة الله عز وجل أن عاشوا في وسط المسلمين، فصاروا أقرب للدخول في الإسلام، فتجد النصراني الذي يعيش في أوساط المسلمين يقول: أنا أقر أن القرآن كلام الله لكن محمد هو نذير إلى العرب خاصة؛ حتى يسوغ لنفسه عدم الدخول في الإسلام، فهذا أقصى ما يصل إليه كثير من النصارى؛ لأنه لا يملك أن يكذب محمداً عليه الصلاة والسلام أبداً ولا يكذب القرآن؛ لأنه عاش مع القرآن، وقد سمعنا كثيراً من الكفار أسلموا منذ زمن بسبب صوت الشيخ محمد رفعت رحمه الله، بغض النظر عن الطريقة في التلاوة ففيها نظر، لكن هذا له دلالة على أن إسلامهم كان بسبب سماع القرآن من بعض الشيوخ الذين يقرءون بخشوع وبصوت حسن؛ فيؤدي ذلك إلى دخول الكثير في الإسلام. إذاً: ينبغي أن نقدم كلام الله على ما عداه من الكلام عندما ندعو غير المسلمين إلى الإسلام، ولا نصغي ولا نلتفت إلى هؤلاء الذين يقولون: كيف نقرأ لهم القرآن وهم لم يؤمنوا بأنه كلام الله؟ نقول: وإن لم يؤمنوا فمن باب إقامة الحجة عليهم بكلام الله فإنه أحسن الحديث. فينبغي أن نتذكر ذلك إذا تلونا قوله عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، فأولى الكلام الحسن في ذلك هو كلام الله عز وجل. وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] أي: الذين امتنعوا عن أداء الجزية، ورفضوا أن يدخلوا الإسلام، وأصروا على نصب الحرب ضد المسلمين، فهؤلاء ليس لهم هذه الحقوق كما ذكرنا.

إحسان النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الذمة

إحسان النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الذمة روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، ففهمتها)، السام: هو الموت، والخبثاء كانوا يجتهدون في إخراج أي نوع من الأذية يستطيعون توصيله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مثلاً كما جاء ذكره في من القرآن يقولون: يا محمد راعنا، هم يريدون -والعياذ بالله- وصفه بالرعونة، فيلحنون في القول، ويصرفون الكلام عن أصله، فيستخدمون العبارات الموهمة، فلذلك نزل القرآن محذراً المؤمنين من استعمال هذه العبارات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104] هنا هذه المجموعة من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: (السام عليكم) يدعون على رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن حضره بالموت والعياذ بالله قالت عائشة: (ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة! -أخذتها الغيرة رضي الله عنها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله). انظر إلى هذا الأدب النبوي الرفيع في الرفق وحسن الخلق في كل المواضع بقدر المستطاع (مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله، قالت: فقلت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: قد قلت: وعليكم) ردها عليهم بالمثل (وعليكم) أي: إن كان المقصود بها الدعاء فيرد الدعاء لهم جزاء وفاقاً، وإن كان المقصود حملها على السام يعني الموت، فالموت مكتوب عليكم، فهكذا كانت معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام مع غير المسلمين، ولنا فيه أسوة حسنة. ذكر ابن إسحاق في مغازيه (أن وفد نصارى نجران لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه في مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الصحابة منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم). ويؤكد الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى على هذه الحادثة مستنبطاً فقهها فيقول: فيها جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضاً، إذا كان ذلك عارضاً، ولا يمكنون من اعتياد ذلك. أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر لأصحابه علامة من علامات نبوته، ودليلاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم يقول للصحابة رضي الله عنهم: (إنكم ستفتحون مصر) وقد وقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ولم يقع أن تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ولم يقع كما أخبر أبداً، وهذا من أعظم آيات نبوته، غاية ما في الأمر أن هناك أشياء لم تحصل بعد، لكنه تنبأ بفتح القسطنطينية التي هي (إسلام بول) أو (إستانبول) وقد وقع ذلك بعدها بثمانمائة سنة، وتنبأ أيضاً بأن المسلمين سيفتحون رومية ولم يقع هذا حتى اليوم، وهو لابد واقع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط؛ فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً) هذا الحديث رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه. ذكر بعض العلماء في شرح الحديث: أن أهلها فيهم شيء من الإمساك في الناحية المالية، حتى إن القيراط وهو الشيء اليسير يسمونه ويهتمون به، والله أعلم. والمسلمون لما دخلوا مصر وشرف الله مصر بالفتح الإسلامي كان أهلها نصارى كفاراً، ومع ذلك يوصي عليه الصلاة والسلام بهم خيراً، (فإن لهم ذمة ورحماً) أي: أن هاجر زوج إبراهيم عليه السلام وأم إسماعيل من مصر، كذلك أيضاً مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس حاكم مصر أيضاً مصرية، وهي أيضاً أم ولده إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فهذه هي وصايا الإسلام حول أهل الذمة ونحوهم، وهي وصايا تنبئ بلا شك عن تسامح كبير معهم، كما هو معلوم أن سبب نزول قوله تبارك وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] امتدحهم الله بأنهم يحسنون إلى المسكين واليتيم والأسير مع احتياجهم لهذا الطعام ومحبتهم له.

معنى الإحسان إلى أهل الذمة

معنى الإحسان إلى أهل الذمة يقول القرافي في معنى الإحسان إلى أهل الذمة: الرفق بدعوتهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل التلطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته رفقاً بهم؛ بشرط ألا يكون ذلك عن مذلة أو عن ضعف، لكن عن قوة واقتدار على تأديبه. ثم يقول: واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً مما بهم لا خوفاً منهم، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ حرمتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وأعيانهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم، هذه وصايا الإسلام في أهل الذمة.

توجيه النصوص التي تفيد التعارض مع الإحسان إلى أهل الذمة

توجيه النصوص التي تفيد التعارض مع الإحسان إلى أهل الذمة هذه مجموعة أخرى من النصوص قد نفهم منها خلاف ذلك، نمر عليها حتى ننهي هذه الجزئية، منها: قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] يفهم منه معارضة الكلام الذي قدمناه آنفاً، فقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} جاء في تفسيرها أقوال كثيرة: منها: أن الذمي يدفع الجزية وهو قائم والآخذ يكون جالساً، لكن المقصود من هذه المظاهر العامة التي شرعها الإسلام بالنسبة لوضع هؤلاء الذميين -المقصود منها تبغيض الكفر إلى الذمي، وإشعاره أن هذا الكفر أداه إلى هذا الذل والصغار، فهذا نوع من تنفيره من الكفر بحيث يرغب في عزة المسلمين وأخلاق المسلمين وعقيدة المسلمين، فيكون ذلك من وجهين: ينفر من الكفر، ويرغب في الإسلام، هذا هو الشاهد وهذا هو المقصود. كذلك لا ينبغي أن يكونوا في موضع من التعظيم والتبجيل والتقدير والاحترام كمظهر عام في المجتمع الإسلامي؛ لأن العزة لا تكون إلا لله ولرسوله وللمؤمنين. تفسير آخر للآية قال بعضهم: أن يأتي بالجزية ماشياً لا راكباً، ويطال وقوفه عند إتيانه بها، ويجر إلى الموضع الذي تؤخذ إليه بالأنف ثم تجر يده ويمتهن. وبعض أهل العلم أنكر مثل هذه التفسيرات، يقول الدكتور الطريقي: نحن لو تفكرنا ملياً لأدركنا أن ذلك كله مما لا دليل عليه، كما يقول ابن القيم، حكى ابن القيم هذه التفسيرات في معنى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وقال: إن هذا كله مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك. يقول: والصواب في الآية أن معنى قوله: (وهم صاغرون): أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الذمة عليهم، ورجوعهم إلى حكم الإسلام، هذا هو معنى الصغار؛ لأن الدار إذا حكمت بالإسلام صارت دار إسلام، حتى ولو كان كل أهلها مثلاً نصارى أو يهوداً، ما داموا يؤدون الجزية فهم صاروا في حالة خضوع لحكم الله وصار الحكم لله في هذه البلاد. فالصواب في الآية: أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الذمة عليهم بإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار. ونحن نعتبر أنفسنا الآن تحت ظل القوانين الوضعية -ولا حول ولا قوة إلا بالله- في حالة إذعان وذل لهذه القوانين الكافرة. وقوله: (عن يد) أي: عن قدرة، بحيث لا يكون عاجزاً، بل إن كان عاجزاً فإنه يعطى من بيت المال، كما حكم بذلك عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلا شك أن خضوع الكفار لدولة الإسلام ودفعهم الجزية للمسلمين هو في ذاته صغار لهم. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا أخذ الإمام منهم الجزية أخذها بإدلال -يعني بإحسان- ولا يضرب منهم أحداً، ولا يناله بقول قبيح. فهذه كلمة الإمام الشافعي في هذه القضية. يقول الدكتور الطريقي: فلا داعي إذاً لتلك الأمور التي ظن بعضهم أن الصغار لا يتحقق إلا بها، مثل: الأخذ بتلابيبهم، وذمهم، وسبهم، أو كونهم يدفعون الجزية قياماً والآخذ جالساً ونحو ذلك. ومن الأدلة التي قد يفهم منها التعارض مع ما قدمنا: حديث رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) في هذا الحديث نهي عن بدء النصارى واليهود بالسلام، وأمر بأن يضطر الواحد منهم إلى أضيق الطريق عند اللقاء. وهنا مسألتان:

أحكام السلام على الكفار

أحكام السلام على الكفار الأولى: عدم البداءة بالسلام، وهذه مسألة مشهورة، والخلاف فيها أيضاً مشهور وفيها نحو أربعة أقوال: أحدها: تحريم بدء النصراني أو اليهودي بالسلام. ثانيها: كراهة بدء اليهودي أو النصراني بالسلام. ثالثها: الإباحة. رابعها: أنه لا يجوز السلام إلا في حالة ضرورة أو حاجة أو سبب. وقد حكى هذه الأقوال الإمام النووي رحمه الله وغيره، واختار التحريم، وقال: إنه قول أكثر العلماء؛ لأن ظاهر النهي التحريم. ويرجح الدكتور الطريقي هنا المنع من البداءة بالسلام، إلا إذا كان ثمة حاجة. يقول: ولتقريرنا رجحان المنع فإن ذلك ليس فيه إخلال بالوصايا السابقة، فعدم البداءة بالسلام لا يعني سباً ولا سخرية ولا نحواً منهما، ولا يعني ذلك أنك تكف عن الإحسان إلى أهل الذمة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من خاصم ذمياً أو ظلمه فأنا حجيجه يوم القيامة) أي: أنا أجادل وأخاصم عنه يوم القيامة؛ لأن هذا اعتداء على من هم في أمان الله وأمان رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالمسلم يحترم عهد الله وعهد رسول الله وعهد إمام المسلمين، وذلك بأن لا يؤذي من صار تحت حمايته، فلا يخفر هذه الذمة ولا ينقض هذا العهد، ما داموا ملتزمين بضوابط هذه العهود. يقول الدكتور الطريقي: وعدم البداءة بالسلام لا يعني سباً ولا سخرية ولا نحواً منهما، لكن الذي قد يعطي نوعاً من هذا هو عدم رد السلام، والإسلام يأمر برده على كل أحد. وهناك فرق بين البدء بالسلام وبين رد السلام، فإن الله عز وجل يقول في القرآن الكريم: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، ومعلوم أن البدء بإلقاء السلام حتى للمسلم حكمه سنة، لكن رد السلام واجب، رد السلام فريضة، لكن البداءة بالسلام سنة مستحبة، وهذه من الحالات الاستثنائية التي يكون فيها ثواب النافلة السنة أكبر من ثواب الفرض، وهي حالات محدودة تكون النوافل فيها ثوابها أعظم من ثواب الفرض. الشاهد من الكلام: أن الإسلام يأمر برد السلام على كل أحد، لكن مع النصراني أو مع الكافر تختلف صورة الرد، فإذا قال لك: السلام عليكم، فترد وتقول له: وعليكم؛ لأنه يحتمل أن يلحن بها ويلوي بها كما كان يفعل اليهود، فقد كانوا يقولون: السام عليك، لكن للأسف الشديد من المبكي والمحزن أن كثيراً من المسلمين الآن إذا ألقى السلام يقول: السام عليكم كما كان يقول اليهود، وهذه الطريقة مع أنها لغة عامية بريئة، لكن للأسف فيها تشبه باليهود وإن لم يقصد ما قصدوا من قولهم: السام عليكم، نسمع كثيراً من الناس لا يرد رداً شرعياً كاملاً، ولعل هذا أخف ممن يبدأ بصباح الخير أو مساء الخير، وغير ذلك من تحايا الجاهلية التي أبدلنا الله خيراً منها، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فالصورة بالنسبة للكافر إذا شك المسلم باللحن في السلام من قبل الكافر فليقل: وعليكم فحسب، أما إن علم أنه سلم تسليماً صحيحاً فلا مانع من أن يرد رداً كاملاً، ويقول: وعليكم السلام، ولا يقول: ورحمة الله وبركاته؛ لأنه لا يستحق الرحمة، ولأن رحمة الله في الآخرة.

اضطرار الكافر إلى أضيق الطريق

اضطرار الكافر إلى أضيق الطريق المسألة الثانية: اضطراره إلى أضيق الطريق، اختلف العلماء في معنى اضطرار الكافر إلى أضيق الطريق. فمن قائل: إن هذا الاضطرار على ظاهره بلا تأويل، فإذا كان هناك طريق ضيق فلا تفعل مع الكافر ما تفعله مع المسلم، المسلم تتواضع له وتؤثره على نفسك، وتقول له: تفضل أنت؛ لأن الطريق ضيق، أما مع الكافر فينبغي ألا تؤثره على نفسك، بل تضطره أن يمشي في جوانب الطريق، وتبقى أنت في الوسط؛ إظهاراً لعزة الإسلام. وبعض العلماء قالوا: إن هذه كناية عن إظهار عزة الإسلام وذلة الكفر، وأن المسلم لا يظهر أمام الكافر بمظهر المستخذي الذليل، ولكن بالمظهر اللائق به بصفته مسلماً؛ لأنه هو الذي يمثل الحق على هذه الأرض، فإذا التقى مسلم وغيره في طريق فليكن المسلم عزيزاً رافع الرأس، لا يظهر الذل والخنوع والضعف والتماوت ويطأطئ رأسه وينحني، فهذا لا يليق، ومعلوم ما فعله الصحابة لما أتوا في عمرة القضية أو عمرة القضاء بعدما منعوا العمرة في عام الحديبية وأتوا من قابل ليعتمروا، قال المشركون: (أتاكم قوم قد أنهكتهم حمى يثرب) فجلس المشركون في الجهة الشامية من الكعبة، والذي يكون في الجهة الشامية لا يرى الذي يأتي من جهة الركنين اليمانيين: الحجر الأسود والركن اليماني، فلذلك حرص الصحابة على ألا يظهروا الضعف أمام الكفار، فلابد للمسلم أن يغيظ الكافر بإظهار القوة والجلد حتى لا يشمت به، فلذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة أن يرملوا في طواف القدوم؛ ليظهروا الجلد. والرمل: هو القفز القريب مع تقارب الخطا، القفز الذي فيه قوة وصحة وعافية، مع أنهم بالفعل كانوا مرضى، وكانوا منهكين من الطواف، فكانوا إذا أتوا إلى الجهة اليمانية حيث لا يراهم المشركون هدءوا الخطوات واستعادوا أنفاسهم، فإذا عادوا للظهور من جديد في الثلاث الجهات الأخرى أظهروا الجلد ورملوا، وهذا الحكم ما زال باقياً إلى اليوم؛ تذكيراً للمسلمين بنعمة الله عليهم، فنحن عندما نرمل حول الكعبة تذكرنا ما كان من كيد المشركين، وتذكرنا هذه القصة واستحضرنا نعمة الله علينا دوماً بتمكين الإسلام وإظهاره. الشاهد من هذا كله: أن المسلم يحرص على أن يكون عزيزاً رافع الرأس، لا يطأطئ ولا يذل للكافرين، ويظهر بالمظهر الذي يليق به بصفته مسلماً، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فإذا التقى المسلم وغيره في طريق فليكن المسلم رافعاً رأسه عزيزاً، يأخذ من الطريق أوسعه، ولا يستذل للكافر فيفسح له الطريق، ويبقى هو لاجئاً إلى أضيقه خاضعاً مستجدياً. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث الذي هو: (إذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه): معناه: لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً. وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى الذي هو قوله: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، يقول القرطبي: وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب، فالتضييق ينبغي ألا يلحقهم بأذى، كما قال الدكتور الطريقي، وفعل المسلم هذا ليس منطلقه الكبر والزهو، وإنما هو عزة الإسلام والحق، فمن أجل هذا لا يتنافى هذا الحديث مع ما ذكرناه من مشروعية التأدب معهم والرفق بهم، كما أن هناك علماء يخالفون الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تأويله لهذا الحديث قال المناوي في فيض القدير: يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام)؛ لأن السلام إعزاز وإكرام، ولا يجوز إعزازهم ولا إكرامهم، بل اللائق بهم الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم؛ تقذيراً لهم وتحقيراً لفعلهم، فيحرم ابتداؤهم به على الأصح عند الشافعية، وأوجبوا الرد عليهم بعليكم فقط، ولا يعارضه آية: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وآية: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89]؛ لأن السلام هنا سلام متاركة ومنابذة لا سلام تحية وأمان، كما قال الله تعالى في ذلك: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] لكن هناك بعض الناس يأتي إلى قوله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] ويطبق هذه الآية بطريقة غير صحيحة غير سوية، فتراه إذا أراد أن يشتم خصمه ويصفه بأنه جاهل يستحضر هذه الآية: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، فهذه أذية وليست متاركة، فهو يستخدم الآية في غير ما أنزلت من أجله، الآية تمدح المسلم العزيز القوي الذي مع قوته وقدرته يعفو ويصفح ويلين ويرفق، حتى مع من يؤذيه فهو يحلم، وليس معناها أنك إذا أردت أن تشتمه تأتي بالآية، فأنت هكذا عملت عكس معنى الآية، فالآية تنصحك بالرفق واللين وبالسلام والمتاركة والمنابذة لا لشتمه، فهو استعمال للآية في غير ما أنزلت من أجله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] يعني: تلطفوا في الجواب. وعليه فالآية أتت لترسيخ خلق معين في المسلم، فلا ينبغي أن تستعملها في عكس ما أنزلت من أجله. قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] أي: قل لهم قولاً طيباً. قوله: (سلام) فهو سلام متاركة ومنابذة لا سلام تحية وأمان كما يكون مع المسلم. يقول المناوي: (إذا لقيتم أحدهم في طريق) فيه زحمة (فاضطروه إلى أضيقه)، بحيث لا يقع في وهدة. أي: بشرط أنك تضطره إلى أضيقه لا أنك تلجئه إلى هاوية سحيقة، وتقول: أنا أضطره إلى أضيق الطريق بحيث يقع بسيارته ويهلك، أو إن كان هناك حفرة مثلاً أو وهدة في طريق إذا اضطريته إليها ستؤذيه، فهذا أيضاً لا داعي له. يقول: بحيث لا يقع في وهدة، ولا يصدمه نحو جدار. وللأسف بعض الناس من المسلمين الآن في قيادة السيارات يفعلون ذلك مع المسلمين، بحيث يحاول أن يضطرك إلى الخروج عن الطريق والاصطدام بسيارة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول: أي: لا تتركوا له صدر الطريق إكراماً واحتراماً، فهذه الجملة مناسبة للأولى في المعنى والعطف، وليس معناه كما قال القرطبي: إنا لو لقيناهم في طريق واحد نلجئهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأنه إيذاء بلا سبب، وقد نهينا عن إيذائهم، ونبه بهذا على ضيق مسلك الكفر وأنه يلجئ إلى النار. والحكمة من هذا التضييق إشارة إلى أن الكفر دائماً عاقبته الضيق، فكما أن الكفر تسبب في أن هذا الشخص يضطر إلى أضيق الطريق، كذلك إن مات على الكفر فإنه يضيق عليه فيحشر في جهنم: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الخوف والرجاء

الخوف والرجاء لقد اختلف العلماء في أرجى آية في القرآن على أقوال كثيرة، ومعلوم أن القرآن كله رجاء وبشارة للمؤمنين والمسلمين على اختلاف مراتبهم، فعلى العبد المؤمن أن يحسن الظن بربه، فهو أرحم به من أمه وأبيه، والرجاء يستلزم دوام الطاعة والاستقامة على شرع الله سبحانه وتعالى، وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي.

أرجى حديث للأمة ومعناه

أرجى حديث للأمة ومعناه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فرفع يديه فقال: (اللهم! أمتي أمتي) وبكى، فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله لجبريل: اذهب إلى محمد فقل: إنا سنزضيك في أمتك ولا نسوءك) رواه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي. هذا الحديث يقول فيه الإمام النووي رحمه الله تعالى: هذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة. يعني: هذا أعظم الأحاديث النبوية في رجاء الله عز وجل وتجاوزه ورحمته لهذه الأمة المرحومة، الحديث يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: (رب إنهن) أي: الأصنام. (أضللن كثيراً من الناس) أي: صرن سبب ضلال كثير من الناس. (فمن تبعني) أي: على التوحيد والإخلاص والتوكل. (فإنه مني) أي: من أتباعي وأشياعي. وتمامها: (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) أي: تغفر ما دون الشرك لمن تشاء، وترحم بالتفضل على من تشاء، أو تغفر للعاصي المشرك بأن توفقه للإنابة، وإلى الإيمان والتوحيد والطاعة في الدنيا، وترحمه بزيادة المثوبة في العقبى. استشهد صلى الله عليه وسلم أولاً بقول إبراهيم عليه السلام: (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) وقال عيسى عليه السلام، أي: تلا صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل حاكياً عن عيسى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) أي: لا يغلبك شيء فإنك القوي القادر، فتحكم بما تشاء، لأنك الحاكم الذي لا معقب لحكمك، أو الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويتقن الأفعال ويحكمها، بعدما تلا صلى الله عليه وسلم هذين القولين عن إبراهيم وعن عيسى عليهما السلام، رفع صلى الله عليه وسلم حينئذ يديه الشريفتين فقال: (اللهم! أمتي أمتي) أي: اللهم اغفر لأمتي، اللهم ارحم أمتي، وجه التكرار في قوله: (أمتي أمتي) أن أمتي الأولى يعني: اللهم اغفر لأمتي، والثانية: اللهم ارحم أمتي، أو أراد بقوله: (اللهم أمتي أمتي) التأكيد، أو أراد بقوله: (أمتي أمتي) أي: الأولون والآخرون من أمته صلى الله عليه وسلم. (وبكى صلى الله عليه وسلم) لأنه تذكر الشفاعة الصادرة عن الخليل (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) فهنا شفاعة من إبراهيم عليه السلام فيمن تبعه، وفيمن تاب الله عليه من المشركين أو العصاة، وتذكر أيضاً شفاعة روح الله عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فرق حينئذ لأمته صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: (يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله) قوله: (وربك أعلم) هذه جملة معترضة؛ لأن هناك معنى محذوراً يوهمه قوله: (فاسأله) فالله عز وجل يعلم كل شيء، وقد أحاط بكل شيء علماً، وإنما أراد بذلك بيان الحكمة وشدة رحمته بهذه الأمة، فلذلك قال: (يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال) أي: أخبره بشيء قاله صلى الله عليه وسلم من سبب البكاء، وهو الخوف لأجل أمته، وشفقته على أمته، ورجاؤه أن ترحم أمته (فقال الله لجبريل: اذهب إلى محمد فقل: (إنا سنرضيك) يعني: إنا بعظمتنا سنرضيك وسنجعلك راضياً، قوله: (في أمتك) أي: في حق أمتك (ولا نسوءك) أي: ولا نحزنك في حق الجميع، بل ننجيهم ولأجل رضاك نرضيهم. صدق الله العظيم حيث يوصف نبيه بأنه رحمة مهداه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] صلى الله عليه وآله وسلم. وقول الإمام النووي: هذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أي: أن هذا من أرجى الأحاديث الواردة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه الإمام البخاري ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. والإنسان يحتاج في بعض الدروس إلى تذكر وحشد آيات الرجاء، كما يحشد عن الابتلاء مثلاً آيات الصبر حتى يستعين بها على مواجهة الابتلاءات، كذلك هناك مواقف معينة لا بد من حشد نصوص الرجاء والتعلق بها، عسى أن يرحم الله عز وجل عباده، فمن المواضع التي ينبغي أن تسرد وتحشد فيها نصوص الرجاء عند الإنسان المحتضر، فإذا حضرت إنساناً يحتضر قد أيس من حياته وأشرف على الموت، فيستحب أن تغلب عليه جانب الرجاء؛ لأنه لم يبق للخوف فائدة في هذا المقام؛ لأن الخوف إنما المقصود به الحث على العمل، أما الرجاء فالمقصود به تهيئته لكي يقبل على ربه ويلقاه وهو يحسن الظن به، فالله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)، فإذا احتضر العبد وهو يحسن الظن بربه لقي من الله عز وجل خيراً، وإن كانت الأخرى فالأخرى.

معنى الرجاء وحقيقته

معنى الرجاء وحقيقته وقبل أن نتكلم في خلاف العلماء في أرجى آية في القرآن الكريم، ننبه إلى معنى الرجاء. معنى الرجاء: يقول الله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، وقال عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف) فإن كان هذا الثواب العظيم وهذه المضاعفة للحسنات مع أن السيئة تكون بواحدة، وما يعفو الله عز وجل عنه أعظم، فويل لمن غلبت آحاده عشراته، ولا يهلك على الله إلا هالك، فلذلك يقول العلماء: إن من رحمة الله عز وجل أنه جعل تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه، وبهذا يسد على العبد جميع المنافذ، فهو يحرم عليه القنوط من رحمته، ويجعل اليأس من رحمة الله قريناً للكفر، ويفتح له أبواب التوبة صباح مساء، ويغفر الذنوب، ويخبر بأن التوبة تجب ما قبلها، ويخبر بأن رحمته وسعت كل شيء، ثم بعد ذلك يحتم على العبد التوبة، فيقول العلماء: تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه.

المقصود بالرجاء وأسباب تحقيقه

المقصود بالرجاء وأسباب تحقيقه إن المقصود بالرجاء: هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، ولكن هذا المحبوب لا بد له من سبب حتى يكون رجاء، فالإنسان عنده شيء يحبه ويرجو أن يحققه، فإن لم يأخذ بالأسباب التي توصله إلى تحقيقه، فهذا هو الغرور وهذا هو الحمق، كما قال الله عز وجل: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] فهذا هو الاغترار بالله عز وجل، لكن الرجاء لا يصدق عليه لفظ رجاء حتى يكون معه الأخذ بالسبب؛ لأن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور: أولاً: محبته لما يرجوه. ثانياً: السعي في تحصيله بحسب الإمكان. ثالثاً: خوفه من فواته. فالدنيا هي مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر في هذه الأرض، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض، فالإنسان إذا أراد أن يزرع فإنه يبحث عن الأرض الطيبة، ويلقي فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس، ثم يتعهد هذا البذر بما يحتاج إليه من سوق الماء إليه في أوقاته، وتنقية الأرض من الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم يظل منتظراً فضل الله تعالى بأن يدفع الصواعق والآفات التي تتسبب في إفساد هذا الزرع، حتى يتم ذلك الزرع ويبلغ غايته، فهذا الانتظار بعد الأخذ بالأسباب يسمى رجاء. إذاً: بعد الأخذ بالأسباب تنتظر رحمة الله عز وجل ونفحاته، هذا هو الرجاء. أما الشخص الذي يبث البذر في أرض صلبة سبخة، مرتفعة لا ينصب إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً، ثم انتظر الحصاد، فإن انتظاره هذا يعد حمقاً وغروراً لا رجاء، فمثلاً: يقول الله عز وجل: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] تجد الإنسان إذا كلمته في الدنيا وقلت له: هون عليك في طلب الدنيا فإنما يأتيك ما قدر لك، وتخبره بالنصوص التي فيها ضمان الرزق وكذا وكذا، يقول لك: كل شيء بسبب، ربنا خلق الأسباب وأمرنا بالأخذ بأسباب، ويطيل القول في ذلك، لكن إذا أمرته بمعروف أو نهيته عن منكر أو كلفته بشيء من الطاعات والواجبات فسرعان ما يتعلق بنصوص الرجاء، ويقول: ربنا غفور رحيم، ربنا رحمته وسعت كل شيء، ويتعلق بنصوص الرجاء وهو يفرط في أسباب التوبة، مع أن الرزق الذي يسعى خلفه هو مضمون ضمنه الله عز وجل له، فالرزق والأجل مضمونان، لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله، لكن النجاة في الآخرة لا تأتي إلا بالسعي، قال الله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41] هذا في الدنيا؛ لأن هذا موافق لهواه وموافق لشهواته يسعى ويكد. إذاً: الرجاء الذي لا يكون معه الأخذ بأسباب النجاة فهذا هو عين الحمق، وهذا هو عين الغرور. والإنسان إذا بث البذور في أرض طيبة، لكن هذه الأرض لا ماء لها، وأخذ ينتظر مياه الأمطار في مكان لا يغلب فيه نزول الأمطار ولا يمتنع أيضاً، هذا يسمى تمنياً لشيء لا يقع في العادة. أما الرجاء فإنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه التي تدخل تحت اختيارك، بحيث لم يبق إلا ما ليس بداخل تحت اختيارك، ولهذا قال {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] المضطر بعدما يعجز عن الأسباب التي في يده يدعو الله عز وجل وينتظر فضله؛ لأنه أخذ بما في يده لكن بقيت أسباب ليست تحت اختياره، فهذا محض فضل الله عز وجل لصرف القواطع والمفسدات لعمله. فالعبد الذي يجتهد في الطاعات ويجتنب المعاصي حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حينما سمع أحد الصحابة رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال: أتدري ما تمام النعمة؟ قال: لا، قال: تمام النعمة أن تدخل الجنة) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، أما العاصي فإنه إذا تاب وتدارك جميع ما وقع منه من تقصير فهذا حقيق بأن يرجو قبول توبته إذا كان كارهاً للمعصية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن) فمن يذم نفسه ويشتهي التوبة ويشتاق إليها فهذا حقيق بأن يوفقه الله للتوبة؛ لأن هذا الحرص على التوبة هو سبب من الأسباب الشرعية التي أمرنا بها. فالرجاء لا بد من ارتباطه بأسباب النجاة، وآية ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218] فما أطلق عليهم وصف الرجاء إلا بعد أن ربطه بالأخذ بهذه الأسباب (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله) أما من ينهمك فيما يكرهه الله سبحانه وتعالى ولا يذم نفسه ولا يعزم على التوبة والرجوع، فرجاء المغفرة في حقه هو الحمق والغرور. يقول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: من أعظم علامات الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب إلى الله بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط. ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس ويقول الحسن البصري في الكلمة المشهورة: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا حكمة لهم، قالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً إذا ذُكِّر ذَكَرَ) أي: أن المؤمن ليس بالمعصوم، ولا بد أن يقع منه شيء، لكن شأنه أنه إذا ذُكِّر ذكر وتاب واستغفر.

الأقوال في أرجى آية في القرآن

الأقوال في أرجى آية في القرآن ما هي أرجى آية في القرآن؟ اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً، فالمشهور أن أرجى آية في القرآن هي قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقال جماعة من العلماء: أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، والذين ذهبوا إلى أن هذه الآية هي أرجى آية لعصاة المؤمنين استدلوا بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن ناساً من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان:68] إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، ونزل أيضاً: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]) وروى الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه يدعوه إلى الإسلام، فقال: كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو زنى أو أشرك يلق أثاماً، ويضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً، وأنا صنعت ذلك؟! فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] إلى آخر الآية، فقال وحشي: هذا شرط شديد، (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً) فلعلي لا أقدر على هذا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فقال وحشي: هذا أرى بعده مشيئة، فما أدري أيغفر لي أم لا؟ فهل غير هذا؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] قال وحشي: هذا نعم فأسلم) والحديث في إسناده ضعف. وفي قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) مما يؤكد الرجاء ويقويه إضافة العباد إلى الله سبحانه وتعالى: (قل يا عبادي) وذلك جبراً لانكسارهم، وتسريعاً لهم للمبادرة بالتوبة. وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، الأولى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] والآية الثانية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] الثالثة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] الرابعة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]). وروى عبد الرزاق عنه أيضاً قال: (خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعاً وذكر فيهن: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110] بدل الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:64])، الخامسة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء:110]. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ثمان آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت فقال: أولهن: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] والثانية: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، والثالثة: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، ثم ذكر مثل قول ابن مسعود في الآيات الخمس سواء بسواء). وقال علي رضي الله تعالى عنه: (أرجى آية في كتاب الله قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ثم قال: وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير، فأي شيء يبقى بعد كفارته وعفوه؟!)، وورد عنه أنه قال: (ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله -يعني بالنسبة للعصاة- حدثني بها النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]) قوله: (ما أصابكم) أي: من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا (فبما كسبت أيديكم)، أي: هذه عقوبتكم في الدنيا، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وقد عاقبكم بها في الدنيا، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه، فهذا هو وجه اختيار علي رضي الله عنه لهذه الآية على أنها أرجى آية في القرآن. وقال بعض العلماء: أرجى آية هي قوله تعالى في آخر سورة الأحقاف: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35] وقرئ: (بلغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) والمقصود بقوله: (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) الآية اقتصرت في الإهلاك بالعذاب على الكفار؛ فأطمعت المسلمين في رحمة الله تبارك وتعالى، ومثلها أيضاً قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:17] وفي قراءة أخرى: (وهل يجازى إلا الكفور). وقيل أيضاً: إن أرجى آية هي قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]. وقيل: إن أرجى آية هي قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84].

معنى قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى

معنى قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى قيل: إن أرجى آية في القرآن هي قوله سبحانه وتعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] فروي: (أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآية قال: إذاً لا أرضى وواحد من أمتي -يعني: من أمة الإجابة الذين دخلوا في دين الإسلام، واستجابوا لدعوته صلى الله عليه وسلم- في النار) وصح أيضاً في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أزال أشفع يوم القيامة فأشفع حتى يناديني ربي أقد رضيت يا محمد؟! فأقول: أي ربي رضيت) صلى الله عليه وآله وسلم. ونظم بعضهم هذا المعنى فقال: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء وقال الآخر مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن على جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وحاشاك أن ترضى وفينا معذب وقال بعض العلماء: إن حمل هذه الآية: (ولسوف يعطيك) على الشفاعة متعين، واستدلوا على ذلك بوجوه: الأول: أنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا بالاستغفار، فقال عز وجل: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] قوله: (واستغفروا) السين هذه سين الطلب، يعني: سؤال المغفرة عبارة عن طلب المغفرة، ومن طلب شيئاً فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به. إذاً: الاستغفار كلمة تفيد الطلب مثل الاستسقاء يعني: طلب السقيا، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] على القول بأنها تفيد الطلب، بمعنى: أنهم سألوا الله الاستقامة والثبات عليه، هذا أحد الوجوه في التفسير حتى كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة. فالمقصود بقوله: (واستغفر لذنبك والمؤمنين) يعني: سلني أن أغفر لأمتك، فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يسأل الله شيئاً، فهو يحب هذا الشيء، وبالتالي يكره أن يرد، ولا يرضى أن يرد، إنما يرضى بالإجابة، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته هو الإجابة لا الرد، وقد دلت هذه الآية على أن الله سبحانه وتعالى يعطيه كل ما يرتضيه، علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين. إذا كان الرجل يقول في حق الذي هو مثله من البشر: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا يقول له: لو لم ترد، أي: لو لم تكن تحب أن تعطيني لما كنت تعلمني أن أطلب منك، فكيف يكون في حق الله عز وجل الذي علمنا أن ندعوه وضمن لنا الإجابة؟! أما الأحاديث الواردة في الشفاعة فكثيرة، وهي دالة على رضا الرسول صلى الله عليه وسلم في العفو عن المذنبين، وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فتحصل من مجموع الآية والحديث حصول الشفاعة. وعن جعفر الصادق أنه قال: رضا جدي ألا يدخل النار موحد. والحديث الذي صدرنا به الكلام يؤكد هذا المعنى، وهو قول الله عز وجل لجبريل: (اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) لكن هناك تنبيه مهم جداً: وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يرضى الرضا الكامل إلا إذا وقعت شفاعته لجميع أمته كاملة، فهذا أمر يكون في المستقبل، فلا ينافي دخول بعض أمته النار ابتداءً، لكن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من الموحدين، فالمقصود بالرضا أنهم لا يخلدون في النار.

وجه كون قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) أرجى آية في كتاب الله

وجه كون قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) أرجى آية في كتاب الله هناك أقوال أخرى فيما يتعلق بأرجى آية في القرآن: قيل: إن أرجى آية في القرآن هي قول الله سبحانه وتعالى في سورة النور: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال العلماء: إن في هذه الآية الكريمة دليلاً على أن كبائر الذنوب لا تحبط العمل الصالح؛ لأن مسطح بن أثاثة من عمله الصالح الهجرة في سبيل الله، ومع ذلك وقع في قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وخاض في الإفك، فأقيم الحد عليه، ومع ذلك ثبت الله سبحانه له وصف الهجرة والمهاجرين في سبيل الله. فقذفُ عائشة رضي الله عنها من الكبائر، ومع ذلك لم يبطل هجرته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال بعد هذه الكبيرة: (والمهاجرين في سبيل الله) فدل على أن هجرته في سبيل الله كانت خالصة، ولم يحبطها قذفه لأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. قال القرطبي في هذه الآية في سورة النور: معروف أن مسطحاً لما وقع في عائشة رضي الله تعالى عنها، فكان أبو بكر يعطيه نفقة وأموالاً، فغضب منه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقطع عنه هذه النفقة. هناك من الأشعار اللطيفة كون الإنسان إذا أساء إلى إنسان فلا يحتج بفعل مسطح. كان هناك رجل له ولد عاق لا يطيعه، فقطع أبوه عنه النفقة التي كان يؤتيه إياها، فبعث إليه ولده بهذه الأبيات يقول فيها: لا تقطعن عادة بر ولا تجعل عتاب المرء في رزقه فإن أمر الإفك من مسطح يحط قدر النيل من إفكه وقد جرى منه الذي قد جرى وعوتب الصديق في حقه فكتب إليه أبوه يقول: قد يمنع المضطر من ميتة إذا عصى في السير في طرقه لأنه يقدر على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه لو لم يتب من ذنبه مسطح ما عوتب الصديق في حقه فهو يحتج بقوله تعالى: ((أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)) [النور:22] في حق مسطح، ولم الصديق في حقه إلا بعدما أظهر مسطح الندم، وتاب من هذه الكبيرة. وقوله: (قد يمنع المضطر من ميتة) هذه قاعدة معروفة، وهي: أن الرخص لا تناط بالمعاصي، فالإنسان إذا فعل معصية فليس له أن يترخص بالرخص الشرعية حال مباشرته لمعصية، كالشخص الذي يسافر لأجل معصية معينة يرتكبها، فهل له أن يقصر الصلاة؟ لا، ليس له أن يقصر الصلاة، وليس له أن يأكل الميتة إذا اضطر؛ لأنه في سفر معصية، فالرخص لا تناط بالمعاصي؛ فلذلك يقول هذا الأب لولده العاق: قد يمنع المضطر من ميتة إذا عصى في السير في طرقه يعني: إذا مشى في الطرق في سفر معصية فيمنع من هذا الرزق. لأنه يقدر على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه لو لم يتب من ذنبه مسطح ما عوتب الصديق في حقه نعود لما نحن بصدده، يقول الإمام القرطبي: في قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل) دليل على أن القذف وإن كان كبيراً لا يحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مسطحاً بعد قوله في عائشة بالهجرة والإيمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]. وقال القرطبي أيضاً: قال الإمام مسلم: قال حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله. ثم قال بعد هذا: قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة اهـ. بهذا اللفظ.

تتمة أقوال العلماء في بيان أرجى آية في كتاب الله تعالى

تتمة أقوال العلماء في بيان أرجى آية في كتاب الله تعالى وقيل: أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:47]، وقد قال تعالى في آية أخرى مبيناً هذا الفضل الكبير: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:22] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية وبشر به المؤمنين في تلك الآية. وقيل: من آيات الرجاء أيضاً: قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى:19].

وجه كون أرجى آية في القرآن هي آية الدين

وجه كون أرجى آية في القرآن هي آية الدين وقال بعض أهل العلم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: آية الدين، وربما يستغرب لأول وهلة أن تكون آية الدين هي أرجى آية للعصاة في القرآن الكريم، وقد أوضح الله تبارك وتعالى في آية الدين الطرق الكفيلة لصيانة الدين من الضياع، وكل هذه الآية من أجل مصلحة المسلم في شيء يسير جداً من الدنيا، يقول عز وجل: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة:282] حتى لو كان الدين دريهمات قليلة، ومع ذلك اهتم الله سبحانه وتعالى بأمر المؤمن هذا الاهتمام، وأنزل في حفظ حقه أطول آية في كتابه المجيد! قالوا: إن المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم وعدم ضياعه ولو قليلاً، يدل على العناية التامة بمصالح المسلم، ويدل أيضاً على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول وشدة حاجته إلى ربه سبحانه وتعالى. قال بعض العلماء أيضاً: كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء، فقيل له: وما فيها من الرجاء؟! فقال: الدنيا كلها قليل، ورزق الإنسان منها قليل، والدين قليل، فانظر كيف أنزل الله تعالى أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظه دَينه، فكيف لا يحفظ دِينه الذي لا عوض له منه؟! يقول بعضهم: لئن كنت في الدنيا بصيراً فإنما بلاغك منها مثل زاد المسافر إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما يقتاته منها فليس بضائر وقال الملا علي بن سلطان القاري: فوجهه أنه سبحانه وتعالى أمرنا بالاحتياط لدنيانا الفانية التي نهانا عن الاغترار بها والركون إليها والاعتناء بها، وأمرنا بالإعراض عنها والزهادة فيها، فإذا لطف بما أرشدنا إليه مع حقارتها في أطول آية من كلامه، فكيف بالدار الباقية دار الخلد في النعيم والالتذاذ الذي لا يساوي بل لا يدانى بالنظر إلى وجهه الكريم؟!

آيات في الرجاء وأقوال أهل العلم فيها

آيات في الرجاء وأقوال أهل العلم فيها أخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أرجى آية في القرآن لهذه الأمة قوله تعالى: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]. وقيل: أرجى آية هي قوله تعالى في سورة الحجر: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].

معنى قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب) ووجه كونها أرجى آية

معنى قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب) ووجه كونها أرجى آية قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: من أرجى آيات القرآن العظيم قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:32 - 35] كيف تكون هذه الآية هي أرجى آية في القرآن، بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أن الله اصطفاهم، فقال عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] وبين أن هؤلاء المصطفين ثلاثة أقسام: الأول: الظالم لنفسه، وهو الذي يطيع الله ولكنه يعصيه أيضاً، فهذا هو الذي قال الله فيه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] وكل (عسى) في القرآن فهي واجبة. الثاني: المقتصد، وهو الذي يطيع الله ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات. الثالث: السابق بالخيرات، وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله تعالى بالطاعات والقربات غير الواجبة، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه والمقتصد والسابق. ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه سبحانه وتعالى عليهم، ثم بعد ما ذكر هذه الأقسام الثلاثة وعد الجميع -الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات- بجنات عدن، وهو الذي لا يخلف الميعاد، فقال عز وجل: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) إلى قوله: (وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) فهذه الواو في قوله: (يدخلونها) شاملة للظالم والمقتصد والسابق على التحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو في قوله تعالى: (يدخلونها) أن تكتب بماء العينين؛ لما تضمنته من الرجاء والتبشير وتفريج كربات العصاة من المؤمنين، فوعد الله سبحانه وتعالى الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة وأولهم الظالم لنفسه، يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن الكريم، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن هذه الأقسام الثلاثة؛ لأن الوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين، ولذا قال بعدما ذكر الثلاثة الأقسام للمسلمين مباشرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] إلى قوله سبحانه: {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق، ما الحكمة من أنه قدم الظالم لنفسه وأخر السابق بالخيرات؟! قالوا: قدم الظالم؛ لئلا يقنط من رحمة الله، وأخر السابق بالخيرات؛ لئلا يعجب بعمله فيحبط. وقال بعضهم: قدم الظالم لنفسه؛ لأن أكثر أهل الجنة هم الظالمون لأنفسهم؛ لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم كما قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24]. هذا ما يتعلق بأرجى آية في القرآن المجيد.

أقوال العلماء عن أخوف آية في القرآن العظيم

أقوال العلماء عن أخوف آية في القرآن العظيم لا شك أننا بحاجة أيضاً إلى أن نتكلم عن أخوف آية في القرآن، لكن لا نفصل فيها، وإنما نذكرها على سبيل الاختصار. قال بعض العلماء: أخوف آية هي قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]. وقيل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]. وقيل: قوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26]. وقيل: قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]. وقيل: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] هذه الآية تسمى: نبتات العابدين. وعن أبي حنيفة: أن أخوف آية قوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131]. وعن الشافعي: أنها قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] هذا ما توافر لدي فيما يتعلق بأخوف آية وأرجى آية في القرآن العظيم.

عبودية الكائنات [1]

عبودية الكائنات [1] خلق الله عز وجل الخلق وهو في غنىً عنهم، وإنما خلقهم سبحانه وتعالى لعبادته، فكل الخلق عبيد لله، سواء عبودية عامة أو عبودية خاصة، فيجب على الإنسان أن يحقق العبودية الخاصة؛ فإنها الغاية التي لأجلها خلق.

أنواع العبودية ومفهوم الكائنات

أنواع العبودية ومفهوم الكائنات

تعريف العبادة

تعريف العبادة بسم الله الرحمن الرحمم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فسنبدأ أولاً بتوضيح مفهوم العبودية، فالعبودية هي الغاية من وراء هذا الخلق، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والعبودية لله سبحانه وتعالى مفتاح دعوة الرسل؛ إذ ما بعث الله رسولاً إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]. والعبودية هي: الخضوع والانقياد والطاعة لله تبارك وتعالى. واصطلاحاً هي: الأعمال الصالحة التي تُؤدى لله تبارك وتعالى، ويُفرد الله بها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

العبودية عامة وخاصة

العبودية عامة وخاصة أما العبودية فهناك عبودية عامة، وهناك عبودية خاصة. فالعبودية العامة بمعنى أن كلمة (العبد) يقصد بها المعنى العام للعبادة، فعبد بمعنى: معبد. وتأتي العبادة الخاصة التي فيها (عبد) بمعنى عابد. والعبودية العامة هي عبودية القهر والتسخير لنفاذ أمر الله تبارك وتعالى في كل شيء، فلا يقدر كائن أن يمتنع عن شيء جبله الله عليه، وهذه العبودية تشمل جميع الكائنات؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتصرف في خلقه بمحض ربوبيته بما يشاء وكيف شاء، حتى أطغى الطغاة وأكبر الجبارين إذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يقبض روحه قبض روحه، وإن شاء أن يمرضه أمرضه، فيتصرف في خلقه سبحانه وتعالى بما شاء، ولا راد لمشيئته ولا لقضائه تبارك وتعالى، ولا يستطيع أحد أبداً أن يخرج عما يقدره الله له. فهذه العبودية تشمل جميع الناس: المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، يقول تبارك وتعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، ويقول تبارك وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، وقال عز وجل في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، فجميع الكائنات لا تخرج عن مشيئته وقدرته وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فهذه عبودية القهر والملك والتصرف كما تقتضيه ربوبيته تبارك وتعالى. فالعبودية هنا عامة، والعبد هنا بالمعنى العام للعبودية بمعنى: معبد، أي مقهور وذليل خاضع لكل ما يجريه الله سبحانه وتعالى عليه. أما العبودية الخاصة فهي العبودية الاختيارية، عبودية الطاعة والانقياد والمحبة والاختيار، وهذه العبودية تصدر من المؤمنين الموحدين الذين يقومون بطاعته تعالى وتمجيده وتقديسه، من الجن والإنس والملائكة، فعبد هنا بمعنى: عابد العبودية الاختيارية، ومنه قوله تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]، وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هونًا} [الفرقان:63]، وقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:6]. إذاً: الخلق كلهم عبيد ربوبيته عز وجل، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته، فالعبودية العامة هي الملك والقهر والتسخير، أما العبودية الاختيارية فهي توحيد المعبود باختياره، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته.

مفهوم الكائنات وأقسامها

مفهوم الكائنات وأقسامها ولابد أن نمر أيضاً على مفهوم الكائنات، فما هي الكائنات الموجودة؟ الكائن بمعنى: المخلوق المصنوع الموجود المقهور الخاضع الذليل، ومنه كلمة (استكان) يعني: ذل وخضع لمكوّنه، فالكائنات لفظ يرادف الموجودات والمخلوقات، فهي تشمل كل ما سوى الله عز وجل، حيث إنه تعالى هو الموجد والمكون والخالق لها؛ لأن كل ما في الوجود إما خالق أو مخلوق، فالخالق هو الله وحده، وكل ما عدا الله مخلوق مكون فهو من الكائنات الموجودة. فإذاً: الكائنات هي كل ما عدا الله، وهي التي وصفها الله بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]. والكائنات قسمها العلماء باعتبارين إلى أقسام: التقسيم الأول: تقسيم الكائنات إلى: علويات وإلى سفليات. أما العلويات فيقصدون السماء والكواكب والنجوم والفلك والجنة والملائكة والعرش والكرسي. وأما السفليات فالنار والهواء والماء والتراب والرياح والسحاب والأرض والجبال والشجر والبحار والأنهار والأحجار والحيوانات والإنسان والنبات والطيور. التقسيم الآخر وهو أدق: تقسيم الكائنات إلى: كائنات في عالم الغيب، وكائنات في عالم الشهادة. أما عالم الغيب فهو كل ما غاب عنك، فهناك أحياء غيبية كالملائكة والجن، فهي أحياء لكنها في عالم الغيب، وهناك جمادات غيبية، كالجنة والنار والقلم والعرش. أما عالم الشهادة فيشمل كل ما هو مشاهد محسوس في حياة المخلوقات، فهناك الإنس، والإنس يشملون الأنبياء وأتباعهم، وهناك الحيوانات والنباتات والجمادات وغير ذلك. وكل هذه الأقسام التي ذكرنا تقوم بعبادة الله سبحانه وتعالى وتسبيحه، ليس على المجاز، ولكن على الحقيقة كما سنبين.

دواعي عبودية الله عز وجل

دواعي عبودية الله عز وجل أما دواعي هذه العبودية، فأول داعٍ من دواعي العبودية هو الفطرة، فالإنسان إذا كانت فطرته سليمة فإنها تجذبه إلى التوحيد، حتى قال بعض العلماء: لو أن رجلاً منذ أن ولد وضع في الأغلال، وحبس في غرفة ولم يختلط بأحد حتى بلغ وكلف، فسوف ينطق بـ (لا إله إلا الله)؛ كل إنسان سليم الفطرة يشعر باعترافه بالله سبحانه وتعالى؛ إذ إن هذا أمر فطري، فلذلك لا يحتاج إلى مناقشة، كالذي عوفي من بلاء الفلسفة والإلحاد والمذاهب المشككة، وعوفي من تأثير البيئة الفاسدة كالبيئة النصرانية أو اليهودية أو الشركية من حوله. فإن هذه البيئة التي حبس فيها تدل على أنه ليس عنده مشكلة، ولا يقبل أصلاً مبدأ أن يناقش قضية وجود الله؛ لأن أقوى دليل هو الفطرة، ويجد أن هذا الشعور مغروس في قلبه، ومغروس في فطرته، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، وقال عز وجل في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وأيضاً من دواعي العبودية: الشرائع، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. ومن دواعي العبودية الآيات الكونية التي تكشفها لنا الكشوفات العلمية الحديثة، والإسلام يعتبر التفكر في الآفاق عبادة واجبة على المسلم، فعليه أن يتفكر في هذه الآفاق وفي مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فإنه لما نزلت الآيات الخواتيم في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190 - 191] بكى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد أنزلت عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها!)، فهذا الوعيد يدل على وجوب التفكر في هذه الآيات بالذات، وهي تشمل التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى. ويقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]، فالتفكر في هذا يورث اليقين. ويقول تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] وهذه من أعظم آيات الله سبحانه وتعالى، ويقول عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. ومجال الإعجاز العلمي في نصوص القرآن والسنة مجال رحب جداً، وحتى لا نخرج من موضوعنا نكتفي بهذه الإشارة إلى أن هذا أحد موجبات العبودية.

عبودية البشر

عبودية البشر

مراتب البشر في العبودية

مراتب البشر في العبودية أما مراتب البشر في العبودية فأعلى المراتب هي: مرتبة الرسل والأنبياء، وأعلى مراتب الرسل هي مراتب أولي العزم من الرسل، وأعلاهم محمد عليه الصلاة والسلام، ثم عامة الرسل، ثم عامة الأنبياء. المرتبة الثانية: مرتبة أصحاب الأنبياء والرسل، وهم الحواريون والأنصار والربانيون، وأفضل هؤلاء على الإطلاق هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم خير أمة أخرجت للناس، يعني: أن أفضل الأمم بعد الأنبياء هم الصحابة، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي إلخ الترتيب المعروف؛ رضي الله تعالى عنهم أجمعين. تلي مرتبة الحواريين والربانيين وأصحاب الأنبياء مرتبة المجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى، وأعلى مراتب المجاهدين مرتبة الذين استشهدوا بالفعل في الجهاد في سبيل الله. تليهم مرتبة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. تليهم مرتبة المحسنين من أهل الإيثار والصدقة ودفع كربات الناس. يليها منزلة الصالحين المحافظين على الفرائض والنوافل، أولياء الله عز وجل، وهؤلاء هم الموصوفون بأنهم سابقون في الخيرات. يلي ذلك أهل النجاة الذين أدوا الفرائض وتركوا المحارم، بلا زيادة ولا نقص، وهؤلاء الذين ينطبق عليهم وصف المقتصد. يليهم الذين أسرفوا على أنفسهم وغشوا الكبائر مع أدائهم الفرائض، وهم المستحقون لوصف الظالم لنفسه.

العبادة هي أشرف أوصاف الأنبياء

العبادة هي أشرف أوصاف الأنبياء أما الكلام في الحقيقة على عبودية الأنبياء فموضوع مهم جداً جداً، وما أكثر ما تكلم الناس فيه! لكن نشير إشارة عابرة؛ لأنه ليس هذا المقصود الأساسي من البحث. يقول تبارك وتعالى: {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، وهم الرسل عليهم السلام، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171]، فوصف الأنبياء بالعبودية له عز وجل، وقال أيضاً: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، وقال أيضاً: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73]، فهذا أشرف وصف يعتز به الأنبياء والمرسلون، وهو أنهم عباد لله تبارك وتعالى. ويقول عز وجل مبيناً عبودية نوح له: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، ويقول أيضاً: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، وقال أيضاًَ في حقه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:81]، وقال أيضاً: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]. أما إبراهيم فقال الله عز وجل في وصفه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:81]، وقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} [ص:45]. أما موسى فقال أيضاً فيه وفي أخيه هارون: {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:122]. أما عيسى فكان أول ما نطق به في المهد أن قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، وقال أيضاً في حقه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف:59]، وقال أيضاً: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} [النساء:172]. أما خاتمهم وسيدهم صلى الله عليه وآله وسلم فقد وصفه الله بالعبودية في أشرف مقاماته فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19]، وقوله: (عبد الله) يقصد به الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هنا في مقام الدعوة، وقال عنه كذلك في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لِيلاً} [الإسراء:1]، وقال عنه أيضاً في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وقال أيضاً: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} [الزمر:36].

عبودية أتباع الرسل

عبودية أتباع الرسل أما أتباع الرسل فقد وصف القرآن أتباع الرسل بهذه العبودية، كمؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون آسية بنت مزاحم، وكذلك سحرة فرعون، وأصحاب الكهف، والغلام، وأصحاب الأخدود، وكذلك مؤمن آل ياسين، أي: حبيب النجار. أما هذه الأمة فما أكثر العابدين والعباد الذين استحقوا هذا الوصف الشريف، وعلى قمتهم بلا شك أبو بكر وعمر والصحابة كما ذكرنا، ومنهم عباد بن بشر والبراء بن مالك، وهما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

عبودية جميع الكائنات

عبودية جميع الكائنات ونحن الآن سنتكلم على عبودية نوع آخر من الكائنات، لا نعني بها عبودية الأنبياء والمرسلين وأتباعهم وطبقاتهم، وإنما نتكلم عن الكائنات كلها، ونثبت أن الله سبحانه وتعالى يخلق فيها إدراكاً حقيقياً، فهذه الكائنات تسبح، وتحمد الله عز وجل، ويخلق الله فيها إدراكاً، حتى الحجر والجدار، كما قال تبارك وتعالى في الجدار: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77]، خلق الله فيه إرادة، ولذا قال: (يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَه).

سجود الكائنات

سجود الكائنات ومن هذه العبودية التي تقوم بها الكائنات: عبادة السجود، يقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]. في هذه الآية قرينة واضحة على أن السجود هنا سجود حقيقي، وليس بالمعنى المؤول بأنه بالدلالة على الله سبحانه وتعالى، هذه القرينة هي قوله تعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)، لو كان المقصود التسبيح بمعنى أن من رآها قال: سبحان الله، لقال: والناس أو وكل الناس؛ لأنك إذا رأيت أي مخلوق خلقه الله، فيمكن أن تقول: سبحان الله؛ لأنه خلق له هذه العين وهذه الأذن وهذا الأنف، وخلقه بهذه الطريقة، فلو كانت الدلالة العامة بالصورة المؤولة لما قال تبارك وتعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)، ولكن بعض الناس قال: لم يقصد هنا التسبيح الحقيقي؛ لأن من الناس من يكفر بالله ويجحده، ولا يسجد له ولا يسبحه، فإذا كان الأمر كما زعموا فلن يكون لتخصيص السجود بكثير من الناس معنىً. ثم قال تعالى في آية أخرى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:48 - 50]. الشاهد: قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48]، حيث إنه هنا بين كيفية سجود هذه الأشياء فقال: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ)، يعني: أن الكائنات التي لها ظل هذه هي كيفية سجودها لله سبحانه وتعالى، فالله قادر على أن يخلق للظل إدراكاً يسجد لله به سجوداً حقيقياً. وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) هذا يدل على أن المقصود جميع الكائنات؛ لأنه ليس هناك كائنات تخرج عن السماء أو الأرض؛ فلذلك هذا كله يسجد سجوداً حقيقياً لله عز وجل، ولذا قال: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:49 - 50]. هناك خلاف في كيفية هذا السجود، فهناك سجود، وهناك تسبيح، فمثلاً: الطيور تسمعها في وقت الشروق وفي وقت الغروب، وإذا كان هناك غابة فيها أشجار كثيرة أو بستان أو حديقة تسمع أصوات الطيور في هذين الوقتين بالذات كأنها أوامر مكلفة بها، وحينما تسمع هذا ما يدريك لعل هذا هو تسبيح الطيور؟ لكنك لا تفقه منه شيئاً، وكونك لا تفقه لا يسوغ لك أن تنكره. وهكذا الأمواج تسبح، وكل ما خلق الله سبحانه وتعالى من الكائنات يسبح الله عز وجل. لكن يختلف الإنسان عمن عداه في كيفية السجود، فنحن -مثلاً- معشر المسلمين سجودنا الخاص بنا هو ذلك السجود الذي يكون على سبعة أعضاء، أما بقية الكائنات فسجود كلٍ بحسبه، إذ كل كائن له طريقة خاصة بالسجود الله أعلم بها، فلو قيل: كيف يسجد الشجر؟ وكيف يسجد القمر؟ وكيف تسجد الشمس؟ وكيف تسجد هذه الكائنات؟ لقلنا: لا ندري، لكن هي تسجد قطعاً بلا شك في ذلك. فالخلاف هو في كيفية السجود، ونحن نعرف فقط سجودنا نحن؛ إذ نسجد على سبعة أعضاء، أما ما عدانا من الكائنات فهي تسجد، ولكننا لا نعرف هذه الكيفية.

تسبيح الكائنات

تسبيح الكائنات وهناك عبادة التسبيح: يقول تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44]. فالله يقول: (تُسَبِّحُ)، إذاً: هي تسبح، فلا يليق بمؤمن أن يسمع قول الله تبارك وتعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ) ويقول: إنها لا تسبح، وأما تفسير من يقول: إن من رآها قال: سبحان الله، فهذا كلام فاشل، وهو مضاد لقول الله: (تُسَبِّحُ). وقوله تعالى: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، نفى هنا معرفة كيفية التسبيح. وأما لماذا لا نفقه تسبيحهم فلأنها بخلاف لغتنا، والله سبحانه وتعالى امتن على سليمان بنعمة خصه بها على سائر الناس فقال: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل:16]، فسليمان عليه السلام فهم كلام النملة، ولم يكن هذا مجازاً بل كان حقيقة قطعاً. والهدهد حينما أتى وخاطبه وحصل بينهما هذا الحوار، هل كان هذا بالإشارة أو بالرموز أم أنه كان حقيقياً؟ A كان كلامه حقيقياً. إذاً: الهدهد يتكلم، والنمل يتكلم، وإمكانيتكم لا تسمح لكم بالتقاط وفهم هذا التسبيح. وعبر عنها هنا بضمير العاقل، ولم يقل: (ولكن لا تفقهون تسبيحها) أي: الكائنات، وإنما أعاد عليها ضميراً من يعقل؛ لأنه أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح، ولذلك قال: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وكذلك أطلع الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام على تسبيح الجبال والطير، وداود عليه السلام كان يقف موقفاً مهيباً عظيماً عجيباً حينما يسبح الله عز وجل، فكان يجاوبه كل شيء، حتى الطيور في السماء كانت تجيب وتردد خلفه، والجبال تشترك معه في هذا التسبيح، يقول تبارك وتعالى في سرد قصة داود عليه السلام: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]. ولو كان تسبيحاً عادياً بمعنى أنه إذا رآها قال: سبحان الله لما اختص داود بهذا، وما الفرق بين داود وبين أي شخص آخر إذا رأى الجبال قال: سبحان الله؟ هذا إفساد لمعاني القرآن، ولذلك يقول تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، فهذا خطاب للجبال، ويقول تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19]، ويقول: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18] ولو كان المقصود بتسبيح الجبال أن من رآها قال: سبحان الله، هل يختص هذا بالعشي والإشراق أم هذا في كل وقت؟ A في كل وقت، فتخصيص هذين الوقتين يدل على أنه تسبيح حقيقي، وأنها بالفعل تسبح الله سبحانه وتعالى. ويقول تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، أي: أن الحجر يهبط من خشية الله، ويقول تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:88 - 92]. وسنرى في هذا البحث -إن شاء الله- أن هذه الكائنات تعرف الموالاة والمعاداة، وتحب أولياء الله، وتعادي أعداء الله. وقد أشرنا من قبل إلى أنه لا يبعد أن يكون ما حصل في الجبل المقطم هو من هذا، فإن الجبل اندك؛ لأن من كانوا بجانبه قد انفصلوا عن المسلمين الموحدين، وكان هؤلاء النصارى قد تمركزوا في هذا المكان قريباً من الجبل، والجبل ما تحمل، إذ كل فترة يسمع: المسيح بن الله، والأب والابن وروح القدس، فالجبل ما تحمل، وهذا لا يبعد أن يكون هو تفسير هذا الأمر، فأكل الخنازير، وعبادة غير الله، والنطق بالشرك، كل هذا مما يغضب الله، فلما تزيلوا عن الموحدين أنزل الله بهم هذا الجبل الذي لم يتحمل أن يسمع هذا الشرك، والله تعالى أعلم. وأيضاً علم الله سبحانه وتعالى كل كائن من هذه الكائنات كيفية التسبيح الخاصة به، يقول عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] وهذه الصلاة ليست بالضرورة مكونة من ركوع وسجود وتكبيرة إحرام وتشهد وتسليمتين، وإنما هو تسبيح خاص ألهمها الله عز وجل إياه، فقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41]، يعني: أن الله علم صلاة كل شيء من هذه الكائنات وتسبيحها، أما دلالته على الرب فيعلمه عموم الناس، وهذا فيه إبطال من أول قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] بقوله: أي: علم الله صلاته وتسبيحه. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم (ما تستقل الشمس -يعني: ما تشرق الشمس وترتفع- فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم)، حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة والحديث رقم (2224)، يعني: كل من لم يسبح الله في هذا الوقت فهو من أغبياء بني آدم، أو من الشياطين. ويقول تبارك وتعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، يعني: بعد ما قضى الله سبحانه وتعالى بين الخلائق جميعاً بالحق والعدل تبارك وتعالى، في تلك اللحظة نطق الكون بأجمعه، ولذلك كانت الإضافة هنا مجهولة فلم يضف القول إلى قائله، ففي تلك اللحظة بعد ما فصل الله بين الخلائق بالحق والعدل، واستقر حكم الله على أهل الجنة وأهل النار نطق الكون بأجمعه لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يضف القول إلى قائل، بل أطلقه فقال: (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فجميع الخلائق في هذه اللحظة تحمد الله سبحانه وتعالى لعدله وحكمته. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليستغفر للعالم من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر) رواه ابن ماجة انظر إلى الموالاة والحب في الله حتى الحيتان في البحر تستغفر للعالم. وفي الترمذي زيادة: (حتى النملة في جحرها لتستغفر هي الأخرى لمعلم الناس الخير)، وهل يمكن أن نستبعد هذا أو نستغربه بعدما سمعنا الله تعالى يحكي عن هذه النملة عبارة في قمة الفصاحة، وفي أعلى مراتب البيان على وجازتها، حيث قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]؟ وفي هذا اعتذار عن سليمان عليه السلام؛ لأن سليمان عليه السلام لا يمكن أن يتعمد أذية النمل، لكن قد يقتله هو وجنوده دون أن يشعروا، فهذا اعتذار في غاية التأدب مع نبي الله ومع جنوده وأصحابه.

إيمان الكائنات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

إيمان الكائنات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكل هذه الكائنات مسلمة بالله عز وجل، كما قال سبحانه: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]. وليس هذا فحسب، بل جميع الكائنات تؤمن بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في حين عمي كثير من الإنس الذين أوتوا العقول ورأوا الآيات عن هذا الحق، وكذبوا برسالته صلى الله عليه وآله وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس)، رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني. ومناسبة هذا الحديث: أنه كان هناك جمل استعصى على الناس، وكان موجوداً في حائط أو بستان، وكان كل من اقترب منه يشد عليه هذا الجمل، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاه إليه، فأتى الجمل بين يديه، ووضع أنفه على التراب أمام النبي عليه السلام وسكن؛ لأنه عرف أن هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما تعجب الصحابة من ذلك أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام وأزال تعجبهم بقوله: (إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال للرجل المؤذن: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)، ثم قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري، فكل شيء يسمع صوت المؤذن يشهد له يوم القيامة. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، أي: ما زال الحجر قائماً وموجوداً، وكان إذا رأى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: السلام عليك يا محمد! أو يا رسول الله! وعن سفينة -وهو أبو عبد الرحمن مهران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقب سفينة لأنه حمل شيئاً كبيراً في السفر- أنه أخطأ الجيش بأرض الروم، فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث! أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد وله بصبصة -يعني: يحرك الذنب، وكأنه يرحب به- حتى قام إلى جنبه وكلما سمع صوتاً أهوى إليه -أي: أهوى إليه الأسد؛ كي يحميه من أي ضرر يقع به في الطريق- ثم أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد. وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، وهذا جاء في أكثر من حديث عن الصحابة، فأحياناً يخرق الله العادة، كما أسمع داود تسبيح الجبال، فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل). يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وإذا ثبت هذا في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، وهو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فيه. ولكن القول بأنه تسبيح دلالة بحيث من رآها يقول: سبحان خالقها، ليس هذا التأويل بالقوي، والصحيح: أن الكل يسبح؛ للأخبار الدالة على ذلك، ونصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء، فالقول به أولى.

نماذج في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل

نماذج في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل ٍأما ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه: (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) فذكر كثيراً من النماذج العظيمة جداً في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل، على ضآلة الاكتشافات العلمية في عصر ابن القيم، ولكن هذا الكتاب يعكس مدى مواكبة ابن القيم لثقافة عصره، بحيث يمكن أن نقف الآن على أناس لا يعرفون عشراً من أعشار ما كان يعرف ابن القيم قبل تقدم هذه العلوم، مما يدل على اهتمام علمائنا وأسلافنا بهذا الباب جداً. فيتكلم ابن القيم في موضع من كتابه: (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) على عبودية الشجر، ويقول: فتبارك الله رب العالمين الذي يعلم مساقط تلك الأوراق ومنابتها، فلا تخرج منها ورقة إلا بإذنه، ولا تسقط إلا بعلمه، ومع هذا فلو شاهدها العباد على كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمراً آخر. ونحن إذا نظرنا إلى متحف الأحياء المائية نجد فيه أشياء عجيبة ليست كما عندنا، فأنت حينما ترى هذه المناظر الجميلة والبديعة تنبهر بجمال خلق الله سبحانه وتعالى في المناظر الطبيعية، وفي الجمال، فما بالك لو انكشف لك صوتها وهي تسبح، حتى ترى نوعاً آخر من الجمال لا يمكن أن تقيسه بجانب الجمال الذي تدركه بعينك فقط؟ وإذا سمعت صوت الطيور في الصباح وهي تغرد بهذه الأصوات الجميلة فإنك ترتاح لذلك، وتأنس به، وتتمتع بهذا الصوت، فما بالك لو فقهت تسبيحها؟ لا شك أنك سترى ما هو أجمل من هذا الأمر الظاهري الذي تراه. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ومع هذا فلو شاهدها العباد على كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمراً آخر، ولرأوا خلقتها بعين أخرى، ولعلموا أنها لشأن عظيم خلقت، وأنها لم تخلق سدى. يقول تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] فالنجم: ما ليس له ساق من النبات، والشجر ما له ساق، وكلها ساجدة لله مسبحة بحمده، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44]. يقول ابن القيم رحمه الله: ولعلك أن تكون ممن غلظ حجابه فذهب إلى أن التسبيح دلالتها على صانعها فقط، فاعلم أن هذا القول يظهر بطلانه من أكثر من ثلاثين وجهاً، وقد ذكرنا أكثرها في موضع آخر، وفي أي لغة تسمى الدلالة على الصانع تسبيحاً وسجوداً وصلاة وتأويباً وهبوطاً من خشيته، كما ذكر تعالى ذلك في كتابه. أي: هل توجد لغة من اللغات يعبر بها عن هذه الأفعال: السجود والتسبيح والصلاة والتأويب بمعنى الدلالة على الخالق؟ يقول ابن القيم: في أي لغة تسمى الدلالة على الطالع تسبيحاً وسجوداً وصلاة وتأويباً وهبوطاً من خشيته كما ذكر ذلك تعالى في كتابه؟ فتارة يخبر عنها بالتسبيح، وتارة بالسجود، وتارة بالصلاة، كقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41]، أفترى يقبل عقلك أن يكون معنى الآية: قد علم الله دلالته عليه؟ وسمى تلك الدلالة صلاة وتسبيحاً، وفرق بينهما، وعطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي هنا المغايرة. وتارة يخبر عنها بالتأويب كقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10]، وتارة يخبر عنها بالتسبيح الخاص بوقت دون وقت، كالعشي والإشراق، أفترى دلالتها على صانعها إنما يكون في هذين الوقتين؟ أي: هل الجبال تدل على الله سبحانه وتعالى بالعشي والإشراق فقط، وأما في الضحى وفي الليل فلا تدل؟ فيدل التخصيص بهذين الوقتين على أنها صلاة حقيقية وتسبيح حقيقي.

إدراك وتمييز الكائنات والرد على من جعل تسبيحها مجازا

إدراك وتمييز الكائنات والرد على من جعل تسبيحها مجازاً

عموم الإدراك والتمييز في الكائنات

عموم الإدراك والتمييز في الكائنات أيضاً هناك أدلة على إثبات الإدراك والتمييز عند الكائنات كل بحسبه، كقوله تبارك وتعالى حاكياً عن سليمان عليه السلام: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19]، تأمل كلمة: (قولها)، ولو كان قولها رموزاً ومجازاً، هل كان يتعجب سليمان عليه السلام؟ وهل كان في تلك اللحظة سيقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19] استحضاراً لهذه النعمة أن خصه الله بأن جعله يفقه لغة الطير، فهذا حقيقة وليس بمجاز، وإنما معنى قوله تعالى: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا) أي: من قول النملة، وماذا قالت النملة؟ بين الله قولها بقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]. وقد اشتملت هذه الجملة القصيرة على عشرة أنواع من الخطاب: اشتملت على النداء (يَا)، والتنبيه (أَيُّهَا)، والتسمية (النَّمْلُ)، والأمر (ادْخُلُوا)، والنص (مَسَاكِنَكُمْ)، والتحذير (لا يَحْطِمَنَّكُمْ)، والتخصيص (سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)، والتعميم والتفهيم والاعتذار (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، يعني: خصت سليمان وجنوده، ثم عممت وقالت: (وهم لا يشعرون) واعتذرت بأنهم لم يتعمدوا أن يقتلوكم، ولكن سوف يكون هذا بدون أن يشعروا، فهذا منتهى الأدب مع نبي الله سليمان عليه السلام ومع أصحابه. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أحد بقوله: (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)، رواه البخاري، فانظر إلى الموالاة والحب في الله. من ذلك أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام رقى أحداً مرة وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف الجبل -أي: اهتز الجبل وتزلزل- فقال له النبي عليه السلام: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، والصديق هو: أبو بكر، والشهيدان هما: عمر وعثمان، وهذا رواه البخاري، وهذا من أعلام النبوة؛ لأنه أخبر أن عمر وعثمان سيكونان شهيدين، وقد قتلا رضي الله تعالى عنهما شهيدين. وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]، وقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ) هذا عرض تخيير ليس لأنها عصت، لكن خيرها فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72]، فأثبت أنه خلق لها إدراكاً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأثبت أنها أبت فقال: (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا)، وأشفقت من حمل الأمانة. ومما يؤيد وجود هذا الإدراك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]. ومما يؤيده أيضاً حنين الجذع، فقد كان للرسول عليه الصلاة والسلام جذع نخلة في المسجد، فكان إذا أراد أن يخطب اتكأ عليه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بصنع المنبر، وصنع المنبر، وفي أول صلاة جمعة لما دخل المسجد مر على الجذع، ولم يستند إليه كما هي العادة، ورقى المنبر، فإذا بالجذع يبكي بكاء الصبي الذي يحن لأمه، وظل الجذع يتأوه، وكان صوته يسمع في جميع أرجاء المسجد، بكى حنيناً إلى رسول الله، وتألماً لفراقه، وظل صوته كالطفل الذي يبكي حتى نزل الرسول عليه السلام من على المنبر، وضم الجذع إليه، وربت عليه إلى أن سكن، وهذا كله كان أمام الصحابة، وهذا الحديث في البخاري. إذاً: الجذع كان يحن إلى رسول الله، وكان يتفاعل معه، ويحبه، ويريد أن يقترب منه صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا كله يثبت أن الله سبحانه وتعالى قد يخلق في الجمادات من الإدراك ما تعي به أشياء كالعاقل.

إدراك وتمييز الحيوانات والدواب

إدراك وتمييز الحيوانات والدواب ثم نخصص بعض الأنواع من الكائنات كالحيوانات والدواب، فهناك دليل عام يشمل الحيوانات والدواب، وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:49]، فقوله: (مِنْ دَابَّةٍ) هذه صيغة عموم. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: (قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة فأحرقت أمة من الأمم تسبح الله!)، أي: أن الله عز وجل عاتبه. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة)، أي: تستمع بأذنها وتترقب قيام الساعة؛ لأن يوم الجمعة هو أخطر يوم عندها؛ لأنه هو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، فهي تدرك هذه الحقيقة، فكل يوم جمعة تكون في أشد حالات الإشفاق والخوف من أن يكون هذا موعد قيام الساعة. ويقول أيضاًً: (لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة، إلا هذين الثقلين: الجن والإنس). وقد مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة فقال: (مستريح ومستراح منه، فسألوه عليه الصلاة والسلام: ما مستريح وما مستراح منه؟ فقال: إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) رواه البخاري. ومعنى ذلك أن هذه الكائنات كلها تكره الكافر، وتكره الفاسق الذي يعصي الله تبارك وتعالى، وتود موته حتى تستريح من شره ومن أذيته إياها. ويقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] وهذا حقيقة لا مجاز.

إدراك وتمييز البقر

إدراك وتمييز البقر وقال عليه الصلاة والسلام: (بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث)، يعني: أن أغلب ما خلقنا ومعظم ما خلقنا من أجله أن نعاونك في الحرث، (فقال الناس لما حكى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: سبحان الله! بقرة تتكلم) ولو كان المقصود: دلالته على خالقها لقال لهم: أنا أقصد أنها تدل على خالقها، وأنكم إذا رأيتموها قلتم: سبحان الله! ولكنه لم يقل ذلك، وإنما قال: (فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر)، رضي الله تعالى عنهما، وهذا رواه البخاري.

إدراك وتمييز الإبل

إدراك وتمييز الإبل وجاء أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه)، أي: أن هذا الجمل بمجرد أن رأى الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو لا يعرفه- أدرك وعرف أن هذا هو رسول الله، فمجرد أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفراه فسكن، فقال عليه الصلاة والسلام: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله! فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه)، يعني: تتعبه بالشغل، رواه أبو داود. وقوله: (فإنه شكا إلي) يعني: أنه كلم النبي عليه الصلاة والسلام، والرسول فهم كلامه كما فهم سليمان، فهل بعد ذلك يرتاب أحد في أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين؟ وعن جابر رضي الله عنه قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دفعنا في حائط لبني النجار، فإذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فدعاه، فجاء واضعاً مشفره على الأرض حتى برك بين يديه، فقال: هاتوا خطاماً، فخطمه ودفعه إلى صاحبه، ثم التفت فقال: إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس)، ورواه الإمام أحمد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة. كذلك أيضاً في قصة الهجرة، فإن الناقة التي هاجر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اقتربت من المدينة كان الصحابة يمسكون بزمامها، وكل طائفة من الصحابة يريدون أن ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما ينزل عليهم، فكانوا يمسكون الزمام ويطلبون أن ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم، فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة).

إدراك وتمييز الفيل

إدراك وتمييز الفيل وكذلك إذا صحت الرواية في قصة أصحاب الفيل الذي أتى به أبرهة الحبشي، فإنهم قالوا: إن الفيل -وقيل: اسمه محمود والله أعلم- لما اقترب من حدود الحرم الشريف برك، فكانوا إذا وجهوه ناحية الكعبة يبرك ويثبت في الأرض، ولا يجيبهم، فإذا وجهوه ناحية اليمن ينطلق، وإذا وجهوه ناحية الشام ينطلق، إذا أعادوه إلى جهة الحرم الشريف يمكث في الأرض ويمتنع من المشي، فإذا صحت هذا فتنضم أيضاً لهذه الأدلة.

إدراك وتمييز الديك

إدراك وتمييز الديك وأيضاً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا الديك؛ فإنه يدعو إلى الصلاة)، وفي رواية: (فإنه يوقظ للصلاة). وأقول: ألا يلفت نظركم فعلاً أن في وقت معين ثابت تستيقظ الديوك فيه أو تنتبه فيه وتصدر هذه الأصوات؟ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبدأ قيام الليل إذا صاح الديك. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صياح الديك فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً)، فأليس هذا جندي موظف لأمر معين يأمره الله سبحانه وتعالى به؟ بلى، إن هذا مكلف، ويفهم أن هناك وقتاً معيناً، وليس عنده أجهزة استشعار ولا لاسلكي ولا رادار، وإنما هي قدرة الله سبحانه وتعالى التي يخلق بها عنده هذا الإدراك. ويذكر أن سعيد بن جبير كان عنده ديك، وكان رجلاً صالحاً مستجاب الدعوة، ففي يوم من الأيام لم يصح الديك، فقال: ما له قطع الله صوته، فلم يصح بعدها أبداً، فقالت أمه: لا تدع على أحد.

إدراك وتمييز الذئب

إدراك وتمييز الذئب كذلك أيضاً جاء أن الذئب تكلم في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلام يفيد أن الذئب عنده اعتقادات معينة، فمثلاً: هو يعتقد أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، بل إن الذئب أمر راعي الغنم بتقوى الله. ويفيد الحديث أيضاً أن الذئب عالم بنبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه قصة حصلت مع راعٍ من الرعاة، وكانت سبباً في دخوله الإسلام كما سنبين، ولذلك ذكرها العلماء في باب علامات صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. والقصة ذكرها البخاري في صحيحه بلفظ: (بينما رجل في غنمه إذ عدا ذئب فذهب منها بشاة، فطرده حتى استنقذها منه، فقال له الذئب: يا هذا! استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)، ونحن لا نريد المعاني المجازية الآن، لأن بعض إخواننا ألف رسالة مستوحاة من هذا الحديث، سماها: (عندما ترعى الذئاب الغنم)، يقصد بها حكام المسلمين في هذا الزمان. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (عدا الذئب على شاة فأخذها، فطرده الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي! ذئب مقعٍ على ذنبه يكلمني كلام الإنس؟! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد عليه الصلاة والسلام بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره -أي: حكى له قصة الذئب هذه- فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي: أخبرهم بما حدث معك، فأخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدق والذي نفسي بيده!) وهذا قطعاً يسد باب المجاز، إذ لو كان مجازاً فلماذا تعجب الراعي؟ ولماذا آمن بنبوة الرسول عليه السلام؟ هل لأنه إذا رأى الذئب يقول: سبحان الله! ويستدل به على الخالق سبحانه وتعالى؟

عبودية الخيل

عبودية الخيل ومن ذلك أيضاً عبودية الفرس، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوة؛ يقول: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه)، رواه الإمام أحمد.

إدراك وتمييز وعبودية الهدهد

إدراك وتمييز وعبودية الهدهد من ذلك أيضاً عبودية الهدهد، كما قال تعالى عن قصته مع سليمان عليه السلام: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:20 - 22] كان يمكن أن الله سبحانه وتعالى يقول: فمكث قريباً، لكن قال: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22] تعريضاً بمن يخافون غير الله، والمعنى: لم يفعل كما تفعلون أنتم وتفقون بعيداً. {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، وهذا يثبت أن سليمان عليه السلام مهما أوتي من العلم فليس علماً مطلقاً، وإنما العلم كله لله، ولذا قال سبحانه حاكياً عن الهدهد: {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، يعني: أنه كان عند الهدهد توحيد، فيعلم أن سليمان نبي لا يعلم الغيب، ولذا قال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، ووصفه بأنه يقين لأن هذا الخبر من شدة عجبه قد لا يصدقه سليمان، فقال له ابتداءً: إنه خبر يقيني، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:22 - 23]، أي: امرأة تحكم هذا الشعب، {تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، يعني: من كل شيء يؤتاه الملوك، وليس على إطلاقها، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:23 - 24]، يعني: أن الهدهد استنكر واستقبح هذا الأمر، وذهب بسرعة يبلغ عنهم سليمان أنهم لا يعبدون الله، {وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:25 - 26] وهذا يدل على أهمية التوحيد، فالهدهد كان يعرف عقيدة التوحيد الخالص، فبين كفرهم وبعدهم عن الهداية، وغواية الشيطان لهم. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: إن الله تعالى خصه -أي: الهدهد- من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي إليها. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عبودية الكائنات [2]

عبودية الكائنات [2] جميع الخلائق حيها وجمادها، علويها وسفليها، شاهدها وغيبيها، عابدة لله عز وجل، وطائعة ومنقادة له سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها؛ وهو الذي جعل لها إدراكاً وتمييزاً؛ لتعبده وتسبحه وتطيعه، فيجب على الإنسان الإيمان بذلك، ويجب عليه أيضاً أن يكون أولى الخلق بعبادة الله عز وجل.

عبودية المخلوقات السفلية

عبودية المخلوقات السفلية

عبودية النباتات

عبودية النباتات من أنواع العبودية: عبودية بعض الجمادات، مع عبودية الحيوانات والدواب والطيور، وهناك عبودية بعض النباتات: وقد ذكرنا من قبل الدليل العام وهو قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]، وكذلك أيضاً ذكرنا شهادة الشجر والحجر وكل من يسمع المؤذن يوم القيامة. وكذلك أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من ملبٍ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) وذكرنا أيضاً حديث مستريح ومستراح منه. وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، قد ضربه أهل مكة فقال: (فعل بي هؤلاء وفعلوا، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها، فرجعت حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي حسبي)، يعني: هذه الآية، رواه ابن ماجة. وفي صحيح مسلم: (أنه صلى الله عليه وسلم ذهب لقضاء حاجته، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ بإذن الله، فانقادت كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى شجرة أخرى فأتى بغصن من أغصانها، فقال: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه كذلك، فجمعهما وقال: التئما علي بإذن الله، فالتأمتا)، أي: كي يستتر بهما. وفي صحيح البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة مستنداً إلى جذع، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله! ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، ووضع يده عليها فسكنت). وكذلك أيضاً جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بمَ أعرف أنك نبي؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي). وجاء أيضاً عن معن بن عبد الرحمن قال: (سمعت أبي قال: سألت مسروقاً: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة سماع القرآن -أي: من الذي أخبره أن الجن حضروا واستمعوا القرآن؟ - فقال: حدثني أبوك -يعني: عبد الله بن مسعود أنه آذنته بهم شجرة)، أي: أن الذي أخبر الرسول أن الجن حضرت تستمع إلى القرآن شجرة، وهذا الحديث في صحيح البخاري. وأيضاً مما يناسب هذا المقام موقف الشجر في آخر الزمان، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله).

عبودية أعضاء جسم الإنسان وشهادتها عليه يوم القيامة

عبودية أعضاء جسم الإنسان وشهادتها عليه يوم القيامة وهكذا أيضاً عبودية أعضاء جسم الإنسان: فهذه الأعضاء نفسها لها هذا النوع من العبودية، ألا ترى إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي: أنها تتهمه بكفر نعمة الله- تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوجت اعوججنا). ويقول تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:19 - 21]، أي: نطقاً حقيقياً، {الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]. وكذلك قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مما أضحك؟! قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، فيقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، يعني: كأنه يطعن في شهادة الملائكة، ويقول: أنا لا أقبل شاهداً على نفسي إلا من نفسي، وأما هؤلاء الملائكة الكرام الكاتبون فإنهم ظلموني، وكتبوا عليّ أشياء ما فعلتها، فلذلك يقول: (فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول أول ما يتكلم: بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكنَّ كنت أناضل)، أي: أنا كنت أخاف عليكن أنتن من العذاب، وأنتن تنطقن حتى تتعذبن، وهذا رواه مسلم، وفي رواية: (فيقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق)، وفي الحديث أيضاً: (إن أول ما يتكلم من الآدمي فخذه). ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده)، رواه الترمذي. وكذلك قصة المرأة اليهودية التي أهدت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ذراع شاة مسمومة، فالذراع أخبره أنه مسموم، كما هو معروف في الحديث الصحيح.

عبودية البحر

عبودية البحر ومن ذلك أيضاًً البحر، فالبحر يشفق من يوم الجمعة، كما جاء في الحديث، أن البحر يشفق من يوم الجمعة يخشى أن تقوم القيامة. وكذلك أيضاً: حديث الرجل الذي أوصى بنيه أن يحرقوه من بعد موته، فأحرقوه، وألقوا جزءاً من رماده في البحر وجزءاً ذروه في الريح، فتوجه الأمر إلى البحر، إذ أمر الله البحر فامتثل الأمر وجمع ما تفرق فيه من فتات هذا الرجل. وقال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] إن المسجور هو الممنوع المكفوف عن الأرض حتى لا يغمرها فيغرق أهلها، والحقيقة أن مساحة اليابس بالنسبة لمساحة الأرض تساوي (23%)، وربما نقول: (30%) تقريباً؛ فلو لم يمسك الله هذا البحر الذي هو أكثر من ضعف مساحة اليابسة لأغرقها، فمثلاً: نحن الآن على ساحل الإسكندرية، من الذي يمسك هذا الماء عن أن يغرقنا؟ هل هي شركات التأمين؟! ومن الذي يؤمن علينا من الغرق والهلكة؟ إن هذا أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)، يعني: أن الله بقدرته وبأمره يكفه عن الخلق، ويأمره الله أن يمسك عن إغراق الناس وإهلاكهم وغمر هذه الأرض.

عبودية الجبال والحجر والحصى

عبودية الجبال والحجر والحصى ومن ذلك أيضاً: عبودية الجبال والحجر والحصى، يقول تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]. ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، يقول القرطبي رحمه الله: (ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم). وقال بعض المتكلمين في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ): إنه البرد الهابط من السحاب يهبط من خشية الله، فقال بعضهم رداً على هذا القول: هذا القول أبرد من الثلج! أي: أنه قول لا يقبل. ونقل القرطبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الجبال تحدث بعضها بعضاً، قال: (إن الجبل ليقول للجبل: يا فلان! هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال: نعم، سر به، ثم قال ابن مسعود: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:88 - 91]، قال: أفتراهن يسمعن الزور، ولا يسمعن الخير؟!) يعني: هل الجبال تسمع الزور فقط ولا تسمع الخير، تسمع قول الكفار: (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً)، وتتأذى به، وتكاد تندك، ولا تسمع من يذكر الله؟ ويقول تبارك وتعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143]. ويقول عليه الصلاة والسلام في الحجر الأسود: (ليأتين هذا الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق)، أي: أن الحجر الأسود ينطق يوم القيامة على كل من استلمه بحق. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69]، وذلك أن هؤلاء المغضوب عليهم (اليهود) سبوا نبيهم موسى عليه السلام، واتهموه بأنه آدر، يعني: أن فيه عيباً في العورة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينزه موسى ويثبت لهم براءته من هذا العيب؛ لأن الأنبياء كاملون في صفاتهم الخلقية والنفسية والجسدية، وفي كل شيء، فالنبي لا يكون فيه عاهة أو نقص أو عيب في خلقته. وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة أمام بعضهم البعض، فاغتسل عليه السلام في مكان خالٍ لا يراه أحد، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه -أي: هرب الحجر وأخذ ثوب موسى وفر به- فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! يعني: هات ثوبي يا حجر! إلى أن مر موسى عليه السلام على ملأ من بني إسرائيل على هذه الهيئة وهو عارٍ، فرأوه وقالوا: ما بموسى من بأس، حينئذ توقف الحجر، فأخذ موسى ثيابه، وأخذ يضرب بالحجر؛ حتى إن الحجر ليزبل من ضرب موسى، أي: أثر ضرب موسى في الحجر من شدة الضرب؛ لأنه تغيظ منه أنه فعل ذلك، فهذا الحجر هل فعل ذلك بإرادته، أم أن الله أمره؟ A أمره الله سبحانه وتعالى، والدليل قوله تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].

عبودية الرياح والرعد والسحاب

عبودية الرياح والرعد والسحاب أما الرعد فهو أيضاً يسبح الله، يقول تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، ويقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، وكان بعض السلف إذا كان يقرأ في درس العلم وسمع صوت الرعد، يقول: سبحان من سبحتَ له! وكذلك الريح: فالريح من الكائنات التي نص على أنها تشفق من يوم الجمعة خشية أن يكون هذا هو الذي تقوم فيه القيامة، وأيضاً الريح لها عبودية، يقول تعالى في حق سليمان عليه السلام: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36]، أي تجري بأمر سليمان عليه السلام. وعن جابر رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت هذه الريح لموت منافق، فقدم المدينة، فإذا عظيم من المنافقين قد مات). والسحاب كذلك له عبودية لله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: (بينما رجل بفلاة من الأرض، إذ سمع صوتاً في السحاب: اسق حديقة فلان! فمر الرجل مع السحابة، حتى أتت على الحديقة، فلما توسطتها -أي: كانت بحذائها- أفرغت فيها ماءها، فإذا برجل معه مسحاة يسحي الماء بها، فقال: ما اسمك يا عبد الله؟! قال: فلان، بالاسم الذي سمعه في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لمَ تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه).

عبودية الأجرام العلوية

عبودية الأجرام العلوية

عبودية السماوات والأرض

عبودية السماوات والأرض وأيضاً هناك عبودية السماوات والأرض، يقول تبارك وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. وقال عز وجل: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود:44]. ويقول تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:90 - 91]، يقول ابن عباس: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله. ويقول تبارك وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29]، قال بعض العلماء: فيه أنهما لا يبكيان على الكافرين، ومفهومه أنهما يبكيان على المؤمنين، وفراق الصالحين. كل شيء له بكاء خاص به، فبكاء الإنسان بالدموع، أما بكاء السماوات والأرض فبحسبهما، والله أعلم بكيفيته. ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة). أما عبودية الأرض ففي قصة يأجوج ومأجوج، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك)، وهذا متفق عليه. كذلك أيضاً في قصة الرجل الذي أمر بنيه بإحراقه، يقول عليه الصلاة والسلام: (فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت). وأيضاً في قصة الرجل الذي قتل مائة، قال عليه الصلاة والسلام: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي)، وهذا رواه مسلم. وكذلك في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5] قالوا: تشهد على بنيها بما عملوا على ظهرها من خير وشر. ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أجل أحدكم بأرض -أي: إذا كان مكتوباً لك أن تموت في أرض معينة- أوثبته إليها الحاجة، فإذا بلغ أقصى أثره -أي: بلغ الخطوات المكتوبة له- قبضه الله سبحانه، فتقول الأرض يوم القيامة: رب! هذا ما استودعتني). وأيضاً الأرض هي من المخلوقات التي تعرف الولاء والبراء كما ذكرنا، فهي توالي أولياء الله، وتعادي أعداء الله، كما ورد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، -يعني: ارتد- فعرفوه، وقالوا: هذا كان يكتب لمحمد -عليه الصلاة والسلام- فأعجبوا به -كما أعجبوا بالكذاب سلمان رشدي - فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، يعني: بقي وقتاً يسيراً حتى قصم الله عنقه وهو مقيم في وسط إخوانه من الكفار، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً) رواه مسلم. وعن أوس بن أوس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فهي عابدة تطيع أمر الله سبحانه وتعالى فلا تأكل أجساد الأنبياء.

عبودية الشمس والقمر

عبودية الشمس والقمر أما عبودية الشمس والقمر، فيقول تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54]، ويقول سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33]، ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحج:18]، فعطفهما على العاقل، وهذا يدل على أنه سجود حقيقي. ويقول عليه الصلاة والسلام في الشمس: (إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها)، متفق عليه. وهذا سجود الله أعلم بكيفيته، لكنه سجود يناسبها، وأما كيف هو؟ فلا ندري. وكذلك ما جاء في قصة يوشع بن نون لما قاتل الجبابرة، وأوشكت الشمس على المغيب، وأراد أن يقضي على الكفار قبل دخول الليل، ففي الحديث: (فلقي العدو عند غروب الشمس، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست عليه). وكذلك أيضاً انشقاق القمر، فإن القمر انشق على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرقتين، ثم قال: (اشهدوا) كما هو معلوم.

عبودية النجوم

عبودية النجوم أما النجوم فيمكن أن يستدل بعبوديتها بالأدلة العامة، وبقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]، لأن فيه خلافاً في تفسير النجم، هل المقصود به ما لا ساق له من النبات، أم النجوم التي في السماء؟ وعلى أي حال إذا قلنا: إن النجم في آية الرحمن هو ما لا ساق له من النبات، فيدل على عبودية النجوم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18]، وقوله تعالى: {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54].

عبودية الملائكة

عبودية الملائكة أخيراً: عبودية عالم الغيب، ما ذكرناه هو عبودية عالم الشهادة، وهناك عبودية عالم الغيب، وقلنا: إن عالم الغيب هو كل ما غاب عن الحس، ولا نعلم عنه إلا ما ورد في نصوص الوحيين، فعالم الغيب فيه جمادات وفيه أحياء.

العبودية أشرف صفات الملائكة

العبودية أشرف صفات الملائكة أما الأحياء الغيبية فالملائكة، وأشرف صفات الملائكة هو العبودية، كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]، وهم مختلفون في وظائفهم، كحملة العرش، والكرام الكاتبين، وخزنة الجنة، وخزنة النار، والموكلين بقبض الأرواح، والموكلين بالسؤال في القبر إلى آخر هذه الوظائف، لكنهم جميعاً مشتركون في صفات حميدة منها: الطهر الكامل، كما قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، والطاعة الكاملة والخضوع لله، كما قال جل وعلا: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وقال سبحانه: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]. أما إيمانهم بالله فدل عليه قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، وقال عز وجل: {لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء:166]، وقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]. وهم يصلون أيضاً بأنفسهم، أو يصلون مع المؤمنين، ففي حديث الإسراء يقول عليه الصلاة والسلام: (فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم)، رواه البخاري، يعني: كل يوم يدخل البيت المعمور سبعون ألف ملك مرة واحدة فقط في كل الزمان، فالذي يدخل مرة لا يدخل مرة ثانية، ومعناه: أن كل يوم يدخل سبعون ألف ملك جديد إلى البيت المعمور. ويقول تعالى عنهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:165 - 166] (الصافون) يعني: صفوف الصلاة، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول للصحابة: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف)، وهذا رواه البخاري. كذلك يشاركون المؤمنين في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وهذا رواه البخاري، كذلك روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة، يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر)، يعني: يحضرون مجالس الذكر.

تسبيح الملائكة

تسبيح الملائكة أما التسبيح فقال سبحانه: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، وقال جل شأنه: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، وقال: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]. وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لأرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موقع أربع أصابع ألا وملك واضع جبهته لله ساجداً). وسئل عليه الصلاة والسلام: (أي الذكر أفضل؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكتة أو عباده: سبحان الله، والحمد لله)، رواه مسلم. وأما خوفهم فيقول تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]. ويقول عليه الصلاة والسلام عن يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء -إلى قوله-: إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة). ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (مررت ليلة إسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى)، والحلس: كساء رقيق يوضع على ظهر البعير، والمقصود: أن خوف الله وهيبة الله تلبست بجبريل كأنها هذا الحلس الذي لا يفارقه. وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، فأخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد).

ولاء الملائكة للمؤمنين

ولاء الملائكة للمؤمنين أما ولاء الملائكة للمؤمنين فهم أهل طاعة، ويحبون أهل الطاعة، ويستغفرون للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، وقال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]. ويقول تعالى مبيناً أن الملائكة يخاطبون المؤمنين: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31]، وهم الذين يستقبلون المؤمنين وهم يدخلون الجنة، كما قال عز وجل: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، وكذلك يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، ويحضرون مجالس الذكر، وفي الحديث: (وحفتهم الملائكة)، وفي الحديث الآخر: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم). وكذلك من هذه الموالاة: مناصرة المؤمنين في القتال، كما قال تعالى: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، وقال عز وجل: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران:124]، وقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة). وقال عليه الصلاة والسلام لـ حسان بن ثابت رضي الله عنه: (اهجهم -يعني: المشركين- وجبريل معك، أو وروح القدس معك).

عداوة الملائكة للكافرين

عداوة الملائكة للكافرين وفي الجهة الأخرى فإن الملائكة يبغضون الكفار، ويتبرءون منهم، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161]. وكلما ازداد كفر الإنسان اشتد بغض الملائكة له، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (لما أدرك فرعون الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، يقول جبريل: فلو رأيتني يا محمد! وأنا آخذ من حمأ البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة)، وهذا من شدة بغض جبريل عليه السلام لفرعون عدو الله عز وجل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ -أي هل يأتي أمامكم ويسجد على التراب- قيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته فأتى الخبيث أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، يريد أن يطأ على رقبته، فما فجئهم إلا وهو يركض على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟! فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) رواه مسلم. ويقول عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، وهذه براءة من الكفار. وكذلك أهل المعاصي من المسلمين بقدر ما يتلبسون من المعصية والمخالفة تبغضهم الملائكة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، رواه البخاري. وكذلك تاركو الهجرة بدون عذر، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].

عبودية الجن

عبودية الجن أما عبودية صالحي الجن، فمعلوم أن الجن مكلفين بالشرائع كالإنس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ويقول تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] أي: الجن والإنس، وقال عز وجل حاكياً عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11]. وأيضاً فيهم الموحدون، كما قال عز وجل عنهم: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن:2 - 3]. وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام للمؤذن: (فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة). ويقول تبارك وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، قال عليه الصلاة والسلام: (فكانوا أحسن مردوداً منكم؛ كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد)، رواه الترمذي. وكذلك الجن يعرفون أنه لا يعلم الغيب إلا الله، كما قال تعالى حاكياً عنهم: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10]، ويقول أيضاً: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].

عبودية الجنة والنار

عبودية الجنة والنار وهناك عبودية أيضاً للجنة وللنار، وهما من غيبيات الجمادات، قال صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغبرتهم؟ فقال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار لربها وقالت: أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين: نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم)، والشاهد: أنها اشتكت. ويقول تبارك وتعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، وهذا يدل على أن فيها إدراكاً، فالنار لها لسان، بل لها أذنان وعينان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، ويقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين). وأيضاً النار من شدة انفعالها وولائها لله سبحانه وتعالى وعدائها لأعداء الله تتغيظ من الحنق والحقد والبغض للكافرين، كما قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12]، وفي قوله: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) إشارة إلى حدة بصرها. ويقول تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ} [الملك:7 - 8]، أي: تتقطع من الغيظ؛ لأنها تعادي أعداء الله، وتتولى تعذيبهم والانتقام منهم. كذلك جاء ما يدل على أن الجنة أيضاً يخلق الله فيها إدراكاً، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: إلى علي وعمار وسلمان)، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وكذلك هذه النار التي نراها في الدنيا أيضاً لها إدراك، وهي مطيعة لأمر الله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فخاطب الله النار فأطاعت أمره. والدليل على ذلك أيضاً: أن عادة الأنبياء في الأمم السابقة في الغنائم أنهم كانوا إذا جمعوها بعد الجهاد تنزل نار من السماء فتحرق هذه الغنائم، فإذا أكلت النار هذه الغنائم فهذه علامة على أن الله تقبلها، فيكون ذلك علامة على قبولها، ويكون علامة على أنه لم يقع غلول، والغلول هو: السرقة من الغنائم، وذلك بأن يأتي واحد من الجنود فيسرق شيئاً قبل أن تقسم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار تأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه، فلصقت يد رجل، فقال: فيكم الغلول -أي: في هذه القبيلة التي أنت منها- فلتبايعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، قال: فلصقت يد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، فأخرجوا له رأس بقرة من ذهب، فوضعوه في المال، فأقبلت النار فأكلته)، رواه مسلم، والشاهد: أن النار عندها تمييز وإدراك، فإنه لما حصل غلول في الغنيمة رفضت أن تأكلها، ولما أعيد ما غل منها أكلتها وتقبلها الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

عبودية القلم والعرش

عبودية القلم والعرش وبقي أمران فقط من عبودية الجمادات الغيبية وهما: القلم والعرش، أما القلم فجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) أي: تكلم القلم، وهذا يدل على أن عنده إدراكاً، وفي قوله: (رب) إقرار بالربوبية، يعني: يارب! والحديث رواه أبو داود. أما العرش فيكفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اهتز عرش الرحمن عز وجل لموت سعد بن معاذ)، رضي الله تعالى عنه، وهذا الحديث متفق عليه، فإما أن العرش يوالي هذا العبد الصالح، وبسبب موالاته له اهتز سروراً واستبشاراً وفرحاً بقدوم روحه إلى الملأ الأعلى، أو اهتز من حزنه على موته، والله تعالى أعلم. فهذه الجملة من النصوص تعكس هذا التوافق والانسجام بين عناصر هذا الوجود كله، وهذه الكائنات ليست عدوة لنا، وليس هناك شيء اسمه صراع مع الطبيعة، بل كلها جنود لله مطيعة منقادة، ونحن مطالبون أن ننقاد لله سبحانه وتعالى مع هذه الكائنات طوعاً واختياراً، وألا ندعها تسبقنا إلى هذه القضية، وهي قضية التوحيد، وعبادة الله سبحانه وتعالى، والخضوع له عز وجل، وتسبيحه، وتقديسه، وتنزيهه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ما هي البدعة؟

ما هي البدعة؟ إن خير الهدي هو هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الشعار نسمعه دائماً، ويطرق آذاننا كثيراً، ولكن لا يكفي سماعه، بل يجب جعله واقعاً عملياً؛ وذلك بأن نقتفي أثره صلى الله عليه وسلم، ونمتثل أوامره، وننتهي عما نهى عنه. ومما يجب علينا هنا ألا ننكر على من خالفنا، أو نحكم عليه بالبدعة والفسق إلا ببينة وعلم، فلابد من الترو والمعرفة بمنهج السلف الصالح في ذلك.

خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم

خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الأخ الكريم! إن العبارة التي نرددها دائماً في خطبة الحاجة: وهي قولنا: (أصدق الحديث -أو أحسن الكلام- كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم؛ هي عبارة مقصودة، وليس عبثاً أن يجعلها النبي صلى الله عليه وسلم في خطب الأمور والحاجات المهمة. فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يكون هذا شعار كل مسلم، وعليه أن يرفع هذا الشعار: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) وينبغي أن يشاع الاستدلال بهذا الشعار، ويدرأ به في نحر كل من يتجاسر على مخالفة هديه أو استحسان البدع التي تخالف هديه صلى الله عليه وسلم.

طريق النجاة

طريق النجاة من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى جعل كلمة النجاة مكونة من شقين: (لا إله إلا الله) (محمد رسول الله) ولا ينجو إنسان إلا إذا حقق هاتين الكلمتين، فالأولى تشمل توحيد الله سبحانه وتعالى -توحيد المعبود- والثانية تشمل توحيد الطريق الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى. ومعنى كلمة (لا إله إلا الله) لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى وحده، ولا إله حق إلا الله. فإذا قال إنسان: أنا أريد أن أعبد الله وحده، لكن كيف أعبده؟ وكيف أعرف الذي يرضيه حتى أعمله والذي يسخطه حتى أتجنبه؟ فهاتِ لي بيان كيفية هذه العبادة فلا ينبغي أن ننظر فقط إلى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] حتى نضيف إليه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وغير ذلك من الآيات التي تحتم على المسلم أن لا يعبد الله إلا من خلال ما شرعه، ولا يعبده بالبدع، فهما توحيدان لا نجاة إلا بهما: توحيد المعبود، وتوحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، أي: توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فمنذ أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سدت جميع الطرق المؤدية إلى الجنة إلا طريقاً واحداً على رأسه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أفتى العلماء بكفر من زعم أن هناك طريقاً إلى الجنة مخالفاً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته الشريفة، فمن ادعى أن هناك طريقاً إلى النجاة وإلى الجنة يخالف طريق النبي عليه الصلاة والسلام فقد أخرجه العلماء من ملة الإسلام، وكما يقدح الشرك في توحيد العبادة كذلك يقدح الابتداع في توحيد الاتباع، فكما ينافي التوحيدَ أعمال الشركُ -وهي عبادة غير الله، أو صرف شيء من العبادة لغير الله- كذلك ينافي ويضاد شهادة أن محمداً رسول الله الأخذ بالبدع وتقديمها على السنن.

تعريف البدعة

تعريف البدعة ونحن في هذا البحث -إن شاء الله تعالى- سوف نناقش موضوعين: الموضوع الأول: بعض المقدمات البسيطة التي تتعلق بالبدع؛ لأنه لا بد منها قبل تمهيداً للموضوع الأساسي. أما الموضوع الأساسي فهو ضوابط التبديع؛ لأنه يحصل خلط في هذا الباب تماماً، كما يحصل خلط نتيجة عدم إحكام ضوابط التكفير في قضايا التكفير، فهناك ضوابط للتكفير، وكذلك التبديع له ضوابط لابد من أن نلم بها حتى لا يحصل شطط وخروج عن القصد. فنبدأ أولاً بتعريف البدعة. البدعة من الناحية اللغوية أصل مادتها: بدع، و (بدع) يعبر بها عن الاختراع على غير مثال سابق، اختراع أي شيء بحيث لم يكن قد سبق له نظير، أي: ليس محاكاة لشيء وجد قبله، لكنه شيء يوجد لأول مرة، فيسمى بدعة، فمادة (بدع) تدل على اختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تبارك وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] يعني: خالقهما على غير مثال سابق لهما. ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: لست أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل، فلست بدعاً من الرسل. ويقال: ابتدع فلان بدعة أي: اخترع طريقة لم يسبقه إليها أحد. وتقول: هذا شيء بديع أو: هذا أمر بديع إذا كنت تستحسنه وتريد أن تقول: إنه لا مثال له في الحسن. فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله أو ما يشبهه. أما البدعة بالمعنى الشرعي فهي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.

الفرق بين تعريف البدعة لغة وتعريفها شرعا

الفرق بين تعريف البدعة لغة وتعريفها شرعاً أحياناً تطلق البدعة بالمعنى اللغوي، فلابد من التفريق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، فالبدعة بالمعنى اللغوي لا تذم على الإطلاق؛ لأنها تشمل كل ما يخترع على غير مثال سابق في غير الدين، مثل اختراع أي جهاز، فهذه بدعة، لكن ليست هي البدعة المذمومة شرعاً، بل قد تكون واجبة في بعض الأحيان حسب كونها وسيلة تؤدي إلى مقصود، فإذا كان المقصود مباحاً فهي مباحة، وإن كان واجباً فالبدعة واجبة، وهكذا. فهذا فيما يتعلق بالبدعة اللغوية، أما البدع الشرعية فكلها مذمومة، والبدعة المذمومة شرعاً هي هذه التي نناقشها، وليس كلامنا في البدعة من حيث المعنى اللغوي، وإنما من حيث المعنى الشرعي، فهي كما عرفها الشاطبي في (الاعتصام): طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى. والطريقة والطريق والسُنن أو السَنن كلها بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه. وطريقة الدين هي ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والمعاملات.

أنواع البدعة

أنواع البدعة الطرائق في الدين نوعان: طريقة لها أصل في الدين، وطريقة ليس لها أصل في الدين. فالطريقة التي لها أصل هي طريقة في الدين؛ لأن لها أصلاً في الدين، أي: ليست مخترعة. مثل العلوم الخادمة للعلوم الشرعية كعلم النحو، والصرف، ومفردات اللغة، وأصول الفقه، ومصطلح الحديث، فكل هذه طرق جديدة في الدين، والسلف لم يدرسوا هذه العلوم بهذه الطريقة التي ندرسها الآن، والتي وجدت بعدهم، فهي طريقة في الدين، لكن ليست مخترعة؛ لأن لها أصلاً في الدين، فهذه العلوم تحفظ علم الدين، وتسهله على طالبه، فأصل هذه العلوم موجود في الشرع، وإن لم توجد في الصدر الأول بنفس الكيفية؛ لأن الصحابة كانوا فصحاء بلغاء، ولا يمكن أن يلحن الواحد منهم في نحو أو صرف أو غير ذلك، وإنما وضعت هذه العلوم بعدهم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، وإنما هي مسألة تيسير لطلبة العلم. فأما النوع الثاني من الطرائق في الدين فهو طريقة في الدين لا أصل لها، أي: مخترعة. وهي البدعة. وقوله: (طريقة في الدين مخترعة) تمييز بين هذه الطريقة المخترعة والطريقة التي تكون طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، فقولنا: (مخترعة) احتراز من الطريقة التي لها أصل في الدين. وقوله: (تضاهي الشرعية) يعني: تشبه الطريقة الشرعية. ومن المعلوم أن الباطل لا ينفق إلا إذا كان فيه شيء من الحق، فلو أن المبتدع أو المضل أبرز الباطل صافياً محضاً لا يخالطه حق فإنه سيسهل كشفه، ولا ينخدع به أحد، لكن لا بد للمبطل من أن يخلط الباطل بشيء من الحق حتى تروج بضاعته على الناس، فلذلك نقول: إن البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية بمعنى أنها تشبه الطريقة الشرعية، لكنها في الحقيقة ليست شرعية، وإنما هي مجرد مشابهة، لكن الحقيقة أنها ليست طريقة شرعية، بل هي في الحقيقة تتضارب وتتصادم مع الطريقة الشرعية من أوجه شتىً. فالبدعة فيها وضع حدود خاصة للتعبدات، مثل رجل يريد أن يعبد الله فينذر أن يصوم، ويظل مع صومه قائماً ضاحياً للشمس لا يستظل، فوضعُ كل هذه الكيفيات المخترعة للتعبد بدعة في الدين. ومثل إنسان يتعبد بالاقتصار على نوع معين من الملبس أو من المأكل، فهذا أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك. ومثل التزام كيفية معينة، أو عدد معين، أو صفة معينة والمحافظة عليها، فهذا أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، وهكذا. فالمبتدع دائماً يخلط البدعة بشيء من الحق حتى يموه على الناس فيعملوا بها. وهناك طرائق تضاهي الشرعية، كما حصل من كفار قريش حينما كانوا يبتدعون في الدين أشياء يجدونها على ملة إبراهيم عليه السلام ينطبق عليها معنى البدعة، فمثلاً: حينما عبدوا مع الله سبحانه وتعالى الآلهة الباطلة كانوا يسوغون هذه العبادة بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. وأيضاً كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهذا الفعل سماه الله تعالى فاحشة بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] فكانوا يسوغون هذا الباطل، ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله بها. وكذلك الحمس -وهم المتطرفون أو المتشددون من قريش في الجاهلية- كانوا لا يخرجون إلى عرفات، ويسوغون عدم خروجهم إلى عرفات بأنهم يقفون بالحرم تعظيماً للحرم؛ لأن منى من الحرم، فيقولون: نحن لا نخرج من الحرم تعظيماً للحرم. ويرفضون الخروج إلى عرفات، فهذا أيضاً من بدعهم. ومن هذه الطرق المبتدعة في الدين ما يدعيه الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه، فهذه أيضاً من الطرق المبتدعة في الدين يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، فهذه هي أيضاً من أركان تعريف البدعة، فيجب على المبتدع أن ينظر إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وسيرى أن المقصود هو العبادة. لكن قد يغفل الإنسان عن حقيقة أخرى لازمة، وهي كحقيقة استحقاق الله وحده العبادة، وهي أنه كما نوحد الله بالعبادة كذلك يجب أن نوحد رسوله بالاتباع والاقتداء، فلا نقتدي بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنعبد الله بما شرع، ولا نعبده بالبدع؛ لأننا إذا تقربنا إلى الله بغير ما شرعه على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أننا نتهم الشرع بالنقص، وأن الرسول ما استوفى وسعه في نصيحتنا، وأنه كانت هناك أشياء تقربنا إلى الجنة وتباعدنا من النار وهو عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قد كتم هذه الأشياء ولم يدلنا عليها، وهذا اتهام للشرع بالنقصان. وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى) معنى ذلك أن البدع لا تدخل في العادات؛ لأن الفارق بين العادة والعبادة هو النية، فإذا ما انضاف إليها نية التقرب إلى الله صارت بدعة. أما إذا كان إنسان لا يأكل اللحم -مثلاً- لأنه لا يعجبه أو يؤذيه من الناحية الصحية، أو لا يحبه بطبعه فليس عليه حرج ما دام في نطاق الأمور العادية، أما إذا امتنع رجل من أكل اللحم تعبداً، كأن يقول: أتقرب إلى الله بترك اللحم فهذا يدخل في حد البدعة، والفارق بينهما هو النية، ولذلك قال الشاطبي في الحد: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.

ذكر بعض الأدلة والآثار على ذم البدع والتحذير منها

ذكر بعض الأدلة والآثار على ذم البدع والتحذير منها وقد أثر عن السلف في ذم البدع والتحذير منها أقوال كثيرة، والأدلة على ذم البدعة والتحذير منها أدلة كثيرة متواترة، سواء في القرآن أو في سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما القرآن فما أكثر الأدلة الآمرة فيه بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقرن ذلك بطاعة الله سبحانه وتعالى. أما في السنة فالأحاديث مشهورة، ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، فلا يقبل أبداً من أي أحد أن يأتي ببدعة وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، و (كل) صيغة عموم، وكذلك جاء أيضاً في الحديث الآخر: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، و (من) -أيضاً- صيغة عموم. فهذا يعم كل البدع أنها باطلة مردودة على صاحبها، فلا يليق أن يأتي من يدعي الإسلام ويسمع قول النبي صلى عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة) ثم يقول: ليست كل محدثة بدعة، ولا كل بدعة ضلالة، بل منها ما هو حسن. ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: من ابتدع بدعة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة). وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة). وقال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم. وعن أيوب السختياني قال: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي. وعنه أيضاً قال: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة. أي: لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ علمه ولأول كتاب قرأه، فمن علامة السعادة والتوفيق للحدث -وهو الشاب الصغير- إذا تاب وأناب وتمسك أن يختصر على نفسه الطريق باقتدائه بهذا العالم، ولا يضيع عمره في التجول بين الطرائق المختلفة، وإنما من علامات السعادة أنه منذ اللحظة يضع قدمه على الطريق الصحيح، ولا يضيع بضاعة العمر في التجول في الفرق الضالة، فإن من سعادة الحدث والأعجمي إذا أسلم أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة. وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها. وقال الجنيد بن محمد رحمه الله تعالى: الطريق إلى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لسنته، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. وعن معمر قال: كان طاوس جالساً وعنده ابنه، فجاء رجل من المعتزلة فتكلم في شيء وبدأ يتكلم في بدعته، فأدخل طاوس أصبعيه في أذنيه وقال: يا بني! أدخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئاً؛ فإن هذا القلب ضعيف. فلا ينبغي أبداً للإنسان أن يعرض نفسه للبلاء الذي لا يطيقه، فإن كنت غير راسخ في العلم فلا تسمح لمبتدع أن يحدثك أو يعرض عليك بضاعته؛ لأنه يمكن أن يشوش عليك ولا تملك دفعاً لها، وإذا ملكت لسانك فلن تملك قلبك أن يتأثر بهذه البدع وهذه الضلالة، خاصة إذا كان لسناً ذا جدل، فليس من البطولة أن تصغي إلى المبتدع الضال، بل البطولة أن لا تعرض نفسك أصلاً لهذه الفتنة، فهذا طاوس يقول: أي بني! اسدد إن هذا القلب ضعيف، فما زال يقول: أي بني! اسدد، أي بني! اسدد، حتى قام الرجل المعتزلي. وعن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه، فقال ابن سيرين: إما أن تقوم وإما أن أقوم. وعن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء -هكذا كانوا يسمون أهل البدع، وما كانوا يقولون: العقلانيون ولا غير ذلك من الأسماء الموجودة الآن- قال الرجل لـ أيوب السختياني: أكلمك بكلمة؟ قال: لا، ولا نصف كلمة. وعن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً. وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم؛ فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون. وعن سفيان الثوري قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. يعني: لا يرجع منها. وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي راود وكنت في جنازته حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس، وجاء الثوري، فقال الناس: جاء الثوري. فجاء حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة ولم يصل عليها؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء. أي: عبد العزيز بن أبي راود. وعن سفيان بن عيينة قال: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه -أي: من لابد أن المبتدع يشعر بنوع من المذلة- قال: وهي في كتاب الله -يعني: الدليل على هذا في كتاب الله- فقالوا: وأين هي في كتاب الله؟ فقال: أما سمعتم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:152]؟! قالوا: يا أبا محمد! هذه لأصحاب العجل خاصة! فقال: كلا، اتلوا ما بعدها {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152]. أي: الكذابين المبتدعين. فهي لكل مفترٍ ومبتدع إلى يوم القيامة. وعن حسان قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة. وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة. وعن سعيد قال: مرض سليمان التيمي فبكى في مرضه بكاء شديداً، فقيل له: ما يبكيك؟ أتجزع من الموت؟! قال: لا، ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه. وعن الفضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه. وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له: المريسي -أي: المبتدع الضال بشر المريسي - وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً، فالحمد لله الذي أماته. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم) يعني: أتاكم من الدين ما يكفيكم. كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]. وقال أيضاً: (تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق) يعني القديم. وعنه قال: (أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول). وعن عمر قال: (يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين). وعنه قال: (سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تبارك وتعالى). وعن محمد بن مسلم قال: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة). وقال إبراهيم النخعي: ما أعطاكم الله خيراً أُخِْبئَ عنهم، وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه. يعني: لا يمكن أن يصطفيكم الله بخير يكون قد حجبه عن الصحابة، فكل خير هم كانوا أولى به، فلا تحسنوا الظن بأنفسكم أنكم أفضل من الصحابة، فهم أصحاب النبي وخيرة الله من خلقه، وأفضل أولياء الله، فلا يمكن أن يكون هناك خير منعوا منه وحزتموه أنتم بما ابتدعتم في الدين. وروى أن رجلاً قال لـ مالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل؛ فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟ قال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقال الأوزاعي: بلغني أن من ابتدع بدعة خلاّه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء لكي يصطاد به. وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: قف حيث وقف القوم- السلف- فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل -لو كان فيها- أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم ورغب عن سنتهم، لقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم. وقال محمد بن عبد الرحمن لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله؟ أي: هذه التي تدعو إليها هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر و

أقسام البدعة

أقسام البدعة الناحية التطبيقية تحتاج لنوع من الضوابط، وهذا ما نحتاج إليه، فنحن كثيراً ما تكلمنا في حد البدعة وفي التنفير منها، وفي النصوص بذمها، لكننا قل أن نتكلم بالتفصيل في الضوابط التي تحكم مسألة الحكم على أحد بالبدعة، وكيفية معاملته، وغير ذلك. وأحد ضوابط البدعة أن نعرف -أولاً- أقسام البدعة؛ لأن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، بل البدع تتفاوت، وبالتالي الموقف من فاعلها يتفاوت. فالبدعة تنقسم باعتبارات إلى أقسام، فالبدعة تنقسم إلى بدعة فعليه وبدعة تركية، وبدعة كلية وبدعة جزئية، وبدعة عادية وبدعة عبادية، وبدعة حقيقية وبدعة إضافية، فباعتبارات مختلفة تنقسم البدع إلى أقسام.

البدعة باعتبار الفعل والترك

البدعة باعتبار الفعل والترك القسم الأول: الفعلية والتركية، وهذا على أساس الفعل والترك، فالإنسان يمكن أن يترك بعض الأشياء المباحة التي أباحها الله له، فإن كانت علة الترك معتبرة شرعاً فلا حرج في ذلك، فمثلاً: يترك طعاماً معيناً لأنه يضر بصحته، أو إنسان يقلل الطعام حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العبث، أو: إنسان يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، كنوع من التورع عن الوقوع في الشبهات استبراءً لدينه وعرضه، كل هذه الأنواع من الترك الذي لا حرج فيه؛ لأن العلة في الترك معتبرة في الشرع، أما شخص يترك شيئاً مباحاً جائزاً فعله باعتقاد أنه قربة إلى الله سبحانه وتعالى فهذا هو الابتداع في الدين؛ لأن الترك هنا بهذا القصد يصيره معارضة للشرع في التحليل الذي أحله الله سبحانه وتعالى. مثلاً: الصوفية يقولون: من وصل إلى رتبة اليقين فلا تطلب منه الصلاة والصيام ولا يحرم عليه شيء؛ لأنه وصل، فلا يحتاج لصلاة ولا لزكاة. وربما استهزءوا بمن يصلي ويصوم ويزكي ويفعل العبادات، فهم يغيرون تفسير قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ويقولون: المقصود الوصول إلى مرتبة اليقين. وليس كذلك، بل المقصود باليقين هنا الموت، كما في الآية الأخرى: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] أي: الموت. فاليقين هنا المقصود به الموت، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ولهذا قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: إلى آخر لحظة من حياتك. وقال عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31]، فهذا هو معنى قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، أما هؤلاء فيتركون الواجبات الشرعية تديناً بذلك، وهذه أيضاً من البدع التركية؛ لأن فيها ترك المطلوبات الشرعية.

أقسام البدعة باعتبار الاعتقاد والعمل

أقسام البدعة باعتبار الاعتقاد والعمل وهناك تقسيم آخر للبدعة إلى بدعة عملية وبدعة اعتقادية، والبدعة العملية تكون في جنس العمل المتعلق بالجوارح، فمثلاً: الطواف بالأضرحة بدعة عملية؛ لأنها تؤدى بالجوارح، وكذلك رفع الصوت بالذكر أمام الجنازة، وهذه أيضاً بدعة عملية، وغير ذلك من أنواع البدع. والبدعة العملية قد تكون متعلقة بالنية، كمن يصلي ركعتين بنية طول العمر، أو صلاة يسمونها مونس القبر، أو صلاة بر الوالدين، وغير ذلك من الصلوات المخترعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهكذا صلاة الأيام، صلاة يوم السبت، وصلاة يوم الأحد، وهذه كلها موجودة في كتاب (الإحياء)، وهذه أيضاً من البدع العملية. أما البدعة الاعتقادية فتكون باعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه من المعروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا على سبيل المعاندة، ولكن بسبب شبهة، كما يمسح الشيعة على الرجلين، فلو رأيت الشيعي يتوضأ ستجده إذا وصل إلى القدمين فإنه لا يغسلهما بالماء مع أنه لا يلبس جورباً، بل يمسح على القدم ولا يغسلها، فهذه بدعة اعتقادية؛ لأنه يعتقد أن هذا هو هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنده شبهة في ذلك، وهم ينكرون بشدةٍ المسح على الخفين، ولذلك تجد علماء أهل السنة ينصون على هذه المسألة في متون العقيدة؛ لأنها متواترة ومقطوع بصحتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فلذلك ضبطوها وأصلوها في مسائل العقيدة، كما في متن العقيدة الطحاوية: (ونرى المسح على الخفين في الحضر والسفر). وكذلك -أيضاً- من البدع الاعتقادية بدعة المشبهة والمجسمة والقدرية، وغيرهم من فرق الضلال، وهناك بدع متنوعة باعتبار الأزمنة والأمكنة والأحوال، كالموالد والأعياد والمواسم، والجنائز والأضرحة، والضيافة والعبادة، والمعاشرة والعادات.

البدعة من حيث الحقيقة والإضافة

البدعة من حيث الحقيقة والإضافة وهناك قسم آخر من البدع وهو أخطر أنواع البدع، وهو سبب المشاكل عموماً بين الناس في باب البدع، وهو البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية، وهذا مهم جداً في قضيتنا، وهو موضوع ضوابط التبديع. فالبدعة الحقيقة هي ما كان الابتداع فيها من جميع وجوهها، فإذا نظرت إلى العمل من أي زاوية ولم تر له أصلاً في الشرع فهو بدعة حقيقية؛ لأن الابتداع من جميع وجوهها، فهي بدعة محضة، وليس فيها جهة تندرج بها في السنة، وهي التي لم يدل عليها دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أو استدلال، ولذلك سميت بدعة حقيقة؛ لأنها مخترعة على غير مثال سابق، وهي بعيدة عن الشرع خارجة عنه من كل وجه. ومن أمثلة البدعة الحقيقة بدعة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالرهبانية وترك التزوج مع وجود الداعي إليه وفقد المانع الشرعي تماماً، كرهبانية النصارى، والله عز وجل يقول: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] وهذا استثناء منقطع، أي: لكن كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله. ومن هذه البدع تعذيب النفس بألوان العذاب الشنيع والتنكيل الفضيع، كما يحصل من الهنود في الإحراق بالنار وغير ذلك، ومثل ذلك ما يفعله الشيعة الروافض يوم عاشوراء من تعذيب أنفسهم، وإدخال أسياخ الحديد وشق وجوههم وصدورهم حتى تنزف منها الدماء، فهذه أيضاً من البدع الحقيقية، وهل هذه يمكن أن تدخل في الدين؟ A لا، فالدين لا يمكن أبداً أن يبيح للإنسان أن يعذب نفسه بهذه الطريقة، فهذه بدعة حقيقية، مثل ما يفعله الشيعة يوم عاشوراء من خدش الرءوس والوجوه، ولطم الخدود، والنواح لكون الحسين رضي الله تعالى عنه قتل في ذلك اليوم، فيقيمون هذه المآتم زاعمين أن ذلك يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنهم يتعبدون بهذا. ومن البدع الحقيقية تحكيم العقل في أخبار النقل -في أخبار القرآن والسنة- كما هو معروف في التيارات المعتزلية. ومن البدع الحقيقية: الطواف حول الأضرحة، والوقوف في غير عرفة بدل عرفة، وإقامة الهياكل على القبور، وتعليق الشموع والمصابيح حول الأضرحة، فهذه كلها لا يمكن أبداً من أي زاوية إذا نظرنا إليها أن نجدها تدخل في الشرع، أو تكون لها شبهة أدلة الشرع، بل هي بدعة محضة لا يمكن أن يكون لها أصل في الدين، فهذه هي البدعة الحقيقية. أما البدعة الإضافية فهي على خلاف ذلك، والبدعة الإضافية لها جهتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من هذه الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق في الأدلة إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، فهذا العمل هو البدعة الإضافية، فهو باعتبار من الاعتبارات سنة وباعتبار آخر بدعة، أي أنه غير خالص لأحد الطرفين، ولذلك نسمي البدعة الإضافية بدعة نسبية أو إضافية حسب ما تضاف إليه، فهي سنة بالنسبة لأحدى الجهتين وبدعة بالنسبة للجهة الأخرى، سنة لأنها من زاوية مستندة إلى دليل، وبدعة لأنها من الزاوية الأخرى ليست مستندة إلى دليل شرعي ولا إلى شبهة، بل غير مستندة إلى دليل أصلاً. وهذا النوع هو مسار النزاع بين أغلب المتكلمين في السنن والبدع. وأنواعه كثيرة، منها: صلاة الرغائب، وصلاة ليلة النصف من شعبان، وصلاة حفظ الإيمان، وصلاة بر الوالدين، وصلاة مونس القبر، وصلاة ليلة ويوم عاشوراء، وهذا كله لم يثبت أبداً في السنة بوجه من الوجوه. فإن قيل: لماذا نقول: هو بدعة إضافية؟ ف A هو بدعة إضافية لأنه تشوبه شائبتان: الأولى: لأن الصلاة من حيث التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والتنفل بصلوات ثابتة في الشرع، وهناك تحريض عليها، يقول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) وهم من هذه الناحية قالوا: نحن نصلي لا نعبث. الثانية: أن هذا إن لم يكن ثابتاً في السنة من جميع الوجوه ففيه سنة من بعض الجهات. فمثلاً: بدعة التلحين في الأذان -الذي هو التطريب والتغني في الأذان- بدعة إضافية؛ لأن الأذان في حد ذاته سنة مشروعة معروفة، أما باعتبار ما عرض له من تمطيط الكلمات وتلحينها وتصريفها وإخراجها عن أوضاعها العربية من أجل المحافظة على توقيع الألحان فهو بدعة قبيحة، وهذا لا يحل في الأذان ولا في قراءة القرآن، فالأذان من حيث كونه أذاناً هو ليس بدعة، وأما من حيث ما أضيف إليه من كيفية فهذه بدعة إضافية. وكذلك قراءة سورة الإخلاص مائة ألف مرة، فيقرءون: (قل هو الله أحد) مائة ألف مرة، ويسمونها (العتاقة الكبرى) أي: من قرأها لنفسه أو لغيره فإنه يعتق من النار. وهذا من عندهم، فهذه بدعة إضافية؛ لأن قراءة (قل هو الله أحد) ذكر مشروع معروف، كما قال صلى الله عليه وسلم ((قل هو الله أحد) ثلث القرآن)، وقال: (ومن قرأ: (قل هو الله أحد) عشر مرات بنى له الله بيتاً في الجنة) لكن من حيث تسميتها عتاقاً أو ترتيب الثواب عليها والمواظبة عليها وتشريعها للناس هذه بدعة ليس لها أصل في الدين. ومن البدع الإضافية الأذان لصلاة العيدين أو لصلاة الكسوف؛ فإنه لم يثبت في سنة النبي صلى الله عليه أذان لصلاة العيدين وصلاة الكسوف، فالأذان من حيث هو أذان سنة ومشروع، لكن من حيث الوقت والوظيفة -وهو ربطه بالعيدين أو بصلاة الكسوف- بدعة من هذه الناحية. وهكذا ختم الصلاة بالطريقة الموجودة الآن، فيؤم بعض الناس المصلين ويختم الصلاة بطريقة معينة، كما هو معروف في بعض المساجد، فهذه الأذكار التي تقال في هذا الموطن في حد ذاتها هي سنة، لكن البدعة طرأت عليها من حيث الكيفية والألفاظ المبتدعة التي يخترعونها، فهذا فيما يتعلق بالبدعة الحقيقية والبدعة الإضافية.

البدعة من حيث الكلية والجزئية

البدعة من حيث الكلية والجزئية هناك قسم آخر، وهو البدعة الكلية والبدعة الجزئية، فالبدعة الكلية هي البدعة التي يكون الخلل الناشئ عنها كلياً في الشريعة، بحيث تتعدى محلها، وتنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، كأن تكون هذه البدعة عبارة عن قانون أو قاعدة يتحاكم إليها، فيترتب على هذا التحاكم كثير من المخالفات، فمثلاً: بدعة إنكار الأخبار النبوية مطلقاً اقتصاراً على القرآن الكريم كبدعة القرآنيين، فهذه بدعة كلية يتحاكم إليها، بل ويتحكم بها في الشرع، وتلغى بها سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. وكذلك بدعة عدم الأخذ بأخبار الآحاد بدعة كلية، حيث يترتب عليها مئات المخالفات الشرعية، وإنكار الأحاديث النبوية. وكذلك بدعة إنكار القسم الثالث من السنة، وهو القسم الذي يستقل بتشريع غير موجود في القرآن، فهذه بدعة كلية وليست جزئية، ووجه كون هذه البدعة كلية أنها تشمل ما لا حصر له من فروع الشريعة، ولأن عامة التكاليف مبنية عليها، فالأمر يجب على المكلف إما من الكتاب وإما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان وارداً في السنة فأكثر السنة آحاد، والمتواتر قليل جداً، وكذلك أحكام السنة التي لم ترد في القرآن، فإن لم تزد على ما في القرآن فلا تنقص عنه بحال، فهذا هو الابتداع بعينه، أن يتخذ الشخص مثل هذه القواعد الكلية، ويبطل بها مئات الأحكام الشرعية. وكذلك من البدع الكلية بدعة الخوارج في قولهم: (لا حكم إلا لله)، وهذه -أيضاً- كانت حجتهم في رد التحكيم، بناءً على أن اللفظ عام لم يدخله التخصيص، وهم قد أعرضوا عن قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]، فلم يأخذوا بالخصوص، ولم يراعوا أن العام هنا مخصوص. أما البدعة الجزئية فهي البدعة التي يكون ضررها جزئياً، كأن يأتي في بعض الفروع دون بعض ولا تتعدى محلها، ولا تنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، فمثلاً: بدعة التغني بالقرآن بدعة جزئية، والتلحين في الأذان بدعة جزئية؛ لأن ضررها جزئي فقط في موضوع الأذان، ويأتي في بعض الأشياء دون بعض، ولا تتعدى محلها، فلا تدخل في الصلاة أو غير ذلك، ولا تنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، فمن هنا كانت جزئية. وكذلك الامتناع عن تناول ما أحل الله من الطعام أو الشراب بدعة جزئية. وأيضاً هناك بدع في العادات، فالبدع قد تدخل في الأمور العادية مثل اللبس والأكل والشرب والمشي والنوم، فهذه الأمور عادية، ولا يدخلها الاتباع من جهة كونها عادية، إنما يدخلها الابتداع من الجهة التعبدية، كأن يخالف الوجه المشروع فيها، أو يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بذلك، كأن يتقرب إنسان إلى الله بترك نوع معين من الملابس -مثلاً- أو الطعام أو غير ذلك من الأشياء.

ضوابط في البدعة والابتداع

ضوابط في البدعة والابتداع

اختلاف الحكم على المبتدع لاختلاف مراتب البدع

اختلاف الحكم على المبتدع لاختلاف مراتب البدع أول الضوابط في موضوع الابتداع أن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وبالتالي ينعكس هذا على موضوع الحكم على المبتدع نفسه، فلا شك أن المبتدع بدعة عقائدية أخطر من المبتدع بدعة عملية في الغالب، وكذلك المبتدع بدعة كلية أشد انحرافاً من المبتدع بدعة جزئية، وهكذا البدعة الحقيقية أخطر من البدعة الإضافية. فإذاً ينبغي أن نعرف أن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وإنما تتفاوت في خطورتها حسب ما تؤدي إليها، فهذا أول ضابط، وهو معرفة أقسام وأنواع البدع.

لا تبديع في مسائل الخلاف

لا تبديع في مسائل الخلاف ومن الضوابط أنه لا يجوز التبديع في قضية من القضايا التي يختلف فيها العلماء، كالقضايا الفقهية، فإذا كان الخلاف خلافاً سائغاً فلا يجوز الحكم على المخالف فيه بالابتداع، وهنا مثال مشهور لما وقع فيه بعض أفاضل العلماء من أئمة الخير والهدى في هذا الزمان، فقد خالف عالم فاضل من أئمتنا الأجلاء عالماً آخر في موضوع وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع فقال: هذه بدعة، بل وضلالة. فهذه لا يجوز أن تندرج في ميزان البدعة على الإطلاق، فإن هذا خلاف سائغ، والأمر أهون من ذلك بكثير، فهذه لا تدخل بأي حال في حد البدعة أبداً؛ لأن الخلاف سائغ، والحديث محتمل في تفسيره، فالخلاف الفقهي السائغ لا يمكن أبداً أن تطلق على مخالفك فيه وصف البدعة أبداً؛ لأن الخلاف الفقهي السائغ لا يدخل في حد البدعة أبداً.

أنواع الخلاف وضوابط الخلاف السائغ

أنواع الخلاف وضوابط الخلاف السائغ معروف أن الخلاف على ثلاثة أنوع: خلاف مذموم، وخلاف ممدوح، وخلاف سائغ. أما الخلاف المذموم فهو خلاف أهل الأهواء لأهل العلم، وشذوذ أهل الأهواء والبدع عن هدي أهل العلم والسنة، فهذا خلاف مذموم، كمخالفتهم في أصول العقيدة، أو فيما علم من الدين بالضرورة، أو بالابتداع بالدين، فهذا خلاف مذموم. النوع الثاني: خلاف ممدوح، وهو خلاف أهل العلم لأهل الأهواء، فخلاف أهل العلم لأهل الأهواء خلاف ممدوح. أما الخلاف السائغ فهو خلاف أهل العلم لأهل العلم، بشروطه التي سنذكرها إن شاء الله. فما هي ضوابط الخلاف السائغ؟ وما هو الضابط الذي نحكم به على الخلاف أنه خلاف سائغ، بحيث لا يمكن أبداً أن نصف الشخص الذي يخالف فيه بأنه مبتدع؟

خفاء الدليل الراجح

خفاء الدليل الراجح أول ضابط من ضوابط الخلاف السائغ خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، أي: أن النية من الإمام أو العالم المجتهد أنه يريد الحق، لكن خفي عليه الدليل الواضح الذي يحكم المسألة، فهذا خلاف سائغ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه إذا كان في المسألة نص خفي على بعض المجتهدين وتعذر عليه علمه، ولو علم به لوجب عليه اتباعه، ولكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر، وهو منسوخ أو مخصوص، وهو لم يعلم بالدليل المخصص أو الناسخ، أو لم يصح عنده. فهذا أول ضابط من ضوابط الخلاف السائغ، وهو خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، وهذا أغلب خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى، كالإمام الشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وغيرهم، فلا يمكن أن يظن بواحد منهم أنه يتعمد مخالفة الدليل، وهكذا كان الأئمة مع بعضهم. ولقد كان في بريطانيا أحد الإخوة السلفيين لا يمكن أبداً أن يصلي خلف إمام حنفي، فيضيع صلاة الجماعة ولا يصلي خلف إمام مذهبه حنفي، ولما تناقشت معه في ذلك قال: لأن الحنفي يرد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام! وهل يظن بمسلم أن يرد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فلذلك هذا ضابط مهم جداً. والعلماء تقطع بأنهم يريدون الحق، وقصد الحق موجود عندهم، وقد يخالف أحدهم الحق لكن لا يقصد ذلك ولا يتعمده أبداً. فالشاهد أن أول الضوابط خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فنظن بالعلماء أنهم يقصدون الحق، وقد يخالف أحدهم الحق لا عن عمد، لكن عن عذر لخفاء هذا الدليل أو عدم بلوغه إياه، أو عدم صحته عنده، أو تأوله إياه.

المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ

المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ الضابط الثاني: ما كان من المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم منه حتى من فضلاء الأمة، فهناك مسائل دقيقة في تفاصيل القضايا والفروع الفقهية الدقيقة، ولا يمكن أبداً أن تتفق الأمة كلها على مثل هذه الدقائق، فيكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم من الخطأ في مثل هذه الفروع حتى من فضلاء الأمة، فهذا -أيضاً- خلاف سائغ في القضايا الهينة الدقيقة. قال شيخ الإسلام: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة. لأنه ما من أحد من فضلاء الأمة إلا واختلف مع أخيه من العلماء والأئمة في بعض القضايا والتفاصيل الفقهية والفروع الدقيقة جداً، وهذه معروف لمن درس الفروع الفقهية والموسوعات الفقهية ورأى شدة خلاف العلماء في هذه المسائل الدقيقة، فالمسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ قل من يسلم منها حتى من فضلاء الأمة، فهذه المسائل تدخل في الخلاف السائغ.

عدم مخالفة نص شرعي أو إجماع

عدم مخالفة نص شرعي أو إجماع الضابط الثالث: عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع. فلكي يكون الخلاف سائغاً يجب أن لا يضاد وأن لا يخالف نصاً شرعياً صحيحاً واضحاً، ولا إجماعاً متيقناً معلوماً، فإذا كان في المسألة نص أو إجماع فأي شذوذ عن النص أو الإجماع يعتبر خلافاً غير سائغ، فإذا اجتهد الفقيه في المسألة وبذل فيها وسعه فإن خالف غيره من العلماء -سواء أكانوا سابقين أم معاصرين- فالخلاف يكون سائغاً، مالم يكن فيها نص أو إجماع، وهذا الضابط مهم جداً. والنص مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، وقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5]، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، فهذا نص جاء بالتحليل أو التحريم في المسألة، وهل يحتمل أن هذه الآية يمكن أن يناقش فيها هل هي حرام أم مكروه؟ A لا؛ لأن هنا نصاً واضحاً جلياً، بل إن أعلى درجات الوضوح في دلالات الألفاظ: (حرمت)، و (أحل لكم) فلا يقبل أبداً مخالفة ما جاء فيه نص واضح، بخلاف ما عداه مثل الظاهر أو غير ذلك من الدلالات التي هي أقل في وضوحها من النص. وكذلك الإجماع، فإن الأمة معصومة في إجماعها عن الضلالة، والإجماع أساساً يدخل فيما علم من الدين بالضرورة، أو هو ما علم من الدين بالضرورة، فإذا اجتهد الفقيه في المسألة التي ليس فيها نص ولا إجماع، وبذل فيها وسعاً، وترتب على ذلك مخالفة لإخوانه من العلماء المعاصرين أو السابقين أو اللاحقين فهذا داخل في دائرة الخلاف السائغ.

الخلاف بين أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين

الخلاف بين أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين الضابط الرابع: لا يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين، ولا يمكن أن يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والبصيرة والاجتهاد في الدين، فلا عبرة على الإطلاق بأن يأتي أحد دون هذه المرتبة من عوام الناس أو طالب علم ويقول: أنا اجتهدت في هذه المسألة ورأيت فيها بخلاف كلام هذا الإمام! فلا يعتبر هذا الخلاف سائغاً؛ لأن الخلاف السائغ هو الذي يصدر عن أهل العلم وأئمة الاجتهاد والبصيرة في الدين. وهناك رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تكلم فيها عن أنواع المجتهدين، وتكلم على أن الخلاف السائغ هو خلاف أهل العلم. ولابد من شرط آخر وهو أن الإمام المجتهد يمكن أن يكون إماماً مجتهداً ويقصر في الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد هو أن يبذل الفقيه وسعه في استنباط الحكم الشرعي. فلو أن إماماً مجتهداً من الأئمة المجتهدين لم يبذل وسعه وأفتى دون أن يبذل وسعه، فهذا غير سائغ؛ لأن الاجتهاد هو أن يبذل أقصى الوسع في تحري الحق وقصده، فإن خالفه الصواب بعد ذلك فهو داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أجتهد فأخطأ فله أجر)، لكن إذا لم يجتهد وأفتى بدون بذل الوسع فلا يدخل تحت هذا الحديث، وأما الآن فكل من هب ودب يستدل بالحديث على آرائه واجتهاداته، ويظن أنه مأجور حتى لو أتى الأمر من غير بابه، وقد لا يكون مجتهداً، بل ولا طالب علم، ولا طويلب علم، ومع ذلك يقول: قلت! وأقول! ومذهبنا الذي نرجحه! وغير ذلك من العبارات الرنانة، فهذا لا عبرة على الإطلاق بكلامه. فالشاهد أنه لا يكون الخلاف سائغاً إلا إذا كان صادراً من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين. وبعدما ذكر شيخ الإسلام أنواع المجتهدين قال: بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا؟! إنما شفاء العي السؤال)، فأنكر عليهم اجتهادهم، فهم اجتهدوا لكن عن غير أهلية؛ إذ ليس عندهم مؤهلات في الاجتهاد، ولذلك أنكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقل كما قال في الحديث الآخر: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر)، وإنما قال: (قتلوه قاتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا؟! إنما شفاء العي السؤال)، فإن هؤلاء أخطئوا بغير اجتهاد؛ إذ لم يكونوا من أهل العلم. فالضابط الخامس من ضوابط الخلاف السائغ: أن يبذل الفقيه أقصى وسعه وغاية جهده في الوصول إلى الحق، فإذا قصر ذم بتقصيره، ومن التقصير: عدم طلبه الدليل من الكتاب والسنة.

عدم البغي في الخلاف

عدم البغي في الخلاف الضابط السادس: لا يكون الخلاف سائغاً مع البغي. أي: إذا صحبه بغي؛ لأن الإنسان إذا كان يبغي على مخالفه فالبغي يعارض قصد الحق؛ لأننا ذكرنا في الضابط الأول من ضوابط الخلاف السائغ خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فالشخص الذي يريد أن يبغي على مناظره أو على مخالفه يستعمل الأدلة للانتصار لرأيه أو مذهبه، والبغي يتنافي مع قصد الحق، فمن قصد الحق لابد من أن يكون متجرداً خارجاً عن الهوى، ولابد من أن يقصد الحق فقط، فإذا كان في بحثه أو في أصوله بغي فإن البغي يعارض قصد الحق الذي هو من لوازم الخلاف السائغ، يقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والبغي إما تضييع للحق وإما تعدٍ للحق، فهو إما ترك واجب وإما فعل محرم، فعلم أن موجب التفرق هو ذلك. فالذي يحدث التفرق هو البغي، والبغي له صورتان: إما تضييع للحق أي: يضيع الواجب أو تعدٍ للحق بفعل الحرام، فكلاهما بغي يوجب التفرق بين الناس. فإذاً لا يكون الخلاف سائغاً مع البغي؛ لأن البغي يعارض قصد الحق الذي هو من لوازم الخلاف السائغ. أما الضابط السابع والأخير فهو أن الخلاف لا يكون خلافاً سائغاً مع ظهور الأدلة، فلابد من أن يكون اجتهادهم واختلافهم إنما هو في المسائل الفرعية التي لم يدل دليل قطعي على حكمها؛ لأن الدليل الظاهر يحسم مادة الخلاف، فإذا كان الخلاف سائغاً قبل ظهور الدليل فإنه لا يكون كذلك بعد ظهوره، وليس هناك تعارض بين هذا والضوابط السابقة؛ لأن العالم معذور في مخالفته للحق، فهو يقصد الحق لكن خالفه، مالم يأته الدليل الصحيح الصريح الذي يحسم الخلاف، فهو معذور قبل ذلك، أما إذا ظهر الحق فلا يعود الخلاف سائغاً في حقه، ولذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول عالم. وقال: ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف شخص الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه. فهذه هي ضوابط الخلاف السائغ، وأهمية هذه الضوابط أن الخلاف السائغ لا يتم على أساسه التشنيع على المخالف. وهذه الضوابط خلاصتها هي: الأول: خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق. الثاني: ما كان من المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم منه، حتى من فضلاء الأمة. الثالث: عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع. الرابع: لا يكون الخلاف سائغاً إلا إذا كان من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين. الخامس: أن يبذل الفقيه أقصى وسعه في الوصول إلى الحق، فإذا قصر ذم بتقصيره، ومن التقصير عدم طلبه الدليل من الكتاب والسنة. الضابط السادس: لا يكون الخلاف سائغاً مع البغي. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

محنة فلسطين [1]

محنة فلسطين [1] بيت المقدس ذلك المكان الذي وصفه رب السماوات والأرض بالبركة والطهارة والقدسية، فهو مهبط الوحي من رب العالمين، ومبعث الأنبياء والمرسلين، وأولى القبلتين، ومسرى حبيبنا محمد الصادق الأمين، فما له الآن يئن تحت وطأة الأرجاس الأنجاس! وتتحكم فيه شرذمة فاقت في الشر كل الناس! أما له من يعرف قدره؟! أما له من يحميه ويطهره من ذلك النجس والخبث؟! بلى، سيأتي رجال يعرفون قدره، ويطلبون الموت مظانه.

سؤال سليمان عليه السلام ربه عز وجل إصابة الحكم والملك

سؤال سليمان عليه السلام ربه عز وجل إصابة الحكم والملك الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود عليهما السلام من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحداً لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة). الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه ابن ماجة في سننه في كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في الصلاة في بيت المقدس، وصححه الألباني في التعليق الرغيب، وأيضاً في صحيح ابن ماجة برقم (1156). قوله عليه السلام: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: -الأولى- حكماً يصادف حكمه) أي: حكماً يوافق حكم الله تبارك وتعالى، والمراد: أن يوفقه الله تبارك وتعالى للصواب في الاجتهاد وفي فصل الخصومات بين الناس، كما بان ذلك في القصة المذكورة في سورة الأنبياء في قوله تبارك وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]. وقوله: (وملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي)، أي: أن الأمر الثاني الذي طلبه سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس هو ما حكاه الله عز وجل في قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35]، أي: لا يكون لأحد من بعدي، والمقصود من هذا: أن يكون ملكاً عظيماً، فهو طلب هذا الملك لا لعظمه وكبر شأنه، وإنما معجزة له؛ حتى يكون سبباً للإيمان والهداية، وأراد أن تكون معجزته مما يناسب حاله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو أراد أن يهبه الله هذا الملك العظيم، حتى يكون معجزة له، ودلالة على نبوته عليه السلام. هذا هو التفسير الصحيح لهذا الدعاء الذي دعاه سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35]، لا كما يذهب أذناب اليهود والجهال من بعض الناس من وصف نبي الله سليمان عليه السلام بما لا يليق من الصفات، بناءاً على تفسير منحرف لهذا الدعاء.

فضل المسجد الأقصى

فضل المسجد الأقصى وقوله: (وألا يأتي هذا المسجد)، أي: لا يدخل المسجد الأقصى بيت المقدس (أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما اثنتان فقد أعطيهما) أي: أعطي الأولى والثانية، فوهبه الله الفهم، ووفقه للصواب في اجتهاداته، فوافق حكمه حكم الله تبارك وتعالى، وآتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، كما فسر ذلك في عدة مواضع من القرآن، ثم تمنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) وفي هذا فضيلة عظيمة للمسجد الأقصى، الذي أنزل الله تبارك وتعالى فيه قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]. فالمسجد الأقصى وبيت المقدس يحتلان مكان القلب من كل مسلم؛ لأنه موضع شرفه الله تبارك وتعالى، وهو أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول بعض الشعراء: مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى وفي المحراب مروان تمثل المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان فلا الأذان أذان في منابره من حيث يتلى ولا الآذان آذان فالمسجد الأقصى الآن دمعه في عين كل مسلم، وطعنة في قلب كل مؤمن، ومصيبة يعيشها الآن كل المسلمين: العرب والهنود والأتراك والأفغان وكل مسلم مخلص لهذا الدين على وجه الأرض. وقد أم فيه الأنبياء -عليهم السلام خاتمُهم وسيدُهم محمد صلى الله عليه وسلم، وفتحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، هذا المسجد سلب منا، وقطع من فؤادنا يوم ضعفت في قلوبنا (لا إله إلا الله)، يقول الشاعر: أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر هذا المسجد الشريف ورد ذكره في الكتاب والسنة، وشرفه الله تبارك وتعالى ووصفه بأعظم الصفات.

مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين

مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين وقد انتقلت هذه الأرض المقدسة والمسجد الأقصى إلى إرث الأمة الإسلامية، فهذه الأمة المصطفاة هي التي ورثت الاصطفاء والاجتباء بعد بني إسرائيل، فبنو إسرائيل جحدوا نعمة الله عليهم وقد كانوا خير الأمم في زمانهم، فلما كفروا وعتوا وعلوا عن أمر الله تبارك وتعالى أبدل الله عز وجل خيراً منهم، وصارت هذه الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس مطلقاً، فورثت هذه الأمة الاصطفاء والاجتباء بعد بني إسرائيل. وقد احتل المسجد الأقصى واحتلت بيت المقدس مكاناً متميزاً ومكانة رفيعة في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فالقدس والأقصى يسكنان مكان القلب من كل مسلم.

رفع الشرع لمكانة المسجد الأقصى وبيت المقدس

رفع الشرع لمكانة المسجد الأقصى وبيت المقدس أضفى الإسلام على المسجد الأقصى وبيت المقدس مزيداً من القدسية والشرف، حتى إن القرآن الكريم جاء فيه وصف أرض بيت المقدس بصفات البركة والطهر والقدسية، يقول تبارك وتعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]، فوصفها بالقداسة والطهارة، وقال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، فوصفها أيضاً بالبركة، وقال أيضاً: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه} [الإسراء:1]، وقال عز وجل أيضاً في شأنه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71]، وقال عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، وقال عز وجل أيضاً: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وقال تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18]، وهي الشام، {قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18]. وقد أشارت آيات القرآن أيضاً إلى قدسية هذه الأرض حينما أقسم الله عز وجل بها في سورة التين: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3]، وقال عز وجل في شأن عيسى عليه السلام وأمه: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50]. قال قتادة وكعب والسدي: إن هذه إشارة إلى بيت المقدس. وقال تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41]، ورد في التفسير أن المنادي هو: إسرافيل ينادي من صخرة بيت المقدس. وفي قوله تبارك وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، قال عكرمة: إنها المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس. وفي تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] قال كثير من المفسرين: هو مسجد بيت المقدس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين مع ما علم بالحس والعقل: أن الخلق والأمر ابتدأ من مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وجعلها الله قياماً للناس، إليها يصلون ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم. فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة سيكون في الشام، والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2]، والمقصود بها: الشام. فيحشر الخلق إلى الشام، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في ليلة الإسراء إقراراً مبيناً بأن الإسلام هو الرسالة الخاتمة، والوحي الأخير إلى البشر، وكان تمامها على يد محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين. وكان في الإسراء أيضاً دلالة على أن آخر صبغة للمسجد الأقصى في شرع الله هي الصبغة الإسلامية، فاستقر نسب المسجد الأقصى إلى الالتصاق بالأمة التي أم رسولها سائر الأنبياء. ولا شك أن في اقتران الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى بالمسجد الأقصى دليلاً باهراً على مدى ما لهذا البيت من مكانة عند الله تعالى، ودليل كذلك على صحة القول: بأن المسجد الأقصى في المركز الذي لا يصعد إلى السماء إلا منه، ولهذا فإن الناس يحشرون هناك، وينصرفون من تلك الأرض إما إلى الجنة، وإما إلى النار. وقد ردت أيضاً أحاديث كثيرة بجانب هذه الجملة من الآيات في فضل وشرف بيت المقدس والمسجد الأقصى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد -يعني: مكان المسجد- فصليت فيه ركعتين، ثم عرج بي إلى السماء) رواه مسلم. وعن جنادة بن أبي أمية الأزدي قال: ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في الدجال، فذكر الحديث وفيه: قال عليه الصلاة السلام: (وعلامته -أي: الدجال-: يمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة، ومسجدي -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى، والطور) رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر: رجاله ثقات. وفي الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه -يعني: مخلصاً لله- إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أيضاً ابن ماجة في سننه. وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ قال: أرض المحشر والمنشر- يعني: الأرض التي يكون فيها الحشر والنشور- ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه، قال: أهدي له زيتاً يسرج فيه، فمن فعل فهو كمن أتاه) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، وقال في (مصباح الزجاجة): وإسناد طريق ابن ماجة صحيح، ورجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود. وعن ذي الأصابع رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إن ابتلينا بعدك بالبقاء -طول العيش- فأين تأمرنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليك ببيت المقدس؛ فلعله ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون) رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ضعف. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر! كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة، أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة، قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة، قال: قلت: إلى السعة والدعة، إلى الشام والأرض المقدسة، قال: وكيف تصنع إن أخرجت من الشام، قال: قلت: إذاً والذي بعثك بالحق! أضع سيفي على عاتقي) رواه الإمام أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا السليل ضريب بن نقير لم يدرك أبا ذر. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم، إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) رواه الإمام أحمد والبزار وقال ابن حجر: سنده صحيح. وعن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: (وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: يـ ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت بالأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) رواه الإمام أحمد و

بداية الفتوحات في بلاد الشام وفلسطين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

بداية الفتوحات في بلاد الشام وفلسطين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم التعظيم والتكريم في القرآن والسنة للمسجد الأقصى ولبيت المقدس جعل لهما هذه المساحة العظيمة في صفحات التاريخ الإسلامي وفي قلوب المسلمين منذ عهد النبوة إلى يومنا هذا. فالمسجد الأقصى هو المكان الذي عرج منه النبي صلى الله عليه وسلم ليرى من آيات ربه الكبرى، فكان ذلك تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم أن عرج به إلى ذلك المقام العظيم من هذا المكان العظيم؛ ليرقى إلى ملأ عظيم، في ليلة عظيمة. ولو لم يحدث في زمن النبوة ما يشرف ذلك المكان إلا ذلك الحدث لكفاه تشريفاً وتعظيماً، لكن الواقع أن بيت المقدس كان له نصيب آخر من أحداث عهد النبوة؛ إذ توجه إليه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم عملاً بعد أن ندب إلى تكريمه وتعظيمه من ناحية المعنى، فقد تلفتت أنظاره إلى بيت المقدس في الشام ليطهرها من أوضار الشرك الصليبي كما طهر مكة من أوضار الشرك العربي، ولتبدأ بذلك الخطوة الأولى نحو الهدف الكبير، هدف تحرير الأرض المقدسة وتكسير الآثار التي حلت بها. لذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وتوجه النظر إلى بيت المقدس، كما توجه النظر إلى الشام وإلى آفاق الأرض، وندب الناس إلى الخروج إلى الشام، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام، كما بعث إلى شرحبيل بن عمرو الغساني عظيم بصرى رسولاً يدعوه إلى الإسلام، فاعتدى على المبعوث وقتله، فأعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل للخروج إلى مؤتة، وفي تلك الغزوة قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وتلقى سيف الله المسلول الراية بعد مقتل الثلاثة ففتح الله عليه، فانسحب الانسحاب الآمن المعروف. ثم بدأت الروم تحشد الجيوش للإغارة على دولة الإسلام؛ ولتبقي يدها على بيت المقدس، ولتظل الروم ممسكة بزعامة العالم النصراني من هناك، فأعدوا الجيوش لضربة مركزة، فتنامت إلى أسماع المسلمين أنباء ذلك الإعداد، فاستنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لملاقاة ذلك العدو المستكبر، وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة، فاكتنف إعداد الجيش الذي أنشئ لقتال الروم في الشام ظروف عصيبة، حتى سمي جيش العسرة، والآيات التي نزلت في القرآن الكريم المتعلقة بغزوة العسرة هي أطول ما نزل في القتال بين أهل الإسلام وغيرهم من ملل الكفر، وذلك واضح لمن تأمل سورة التوبة. خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثين ألفاً من المقاتلين، خرج بهم عليه الصلاة والسلام في تعبئة لم تسبق من قبل لجيش إسلامي، فلما بلغ الجيش الإسلامي تبوك لم يجد للروم أثراً يدل على أنهم مستعدون لخوض الحرب، فقد رعبوا من الالتقاء بالجيش الإسلامي، وجاء ختام الغزوة طمأنينة وعزة للمسلمين، فأقفل بهم النبي صلى الله عليه وسلم عائداً إلى المدينة. وبعدما رجع عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع إلى المدينة أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو معاقل الروم في أرض الشام، واختار لإمرة هذا الغزو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان ذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم، وخرج الجيش الإسلامي بقيادة أسامة الذي لم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية عشر عاماً، وعسكر في الجرف حينما سمع باشتداد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصعدت روحه إلى بارئها جل وعلا، فأقام الجيش هناك، ينتظر ما الله قاضٍ في هذا الأمر.

الفتوحات في الشام وفلسطين في عهد أبي بكر رضي الله عنه

الفتوحات في الشام وفلسطين في عهد أبي بكر رضي الله عنه أنفذ أبو بكر رضي الله عنه بعث أسامة، وكان بعض الناس قد نصحه أن يستفيد من هذا الجيش في قتال المرتدين، لكنه أبى وأنفذ بعث أسامة، وتحقق من إنفاذه توجه نظره إلى توجيه جيش إسلامي كبير إلى الشام، ليس لقتال الروم فقط، بل لفتحها وإدخالها إلى حظيرة الإسلام، وتم إعداد جيش من اثني عشر ألف مقاتل بإمرة خالد بن الوليد بعد أن انتهى دوره من قتال المرتدين، وحضر لقتال الروم جمع مبارك من أفذاذ قادة المسلمين من الصحابة، وتمخضت ملامح النصر عن فتح عدة مدن بفلسطين، وكان فتحها تمهيداً وتذليلاً للطريق إلى مدينة القدس بعد عهد أبي بكر رضي الله عنه.

فتح عمر رضي الله عنه لبيت المقدس

فتح عمر رضي الله عنه لبيت المقدس في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه استأنف الإعداد لفتح بيت المقدس، فوجه أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى المدينة المقدسة في خمسة آلاف فارس، ثم أتبعهم بخمسة آلاف تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، ثم بخمسة آلاف تحت قيادة شرحبيل بن حسنة، فاجتمعوا جميعاً، وضربوا الحصار حول المدينة المقدسة حوالى أربعة أشهر، حتى طلب أهلها الصلح على أن يتولى عمر بنفسه تسلم المدينة، فاستجاب عمر رضي الله عنه، وخرج بنفسه إلى إيلياء، فوصل إليها في شهر رجب من السنة السادسة عشرة للهجرة في شهر الإسراء والمعراج؛ ليحرر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفك عنه الأغلال، ودخل المدينة عن طريق جبل المكبر، الذي سمي بجبل عمر؛ لأن عمر رضي الله عنه دخل منه. ولما أشرف على المدينة المقدسة من فوقه كبر عمر رضي الله عنه، وكبر المسلمون معه، ومن ثم سمي جبل المكبر، وبعد أن دخلها ووصل إلى أرض المسجد الأقصى أزال عنها ما وضعه النصارى من أقذار، وبنى مسجداً أمام الصخرة، وجعل الصخرة في مؤخرته. والناس إذا ذكر عندهم المسجد الأقصى يتبادر إلى ذهنهم هذه القبة المبنية فوق الصخرة، والتي يجعلون بناءها من عجائب الدنيا، وهذه القبة هي جزء من أرض المسجد الأقصى، أما المسجد الأقصى فهو كل المساحة التي حول قبة الصخرة، وأرض المسجد الحقيقي هو الموجود في الجهة الغربية من قبة الصخرة، فالمسجد الأقصى كبناء وكمسجد ليس هو قبة الصخرة، وإن كان في الأصل أن قبة الصخرة جزء من هذه الساحة التي هي والأرض المحيطة بها كلها تشكل كلمة المسجد الأقصى.

اهتمام خلفاء بني أمية بالمسجد الأقصى وبيت المقدس

اهتمام خلفاء بني أمية بالمسجد الأقصى وبيت المقدس عندما استقر الأمر لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أخذ البيعة من الناس في مدينة القدس، ثم اختار دمشق عاصمة للخلافة. وفي عهد عبد الملك بن مروان أخذ لنفسه البيعة في بيت المقدس، وتولى أعمار المدينة المقدسة حتى غدت في عهده وعهد ابنه الوليد بن عبد الملك من أعظم المراكز الحضارية في الدولة الإسلامية، وتولى عبد الملك تشييد المسجد الأقصى في بناء جديد، وكذلك هو الذي تولى تشييد مسجد قبة الصخرة، وأوقف خراج مصر لسبع سنين في تشييدهما، فكان الخراج الذي يجمع من مصر لمدة سبع سنين وقفاً على تشييد المسجد الأقصى وقبة الصخرة، حتى صارا على شكلهما القائم اليوم. أما الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فإنه لما تولى الحكم طلب من جميع ولاته أن يزوروا المسجد الأقصى، ويقسموا يمين الطاعة والعدل بين الناس فيه. وفي عهد العباسيين زاد اهتمامهم بالقدس لاسيما في عهد أبي جعفر المنصور، وكذلك في العهود التي تلت ذلك.

بداية سقوط القدس في أيدي الصليبيين

بداية سقوط القدس في أيدي الصليبيين استطاع السلجوقيون أن يستولوا على المدينة المقدسة من قبضة الفاطميين الذين كانوا يعتبرون أعداءً تقليديين لهم، فاحتلوا المدينة عام (465هـ) الموافق عام (1071م)، لكن الفاطميين استعادوها منهم، ولم يلبث الصليبييون أن انتزعوا القدس من أيدي أوليائهم الفاطميين الذين كانوا من الأسباب الرئيسية في النكبة الصليبية التي حلت ببيت المقدس. انتهزت الزعامة الباباوية نداءً وجهه البطريرك كنعان الثاني بطريرك القدس وبطرس الناسك، وتوجه هذا المدعوم من البابا إلى مجمع للنصارى سنة (1095م)، ودعا إلى شن حروب ضد المسلمين لإخراجهم من بيت المقدس؛ فاستجاب ملوك وأمراء الإقطاع في أوروبا الوسطى والغربية؛ لأن في تلبيتهم لهذا النداء فرصة لتحقيق حلمهم القديم في إقامة إمبراطورية جديدة في الشرق على غرار الإمبراطورية الرومانية التي قصم المسلمون ظهرها. وتقدم النصارى ملبين نداء البابا وهم يدقون نواقيس الحرب، ووقعت القدس في يد النصارى بعد أربعين يوماً من الحصار، وذلك بعد انخذال الشيعة في الدفاع عنها، وهروب قائدهم المدعو افتخار الدولة وحرسه، وسقطت المدينة المقدسة في أيدي عباد الصليب في نهار يوم الجمعة في الثالث والعشرين من شعبان سنة (492هـ) في عهد الخليفة المستعلي بالله الفاطمي لا أعلاه الله، والمستظهر بالله الفاطمي لا أظهره الله؛ ولم يكن لدى الفاطميين إلا أسماء وألقاب فقط، كـ العاضد لدين الله، والمعز لدين الله، والحاكم بأمر الله، وهكذا. وتهيأت الفرصة لعباد الصليب لأول مرة بعد أن أضاءت الدنيا بنور الإسلام أن يسددوا للمسلمين طعنة في الصميم، ودخل الصليبيون المدينة منطلقين في هوس وجنون يزرعون الرعب والدمار والخراب، منتشين بما أصابوا من نصر رخيص على يد حاكم أرعن، ولم يسلم من بطشهم رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا طفل، فقتلوا الجميع دون تمييز، وأراقوا الدماء دون تورع، وشاهوا وجوه الناس وأساءوا إليهم، فلم يسلم من ظلمهم خد أيمن ولا أيسر، واستمرت المذبحة الرهيبة طوال يوم الدخول وليلته، واقتحموا المسجد الأقصى صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا فيه، واصطبغت ساحات المسجد بدماء العباد والزهاد والركع السجود، وتوجه قائد الحملة الصليبية ريموند في الضحى لدخول ساحة المسجد ملتمساً طريقاً بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته!!

استعادة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله للقدس

استعادة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله للقدس ظل الصليبيون في بيت المقدس يشيعون فيه الإفساد مدة إحدى وتسعين سنة، إلى أن أذن الله بالنصر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فالحقيقة أن هذا الأمر مما يلفت النظر، فالقدس صارت لسنوات كثيرة في يد الصليبيين أطول مما صارت الآن في يد اليهود لعنهم الله. فالسنوات في عمر الدعوات هي ثوانٍ ولحظات في الحقيقة، فمهما طال الأمد فلابد أن تعلو كلمة الله تبارك وتعالى، وقد جاءنا الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام سيظهر في الشام، وأن خلافة داود في بيت المقدس؛ حتى لا يصيب المسلمين اليأس، فمهما طال العهد بهؤلاء اليهود فإن من سبقوهم مكثوا في القدس أكثر مما مكثوا، وعلوا في الأرض أكثر مما علوا. أذن الله بالنصر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فقد توجه نهار الأحد الخامس عشر من رجب فنزل بجيشه غربي بيت المقدس، ثم انتقل إلى الجانب الشمالي، وخيم هناك، وضيق على الإفرنج المسالك، ونصب المجانيق، وضرب على المدينة حصاراً انتهى بتسليم الصليبيين إياها يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاتفق الفتح في اليوم الذي كان فيه حادثة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يرطب قلوبنا ويحيي الأمل في نفوسنا أن نطالع ما حدث في ذلك اليوم العظيم، كما حكاه الإمام ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى، وقد صحح الحافظ ابن كثير أن صلاة الجمعة أقيمت في الجمعة المقبلة، وليس في أول جمعة؛ لأنهم لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محيي الدين بن محمد بن علي القرشي بن الزكي. يقول ابن كثير: لكن المسلمين نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية، وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتاً لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، وأنزل الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها. وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعاً فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها، ثم قبض -أي: السلطان صلاح الدين - من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق السلطان خلقاً منهم من بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير منهم فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئاً مما يقتنى ويدخر؛ فقد كان رحمه الله حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً.

أول جمعة أقيمت في المسجد الأقصى بعد استعادة القدس وذكر خطيبها

أول جمعة أقيمت في المسجد الأقصى بعد استعادة القدس وذكر خطيبها يقول الحافظ ابن كثير حاكياً ما حدث في أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه: لما تطهر بيت المقدس مما كان فيهم من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقس، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان بعد يوم الفتح بثمانٍ، فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعبد الله الأحد الصمد الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال، كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال! ولم يكن عين خطيب، فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة: أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباً، فلبس الخلعة السوداء، وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف بيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات. وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولهما، وكان الخطيب الإمام ابن الزكي رحمه الله أول ما صعد المنبر بدأ الخطبة بقوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، ثم أورد تحميدات القرآن كلها -أي: كل الآيات التي فيها حمد لله تبارك وتعالى من القرآن- ثم قال: الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، والذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. واستمر رحمه الله في ذكر فضائل بيت المقدس، ثم ذكر تمام الخطبتين، ثم دعا للخليفة الناصر العباسي، ثم دعا للسلطان الناصر صلاح الدين، وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن نجى المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان، فوعظ الناس، واستمر القاضي ابن الزكي يخطب الناس في أيام الجمع أربع جمعات. ثم قرر السلطان للقدس خطيباً مستقراً، وأرسل إلى حلب فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين الشهيد قد أعده لبيت المقدس -وقد أحرق في حادثة إحراق المسجد الأقصى قبل عدة سنوات- وقد كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، وكان قد أعد هذا المنبر حتى يصلي فيه، لكن لم يكتب له ذلك، وقتل شهيداً رحمه الله، أي: أن الملك نور الدين كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، فما كان إلا على يدي بعض أتباعه بعد وفاته، وهو صلاح الدين رحمه الله.

قيام دولة اليهود على أساس ديني

قيام دولة اليهود على أساس ديني نحتاج أيضاً قبل الخوض في هذه القضية إلى المرور العابر على الصدام بين المسلمين واليهود فيما يتعلق بفلسطين، فإن المتأمل في مسيرة الصراع بين المسلمين واليهود لعنهم الله تصدمه حقائق كبيرة يراد تكذيبها، ومعالم خطيرة يراد تحقيرها، من هذه الحقائق المهمة والخطيرة جداً: أن الكيان اليهودي جعل الدين ركيزته التي تنطلق منها سياسته؛ فالدولة اليهودية قائمة على أساس ديني محض، لا تشوبه أية شائبة أخرى، وسياساتهم تقوم على دينهم وعلى عقيدتهم، فظل هذا الكيان ينتقل من خلال الصراع مع المسلمين من إنجاز إلى إنجاز، ومن قوة وانتشار إلى مزيد من القوة والانتشار، في الوقت الذي ظلت فيه الكيانات العلمانية التي تصدرت للمعركة تتخبط في سيرها متنقلة من فشل إلى فشل، ومن تنازل وخسارة إلى مزيد من التنازل والخسارة. واليهود رفعوا منذ بدأ القتال مع المسلمين راية واحدة هي راية التوراة، فإن اليهود حينما غادرت قوات الجيش المصري المرابطة في جنوب فلسطين دخلوا مكانهم، ووصلت إحدى كتائبهم إلى حدود سيناء سنة (1948م) فنزل الضباط والجنود اليهود من سياراتهم وقبلوا التربة، باعتبار أن سيناء في نظرهم أرضهم المقدسة. وحينما وقع العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر سنة (1956م)، ووصلت القوات اليهودية إلى حدود سيناء كان في طليعة القوات الزاحفة سيارة جيب تتقدم جميع القوات الزاحفة، وكانت تحمل كتاباً ضخماً هو التوراة، ومن خلفه وقف حاخام يخطب في الجنود ويقول: يا أبناء إسرائيل! إنكم تدخلون الآن الأرض المقدسة؛ حيث تسلم موسى الشريعة، فهيا لتطهيرها من الأعداء. يعني: من المصريين، فالمنطلق الذي ينطلق منه أعداء الله منطلق ديني، وليس بمنطلق اقتصادي ولا سياسي ولا أي شيء آخر، فكل مواقفهم تنطلق من هذه الركيزة التي لا يتخلون عنها. ففلسطين في زعمهم هي أرض الميعاد، وقد أسموا دولتهم باسم نبي الله يعقوب عليه السلام: إسرائيل، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، فالدستور الذي يحكم إسرائيل هو التوراة، فهي دولة دينية، ورفضوا أن يحددوا لهذه الدولة حدوداً رسمية، إلا بعد أن ينتهوا من ضم الحدود التي ترسمها التوراة!! ومعلوم أنهم ينقشون على جدار الكنيست العبارة المعروفة: (أرضك الكبرى -يا إسرائيل- من النيل إلى الفرات)، وهذا المعنى نفسه يعبر عنه العلم اليهودي الذي يرفرف الآن في بعض العواصم التي من المفروض أن تكون إسلامية. فالعلم اليهودي عبارة عن أرضية فيها خطان أزرقان، وفي الوسط نجمة داود السداسية، والخطان الأزرقان هما رمزان للنهرين، فأحدهما يشير إلى النيل، والآخر يشير إلى الفرات، وما بينهما نجمة داود تشير إلى أن منطقة السيادة اليهودية بين النيل وبين الفرات. والآن بدءوا ينادون بضم يثرب، أي: ضم المدينة المنورة، ويزعمون أن لهم حقاً في المدينة المنورة، كما سنبين. والمقصود: أنهم رفضوا أن يحددوا حدوداً رسمية لدولتهم، إلا بعد أن ينتهوا من ضم الحدود التي ترسمها التوراة، وخاضوا معاركهم التي كان يقودهم فيها الأحبار والحاخامات، وجعلوا لدولتهم بكل توجهاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية شعاراً واحداً يتوسط العلم الإسرائيلي هو نجمة داود التي ترمز إلى قبلة هذا المجتمع العقائدي وهذه الدولة التي يريدون إعادتها بعد غياب ألفي عام. وهذه القبلة هي هيكل سليمان الثالث، ويسمونه ثالثاً؛ لأنه هدم من قبل مرتين، والآن يخططون لإعادة بنائه بعد هدم المسجد الأقصى. فهذه القبلة هي هيكل سليمان الثالث، ذلك المعبد الذي يريدون أن يبنوه مكان المسجد الأقصى والصخرة؛ ليبرزوا بذلك معالم الدولة الدينية اليهودية العالمية ذات الاسم الديني والدستور الديني والحدود الدينية والشعار الديني؛ لتكتمل بذلك صورة الدولة اليهودية العالمية، على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية.

الإسلام لم يواجه اليهود في فلسطين بعد

الإسلام لم يواجه اليهود في فلسطين بعد قد مر على قيام الدولة اليهودية إلى الآن ما يزيد على أربعين عاماً، وقد أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع والهزائم المنكرة والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعددة، كالقوميين الاشتراكيين والتقدميين البعثيين، إلى آخر قائمة هؤلاء الملحدين. فالذي هزم وتراجع أمام اليهود ليس هو الإسلام؛ لأن الإسلام لم يدخل في مواجهة حقيقية مع اليهود حتى الآن، ولابد أنه سيأتي اليوم الذي يرى اليهود أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين قالوا في حقهم يوم 5 يونيو سنة (1967م) يوم أن خرجوا إلى المسجد الأقصى يهتفون ويقولون -لعنهم الله-: محمد مات، خلف بنات! هذا هو ما كان ينطق به اليهود، فهم لم يروا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وهم يعلمون تماماً أن الإسلام إذا واجه اليهود فلن يذوقوا إلا الأمرين على يد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم الرجال كل الرجال. وهؤلاء الأتباع قد جاء وصفهم في القرآن وفي السنة، وهم فقط الذين سيؤدبون اليهود، جاء وصفهم في القرآن في قوله تبارك وتعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، فهم يجمعون بين العبودية لله، وبين البأس الشديد، وجاء وصفهم أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر -ينطق الشجر والحجر-: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) فيقول الشجر والحجر: يا مسلم! يا عبد الله! ولا يقول: يا علماني! يا اشتراكي! يا ديمقراطي! يا بعثي! يا قومي! فالذين سيؤدبون اليهود هم الذين يقولون: لا إله إلا الله، ويعيشون بلا إله إلا الله، ومن أجل لا إله إلا الله، وأما من كان بخلاف هذا فسيفشل، وسيندحر، ولن يبقى له أي شيء، حتى لو كان هؤلاء العلمانيون من الفلسطينيين الخائنين الذين باعوا فلسطين، وركعوا أمام أعداء الله، فساموهم أذل الذل والهوان، ومع ذلك لم يرضوا عنهم أيضاً، بل أسخطهم الله عليهم؛ لأنهم أرادوا إرضاءهم بسخط الله تبارك وتعالى. فهؤلاء هم الذين هزموا أمام اليهود، وهذا يعرفه اليهود تماماً، ويوجد فيهم أناس لاسيما من بعض الأحزاب الدينية يقولون: نحن نؤمن أنه لن يكون هناك سلام إطلاقاً مع المسلمين، أو مع العرب. فهم يؤمنون من خلال نصوص كتبهم التي يقدسونها: أنه لابد من قتال واقع في معركة فاصلة بين اليهود وبين المسلمين. فالذي هزم ليس هو الإسلام، وإنما هي العلمانية، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام، بل هي العلمانية، ولا يتصور أن شاباً من شباب المسلمين الصادقين المخلصين لله تبارك وتعالى إلا وهو يترقب اليوم الذي يفتح فيه باب الجهاد في فلسطين. وما من شك أنه لو فتح باب الجهاد في فلسطين فلن يبقى مسلم مخلص لله تبارك وتعالى إلا وهو يرغب في إحدى الحسنين: إما النصر، وإما الشهادة، وليس هناك شيء وسط بعد ذلك. فالإسلام لم ينهزم أبداً أمام اليهود في هذا الصدام؛ لأن الإسلام لم يمكن حتى الآن للتصدي لتلك المعركة العقائدية، وإنما هي معركة عقائدية تدار من جانب واحد فقط، فأصحاب العقيدة في هذه الحرب هم اليهود، فاليهود أصحاب عقيدة، لكنها عقيدة فاسدة، وهم الآن يتحركون من خلال عقيدتهم، فهل الذين يواجهون اليهود يتصرفون من خلال العقيدة، ومن خلال: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]؟! A كلا! فلذلك من الظلم أن ينسب للإسلام الانهزام أمام اليهود لعنهم الله تعالى.

عداء اليهود للإسلام وأهله قديما وحديثا

عداء اليهود للإسلام وأهله قديماً وحديثاً قال الله تبارك وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، ولم يكن أمراً اتفاقياً أن يكثر القرآن الكريم من الكلام عن صفات هذا الصنف من الناس بهذا الشكل الذي يلفت النظر؛ لأن الكلام عن بني إسرائيل شغل حيزاً كبيراً في التنزيل الحكيم مكيه ومدنيه، فهناك حكم عظيمة، من ذلك: إبراز حقيقة العداء اليهودي المتأصل للإسلام وأهله. واليهود اشتعلت نيران الحقد في صدروهم لما ظهر لهم أن النبي عليه الصلاة والسلام الذي أرسل ليس من بني إسرائيل، وأنه من بني إسماعيل، فتسلسلت بعد ذلك مؤامراتهم ضد الإسلام ونبي الإسلام. وقد قاد النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد بنفسه ضد اليهود، وخاض صراعاً طويلاً معهم إلى أن أجلاهم عن المدينة المنورة، ولم يتوقف الكيد اليهودي عند هذا الحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالأفعى اليهودية قاومت الموت، وأصرت على أن تواصل لدغاتها الضاربة؛ عسى أن تصيب الإسلام في مقتل، وكانت روح رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المستهدفة هذه المرة، ونجح اليهود فيما أرادوا، إذ دبروا مؤامرة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم قتلة الأنبياء، فقد كانوا سفاحين مجرمين، قتلوا الأنبياء من قبل، قتلوا زكريا عليه السلام، وقتلوا يحيى، وأهدوا رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل! فأرادوا أيضاً -كعادتهم- أن يقتلوا سيد وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، إذ دبروا مؤامرة لقتله صلى الله عليه وسلم بالسم؛ لتنضاف بذلك جريمة جديدة في سجل قتلة الأنبياء. فامرأة أحد زعماء اليهود أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مشوية، ودست فيها السم، وكانت تعلم من خلقه عليه الصلاة والسلام أنه يقبل الهدية، فلاك عليه الصلاة والسلام مضغة من الشاة فاستكرهها، فقال: (إن هذه الشاة لتخبرني أنها مسموة)، ثم مات من أكل تلك الشاة أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بشر بن البراء، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم متأثراً بما لاكه منها، حتى إنه قال في مرضه الذي توفي فيه لأخت بشر: (إن هذا لأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك) يعني: أن تأثير هذه الأكلة بقي معه حتى قبض صلى الله عليه وسلم متأثراً به. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يذكرون في فضائل رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه مات شهيداً بسبب تلك الشاة، قال تبارك وتعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، فأتى بالتكذيب بصيغة الماضي، فقال عز وجل: (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ)، ثم قال: (وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) ولم يقل: وفريقاً قتلتم؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً؛ ولأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم وبالسحر. فاليهود يقولون: نحن شعب الله المختار، وهم في الحقيقة ورثة إبليس، واليوم يرفع المسلمون في فلسطين في وجوههم شعار: نحن شعب الله المختار، وهذه هي الحقيقة، فإن هذه الأمة إذا تمسكت بكتاب ربها، وسنة نبيها كانت هي الشعب المختار كما قال تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، أما اليهود فهم ورثة إبليس في الإفساد في الأرض: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:64]. وقد ترك هذا الفساد والإفساد بصمات اليهود في كل صفحات التاريخ، وهذه البصمات شاهدة على حضورهم في كل مجال يمكن فيه الإفساد، فاليهودي كعب بن الأشرف واليهودي ابن أبي الحقيق كانا من أول من حاول قلب الأمور في الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، فجمعوا بين اليهود من بني قريظة وغيرهم، وبين قريش، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة على محاربة المسلمين. وذلك اليهودي عبد الله بن سبأ هو الذي أسس للشيعة دينهم. واليهودي مدحت باشا كان وراء إثارة النعرات القومية، واستخدام المخططات الماسونية في دولة الخلافة العثمانية، مما أدى في النهاية إلى سقوطها على يد اليهودي الأصل مصطفى كمال أتاتورك؛ فإنه كان من يهود (الدونمة). واليهودي كارل ماركس هو الذي كان وراء الموجة الإلحادية التي أصبحت فيما بعد قوة ودولة، بل أصبحت معسكراً دولياً، وقد بنى هذا المعسكر نفسه على أنقاض بلاد المسلمين وشعوبهم. واليهودي فرويد كان وراء النزعة الحيوانية التي أصبحت فيما بعد منهجاً تتلوث به عقول الناشئة فيما يصنف تعسفاً على أنه علم وتقدم. واليهودي دوركايم كان وراء أفكار هدم الأسرة وتفكيك الروابط المقدسة في المجتمعات. واليهودي جان فول سارتر كان وراء نزعة أدب الانحلال في علاقات الأفراد والجماعات، والذي أتى يوماً إلى مصر مع عشيقته واستقبل استقبال أبطال الفاتحين. واليهودي جورج تسيهر كان وراء حركة الاستشراق التي استشرى فسادها، وعم ظلمها وظلامها. واليهودي صمويل زويمر هو الذي خطط لحركات التبشير في ديار المسلمين، لا لمجرد إدخال المسلمين في النصرانية، بل لإخراجهم من الإسلام، وضرب الإسلام بالنصرانية، والنصرانية بالإسلام. واليهودي ثيودور هرتزل هو الذي وضع البذرة الأولى في محنة العطش التي يسمونها أزمة الشرق الأوسط، عندما خطط ورسم معالم الدولة اليهودية في كتابه المسمى بهذا الاسم، تلك الدولة التي ولدت بعد مماته سفاحاً، فكانت بؤرة للإفساد في الأرض. ولو أردنا أن نفيض في شرح وذكر صفات هؤلاء اليهود لطال الكلام جداً، كما قال الشاعر: قبائحهم لا تنقضي فنعدها وأقبح منها أن يروها فضائلا إذا زين الرحمن أعمالهم لهم فلا القول يهديهم إذا دمت قائلا فقصص خبث اليهود وعدائهم للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، ومعلومة لمن يراجع سيرته صلى الله عليه وسلم.

مجاراة وموالاة بعض من ينتسبون إلى الإسلام لليهود والنصارى

مجاراة وموالاة بعض من ينتسبون إلى الإسلام لليهود والنصارى العجب ليس من تصرفات اليهود وأعمالهم! لكن العجب حينما نجد مؤامرة تطوير التعليم التي حدثت أخيراً خلسة؛ لتسرق عقائد أبناء المسلمين على حين غفلة من أهلها، فقد ألغوا كتاب التاريخ الإسلامي الذي في المدارس الثانوية وقرروا بدلاً منه كتاب (معالم التاريخ الإسلامي والوسيط)، الذي هو تاريخ أوروبا في القرون الوسطى. وقد تحدث مؤلف هذا الكتاب -الذي أصبح يدرس لأولادنا- عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غزواته، وبخاصة غزواته ضد يهود خيبر، دون أن يبين السبب الذي من أجله قاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، فأظهر الرسول كأنه ظلم اليهود، ولم يذكر حقيقة الأفعال التي فعلها اليهود وأدت إلى أن يجليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أشرنا إلى بعض منها. وأيضاً حُذف اسم فلسطين من جميع الخرائط الجغرافية والتاريخية لكتب المواد الاجتماعية، وكذا خريطة سيناء في كتاب (وطني مصر)، وصفحات أخرى كثيرة. وأيضاً: ولا حول ولا قوة إلا بالله، قطع الله يد الذي عمل هذا التصوير، وقصم رقبته، وضع عدو الله في كتاب (مصر هو الوطن العربي)، صفحة مائة وستين خريطة كتب عليها: يثرب يهودية! وتخيل حال أولادنا حين ينشئون على أن يثرب مدينة يهودية! فهل يحلم اليهود بشيء أكثر من هذا؟! إن هذه هدية إلى أعداء الله، فهذا أمر خطير في كتاب يصدر من وزارة التعليم، وتربي فيه أبناء الأمة على التسليم لليهود بأن لهم حقاً مزعوماً في المدينة. ولو أن الكتاب صدر في فلسطين المسروقة لكان قد يكون له مساغ، لكن كيف يُقبل أن يصدر في بلادنا؟! ومن ذلك أيضاً أن أحد كتب التاريخ عرف الوصايا العشر لليهود على أنها نصوص حضارية، وذكر ذلك في صفحتين! فهل اليهود قتلة الأنبياء هم المدافعون حقاً عن الله تعالى كما يذكر ذلك الكتاب؟! وهل الله يحتاج إلى من يدافع عنه؟! وكيف يورد المؤلف نصوصاً من التوراة المحرفة في صفحتين في حين لم يورد من القرآن الكريم نصاً واحداً؟! فهل التوراة المحرفة أعز على المؤلف من القرآن الكريم؟!! ولماذا كتب صفحتين كاملتين؟! ولمصلحة من؟! إنه لإرضاء بني يهود! أليست أمة الإسلام أولى بالإرضاء، وقبل ذلك رب العالمين؟! وأين علماء الأزهر الذين رضوا لأبنائهم أن يدرسوا صفحتين كاملتين من التوراة المزورة التي أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجرد أن أمسك عمر بن الخطاب لإحداها ونظر فيها؟! وأيضاً قد سبق الكلام على تفريغ سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام من محتواها! وأيضاً تفريغ سيرة الخلفاء الراشدين من مضمونها التربوي! وكل ذلك إرضاءً لبني صهيون! فحينما تكلم مؤلف كتاب (مصر هو الوطن العربي) على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام قال في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: هي مناسبة لإقامة الزينات، وتوزيع الحلوى، وتعطيل المدارس والشركات والمصالح الحكومية! هذه هي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عند هذا المؤلف وأمثاله! وأما السيرة كمنهج وكطريق حياة فهذا لا يذكرون منه شيئاً، ولا وجود له، والسيرة كعقيدة وعبادة وشريعة ومعاملات وسلوك لا وجود لها في كتب التاريخ. كما تجاهل أيضاً مؤلف الكتاب اسم النبي صلى الله عليه وسلم في عنوان الدرس، وفي فهارس الدرس أيضاً! وأيضاً من هذه الأشياء أنه كان في الصف الرابع من التعليم العام والأزهري موضوع عن حرب العاشر من رمضان مع اليهود، وعنوان الموضوع: شجاعة مصرية، حذف منه العبارة الآتية من التدريبات: العدو المحتل كان اليهود. حذفت! احتلال الأراضي المصرية لا أرضى به. حذفت أيضاً هذه العبارة! وعلى أي الأحوال قد سبق الكلام بالتفصيل في حجم هذه المؤامرة وخطورتها.

مثال للتضليل الذي يمارسه بعض الكتاب من أبناء جلدتنا

مثال للتضليل الذي يمارسه بعض الكتاب من أبناء جلدتنا يذكر الدكتور جمال عبد الهادي في كتابه: (أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ) أمثلة من التضليل الذي يمارسه بعض الكتاب الذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وكيف أنهم يخدمون أهداف اليهود في هذا: فالدكتور حسن صبري الخولي الذي كان مستشاراً خاصاً للزعيم المهزوم دائماً جمال عبد الناصر سلم في رسالة الدكتوراه التي له حين كان يناقش فيها حق اليهود في فلسطين، فيقول: يقرر الصهيونيون أن فلسطين هي الأرض التي وعدهم الله بها تأسيساً على ما جاء في التوراة: أن الله سبحانه وتعالى قد وعد إبراهيم عليه السلام وذريته من بعده أن يعطيه فلسطين لإنشاء دولة فيها، واستشهد الكاتب بسفر التكوين: (لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات). ثم يعلق الدكتور حسن صبري الخولي ويقول: ونحن نسلم بما جاء في التوراة، على أساس أنه كتاب مقدس من عند الله، ولكننا لا نستطيع أن نجاري اليهود في تفسيرهم التعسفي؛ لأن الوعد الإلهي ليس موجهاً إلى اليهود وحدهم، وإنما وعد لإبراهيم وذريته: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، يتساوى في ذلك الحق إسحاق جد اليهود وإسماعيل جد العرب. وعلى ذلك فالحق في فلسطين ليس مقصوراً على اليهود، وإنما هو لذرية إبراهيم على الإطلاق، ومن هذه الذرية العرب واليهود!! وهذا الكلام الخبيث لا يحتاج إلى تعليق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

محنة فلسطين [2]

محنة فلسطين [2] لقد ضاعت فلسطين والقدس يوم فرط المسلمون في دين الله عز وجل، وما نراه ونسمعه في تلك البقاع المباركة من تمالؤ بعض الطوائف الضالعة مع اليهود، وتركهم هذه القضية عائمة يلعب بها اليهود كيف شاءوا، وسكوت بقية المسلمين خير شاهد على البعد عن دين الله عز وجل، بل نرى فيها الموالاة لأعداء الله وحبهم والتقرب منهم، ونرى إيذاء المسلمين المجاهدين، ونسمع فيها سب الله عز وجل ورسوله ودينه والعياذ بالله!

الجذور التاريخية لقضية فلسطين

الجذور التاريخية لقضية فلسطين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يذكر الدكتور عبد الله عزام في كتاب له عن الجذور التاريخية لقضية فلسطين، ويشير إشارة إلى أنه قبل أن يصدر وعد بلفور، الذي هو وعد من بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، يقول: قبل ذلك بأسابيع قليلة صدر وعد مماثل للينين. ولينين هو زعيم الشيوعية، وهو الذي سبق بلفور بمثل هذا الوعد، فحينما عاد لينين من منفاه كان معه مائتان وأربعة وعشرون ثائراً من الثوار، وكان منهم مائة وسبعون من اليهود، وكان تروتسكي اليهودي الذي قضى فترة في حي بروكلين في نيويورك يخطط للثورة، ثم عاد ينتظر لينين، وقاموا بالثورة، ووجه اليهود بعد الثورة الشيوعية البيان التالي: أيها اليهود! لقد قربت ساعة انتصارنا التام، ونحن الآن عشية يوم قد تسلمنا قيادة العالم، لقد استولينا على الحكم في روسيا، لقد كان الروس سادتنا، فأصبحوا عبيدنا. وصدر في الأسبوع الأول للثورة الشيوعية في روسيا في أكتوبر سنة (1917م) قبل صدور وعد بلفور بأسابيع قرار ذو شقين بحق اليهود: أولاً: يعتبر عداء اليهود عداء من الجنس الثاني، يعاقب عليه قانونياً. ثانياً: الاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي في فلسطين. وأيضاً كان هناك يهودي اسمه موسى هيس له كتاب اسمه (من روما إلى القدس)، كان يمثل أول دعوة منظمة لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وماركس يقول: إنما اتخذت هذا العبقري هيس لي مثالاً وقدوة. وقد سبق هيس نابليون الذي أعلن في (20/ 4/1799م) في الجريدة الرسمية الفرنسية إعلاناً دعا فيه اليهود إلى الالتحاق بجيشه؛ ليدخلوا معه القدس. وقد ذكر أيضاً الدكتور عبد الله عزام قصة صمود السلطان عبد الحميد أمام الإغراءات اليهودية التي أرادوا بها أن يشتروا منه فلسطين، ورفض من أجل ذلك. وذكر أيضاً قصة دخول الجيش الإنجليزي القدس بقيادة آلنبي في (9/ 11/1917م)، فأول ما دخل القدس ذهب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وركله برجليه، وقال له: يا صلاح الدين! ها قد عدنا! الآن انتهت الحروب الصليبية! ونفس هذه الكلمة قالها بيجن لما أخذوا قلعة الشقيف أثناء احتلال لبنان منذ سنوات، فأعاد نفس هذه الكلمة، لكن يقولها هذه المرة يهودي هو بيجن السفاح. وأيضاً يقول لورنس الذي قاد الثورة العربية ضد تركيا: إنني جد فخور أنني في المعارك الثلاثين التي خضتها لم يرق الدم الإنجليزي؛ لأن دم إنجليزي واحد أحب إلي من جميع الشعوب التي نحكمها، ولم تكلفنا الثورة العربية سوى عشرة ملايين دينار!!

بيان كيف كانت مواجهة العرب لليهود في الأراضي العربية المحتلة

بيان كيف كانت مواجهة العرب لليهود في الأراضي العربية المحتلة العرب واجهوا وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بمظاهرات عظيمة كبيرة العدد، وقالوا: هذا إعلان ممن لا يملك لمن لا يستحق! ويذكرني المسلك العربي دائماً بقصة ذكرها الشيخ الأستاذ مالك بن نبي، ذكر أنه أتاه رجل فقال له: أريد أن ترشدني إلى كيفية تربية ابني؛ إني رزقت ولداً من مدة، وأريد أن أعرف كيف أربيه، وكيف أوجهه، وكيف أنشئه، فقال له: كم عمر ولدك؟ قال: أربعة شهور، قال: فاتك القطار. فكان الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله بعد ذلك حينما يتذكر هذه الكلمة يقول: ظننت أني أخطأت، وأني كنت مبالغاً في هذه الكلمة، لكنني بعد ذلك تأملتها فوجدت أني مصيب فيها؛ لأن الطفل يربى منذ بداية خروجه لهذه الحياة، فإن هذا الطفل الرضيع حينما يبكي ويصرخ، فتلقمه أمه الثدي حتى يرضع، ففي هذا الوقت يعرف أنه إذا أراد أن يملي إرادة على أمه أنه يصرخ، فتعطيه الرضاعة! قال: فكذلك نفس هذا الصغير الذي يربى بهذه الطريقة حينما يضربه اليهود، يذهب إلى مجلس الأمن ويصرخ ويبكي، وكأن هذا هو الحل، فهذه هي تربية الأمم بهذه الطريقة!!

مآسي من الخيانات التي حصلت في حرب فلسطين عام (1948م)

مآسي من الخيانات التي حصلت في حرب فلسطين عام (1948م) وذكر أيضاً الشيخ عبد الله عزام رحمه الله تعالى مآسي من الخيانات التي حصلت في حرب فلسطين في سنة (1948م). من الأشياء العجيبة، فيقول: دخلت الجيوش العربية لتسليم الأراضي لليهود، وكان دور الأسلحة الفاسدة التي أرسلها الملك فاروق جداً مدمرة للنفسية العربية والإسلامية. وكذلك قام الجيش العراقي بالدور الموكل إليه على الوجه الأكمل، وكلماته التي كان يرددها كلما استنجد به الشعب الفلسطيني: (ما كو أوامر) يعني: لا توجد أوامر، هذا ولا زالت ضربات اليهود تسري لهيباً في دماء أبناء فلسطين! أما الجيش الأردني فإن قائده في حرب فلسطين هو جلوب باشا الإنجليزي، فانظر إلى المهزلة، فحدث ولا حرج عن دور قائد الجيش الأردني في فلسطين الجنرال جلوب باشا، فقد جاء ليستلم مواقع المجاهدين من الإخوان القادمين من مصر، وقد كان القائد الأردني الذي يستلم موقع مار لياس اسمه عبد القادر يسير مع موشى ديان قائد الجيش الصهيوني ليسلمه الخنادق والمراكز الواحدة تلو الأخرى!! وذكر أيضاً من المآسي: أنه دخلت الجيوش العربية بعد جلاء الإنجليز في 15 مايو سنة 1948م يقودها الجنرال الإنجليزي جلوب باشا، وقد تسلم جلوب الراية التي تركها له الانتداب؛ ليواصل تسليم فلسطين لليهود، وقد عجز الانتداب في مدة ثلاثين عاماً أن يصنع ما صنعه جلوب، وقد حاول أن يهلك الجيش المصري المحاصر في الفالوجة، فعندما استنصحه قادة الجيش المصري وسألوه: ماذا نعمل في الحصار؟ نصحهم بأن يلقي الجيش المحاصر السلاح، وأن يلبسوا لباس النساء، ويخرجوا من بين اليهود. فأدرك القادة الخدعة ورفضوا، فاستولى اليهود في عدة أشهر على خمسة أضعاف ما استولوا عليه خلال خمسين عاماً. وأيضاً يحكي الدكتور عبد الله عزام عن أبناء قريته -لأنه فلسطيني رحمه الله- قرية مرج بن عامر عما رآه من المهازل في ذلك فيقول: رأيت أبناء قريتنا يعز عليهم أن تسلم أراضيهم بعد أن زرعوا بأيديهم الذرة في مرج بن عامر، فجاء اليهود وقطفوا الذرة، وحصدوا القمح، فنزلت مجموعة من الشبان لحصد القمح الذي زرعوه، فأمسكت بهم العصابات اليهودية، وبقرت بطونهم، وملأتها قمحاً وشعيراً، ثم نصبتهم على أعمدة من حديد؛ ليكونوا نكالاً لكل معتبر!! وكل هذا يثبت أن الإسلام ما واجه اليهود في فلسطين حتى الآن. ويقول أيضاً: رأيت اليهود يصلون بيتنا في ليالٍ كثيرة، ويراهم الناس في دوريات استكشافية، فيراهم توفيق جارنا في حديقة بيته، فيخبر مركز الجيش في مدينة جنين، فيتهم بالخيانة، ويلقى رهن القيود في السجن، يكنس إسطبل خيل الخيالة من الجيش الأردني؛ لأنه بلغ أنه رأى اليهود يأتون إلى البيوت، ويقدم إلى محكمة عسكرية، ولا ينجيه فيها إلا الله، ثم نصيحة أحد ضباط المحكمة بأن يدعي أنه كان يحلم في الليل، فظن الأمر حقيقة!!!

مآسي من مواجهات العرب لليهود عام (1967م)

مآسي من مواجهات العرب لليهود عام (1967م) أيضاً يحكي عن مآسي عام (1967م) فيقول: كنت أثناء احتلال 1967م في قريتنا، وسقطت الضفة الغربية، وسقط المسجد الأقصى دون أن يقتل حوله عشرة من الجيش الأردني، وسمعت برقية الرئيس عبد الناصر للملك حسين التي التقطتها الإذاعة الإسرائيلية وكانت تعيدها بين الفينة والأخرى أثناء المعركة يقول فيها: أسقطنا ثلثي طائرات العدو، طائراتنا فوق تل أبيب، شد حيلك يا جلالة الملك! التوقيع سلمي!! -وقوله: (سلمي) هذا هو الاسم الرمزي لـ عبد الناصر في الشفرة- وقارنت بين موقف اليهود الذين يحركهم الدافع الديني كما تقول ابنة ديان في كتابها (جندي من إسرائيل): إن فرائصنا كانت ترتجف، بسبب أنباء تجمع جيش العدو على الجبهة الجنوبية مصر، فجاء إلينا الحاخام فصلى، وقرأ نصوصاً من التوراة، فانقلب الخوف أمناً. أما الجيش المصري فكانت الإذاعة توجهه يقاتل؛ لأجل الربيع، لأجل الحياة، لأجل عشاق الحياة!! وذلك بدلاً من أن يتلى عليهم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. وكانت أجهزة الإعلام تقول لهم: أم كلثوم معك في المعركة، وعبد الحليم معك في المعركة وشادية معك في المعركة! بدلاً من أن تقول: إن الله معك في المعركة! أما جريدة الجيش السوري فقد كتبت قبل شهر من المعركة بقلم إبراهيم خلاص: إن الله والرأسمالية والإمبريالية وكل القيم التي سادت المجتمع السابق أصبحت دمىً محنطة في متاحف التاريخ!!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

واقع المنظمات الفلسطينية العلمانية

واقع المنظمات الفلسطينية العلمانية يحكي عبد الله عزام عن واقع المنظمات الفلسطينية وموقفها من الإسلام، ويذكر أنه في الرابع من نيسان سنة (1970م) في الذكرى المأوية لميلاد لينين اتفقت جميع المنظمات الفلسطينية دون استثناء على أن تحتفل ولمدة أسبوع بهذه الذكرى المجيدة المشرفة، واشترك وزير الأوقاف الأردني آنذاك لترتيب الاحتفال والإسهام في إنجاحه!! ويقول الدكتور عبد الله عزام رحمه الله: وأذكر أنني طلبت لمحاكمة عسكرية؛ لأنني انتقدت جيفارا، فقلت للمثقف الثوري الذي يمثل الادعاء العام: من هو جيفارا؟ قال: مناضل شريف، فقلت له: ما هو دين منظمة فتح؟ فقال: فتح لا دين لها، فقلت له: أما أنا فديني الإسلام، وجئت لأجاهد في سبيل الله، فأما جيفارا فهو تحت قدمي هاتين. وقال أيضاً الشيخ رحمه الله في سبب ذلك الخذلان: كانت المنظمات اليسارية تسب الله ورسوله عمداً أمامنا ليغيظونا، أي: أمام المسلمين الذين كانوا يقاتلون في سبيل الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله، فكانوا يغيظونهم بسب الله ورسوله علناً أمامهم! وقد كانت بجانبنا جبهة ديمقراطية - نايف حواتمة - فكانت كلمة السر في الليل أثناء الحراسة: شتم الله أو النبي أو الدين!! قال: وكنا أحياناً نلتقي في تجمع فنقف لنؤذن -أي: يقف المتدينون منهم ليصلوا ويؤذنوا- فيصطفون مقابلنا، ويقفون في وجوهنا ويقولون وينشدون ويرددون: إن تسل عني فهذه قيمي أنا ماركسي لينني أممي

اضطهاد الدعوات الإسلامية في مصر في عهد جمال عبد الناصر

اضطهاد الدعوات الإسلامية في مصر في عهد جمال عبد الناصر ذكر عبد الله عزام الاضطهاد للدعوات الإسلامية في مصر، وحكى عن أحمد رائد في كتابه (الغمامة السوداء) وهو يبين انطلاق هؤلاء الذين يواجهون اليهود بالخطب الرنانة، لكن من غير منطلق إسلامي، وأن الإسلام كان غائباً عن هذا القتال، فيقول: فتح علينا السجان ذات يوم باب الزنزانة، فقلنا له: يا فندم! هذا شاب مات هذه الليلة من آثار التعذيب، فرد علينا قائلاً: يا أولاد الكلب! أين سنذهب بوجهنا من الرئيس، لم يمت إلا واحد فقط هذه الليلة!! يقول هكذا وبكل بساطة وتبجح، يقول: إنه يشعر بالخجل من الرئيس عبد الناصر؛ لأنه لم يمت تلك الليلة إلا واحد!!

موقف بعض الخونة الفلسطينيين لقضية بلادهم

موقف بعض الخونة الفلسطينيين لقضية بلادهم بعض الفلسطينيين خانوا قضية بلادهم، وانحرفوا عن الإسلام، فيحكي عزام أن اليهود أفرزوا محمود درويش الشاعر الفلسطيني المشهور وسميح القاسم وتوفيق زياد والأخيران أفرزهم اليهود في مجلس الكنيست الإسرائيلي، وكان محمود درويش وسميح القاسم يحملان العلم الإسرائيلي في مؤتمر صوفيا الدولي، وقال فهد سكرتير الحزب العراقي الشيوعي: مرحباً بإنشاء دولتين عربية ويهودية في فلسطين! واشترط أن تكون الدولة العربية اشتراكية، والتحالف لابد أن يكون ضد الرجعية الدينية العربية!! ويقول الشاعر محمود درويش: أنا من قرية عزلاء منسية وكل رجالها في الحقل والمعمل يحبون الشيوعية! وكان نشيد الثورة الذي يردده الأطفال الفلسطينيون لهذا الرجل يقول فيه: أنا يا أخي آمنت بالشعب المضيع والمكبل وحملت رشاشي لتحمل بعدها الأديان منجل والمنجل هو: رمز الشيوعية!

انهيار اليهود أمام أطفال فلسطين وخوفهم من الجهاد الأفغاني

انهيار اليهود أمام أطفال فلسطين وخوفهم من الجهاد الأفغاني إن الشباب الفلسطيني الآن يردد أغاني اليهود: نحن شعب الله المختار. ومن الأشياء التي تخذل اليهود وتجعلهم ينهارون تماماً أمام الأطفال الذين يحملون هذه الحجارة: أن الأطفال الصغار في فلسطين يقولون لليهودي المدجج بالأسلحة: لو أنت رجل أترك السلاح، وتعال واجهني بلا سلاح، فينهار اليهود من أجل هذه الكلمات!! ولا شك أن اليهود جزعوا جزعاً شديداً من الجهاد الأفغاني، حتى قال شختر مان -وهو يهودي أمريكي- عن الجهاد الأفغاني: ما الذي فعلناه؟! لقد أيقضنا العملاق. وقد تأثر المسلمون في فلسطين بالجهاد الأفغاني، حتى إن الصبية الصغار كانوا ينادون في شوارع فلسطين: أخي يا سياف الروس منك تخاف أخي يا حكمت يار على العداء مثل النار يقول عزام: إن من المجاهدين الأفغان أنفسهم من كان يدعو الله قائلاً: اللهم افتح على أيدينا كابل، ولا تمتنا إلا في بيت المقدس. يقول الدكتور رحمه الله: وإن كنت أنسى فلا أنسى موقف الأخ أحمد شاه -من قواد المجاهدين الأفغان- الذي عقد صفقة سلاح مع تاجر أسباني، وبعد أن تمت الصفقة طلب التاجر الأسباني من أحمد شاه أن يوقع على ورقة يتعهد فيها ألا يستعمل السلاح ضد اليهود، فرفض وألغى الصفقة، فقال التاجر: وهل تريدون استعمالها ضد اليهود؟ قال: لا، ولكنك تريدني أن أوقع على ورقة أتعهد فيها إيقاف حرب شنها رب العزة على اليهود منذ بضعة عشر قرناً! وألغى الصفقة، وعاد التاجر فقال: ما رأيت شعباً أعز منكم رغم فقركم! فهؤلاء هم الذين يواجهون اليهود، وبدل ما كان اليهود يصيحون في الشوارع ويقولون: يا لثارات خيبر، ويقولون أيضاً العبارات التي ذكرناها، الآن يجيب الشباب الفلسطيني في فلسطين: الله أكبر! خيبر خيبر يا يهود دين محمد سوف يعود عليه الصلاة والسلام.

مواقف منظمة التحرير الفلسطينية من إسرائيل والنصارى والرافضة والشيوعيين

مواقف منظمة التحرير الفلسطينية من إسرائيل والنصارى والرافضة والشيوعيين يحكي عزام عن موقف المنظمة الخائبة من هذه القضية فيقول: واعترفت المنظمة بدولة إسرائيل على مرأى من العالم كله، وقال أبو عمار: هل يرضيكم هذا؟ فقالت أمريكا: لا! وأبو عمار قابل راهباً كاثوليكياً فقال له: أسألك أن تعطيني البركات، فرد عليه الراهب: وهكذا الذي فعلته لكم! أي: أنه منحه البركات!! وقابل فيديل كاسترو فقال له: أنت زعيمنا ومرشدنا الأول! وهذه نفس العبارة التي قابل بها الخميني وقال له: أنت زعيمنا ومرشدنا الأول!! فهم يفتخرون بكل شيء إلا الإسلام، ويرفعون كل راية إلا راية الإسلام، ويقولون: سنقيم دولة علمانية، فكيف ينزل النصر على أمثال هؤلاء! بعد أن اعترف أبو عمار بدولة اليهود أمام العالم كله، قال: هل يرضيكم هذا؟ فردت عليه أمريكا وقالت: لا، بل لابد أن تقرأ الكلمات التي نكتبها لك، وكتبت له الكلمات، وأعاد قراءتها على شاشة التلفاز على مرأى ومسمع من الدنيا كلها، ومع هذا كله لا زالت إسرائيل رافضة أن تجتمع بالمنظمة، واعترفت بها حتى الآن أكثر من مائة دولة.

بعض الصور المشرفة للمجاهدين المسلمين

بعض الصور المشرفة للمجاهدين المسلمين من الناحية الأخرى نرى الصور المشرفة للمجاهدين المسلمين؛ فحينما طلب ريجن في عهد ولايته بنفسه أن يقابل حكمت يار رفض، فأرسل له رسالة مع ابنته مورين ريجن، فرفض أن يقابلها، ودعي من الكونجرس، ورفض مقابلة الكونجرس. وقابل يونس خالد ريجن، فماذا فعل لما قابله؟ لم يركع له، وإنما عرض عليه الإسلام، ورفض خالد مقابلة كوردوفير فيد مندوب الأمم المتحدة أكثر من مرة. وأعلن مجددي أننا لن نقابل روسيا، وعندما طالب فورنتسوف وكيل الخارجية الروسية مقابلة رباني اشترط عليه شروطاً حتى تتم المقابلة: أولاً: أن تكون المقابلة في أرض إسلامية كالسعودية أو باكستان. ثانياً: ألا تتضمن المباحثات شكل الحكومة القادمة؛ حتى لا يضغطوا عليهم. ثالثاً: أن يدخل الوفد الروسي إلى القاعة قبل الوفد الجهادي؛ حتى يقوم الروس للمجاهدين، يعني: يدخل الروس أولاً، وبعد ذلك يدخل المجاهدون، والروس يقفون لهم إذا دخلوا عليهم. رابعاً: ألا يصافح المجاهدون الروس. فقبل الشروط كلها، وطلب فورنتسوف من رباني أثناء المباحثات أن يدخلوا ثلاثة وزراء مسلمين من حكومة نجيب في دولتهم؛ ريثما يتم خروج القوات الروسية؛ حتى يحفظوا ماء وجوههم أمام العالم، فقال المجاهدون: إن الإسلام لا يعطي حق الحياة للشيوعي (من بدل دينه فاقتلوه)، فكيف يعطى حق الحكم للشيوعي؟! وهكذا يختم الشيخ كلامه في هذه القضية.

مؤامرات اليهود لهدم المسجد الأقصى

مؤامرات اليهود لهدم المسجد الأقصى لليهود مؤامرات لهدم المسجد الأقصى، وقد نشرت جريدة التايمز الأمريكية في عدد قريب هذه الصورة وقالت: حان الوقت لإعادة بناء الهيكل، وذكرت النموذج الجديد الذي حددوه للصورة التي سوف تتم عليها إعادة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى بعد هدمه! واعتداءات اليهود على المسجد الأقصى كثيرة جداً ومتكررة، وأهمها عملية الحفريات، بزعم أنهم يعملون حفريات من أجل الطرق ومن أجل الكباري، حتى أنهم عملوا نفقاً تحت المسجد الأقصى؛ لكي يجيء واحد منهم ويضع عبوة ناسفة في هذا الكبري، ويقولون: هو مجنون، مثلما قالوا ويقولون على الذين يقتلون الفلسطينيين، وكما قالوا في الذي أحرق المسجد الأقصى، فإنهم قالوا: هو مجنون! فعمليات البحث والحفريات بعد حرب يونيو مستمرة، وقد هدم اليهود حي المغاربة نهائياً؛ حتى تكون الأرض جاهزة لأي عمليات حفر وتنقيب، ووصل عمق الحفريات إلى أربعة عشر متراً. وبعد ذلك استمرت عمليات الهدم في الأحياء الإسلامية مع إجلاء سكانها العرب، وفي هذه المرحلة حدث حريق المسجد الأقصى سنة (1969م)، وأقيمت في تلك الآونة المعاهد والمدارس الدينية والاستراحات والفنادق وغيرها فوق أنقاض الأبنية العربية، وجرت الحفريات على امتداد ثمانين متراً حول السور مارة حول الأبنية الإسلامية هناك. ومن عام (1970م) إلى عام (1972م) بدأ شق الأنفاق تحت أسوار المسجد الأقصى، من جانبيها الجنوبي والغربي؛ حتى نفذت إلى الأرضية الداخلية تحت ساحة المسجد، وشملت هذه المرحلة الاستيلاء على أبنية إسلامية كثيرة منها: المحكمة الشرعية التي تم هدمها. وفي سنة (1973م) اقتربت الحفريات من الجدار الغربي للمسجد الأقصى، وتغلغلت مسافات طويلة تحته، ووصلت أعماق الحفريات وقتها إلى أكثر من ثلاثة عشر متراً. وفي سنة (1974م) توسعت الحفريات تحت الجدار الغربي، وفي سنة (1975 - 1976م) توسعت الحفريات أيضاً تحت الجدار الغربي، وأزال اليهود أثناءها مقبرة للمسلمين تضم قبري الصحابيين: عبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهما. وفي سنة (1977م) وصلت الحفريات إلى تحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى، وهدم ما عليها بعمق تسعة أمتار. وفي سنة (1979م) بدأت حفريات جديدة قرب حائط البراق، وتم شق نفق واسع طويل، وتقرر الاستمرار فيه حتى يخترق المسجد الشريف من غربه إلى شرقه، وقد تم تدعيم هذا النفق بالأسمنت المسلح، وأقيم كنيس يهودي صغير، افتتحه رسمياً رئيس الدولة اليهودية، ورئيس وزرائه، واتخذ معبداً مؤقتاً. وفي سنة (1986م) استشرت الحفريات من كل جانب، وتم إجلاء أعداد كبيرة من السكان من القدس القديمة، وأغلقت السلطات الإسرائيلية مستشفىً فلسطينياً داخل البلدة القديمة، واغتصبت بيوت عربية كثيرة، وسكن شارون في أرض منها، تأكيداً على تهويد القدس. وازداد التوغل بعد ذلك تحت أرضية الساحة وحولها، وتوغل اليهود في هذه الحفريات؛ لتفريغها من التربة.

سبب تركز اعتداءات اليهود على المسجد الأقصى في شهر أغسطس

سبب تركز اعتداءات اليهود على المسجد الأقصى في شهر أغسطس بعد أن دخل اليهود القدس مباشرة سنة (1967م) في سبعة وعشرين يونيو، عقد في القدس مؤتمر لحاخامات اليهود في العالم ناقشوا فيه موضوع القدس والهيكل، وطالب الحاضرون بالإسراع في عملية إعادة الهيكل الثالث. وشهر أغسطس تتكررت فيه اعتداءات اليهود؛ لأن شهر أغسطس هو الشهر الذي دمر فيه سيزر الهيكل الثاني، وهذه ذكرى حزينة عندهم، فدائماً في شهر أغسطس يتعمدون أن يفعلوا هذه الأشياء، ففي 15 من أغسطس سنة (1967م) دخل الحاخام الأكبر لإسرائيل ولجيشها شلومو غورين مرتدياً الزي العسكري إلى ساحة المسجد الأقصى يرافقه عشرون من ضباط الجيش، وهرع داخل الساحات ملوحاً برشاش كان معه، ومجرياً القياسات هنا وهناك، ثم اصطف معه ضباط الجيش لتأدية الشعائر اليهودية. وفي 31 من أغسطس سنة (1967م) استولى جيش اليهود على مفتاح باب المغاربة؛ لتيسير الدخول إلى حائط المبكى كلما أرادوا، وكان ذلك برعاية من الحاخام الأكبر لجيش الدفاع الإسرائيلي. وفي 21 من أغسطس سنة (1969م) أقدم شخص استرالي نصراني يدعى دينيس سمايكل على إشعال النار في المسجد الأقصى، وأتت النيران المتصاعدة على أساس المسجد وجدرانه ومنبره العظيم الذي كان الأيوبيون قد أعدوه لإلقاء خطبة الجمعة من فوقه بعد تحرير بيت المقدس من الصليبيين. وأخلي سبيل هذا الدنس المسمى دينيس بعد محاكمة صورية أعلن فيها أنه نفذ ما حدث كمبعوث لله، وبموجب نبوءة في سفر زكريا، ونصت حيثيات الحكم بعدم تحمله للمسئولية الجنائية؛ لأنه مجنون!! وأيضاً حاول بعض اليهود في سنة (1971م) أن يقيموا الشعائر اليهودية في المسجد الأقصى. وفي 30 من يناير سنة (1967م) أقرت المحاكم الإسرائيلية حق اليهود في الصلاة في ساحات المسجد الأقصى في أي وقت يشاءون من النهار، وكان اليهود يقتحمون المسجد ويرددون فيه الأناشيد اليهودية. وجرت محاولة في سنة (1980م) لنسف المسجد الأقصى. وأيضاً في شهر أغسطس سنة (1981م) تجمع ثلاثمائة من جماعة جوش لنيين عند المسجد الأقصى، وكسروا قفل باب الحديد، وأدوا الشعائر اليهودية بشكل استفزازي للمسلمين. وأيضاً في 25 من أغسطس (1981م) أعلنت الهيئات اليهودية الدينية عن اكتشاف نفق يبدأ بحائط البراق، ويؤدي إلى فناء المسجد الأقصى، وأعلنوا أن ذلك له علاقة بالهيكل الثاني، وبدءوا بعمليات حفر هددت جدران المسجد بالانهيار. وفي 2 من مارس سنة (1982م) اقتحم خمسة عشر شخصاً من جماعة أمناء جبل الهيكل أحد الأبواب الخارجية للمسجد الأقصى، وكانوا مزودين بالأسلحة النارية، واعتدوا على حراس المسجد في الداخل، واشتبكوا معهم، وأصيب أحد الحراس، وفي اليوم التالي قام المسلمون بإضراب شامل إلى آخره. ونفس الشيء تكرر في 11 إبريل سنة (1982م)، حيث اقتحم جندي إسرائيلي المسجد الأقصى برشاشه، وأطلق النار على حارس الباب وأصابه، ثم هرع إلى مسجد الصخرة وهو يطلق النار بغزارة بشكل عشوائي، فأصاب عدداً من المصلين وقتل أحد حراس مسجد الصخرة، وشارك بعض الجنود الإسرائيليين المتمركزين على أسطح المنازل المجاورة في إطلاق الرصاص تجاه مسجد الصخرة، فأخذ المؤذنون يناشدون الأهالي المسلمين عبر مكبرات الصوت بالتوجه فوراً إلى ساحات المسجد للدفاع عنهم، فتدافع المسلمون نحو المسجد، فأطلق الجنود اليهود عليهم النار، فأصابوا ما يقرب من مائة شخص! ولما احتج الشيخ سعد العلمي مفتي القدس عن الحادث، كان جواب بيجن أن قال: على المسجد الإسلامي أن يعلم أن عهد المفتي أمين الحسيني قد مضى إلى غير رجعة! وعلى أي الأحوال الأحداث كلها متكررة ومتشابهة، ولو تأملناها لوجدنا أن أغلبها يقع في شهر أغسطس بسبب هذه الذكرى.

المسلمون هم الذين سيحررون القدس من اليهود

المسلمون هم الذين سيحررون القدس من اليهود أخيراً: نختم الكلام بالإشارة إلى أنه لن يعيد فلسطين ولن يحرر القدس من أيدي أعداء الله اليهود إلا المسلمون الذين يتمسكون بدينهم، ويجاهدون في سبيله. وقد التقى بعض أبناء فلسطين بالشيخ محمد أمين الحسني رحمه الله فقالوا له: متى نعود إلى فلسطين؟ فقال للفلسطينيين: عودوا إلى الله تعودوا إلى فلسطين! فسخر السفهاء منهم من جواب المفتي، وراحوا يتساءلون: ما علاقة العودة إلى الله بالعودة إلى فلسطين؟ وهل أخرجنا من ديارنا وأوطاننا إلا الله؟ والعياذ بالله! ودفعهم كرههم لما يدعو إليه الشيخ الحسيني أن انخرط كثير منهم في الأحزاب القومية واليسارية، وبعدما مرت المحنة بكل هذه السنون ثبت فشل هذه الطرق، وصحت هذه الكلمة التي قالها ذلك المفتي رحمه الله: عودوا إلى الله تعودوا إلى فلسطين. ونختم الكلام بموقف لوالدة خالد الحسن أحد قادة منظمة التحرير: كانت تؤكد منذ بداية تأسيس فتح أن فلسطين لن يفتحها إلا المجاهدون المسلمون الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا. وقد ذكر أحد أبنائها القصة التالية: كان زوجها أحد المجاهدين الأشداء في ثورة الشيخ عز الدين القسام، وكانت زوجته تشاركه في آماله وآلامه، وتؤدي دورها المطلوب في معركة المصير. ففرحت المرأة عندما سمعت أبناءها يتحدثون عن تأسيس فتح، وكانت تذكرهم بجهاد أبيهم، فتطلب منهم أن يرتسموا خطاه. واجتمع قادة فتح يوماً في بيت خالد، واستمر اجتماعهم طوال الليل، وكانت الأم ترصد حركات المجتمعين وأفعالهم، وكان الأبناء يستغربون من أمهم التصاقها بباب الحجرة التي تضم قادة الفتح، وبعد أن انفض الاجتماع دخلت عليهم وقالت لهم: شتان شتان بين اجتماعكم واجتماعات أبيكم وأصحابه؛ كانوا يقومون الليل صلاة وذكراً، وأنتم ما سمعت منكم إلا العبث والكلام الفارغ، وليست فيكم مواصفات الذين سيحررون فلسطين من العدو المغتصب. فهذه الكلمة مع بساطتها من هذه المرأة التي قد تكون أمية تدل على أنها أدركت هذه الحقيقة، حقيقية أن النصر لا يكون إلا بعد أن نغير أنفسنا كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فليس النصر من واشنطن أو بكين أو موسكو، إنما النصر من الله عز وجل، فلابد من الأخذ بأسباب النصر، قال عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].

قضية فلسطين قضية عقدية

قضية فلسطين قضية عقدية فاتتني نقطة أود أن أنبه عليها، وهذه النقطة هي في البحث الذي ذكرناه عن رسالة الدكتوراه لـ حسن صبري الخولي، والذي ذكر فيها: أنه اعتماداً على التوراة التي هي كتاب مقدس -كما يزعم؛ لأنها محرفة- فلليهود حق في فلسطين، لكن العرب يشتركون معهم أيضاً في هذا الحق، باعتبار أن الوعد في التوراة لكل ذرية إبراهيم عليه السلام، سواء كانوا من إسحاق أو من إسماعيل عليهما السلام. وهذا كلام فيه مغالطة خطيرة جداً لابد من الالتفات إليها، فاليهود أنفسهم أحياناً في بعض المحافل الدولية في الأمم المتحدة أو غيرها يأتون بنصوص من القرآن حتى يثبتوا حقهم في فلسطين. ومن أجل ذلك نقول: إن المنطلق الذي ينبغي أن تعالج منه هذه القضية هو منطلق العقيدة، فإن قيل: ما علاقة هذا بالعقيدة؟ فأقول: علاقة هذا بالعقيدة أن اليهود الآن يريدون أن يستعيدوا القدس في زعمهم ويعيدوا بناء هيكل سليمان. فإن قيل: متى بدأ التواجد الإسلامي في مدينة القدس؟ هل بدأ التواجد الإسلامي بفتح عمر بن الخطاب لهذه المدينة؟ ف A كلا! بل التواجد الإسلامي في فلسطين بدأ منذ أن تواجد فيها أنبيا الله الذين كانوا دعاة للإسلام، وأنبياء للإسلام، فمن أولى بسليمان عليه السلام: هل اليهود الذين يزعمون أنهم يعيدون بناء هيكله للمرة الثالثة أم المسلمون؟ فسليمان عليه السلام كان مسلماً، كما قال الله عز وجل عنه: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]. فهي قضية أساساً لابد أن تكون من منطلق عقائدي؛ لأننا نؤمن أنه لا حق في الدنيا إلا الإسلام، وأي دين آخر فهو دين باطل أو دين منسوخ. فجيوش المسلمين وجدت في فلسطين منذ عهد داود، ومنذ عهد سيلمان، ومنذ عهد موسى عليه السلام، وهكذا جميع أنبياء الله نحن أولى بهم، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فانطلاقاً من هذا الاعتقاد يكون اعتقاد تتطور المسلمين في قضية فلسطين: أن المسلمين هم أحق بهذه الأرض؛ لأنها أرض الأنبياء، وأن المسجد الذي هو مقام الآن في بيت المقدس الذي يعبد فيه الله وحده لا شريك له، هو يقوم مقام المعابد التي كان يعبد فيها الله أيضاً على شريعة الأنبياء السابقين، الذين كانوا جميعاً يقولون: لا إله إلا الله، وكانوا يصدق بعضهم بعضاً، فموسى بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، وعيسى بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يكون هذا هو المنطلق: أن جميع الأنبياء أخوة، دينهم واحد، وشرائعهم شتى. فلا بد من النظر للقضية من هذا المنطلق، وليس على أنها قضية وثائق تاريخية تثبت حقاً لليهود، ومحال على اليهود أن ينتزعوا من القرآن نصوصاً تثبت لهم حقاً في فلسطين. فالحق في فلسطين للمسلم الذي هو على دين سليمان وعلى دين موسى وعلى دين عيسى وعلى دين محمد عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه. ولكن لا ينظر للأمر ولا يقيسه بهذا المقياس إلا أصحاب العقيدة الصحيحة.

خوف اليهود من الجهاد الإسلامي وذكر بعض تصريحاتهم حول ذلك

خوف اليهود من الجهاد الإسلامي وذكر بعض تصريحاتهم حول ذلك يخاف اليهود وأعداء الإسلام عموماً من أي صبغة إسلامية للجهاد ضد اليهود، وتكثر تصريحاتهم جداً في هذا الأمر، تقول صحيفة يدعوت أحرنوت في سنة (1948م): إن على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، وهي أننا نجحنا في إبعاد الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد، ويجب منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أي بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا. وهذه المقالة مناسبتها: أن اليهود لما اقتحموا لبنان واحتلوها حصل نوع من الاستبشار الشديد جداً والحفاوة بين نصارى لبنان واليهود الذين خرجوا من فلسطين، فعملت مقابلة تلفزيونية مع سعد حداد؛ لأنهم أبرزوا معالم الفرح التي عمت قرى النصارى بسبب احتلال اليهود للبنان. وقالوا: إن هذا التصرف الطائش الذي فعله التلفزيون وأظهر على الشاشة فرحة النصارى بقدوم اليهود في لبنان، تسبب في ردة فعل عنيفة بين المسلمين في لبنان وغيرها، وحرك فيهم الروح الإسلامية؛ لأن الروح الإسلامية تنظر من هذا المنظار، وهو أن هذه أرض الله، وهذه أرض أنبياء الله، وهيكل سليمان لماذا يبنى من جديد وقد نسخت شريعة سليمان؟ والدعوة التي كان يدعو بها سليمان وداود وموسى وجميع أنبياء بني إسرائيل هي دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي امتداد لها، فهذا هو الحق، ولا ينظر بهذا المنظار إلا صاحب العقيدة، الذي هو واثق أنه إما أن يعيش في سبيل العقيدة وينصرها، وإما أن يموت فتكون له الجنة. فهم يخافون جداً من استيقاظ الروح الإسلامية، ولذلك تستمر الصحيفة وتقول: لقد وقع تلفزيوننا في خطأ كاد ينسف كل خططنا؛ لأنه تسبب في إيقاظ الروح الإسلامية، ونخشى أن تستغل الجماعات الإسلامية هذه الفرصة لتحريك المشاعر ضدنا، وإذا فشلنا في إقناع أصدقائنا بتوجيه ضربة إليها في الوقت المناسب فإن على إسرائيل أن تواجه عدواً حقيقياً لا وهمياً، حرصنا أن يبقى بعيداً عن المعركة. إذاً: حتى اليهود يعرفون تماماً أن العدو الحقيقي الذي سوف يتصدى لهم هم هؤلاء المسلمون الذين يعتقدون أن الواحد منهم إذا قتل يهودياً أو قتله يهودي دخل الجنة، وهكذا يصرح اليهود أيضاً. ويقول أيضاً برجن دروستن، في مقال نشرته (صنداي تيليجراف) في سنة (1978م) يقول: إن أكبر خطر يرتكبه الغربيون هو عدم تفكيرهم بضرورة التدخل العسكري المباشر في المنطقة في حالة عجز الأنظمة الصوتية عن كبح جماح المتطرفين المسلمين؛ لأن خطرهم لا يقارن بأي خطر آخر مهما كان. وجريدة القبس الكويتية نقلت عن وكالات الأنباء أنها قالت: إن ديان قال في خطاب له أمام يهود أمريكا: إن على أمريكا والغرب أخذ العبرة من أحداث إيران التي يمكن أن تهب بشكل مفاجئ في غيرها كتركيا وأفغانستان، وأكد أن عدوه الأول هو الإخوان المسلمون، وأنه في الوقت الذي تشعر فيه إسرائيل أن العرب في فلسطين بدءوا يتمسكون بالاتجاهات الإسلامية المتعصبة فستقذف بهم بعيداً؛ لينظموا لإخوانهم اللاجئين: أي: أنه يهدد الفلسطينيين في فلسطين، أنهم إذا تعاطفوا مع الحركة الإسلامية فسنقذف بهم بعيداً حتى ينظموا إلى طابور اللاجئين في البلاد العربية. وأيضاً قالت صحيفة (كمشلر الفيجلر) التي تصدر في ألمانيا الغربية: على الغرب إذا أراد المحافظة على مصالحه في الشرق الأوسط أن يبدي مرونة في تفهم مقاصد الاتجاهات الإسلامية. وبعدما قتل السادات قال أحد القادة في صحيفة الـ (جروزاليم بوست): إن ظهور حركة اليقظة الإسلامية بهذا الصورة المفاجئة المذهلة قد أظهرت بوضوح أن جميع البعثات الدبلوماسية، وقبل هؤلاء جميعاً وكالات الاستخبارات الأمريكية كانت تغط في سبات عميق. وأيضاً: في مقابلة مع صحيفة (ها آرتس)، في 12 من فبراير سنة (1979م) قال مسئول يهودي: إن الذي يثير قلقنا هو أن مواقف العرب داخل إسرائيل بدأت تتحول من مواقف مبنية على قاعدة قومية إلى مواقف تستند إلى قواعد دينية. فلماذا يستكثرون علينا أن نغار على ديننا وأن نحامي عن ديننا، ودولتهم دولة دينية يهودية مبنية على دين باطل ومنسوخ ومحرف؟! فهم يحرصون تماماً على إبعاد الإسلام؛ لأن هذا هو العدو الحقيقي الذين يعرفون أنه سوف يهزمهم، وسوف يبيدهم. ثم قال المسئول اليهودي: إن خطراً حقيقياً بدأ يهدد الاستقرار في الشرق الأوسط، وقسماً كبيراً من إفريقيا، هذا الخطر هو خطر انتشار ثورة إسلامية شاملة، يقوم بها متدينون متطرفون. وقال شارون - السفاح المعروف - في ندوة في جامعة تل أبيب سنة (1976م): ما من قوة في العالم تضاهي قوة الإسلام من حيث قدرته على اجتذاب الجماهير، فهو يشكل القاعدة الوحيدة للحركة الوطنية الإسلامية. وقال يوشواح بوراك: إن المساجد هي دائماً منبع دعوة الجماهير العربية إلى التمرد على الوجود اليهودي. وأيضاً: يقول مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض بريجنسكي: إن الولايات المتحدة بحاجة إلى دراسة جديدة حول الحركات الإسلامية المتشددة؛ ليسهل على الإدارة الأمريكية وأصدقائها في المنطقة الإسلامية مراقبتها عن كثب؛ حتى لا تفاجئ باندلاع ثورة إسلامية جديدة في أي مكان في العالم الإسلامي؛ لأن أمريكا حريصة على عدم السماح للإسلام بأن يلعب دوراً مؤثراً في السياسة الدولية. وأيضاً ذكرت صحيفة القبس الكويتية سنة (1979م) أن مجلس الأمن القومي الأمريكي طلب من هيئة المخابرات البريطانية تزويد الإدارة الأمريكية بكل ما يتوافر لديها من معلومات تتعلق بالحركة الإسلامية؛ للاستعانة بها في وضع الخطط الكثيرة للقضاء على خطرهم قبل فوات الأوان. وأوردت وكالة الأنباء الفرنسية في نبأ لها من بيت المقدس في فبراير سنة (1979م) أن السلطات اليهودية قامت باعتقال اثني عشر عالماً من علماء المسلمين -ومعظمهم من الشباب- في بيت المقدس. وجاء في جريدة اسمها (فورتشون) ما يلي: إن صحوة الإسلام الجديدة تزعج الإسرائيليين كثيراً؛ فإسرائيل تعرف تماماً أنه إذا فشلت محادثات السلام مع مصر فإنها سوف تكون هدفاً لحرب الجهاد المقدس التي ستشنها الصحوة الإسلامية المتزايدة. ثم قالت: إنه حتى في الجامعات العبرية في إسرائيل بدأ الطلاب العرب المسلمون يطلقون لحاهم، ويؤدون العبادات الإسلامية، في حين بدأت الفتيات المسلمات في ارتداء الزي الإسلامي الشرعي. فالعدو الحقيقي لم يواجهوه حتى الآن، وهم لا يخافون إلا هذا العدو، فكان لابد من التنبيه إلى أن المنطلق ينبغي أن يكون من العقيدة، أما أن واحداً يسعى وراء اليهود أو أمريكا حتى تعطيه قطعة أرض في قطاع غزة أو في الضفة، فهذا ليس صاحب قضية، بل هذا طالب ملك، وطالب دنيا، وحتى لو أقام دولة فسيقيم دولة علمانية! فهؤلاء أصحاب المنظمات يقولون: سوف نقيم دولة علمانية لا دين لها، وتراهم كما حكينا عنهم لا يعتزون بعقيدة الإسلام، بل ينتمون إلى كل الألوان ماعدا الإسلام. فالقضية ليست قضية فلسطينيين، بل هي قضية مسلمين، فينبغي أن يكون المنطلق من خلال العقيدة، فعقيدتنا أن الإسلام هو دين الله، وهو الحق الوحيد في هذا الوجود، وما عداه فهو باطل، والأرض لله يورثها من يشاء. فأرض فلسطين هي أرض الأنبياء، ونحن أولى بموسى وداود وسليمان وعيسى من اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يحبونهم. فهناك ارتباط وثيق جداً لقضية فلسطين بقضية العقيدة، واليهود يقولون: إن هيكل سليمان سوف يعاد، فلماذا يعاد؟ ولماذا يُهدم المسجد؟ هل لأننا مسلمون فقط وهم يهود؟! فنحن الآن نريد ألا يعبد في هذا المكان -المسجد الأقصى- إلا إله سليمان وإله داود وإله موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام.

أهمية جهاد المسلم في سبيل الله عز وجل

أهمية جهاد المسلم في سبيل الله عز وجل أي جهد يقدمه الإنسان لتمكين الدعوة الإسلامية في أي بقعة من بقاع الأرض فهو يساهم في تقريب وقت التمثيل لهذا الدين، ففي أي موقع يكون الإنسان موجوداً فيه لابد أن يساهم، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، فلابد لكل مسلم أن يحدث نفسه: أنه إذا مكن من الجهاد أن يجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى، فعلى الأقل يحصل تحديث النفس به، ولكن نحن نثق تماماً أن السلام المزعوم مع اليهود لن يقع، بنص الحديث: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود)، إلى آخر الحديث المعروف. فعلى الأقل نلم بأحوال إخواننا في فلسطين؛ لأن بعض الناس لا يتأثرون ولا يتحركون لما يقع في فلسطين من المجازر ضد المسلمين المستضعفين هناك من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فلا البلاد العربية تقوم بواجبها نحوهم أو تستقبلهم أو تؤيهم، ولا هم صابرون على الظلم والعسف الذي يلاقونه من أعداء الله اليهود، فعلى الأقل نكون على علم بهؤلاء، وندعو لهم، والإنسان يحدث نفسه أنه متى ما استطاع أن يشارك في جهادهم فسيفعل، وكل منا يعمل للتمكين للإسلام في أي موقع من الأرض حتى تقوم نواة لدولة إسلامية لتحرير فلسطين وأفغانستان وجميع بقاع العالم الإسلامي. ولذلك يجهد أعداء الإسلام ألا تقوم أي بذرة أو أي نابتة لكيان إسلامي قوي يحمل هم هذه الدعوة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

من هو عيسى عبده؟ [1]

من هو عيسى عبده؟ [1] إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد هداية الإنسان شرح صدره للإسلام، وآتاه من البصيرة ما يجعله يرى نور الحق ساطعاًً، وإن طريق الهداية ميسر لمن أراد الحقيقة وصدق في طلبها، ومن هؤلاء الذين نوّر الله بصيرتهم الدكتور عبده والد الدكتور عيسى عبده، فقد كان نبوغ ولده عيسى ثمرة من ثمار هدايته إلى الصراط المستقيم، والدين القويم.

مقدمة عن فضل من أسلم من أهل الكتاب

مقدمة عن فضل من أسلم من أهل الكتاب الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولاً حسناً، فكان فيما قال: من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا) رواه الروياني وسنده حسن. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح والنسائي والإمام أحمد. فالحديث الأول فيه فضيلة من أسلم من أهل الكتاب -أي: من اليهود والنصارى-، فمن أسلم منهم فله أجره مرتين؛ لإيمانه بنبيه -سواءٌ موسى أو عيسى عليهما السلام- ثم إيمانه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك يؤتى أجره مرتين، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، أي أنه بعد أن يصير مسلماً يستوي مع المسلمين في الحقوق والواجبات. ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، ويفضل الكتابي إذا أسلم على المشرك إذا أسلم، وفي حديث أنس المذكور آنفاً: (فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين) والسياق فيمن أسلم وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا. كذلك حدث أبو البختري أن جيشاً من جيوش المسلمين -وكان أميرهم سلمان الفارسي رضي الله عنه- حاصروا قصراً من قصور الفرس، فقالوا: يا أبا عبد الله - وهي كنية سلمان الفارسي! ألا تنهد إليهم؟ فقال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم. فأتاهم سلمان فقال لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي، وترون العرب يطيعونني. أي: مع أني فارسي فليس لأحد فضل على أحد إلا بالتقوى، وأنتم تروني أميراً على هؤلاء العرب، ومع ذلك يطيعونني! قال سلمان: فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه، واعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون إلى آخر الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه. ففي هذا كله دليل على بطلان الحديث الشائع اليوم على ألسنة كثير من الناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في أهل الذمة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وليس لهذا أصل في دين الإسلام أن يقال في أهل الذمة من اليهود والنصارى: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، بل هذان الحديثان -حديث أبي أمامة وحديث أنس رضي الله تعالى عنه- يبطلان هذا الكلام؛ لأنهما صريحان في أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك فيمن أسلم من المشركين ومن أهل الكتاب، ومن أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا. وحديث أبي أمامة فيه فضيلة من أسلم من أهل الكتاب كما أشرنا آنفاً، والنصوص الشرعية واضحة بتفضيل أهل الكتاب على المشركين، وإنما كان ذلك لأن أهل الكتاب يؤمنون بوجود الله سبحانه وتعالى، ويؤمنون بمبدأ النبوة والرسالة مع ما طرأ على عقائدهم من الزيغ والتحريف والضلال المبين، ولذلك فقد حصل الكثير من المواقف العظيمة التي أسلم فيها كثير من الوجهاء والأكابر والعلماء والمقدمين عند أهل الكتاب، وكان لبعضهم قصص يمكن أن تدخل تحت طائلة القصص التي أشار الله سبحانه وتعالى إليها في قوله عز وجل: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، والقصص -كما قال بعض العلماء- جند من جنود الله. ونحن إذا عودنا أنفسنا وأهلينا وأولادنا على أن نثبت إيمانهم ونزيده بالقصص النافعة، أو القصص الحق كما قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] إذا ربطنا أنفسنا دائماً بأحسن القصص فإنها تعتبر عبرة للمعتبر وتثبيتاً للقلوب.

قصة إسلام عبده إبراهيم

قصة إسلام عبده إبراهيم سنتعرف ونعتبر جميعاً بهذه القصة الطيبة من قصص الإيمان، قصة إسلام رجل من أهل الكتاب، والحقيقة أن فيها عبراً عظيمة جداً نحتاج إلى معرفتها لاستحضار نعمة الله سبحانه وتعالى علينا. وهي قصة إسلام الدكتور عبده إبراهيم -والد الدكتور عيسى عبده -.

نبذة مختصرة عن الدكتور عبده إبراهيم

نبذة مختصرة عن الدكتور عبده إبراهيم نبدأ أولاً بالتعريف بوالد الدكتور عيسى عبده رحمه الله تعالى. فهو الدكتور: عبده إبراهيم بن إبراهيم أفندي عبد الملك، من حي الظاهر في القاهرة، ولد عام (1883م). وصل في دراسته إلى المرحلة الثانوية، وكان لهذه المرحلة الثانوية شأن عظيم في حياته، وقد أمضى المرحلة الثانوية من سنة (1896م) إلى سنة (1900م)، أي: أربع سنوات، وليس ثلاث سنوات كما هو المعتاد، ولهذا سبب سنذكره إن شاء الله، ثم درس الطب بالقصر العيني خمسة أعوام -وهذه أيضاً مرحلة مهمة جداً سنذكر تفاصيلها- من سنة (1900م) إلى (1905م)، والتحق بالوظيفة العامة سنة (1905م)، ثم تزوج في صيف (1906م)، ورزق بولده الأول، وهو: فضيلة الدكتور: عيسى عبده رحمه الله تعالى المتوفى في التاسع من يناير سنة (1980م) ودفن بالبقيع في المدينة المنورة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ثم رزق بابنه الثاني في يناير سنة (1909م)، وهو الدكتور: محمد عبده إبراهيم، أستاذ الهندسة بجامعات سويسرا، وله أبحاث عالمية في تحلية ماء البحر، ولكل من الابنين قصة عجيبة سنذكرها إن شاء الله. كان أول عهد عبده بالوظيفة العامة في مصلحة السجون كطبيب سجن بين عامي (1905م) و (1910م)، وهذه المرحلة أيضاً لها قصة, وكان آخر عهده بالوظيفة العامة بوزارة الصحة أنه كان طبيب المركز بالسنبللوين في الدقهلية بين عامي (1910م) و (1914م)، ثم عمل طبيباً لمركز طبي في الشرقية من سنة (1914م) إلى (1918م)، ثم انتقل إلى رحمة الله -إن شاء الله- بالقاهرة في شهر يونيو سنة (1918م).

كيف اهتدى الدكتور عبده إبراهيم إلى الإسلام

كيف اهتدى الدكتور عبده إبراهيم إلى الإسلام نبدأ ببداية طريقه والتزامه بالاسلام، وهذه بداية مهمة جداً، وتشير إلى فائدة وبركة معاشرة الكفار للمسلمين، فمن المعلوم والمقطوع به أن الكفار الذين يعاشرون المسلمين يكونون أقل شراً من الكفار الذين لم يعاشروا المسلمين، فبركة مجتمع التوحيد وأهل الإسلام -بلا شك- تتعدى إلى غيرهم بصورة أو بأخرى، خاصةً إذا تحلى المسلمون بحسن الخلق؛ فإنه يُرغِّب كثيراً من الناس في الدخول في الإسلام. وكانت البداية في أواخر القرن التاسع عشر، حيث كان الخواجة إبراهيم أفندي عبد الملك يعيش في منزله بحي الظاهر في القاهرة، ومن حوله أسرة كبيرة العدد من الأقرباء والأصهار. فقد كان التقليد المتبع في تلك الأيام هو أن تتجمع الأصول والفروع في مساكن متقاربة من بعضها، وقد تأصلت هذه العادة في القطر المصري وفي غيره من البلدان العربية المجاورة. وكان مما يميز هذه الأحياء السكنية هو أن كل طائفة أو أسرة أو جماعة معينة لها خصيصة تجمعها، فمثلاً: كانت الحلمية الجديدة مسكن أمراء المماليك، ثم من قبلهم من الأسر العريقة، كالحسين، والسيدة زينب، وكذلك مساكن علماء الدين الإسلامي، وأما حي الظاهر فكان يسكنه أسر القبط القدماء في مصر، وكان الخواجه إبراهيم عبد الملك يسكن منزلاً متوسطاً برقم اثنين وسبعين في شارع الظاهر، وكان لقب الخواجه حينئذٍ يطلق على وجهاء الأقباط ورجال الأعمال. ومن أولئك إبراهيم أفندي عبد الملك الذي احترف تجارة الجملة والوكالة بالعمولة، وكان قد اتخذ له مقراً تجارياً بحي الجمالية يقضي فيه يومه كله، فهو مشغول دائماً بأعماله الكثيرة لكسب رزقه ورزق أسرته الكبيرة العدد، وهو لا يستقر في داره إلا يوماً واحداً في الأسبوع، وهو يوم الأحد، وفي هذا اليوم من كل أسبوع كان أفراد الأسرة كلهم يجتمعون إلى مائدة الغداء بعد عودتهم من الكنيسة، حتى الذين يقيمون بالقاهرة بعيداً عن حي الظاهر من أفراد الأسرة كانوا حريصين على هذا الاجتماع العائلي الدوري كما يحرصون على أغلى ما يملكون. وكان الخواجه إبراهيم عبد الملك قد رزق بأربعة أبناء من الذكور، وهم بحسب ترتيب أعمارهم: عبده -وهو أكبرهم -، ونسيم، وسهيم، وسليم، كما رزق عدداً آخر من البنات، اللاتي حرص على حسن تربيتهن كحرصه على تعليم أولاده الذكور وإلحاقهم بالمدارس وتوفير ما يلزم لكل منهم، حتى اشتهر بين أقربائه بأنه رب أسرة كادح ناجح. وكان عبده -ابنه الأكبر- مجتهداً ذكياً لم يتخلف في دراسته سنة واحدة، حتى وصل إلى السنة الثالثة الثانوية التي صادفته فيها ظروف بالغة الخطر ترتب عليها أن تخلف للإعادة. فكيف تخلف الطالب الذكي المجتهد عبده إبراهيم عبد الملك في امتحان البكلوريا -وهي الثانوية العامة- وهو الذي كان رمزاً للتفوق ومثالاً يحتذى بين أقرانه؟! ولماذا حدث ما حدث ولم يعهد عليه ضعف أو تراخٍ فضلاً عن الرسوب في الامتحان؟! إن الاجابة على هذين السؤالين تضعنا على أول الطريق إلى صلب الموضوع، ذلك أن بعض نظار المدارس الثانوية في أوخر القرن التاسع عشر الميلادي كانوا يستعملون أسلوب (الخلايا العلمية)، وهو أسلوب تربوي يقوم على أساس التآلف بين الطلاب، وذلك دون تحديد عدد معين، ودون أي محاولة للربط بين خلية وأخرى؛ إذ كان القصد من ذلك هو مجرد تشجيع الطلاب على التجمع في صحبة أو عُصبة أو مجموعة، ليكون نشاطهم العلمي والاجتماعي أجدى وأقوى من الناحية التربوية، وهذا أفضل مما لو ترك الطالب في سن المراهقة وأول النضج فريسة للوحدة في نزهته حبيساً في حجرة استذكاره لدراسته. وهكذا اجتمع بقدر الله سبحانه وتعالى مجموعة أو خلية واحدة مكونة من ثلاثة أشخاص -وهم: محمد توفيق صدقي، وأحمد نجيب برادة، وعبده إبراهيم عبد الملك - تآلف أفرادها، وانسجموا ثلاثتهم، فانتظموا في عقد صداقتهم من أول الدراسة الثانوية، فما إن وصل ثلاثتهم إلى السنة الثالثة في الثانوية حتى باتت أواصر المودة بينهم قوية تشد بعضهم إلى بعض، حتى اشتهروا بين زملائهم بذلك، وعرفوا بما يحملونه لبعضهم من مشاعر الحب والإخلاص والاحترام. وكان محمد توفيق صدقي أيسر حالاً من الجميع، وتقع داره في جنينة المتاخمة لجنينة ناميش بحي السيدة زينب، وكان للدار في المدخل من جهة اليسار منظرة التي تسمى المضيفة أو مجرة الضيافة-، وهي ومرافقها شبه منفصلة عن البيت، أما أحمد نجيب برادة فقد كان رقيق الحال، كفله عمه بعد وفاة أبيه، فلم يكن الصحب يغشون دار عمه هذا بالحلمية إلا نادراً، مع أن الدار كانت فسيحة على الطراز القديم، ولها صحن فيه بئر ودلو، لكنها في النهاية لم تكن دار برادة، ولكنها دار عمه الذي رعاه بديلاً عن أبيه، أما عبده فقد كانت داره -كما قلنا- بالظاهر بعيدة عن السيدة زينب وبعيدة عن الحلمية، خاصةً مع صعوبة المواصلات في ذلك العهد، فضلاً عن وقوع حجرة عبده الخاصة في الطابق الثالث مع الأسرة. هكذا وجد الثلاثة أنفسهم متفقين بغير اتفاق على تفضيل منظرة صدقي للقاء بقصد الاستذكار وما يصحبه من صخب الشباب أحياناً، وقد زاد من تفضيل هذه المنظرة هو قربها من موقع المدارس الثانوية فضلاً عن قربها من المدارس العليا. لكن الأمر لم يسلم، فبالرغم من ذلك كان الأصحاب الثلاثة يغشون دار العم برادة بالحلمية أحياناً مضطرين لسبب أو لآخر، وكان في صحن الدار -كما سبق- بئر ودلو، فكانوا إذا وجبت الصلاة وهم بدار العم برادة قام صدقي وبرادة فتوضأ كل منهما ثم صليا، وكان عبده من دونهما يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان، وهذا هو الخيط الأول الذي أشرنا إليه من قبل. وكما يقال: كل نسيج قماش له بداية، وكل قصة إسلام لابد من أن يكون في بدايتها خير أو بصيص من النور يظهر، ولذلك فإننا نركّز -دائماً- على الخيط الأول الذي يختلف من إنسان إلى آخر، لكن أعم وأغلب الناس يكون الخيط الأول لهدايتهم -كما ذكرنا- هو حسن الخلق معهم، امتثالاً لقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. كان عبده إذا خرج الاثنان إلى الصلاة يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان، ويتشاغل عنهما بالنظر في أوراقه ما أتيح له ذلك، وبتكرار هذه المواقف من وقت لآخر خلال السنتين الأولى والثانية من الدراسة الثانوية نشأ في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه، فقد رآهما كثيراً وهما يسعيان في اهتمام بالغ للتطهر حال سماعهما الأذان -بل ربما قبله استعداداً للصلاة- وهما يقفان في خشوع وخضوع مهيب أمام ربهم، ثم يركعان ويخران إلى الأرض ساجدين في هيئة تدل على تمام عبوديتهما لربهما، ثم إنهما يكرران ذلك بشكل إيماني رائع، حتى إذا جلسا للتشهد وفرغا من الصلاة وسلما عن يمين وشمال أقبل كل واحد منهما على أخيه يدعو له بقبول العبادة في محبة وود ورجاء، فكان عبده في كل مرة يسأل نفسه: ترى هل هما وفريق المسلمين على الحق أم على الباطل، فإذا كانوا على الحق فما حقيقة دينه إذاً؟ وإذا كانوا على الباطل فلماذا لا يصحح لهما عقيدتهما وكيف؟ مرت الأيام سراعاً، وبعضهم يخلص لبعض من غير أن يتعرضوا لمناقشة هذا الأمر، وهل ساور صديقيه نفس الخاطر الذي يساوره فمنعهما الحياء؟! فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يبدأ هو بالحديث معهما؟ وتشجع عبده فأفضى إليهما بقلقه من وجود اختلاف بينهم -كجماعة متحابة ومتماسكة- في أمر جوهري كهذا، خصوصاً وأن هذا الاختلاف لم يكن باختيار أحد منهم، وإنما وجدوه بينهم بحكم التوارث، فهو لا يفعل ما يفعلان لأنه جاء إلى هذه الدنيا من أبوين يدينان بالنصرانية، ولو أن أبويه كانا من أسرة مسلمة لما وجد هذا الخلاف، ثم إنهما لا يذهبان إلى الكنيسة في يوم الأحد، ولا يفكران في شيء من ذلك؛ لأنهما ولدا في أسرتين مسلمتين، ولو كانا قد ولدا في محيط نصراني لما وجد هذا الخلاف! قال عبده فيما يرويه صديقه برادة -وكان قد عاش طويلاً بعد وفاة صاحبيه-: ليس هذا مما ينبغي أن يكون عليه الشأن بين إخوة جمعهم رباط العلم، وملأ قلوبهم كل هذه المشاعر من الحب والصفاء، وإنه لمن الإخلال بواجب المودة الخالصة من الشوائب أن تستمر الحال هكذا علناً بيننا في هذا الأمر الهام، فلابد من أن يكون صديقي مخدوعين، أو أن أكون أنا جاهلاً بما يؤمنان به. نهض عبده من مجلسه، وتقدم قريباً من البئر، وتبعه صاحباه ينظران في شأنه، فقال: أرياني كيف تفعلان، وأعيناني كما تتعاونان في رفع الماء من البئر وصبه على أطرافكما، وهل لذلك قواعد وأصول عندكم؟ فأجاباه إلى ما طلب وهما يعجبان مما فعل، وأجرى عبده الماء على يديه ووجهه وذراعيه ورأسه وقدميه في تجربة بدائية لم يكن يستهدف منها إلا الوقوف على شيء غامض في داخله، وربما وجد إجابة للسؤال الذي يحيره منذ حين، وهو: ما حكمة صب الماء على أطراف الجسم مع التكرار؟! لاحظ عبده بعد عملية الوضوء أن أول الآثار التي أصابته من جراء صب الماء على أطرافه أنه أحس بنوع لذيذ من الانتعاش واليقظة والانتباه ملأه ابتهاجاً وثقة بالنفس، فعاد يسأل: هل سبب ذلك الانتعاش وتلك الثقة هو ما أراه بعيني الآن من نظافة يدي ومنافذ وجهي، وطهارة رجلاي وطيب رائحتهما؟ إنه يرى في الأمر سراً لا يزال خافياً عليه، لكن ما صنعه ليس مجرد عبث صغير كما كان يراه من قبل، وإنه ليرى من وراء هذا الصنيع بعض المعاني الكبيرة التي لا يحجبه عنها إلا جهله بهذا الدين الإسلامي، فطلب منهما أن يحدثاه عن حكمة الوضوء وأركانه وسننه ونواقضه، وعن حكمة القيام والقعود والسجود وتكرارها، ولم يكن صاحباه في هذا السن على قدر واسع من ال

إعلان الدكتور عبده لإسلامه بين أسرته وأقاربه

إعلان الدكتور عبده لإسلامه بين أسرته وأقاربه يقول أحمد نجيب برادة: لم يكن الإسلام بعيداً عن صاحبنا وزميلنا عبده منذ بدأ دراسة الأديان قدر اجتهاده في آخر عهده بالثانوية العامة وأول عهده بدراسة الطب، ولكن دراسته للتشريح نحواً من عشرين شهراً نقلته من حال إلى حال، فقد تملكه خوف من لقاء الله وهو في تردده وجهالته بحقيقة التوحيد والبعث والثواب والعقاب. وكان عبده يتعامل مع الجثث، ويبقى مع الميت أحياناً، ثم اجتمع إلى صاحبيه وقال بأنه آمن بالذي هما والمسلمون عليه، وبأنه سيبدأ باتخاذ ما هو مستقر من اجراءات التوثيق، وشهر إسلامه. فزع صاحباه من هذه العجلة، وقالا له: استمع إلينا -أيها الصديق- جيداً: أنت تعلم حبنا ووفاءنا لك، وأننا سنخلص لك النصيحة حتماً، وأنت الآن بينك وبين التخرج ومدة الامتياز عامان ونصف العام، وهذا الأمر إن أنت أقدمت عليه متعجلاً ستكون له آثار خطيرة وشديدة على والديك وإخوتك وأهلك، وأقل ما سيلحقونه بك من ضرر هو ضربك وطردك من الدار ومحاربتك، وأنت بكل ذلك ستعرض مستقبلك للدمار، وهذا الدين القويم الذي رغبت فيه يأمر بالحكمة والتعقل، فالرأي عندنا أن تتمهل، وأن تستخفي بدينك حتى تتخرج وتكون لك وظيفة تكسب من ورائها رزقك. ثم إنك في حاجة إلى مزيد من الدراسة، والله يعلم منك صدق نيتك فيما تدعيه، فأنت عند الله -إن شاء الله- من المقبولين ما دامت قد صحت نيتك، فلا تتعجل التوثيق وإشهار دينك الجديد حتى تكون العلانية مأمونة لك. فما كان منه إلا أن رضخ لهذه النصيحة، لكنه وجد تعلقه بالدين الجديد يشتد ويقوى لحظة بعد لحظة، ويوماً بعد يوم، ولم يعد يطيق كتمان مثل هذا النور الذي يشعشع في مسامه وينير عقله وقلبه، فصار يتصرف دون الرجوع إلى صاحبيه حتى لا يشيرا عليه بما يكره من صبر وكتمان، فعكف على القرآن يتلو آياته كلما وجد من وقته فسحة وفراغاً، وحرص على أن يكون في جيبه دائماً، وبدأ يؤدي من الصلوات ما تيسر له أداؤه في خفاء خارج البيت أحياناً، وفي حجرته إذا أمن على نفسه أحياناً أخرى، ومضى عامان إلا قليلاً وهو يتعجل الأيام لتمضي ويتحقق حلمه، وبدأت مدة الامتياز وهي أقل من عام، وحل شهر رمضان بروحانياته وبركاته، فاعتزم طبيب الامتياز أمراً، وما عاد بعد الآن يستشير فيما وضح له من الحق أحداً. كانت هناك عادة في منزل والده إبراهيم عبد الملك أفندي الذي هو الخواجه كما كانوا يسمونه، وكان الموعد مقدساً عند الأسرة، وهو موعد الغداء يوم الأحد، وهو اليوم الوحيد الذي يتفرغ فيه الأب للاجتماع بجميع أولاده، فتخلف عبده عن حضور الغداء يوم الأحد؛ لأنه قد بدأ شهر رمضان على غير ما جرت به عادته وعادة الأسرة كلها، وسأل عنه أبوه ظهراً وعصراً ومساءً، ولكن عبده لم يحضر إلى داره إلا في ساعة متأخرة من الليل، فقيل له: إن الأسرة كلها قلقة لهذا التخلف، وإن الظنون ذهبت بهم كل مذهب. وكان رده: إن الأعمال في قسم الاستقبال كانت كثيرة على غير المألوف أو المتوقع لها، وقد اعتذر عن الحضور للعمل زميلان له، فقضى اليوم كله في مواجهة الحالات العاجلة التي كان ينبغي لهما استقبالهما لو حضرا. وجاء الأحد الذي يليه وتوقف الخواجه إبراهيم عن أن يذوق طعاماً أو شراباً حتى يصل ابنه الطبيب، وطال انتظاره له ساعات وساعات حتى غلبه النوم، فقام إلى فراشه مكتئباً وقد داخله هم لا يعرف من أين أتاه، أو هو يعرف ولكنه يداري نفسه هروباً من مواجهته، حتى فزع بآماله إلى الكذب، وعند منتصف الليل جاء الطبيب إلى الدار وعليه من آثار الاجهاد ما يظنه في نفسه شفيعاً، واتجه إلى حجرته بخطوات متعبة، وتبعته أمه وهي تقول له: أين كنت اليوم بطوله يا بني؟! إن أباك لم يذق طعاماً ولا شراباً اليوم؛ لأنه يكره أن يكون مكانك خالياً من غداء الأحد، وهذه هي المرة الثانية التي يتكرر فيها ذلك على التوالي، فهلا ترفقت بنفسك وبأبيك وبنا جميعاً فيما تقبله من واجبات بسبب تخلف زملائك عن نوبات عملهم، بل هلا رحمت أباك وترفقت به بعد أن تقدمت به السن؟ وترفق عبده بأمه وهو يجيبها إلى ما سألته، لكنها عادت تلح وتسأل وهو مرهق مجهد، فقال لها: يا أماه! وحشد لها من صنوف المعاذير ما يظنها اقتنعت به، وهما لا يزالان في حوار إذا بمساعده في المستشفى يطرق الباب ويطلب من الطبيب الحضور إلى المستشفى على عجل لوقوع حادث كبير تضاعفت بسببه الحالات، لذا تعين استدعاء كل الأطباء، ولكن عبده لم يكن قد مضى على حضوره لداره ساعة وبضع الساعة قضاها في حوار مرير مع أمه، ولم ينل قسطه المقرر من الراحة أو حتى بعضه، ولكنه طلب من أمه أن تعينه على استبدال ملابسه ليمضي فوراً مع مساعده الذي لا يزال واقفاً بالباب. ثم انطلق الطبيب مع مساعده، ولفهما الليل ولف المكان سكون مبهم من ذلك النوع الذي ينبئ بقرب هبوب عاصفة قوية، وفي الليلة الثانية جاء من المستشفى من يستدعي الطبيب عبده؛ لأن الطبيب المناوب قد اعتذر فجأة، وبعدها تكرر الطلب في جوف الليل من جديد مرة بعد مرة، وتنوعت الأعذار حتى جاء يوم الأحد الثالث وأبوه يتابع ولا يتكلم، فقد غشيه من الهم غاشية لا قبل له بها، وعلى مائدة الغداء جلس ينتظر ولده ساعات، وبه من الهم والكرب والهواجس والشكوك ما يهد كيانه ويزلزل وجدانه، وتحامل الأب على نفسه وهو ينهض بعيداً عن المائدة فاختل -أي: كاد يسقط- لولا أن أعانه بنوه، وأمرهم بأن يجلسوه على مقعد مقابل لمدخل الدار، وبقيت عينه شاخصة لكل قادم، لكن ساعات طويلة مضت وهو على ما هو عليه، حتى قارب الليل أن ينتصف وغرقت الدار في سكون حزين مبهم. وأقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاث مرات متواليات فألفى أباه لا يزال جالساً لدى مدخل الدار، فتمالك نفسه وحياه، ولكنه لم يرد التحية، وبادره قائلاً: أين كنت طوال اليوم -وهو يوم الأحد-؟ قال الطبيب متلطفاً: بالمستشفى كعادتي يا أبي، وساد بينهما الصمت فترة حتى تمالك الرجل نفسه، وقال في هدوء مصطنع: إن أمرك يا بني لم يعد خافياً علي، خاصة بعدما تكرر غيابك كل يوم أحد، ولقد اجتمعت عندنا دلالات خطيرة عن سلوكك في العامين الأخيرين، وهي دلالات أيقظت في نفسي ظنوناً تكاد تقتلني حسرة على ما آل إليه أمرك، وما صرت عليه من حال، فهلا حدثتني بحقيقة الخبر وصدقتني القول؛ فإنني لأجد الحقيقة -مهما بلغ سوءها- أرحم بي مما أنا فيه. قال الطبيب الشاب: إني محدثك بالصدق يا أبي، فما هي هذه الدلالات والظنون التي تشير إليها؟ قال الوالد: كتاب المسلمين، وجده الكواء في جيبك من نحو عامين، وقد كتمت الأمر ظناً مني أنك ستعود إلى صوابك ورشدك فتنتهي عما أنت فيه، وها هو الكتاب فانظر إليه جيداً، أليس هذا الكتاب يخصك؟ أجب أيها الضال؟ سكت الطبيب لحظة، ثم قال: بلى يا أبي، الكتاب يخصني فعلاً. فثارت ثائرة الأب لجرأته، فعاد يقول: وأخوك سليم رآك من ثقب الباب وأنت تقوم وتقعد على غير هيئة الصلاة عندنا، ولقد حدّث أمه بما رأى فكذبته ونهرته، لكنها راقبتك بنفسها، وقد ثبت عندها صدق مقالة أخيك، فهل تفعل هذا حقاً حين تخلو إلى نفسك في حجرتك بداري؟ سكت الطبيب وقد بدا له أن الأمر جد ما بعده جد، وعاد الوالد يقول: لقد أصابني من ذلك ما لا قبل لبشر باحتماله، ولكني كنت أؤثر الصمت، وأنا أحمل ذلك كله في حبك للبحث والمعرفة -أي أن الأب كان يظن أن ما يفعله ولده هو مجرد حب المعرفة والاطلاع- حتى كان الأحد الذي مضى منذ ثلاثة أسابيع، ثم الذي بعده، ثم هذا اليوم الأسود حين اتصل غيابك عنا اليوم كله، وتكرر خروجك في الليل، لقد ظننت أن هذا التصرف الغريب من جانبك له صلة بهذا الشهر الذي يصومه المسلمون الآن، والمسمى بشهر رمضان، فهل أنت تفعل فعلهم فيه أيضاً أم هي المصادفات؟! وفوجئ طبيب الامتياز الغارق في البحث والتنقيب العلمي والتدريج التطبيقي العملي بهذا الموقف المفاجيء من أبيه، وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً، وإصراره على ممارسة العبادات قبل أن يستقل بحياته كما نصحه صاحباه بعدم التعجل، لكنه رأى -وقد انكشف الأمر- أنه قد آن له هو الآخر أن يستريح، وأن يفرغ من حالة القلق التي يعيشها منذ عامين أو أكثر، وأن ينفض عن كاهله هذا العبء الذي أرهقه، فأقبل على والده مشفقاً عليه وعلى نفسه وهو يقول له: لقد وعدتك يا أبي أن أكون صادقاً، وأنت تعلم أني ما كنت لأخفي عليك أمراً مصيره إلى العلانية حتماً، وإنما أردت أن أؤخر حديثي إليك في هذا الشأن حتى تخف واجباتي بالمستشفى. ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول: ولكن ما دمت الآن تستعجل معرفة حقيقة الأمر. فاعلم يا أبي -هداني الله وهداك- أني بالبحث الدقيق الواعي قد وجدت أن الدين الإسلامي هو الحق، وقد اقتنعت بما فيه، وأنه قد بعث نبي كريم بالقرآن كما بعث من قبله من الأنبياء بالكتب. قاطعه الوالد مستفهماً: ودينك الذي عليه آباؤك وأجدادك كيف وجدته، وفي أي مراتب الضلال صنفته أيها المجنون العاق؟! لابد من أنك قد فقدت عقلك -أيضاً- حين فقدت دينك! قال الطبيب الشاب: أي ضير -يا أبي- يمس الأديان السابقة إذا جاء دين جديد يصحح ويتمم الذي جاءت به الرسل من قبل؟ وعاد أبوه يسأله: هل تعرف ما تتكلم عنه -أيها الشيطان- أم أن في الأمر سراً نجهله؟ أم لعلك على صلة بفتاة مسلمة اشترطت عليك عدم اقترانك بها إلا أن تدخل في دين الإسلام؟! إذا كان الأمر كما أقول يا بني فترفق بي، ولدينا من جميلات أسر النصارى ما يسرك، وكلهن طوع البنان، إن ما أحدثك فيه أمر سهل، وطلبك فيه مجاب، أما أن تدعي على صغر سنك أنك قد تعلمت ووازنت بين الأديان وهديت إلى الحق منها فهذا جهل فاضح بتعاليم دينك. إن المسلمين -يا بني- لا يعرفون الأقانيم، ولا يؤمنون بأن عيسى هو الرب المخلّص أبانا يسوع الذي في السماء، وهم لا يعترفون -أيضاً- بالمسيح الحي، وهم وهم وهم، واستمر الوالد يعظ ابنه وهو يظن أنه يجهل حقائق دينه، وصابر الطبيب برهة حتى أتم والده حديثه، وتقدم منه خطوة وقد استجمع ما تفرق من نفس

موقف النصارى من إسلام الدكتور عبده ومناظراته معهم

موقف النصارى من إسلام الدكتور عبده ومناظراته معهم لقد حدث ما توقعه الجميع، فالغيورون من أهل عبده -سواءٌ منهم الأقربون والبعيدون- قد بحثوا عنه حتى وجدوه، وحقاً لم يرهقهم البحث؛ لأنهم يعلمون أنه لا ملجأ له إلا صديقيه، وخاصة منزل صدقي. فتوافدوا عليه جماعات ووحداناً، وتكررت مناقشاتهم معه، وتواكبت ملاحقاتهم له في السكن والعمل، وأراد عبده أن يضع لهذه المناقشات والمضاربات نهاية حاسمة بدلاً مما هو فيه من المتاعب كل يوم وكل لحظة، خاصةً أن مستقبله يوشك أن يبدأ على وجه يرضيه، فقال لهم: ما حاجتكم مني وما هدفكم من مطارداتكم؟ قال أرشدهم-وهو خاله-: يا بني! إنك فرد مرموق في أسرتنا وفي جملة القبط كلهم خُلقاً وحسن سمعة، ثم إنك توشك أن تكون طبيباً، وهذا الذي فعلته خسارة لا نطيقها فضلاً عن أنه فضيحة وعار لأسرتك وللنصارى في مصر وغيرها من البلاد، فهلا استمعت إلينا؟ قال: إني مستمع إليك لعلي بذلك أصل معكم إلى حل يحفظ لي ولكم أوقاتنا ومصالحنا. قال أرشدهم: إن أباك يدعوك إلى أن تسمع من رجال الدين كلمة الحق، وهم -لابد- أقدر منا على تبيان أوجه الضلال الذي أوقعك فيه خصوم ديننا. قال الطبيب الشاب: ما أوقعني أحد في ضلال، فافهموا عني هذا، وإنما هداني رب العالمين. قال قائل منهم: إن كنت مؤمناً بفعلتك هذه عن بينة وحجة فماذا عليك لو أنك واجهت علماءنا؟ قال: لكم ما تريدون. فسألوه عن المهلة فقال: أي موعد تريدون؟ قالوا: ارجع معنا الآن إلى دارك وهناك نضرب مع أبيك الموعد ليكون برضاه وفي حضوره. وبعد كثير من الترفق والمحاورة الطويلة انتهى الأمر إلى أنه عزم على الذهاب إلى بيت أبيه، وقبل أن يذهب إلى بيت أبيه توجه إلى الشيخ محمد رشيد رضا -وكان يختلف إلى مجلسه من وقت لآخر- وقص عليه جملة الخبر، فبين له الشيخ ما غاب عنه، وأيده بالأدلة من الكتب القديمة بوجه خاص، كـ (إظهار الحق) و (مقامع الصلبان) وشروح أهل الكتاب، وزوده بالأسئلة المضادة، وكيف يرد على شبهاتهم، وغير ذلك من القضايا التي فاتته في مناقشاته. وذهب في الموعد إلى دار أبيه، وقد أنفق أبوه بسخاء لإنقاذ ولده الأكبر مما هو فيه، وليمنعه مما هو مقدم عليه، لكنه نفد صبره وهو يرى ابنه يأتي إلى المسكن ليلاً، فلما وصل إلى بيت أبيه بدأت الجلسة هادئة، والكل ينصت لما يدور من قرع الحجة بالحجة، والنصوص حاضرة تتلى من مراجعها على مسمع من الجميع، ولم يعد كبير مجال للتهوين من تصرف الطبيب الشاب على أنه رأي فرد ضال، كما لم يبق مجال للقول بأنه قد وقع تحت عامل الإغراء الذي ربما أحاطه رفاقه به، وأدرك الحاضرون أن الأمر في غاية الجد، فشددوا هجومهم، لكنهم وجدوا لكل سؤالٍ جواباً، ثم وجهت لهم منه أسئلة مضادة استشعروا وهم يجيبون عنها أن ألسنتهم كانت تلوك العبارات في غير وعي ولا تعقل. وكانت المناقشة من أقوى المناظرات في نقض عقائد النصارى، وهي طويلة إلى حدٍ بعيد، وتعكس مدى تعمقه في تلك الفترة في دراسة العقائد النصرانية وأيضاً في دراسة الإسلام؛ لأنه تكلم -في الحقيقة- كلاماً مفصلاً جداً، وألجمهم، حتى إنهم ما استطاعوا أن يردوا عليه بكلمة واحدة! فدار الحديث عن التجسد، وعن الأقانيم الثلاثة، وموضوع البنوة، وجرأتهم على الأنبياء، ودعوى أبوّة الجسد لـ يوسف النجار، وموضوع الصلب وأصله الوثني، والقيامة، ثم الكلام عن الإسلام، وحقيقة الوحي، وحقيقة القرآن، وحيرة أهل الكتاب من إعجاز القرآن إلى غير ذلك من المسائل، وكان يسرد الكلام بأسانيد علمية في غاية القوة، فأنهوا الجلسة واتفقوا على أن يخرجوا بقرار أن الجلسة القادمة يحشدون له فيها فريقاً من أكبر علمائهم حتى يناظروه في جلسة تالية. وقد بلغ من تأثير الطبيب عليهم أن باتت عندهم القضايا التي كانت يقيناً معلقة! فقد قالوا: هذه القضايا معلقة. أي: لا نستطيع أن نرد عليك فيها. واهتزت النصوص التي طالما حفظوها على شفاههم، وعادت أسئلتهم من عنده بغير معنى، وأيقنوا أن اللجنة قد عجزت، فماذا كان الجواب؟! أعلنوا في هذه الجلسة على الجميع أن عبده ابن الخواجه إبراهيم عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلّت عليه اللعنة الأبدية لهذه الكنيسة ما لم يرجع إلى رحمة أبينا يسوع المسيح مخلّصنا وراعينا، وأن الكنيسة -رحمةً به وحنواً على أبيه المسكين- قد منحته فرصة العودة إلى دين آبائه وأجداده بالحضور يوم الأحد في ذات المكان أمام عدد من الآباء لنصحه وهدايته. ثم بدأوا يسألون أباهم وإلاههم يسوع المسيح أن يكتب له العودة إلى حضيرة رحمته، وأن لا يصير من الفرق الضالة مؤمنين على هذا الطلب بعد ذلك. وكان بعض الحاضرين من النصارى متشوقين إلى استمرار الجلسة لشدة تعطشهم إلى سماع إجاباته، والاستفادة والاستزادة من علمه؛ لأنهم سمعوا لأول مرة فكراً جديداً ونقاشاً فريداً ودفاعاً عنيداً جعلهم في شوق إلى معرفة نتيجة محددة، خاصةً لمّا رأوا أن القساوسة قد عجزوا أمام هذا الفرد الذي تخلف عن السير في موكب آبائه وأجداده، فهاجوا وماجوا وتدافعوا وتصايحوا، لكن كبير الجلسة نصحهم بالهدوء حتى لا يشرد منهم هذا الخروف الضال! ووعدهم بأن يوم الأحد قريب، وأنه جمع للمباهلة فُحُول علماء أهل الكتاب والمفسرين وكبراء التبشيريين، فهدأت ثائرتهم، ولكن إلى حين! وجاء يوم الأحد الموعود، واحتشد الأهل والأقارب وكل من يهمه الأمر ليرى هزيمة هذا الطبيب الذي انخدع وصبأ عن دينه الحق إلى المسلمين، وهم يهددونه ويتوعدونه لئن لم ينته عما هو مقدم عليه ليمزقنه إرباً وليصيرنه عدماً، وأن هذه هي الفرصة الأخيرة له ليرجع إلى دين يسوع المسيح. انبرى كبير القساوسة في الجلسة وهو يتطاول في كرسيه على الحاضرين بما حفظه ولقنه قديماً في الكنيسة في الكلم، فقال كلاماً شركياً نطهر أقلامنا وألسنتنا عن حكايته. لكن الطبيب عبده ردّ عليه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم إله واحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، سلام على المهتدين، والحمد لله رب العالمين، فضّل المسلمين بالإيمان على جميع الأجناس، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، أُوحّد الله بموجبات توحيده، وأمجده سبحانه حق تمجيده، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، ولا أشرك بعبادته سبحانه أحداً، وأصلي وأسلم على من جاء بالهدى، خالص أصفيائه وخاتم رسله وأنبيائه، سيد ولد آدم، بعثه ربه في الأميين ليخرج البشر من الظلمات إلى النور، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. صلى الله عليه وسلم من نبي كريم على خلق عظيم، بعثه الله على فترة من الرسل موضحاً للسبل، داعياً إلى خير الملل: ملة إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. فرد عليه أحد القساوسة بقوله: عجيب أمرك أيها الفتى الضال، وعجيب أمر أصحابك الذين أضلوك عن كتابك ولقنوك من الكلام ما قد سمعناه منك الآن حتى صرت أشد منهم حماساً لدينهم، وأحفظ منهم لآيات كتابهم، فأصبحنا نراك قد نسيت دينك ودين آبائك، وهو الدين الذي عليه نشأت وترعرعت، فربَّ عقلك، وأصلح فساد نفسك! فرد عليه عبده: واللهِ الفرد الصمدِ الواحدِ الأحدِ ما أضلني ولا أغواني منهم أحد، وإنما هداني إليه ربي، وساقني إليه فطرتي، واختاره لي صحيح عقلي، ودلني عليه عافية نفسي، فرأيت فيه ما لم أر في غيره من الشرائع والأديان من النور والهدى والحق والصدق، فتمسكت به ولزمته؛ لأني وجدت فيه تمام عقلي، وصلاح أمري، ومنطلق فكري، وشفاء روحي، وجواباً راجحاً لكل سؤالي، فليس هذا الدين كدينكم الذي يمجد الفقر، ويسوّغ الذل، ويورث العقل الخلل، ويحيل المرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً؛ لأن من كان في أصل عقيدته التي نشأ عليها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى فأولى به أن يستحل الإساءة إلى المخلوق، فكيف أترك ما هداني الله إليه من الكمال والنعمة بعدما بدا لي من جهلكم وتحريفكم لدينكم؟! ولست مجادلكم إلا بالتي هي أحسن، فما في الإسلام حض على مخاصمتكم ومعاداتكم، بل هو أرحم عليكم وأحنى حتى من دينكم لكم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64]. فصاح أحدهم: بل نقرعك الحجة بالحجة، فإن كانت لنا الغلبة عدت إلى دين الخلاص، وإلا تركناك تتخبط فيما مسّك من جنون، فتكون من الخاسرين الذين تصيبهم لعنة الرب إلهنا يسوع! قال الطبيب الشاب: قد قبلت التحدي، ووالله إن ضلالاتكم قد سارت مسير الشمس، وبواطلها قد لاحت لعيون الجن والإنس، فوالله لا يخذلني الله أمامكم، وأنتم قوم غيّرتم فغيّر بكم، وأطعتم جهالاً من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتم البشر بالتعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن مدح القلم ولم يمدح الكاتب، على حين أن حركة القلم لا تكون بغير الكاتب، وهأنذا على قصور سني وقلّة مطالعتي أقبل منازلتكم، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. ودارت بينهم مناظرة لا نستطيع ذكر تفاصيلها؛ لأنها طويلة، وكانت في غاية الإمتاع، وهي من أقوى ما يمكن مدارسته في تحطيم النصرانية حجراً حجراً بحيث لا تقوم لها قائمة أبداً؛ لأنه ما ترك أي قضية إلا تكلم فيها بمنتهى القوة، وبالحجة الناصعة، مع أنهم في كل مرة كانوا يستعينون بقساوسة جدد، وهو يناظرهم بمفرده فيغلبهم! وبعدما أحرجهم جداً قال لهم: فماذا أقول لكم وقد ضللتم واهتديت، وكذبتم وصدقت، ودعوتم علي ودعوت لكم، وأهنتم محمداً صلى الله عليه وسلم وعظمتُ عيسى علي

من هو عيسى عبده؟ [2]

من هو عيسى عبده؟ [2] لاشك أن من منّ الله عليه بالهداية وعرف الطريق المستقيم، فإنه سيعيش في سعادة عظيمة؛ لأن الإسلام إذا خالطت بشاشته القلوب أصبح الإنسان يسير في هذه الحياة على نور من ربه، فيرى الأشياء بعين البصيرة، ويحفظ الله له ذريته من بعد موته، ويوفقهم للهدى والصلاح، وفي القصة التي بين أيدينا مثال عظيم على ذلك.

قصة زواج الدكتور عبده وما صاحبها من أحداث

قصة زواج الدكتور عبده وما صاحبها من أحداث نظر الطبيب الشاب فيمن حوله باحثاً عن مجتمع يعوضه عن أسرته التي لم تهتد فإذا النصارى يحيطونه بنظرات الحقد والمرارة، وإذا المسلمون يترقبونه في حيطة وحذر، فرغب في البعد عن الناس طلباً للهدوء ولمزيد من الاطلاع، فلم يجد خيراً من أن تكون خدمته الوظيفية في السجون حتى يبتعد عن الناس، فالمسلمون يشكون فيه وينظرون إليه بحذر، والنصارى يؤذونه. فبدأ حياته الوظيفية سنة (1905م) طبيباً في بعض السجون بمديرية الجيزة، وتهيأ له -بعد ذلك- البعد عن مجتمعه السابق من جهة وقربه من القاهرة من جهة أخرى، فكان يقضي ساعات العمل بمكتبه في مستشفى السجن، وكانت له دار ملحقة بالمبنى ذاته، وحول هذه الدار حديقة صغيرة. وعاش حياة طيبة بين وعظ السجن وبين السجناء، وكان يتعايش معهم، لكنه كان في وحشة شديدة في دخيلة نفسه، فأشار إلى زميله صدقي أنه يريد أن يستقر في دار وأسرة، فإن رزقه الله بزوجة صالحه فإن حديقة السجن ستكون في تقديره جنة نعيم. ومن أجل إتمام هذا الأمر وكل أصحابه ليخطبوا له على أساس شروط معينة، فأخلفوا الشروط وظنوا أن الأمر سيمر، فأعلنوا الخطبة، وحدد موعد العقد والزفاف على أن يكون بعد أيام قليلة، فلما دخل الرجل لينظر إلى مخطوبته نفر منها جداً، وغضب وانصرف عنها، فكان هذا الأمر قاسياً على أسرة هذه الخطيبة، وبالتالي بدأت تنتشر الإشاعات الخطيرة جداً حوله كردّة فعل، ومعلوم ما في مجتمعاتنا من سهولة ثوران هذه الشائعات، فأشاعت أسرة الخطيبة أنها قد اكتشفت أن عبده كافر متلاعب! وهذه من العبر التي ينبغي تأملها، حيث يظهر لنا صدق الإيمان من رجل تحمل الأذى من جميع الأطراف، بما فيها المسلمون، حيث إن بعض المسلمين آذوه أذىً شديداً كما سيأتي. وانتشر ما أشاعته هذه الأسرة من أن عبده كافر متلاعب، وأن له زوجة وأولاداً من دينه الأصلي، وقد اكتشفوا ذلك وغيره مما لا ينبغي ذكره كما يزعمون، ولذلك رفضوه وطردوه، وتناقلت الأسر فيما بينها هذه القصص والشائعات، وكل من يسمعها يحكيها بأسلوب جديد غريب بعد أن يضيف إليها ما ينسبه إلى نفسه من أنه رأى وعاين وتأكد وكان أول من اكتشف ذلك بذكائه! إلى غير ذلك مما يظن الرواة أنه يزيد القصة عجباً وإثارةً. فاستفحلت المشكلة، وحصل لـ صدقي وعبده إساءة شديدة جداً لسمعتهما في الحي وفي المنطقة من الأهل والجيران، وتناهت الأخبار المشبوهة المزيفة إلى شيوخ الحي وأفاضل سكانهم، وكان من هؤلاء الشيوخ البارزين والرجال المعروفين الشيخ عبد الحميد مصطفى، وكان قد درس العلم في الأزهر الشريف حتى خيف على بصره من شدة طلب العلم، فتوقف عن الدراسة بأمر الأطباء، واشتغل بمقاولات المباني فلقي في عمله توفيقاً، وقد اشتهر في حياته الخاصة بين أهل الحي بكرمه وكرامته والصدق في معاملته، وحسن عشرته للناس، وقد وصلته الأخبار المشوهة والشائعات السيئة، فاعتبرها عبثاً من شباب غير مسئول، وعدّها استهانةً من صدقي وصاحبه بكرامة أسرة محافظة تعرضت سمعة فتاتها للقيل والقال، وقد حصل الضرر بسببهما على الأطراف كلها، وأنه يجب أن يحاسب هذا المتلاعب وصاحبه على ما اقترفاه في حق الفتاة وفي حق أسرتها. فأراد الشيخ أن يأخذ موعداً معهما لحل هذه المشكلة، فكان كلما حاول مقابلتهما كانا يمعنان في الهرب من الشيخ، إلى أن تمكن الشيخ من مقابلة صدقي، فلم يبق له مفر من المواجهة والحساب، فأمسك الشيخ بيد الطبيب صدقي واقتاده إلى مكان معروف جلس فيه معه لتصفية الحساب. ثم قال له: كيف سمحت لنفسك ولزوجك أن تفعلا ما فعلتما وأنت الآن طبيب مؤتمن على خصائص الناس، بل إنك ربما عرفت -بحكم تخصصك- من أسرار الناس ما لا يعرفه غيرك؟ فأي جناية هذه يا بني؟ وأي خطأ ارتكبته في حق أهلك وجيرانك من أجل صداقتك لهذا الكافر المارق؟! فما كان من صدقي إلا أن صبر على هذا حيث كان يحترم الشيخ لسنّه ولمكانته وصداقته لأسرته، ثم قال له: عفواً سيدي الشيخ، فهلا سمعت القصة كما وقعت فشهدت لي بالبراءة مما أثاروا حولي وحول زوجتي وحول صاحبي، وحسبي عقاباً لي على وساطتي ما وقع علي من ظلم في شائعاتهم. قال الشيخ عبد الحميد: أجل أسمع منك، على أن لا تقول غير الحق، ولا تنطق بغير الصدق، وأنا أحذرك يا صدقي من محاولة خداعي، فلست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني. قال: بل أصدقك القول يا عم، وكل ما أرجوه منك أن توسع لي صدرك حتى أتم حديثي، فنحن لم نجرب منك إلا العدل. وشرح له القصة بالتفصيل الشديد. ثم قال له الشيخ: ما اسم صديقك؟ قال: اسمه عبده إبراهيم. قال: وما كان اسمه قبل أن يعلن إسلامه؟ قال: عبده إبراهيم عبد الملك. قال: أفلا يتخذ له اسماً جديداً يدل على فضل الله عليه أن هداه إلى الإسلام؟ حيث إن العادة أن النصراني إذا أسلم يغير اسمه، ويختار اسماً واضحاً في دين الإسلام، وهذه نظرة من نظرات عبده الخاصة، وهو سر سيتضح فيما بعد حيث إنه أصر على اسم عبده ولم يوافق على تغيير هذا الاسم. قال صدقي: لقد نصحه بعض المحبين له -وأنا منهم- أن يتخذ له اسماً شاهداً على إسلامه، فاعتذر لنا بأن الإيمان الحق إنما يستقر في القلوب وتصدقه الأعمال، فهو لا يرى الإسلام أسماء ولا لافتات أو دعايات. فقال له الشيخ: أريدك أن تأتيني بصديقك في الغد. فلما أتاه به في موعد اللقاء حصل تعارف رائع أعقبته مقابلات كثيرة، وكان يدور الحوار بين الشيخ عبد الحميد وعبده إبراهيم في كل مرة، وتنوعت الأحاديث والمناقشات والأبحاث العلمية، وكان الشيخ عبد الحميد في كل مرة يكتشف فيه صفات جديدة من الصفات الطيبة. فزاد التلطف من الشيخ والمحبة الوثيقة والمودة بينه وبينهما، إلى أن كان الشيخ يثني عليه ثناء عطراً أمام صديقه صدقي هذا، وقد لفت نظر صدقي أمر معين، وهو ما يحيطه الشيخ بصديقه من المودة والمحبة، فقال له: إني أراك قادراً على كسب ثقة الشيخ ومحبته كواحد من أولاده، ولئن كنت وصلت إلى هذا الحد من المودة والثقة فإني لأرى لمشكلتك الكبيرة أحسن الحلول. فضاق عبده بهذه الإشارات البعيدة، وقال لصاحبه: ترى كم من الوقت أضعنا في تأملاتك وفي الفروض والاحتمالات التي تلمح إليها، فأرجوك أن تفصح عما تريد أن تقوله. فقال: إن للشيخ ابنة في سن الزواج، وهي كالتي طلبت في شروطك، ولئن قدر الله لك أن تحافظ على مودته واحترامه لك على نحو ما أرى في لقاءاتنا الأخيرة فإنه لا يرفضك خاطباً فيما أظن. فقال له: ما أراك إلا قد جننت! أي أمل هذا الذي يراودك؟! وعلى أي أساس يجوز لي أن أفاتح رجلاً فاضلاً كهذا في أمر المصاهرة له؟! فانتهى الأمر إلى أنه تقدم خاطباً، فوافق الشيخ، وبدأت في حياته وحياة الشيخ صعاب ما كان لها حساب عندهما. حيث أشاع الناس بأن القسيس الذي سحر من أسرة كذا -هي أسرة المخطوبة الأولى- قد أوقع الشيخ عبد الحميد في حبائل سحره هذه المرة، فحصل منه على وعدٍ بالمصاهرة، وكان لرب الأسرة في هذا الوقت هيبة عالية، ولكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة، فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة، واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها، وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر عنه من وعد بالقبول، فبدأت الشائعات تسري من جديد، وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة وضاق الشيخ ذرعاً، فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً، فتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب، وساعد على حصول المناسبة أن عبده حضر منفرداً إلا من صاحبيه، ولم يحضر معه إلا صاحباه. وكانت زوجة الشيخ -أم العروس- قد قاطعت العرس، وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد، والشيخ حازم فيما قرره، ماضٍ فيما عزم عليه، واتهم الناس الشيخ في عقله، إذ كيف يسقط هذه السقطة وهو من هو في رجحان العقل ونور البصيرة؟! لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده إبراهيم، بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما، وكاد الناس أن ينسوا موضوع الزواج.

مولد عيسى عبده وردود الأفعال حول تسميته بهذا الاسم

مولد عيسى عبده وردود الأفعال حول تسميته بهذا الاسم بعد سنة من زواج الطبيب عبده آن أوان الحمل -كما هو معروف- وعادت بنت الشيخ إلى بيت أمها لتقوم بخدمتها في وضع الولادة، فولدت المولود الأول، وما كاد اليوم الثاني ينتصف حتى حضر الطبيب الشاب، وأقبل على زوجته يهنئها بسلامتها، وقد جلب لها من الهدايا كل جميل، وأحضر لمولوده من اللعب والملابس كل نفيس رائع، ومضى ليسجل في سجلات الحكومة واقعة ميلاد ولده الأول، ثم ما لبث أن عاد وفي يده شهادة ميلاد ابنه عيسى، وأقبل على زوجته يرشدها -كونه طبيباً- إلى ما ينبغي عليها عمله من الاحتياطات، ثم استأذنها بعد أن اطمأن عليها وعلى ولده، وانطلق إلى عمله بسرعة، وجاء الشيخ ليطمئن على ابنته وولدها، فأخبرته بحضور عبده ثم انصرافه بعدما أثبت اسم الوليد بالسجلات، وسألها أبوها في فرحة: فماذا اختار لابنه من الأسماء؟ فأجابته ابنته دون وعي: عيسى. لكنها رأت من أبيها أمراً عجباً، إذ ما لبث حين سمع الاسم أن ضرب كفاً بكف، وقد تغير لونه، وتقطب جبينه، وظهر الغضب الشديد عليه، وهو يقول: عيسى عيسى! واعجباً لهذا الرجل! أو لم يجد في كل الأسماء التي خلقها الله اسماً جديراً بهذا المخلوق إلا هذا الاسم؟! أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم. وانصرف من عند ابنته وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وأحسّت ابنته أن امراً عظيماً قد حدث، كأن خطأً لا يمكن إصلاحه قد وقع، فما هكذا رأت أباها على طول ما عاشت معه ورأت منه، وباتت فريسة لأفكارها وهواجسها، أما الشيخ فقد اعتكف في داره أياماً لا يرى فيها أحداً. وأما زوجته فقد كانت تغالب دموعها، فقد تحقق للجميع أخيراً ظنها بهذا الطبيب وألاعيبه، وكانت إذا همت بالدخول على ابنتها كفكفت دموعها حتى لا تفجع ابنتها بما أسلمها أبوها له من مصير، وما جناه عليها بعناده وغفلته وانخداعه بأساليب هذا الطبيب الذي سحره. وفي اليوم السابع أضيئت الشموع ذراً للرماد في العيون، وتمويهاً على الأم البائسة التي ارتبطت بزوج قيل: إنه أسلم -بل وحسن إسلامه- فإذا به يعلن -في غير حياء ولا مواربة- أنه ما زال مخلصاً لماضيه ولدينه القديم! وإلا فبم يفسر اختياره اسم عيسى لولده؟! ولم يكد اليوم السابع ينقضي حتى غرقت أسرة الشيخ في موجة من الهم والحزن فوق الذي كان قد تجمع لها من قبل؛ حيث إن أقارب الطبيب عبده لما سمعوا أنه سمى ابنه عيسى أرسلوا وفداً ليهنئوه، وطمعوا بأنه سيعود إلى النصرانية، حيث إن تسميته لولده عيسى علامة على بقائه على دين النصرانية، فجاء أخوه بشير من حي الظاهر ليهنئ زوجة أخيه بمولودها الأول عيسى، ولم يكن بين أسرة الشيخ وأسرة الطبيب من قبل سابق ودّ ولا تعارف، فكانت لهذه التهنئة منهم معانٍ غير خافية عليه، لكن الشيخ تماسك وتصنع الثبات تصنعاً، حتى كان الغد، فخرج من الفجر ليلحق بالطبيب عبده في داره قبل أن يغادرها إلى العمل، فله معه شأن. وحين فتح الطبيب باب داره للشيخ فوجئ به يغلق الباب في عنف خلفه وهو يمسك بتلابيبه ويقول له: ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق؟! والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك، لقد سكتنا على التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام، وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك، ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها، أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم له من المعاني ما لا يخفى على أحد، ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك، إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا وشماتته لمصير ابنتي المسكينة التي جنيتُ عليها حين قبلتُ زواجك بها، فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة. ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً، والدماء تندفع من صدره إلى جبينه حمراء قانية، والشرر يتطاير من عينيه، ويشير إلى ما بداخله من غليان براكين الثورة. فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى يسكن غضبه، لكن حالة الشيخ كانت تنذر بأنه قد أضمر أمراً خطيراً، وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء، إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه، وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه. فناظره الطبيب قائلاً: يا عم! اقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي، ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ ارتضيت مصاهرتي لك، فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن؟! وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي وملاحقة أهلي لي بالتهديد والويلات والأذى وطردهم لي من دار أبي وهجري لأهلي ولجوئي إلى الحق والهدى كان كله تمثيلاً وعبثاً؟! وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب؟! فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك؟! وإذا كان ذلك مما كان يجوز لي وأنا على غير الحق فكيف أستجيزه لنفسي وقد عرفت الله ورسوله والقرآن؟! يا عم! إن كنت أردت بعدما قلته لك -والله على ما أقول شهيد- أن تبيدني فهأنذا بين يديك، ما تغيرت عن الإسلام ولا استبدلت، فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي، وليس لي الآن من الناس بعد ولدي من هو أقرب إلي منك، ستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً، وسأقبل حكمك أياً كان. فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر لعلي أحدثك بما عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي؟ وكانت لهجة الطبيب هادئة رغم ما صبّه عليه صهره من لوم وتقريع، ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره من فزع أحاط الأسرة، وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع. قال له: تكلم وقل ما عندك، ولا تخف عني شيئاً، ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم جزاء صنيع المعروف معك. فابتسم الطبيب وهو يقول: كأنك لا تريدني -يا عم- أن أتكلم. قال: بل هأنذا مصغٍ إليك واعٍ لما ستقول، والله وحده يعينني على ما أنا فيه. قال الطبيب الناشئ: إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو، وإني أسير على الدرب لا أحيد، وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل، وفي ظني -والعلم عند الله جل شأنه- أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني هو أكبر نعمة منّ بها الله علي بعد نعمة الإسلام. فتمتم الشيخ في صوت حزين: تقول: أكبر نعمة؟! اللهم! إنك أنت السلام، ومنك السلام، اللهم! أفرغ علينا صبراً من عندك، فلا حول ولا قوة إلا بك. عاد الطبيب يقول: نعم. قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي بأن الله قد استجاب دعائي، فله الحمد في الأولى والآخرة. ثم استطرد يقول: إنني حين تمسكت لنفسي بعد إسلامي باسمي الذي كان قد اختاره لي أبي -فهو كما تعلم- عبده - تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب، وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أبنائي، وأن أدعوه عيسى، وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة. فقاطعه الشيخ محتداً: وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت؟! فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة من الغضب وقال: يا سيدي! صبراً، فما أتممت كلامي بعد. واستطرد يقول: إلى هنا وأنت ترى أن الأمور التي وقعت لا تستوقف نظرك، ولا تثير فيك عجباً، أما أنا فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع آمالاً ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء، آمالاً سهرت من أجلها الليالي الحالكة التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت، وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده. قال الشيخ: وما هذا الرجاء؟ قال الطبيب: إنه -إن شئت- رجاء، وإنه -إن شئت- عهد وميثاق إذا نحن أمعنا النظر، فلقد كنت عاهدت ربي إن هو رزقني بصبي لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة، ولأدعون له بطول العمر، وبالتوفيق لما فيه رضاء الله، بأن يكون له في حياته -ومن بعد مماته- أحسن الذكر على ألسنة العباد. وهذا ما وقع، فإن فضيلة الدكتور عيسى عبده رحمه الله كان من الناس العظماء في الاقتصاد الإسلامي كما هو معلوم، وكان من الناس الذين غذوا الصحوة ورووا جذورها في بدايتها. فضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه، فقاطعه قائلاً: وأي والد لا يرجو لولده مثل ما رجوت لولدك؟! وأية صلة بين هذا الرجاء وذلك الميثاق وبين اختيار اسم المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك الذي تريد له الخير فيما تقول؟! قال: يا عم! إني لا أحصي ثناءً على ربي، ولا أقدر على حمده جزاء ما أنعم به علي، ولذلك جعلت من وجود هذا الولد شهادة تنبض بالحياة -ما بقيت له الحياة- بأن عيسى عبده يعني: عيسى ليس هو الله، وإنما عيسى عبده، فكلما ذُكر اسمه يقال: عيسى عبده، أي: ليس عيسى هو الله، لكنه عبد الله، وما هو بولده، ولا هو الإله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-، فكل ما ذكره الناس غائباً أو حاضراً، حياً أو ميتاً كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل بأن عيسى عبده! ولقد استجاب ربي لأول الدعاء، وها هو المخلوق الصغير حقيقة ماثلةً بين يدي، وشهادة مني بما آمنت به، وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى لقادر على أن يمد في أجله، وأن يهديه سواء السبيل حتى يكون أهلاً لحمل هذه الشهادة التي فرقت في حياتي الخاصة بين ضلال كنت فيه وهداية أرجو أن تزيد. ثم قال: يا عم! لا ندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح؟ ولا ندري هل كتب له من طول العمر أم لا؟ ولكني أعلم من الله أنه ما خذلني ولا أسلمني لأمر لا أحبه منذ سَرَت في أطرافي قطرات الماء عند الوضوء أول مرة، وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى، وقد دعوت الله سبحانه وتعالى أن يرزقني ولداً ثانياً يكون اسمه محمداً حتى يحمل اسم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب الغضب عن الشيخ، وتبدل القلق إلى رجاء واطمئنان، ثم قال له: يا عم! إذا فرغت من الشهادة التي أرجو أن تكون شفيعة لي عند الواحد الأحد -وهو يقصد بالشهادة عيسى عبده - وفيها توحيد العبادة لربي فهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة أن لا إله إلا الله سوى

موقف الطبيب عبده من لجوء والده إليه عند الشدة

موقف الطبيب عبده من لجوء والده إليه عند الشدة في يوم من أيام سنة (1909م) والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة على مقربة من السجن، والوقت بعد الظهيرة، والحر قائض، والطبيب قد أنهى عمله وعاد إلى داره إذا بأحد مساعديه يصعد الدرج مسرعاً ويقترب منه، ويهمس في أذنه كلاماً هاماً، وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع، ورفع الطبيب صوته متسائلاً: وأين هو الآن؟ قال: إنه يقف بباب الدار. ونزل الطبيب الشاب مسرعاً من فوره، وعاد ومعه ضيف من القاهرة، كان هذا الضيف هو الخواجه إبراهيم والد الطبيب، وقد وصل فجأة بعد قطيعة تامة ومتصلة، منذ كان ولده في مرحلة الامتياز بالقصر العيني، فدخلت الزوجة والمربية والطفلان إلى داخل الدار، وبقي الطبيب ووالده لا يجدان عندهما ما يقال بعد أن كانا قد تبادلا التحية والمجاملة في اقتضاب. قال الطبيب: كيف أنت يا أبي؟ وكيف حال أمي وإخوتي؟ ولما هم الوالد بالجواب احتبست الألفاظ في صدره، واحتمل رأسه بين يديه لحظة، ثم انهارت بقية المقاومة التي كان يعانيها منذ وقت طويل مضى، فانفجر ينتحب كالثكلى، ولم يحاول ابنه أن يمنعه، بل تركه برهة وأخلى له المكان حتى يفرج عن نفسه وهمومه، وأقبل عليه حينما عاوده الهدوء وقال: ماذا بك يا أبي؟ وكيف أمي وإخوتي؟ قال: إنهم بخير نحمد الرب، ولكن أباك هو الذي على حافة الهاوية! قال: هون عليك، وأشركني فيما يئودك حمله لعلي أكون في عونك. قال: لهذا جئت إليك، ولا أخفي عنك أنني ما سعيت إليك إلا بعد أن انسدت الدنيا كلها في وجهي، وكادت الفضيحة أن تحطم حياتي. ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول -وقد تهدج صوته من جديد-: يا عبده! إن البيت الذي ولدت فيه ونشأت حتى أتممت معظم دراسة الطب هذا البيت الذي يأوينا ويتسع لأسرتنا كلها سيباع في غدٍ بأبخس الأثمان أمام دائرة البيوع بالمحكمة وفاءً لدين استحق للبنك، وكان الدين صغيراً، ولكن الفوائد ومصاريف التقاضي ضاعفته، وأختك -يا عبده - ابنتي الكبرى سيكون زفافها بعد أسبوع واحد، ولا أعلم كيف أواري فضيحتي المالية وطردي من بيتي عن أصهاري الذين يحسنون بي الظن، ومن أجل ذلك جاءوا للمصاهرة! وأي مصير سيواجه شقيقاتك الأخريات إذا ما خاب زواج الأولى بسبب إعلان إفلاسي؟! فأظلمت الدنيا في وجهي. وخانته قواه فعاد يبكي وينتحب في مرارة شديدة. وسأله ابنه: كم تبلغ القيمة؟ قال: ثمانمائة جنيه والبيت -كما تعلم- يساوي أضعاف هذه القيمة، ولكن جلسات البيع يسودها جو من المناورات والاحتكار البشع، وإن موظفي البنك أنفسهم يحيطون مثل هذه البيوع بإجراءات جهنمية، تكفل لهم توجيه البيوع على هواهم. قال الطبيب: إن هذا لعجيب! أوليست المحاكم تقوم من أجل الحق والعدل؟! فبكى الوالد ثم نظر وقال: بني! إنك تعيش في برجك العاجي بعيداً عما يدور في الأسواق من ظلم وفساد، إن الدَّين الصغير -يا بني- يكفي للإطاحة بثروة كبيرة، خاصة إذا وصل الأمر إلى دائرة البيوع، ومن حول الجلسة زبانية يتسمعون الأخبار ويتعارفون على كل وافد للمزاد. قال الطبيب: لماذا لا ندفع جانباً من الدين ثم نتدبر في أمر الباقي؟ فكأنه شعر أنه لا يريد أن يمد له يد المساعدة فقال: يا بني! يا عبده! قلت لك: إن هذا كله قد فات أوانه، وإني أواجه حكماً بنزع الملكية وفاءً لدين مقداره كذا. وظل يشكو له ما حدث بالتفصيل، وكيف أنه الآن على الهاوية، ثم قال: عفواً يا بني، لقد أفسدت عليك وقت الراحة، والجو شديد الحرارة، ولكن العذر واضح لك، ولي معك كلمة أخيرة أقوله وأنا واثق من أن جميع إخوتك يؤيدونها راضين بها، وأنت يا عبده أولى من الغريب، فتعال معي في جلسة البيوع لتشتري أنت البيت قبل جلسة المزاد لقاء دفع قيمة الحكم كاملة، فلا يضع الغريب يده على دارنا ويسيء إلى أبيك وسائر أفراد أسرتك. ثم قال له والده: ما قصدت شيئاً من ذلك أبداً. وإنما أقول: أنت أولى من الغريب، ثم إنك لن تلقي بأهلك إلى الطريق العام إن قصروا في دفع الإيجار، ثم إن لك أسرة خاصة الآن، ولأولادك حق على مالك، وهذا ما قصدته حين قلت لك: أنت أولى من الغريب، فلا تزدني ألماً، وحسبي ما أنا فيه. قال الطبيب: لا عليك، اصبر يا والدي، وائذن لي بتركك برهة صغيرة. ودخل إلى حجرته الخاصة، ثم عاد يحمل كيساً في يده، ودفعه إلى أبيه وقال: هذه ثمانمائة جنيه ذهباً هي لك يا أبي، فتصرف فيها كيف تشاء. فدهش الوالد من هذا التحول من الجدال إلى الفعل الناجز، وسأل في تكرار: والدار متى تحضر لاتخاذ اجراءات نقل ملكيتها إليك؟ قال: لا حاجة لي بها، بل تبقى داراً لك أنت، فأنت والد الجميع، ومن مركزك في الظاهر وفي الجمالية تستمد الأسرة كلها تقدير الناس، وإني ليسرني أن تبقى محل ثقة الناس واحترامهم. وضع الوالد كيس المال بجواره على الأريكة، وأطرق وهو يقلب عصاه بين يديه، ثم قال في صوت خافت تتجاوب فيه أصداء من الشعور بالخجل والصغار: ماذا صنعت بك وأنا قادر عليك؟! وماذا صنعت معي وأنت قادر علي؟! وتساقط الدمع من عينيه في صمت ذليل حتى رق له قلب ولده فبكى لبكائه، وانصرف الخواجه إبراهيم، ونجا من ضائقة كادت تعصف به، وعاد الطبيب إلى داره بعد فترة قصيرة قضاها في وداع أبيه إلى أن تحرك القطار.

موقف الزوجة من تصرفات عبده مع والده

موقف الزوجة من تصرفات عبده مع والده كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته، وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من النوم العميق، ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل، فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة وغادرها وهي هادئة ساكنة حتى صارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً، فهاهو يرى سيده -المربية- عاكفة على صرة ضخمة من لوازم الدار، وملابس الصغار والكبار، تنسق شيئاً من فوق أشياء، وإلى جوارها صرة أخرى فرغت من شد وثاقها، والصغيران قد وضعا في ثياب الزينة والزيارات، وزوجته تذهب وتجيء في ركن من الدار إلى درج يؤدي للسطح. وكانت الخادمة تأخذ الصرر وتضع فيها المتاع. فظل الطبيب يراقب الحركة في صمت كأنما صام عن الكلام، ولا أحد منهم يتكلم، إلى أن وصل الأمر إلى النهاية، ورفعت الزوجة ابنها الصغير على ذراعها الأيسر وأسندته إلى كتفها، وأمسكت بيد الولد الأكبر، وحملت المربية صرة بعد أخرى -ولم تكن حقائب السفر انتشرت في ذلك الوقت- واستعد الركب للرحيل، وتقدمت الزوجة نحو الباب وهي ثابتة على صمتها، وفي عينيها أثر واضح لدمع تغالبه، وجاءت المربية من خلف سيدتها، والطبيب الذي أجهده عمله طول اليوم ومن بعده لقاؤه المثير بأبيه ساكن في ضيق وصبر، فإن الوقت لم يكن مناسباً لإعلان الغضب. فتقدم إلى مدخل الدار، واعترض سبيل زوجته وهي توشك أن تنصرف، فتوقف وقال: إلى أين؟ ولا جواب! والصغير على كتفها، والمربية تحمل الصرات، والزوج لا يتحول عن مدخل الدار ولا يسمح لزوجته بالخروج، وهذه حال لا يطول الصبر عليها، فسقطت الأحمال التي على رأس سيده المربية إلى أرض الصالة. وتقدمت الزوجة من زوجها قائلةً: ابتعد ولا تعترض طريقي! قال: حتى أعرف إلى أين؟ قالت: كنت واهمةً كما أنت واهم الآن تماماً. قال: كيف؟ قالت: إنما بيننا قد انتهى. قال: وما الأسباب؟! قالت: ما من سبب ولا غضب، يكفي أن تعلم أنك مجنون، وأنا لا أعاشر المجانين. ولم يكن الطبيب قد سمع من زوجته الوديعة المهذبة كلاماً كهذا في أشد الأيام التي مرت بهما، وبدا له أنها في حالة من الثورة النفسية التي لا يؤمل معها نقاش ولا حوار، ولذلك لجأ إلى الحكمة وخلى بينها وبين مدخل الدار، وقبع في زاوية من الأريكة يراقب التطورات، فانفجرت براكين الغضب الكامن في أعماق الزوجة، وأغراها سكون الطبيب فسألته في حدّة: أعرّفك لماذا أنت مجنون؟ إنك تصبح وتمسي ولا تذكر إلا الموت، ولا حديث لك إلا عنه وأنه قريب من الآدمي، وكلما خلوت بي أوصيتني بولديك خيراً إذا سبقت المنية إليك، فكيف -يا ترى- تحقق وصيتك فيهم إن كنت تتلف المال بهذه الطريقة؟ أما علمت أن هذا المال هو حصاد تدبيري طوال سنوات انقضت من عمرك في الوظيفة والمهنة جميعاً؟! ثم سكتت تغالب دمعها حتى ملكها الغضب من جديد فقالت: وإلى من دفعت المال؟ إلى من يحترم أصهارك ويحب ولديك؟! إلى من يؤتمن على تربيتهما من بعدك إذا وافاك الأجل صغيراً كما تقول؟! والطبيب كان دائماً يتوقع أن يموت وهو صغير السن، وقد كان الأمر كذلك، فقد مات عن خمس وثلاثين سنة رحمه الله. ثم أقبلت على زوجها وجلست في مواجهته وعلا صوتها وهي تقول: لقد نظرت في خزانتنا فما وجدت إلا حفنة من الدراهم، وكل ما عندنا من مال للزمن ذهب به أبوك، فمن أبوك هذا؟! لماذا لم يتذكرك إلا حين أظلمت في عينيه الدنيا وسدّت في وجهه أبواب الخلاص؟! أوليس أبوك هذا هو الذي طردك من الدار ليلاً كما تقول؟! أوليس هو الذي أغرى بك الأهل والكنيسة ليطاردوك ويلاحقوك بالأذى وسوء السمعة؟! أوليس هو الذي قاطعك خمس سنوات أو تزيد، ولا يعنيه شيء من أمرك إلا أن يكون شامتاً فيك أو ساخراً منك أو من أبي الذي آواك وزوجك من ابنته! واستمرت الزوجة تكيل له شديد التقريع والتأنيب في غضبة جامحة، والطبيب يتذرع بالصبر، ويلوذ بالصمت، وعلى حين كانت الزوجة لا تزال ترميه بحمم الغضب كان هو يتفكر في اللقاء الذي تم بينه وبين أبيه، وقد شعر بأن حق الوالد كان مرعياً في هذا اللقاء، ولكن ترى ما حال الحقوق الأخرى التي لزوجته وأولاده عليه؟! وتأمل الطبيب الموقف من جديد وهو يسائل نفسه: ترى هل أصبت في هذا التصرف أم أنني قد أصبت في شيء واحد على حين غابت عني أشياء؟ ثم أسلمته الزوجة للتفكير، وذهبت إلى بيت أبيها وتركته بمفرده. وبعد ثلاثة أيام دخل عليه صهره -الشيخ عبد الحميد - ومعه الأسرة الصغيرة، وسيده تحمل في العودة أضعاف ما حملته عند مغادرة الدار من الصرر، وأقبلت الزوجة وهي تحمل ولدها الصغير وتمسك بيد الكبير إلى حجرة النوم في صمت وخجل، وهي تتجنب النظر إليه، وتختصر في رد المقال عليه، وانسحب النساء والصغار بعد ذلك إلى الداخل، وبقي الشيخ والطبيب يتحادثان. قال الشيخ: ما عرفت على ابنتي أنها كاذبة أبداً، وإني لأحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ولقد قصّت علي كل ما دار بينكما في الأيام الأخيرة، وذكرت لي ما وجهته إليك من أقوال وأفعال ونعوت، وكذا تصرفك معها، ورأت بعد أن سكت عنها الغضب أنها أخطأت من الألف إلى الياء! قال الطبيب: ما أظنها جرأت -يا عم- على أن تنقل إليك ما ألقت به في وجهي من قصائد المديح والثناء. قال الشيخ: إنني لا أستبعد -رغم صدقها- أن تكون قد أخفت أشياء من هذا الأمر حياءً مني حين حست بخطئها، ولكن على أية حال فلقد كان القدر الذي ذكرته لي كافياً لإدانتها والحكم ببراءتك، وما بك الآن حاجة إلى إحصاء المزيد من الحيثيات. وأخذ يذكره بالحقوق والواجبات الأسرية وغير ذلك من الواجبات. ثم قال له الشيخ -بعد هذه المقدمة-: وفي حالتك -يا دكتور عبده - فأنت أدرى الناس بما حدث، ثم إن والدك هذا قاطعك سنوات طويلة ولم يظهر فجأة في حياتك وحياة أولادك إلا ليستدر عطفك عليه وهو في محنة تمس البيت كله، فبأي حق يطلب منك النجدة؟! ولماذا جاء الآن فقط يرجوك أن تنقذ بيته ومستقبل ابنته وهو يعلم أن الدين قد فرق بينه وبينك وأنك لا ترثه هو ولا أمك ولا أحداً من سائر قرابتك، كما أنهم ليس لهم حق الإرث في مالك؟! كان الطبيب مطرقاً برأسه وهو يستمع، ثم رفع رأسه وهو يجيب على هذا التساؤل قائلاً: لقد أحسنتُ إلى أبي -يا عم- بحق الوصية التي فرضها له الملك الديان، وبحق القرآن الذي آمنت به وجعلته سبيلي إلى طاعة خالقي الذي هداني، أوليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:14 - 15]؟! قال الشيخ: بلى، وصدق الله العظيم. قال الطبيب: أوليس قد جاء في كتاب الله الكريم المحكم قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]؟! قال الشيخ: بلى، وصدق الله العظيم. وساد الصمت بينهما برهة تدبر كل من الرجلين خلالها معاني الآيات الكريمة وأهدافها النبيلة، ثم ما لبث الطبيب أن قال: إن هذه الآيات يتلوها كل مسلم ويؤمن بها كل مهتد، وما في ذلك من ريب، ولكن حدثني بربك -يا عم-، فأنت رجل علم وتجربة، ألست ترى معي أن هذه الآيات تأخذ بناصيتي وبناصية كل عبد هداه الله من بين فئة كبيرة على الضلال. وتذكر الطبيب العناء الذي لاقاه منذ بداية المرحلة الثانوية، ثم قال: لقد جاهداني، وأشهد الله على ذلك، ولعل أبي كان أشد قسوة، لكن أمي كانت تراقبني وتمهد من يراقبني، وتغري بي أبي وإخواني وأخواتي ظناً منها بأن في هذه الملاحقة الخير لي. ويتابع قائلاً: ثم ضربت الأيام بيننا حجاباً من مشاغل الحياة ومن ضيق النفوس بالقيل والقال، وما أظنني على صواب فيما كان من قطيعة؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فأي معروف هذا وأنا لم أصاحبهما؟! بل كانوا يصرون على قطع ما بيني وبينهما، وأي صنيع سيئ أكون قد صنعت لو أنني تركت أبي يعود من زيارتي ولم أنقذه على حين ظل المال راكداً في خزانتي؟! أتظن -يا عم- أن المال هو الذي يصلح من شأن العيال بعد فقد عائلهم؟ أعتقد أنك تعلم أن الأمر على خلاف ذلك، أما الحق فهو ما أنبأنا به القرآن، حيث يقول سبحانه في سورة الكهف: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]. ثم قال: أولا ترى معي -يا عم- أن مجيء أبي إلى داري -خاصة بعدما سمع بمولد محمد - قد كان من جانبه كركوب أشد الأهوال وأقساها؟ أولا ترى أن مجيئه إلى بيت ولده الذي عرف حقيقة أمره هو نصر لي من عند الله؟! إنني لا أنكر أن التصرف الذي صدر مني قد مس حقوق ولدي وزوجتي، ولكن المبادرة كانت قضاءً لا فكاك منه، ومع ذلك -يا عم- فإننا -إن يكتب الله لنا عمراً- سننظر فيما تأتي به المقادير إن شاء تعالى. قال الطبيب ذلك وقد اعتزم في نفسه أمراً. نهض الشيخ يريد الانصراف بعدما سمع دفاع صهره الطبيب الشاب عن والده، وإذا بابنته تعترضه وتتشبث به لتطيل بقاءه، ورفع الشيخ عصاه في وجه ابنته، لكن الزوج كان قد أسرع إليه وقال: ما هكذا -يا عم- علمتنا أن يكون الإقناع! قال الشيخ لابنته: اسمعي يا هذه: إنك هوجاء لا تعقلين، إنك لا تعرفين قدر هذا الرجل الذي معه تعيشين، فاحمدي الله أن رزقك بمثله، ولتحذري بعد اليوم أي إساءة له أو سوء فهم لراشد تصرفاته، وكان هذا الموقف فاصلاً معي بين عهد لا يخلو من قلق وارتياب وعهد جديد ساده اطمئنان إلى حسن إسلام الطبيب وصدق إيمانه.

وفاة الطبيب عبده رحمه الله تعالى

وفاة الطبيب عبده رحمه الله تعالى زاد الطبيب اقتراباً من الأسرة ومن الناس، واتجه إلى الخروج من عزلته التي كان قد ضربها على نفسه وارتاح لها في خدمة السجون، فالتحق بوزارة الصحة، وأنجب ولدين آخرين هما محمود وإبراهيم، حين كان طبيب مركز السابلوين نحو أربعة أعوام. ثم حملت زوجته من جديد، فقال هو: علي أو علية. فكانت علية التي توفي عنها أبوها وهي طفلة عمرها شهران، حين كان طبيباً لمركز من المراكز، وكانت جيوش الحلفاء الكبرى تنتقل في بعض مواقع محافظة الشرقية، وكان قد انتشر بين الجنود وباء التيفود، فانتقلت العدوى إليه أثناء عمله في المخيمات التي يعزل فيها المرضى، وأحس الطبيب الشاب بدنو الأجل، فقد كان -رحمه الله- صالحاً شفاف البصيرة، وكأنما خاف على زوجته وأولاده مما سيلاقونه لو وافته المنية بعيداً عن الأهل. فحزم حقائبه، وأغلق داره وعيادته، واصطحب زوجته وخادمته وأولاده، وشغل ديواناً مستقلاً بالقطار حتى لا تنتقل العدوى منه إلى غيره من الركاب حتى وصل إلى منزل صهره الفاضل الشيخ عبد الحميد مصطفى رحمه الله، لكن إخلاص صهره وسهر زوجته وصغر سن أولاده ومهارة معالجيه من الأطباء لم تفلح جميعها في تأخير لحظة النهاية، فوافاه أجله المحتوم بعد ستة أيام فقط من مرضه، وكان ذلك بعد مغرب شمس يوم الثامن عشر من يوليو سنة (1918م)، بعد أن ضرب للبشر مثلاً عالياً في إصراره وشجاعته، وحسن إسلامه وصدق إيمانه. وقد منح رحمه الله للبشرية أبناءً نافعين مؤمنين، عاش منهم حتى خلد اسمه وذكره الدكتور عيسى عبده العالم الاقتصادي الإسلامي المعروف، والدكتور المهندس محمد عبده أستاذ الهندسة بجامعات سويسرا، ومن بعدهما أولادهما، نفع الله بهم أمة المسلمين، ورحم الله صاحب هذه القصة ومن أحبه وآواه ونصره، ومن خلف من نسله ونسل أبنائه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

التوحيد أولا

التوحيد أولاً التوحيد هو أساس الإسلام وأصل أصوله، وهو من الإسلام بمكان الذروة والسنام، ولذلك اتفقت عليه دعوة جميع الرسل عليهم السلام؛ فهو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، وقطب رحاها وعمدتها، وهو يقوم على إفراد الله تعالى بما هو محض حقه من أنواع العبادة وصورها، وإخلاص القصد والإرادة له في أدائها، واعتراف الإنسان على نفسه وعلى غيره من المخلوقات بوجوب العبادة لله في سائر الأقوال والأفعال والنيات.

توحيد الله هو أساس الإسلام وأصل أصوله ومفتاح دعوة الرسل

توحيد الله هو أساس الإسلام وأصل أصوله ومفتاح دعوة الرسل الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالإلهية على جميع خلقه، والمختص بنعوت الكمال وصفات الجلال والجمال بلا شبيه ولا مثال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأمره أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وعلى آله وصحبه أهل العدل والتوحيد، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فمن نافلة القول، ومكرور الكلام أن يقال: إن التوحيد هو أساس الإسلام، وإنه أصل أصوله، وإن التوحيد من الإسلام بمكان الذروة والسنام، فذلك أمرٌ اتفقت عليه دعوة الرسل أجمعين من لدُنْ آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما من الرسل أحد إلا افتتح دعوته بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]. فالتوحيد هو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، وقطب رحاها وعمدتها، ترتكز كلها عليه، وتستند في وجودها إليه، تبتدئ منه وتنتهي إليه، ولا عجب! فهو يقوم على إفراد الله عز وجل بما هو محض حقه من أنواع العبادة وصورها، وإخلاص القصد والإرادة له في أدائها، واعتراف الإنسان على نفسه وعلى غيره من المخلوقات بوجوب العبودية لله في سائر الحالات. فالله وحده هو ربهم، ومليكهم، والقاهر فوقهم، والمتصرف فيهم بما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا دافع لقضائه، وهم جميعاً المرذولون المقهورون الفقراء المحدثون الضعفاء، الذين لا غنى لهم عنه طرفة عين، ولا قيام لهم بدونه لحظة من الزمان. فلم يرسل الله عز وجل نبياً ولا رسولاً إلى قومه إلا وجعل مفتاح دعوته أن يقول لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، فهذا الأصل هو أصل الأصول في دين الإسلام.

التوحيد أساس الإسلام ومفتاح دعوة الرسل

التوحيد أساس الإسلام ومفتاح دعوة الرسل

بطلان قول من قال إن أصل الأصول هو تأليف القلوب

بطلان قول من قال إن أصل الأصول هو تأليف القلوب لقد نشأت في هذا الزمان أفكار كثيرة، واختلفت كثير من الاتجاهات، فانحرف بعض الناس في تحديد أصل الأصول، وأهم المهم من قضايا الإسلام، فرأينا من يقول: إن أصل الأصول هو تأليف القلوب. كما هو معروف عند بعض الجماعات!! فلو قلنا: إن هذا هو أصل الأصول فإنه ينبغي أن يُقدّم على غيره عند التعارض، فمثلاً: إذا رأوا رجلاً يقع في الشرك بالله، أو في الطواف بالقبور، أو غير ذلك من صور الشرك، فيقولون: أصل الأصول هو تأليف القلوب. فنقدم تأليف القلوب على إنكار هذا المنكر حتى لو كان شركاً؛ لكي تتألف القلوب ولا تتفرق!! فإن إثارة هذه القضايا وإنكارها على من يفعلها مما ينافي أصل الأصول. فيبتدعون هذا الأصل، ويتحاكمون إليه بدل أن يتحاكموا إلى أصل الأصول الذي هو توحيد الله عز وجل.

بطلان قول من قال إن أصل الأصول هو إقامة الحكومة الإسلامية

بطلان قول من قال إن أصل الأصول هو إقامة الحكومة الإسلامية كذلك وجدنا كثيراً من الدعاة بل والمجاهدين في سبيل هذه الدعوة المباركة قد نشأ لديهم تصور انعكس منهم على قطاع عريض من الشباب المسلم، وقد فهم كثير من الشباب من كلام هؤلاء الدعاة أن أصل الأصول هو: إقامة الحكومة الإسلامية!! فيجعلون إقامة الحكومة الإسلامية هو غاية إرسال الرسل؛ بل إن من الدعاة الكبار وأهل الخير والفضل من جعل في بعض كتبه أن الغاية الأساسية من دعوة الرسل: إقامة الحكم الإسلامي، أو: إقامة الحكومة الإلهية أو الحكومة الإسلامية!! بل ويذهب إلى أن أصل الأصول وغاية الرسل هي إقامة الحكومة الإلهية، فيزعم أن الأنبياء انقسموا: فمنهم من استطاع أن يقيم الحكومة الإسلامية، ونجح في دعوته!! وذكر منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومنهم من لم ينجح في تحقيق أصل الأصول، وهو الحكومة الإسلامية، وربما حاول التمهيد لإحداث انقلاب سياسي في الأمم من بعده!! ويذكر أمثلة كإبراهيم ونوح وغيرهما من الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. مثل هذا الكلام ينبغي أن يراجع وأن يمحص في ضوء الكتاب والسنة، وأن نبين أين موقع قضية الحاكمية أو قضية السياسة بالنسبة لأصل الأصول الذي هو توحيد الله عز وجل. الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، هذا وعد من الله سبحانه وتعالى أن كل الأنبياء وأتباعهم منتصرون، فلم ينهزم نبي، ولم يفشل في أن يحقق الهدف الذي بعثه الله به، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:171 - 172]، فالله لا يخلف وعده، فلابد أن الأنبياء انتصروا، ولابد أن جند الله غَلَبوا، ولابد أنهم حققوا الهدف الذي بعثهم الله من أجله، وهو أصل الأصول في هذا الدين، حتى نوح عليه السلام الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ويأتي من يّدعي أن نوحاً لم يحقق هدفه من رسالته! وأنه فشل في تحقيق الهدف الأسمى، وهو الحكومة الإسلامية أو الدولة الإلهية! حتى نوح يقول الله عز وجل حاكياً عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، وانتصر الله له، ونصره على الكافرين، وانتصر نوح، ولا شك في ذلك. فهذا التعبير إنما نشأ عن غلبة الاتجاه السياسي والمفاهيم السياسية، ومحاولة حشرها وإعطائها الحجم الأكبر من قضايا الإسلام، بحيث يكون هو في تصور كثير من الشباب أصل الأصول، وقطب الرحى، وعمود هذا الدين.

أصل الأصول معلوم في الكتاب والسنة ولا يحتاج إلى اجتهاد لمعرفته

أصل الأصول معلوم في الكتاب والسنة ولا يحتاج إلى اجتهاد لمعرفته أصل الأصول لن نجيب نحن عنه؛ ولكن الذي يملك الحق في تحديد هذا الأصل هو الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل ما خلق هذا الخلق عبثاً؛ بل لحكمة عظيمة بيّنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، يقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38 - 39]، ويقول سبحانه وتعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، والله عز وجل هو صاحب الحق الوحيد في أن يرينا الإجابة عن هذا Q لماذا خلقنا الله؟ لماذا بعث الله الرسل؟ لماذا خلق هذا الكون؟ لماذا خلق الجنة والنار؟ وعلى أي أساس قسّم الناس إلى: متقين وفجار، ومؤمنين وكفار؟ فهو جل وعلا يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، ويقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذا أسلوب حصر، حصر الحكمة والهدف من الخلق في أصل الأصول وهو عبادة الله وحده؛ لأن المقصود: (إلا ليعبدون) أي: ليعبدوني وحدي، ولا يعبدوا معي غيري، وهو توحيد الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، وقال عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]، ويقول عز وجل: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]، ويقول عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1 - 2].

الحكم والسياسة ومحلهما من الدين

الحكم والسياسة ومحلهما من الدين نتناول في هذا المبحث أمرين: الأمر الأول: أن الحكم والسياسة من الدين، ومن ذهب إلى أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين فهذا قد سلك أقصر الطرق إلى الكفر؛ لأنه مثل من قال: الخمر حلال، والزنا حلال، فأحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله، أو أنكر آية من القرآن، فهذا وذاك في الكفر سواء، وفي الخروج عن حظيرة الدين سواء، وهذا مما لا يُختلف عليه. فربما كان الناس في أي زمان من الأزمنة الماضية لم يتضح عندهم هذا المفهوم بقدر ما اتضح عندنا، وما ذاقوا من الويلات كما ذقنا بمجرد أن انتهت الخلافة الإسلامية، وفي هذا يقول شوقي مبيناً آثار انهيار الخلافة الإسلامية: فلتسمعن بكل أرض داعياً يدعو إلى الدجال أو لسجاحِ وليشهدن بكل أرض فتنةً فيها يباع الدين بيع صباحِ يعني: ما دامت الخلافة قد ضاعت فتوقعوا أنكم ستسمعون في كل أرض داعياً يدعو إلى الكذاب مثل دعوة مسيلمة أو دعوة سجاح التي ادعت النبوة. وليشهدن بكل أرض فتنة فيها يباع الدين بيع صباح يباع الدين ويستهان به، ولا غرو؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)، فجعل الحكم من عُرى الإسلام؛ بل قرنه بأعظم أركان هذا الدين ألا وهو الصلاة، (فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة). وإن كانت كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فيها نفي وإثبات؛ فينبغي لكل شخص حتى يستحق صفة المسلم أن يجمع بين كفر وإيمان: كفر بكل الآلهة سوى الله، وإثبات العبودية لله وحده، (لا إله إلا الله) أي: لا إله حق إلا الله، لكن لا يصح أن يقال: لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة موجودة دون الله، وهي آلهة باطلة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، إذاً: الهوى إله يُعبد من دون الله، والمال إله يعبد من دون الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الخميصة! تعس عبد القطيفة! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، والساحر طاغوت وهو إله يُعبد من دون الله، والشيطان إله يعبد من دون الله، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، فالشيطان إله، لكنه إله باطل، فالله وحده هو الإله الحق الذي يستحق أن يُفرد سبحانه بالعبودية. الحاكم بغير ما أنزل الله إله باطل يُعبد من دون الله، وهو من رءوس الطواغيت كما بين القرآن وكما بينت السنة، فيجب أيضاً الكفر بهذا الطاغوت، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: (لا إله إلا الله). إذاً: حتى نستمسك بهذه العروة الوثقى لابد أن نكفر بكل طاغوت، ونؤمن بالله وحده، لكن لا يصح الإشراك مع الله سبحانه وتعالى في هذه العبادات. فنقول: إن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر، أو هو من رءوس الكفر، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فلا يصح الإيمان ولا دعوى الإيمان حتى يجمع الإنسان بين الإيمان بالله والكفر بكل إله يُعبد من دون الله من الطواغيت، ومن رءوس هؤلاء الطواغيت: من يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة فميتته جاهلية)، أي: من مات وليس في عنقه بيعة للخليفة المسلم، وللحاكم المسلم فهذه ميتة جاهلية، وتشبه موتة أهل الجاهلية، فإن كان هناك خليفة ولم تبايعه، أو خرجت على طاعته ونقضت بيعته فأنت على خطر عظيم، أما إذا لم يوجد هذا الخليفة ولم تستطع مبايعته فقد أشبهت موتتك موتة أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا في فوضى لا يجمعهم نظام.

الحكم من أهم قضايا الدين وليس أهم قضية فيه

الحكم من أهم قضايا الدين وليس أهم قضية فيه وهناك أدلة كثيرة على هذه المسألة لن نطيل بسردها؛ لأن المقام ليس مقام تفصيل. خلاصة القول: أن الحكم الإسلامي من أركان هذه الأمة، ومن أهم القضايا في هذا الدين. إذاً: نقول: هو مِنْ أهمّ القضايا، ولسنا نقول: هو أهم القضايا؛ لأن هناك ما هو أهم منه؛ ألا وهو توحيد الله سبحانه وتعالى. فنبين ونؤكد على أن الحكم من الدين، ولكنه ليس هو المقصود الأسمى والغاية العظمى من بعثة الرسل، فإنما أرسلت الرسل للدعوة إلى توحيد الله عز وجل، ولا يصح أن يقال: إن الأنبياء بُعثوا لإقامة الحكومة الإسلامية، إنما بعثوا للدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وآية ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فلا يصح أن يقال: إن الأنبياء الذين لم يقيموا حكومة فعلية قد فشلوا في دعوتهم، وقد يتأدب البعض في التعبير فيقول: إنهم كانوا يمهدون، فاكتفوا بالتمهيد ولم يقيموا هذه الحكومة، وهذا خطأ، والصحيح أن نقول: إن الأنبياء انتصروا على الكفر، وبلغوا البلاغ المبين، وقاموا بما كلفهم الله به، ألا وهو الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، والدليل من القرآن قوله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. حتى غلام أصحاب الأخدود، كما في قصة الغلام مع الراهب والساحر والملك، هذا الغلام لما أرشد الملك في النهاية إلى كيفية قتله، وطلب منه أن يجمع الناس في صعيد واحد، ويرميه بالسهم ويقول: باسم الله رب الغلام، قال: فإنك إن فعلت ذلك قتلتني. ففعل الملك ذلك، فما إن أصابه السهم حتى قتل هذا الغلام، لكن هل هو مغلوب؟ لا؛ بل هو منتصر بلا شك؛ لأنه بلغ التوحيد، وأثر في الناس، ودخلوا في دعوة التوحيد، حتى أغراهم الملك بالكفر، وهدّدهم بإلقائهم في الأخدود، فصبروا على دينهم، وأنزل الله عز وجل في ذلك الآيات الواردة في سورة البروج: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:1 - 8]، هؤلاء في الظاهر منهزمون، لكنهم في الحقيقة منتصرون، وهذا الغلام مات منتصراً ولم يمت مهزوماً.

بيان معنى (الحكم لله) أو (الحاكمية لله)

بيان معنى (الحكم لله) أو (الحاكمية لله) الأمر الثاني: أن كلمة (الحكم لله) أو (الحاكمية لله) راجت بين الشباب بفعل قيام بعض الناس بالترويج لهذا المفهوم، واتخذت صورة قاصرة في فهم معنى كلمة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] أي: ما معنى الحاكمية لله؟ فهل (الحاكمية لله) أصبحت مفهوماً نرى كل شيء في الواقع من خلاله، فلا ننظر إلى الزكاة والصيام والحج والصلاة وغيرها من القضايا الشرعية إلا من خلال كلمة (الحكم لله) أي: بالمفهوم السياسي؟! كلا، لكن كلمة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) التي نطق بها يوسف عليه السلام وهو بين جدران السجن، وهو يدعو إلى التوحيد، ولم ينفض يديه عن أعباء الدعوة؛ لأنه لم يُقِمْ الحكومة الإسلامية، لكنه كان يمارس دعوته ويؤدي رسالته بقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، ثم بين المقصود من ذلك فقال: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. فإذا ذكرنا كلمة - (الحكم لله) - أو (الحاكمية لله)، فلا يصح أن ينصرف الذهن -فقط- إلى الجانب السياسي، فلو راجعنا قسم (الحكم) في كتب أصول الفقه، فسوف نعرف المدى البعيد الذي تصل إليه هذه الكلمة (إن الحكم إلا لله) في كل شيء. وقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44] هذا قول عام، ليس فقط على الحكام أو القضاة الذين لا يحكمون بكتاب الله، ولكنه يعم كل مسلم له حظ من هذه الآية؛ لأن الآية فيها صيغة عموم: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ)، أي: كل من لم يحكم، وقوله: (بما أنزل الله) تشمل كل ما أنزل الله، فكلٌ له نصيب من هذه الآية، إذ لابد من الحكم بما أنزل الله في كل مكان، بل وأعظم من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، وأول راع هو الحاكم، فقال عليه الصلاة والسلام: (الإمام راع، وهو مسئول عن رعيته)، فالحاكم أول هؤلاء الرعاة الذين يسألون عن رعيتهم: (والرجل في بيته راع، وهو مسئول عن رعيته) الحديث، وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عن ما استرعاه؛ حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته). إذاً: الحكم بما أنزل الله درجات، أعلاها: ما يتعلق بالحاكم، بأن يسوس الناس ويحكمهم بالدين، وأن يحرس الدين، فسياسة الدنيا بالدين وحراسته هي وظيفة الحاكم. أما المحكومون فتتنوع مسئولياتهم بتنوع أقدارهم ومواطنهم، فأنت تحكم بما أنزل الله مثلاً بين أولادك، فمما أنزل الله ألا تفضل بعضهم على بعض في العطية، فمن فضل ولداً على سائر إخوته بالهدية -مثلاً- أو الهبة فإنه لم يحكم بما أنزل الله؛ لأن الله حرم هذا، وأيضاً: أمر الزوجة بالمحافظة على الصلوات: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، هذا أمر وحكم أنزله الله، وقال عز وجل في بعض أحكام الطلاق: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:5]. فالحكم بما أنزل الله يمتد ليشمل كثيراً من الجوانب، منها: الجانب السياسي، والاجتماعي، وجانب العبادات، وجانب التوحيد، وهو أعظمها بلا شك. إذاً: هذا مما ينبغي الانتباه إليه، فليست الحاكمية بالمفهوم الضيق الذي طرأ في العصور الأخيرة، لكن الحاكمية أوسع من هذا، ولا يعني هذا أننا نبتر الجانب السياسي من الإسلام، ولكن يكون قدره أقل بالنسبة لأصل الأصول ألا وهو توحيد الله عز وجل. أيضاً: ما هو الأثر عندما نعتبر أن الحكم هو أصل الأصول في الدعوة الإسلامية؟ هذا يترتب عليه أن يصبح الحكم غاية، والحكم ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى؛ لكن ليس هو الغاية العظمى من بعثة الرسل؛ ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم كان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أغاروا على قوم أن يدعوهم قبل القتال، فلم تكن المسألة مسألة غنيمة فقط، كما أنهم لم يقهروا الناس أو يكرهوهم على الدخول في الدين مباشرة، ولم يبدءوهم بالقتال، ولكن كانوا يبلغونهم الدين قبل كل شيء؛ لأن الجهاد والفتح ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله، والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.

الدعوة إلى توحيد الله لا تتوقف على وجود الحكومة الإسلامية

الدعوة إلى توحيد الله لا تتوقف على وجود الحكومة الإسلامية إذا لم يتمكن المسلمون من إقامة الحكومة الإسلامية فهل ينفضون أيديهم من تبعات الدعوة؟ لا؛ لأنه ما زالت المسئولية الأصلية باقية، ألا وهي الدعوة إلى توحيد الله، وإلى تصفية العقيدة، والصبر على ما وراء ذلك من الأذى. وكما سبق في قصة يوسف عليه السلام أنه أدى هذه الواجبات وهو مسجون: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:39 - 40]، فهو يوضح معنى (إن الحكم إلا لله) {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].

مفاسد ترتكب لو جعل الحكم هو الغاية

مفاسد ترتكب لو جعل الحكم هو الغاية أيضاً: إذا جعلنا الحكم هو الغاية فمعنى ذلك أننا قد نستبيح في سبيله بعض الوسائل غير المشروعة، كالانضمام إلى الأحزاب المحاربة لدين الإسلام؛ كحزب الوفد وغيره من الأحزاب العلمانية، وكلمة (العلمانية) هذه كلمة مهذبة، دون ما يستحقه القوم من ألقاب، فكلمة (علمانية) تعني: (اللادينية) هذه كلمة في ظاهرها مهذبة، وما هي إلا رفض دين الإسلام، وتسوية الدين الإسلامي بكل الأديان، بحيث تقف كلها على قدم المساواة، فالحق يساوي الباطل من أجل الوحدة الوطنية أو الأخوة الإنسانية وغيرها من المفاهيم الباطلة، لكن العلمانية كفر ورفض لدين الإسلام، ومحاولة لعزله عن واقع الحياة. فهذه عبارات مهذبة حتى لا توقع العبارات الصحيحة أصحاب هذه الدعاوى فيما يستحقونه من أوصاف شرعية. فالتنازل من أجل إقامة الحكم الإسلامي معناه: أن نتنازل عن عقيدتنا، ونتعاون مع هؤلاء الناس الذين يرفضون الدين، ويرفضون الإسلام، ولا يجعلون غايته هو توحيد الله، والدعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى. الإنسان في هذا الوجود كائن مهم، ولا ينبغي الاغترار بظاهر الكفار وما هم عليه، كما قال الله عز وجل مبيناً ما عندهم من العلم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فلا يغرنا ما يتمتع به الكفار من زينة الدنيا، ومن الغلبة والقوة والسطوة، فما قوتهم إلا في ضعف المسلمين، لكن القوة الحقيقية هي في الإيمان، والاعتصام بحبل الله المتين، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، فالتمكين في الأرض لا يأتي إلينا إلا بعد أن نتمسك نحن بالدين في أنفسنا، يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، إذاً: هي هدية ومكافأة وامتنان من الله سبحانه وتعالى على الاستمساك بحبل الله، فتكون العاقبة للمتقين، والعاقبة للتقوى، ويمكن الله سبحانه وتعالى لأوليائه في الأرض. أما أن نتنازل عن ديننا، أو عن المفاهيم الأساسية في ديننا من أجل تمكين وإقامة الحكومة الإسلامية، فهذا لا يكون؛ لأنه لابد أن تكون الوسائل شرعية، فالحكم أو السياسة ليس الغاية، إنما الغاية هي تحقيق العبودية لله وحده، كما قال تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2]، وهي سبب التمكين في الأرض.

اتفاق الفرق الإسلامية على أن التوحيد أصل الأصول ومخالفة الإمامية في ذلك

اتفاق الفرق الإسلامية على أن التوحيد أصل الأصول ومخالفة الإمامية في ذلك أيضاً: ينبغي أن نعرف ما هو أصل الأصول في هذا الدين، هل هو التوحيد؟ هل هو الحكومة الإسلامية؟ هل هو تأليف القلوب؟ إلى غير ذلك من الأهداف التي ينادى بها. قبل هذا الزمان ما كان أحد أبداً يجرؤ على أن يقول: إن أصل الأصول شيء آخر غير التوحيد، حتى جميع الفرق الإسلامية التي نشأت؛ سواء المعتزلة، أو الجبرية، أو الجهمية، أو الأشاعرة، أو أهل الحديث، أي فرقة من الفرق العقائدية ما كانت تعد أصل الأصول إلا التوحيد، وإن انحرف بعضهم في فهم التوحيد وكيفية تحقيقه، لا سيما في قضايا الأسماء والصفات، لكن لم يكن يوجد سوى فرقة الشيعة الإمامية التي تقول: إن هناك شيئاً آخر يعتبر أصل الدين سوى التوحيد. فمعلوم أن أصل الدين في كل عصور الإسلام ما كان يذكره العلماء إلا أنه هو توحيد الله سبحانه وتعالى، حتى لو انحرف البعض في فهم عقيدة التوحيد، بل العلماء يذكرون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أن أوجب العلوم على العبد، وأول واجب على المكلف: معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة معنى لا إله إلا الله، وكيفية تحقيق التوحيد. هذا هو الهدف الأسمى من بعثة الرسل، وهو أول واجب على كل مكلف: أن يفهم معنى لا إله إلا الله، وما هي لوازم هذه الكلمة، وما الذي ينقض هذه الكلمة، فيتعلم هذه الأشياء قبل أن يتعلم الصلاة وغيرها من الأحكام الفقهية. ولم يشذ عن جماعة المسلمين في هذا إلا فرقة الروافض -الشيعة الإمامية الإثني عشرية- فإنهم قد عدوا أصل الدين عندهم هو: (الإمامة)، وهو الإيمان بإمام لكل زمان، أي: يوجبون على الله سبحانه وتعالى أن ينصب إماماً لكل زمان، فحتى في هذا الزمان يقولون: إن الإمام موجود وهو المدعو: محمد بن الحسن العسكري، لكنه مختبئ في السرداب كما يزعمون. فالتوحيد لابد أن يقدم على ما سواه، فيقدم الأهم على المهم، وهذا التوحيد ليس لفظاً مبتدعاً، ولكن جاءت به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أول ما يدعو الناس إليه كما في قصة معاذ عندما أرسله إلى اليمن فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله)، فأول شيء هو التوحيد.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد أما بالنسبة لأقسام التوحيد فهي ثلاثة أقسام: الأول: توحيد الربوبية، الثاني: توحيد الألوهية، الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهذا التقسيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستعمل هذه الاصطلاحات: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، كما لم يرد عنه العلم الذي يسمى: علم أصول الفقه، ولا مصطلح الحديث، وأصول التفسير، والتفسير واللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة ونحوها، فهذه طرائق معينة لفهم الدين، فهي من باب الوسائل التي تسهل فهم هذه العلوم وتبسطها وتصونها من التحريف والزيغ. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بمضمون هذه الأقسام الثلاثة، ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا نختلف في الاصطلاح، لكن المهم ما وراء هذا الاصطلاح.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية توحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله، أي: الأفعال التي تأتي من الرب إلى المربوبين الذين يربيهم وينميهم، فيأتيهم بالرزق، وهو الذي يحيي، والذي يميت، فكل ما أتى من الله أو فعله الله فهو من الربوبية، فتوحيد الربوبية: أن يؤمن العبد أنه لا يحيي ولا يميت ولا يرزق ولا يفعل أفعال الربوبية سوى الله سبحانه وتعالى، فلا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، ولا يحيي إلا الله، ولا يميت إلا الله، ولا يضر إلا الله، ولا ينفع إلا الله فتوحيد الربوبية: توحيد الله بأفعاله. وهذا النوع من التوحيد كان موجوداً لدى أكثر المشركين الكفار الذين حكى الله سبحانه وتعالى قصصهم مع الأنبياء والمرسلين، فكان موجوداً عند قوم نوح، وقوم صالح، وقوم هود، وجميع الأنبياء، حتى المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بأنه لا يحيي ولا يرزق ولا يخلق إلا الله، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، كانوا على بقية من دين إبراهيم، لكن طرأ عليهم الشرك.

توحيد الربوبية لا يكفي لدخول المرء في الإسلام

توحيد الربوبية لا يكفي لدخول المرء في الإسلام توحيد الربوبية لا يكفي لدخول صاحبه في الإسلام، فإن فرعون كان يعلم بوجود الله تعالى رغم أنه الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وكان يقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وكان قومه يعلمون بوجود الله، والدليل على ذلك: أنهم لما أتاهم بأس الله هرعوا إلى موسى وقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، وفرعون نفسه -كما حكى الله عز وجل عنه في سورة الإسراء- قال له موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، هذا خبر عن موسى عليه الصلاة والسلام، فيخبر عما في قلب فرعون، وهو لا يخبر إلا عن شيء يعلمه، كما جاء في سورة النمل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، لكن كانوا في قلوبهم يعلمون يقيناً أن موسى رسول الله حقاً. إذاً: كان فرعون يعلم أن هناك إلهاً، وكان يعلم أن موسى رسول الله بنص القرآن كما بينا، موسى يقول لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ} [الإسراء:102] يعني: هؤلاء الآيات: {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، إذاً بنص القرآن فإن فرعون كان يعلم بوجود الله، وأبو جهل كان يوحد توحيد الربوبية، وأبو لهب كان يوحد توحيد الربوبية، واليهود بلا شك يوحدون توحيد الربوبية، وكذلك النصارى، لكن العبرة بما يأتي من أقسام التوحيد.

لا بد من توحيد الألوهية لدخول الإسلام

لا بد من توحيد الألوهية لدخول الإسلام توحيد الألوهية: هو توحيد العبادة والقصد. فتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية: هو توحيد الله بأفعال العباد، فلا يصرف الإنسان عبادته إلا إلى الله، كما أنه لا رازق إلا الله، ولا خالق إلا الله، ولا محيي ولا مميت إلا الله؛ فكذلك لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى. فهذا هو معنى توحيد الإلهية، أي: ألا تعبد إلا الله وتكفر بكل ما سواه من الآلهة الباطلة، سواء ما جاء عن الآباء والأجداد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، أو كان هذا الإله هو الشيطان، أو الطاغوت وهو الحاكم بغير ما أنزل الله، وكذلك الساحر، والكاهن، والعراف الذي يدعي معرفة الغيب، والمال، والبنون كل هذه آلهة باطلة تعبد من دون الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن تفرد الله بالعبادة. ما معنى العبادة؟ العبادة كما عرفها العلماء: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة. فهذا هو معنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فلا يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى، فقد يكون الإنسان مؤمناً بأنه لا يرزق إلا الله، ولا يحيي إلا الله، ولا يميت إلا الله، ومع ذلك يشرك في العبادة، فيؤدي عبادته لغير الله، فهذا أشرك في الألوهية، فالمقصد الأسمى من دعوة الرسل: ألا يُعبد إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] أي: اعبدوني وحدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] المقصود: ليعبدوني وحدي، ولا يشركوا معي غيري في هذه العبادة. توحيد الربوبية لا يدخل صاحبه الجنة، ولا ينجي صاحبه من النار، وصاحب توحيد الربوبية ليس له فضل؛ كالنصراني الذي يؤمن بأن هناك إلهاً، وأن هناك خالقاً، وأن هناك رازقاً، ويقول: إن شاء الله، وبإذن الله. هذا ليس بمؤمن، ولا يصح أن يطلق عليه لفظ الإسلام أو الإيمان، فهو كافر بالله؛ لأنه لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يوحد الله توحيد الألوهية ولا توحيد الأسماء والصفات، فالذي يؤمن بتوحيد الربوبية هذا ليس له فضل، ولا ينقذه هذا من النار. وحتى الشيوعيون الملاحدة أيضاً -ولا شك- يوحدون توحيد الربوبية، وإن جحدوا ذلك في الظاهر، فيقولون: لا إله، والحياة مادة، ويجعلون الإلحاد -والعياذ بالله- علماً له أصول، ويدرس عندهم، ويدعون الناس إليه على أسس وقواعد باطلة هي من تضليلهم، فإن حالهم كسائر الكفار ما أخبر الله عنهم أنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، حتى لينين الذي هو من كبار الشيوعيين الملاحدة عند مرض موته كان يجلس عنده الزعماء والسياسيون والطواغيت يحضرون ساعة احتضاره، فلما اشتد عليه الاحتضار قال مرة: يا إلهي!! أو يا ألله!! فصرخوا واستنكروا هذه المقولة، فاعتذر عن هذه الكلمة، لكنه كان بفطرته يشعر بحاجته إلى الله سبحانه وتعالى!! كذلك أي واحد منا في أي كرب من الكربات، سواء أشرف على الهلاك في حادث من الحوادث، أو أصابه مرض، أو وقع في أي ضائقة، مهما بلغ من العصيان أو التمرد على الله سبحانه وتعالى، أو المحاربة لأمر لله ونهيه، فإنه عند الضائقة يدعو الله مخلصاً له الدين، وينسى كل شيء كان يغتر به من مال أو سلطان أو غيره، ولا يذكر إلا الله وحده، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، فيخبر الله سبحانه وتعالى أن هذه الفطرة المتأصلة في قلب الإنسان موجودة، وأنها أعظم ما تستيقظ حينما يوقن الإنسان بالهلاك، فإنه حينئذ يخرج هذا الرصيد المتمكن من الفطرة في قلبه ليدعو الله وحده، وينسى ما يشرك من دون الله سبحانه وتعالى، فحتى هؤلاء الملاحدة الشيوعيون الذين ينكرون وجود الله، فإذا وقع بأحدهم الكرب فإنه لا يدعو إلا الله؛ بل يدعو من كل قلبه الله سبحانه وتعالى مخلصاً له الدين. فهذا هو توحيد الألوهية، أي: توحيد الله بأفعال العباد، وهذا هو التوحيد الذي كلفنا الله به، ألا نعبد إلا الله سبحانه وتعالى حق عبادته.

أقسام العبادة

أقسام العبادة والعلماء يقسمون العبادة إلى أقسام، الأول: عبادات قلبية تؤدى بالقلب، فالآلة التي تستخدم في أداء هذه العبادات هو القلب. القسم الثاني: عبادات قولية تؤدى باللسان. القسم الثالث: عبادات بدنية تؤدى بالجوارح، وهناك عبادات مالية تؤدى بالمال.

العبادات القلبية

العبادات القلبية العبادات القلبية هي أعظم وأخطر العبادات، فعمل القلب هو الاعتقاد، مثل أن أقول: أعتقد بقلبي أن الله واحد لا شريك له، وأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى، وكذا الإيمان بأي صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، فهذا كله عمل قلبي. ولا ينبغي أن نلتفت لقول بعض الجهلاء الذين يقولون: لا عبرة بموضوع التوحيد؛ لأنه يفرق المسلمين، وأن التوحيد عبارة عن كلام نظري لا يترتب عليه عمل!! وقد جهل هؤلاء أن مسائل التوحيد يترتب عليها أعظم العمل، ألا وهو عمل القلب الذي هو أصل أعمال الجوارح كلها، والتوحيد هو تطهير للقلب من الشرك الذي هو نجس، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، هل معنى ذلك أنك لو سلمت على نصراني أو يهودي فقد تنجست؟ لا؛ لأن المقصود هو (نجس) عقيدتهم وقلوبهم، فقلوبهم قد تنجست بأكبر نجاسة في الوجود وهي نجاسة الشرك. وبعض المسلمين -هداهم الله- يصفون الكفار بالنظافة والنظام، نعم قد تجد عند هذا الكافر شيئاً من النظافة، لكنه منجس بأخبث نجاسة وهي نجاسة الشرك في قلبه، فقد اسودّ قلبه من نجاسة الشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى، وأعظم الزكاة للتطهير هي تزكية القلب: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، (أفلح من زكاها) أي: طهر قلبه من درن الشرك والمعاصي، فأخطر نجاسة هي نجاسة القلب بالشرك، وأعظم الطهارة هي التوحيد، وتطهير القلب من الاعتقادات الباطلة. إذاً: هذا هو عمل القلب: أن يؤمن الإنسان أن لا إله إلا الله، وأن يؤدي حقوق هذه الكلمة، ويطهر قلبه مما ينافيها. ومن أعظم أعمال القلوب: محبة الله سبحانه وتعالى، فإنها من أعظم عبادات القلب، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فالقلب الذي امتلأ بمحبة الله سبحانه وتعالى هو أطهر القلوب، أما إذا دخل القلب أي محبوب سوى الله أو مع الله فهذا القلب فيه دخن ونجس. والقلب لا يقبل الله عز وجل فيه شريكاً، فمن تعلق بمعشوقه أو أي محبوب من الخلق يشغله عن محبة الله، فهذا لم يطهر قلبه ولم يزكه لله سبحانه وتعالى، ولا يدخله الخير والنور ما دام قد جعل لله شريكاً في قلبه، فلابد من تجريد القلب لله سبحانه وتعالى. قال رجل لأحد العلماء: هل يسجد القلب؟ قال: نعم، يسجد سجدة لا يرفع رأسه بعدها أبداً. القلب إذا سجد لله هذه السجدة فإنها تظل مع المؤمن حتى يموت، فلا يرفع رأسه أبداً كما يرفع من الركوع والسجود، وهي الخضوع لله سبحانه وتعالى، والتزام أمره واجتناب مناهيه مدى الحياة. فمن عبودية القلب: المحبة لله، وهي عبادة، والبغض في الله عبادة، فكراهية الكفار عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، والبراءة منهم. ومن عبادات القلوب وأعمالها: التوكل، فالتوكل على الله عمل قلبي، وعبادة قلبية، كما أن عبادة الخوف من الله عبادة قلبية، وعبادة الرجاء عبادة قلبية، وغيرها من عبادات القلوب، فلا تحب إلا الله، ولا تتوكل إلا على الله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تنوي عبادتك إلا لله. هذا هو معنى تحقيق توحيد الألوهية في القلب {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2]. وهذه العبادات التي تؤدى بالقلب، هل هي أعمال أم ليست أعمالاً؟ هي أعمال، ومن أعظم الأحاديث التي شملت تقريباً ثلث الدين حديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذه النية لا تؤدى إلا بالقلب، فالنية مكانها القلب، ولا تؤدى باللسان. إذاً: فاعتقاد القلب، والأعمال التي يعملها القلب تدخل تحت مسمى العمل، فالاعتقادات الصحيحة عمل مطلوب من الإنسان، ولا ينبغي أن يقال: إن هذه المسائل نظرية، وإن الصواب الاهتمام بأعمال الجوارح! فإن عمل القلب من أعظم الأعمال، وأعمال الجوارح تابعة لعمل القلب؛ ولذلك فإن صغائر القلب أخطر من كبائر الجوارح: فالرياء كبيرة، والعجب والغرور كل هذه المعاصي التي محلها القلب هي من الشرك، وهي مما ينافي توحيد الألوهية أو توحيد العبادة والقصد لله سبحانه وتعالى. فتحقيق عبودية القلب تعني: كيفية تحقيق القلب لشهادة أن (لا إله إلا الله)، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف ولا يرجو ولا يتوكل إلا على الله سبحانه وتعالى، فإذا وقع في الرياء فقد وقع في الشرك، وإذا وقع في أي نوع من أنواع الإلحاد في الاعتقاد القلبي فقد وقع في الشرك، وإذا وقع في أي عمل قلبي ينافي التوحيد، فخاف غير الله، أو توكل على غير الله؛ فهذا لم يحقق توحيد الله بالعبادات القلبية.

العبادات البدنية والقولية والمالية

العبادات البدنية والقولية والمالية العبادات البدنية مثل: الصيام، والصلاة، والزكاة، والحج كل هذه عبادات تؤدى بالبدن، فلا تصلي إلا لله، ولا تصوم إلا لله، ولا تؤدي الزكاة إلا لوجه الله، وأي نوع من العبادات التي تؤدى بالبدن فلا يقصد بها الإنسان إلا الله، بهذا نحقق معنى (لا إله إلا الله). والعبادات القولية مثل: النذر، والحلف، والصدق، والذكر، وغيرها من الأعمال، كلها تؤدى باللسان، فالصدق عبادة تؤدى باللسان، والحلف لا يكون إلا بالله، وهي عبادة تؤدى باللسان، ولا يتحقق التوحيد إلا بأن توجّه كل هذه العبادات إلى الله سبحانه وتعالى وحده. والعبادات المالية مثل: الذبح، فهو عبادة مالية، كأن تشتري الشيء الذي تذبحه بالمال مثلاً، فلا تذبح إلا لله، فمن ذبح لغير الله فقد وقع في الشرك. وهناك عبادات مالية أخرى كالزكاة، فلا تُزِكّ إلا لله، وكذلك الوفاء بالنذر إذا نذرت بمال، فهذه عبادة مالية لا تكون إلا لله. فمن فعل من أنواع العبادات شيئاً ووجّهه لغير الله فقد وقع في الشرك، وبإخلاصه لله يحصل تحقيق توحيد الألوهية.

تحريم كل ما يفضي إلى الشرك لصون جناب التوحيد

تحريم كل ما يفضي إلى الشرك لصون جناب التوحيد إن التوحيد لشدة خطره وعظم مكانته شرع الله سبحانه وتعالى كثيراً من الاحتياطات لصيانة جنابه، وهذا النوع من التوحيد هو المقصود من بعثة الرسل، فشرع الله عز وجل له احتياطات كثيرة، فلم يحرم -فقط- الذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والتوسل بالمقبورين، أو بالأولياء أو الأنبياء، ولكن شرع احتياطات كثيرة لحماية جناب التوحيد، وقد تبدو للإنسان أنها مسائل فرعية، ولكن المقصود بها: حماية جناب التوحيد.

تحريم الألفاظ الشركية

تحريم الألفاظ الشركية حرم الله سبحانه وتعالى على الإنسان أن ينطق بألفاظ توهم الندية والمساواة بين الله عز وجل وبين خلقه، فحرم الله على الإنسان أن يقول: أنا في حمى الله وفلان، أو: أنا توكلت على الله وعلى فلان، أو تقول: ما شاء الله وفلان. وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن المخرج من هذا القول أن يعطف الإنسان بكلمة (ثم)، ولا يعطف بـ (الواو)؛ لأن (الواو) تقتضي المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه، لكن (ثم) تقتضي تأخر المعطوف على المعطوف عليه، فتقول مثلاً: باسم الله ثم باسم فلان، أو أنا في حمى الله ثم في حماك، أو تقول: توكلت على الله ثم عليك، أو تقول: ما شاء الله ثم شئت. فهذا هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وفلان، وليقل: ما شاء الله ثم فلان). ونهى -أيضاً- النبي صلى الله عليه وسلم عن الألقاب التي فيها تعظيم لغير الله، أو نسبة تأثير لغير الله، فمثلاً: بعض الناس يقول: وحياتك، أو: وحياتي، أو: وحياة أبيك، أو: لولا فلان لكان كذا، لولا أن الكلب نبح لكان اللص سرقنا، لولا مجيء فلان لقُتل هذا الرجل، لولا صياح الديك لسرقنا اللصوص. فتقول: لولا رحمة الله، لولا فضل الله، لكن لا تنسب التأثير إلى هذه المخلوقات لولا ذلك الطبيب لكنت قد متّ، أو لحصل لي كذا، لولا الدواء الفلاني لما شفيت، وهذا كله شرك فإن الله هو الشافي. فينبغي أن يفطن المسلم إلى مثل هذه الأمور التي تقدح في التوحيد.

تحريم اتخاذ القبور مساجد

تحريم اتخاذ القبور مساجد لحماية جناب التوحيد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فاستفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). كما نهى عن الصلاة في أوقات معينة، حيث جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها)؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يعبدون الشمس؛ لأنهم يتحرون السجود للشمس في هذه الأوقات: وقت الشروق، ووقت الغروب. ونهى صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلى مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فيه، سوى المساجد الثلاثة، كما في الحديث: (لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) يقصد المسجد النبوي.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام للرجال تعظيما لهم

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام للرجال تعظيماً لهم ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعض أصحابه له على جهة التعظيم، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين رآهم يقومون له: (لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظّم بعضهم بعضاً)، وهدد النبي صلى الله عليه وسلم من يحب أن يتمثل الناس له قياماً فقال: (من أحب أن يتمثل له الرجال بين يديه قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذا أيضاً من الأسباب التي تحمي حمى التوحيد؛ لأنه حين يقوم الناس بعضهم لبعض تعظيماً فإن ذلك قد يخدش في جناب التوحيد، وحينما وقعت آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزة له، سجد معاذ له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا معاذ؟! لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولكن لا ينبغي السجود إلا لله عز وجل)، وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالصحابة جالساً، وصلوا وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال لهم بعد أن فرغ من الصلاة: كدتم أن تفعلوا آنفاً فعل فارس والروم لعظمائهم، يجلس الرجل ويمثل الناس قياماً بين يديه)؛ لذلك نهى عن هذا الفعل.

تحريم التصوير

تحريم التصوير كما حرم النبي صلى الله عليه وسلم التصوير بكل أنواعه -أي: تصوير ذوات الأرواح- لما فيه من مضاهاة خلق الله، ولما فيه من اعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، فالله هو المصور كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، وفي الحديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين الذين ذهبوا يخلقون كخلقي؟! فليخلقوا بُرة فليخلقوا شعيرة)، فهل يستطيع هؤلاء المصورون أن يخلقوا حبة شعير؟! وإنما تحداهم الله عز وجل يوم القيامة لِعِظَم الحكمة من تحريم التصوير، وهي: مضاهاة خلق الله، وليس فقط حماية جناب التوحيد من عودة الناس إلى عبادة الأصنام التي كانوا يعبدونها، لكن الحكمة لأن فيها تشبهاً بخلق الله، فإن تشبه المخلوق بفعل الخالق لا ينبغي، كما جاء في تحريم التعذيب بالنار، فإنه لا يحل التعذيب بالنار؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، وكذلك التصوير من خصائص الخالق سبحانه وتعالى، فلا ينبغي مضاهاة خلق الله، والتشبه بفعل الله في خلق ذوات الأرواح؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم التصوير قوله: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة)، وقال: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)، فتحداهم الله عز وجل بأن يحيوا ما خلقوا. أفلا يتقي الله أناس لم يكتفوا باستباحة هذه التصاوير في بيوتهم، ولكن بدءوا يجترئون على حرمة بيوت الله، ويدخلون هذه التصاوير داخل المساجد، ويوقظون الفتن، ويدسون الشر في بيوت الله!! فإذا كانت الملائكة لا تدخل المساجد فأين تدخل؟! ووجود الصور داخل المساجد من ذرائع الوقوع في هذه المخالفة العظيمة، وإقرار هذا المنكر العظيم، فينبغي أن نراعي حرمة المسجد، فإن المسجد له حرمة عظيمة، ولا ينبغي أن نُدخل إلى المسجد شيئاً من هذه التصاوير التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وتواترت الأحاديث في تحريمها والتحذير منها.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الغلو فيه وفي مدحه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني-والإطراء: هو المبالغة في المدح- كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم)، ولما جاء ذلك الوفد وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (إنما السيد الله)، ولما جاء رجل وقال للنبي: ما شاء الله وشئت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، ولما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فأخذته رعدة، أي: ارتعد من هيبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (هوّن عليك! فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة) صلى الله عليه وسلم.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور والبناء عليها

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور والبناء عليها وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور، وتجصيصها، والبناء عليها، وإيقادها بالسرج، والعكوف عليها؛ خشية الافتتان بها والوقوع في تعظيمها، كما هو الآن حال كثير من الناس الذين يعبدون القبور عبادة حقيقية، فيذهبون إلى المقبورين، وقد قسموهم إلى تخصصات: فهذا لمن أراد أن ينتقم من جاره، وهذه لمن أرادت أن تنجب، وهذا لمن أراد أن ينجح ولده في الامتحانات وهكذا أصبح لكل واحد تخصص!! فيطلبون منهم النصر على الأعداء، ويطلبون منهم الشفاء، ويطلبون منهم الإنجاب؛ حتى وقعوا في ألوان من الشرك ما كانت تخطر على بال أحد أن يقع فيها ممن ينتمي إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في مكان كان يعبد فيه غير الله

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في مكان كان يعبد فيه غير الله ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في مكان كان يعبد فيه صنم، أو كان يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة -وهي هضبة قريبة من ساحل البحر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكان فيها صنم من أصنام الجاهلية يعبد؟ فقال: لا. فقال: هل كان يقام فيها عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا. قال: فأوف بنذرك)؛ فلم يكن التحذير من هذه الأماكن إلا مراعاة لجانب التوحيد، واحتياطاً حتى لا يدخل فيه شيء من الشرك. ونهج الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الاحتياط للتوحيد، والمحافظة على حماه؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما رأى بعض الناس يأتي لشجرة الرضوان فيصلي عندها -وهي الشجرة التي بايع الصحابة عندها النبي عليه الصلاة والسلام- فأمر بقطعها؛ حتى لا يفتتن الناس بهذه الشجرة، وحتى لا يتبركوا بها، وقال عمر رضي الله عنه وهو يستلم الحجر الأسود ويقبله: (والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك!!).

آداب الاستئذان [1]

آداب الاستئذان [1] دين الإسلام دين كامل شامل لجميع جوانب الحياة، فما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه، ومن شمولية هذا الدين أنه حرص على حرمة الإنسان في كل شيء، ومن ذلك حرمته في بيته؛ ولأجل ذلك شرع آداباً لمن أراد أن يدخل بيت غيره، وأمره بأوامر، ونهاه عن نواهٍ، وهي ما تعرف بآداب الاستئذان، فينبغي العلم بها وتطبيقها؛ للحاجة الماسة إليها في واقع الناس وحياتهم.

اهتمام الشريعة بتعظيم حرمة البيوت

اهتمام الشريعة بتعظيم حرمة البيوت الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى كل خير وصلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، ولا ند له في عظمته وكبريائه ومجده وأحديته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من بريته، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وسائر القائمين بحقوقه ونصرته أما بعد: فهذا موضوع قد ناقشناه من قبل مناقشة عابرة، والآن إن شاء الله تعالى نلخص القول فيه بحيث يتمكن من احتاج إلى الموضوع أن يرجع إليه، وهو: موضوع الأحكام التي تتعلق باحترام خصوصية الإنسان، وبعض الخصوصيات التي احترمتها الشريعة الإسلامية، والتي فاتت على كثير من الناس، وأعظم هذه الأبواب في الشريعة هو: أحكام الاستئذان، ثم يليه أمور أخرى سنذكرها إن شاء الله تعالى فيما بعد. ففيما يتعلق باحترام خصوصية بيت الإنسان وحرمته، ضمن الإسلام حق الفرد في ملك رقبة منزله، وأن يعيش فيه آمناً مطمئناً، محفوظاً من تطفل المتطفلين، وفضول الفضوليين، وعدوان الصائلين، حيث يلقي أعباء الحذر، ويتحرر من قيود التكلف، وحجر على الآخرين أن يطلعوا على ما في هذه البيوت من الخارج، أو أن يلجوها من غير إذن أربابها، وإن ولجوها بإذن أربابها فهناك قيود وضوابط تُلزمهم بغض البصر، وعدم الاطلاع على عورات البيت من داخله، ثم هناك آداب تلزمهم بأنهم إذا خرجوا وقد اطلعوا على شيء مما يختص به صاحب البيت، فلا يفشون له سراً، ولا يهتكون له ستراً، قال الله سبحانه وتعالى في سياق الامتنان على الإنسان بنعمة المسكن: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80]، وإنما سمي مسكناً؛ لأنه محل الارتياح والسكينة والطمأنينة والاستقرار والأمان؛ فإن الإنسان إذا أفسد عليه هذا الملجأ الأخير فإلى أين يلجأ بعد ذلك؟! فمن ثَم اهتمت الشريعة جداً بتعظيم حرمة البيوت باعتبارها آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي سكن وراحة واطمئنان، فالبيت كالحرم الآمن لأهله، فلا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا الناس عليها، ولا يحل لأحد أن يتطفل على الحياة الخاصة للأفراد بالاستنصات، أو التجسس، أو اقتحام الدور ولو بالنظر من قريب، أو من بعيد، بمنظار أو بدونه إلخ. فالحاجة لتذكير الناس بحرمة البيوت، واحترام خصوصيات أهلها، حاجة ملحة ومتجددة، ويكفي في بيان أهمية هذا الأمر، وثقل وزنه في الشريعة أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل فيه قرآناً يتلى في المحاريب إلى ما شاء الله تعالى؛ ليحفظ هذه الحرمة، ويصون هذه الخصوصية.

إهمال الناس لآداب الاستئذان

إهمال الناس لآداب الاستئذان لقد تواترت شكوى أهل العلم عبر العصور من إهمال الناس لآداب الاستئذان، حتى صارت بينهم لشدة غربتها كأنها شرع منسوخ، يقول الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى: وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لم يؤمن بها أكثر الناس؛ يعني: آية الإذن. وهذا الكلام ليس على ظاهره، وإلا فمن كذب بحرف من القرآن فقد كفر، فما بالكم بمن يكذب بآية؟! فـ ابن عباس يريد الزجر، ويعني: أن الناس يسلكون سلوك من لم تنزل عليه هذه الآية في القرآن، فكأنهم ما سمعوها؛ لشدة هجرهم إياها، وليس الكلام على ظاهره في أن الناس لا يؤمنون بهذه الآية، وإلا لاستلزم ذلك تكفيرهم، فالمراد هنا الزجر وبيان غربة هذا الحكم. يقول: وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم يؤمن بها أكثر الناس) يعني: آية الإذن (وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي). فهذا واضح في أنه يقصد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58]، والدليل على أنه قصد هذه الآية قوله: جاريتي، يعني: أمتي، وهي مما ملكت يمينه. وعن الشعبي في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} [النور:58] قال: لم تنسخ، قيل له: إن الناس لا يعملون به، قال: الله المستعان. وعن سعيد بن جبير قال: إن ناساً يقولون: نسخت هذه الآية، لا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون بها الناس. وقال الزمخشري: وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً، أو حييتم مساءً، ثم يدخل. أي: أنّ هذه كانت طريقة الاستئذان في الجاهلية، فيقول: حييتم صباحاً، إن كان في الصباح، أو حييتم مساءً، ثم يهجم على البيت ويدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصد الله عن ذلك، وعلم الأحسن والأجمل. يقول الزمخشري: وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك، بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد. أي: أنه شبه هذا الهجوم المباغت من الذي لا يستأذن بهجوم الدم الذي يخرج من الأنف فجأة دون سابق إنذار، وهو الرعاف. يقول الزمخشري: وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك، بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أين الأذن الواعية؟! انتهى كلام الزمخشري رحمه الله تعالى. أما في عصرنا، فمن أراد أن يعرف شدة غربة أحكام الإسلام بين الخاصة فضلاًً عن العامة، فليتأمل موقفهم من أحكام الاستئذان وآدابه، وإذا تأمل الإنسان أحكام الإسلام السامية، وآدابه الراقية في باب احترام خصوصية الناس ومراعاة حرمة بيوتهم؛ لأدرك أننا متخلفون عن الإسلام، لا عن الحضارة المادية الكافرة بالله ورسله التي لا يزال المنبهرون بها يشيدون بفضائلها المزعومة، وقد أعماهم افتتانهم بهدي الكفار عن رؤية مثالب الواقع الاجتماعي الغربي الذي يعاني من التحلل والانهيار، فما عند القوم من الشر والبلاء والانحلال أضعاف ما عندهم من الخير، وما عندهم من الخير فلدينا أضعاف أضعافه، مما يغنينا عن التطفل على موائدهم، وهو أقرب إلينا من أيدينا وهو أصلاً مأخوذ منا كما هو معلوم في مناسبات أخرى، فهذه بضاعتنا المفروض أن ترد إلينا، ولكن المستغربين لا يفقهون، وحالهم كالذي قيل فيه: كالعيس في البيداء يقتلها الضما والماء فوق ظهورها محمول

أحكام الاستئذان وآدابه

أحكام الاستئذان وآدابه لنبدأ في هذا البحث كمحاولة للتذكير بجملة من هذه الآداب الاجتماعية المهمة التي درست بين الناس كما يدرس وشي الثوب، فنبدأ أولاً بتعريف الاستئذان.

معنى الاستئذان

معنى الاستئذان الاستئذان لغة: هو طلب الإذن؛ لأن السين هي سين الطلب، والإذن: من أذن بالشيء إذناً بمعنى أباحه، وعليه فإن الاستئذان: هو طلب الإباحة. أما شرعاً فالاستئذان: هو طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن. قال الله سبحانه وتعالى في آية الاستئذان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، فقوله: (بيوتاً غير بيوتكم): سيأتي إن شاء الله تعالى فيما بعد بيان ما هو بيت الرجل؟ لأن المقصود هنا الاستئذان في غير بيتك، فالبيت الذي تدخله بدون إذن هو البيت الذي تعيش فيه وحدك، ولا يوجد فيه غيرك، أو البيت الذي فيه زوجتك أو ما ملكت يمينك، وما عدا ذلك فليس بيتاً لك، فمثلاً: الغرفة المغلقة في البيت على بنتك أو ابنك البالغ، أو أختك، أو أمك، ليس بيتاً لك، صحيح أنك تملكه، أو أنك المستأجر وعقد الإيجار باسمك، لكن عندما نتكلم هنا في آداب الاستئذان على بيت الإنسان فالمراد المكان المغلق أمامه، إن كان يعلم أنه لا يوجد فيه أحد، أو توجد فيه زوجته أو أمته؛ فهذا هو بيته الذي لا يجب عليه أن يستأذن قبل دخوله، أما الغرفة المغلقة في داخل البيت على بنته البالغة، أو ابنه البالغ، فلا يدخلها أبداً إلا باستئذان، كما سنبين إن شاء الله تعالى. فالاستئذان شرعاً: طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن، والفقهاء يستعملون الاستئذان بالمعنى اللغوي فيقولون: الاستئذان لدخول البيوت، ويعنون به: طلب إباحة دخولها للمستأذن.

تفسير معنى الاستئناس في قوله تعالى: (حتى تستأنسوا)

تفسير معنى الاستئناس في قوله تعالى: (حتى تستأنسوا) يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم، وسبب هذا الإشكال: التعبير عن الاستئذان بالاستئناس، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)، فعبر عن الاستئذان بالاستئناس، مع أن الاستئذان والاستئناس مادتان مختلفتان، من حيث الحروف، ومن حيث المعنى. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وحكى الطحاوي: أن الاستئناس في لغة اليمن: الاستئذان، وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى: الوجه الأول في تفسير هذه الآية: أن قوله تعالى: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش -أي: حتى تذهب الوحشة عنكم- لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس وزال عنه الاستيحاش، وفي حديث عمر الطويل في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه يقول: (فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فجلست) رواه البخاري في أواخر كتاب النكاح، فقوله: (أستأنس يا رسول الله؟) أي: أستأذن. ولما كان الاستئناس لازماً للإذن أطلق اللازم وأريد ملزومه الذي هو الإذن، وإطلاق اللازم وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف، والقائلون بالمجاز يقولون: إن ذلك من المجاز المرسل. وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم -الذي هو الاستئناس- وأريد ملزومه -الذي هو الإذن- يصير المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأذنوا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53]، وقال تعالى في نفس هذه الآية: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28]، فكلمة: (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) تدل على أن المراد من قوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى يؤذن لك، أو تستأذن. وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره: وهذا من قبيل الكناية والإرداف؛ لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن؛ لأنه يأتي بعد الإذن. هذا هو الوجه الأول في تفسير الآية: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى تأتوا بالإذن الذي يوجب زوال الوحشة، ويحصل به الاستئناس. الوجه الثاني في تفسير الآية: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى تستعلموا وتستكشفوا، فتستأنسوا: استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، أو علمه، والمعنى: حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يؤذن لكم أو لا؟ وتقول العرب: استأنس هل ترى أحداً؟ أي: انظر هل ترى أحداً؟ وتقول: استأنست فلم أر أحداً، أي: تعرفت واستعلمت، ومن هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ} [النساء:6] أي: استكشفتم واستعلمتم وعلمتم أنهم قد رشدوا، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] أي: إن علمتم رشدهم وظهر لكم، وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَس} [طه:10] (آنست) أي: اكتشفت، أو استكشفت، أو استعلمت، وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} [القصص:29] (آنس ناراً) أي: رآها مكشوفة. أيضاً في نسق التلاوة ما يدل على أن المراد بقوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] الاستئذان، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] وهم الكبار، فأين الكلام عن الكبار؟ هو في الآية السابقة التي فيها الاستئناس. ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان: كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد ومنه أيضاً قول الحارث بن حلزة اليشكري يصف نعامة شبه بها ناقته: آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصراً وقد دنا الإمساء قوله: آنست نبأة، أي: أحسست بصوت خفي. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا: تستكشفوا وتستعلموا هل يؤذن لكم؟ وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون بالاستئذان أظهر عندي، وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا. قلت: لا بأس من إيراده وإن كان في غاية الضعف، وهو: ما حكاه الزمخشري حينما قال: ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعلق عليه الناصر فقال: وذكر أيضاً وجهاً بعيداً، وهو أن المراد: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: حتى تعلموا هل فيها إنسان أو لا. وهذا ضعيف من حيث المعنى؛ لأن الإنسان إذا استأذن هل معنى ذلك أنه يسأل: أيوجد إنسان في الداخل أم لا؟ وهل هذا هو معنى الاستئذان؟ لا، فإنّ موضوع الاستئذان هو طلب الإذن في الدخول ولو كان هناك إنسان في الداخل، كما سنوضحه فيما بعد، هذا أولاً. ثانياً: أن كلمة: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) لو قلنا: إنّ معناها: حتى تعلموا هل يوجد إنسان في الداخل أم لا، فمعنى هذا أنه اشتق من كلمة الإنس. وقال الألوسي رحمه الله تعالى: وضُعِّف بأن فيه اشتقاقاً من جامد -أي: أن كلمة (الإنس) كلمة جامدة، فكيف يشتق منها مادة استأنس؟ - كما في المسرج أنه مشتق من السراج، وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن، فيوهم جواز الدخول بلا إذن. أي: إذا عرفنا أن هناك أحداً في الداخل فهل ندخل بدون إذن؟ A لا، فلذلك ضعف هذا الوجه من الناحيتين: الناحية الأولى: أنّه اشتقاق من جامد وهي كلمة (الإنس)، وهذا لا يصح. الناحية الثانية: أنّ محور القضية ليس هو: هل يوجد إنسان أم لا؟ وإنما محورها: هل يأذن أم لا؟ ولو كان موجوداً.

حكم الاستئذان

حكم الاستئذان لا يجوز للإنسان أن يدخل بيت غيره بدون الاستئذان والسلام؛ لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وهذا نهي صريح متجرد عن القرائن، فظاهره التحريم. قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: الاستئذان واجب على الناس أجمعين إن احتلموا، فالخطاب هنا للبالغين المكلفين؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59]، فدل على أن الحد الفاصل للوجوب وعدم الوجوب هو بلوغ الحلم. وحكى النووي إجماع العلماء على مشروعية الاستئذان؛ بل قال المالكية: إن الاستئذان واجب وجوب الفرائض، وإنه لا يجوز لأحد أن يدخل بيتاً لغيره حتى يستأذن أهله، سواء كان المستأذن قريباً للمستأذن عليه، أو أجنبياً عنه، وهو مجمع على وجوبه، فمن ترك الاستئذان فهو عاصٍ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جحده فإنه يكفر؛ لأنه ورد الأمر به في الكتاب الكريم. وقد يفهم بعض الناس من كلمة الآداب عندما نقول: الآداب الشرعية، أو آداب الاستئذان، أنها أمور مستحبة، أو مجاملات يفضل للإنسان أن يلتزم بها وليست بواجبة، وهذا فهم خاطئ، فإن منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو مباح، فالاستئذان أدب واجب كما بينا.

الحكمة من الاستئذان

الحكمة من الاستئذان قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: اعلموا -وفقكم الله- أن الله سبحانه وتعالى خصص الناس بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج، أو يلجوها بغير إذن أربابها؛ لئلا يهتكوا أستارهم، ويبلوا أخبارهم، وتحقيق ذلك ما روي في الصحاح عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (اطلع رجل في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك بها رأسه -والمدرى: المشط- فقال عليه الصلاة والسلام: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فمن دخل بعينه فقد دخل) أي: وإن كان بدنه من الخارج، فهذا يشير إلى هذا المعنى المهم، فهذه هي الحكمة من الاستئذان. وكما أن الإنسان يتخذ البيت لستر نفسه وعورات أهله، فإنه يتخذه أيضاً لستر أمواله ومتاعه، وكما ذكرنا فإنّ الإسلام يحترم الملكية الفردية، ويحترم الملكية الخاصة، وخصوصيات الإنسان، فكما يكره الإنسان اطلاع الغير على نفسه، أو على عورات أهله وحرمه، فكذلك يكره اطلاع الغير على أمواله ومتاعه، يقول الزمخشري في الكشاف: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} [النور:28] يعني: من الآذنين {فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور:28] واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم، وانظر إلى هذا التعبير القرآني فإنه في غاية الدقة، فالله سبحانه لم يقل: (فإن لم يكن فيها أحد فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم) وإنما قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً)، فإذا طرقت باب أحد من الناس ولم يرد عليك، وتريد أن تكتب ورقة، فهل تتحرج من أن تكتب: حضرت ولم أجد أحداً؟ A لا حرج في ذلك. وهناك فرق بين العبارتين السابقتين، أعني: قوله تعالى: (فإن لم تجدوا فيها أحداً)، وبين قولنا: (فإن لم يكن فيها أحد)، وأذكر هنا قاعدة معروفه عند المناطقة، وهي قاعدة صحيحة: أن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، بمعنى: لو أنّ طالب علم مثلاً يكتب بحثاً حول الربا، فأتى بكتاب (الأم) للشافعي رحمه الله مثلاً، وبحث عن مسألة معينه في باب الربا فما وجدها، فهل يجوز له أن يقول: فتشت في كتاب الأم للشافعي ولم أجد فيه هذه المسألة في موضوع الربا، أم يقول: لم يتعرض لهذه المسألة في كتابه هذا؟ A يقول: فتشت في باب الربا فلم أجد فيه هذه المسألة، ولا يقول: لا توجد هذه المسألة في هذا الكتاب، أو لم يتعرض لها، لماذا؟ لأنه لا يجوز القطع بعدم الوجود إلا على أساس استقراء تام، أو دليل قطعي. ومثله قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18] أي: لقد اتخذتم شركاء آخرين مع الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى لا يعلم له شريكاً في السموات ولا في الأرض، فما هو الشيء الذي لا يعلمه الله؟ هو الشيء المعدوم الذي ليس بموجود، فما دام أنّ الله تعالى لا يعلمه فهو غير موجود، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم كل ما في السموات وما في الأرض، ولا يغيب عنه شيء سبحانه وتعالى. إذاً: فهذا الطالب الذي يقول: فتشت عن هذه المسألة في كتاب الربا، أو في باب الربا من كتاب الأم فلم أجدها، قد أصاب، وأما من يطلق ويقول: ليس في كتاب الأم تعرض لهذه المسألة، فلم يصب، إلاّ أن يكون استقرأ الكتاب كاملاً؛ فلعلّ الشافعي تعرض لها في باب آخر، وهذا يحصل كثيراً. فالشاهد: أنّه في حالة عدم الوجدان يقول: أنا فتشت فلم أجد في حدود علمي، ولذلك تجد دقة المحدثين كالإمام الحافظ العراقي مثلاً في تخريج الحديث يقول: لا أعرفه. فانظر إلى الدقة والأدب، بينما يأتي بعض أفراخ هذا الزمان من طلبة العلم المتطفلين على علم الحديث فيجزم بالقطع أن هذا ليس موجوداً على الإطلاق، لكن انظر للعالم المتقن يقول: لا أعرفه. أي: أنا لا أعرفه، لكن يمكن أن غيره من العلماء يعرفه، لأنه لا يوجد أحد يحيط علماً بكل شيء، فيقول: لا أعرفه، وينسب التقصير إلى نفسه، وينفي المعرفة عن علمه، فلا بدّ أن يكون الإنسان دقيقاً، فعدم الوجدان يعني: أني بذلت جهدي ووسعي فلم أجد المراد، فتتحدث عن محصلتك وعن نفسك، لكن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، فقد يكون موجوداً وأنت إما قصرت، وإما غاب عنك بأي صورة من الصور. فالشاهد هنا: أن قول الله سبحانه وتعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً) نفي للوجدان، لكن هل يلزم منه عدم الوجود؟ لا؛ لأنّه يمكن أن يكون هناك أناس في الداخل، ولسبب من الأسباب -والبيوت أسرار، والبيوت عورات- لا يريدون أن يفتحوا، وهذا حق من حقوقهم، فلا بد أن نفهم هذا الأمر؛ لأن القرآن نفسه أشار إلى هذا المعنى بقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]. فالشاهد: أن من حكمة الاستئذان ستر عورات الأبدان، وعدم اطلاع الناس الآخرين عليها، وكذلك ستر الأموال، والمتاع، والأمور الخاصة التي لا يحبون اطلاع الناس عليها. قال الزمخشري: فإن لم تجدوا فيها أحداً من الآذنين فلا تدخلوها، واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم، ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها. يعني: لو أنّ واحداً كان متأكداً أن صاحب البيت -مثلاً- مسافر، ولا يوجد أحد في البيت، فهل يجوز له أن يقتحم البيت ويدخل؟ لا؛ لأنّ حِكَم الاستئذان ليست مقصورة على ستر عورات الأبدان فقط؛ بل يدخل فيها ستر عورات البيوت والممتلكات. يقول الزمخشري: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها؛ وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادات عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلا بد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه القهر والتغلب. وقول الزمخشري هنا: وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة فقط، الدامر: مأخوذ من الدمور، والدمور: هو الدخول بغير إذن، فكون الإنسان يهجم ويدخل مكاناً ليس ملكاً له بدون إذن فإنه يسمى: دامر، واشتقاقه من الدمار، وهو الهلاك؛ لأنه هجوم بما يكره، فكأن صاحبه دامر أي: هالك؛ لعظم ما ارتكب من الجريمة، فقد اقتحم حرمة الآخرين بدون إذن، وقيل: المعنى: أن إساءة المطلع مثل إساءة الدامر، وروي: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد دمر)، وروي: (من سبق طرفه -أي: عينه- استئذانه فقد دمر عليهم)، أي: هجم ودخل بغير إذن. ومن حكم الاستئذان: بقاء البيت سكناً لصاحبه يأوي إليه لراحته، ويستقر فيه لينجز عملاً، أو يخلو بعبادة وذكر وتفكر، أو يطلب علماً، أو يرعى أهلاً وولداً، فهذا معنى (السكن)، وهذه المعاني هي ظلال هذه العبارة العظيمة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80]، فربما لا يريد الإنسان أن يقطع ما هو فيه من تلاوة قرآن، أو عبادة، أو صلاة، أو نحو ذلك، فهناك أعذار وأحوال كثيرة جداً قد تمنع الإنسان من مجرد الرد على المستأذن، أو الإذن له، فإما أنّه يريد أن يستريح، فإذا دُق الباب في كل وقت فإنه لا يستطيع أن ينام مثلاً، ولا يستطيع أن يأوي لراحته، أو يستقر فيه لينجز عملاً، أو يخلو بعبادة وذكر وتفكر، أو يطلب علماً، أو يرعى أهلاً وولداً، فلو ترك وقته نهباً لكل طارق فاتت عليه مصالحه، واضطربت أحواله، وتشتت أمره، مما قد يؤدي إلى تشويش فكره، فيسيء خلقه، ويضيق صدره. إن المعنى الحقيقي للاستئذان ليس كما يفهمه البعض: هل أنت موجود في الداخل حتى يلزمك أن تأذن لي؟ وإنما هو: هل أنت موجود أم غير موجود؟ فإن كنت موجوداً فهل ظروفك تناسب أن تأذن لي أم لا؟ فيأتي الرد من صاحب البيت إما بالقبول، وإما بالاعتذار.

الاعتذار عن إجابة المستأذن

الاعتذار عن إجابة المستأذن الاعتذار له طريقتان دل عليهما القرآن الكريم: الطريقة الأولى: أن يكون الاعتذار صريحاً، وذلك بأن تقول: (ارجعوا). والطريقة الثانية: أن يكون الاعتذار ضمنياً. ويكون ذلك بعدم الرد، والناس قد تضطر في هذا الزمان إلى هذا النوع من الاعتذار الذي أبيح في القرآن الكريم؛ لقصور إدراك كثير من الناس عن فهم هذه الآداب الشرعية، فلو قيل له: ارجع، فقد يؤدي ذلك إلى بعض المصادمات، فيسكت دفعاً لتلك المفسدة، ومن الناحية التربوية نجد أن سكوت صاحب البيت أهون من أن يرسل الطفل ويقول له: أخبره أن أبي غير موجود، فيقول الطفل: يقول لك أبي: إنه غير موجود! فلا يستطيع أن يضبط الكلام، ولا يعرف الغرض من كلامك وهذا يؤدي إلى تحطيم أهم خلق ينبغي أن يغرس في الأطفال، وهو خلق الصدق، ويغرس أسوأ خلق ينبغي أن ينزه عنه الأطفال، وهو خلق الكذب، ومن الذي يعلمه هذه الخصلة؟ إنّه أبوه القدوة الذي يحطم عنده هذه القدوة، ويلقنه الكذب بدرس عملي، فمهما كلمه بعد ذلك عن الصدق وأهميته فإنه لا يتأثر، فاحتياطاً لتربية الأطفال ينبغي أن يقول لمن أراد أن يستأذن: ارجع، أو يسكت ولا يتكلم، وهذا هو الغالب في هذا الزمان أنه لا يتكلم؛ حماية للأطفال من أن يلقنوا الكذب منذ نعومة أظفارهم. إنّ عدم فهم حقيقة الاستئذان التي ذكرناها سابقاً كان سبباً في إلحاح بعض الناس في الاستئذان، والانتظار أمام الأبواب، وأعرف بعض الناس يدق الجرس حتى يحترق الجرس أحياناً! وفي بعض الأوقات صاحب البيت ينزع الكهرباء عن الجرس؛ حتى لا يحترق الجرس، فإذا انتهى الجرس فإنه يضرب الباب بيديه ورجليه، ويقول للذي معه: أنا متأكد أنه في الداخل، أنا سمعت صوته، فمثل هذا لم يفقه معنى الاستئذان.

صفة الاستئذان

صفة الاستئذان الأصل في الاستئذان أن يكون باللفظ، وهنا أنبه على أمر مهم جداً: وهو احترام خصوصية الإنسان في حدود شرع الله سبحانه وتعالى، فترى بعض الناس يأتي إلى الأطفال الصغار ويريد أن يتلصص إلى معرفة أسرار البيوت من خلالهم، وهذا كثير في النساء؛ لأن النساء يتمتعن -إلا الأخوات الملتزمات- بقدر من الفضول غريب، فيقول في نفسه: إنّ الطفل الصغير لن يستطيع أن يميز، فيتتبعون الأطفال لهذا الغرض، فبدلاً من أن يدخل ويتلصص بنفسه، ويتجسس على عورات البيوت؛ تراه يمسك الأطفال ويقول في نفسه: هذا مصدر آمن للتجسس على أحوال الناس، فيأتي بالطفل ويسأله عن أسرار البيت: ماذا حصل في كذا؟ وماذا قالوا في كذا؟ وماذا عندكم؟ وماذا عملتم في كذا؟ إلى آخر هذه الأشياء، فكيف التصرف في هذه الحالة؟ سنشوه صورة الكبار في عين الطفل، اقترحوا معنا حلاً للمشكلة هذه، قد يوجد في داخل بعض البيوت أسرار، كما يقول المثل العامي الذي يكون أحياناً حكيماً: البيوت أسرار، فلو أراد أحد أن يستغل براءة الطفل في أن يطلع على هذه الأسرار فكيف تحتاط لذلك؟ كلمة (تربية الأولاد) كلمة فضفاضة، ونحن نريد حلاً لمشكلة محددة. والحل: أن تعلم الطفل أن أي إنسان يسأله عن هذه الأمور أن يقول له: اسأل أبي، أو اسأل أمي، وتحفظه هذا بدون أن تشرح له؛ حتى لا يظهر الناس الكبار أمامه بصورة مشوهة، فإنك إذا قلت له: هذا فلان يتجسس، وهذا يرتكب معصية، ستشوش الكبار أمامه، لكن الأحسن من ذلك أن تعلمه أن من سأله عن أسرار البيت وخصوصياته أن يقول له: اسأل أبي، أو اسأل أمي، وهنا سوف يفهم هذا المتطفل أن هناك أحداً لقنه هذا الموضوع، وأنه منتبه لهذا العدوان. فالأصل في الاستئذان -كما قلنا سابقاً- أن يكون باللفظ، كما بين الله سبحانه وتعالى، وصيغته المثلى أن يقول المستأذن: السلام عليكم، أأدخل؟ فيجمع بين السلام والاستئذان، وما أروع أن يبدأ بالسلام الذي هو ذكر الله سبحانه وتعالى باسم من أسمائه سبحانه، وله فضيلة عظيمة جداً كما هو معلوم، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. قال الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي رحمه الله تعالى: وأمر مع الاستئذان بالسلام؛ إذ هو من سنة المسلمين التي أمروا بها، ولأن السلام أمان منه لهم، وهو تحية أهل الجنة، ومجلبة للمودة، وناف للحقد والضغينة. لقد سبق أن تكلمنا من قبل عن فضائل السلام، والمسلم يتحسر على ما وصل إليه المسلمون! فتجد بعض الناس يتحرى ألاّ يقترب من الأمور التي فيها هذه الآداب الإسلامية، وبعض الناس يتكبر عن أن يرد السلام، ويظن أن هذه تحية من تحايا العرب المتخلفين، أما هم فتراهم يستعملون هذه التحايا الشيطانية الجاهلية: صباح الخير، ومساء الخير، إن لم تكن أيضاً باللغة الأجنبية كما يحصل الآن من بعض المنهزمين، وما درى هؤلاء المساكين أنهم في عدم إلقاء السلام عليهم قد أضروا أنفسهم بعقوبة شرعيه يعاقب بها الفاسق والمبتدع والكافر، وإن كان لا يستحق الرد، فهذا تشريف له أن تبدأه بالسلام. ومن العقوبة للمبتدع، أو الفاسق، أو العاصي، أنك لا تبدؤه بالسلام؛ لأن ذلك تشريف له، فترى الواحد من هؤلاء يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويفضل الدونية في تحية صباح الخير، ومساء الخير, وغيرها من الألفاظ العجمية، بدلاً من: السلام عليكم، وهذا من السفه، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. عن ربعي بن خراش قال: حدثنا رجل من بني عامر قال: (إنه أستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج -يعني: أأدخل-؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، وقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل، فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له، فدخل)، إن كثيراً من المواقف يحصل فيها خطأ في مراعاة آداب الاستئذان، ثم نجد الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم الناس هذا الأدب، وهذه وظيفة المربي دائماً: أنك ما تفوت فرصة إلا وتعلم الطفل، ونتكلم عن الطفل لأنه لا يزال عوداً غضاً طرياً يقبل التشكيل كالعجينة، أما الكبار فيصعب تشكيلهم إلى حد ما، إلا من كان ملتزماً حقيقياً بدين الله تعالى؛ فإنه إذا سمع حكم الله يقول: سمعنا وأطعنا.

تعليم الأطفال آداب الاستئذان

تعليم الأطفال آداب الاستئذان أما الطفل فلا تجعل له حصة خاصة بالتربية والتأديب؛ بل إنّ سلوكياتك أمامه هي دروس وتعليم، ولذلك إذا نشأ الطفل في بيت كل من فيه يحترم آداب الاستئذان؛ فإنه لا يحتاج أن يتعلم هذه الآداب؛ بل تصبح جزءاً من كيانه، فيعرف أن الاستئذان يكون كذا، وإذا وجد كل من يعطس في البيت يقول: الحمد لله، ثم يجاب عليه: يرحمكم الله، ثم يجاب عليه بكذا، فإنه سيفعل نفس السلوك تلقائياً بالتلقين والتقليد والمحاكاة، فأفضل شيء أن تغرس فيه منذ نعومة أظفاره هذه الآداب، فتصبح جزءاً من هويته ومن كيانه، بحيث لا يحصل أي عناء على الإطلاق في التفاعل مع هذه الآداب. وإذا بدأ الطفل يعي فلك أن تعلمه هذه الآداب في وقتها وحينها، فإذا أوقفته عند الباب فقل له مثلاً: قبل أن تدخل تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ويحاول أن ينطق الكلمة، فإذا قال ذلك فتعطيه هدية، وتشجعه على التزامه بهذا الأمر، وربما تحكي للآخرين أن هذا الطفل فعل كذا وكذا أمامه، والآخرون يظهرون انبهاراً بذلك، فيشعر أنه أتى بشيء عظيم، وشيء محبوب، ثم إذا قصر مرة أو مرتين أو عاند فلا تلح عليه أو تضغط عليه أو توبخه، وإنما تتركه إلى أن يتعود على ذلك، وتصبح عادة راسخة فيه. وإذا عطس أحد ولم يحمد الله، وقال له الطفل: يرحمك الله، فتفهمه مسألة جديدة، فتقول له: لا تقل له: يرحمك الله؛ لأنه لم يحمد لله، فأنت تغرس له أن الذي يعطس وما يقول: الحمد لله، لا تقل له: يرحمك الله، ويصعب أن تفهم الطفل نص الحديث بصورة نظرية، لكن عندما يعطس عاطس ولم يحمد الله فإن الطفل سيقول له: يرحمك الله؛ لأنه تعود على ذلك، فأنت تقول له: لا تقل له؛ لأنه لا يستحق أن نقول له: يرحمك الله؛ لأنه لم يقل: الحمد لله، فتضيف له مسألة جديدة، مع الإلحاح والقدوة العملية؛ فإنها تغرس هذه المفاهيم.

ما هو الأولى في الاستئذان: تقديم السلام أو تقديم الاستئذان؟

ما هو الأولى في الاستئذان: تقديم السلام أو تقديم الاستئذان؟ هل يقدم السلام أم الاستئذان؟ هل تقول: أأدخل؟ السلام عليكم، أم: السلام عليكم أأدخل؟ قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ثم الاستئذان، أو تقديم الاستئذان ثم السلام؟ أتدرون ما منشأ الخلاف هنا؟ A منشأ الخلاف أنّ الآية السابقة فيها: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، فهل العطف بالواو هنا يقتضي الترتيب أم لا يقتضي الترتيب؟ أما هنا فمن المؤكد أنّه لا يقتضي الترتيب؛ لأن في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (قل: السلام عليكم، أأدخل؟)، فالسنة العملية بينت الآية بما يجب المصير إليه، ولا يجوز النظر فيما خالفه؛ لأنه متى ما ثبت تفسير الآية عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يجب المصير إلى هذا التفسير. يقول النووي رحمه الله تعالى: والصحيح الذي جاءت به السنة، وقاله المحققون أنه يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟ القول الثاني: يقدم الاستئذان، ويقول: أأدخل؟ السلام عليكم. والثالث: التفصيل، وهو اختيار الماوردي من أصحابنا: إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان. قال الشوكاني: وليس عليه دليل. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام، يقول العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على غيره، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان، وتقديم الاستئناس -الذي هو الاستئذان- على السلام في قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:27]، لا يدل على تقديم الاستئذان؛ لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يقتضي مطلق التشريك. فإذا قلنا: جاء محمد وعلي، فالعطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يفيد مطلق التشريك، أي: أنّ الاثنين اشتركا في المجيء، وأما من الأول منهما؟ فلا دليل عليه من هذه الجملة، أما إذا قلنا: جاء محمد ثم علي، فإن (ثم) تقتضي الترتيب والتراخي. وقال شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى في هذه الآية: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:27]: هو من المقدم الذي معناه التأخير، إنما هو: حتى تسلموا وتستأذنوا، فهذا فيه تقديم وتأخير؛ لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب وإنما يقتضي مطلق التشريك، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو، كقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] والركوع قبل السجود، فالعطف هنا يقتضي مطلق التشريك، وليس يقتضي الترتيب. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] فهذا ليس فيه ترتيب؛ لأن نوحاً قبل نبينا عليه الصلاة والسلام. إلاّ أنّ هذا لا ينافي أن يعطف بالواو والمراد منها الترتيب، لكن لابد أن يدل دليل على اقتضائها الترتيب في ذلك الموضع. ومثال مجيئها للترتيب قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، فلو تركت هكذا بدون دليل لجاز لك أن تبدأ في الطواف والسعي بأي واحدة منهما، ولكن جاء حديث يدل على أن المراد بالواو هنا الترتيب، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به)، وفي بعض الروايات: (ابدءوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر، فهذا يدل على أن (الواو) هنا تقتضي الترتيب وليس مطلق التشريك. وأيضاً في قول حسان رضي الله تعالى عنه: هجوتَ محمداً وأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء برواية الواو: (وأجبت)، فهذه الواو تقتضي الترتيب؛ لأن هناك من هجا النبي صلى الله عليه وسلم، فدافع عنه حسان رضي الله عنه، فجواب الهجاء لا يكون إلا بعده. وإيضاح ذلك: أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف كالحديث المذكور في البدء بالصفا، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور، أنها تدل على الترتيب؛ لقيام الدليل أو القرينة على ذلك، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه بأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ وهذا بيان للمراد من القرآن الكريم، فيتعين المصير إليه، كما أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأقر من أتى به، وأنكر على من خالفه.

بيان النبي صلى الله عليه وسلم لكيفية الاستئذان قولا وفعلا وتقريرا

بيان النبي صلى الله عليه وسلم لكيفية الاستئذان قولاً وفعلاً وتقريراً قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: حتى تستأذنوا، والاستئذان يكون ثلاثاً، ويبدأ فيه بالسلام، وكل هذا جاء في السنة، وهو يوضح ويفسر الآية الكريمة، ويبين أنه لا يصح أن يكون المراد بقوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أن يتنحنح أو نحو ذلك مما ذهب إليه البعض. أما تعليم النبي عليه الصلاة والسلام فكما رواه ربعي بن خراش قال: (حدثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟) وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأمة له يقال لها روضة: قولي لهذا يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادخل). وعن كلدة بن الحنبلي رضي الله عنه: (أن صفوان بن أمية بعثه بلبن ولبأ وضغابيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والضغابيط: حشيش يؤكل-، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟ وذلك بعدما أسلم صفوان). قلت: فانظر إلى قوله: (ارجع) كيف يعلمه الأدب، ولا يتسامح في مثل هذا، خاصة من المربي، ويكون ذلك برفق ولطف، لكن لا يفوت التعليم في هذه الأشياء، فإن بعض الناس يتحرج من مواجهة من فعل هذا التقصير، سواء كانوا تلامذة له أو نحو ذلك، وربما زين هذا المسلك قول بعض الصوفية: راحة القلب ألاّ ترى لأحد عليك حقاً، وهذا صحيح أن راحة البال في تعاملك مع الناس أن تؤدي ما عليك من الواجبات تجاههم ولا تنتظر حقاً منهم، فهذا ممكن إلا في حالة التربية والتأديب، فلا بأس للشيخ أو الأستاذ أو المربي أو الأب أو الأم أن يرى أن راحة البال ألاّ يكون لأحد عليه حق؛ من أجل أن يتحمل إساءة الناس، ويصفح عنهم، لكن هذا الأسلوب مع من كان مسئولاً عنهم لا ينفع؛ لأنه سيبقى السلوك السيئ بدون تقويم، فتعلم ابنك أن يحترمك، وتعلمه أن يحترم أستاذه، ويمكن للأب أن يعلم ابنه أن يتأدب معه، وأن يحترمه، وهذا فيه مصلحة الابن نفسه، ولا يقول: لا أرى لنفسي حقاً على أحد، ثم يصير الولد سيئ التربية، وهل ينفع أن نقول: عديم التربية؟ هل يصح ذلك؟ لا يصح؛ لأن كل واحد لا بد أن يكون متربياً، إلاّ أن هناك تربية حسنة، وهناك تربية سيئة، فالناس على قسمين: حسن التربية، وسيئ التربية، وليس هناك صنف ثالث بين القسمين. فالأب يمكن أن يعلم ابنه مثلاً ويخاطبه بطريقة معينة فيها الأدب والأسلوب المهذب والكلام الذي فيه التوقير، ولا حرج على الإطلاق في ذلك؛ بل إن هذا فيه مصلحة الولد حتى يتربى. أما السنة الفعلية فما ثبت أن أبا سعيد أو أبا مسعود رضي الله تعالى عنهما قال لـ عمر رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد سعد بن عبادة حتى أتاه فسلم، فلم يؤذن له - أي: لم يؤذن للرسول عليه الصلاة والسلام-، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له، ثم سلم الثالثة فلم يؤذن له، فقال: قضينا ما علينا، ثم رجع صلى الله عليه وسلم فأذن له سعد) إلى آخر الحديث. وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس أو غيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله)، فلا يجوز لأحد أن يحتجب عن الرسول عليه الصلاة والسلام بحال من الأحوال، وأيضاً لا يجوز للإنسان بحال أن يحتجب عن أبيه وأمه، فمن الممكن أن يحتجب عن غيرهما لعذر من الأعذار، أما الوالدان فلا يجوز أن تحتجب عنهما أو أحدهما. ففي الحديث السابق: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم - أي: أنّه رد في نفسه بحيث لا يسمعه الرسول عليه الصلاة والسلام-، حتى سلم ثلاثاً، ورد عليه سعد ثلاثاً، ولم يسمعه، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي -يعني: أفديك بأبي وأمي- ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد رددت عليك ولم أسمعك، أردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت، فقرب إليه زبيباً، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ قال: أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون). وهذا الحديث يلحن فيه كثير من الناس، ويأتون فيه بمصائب بسبب التصحيف، فيقول بعضهم: أكل طعامُكم الأبرار، يعني: أن الطعام هو الذي أكل الأبرارَ، فيجعلون الطعام فاعلاً، والأبرار مفعولاً. (وصلت عليكم الملائكة) بالصاد، وهم يقولون: وسلط من التسليط. وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً، فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: دعه يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع سلامك، وأرد عليك رداً خفياً؛ لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم). وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور). ومن السنة التقريرية ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقلت: السلام عليك يا رسول الله! أيدخل عمر؟).

آثار الصحابة في بيان كيفية الاستئذان

آثار الصحابة في بيان كيفية الاستئذان أما آثار الصحابة رضي الله عنهم: فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه آذته الرمضاء -أي: الحر- فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فقالت المرأة: ادخل بسلام، فأعاد، فأعادت، فقال لها: قولي: ادخل، فقالت ذلك فدخل. وقد فسر بعض العلماء قولها له: ادخل بسلام، أنها تريد: سلم، فأنت تستأذن فقط، فكأنه فهم من قولها أنها تتهمه بالجهل، وأنه لا يدري كيف يستأذن، فهي تقول له: ادخل بسلام، وهناك تفسير ذكره العلماء أقرب من هذا وأوضح، وهو: أن هذا الدخول دخول مشروط، أي: أنها تقول له: ادخل بشرط أن تدخل بسلام، تعني: لا تؤذنا، ولا تطلع عينك إلى أي شيء مما لا ينبغي أن تطلع عليه، فكأن الدخول هنا مشروط بشرط وهو: أن يدخل بسلام، فهو لا يدري هل سيلتزم بهذا أم لا؟ لأنه بشر، وقد يقع منه التقصير، والإخلال بهذا الشرط، فهي تقول له: ادخل بسلام، فيقول لها: السلام عليكم، أأدخل؟ فتقول له: ادخل بسلام، فعاد، فعادت، فقال لها: قولي: ادخل، يعني: خففي عني ولا تضيقي، فقالت: ادخل، فدخل. وروى مطرف عن مالك: أن زيد بن أسلم استأذن على ابن عمر فقال: أألج؟ فأذن له ابن عمر، قال زيد: فلما قضيت حاجتي أقبل عليّ ابن عمر فقال: مالك واستئذان العرب؟! إذا استأذنت فقل: السلام عليكم، فإذا رُد عليك السلام فقل: أأدخل؟ فإن أذن لك فادخل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه فيمن يستأذن قبل أن يسلم، قال: لا يؤذن له حتى يبدأ بالسلام. وعن عطاء قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إذا قال: أأدخل؟ ولم يسلم، فقل: لا، حتى يأتي بالمفتاح، قلت: السلام؟ قال: نعم. وعن ابن بريدة قال: استأذن رجل على رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على الباب، فقال: أأدخل؟ ثلاث مرات، وهو ينظر إليه، فلم يأذن له، ثم قال: السلام عليكم، أأدخل؟ فقال: ادخل، ثم قال: لو قمت إلى الليل تقول: أأدخل؟ ما أذنت لك، حتى تبدأ بالسلام.

مشروعية الاستئذان ثلاث مرات

مشروعية الاستئذان ثلاث مرات الاستئذان يكون ثلاث مرات، ويقول المستأذن في كل واحدة منها: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة فليرجع، ولا يزد على الثلاث، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه، فقد روى البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى رضي الله عنه كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) فقال عمر: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم). أي: أن أبا موسى ذهب يشتكي إلى الصحابة أن عمر هدده، وفي بعض الروايات أنه حدد له ميعاداً، وإذا لم تأت بأحد يشهد معك لأوجعن ظهرك، فأراد أبي بن كعب أن يرد على عمر فقال: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: معناه: أن هذا حديث مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتى أن أصغرنا يحفظه وسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أصغر القوم أبا سعيد الخدري، قال: فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك. قلت: وهذا الحديث نص صريح صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الاستئذان ثلاث مرات، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة فليرجع. ورواه مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنت جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً، قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إليّ أن آتيه فأتيت بابه، فسلمت ثلاثاً فلم يرد عليّ فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إنني أتيتك، فسلمت على بيتك ثلاثاً فلم يردوا عليّ فرجعت). انظر إلى الدقة يقول: فلم يردوا علي، ولم يقل: فلم أجد أحداً، أو فلم يكن هنالك أحد، لكن قال: فلم يردوا عليّ، فهذه أيضاً طريقة من طرق الاعتذار الضمني. قال: (وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)، فقال عمر: أقم عليها البينة وإلا أوجعتك، فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: قلت: أنا أصغر القوم، قال: فاذهب معه. قال: أبو سعيد: فقمت معه، فذهبت إلى عمر فشهدت). وفي بعض الروايات قال: (فو الله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد على هذا، فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سناً، قم يا أبا سعيد! فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا). وفي لفظ أنه قال: إن كان هذا شيء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهات وإلا فلأجعلنك عظة، قال أبو سعيد: فأتانا فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاث؟)، أبو موسى بعدما رجع وهو مفزوع ومرعوب من تهديد عمر، دخل على الصحابة فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاث؟) قال: فجعلوا يضحكون)، انظر إلى السلاسة في تعامل الصحابة، فهم بشر كالبشر، وفيهم الدعابة في موضعها، فهم رأوا أبا موسى جاء مذعوراً بهذه الطريقة، فجعلوا يضحكون، قال: فقلت: (أتاكم أخوكم المسلم قد فزع وأنتم تضحكون! انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبه، فأتاه فقال: هذا أبو سعيد). وفي بعض الروايات: أن عمر قال: (خفي عليّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق في الأسواق)، وفي بعض الروايات أن أبا موسى ذهب، فقال عمر: (إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلن تجدوه، فلما أن جاء العشي ووجدوه قال: أبا موسى! ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم. أبي بن كعب قال: عدل يا أبا الطفيل! ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب! فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت). وفي لفظ: أن عمر قال لـ أبي: (يا أبا المنذر! أأنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فلا تكن يا ابن الخطاب عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم). فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى وأبي بن كعب رضي الله عنهم تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الاستئذان هو المعبر عنه في الآية بالاستئناس، وأنّ السلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات، وأن الاستئناس المذكور في الآية هو الاستئذان المكرر ثلاثاً؛ لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه.

الحكمة من تثليث الاستئذان

الحكمة من تثليث الاستئذان ما الحكمة من تثليث الاستئذان؟ عن قتادة في معنى قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] قال: هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له فليرجع، أما الأولى: فليسمع الحي، وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم، فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر. فهذا فيه بيان حكمة الاستئذان ثلاث مرات: الأولى: معرفة أن ثمة شخصاً بالباب ليسمع الحي. الثانية: ليأخذوا حذرهم من ستر عورات مكشوفة، أو إعداد مكان، أو نحو ذلك. الثالثة: إن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردوا. وقوله: ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم. هذا نهي للإنسان إذا اعتذر له صراحة أو ضمناً أن يعكف عند الباب، فإن فيه أذى. قال: فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر. فقد يكون عند صاحب البيت موعد في نفس الوقت، أو يريد أن يخرج لمشوار مهم جداً: كموعد مع طبيب، أو الذهاب إلى العمل والوظيفة، وهناك حرج من مواجهة المستأذن، فهو يريد أن يمشي وربما تمشي معه نساؤه -مثلاً- فلو بقي ذلك الرجل واقفاً له على الباب فكيف يخرج إلى مصالحه؟ فهذا معنى قول السلف: فإن للناس حاجات، ولهم أشغال. فالوقوف أمام البيت سيعيق أهل البيت عن الحركة الحرة، فانتبهوا لهذا جيداً، فمن استأذن فلم يؤذن له فلابد أن ينصرف، بخلاف من أتى ولم يستأذن، كما سنبين فيما بعد. وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: الأولى إعلام، والثانية مؤامرة -أي: شورى بين أهل البيت، فيتشاورون: هل نأذن أم لا نأذن؟ لسبب أو لآخر، وليس المراد من المؤامرة المعنى المعروف- والثالثة: عزمة قرار وعزيمة، إما أن يؤذن له، وإما أن يرد. وقال الإمام ابن عبد البر في التمهيد: وقال بعضهم: المرة الأولى من الاستئذان: استئذان، والمرة الثانية: مشورة، هل يؤذن في الدخول أم لا؟ والثالثة: علامة الرجوع، ولا يزيد على ذلك على ثلاث. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وحكمة التعداد في الاستئذان أن الأولى: استعلام، والثانية: تأكيد، والثالثة: إعذار. وقد فصل الحنفية دون غيرهم في مدة الانتظار بين كل استئذانين، فقالوا: يمكث بعد كل مرة مقدار ما يفرغ الآكل، والمتوضئ، والمصلي أربع ركعات، وهذا لا دليل عليه، والمسألة نسبية، فإذا كان أحد على عمل من هذه الأعمال فينتظر حتى يفرغ منه، وإن لم يكن على عمل منها كانت عنده فرصة في أن يأخذ فيها حذره، ويصلح شأنه قبل أن يدخل الداخل. وقال القاضي ابن العربي أيضاً: قال جماعة: الاستئذان فرض، والسلام مستحب، {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:27]، وبيانه أن التسليم كيفية في الإذن. يعني: كلمة السلام جاءت لتشرح لنا (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا). وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم: أنه استأذن على ابن عمر فقال: أألج؟ فأذن له ابن عمر، قال زيد: فلما قضيت حاجتي أقبل عليّ ابن عمر فقال: مالك واستئذان العرب؟! إذا استأذنت فقل: السلام عليكم، فإذا رد عليك السلام فقل: أأدخل؟ فإن أذن لك فادخل، فعلمه سنة السلام.

حكم الاستئذان بغير الصيغ المشروعة

حكم الاستئذان بغير الصيغ المشروعة ذهب البعض إلى أن كل ما تعارفه الناس من ألفاظ الاستئذان يقوم مقام اللفظ المأثور، فإن الأعراف أحياناً تتغير، كما قال ابن عطية: لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، فقد روى أبو بكر بن الخطيب بسنده عن أبي الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فجاء معي، فلما قام بالباب قال: أنذر؟ قالت: أنذرون. (أنذر) كلمة فارسية في الاستئذان معناها: أأدخل؟ وأنذرون يعني: ادخل، وهي كلمة الإذن. فالشاهد: أنّ بعض العلماء استدل بهذا الأثر على جواز استعمال ما تعارف عليه الناس، وهذا ذكرناه لمجرد الإحاطة بما قيل في هذه المسألة، وإلاّ فإن السنة قد فسرت الآية بطريقة واضحة وصريحة، وقد نص بعض المالكية على كراهة الاستئذان بالذكر؛ لما فيه من جعل اسم الله تعالى آلة. أي: مثل قول بعض الناس: سبحان الله، أو: لا إله إلا الله، أو: يا ساتر! مع أنّ اسم (ساتر) ليس من الأسماء الحسنى، وإنما الذي في الأحاديث هو (ستّير) قال في الفواكه الدواني: وما يفعله بعض الناس في الاستئذان بنحو سبحان الله، ولا إله إلا الله، فهو بدعة مذمومة؛ لما فيه من إساءة الأدب مع الله تعالى في استعمال اسمه في الاستئذان. فهذه أشياء ينبغي أن توضح للناس؛ لأن الناس يفعلونها بنية حسنة، فيحتاجون إلى من يعلمهم، فتجد بعض الناس مثلاً يكتبون على مقبض باب البيت: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، أو: (سبحان الله)، أو: (بسم الله) وهذا امتهان لاسم الله، أو تجد بعضهم يأتي بصينية، ويقدم عليها المشروبات، ويكون قد كُتب عليها ذكر، أو نقشت عليها صورة الكعبة، فلا ينبغي أن تمتهن مثل هذه الأمور، ويجب الحذر من مثل هذا، فاسم الله، وما فيه ذكر الله لا يجوز أن يمتهن.

أحكام من استأذن ثلاثا فلم يؤذن له

أحكام من استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له وهنا مسألة أيضاً وهي: أن من استأذن ثلاث مرات، وتأكد أنهم سمعوه فله حالتان: الحالة الأولى: أن يتحقق أنهم سمعوه بالفعل، ولم يأذنوا له. الحالة الثانية: أن يغلب على ظنه ذلك. أما المسألة الأولى: فإن تحقق وتأكد تماماً أنهم سمعوه، ولم يجب رب المنزل، فينبغي أن يفهم المستأذن أن رب المنزل لا يرغب له في الإذن بالدخول؛ وحينئذ عليه أن ينصرف، حتى ولو تأكد أن صاحب المنزل موجود بداخله، ولا شك أنّ من اللباقة ومن الذوق ألاّ يتخذ هذا الأمر ذنباً لا يغفر، وإذا قابله بعد ذلك يقول له: أتيت وطرقت الباب فلم ترد عليّ! فيوبخه، ويلومه، ويعنفه، وهذا لا ينبغي؛ بل عليه أن يتغاضى ويتغافل عن هذا، ولا يعاتبه، ولا يحوجه إلى الاعتذار، ولا يضطره إلى أن يذكر له السبب الذي من أجله لم يفتح له، فضلاً عن التوبيخ.

حكم قول (أنا) في الاستئذان وغيره

حكم قول (أنا) في الاستئذان وغيره بعض الناس يتحرج جداً من كلمة (أنا)، فيحسبون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كره من جابر كلمة (أنا)، وقال له: (أنا، أنا!) أن هذه فيها تشبه بإبليس، وهذا المعنى راسخ عند العوام، حتى إن بعضهم إذا كلمته واضطررت إلى استعمال كلمة (أنا) يقول: أعوذ بالله من أن أقول: (أنا)، فهم يظنون أن هذا تشبه بإبليس، حتى قال بعضهم: كلمة (أنا) لم تزل مشئومة على أصحابها، ولا شك أن هذه الكلمة لا تزال جارية على ألسنة الطغاة والمتجبرين في سياق ذكر مفاخرهم، والزهو بأنفسهم. فالحكم على كلمة (أنا) ليس على إطلاقه، والسياق يفرق، فأحياناً يجوز استعمالها، وأحياناً لا يجوز استعمالها، فلا يجوز استعمالها في أمر الاستئذان، ولا يجوز أيضاً أن يستعملها الإنسان في الزهو، أو الفخر، نحو: أنا الذي عملت، وأنا الذي صنعت إلى آخر هذه العبارات، كما يفعل الطغاة والمتجبرون، ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في المكروه من الألفاظ في (زاد المعاد): وليحذر كل الحذر من طغيان ثلاث كلمات: من طغيان أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون وقارون، فـ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12] لإبليس، و {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] ابتلي بها فرعون، و {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ابتلى بها قارون، وأحسن ما وضعت له (أنا) في قول العبد: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحوه، ولي في قوله: لي الذنب، ولي الجرم، ولي المسكنة، ولي الفقر والذل، وعندي في قوله: اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي. يعني: أنها تستعمل استعمالاً صحيحاً واستعمالاً مذموماً كما بينا. فليس الأمر كما أطلق من ظن أن كلمة (أنا) مكروهة لمجرد مشابهة إبليس، خاصة أن هناك نصوصاً كثيرة تناقض هذا القول، حيث استعملت فيها كلمة (أنا) في موضعها، فلا حرج من استعمالها في موضعها، فمن ذلك قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، وقال عز وجل حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، وقال: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، وقال: {إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا) في عدة أخبار مثل قوله: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، وقوله أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا) فقول أبي بكر (أنا) لا محذور فيه؛ لأنّه كان حاضراً في المجلس ويرونه، بخلاف ما لو كان في الاستئذان. (قال: من شهد منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من أطعم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال مروان بن معاوية: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا دخل الجنة). وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله عز وجل بما لا أعلم؟! وقال علي رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدرة. وعن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد وأبو موسى يقرأ، قال: فجئت فقال: من هذا؟ قلت: أنا بريدة). وفي الصحيح في حديث أم هانئ: (فقلت: أنا أم هانئ).

عدم وقوف المستأذن قبالة الباب

عدم وقوف المستأذن قبالة الباب ينبغي ألاّ يقف المستأذن قبالة الباب إذا كان الباب مفتوحاً، وكذلك إذا كان مغلقاً؛ خشية أن يفتح له فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه، وهذا بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه، أو عن يساره، فإنه إذا فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت. وبعض الناس يتنطعون، فتراه يطرق الباب ثم يختبئ بعيداً عن الباب تماماً، وهذا خطأ، فقد وجد في هذه الأيام وسائل حديثة كالكاميرات التلفزيونية التي توضع عند أبواب بعض البيوت، أو العدسات التي توضع في الأبواب بحيث يرى الشخص الذي يستأذن فأصبحت هذه وسيلة للتحقق من شخصية المستأذن، فإذا اختبأت بعيداً عن الباب فإنه لا يراك. فلابد أن نفهم هذه الأشياء، وأن نعرف حدودنا، فيقف المستأذن بجانب الباب؛ بحيث يراعي حرمة البيت، فإذا فتح الباب فإنه لا يرى شيئاً في داخل البيت، وفي نفس الوقت يقف في مكان يستطيع من يستأذن عليهم أن يروه، فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم السلام عليكم؛ وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور). وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه استأذن وهو مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستأذن وأنت مستقبل الباب)، وفي رواية قال: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقمت مقابل الباب فاستأذنت، فأشار إليّ أن تباعد، ثم جئت فاستأذنت، فقال: وهل الاستئذان إلا من أجل النظر؟!). وعن هزيل بن شرحبيل قال: (جاء رجل فوقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب، وفي رواية: مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا عنك أو هكذا، فإنما الاستئذان من النظر). ويروى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل) يعني: إذا نظر بعينه فكأنه دخل (ولا يؤم قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم حتى ينصرف، ولا يصلي وهو حاقن حتى يتخفف). وهذا الحديث يضعفه بعض العلماء، ويحسنه بعضهم. وفي بعض الأحاديث أيضاً: (لا تأتوا البيوت من أبوابها، وائتوها من جوانبها فاستأذنوا وإلا فارجعوا). فإذا كان الباب مغلقاً فقد أوضحنا حكمه، وأما إن كان الباب مفتوحاً فهو مغلق بالتحريم الشرعي للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه، بمعنى: أنه لا يجوز لك أن تنظر إلى داخله، ولذلك يقول القرطبي: لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه. وقد توجد في الباب عدسات أو شيء من هذا القبيل، فالمفروض أنه يمكِّن صاحب البيت من التعرف عليه؛ حتى ينظر هل يناسبه أن يأذن له أم لا؟

رجوع المستأذن إذا لم يؤذن له

رجوع المستأذن إذا لم يؤذن له ذكرنا سابقاً: أن اعتذار صاحب البيت عن الإذن بدخول المستأذن إما أن يكون اعتذاراً ضمنياً، وإما أن يكون صريحاً، وقد دلّ قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} [النور:28] على حالة الاعتذار الضمني، فربما كان صاحب البيت موجوداً في البيت، لكنه لم يشأ أن يرد على المستأذن، فيصدق على المستأذن أنه لم يجد فيها أحداً؛ لأن الله تعالى نفى الوجدان ولم ينف الوجود، ولو قال: (فإن لم يكن فيها أحد) لما كان هذا المنزع اللطيف، والسر الدقيق، فتأملوا قول الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا)، ولم يقل: (فإن لم يكن)، فإذا استأذن شخص ثلاثاً وسُكت عنه وجب عليه أن ينصرف بعد الثلاث؛ لحديث عبد الله بن بسر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى باباً يريد أن يستأذن لم يستقبله، وجاء يميناً أو شمالاً، فإن أذن له وإلا انصرف)، وفي حديث أبي سعيد: (فإن أذن لك وإلا فارجع) يعني بعد الثلاث. أما إذا استأذن شخص ثلاثاً أو أقل وأجيب بقول صاحب الدار: ارجعوا، فالواجب الانصراف فوراً، وهو على يقين أن هذا أفضل له، فلا ينفخ الشيطان في صدره، ولا يحمّي أنفه ويقول: كيف يهينني؟! كيف لا يحترمني؟! فيقال لمثل هذا: أما تعرف أعذار الناس؟! وما هذا إلاّ بسبب الجهل بآداب الإسلام، فيجب على الإنسان إذا قيل له: ارجع، أن يرجع فوراً وهو على يقين أن هذا أزكى له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، فما قال الله فيه أنه أزكى لنا فلا شك أن لنا فيه خيراً وأجراً. وعن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع. فأرجع وأنا مغتبط؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]. إذاً: فالواجب على من لم يؤذن له أن ينصرف فوراً، ولا يجوز له أن يقف على الباب، ولا أنْ يلح بالاستئذان، ولا أنْ يتكلم بكلام قبيح، أو أن يقعد على الباب لينتظر؛ لأن للناس حاجات وأشغالاً في المنازل، فلو قعد على الباب وانتظر ضاق ذرعهم، وشغل قلوبهم، ولا تلتئم حاجاتهم، فكان الرجوع خيراً له ولهم. يقول قتادة: فمن لم يؤذن له-يعني: بعد الثلاث- فليرجع، أما الأولى: فليسمع الحي، وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغالاً، والله أولى بالعذر. وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: والرجوع أفضل من الإلحاح وتكرار الاستئذان والقعود على الباب؛ لأن في ذلك بعداً عن الريبة والدناءة.

إذا لم يؤذن للمرء فهل يجوز له أن يبقى أمام الباب

إذا لم يؤذن للمرء فهل يجوز له أن يبقى أمام الباب هناك استنباط دقيق جداً في غاية الروعة للإمام أبي بكر الجصاص الحنفي رحمه الله تعالى، حيث قال: إن قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28] لا يتعرض لتحريم الدخول إلا بإذن؛ لأن الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] قد نصت على أنه يحرم على الإنسان أن يدخل إلا بإذن، فهو يبين أن قوله تعالى بعد ذلك: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] لا علاقة لها بمسألة تحريم الدخول إلا بإذن؛ لأنّ هذا قد سبق الإشارة إليه، وإنما يؤسس حكماً جديداً، ولا يؤكد الحكم السابق. فما هو هذا الحكم الجديد؟ ما الواجب على من قيل له ارجع؟ يجيب على ذلك قوله تعالى: (فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) أي: أنه يجب عليه أن يرجع في الحال، ولا يفتح حواراً، ولا يلح. قال الإمام الجصاص رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) بعد قوله: (فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)، يدل على أن للرجل أن ينهى من لا يجوز له دخول داره عن الوقوف على باب داره أو القعود عليه؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ)، ويمتنع أن يكون المراد بذلك حضر الدخول إلا بإذن؛ لأن هذا المعنى قد تقدم ذكره مصرحاً به في الآية، فواجب أن يكون لقوله: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) فائدة مجددة، وهو أنه متى أمره بالرجوع عن باب داره وجب عليه التنحي عنه؛ لئلا يتأذى به صاحب الدار في دخول حرمه وخروجه، وفيما ينصرف عليه أموره في داره مما لا يحب أن يطلع عليه غيره. فهذه مسألة مستقلة عن موضوع الاستئذان، فالواجب على من قيل له: ارجع، أن يرجع، وبالتالي يحرم عليه أن يفعل أي شيء من الأشياء التي ذكرناها. أما ما ذكرناه من أنه لا يجوز له أن يقعد على الباب وينتظر، فلا يرد عليه أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يأتي باب الأنصار لطلب الحديث، فيقعد على الباب حتى يخرج صاحب البيت، ولا يستأذن، فإذا خرج الرجل قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لو أخبرتني؟ فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم. فـ ابن عباس ما كان يستأذن، والكلام هنا فيمن استأذن ولم يؤذن له، أو قيل له: ارجع، أما ابن عباس فكان يأتي ويجلس عند باب من يطلب منه الحديث، وتسف الرياح في وجهه التراب، وإذا خرج صاحب البيت للصلاة مثلاً سأله وطلب منه الحديث، فكلامنا فيمن استأذن فلم يؤذن له صراحة أو ضمناً.

إذا استأذن فقيل له ادخل بسلام

إذا استأذن فقيل له ادخل بسلام آخر هذه المسائل: إذا قيل له: ادخل بسلام فهل يدخل؟ كان طلحة بن مصرف إذا قيل له ذلك قال: إن شاء الله، فيستثني، أي: أدخل بسلام إن شاء الله، فيحتاط. وكان ابن عمر إذا قيل له ذلك لم يدخل، وعلل ذلك بأنه شرط لا يدري أيفي به أم لا، وقال: إنما أنا بشر. عن مجاهد قال: جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه حر الرمضاء، فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فقالت: ادخل بسلام، فأعاد، فأعادت، وهو يراوح بين قدميه، فقال: قولي: ادخل، قالت: ادخل، فدخل. وعن عبد الرحمن بن جدعان قال: كنت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فاستأذن على أهل بيت، فقيل: ادخل بسلام، فأبى أن يدخل عليه. قال شارح (الأدب المفرد): لعل الإباء كان لمصلحة دينية. وقال ابن عطية: كأنه توقف لما قالت: بسلام؛ لاحتمال اللفظ أن تريد: ادخل بسلامك لا بشخصك. وقال الألباني رحمه الله تعالى: وذلك لأن مثل ابن عمر لا يمكن أن تخفى عليه سنة الاستئذان بالسلام، وعليه فلا بد أن يكون قد سلم عند الاستئذان، فلما قيل له: ادخل بسلام، فيكون هذا الأمر -والحالة هذه- لا معنى له، بل لعله إلى الاستهزاء أقرب؛ ولذلك لم يدخل عليهم، ولعله مما يؤيد هذا التأويل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند آخر صحيح بلفظ: عن أبي مجلز قال: كان ابن عمر إذا استأذن فقيل له: ادخل بسلام، رجع، وقال: لا أدري أدخل بسلام أم بغير سلام. فهذا هو الذي فهمه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وأما العلماء الآخرون فقالوا: هي تشترط عليه شرطاً، وهو لا يدري أيفي بهذا الشرط أم لا، وقال: إنما أنا بشر؛ فلذلك كان يمتنع من الدخول ويقول: لا أدري أأدخل بسلام أم بغير سلام، فالتعليل الأخير أقوى، وهو: أنها أذنت له بشرط أن يدخل بسلام؛ ولكونه بشراً غير معصوم خشي ألاّ يفي بهذا الشرط، فامتنع عن الدخول بهذا الشرط احتياطاً وتورعا، ً أو طلب منها أن تأذن له بالدخول بدون الشرط المذكور، والله تبارك وتعالى أعلم. وعن معاوية بن خديج قال: قد قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستأذنت عليه، فقالوا لي: مكانك حتى يخرج إليك، فقعدت قريباً من بابه، قال: فخرج إلي، فدعا بماء، فتوضأ ثم مسح على خفيه، فقلت: يا أمير المؤمنين! أمن البول هذا؟ قال: من البول أو من غيره. فلا بأس أن من استأذن فقيل له: حتى أخرج، أن يقعد قريباً من الباب. نكتفي الليلة بهذا القدر، ونكمل البحث إن شاء الله الأسبوع القادم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

آداب الاستئذان [2]

آداب الاستئذان [2] تميزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع بميزات كثيرة، منها: أنها أوجبت الاستئذان لمن أراد أن يدخل بيت غيره، وحرمت عليه أن يطلع على بيوت غيره بدون إذن أهلها، وشرعت كذلك الاستئذان في داخل البيت نفسه، كالاستئذان على الأم والأخت والأبناء البالغين، ومن كمالها وسموها أن شرعت الاستئذان للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أوقات معينة، وأجازت دخول بعض البيوت بدون إذن في حالات مخصوصة، وكل ذلك لحكَم عظيمة، ومقاصد سامية، قصر عن معرفتها كثير من الناس.

اليهود وما يقترفونه من جرائم ضد المسلمين

اليهود وما يقترفونه من جرائم ضد المسلمين الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: لا شك أننا لا نستطيع أن ننفصل عن الواقع الذي يمسنا في أخص خصائصنا وهو عقيدتنا وديننا، فما حصل في الفترات الأخيرة من عدوان اليهود -لعنهم الله- على إخواننا المسلمين في فلسطين، لاشك أنه يحزن كل مؤمن، ومن لم يعتصر قلبه مرارة وغيظاً على أعداء الله فليراجع إيمانه، وليشك في إسلامه، فإن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

إرادة اليهود تخدير المسلمين وإضعافهم معنويا

إرادة اليهود تخدير المسلمين وإضعافهم معنوياً وهذه المشكلة ليست في الحقيقة لب المشكلة؛ بل لب المشكلة هو أن موضوع غزة وأريحا والأشياء التي فعلوها قبل ذلك كانت عملية البدء بالأسهل فالأصعب، أو الترقي من الأسهل فما فوقه، على أساس أن تكون هناك فترة يحصل فيها ترويض لمشاعر المسلمين، ومحاولة لإعدام الحساسية عندهم، خاصة الحساسية العقدية، وذلك عن طريق إضعاف المناعة في الأمة كما هو معلوم. واليهود في كل أحوالهم ينطلقون من عقيدة راسخة، فاسم دولتهم اسم ديني وهو: (إسرائيل)، ودستور الدولة اليهودية هو التوراة، وليس لهم دستور كأي دولة في العالم، وكل منطلقاتهم تنطلق من عقيدة، هذه العقيدة هي: أنه لا حظ للمسلمين في القدس، وقد قال بن غوريون وهو يصيغ هذه العقيدة في كلمة مركزة له، قال: إنه لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل. فنحن نتكلم وبعض الناس يتعامل مع المشكلة وكأنهم في حالة تخدير، أو مغيبون تماماً عن الوعي، مع أن هذه حقائق صارخة، فاليهود أعدوا الخطط لهدم المسجد الأقصى، نموذج الهيكل الذي ينوون إعادة بنائه موجود، وما حصل من السفاح المجرم شارون في صبرى وشاتيلا وغيرها هو في الحقيقة عملية مقصودة؛ لأنها نوع من اختبار الحساسية، مثلما يفعل مع من يستحق البنسلين مثلاً، فإنه يعمل له أولاً اختبار حساسية ليرى رد فعل الجسم كيف سيكون، ونفس الشيء هنا؛ لأنهم يظنون أن الوقت قد اقترب لإعادة بناء الهيكل، وذلك لن يكون إلا بعد هدم المسجد الأقصى، نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يمكنهم من ذلك، فهذا اختبار حساسية ليروا نتائج ما تمخض عنه ترويض المسلمين في خلال تلك السنوات الماضية، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يعرف العالم كله أن هذه الأمة ولو هزمت، أو تخاذلت جيوشها، فإنها لا تهزم روحها، ولا يهزم إيمانها على الإطلاق. وهذه الأحداث وما فيها من مآسٍ ومرارة وإجرام يهودي لا تستغرب من أمثال اليهود، فقد حصل بالأمس أو صباح اليوم أن خطف جنود اليهود واحداً من إحدى المدن الفلسطينية، وأخذوا يعذبونه ويحرقون السجائر في جسده بعد الضرب والركل، وأحرقوا عينيه وأجزاء أخرى من بدنه إلى أن استشهد رحمه الله تعالى، ثم رموه بعد ذلك، وهذه وحشية ليس لها مثال، وهذا شيء لا يستنكر من اليهود أعداء البشرية كلها، وقد قال فيهم هتلر: أنا أبدت نصف اليهود، وتركت النصف الباقي حتى تعرف البشرية لماذا قتلت النصف الأول. أي: حتى يذوق الناس أخلاق اليهود، وطبائع اليهود، ولؤم اليهود ومكرهم. ولكن جميع محاولات إضعاف المناعة في الأمة المسلمة باءت بالفشل، وكل المحاولات التي جرت في هذه الفترات الأخيرة تبخرت وتلاشت كالفقاقيع، وهذا أسلوب معروف، فإن الأطباء عندما يريدون أن يزرعوا جسماً أجنبياً في داخل جسم المريض، فلابد قبل الزراعة أن يعطوا المريض أدوية تضعف المناعة، بحيث يكون الجسم مهيأ لقبول ذلك الجسم الغريب إذا زرع فيه ولا يرفضه، وكذلك أيضاً عملية الغزو الفكري للمسلمين، وترويض المسلمين، وتخدير المسلمين، وتزييف التاريخ، والحملات الإعلامية، وتسليط الشهوات والشبهات على الشباب المسلم، وتخويف الناس من التدين، والصد عن سبيل الله، وكل هذه الصور تصب في مجرى واحد وهو: إضعاف المناعة عندهم؛ حتى يسهل لليهود بعد ذلك أن يركبونا كالحمير، كما ينصون على ذلك في تلمودهم: إن البشر لم يخلقوا إلا ليركبهم اليهود كالحمير، وهذا في التلمود أحد كتبهم التي يقدسونها، والتي ينطلقون منها، فذهاب هذا الخبيث السفاح المجرم النجس حتى يدنس المسجد الأقصى، إنما هو محاولة لاختبار ما سيفعله المسلمون، وهنا تنبيه وهو: أن المسجد الأقصى ليس هو قبة الصخرة، ولا الجزء الصغير المبني، بل كل هذه الساحة هي المسجد الأقصى.

التعاون النصراني الصليبي مع اليهود

التعاون النصراني الصليبي مع اليهود هناك نوع من التوحد النصراني الصليبي في مسألة مساندة اليهود، وبيان ذلك: أن كل الملل الثلاث ينتظرون قادمين سوف يأتي بهم الله تعالى، وهذا من سنن الله الكونية القدرية، فاليهود ينتظرون مجيء المسيح كما يزعمون، وفي الحقيقة هم ينتظرون المسيح، ولكن المسيح الدجال الذي سيؤمن به اليهود ويتبعونه. وأيضاً النصارى ينتظرون المجيء الثاني للمسيح، وذلك بصفته إلهاً، فالمسيح الذي جاء أولاً ثم رفع إلى السماء هم يعتقدون بمجيئه مرة ثانية، وهم مجتمعون على أنه لا يمكن أن يعود أو يحصل هذا الأمر إلا إذا حكمت إسرائيل واستولت على القدس، فهذه قضية عقدية، وبعض رؤساء أمريكا كانوا يتبنون هذه القضية بمنتهى الحماس، ومنهم ريجن وغيره، فهذه أرضية مشتركة بين اليهود والنصارى، وهذا سر توحدهم في هذا الباب. والمسلمون أيضاً ينتظرون مجيء المهدي، وينتظرون أيضاً نزول المسيح عليه السلام، وهو يحكم بالقرآن عند نزوله، وينتظرون أيضاً المسيح الدجال، الذي سيقاتلونه، وسينضم إليه اليهود كما هو معلوم، فالعقيدة متداخلة، ولا مناص من أن تكون الحرب في النهاية حرباً دينية كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وكما يخبرنا أيضاً الواقع.

فشل الأعداء في محاولة إضعاف معنويات المسلمين

فشل الأعداء في محاولة إضعاف معنويات المسلمين إن كل ما حصل من محاولة ترويض المسلمين، وتقليم أظافرهم قد تلاشى، وظهر أنه ليس له أي أثر، وأظهر أن الأمة ما زالت حية، وما زالت تنبض، وما زالت تحس، رغم كل ما دبر تجاه عقيدتها وإسلامها، فالمسلمون لن ييأسوا، فقد حرر المسلمون القدس بعد مائة سنة تقريباً من احتلال الصليبيين له، والسنوات هي لحظات في عمر الدعوات. والدرس الذي نستخلصه من الأحداث التي نعيشها هو: أن تكلفة الكرامة أرخص بكثير جداً من تكلفة الذل؛ بل إن الذي يذل مرة لا يحصد شيئاً بعد ذلك، فهي مكاسب وقتية سرعان ما تزول، لكن تكلفة الكرامة والعزة والإباء أرخص بكثير، وما الأفغان عنا ببعيد، وما الشيشان عنا ببعيد، وما هؤلاء المساكين المدنيون العزّل الذين لا سلاح لهم عنا ببعيد، والناس يتكلمون على أن إسرائيل لم تعلن حرباً الآن! فنقول: وما الذي يفعله اليهود أعداء الله الآن؟ أليست حرباً؟! إنها حرب، وفوق ذلك هي حرب ليس فيها أي قدر من التكافؤ، وهذه دناءة وخسة ونذالة، وكما قال بعض الصحفيين: إن طفلاً فلسطينياً خاطب جندياً يهودياً مدججاً بالسلاح قائلاً له: لو كنت رجلاً فاترك السلاح وتعال صارعني، يقول: ففزع اليهودي من هذا الكلام، وهم في حالة معاناة نفسية شديدة جداً من هذا الاستبسال وهذه التضحية، مع عدم وجود أي قدر من التكافؤ على الإطلاق، فهذا جيش مدجج بالسلاح وبأحدث الأسلحة، ويضربونهم بالطيران والقاذفات والصواريخ، وهؤلاء ما يملكون سوى أن يفتحوا صدورهم للموت! إن الأغبياء من أعداء الإسلام لم يفقهوا حتى الآن حقيقة نفسية المؤمن، وحقيقة نفسية المسلم، وقد أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بدائنا، فأخبرنا بدوائنا، ثم أخبرنا بالداء حينما قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير) فنحن الآن زيادة على المليار (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وهذا هو لب القضية: (حب الدنيا وكراهية الموت). إنَّ المؤمن يشتغل بعمارة الآخرة وإن خرب الدنيا، فحينما يأتيه خبر الصادق المصدوق في القرآن وفي السنة بأنه إذا استشهد في سبيل الله يدخل الجنة، ويغفر له عند أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج بسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه إلى آخر هذه الميزات العظيمة التي يجنيها الشهيد، وهو موقن أنها انتقال من حياة إلى حياة، فهو يرتفع شهيداً ولا يسقط شهيداً، إنما يرتفع إلى السماء {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169]، فهذا هو مفتاح شخصية المجاهد المسلم المؤمن الذي لا يكره الموت، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم. وتفسير كل ما يحصل هو: أن اليهود أعداء الله، وهم الأمة الغضبية التي غضب الله سبحانه وتعالى عليها، وكتب عليها الشقاء، فهم لا يتمنون الموت كما أخبر الله عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96]، وهذا التفسير ليس صعباً لمن فقه عقيدة المسلمين، وقال الله تبارك وتعالى أيضاً عنهم: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة:7]، فهم لا يمكن أن يتمنوا الموت، وهذه هي عقيدة اليهود، ولا شك أنهم أقوى من المسلمين بكثير وبمراحل في السلاح وفي القوة المادية، أما من حيث العقيدة فهم قوم كتب الله عليهم الشقاء والذل والصغار، فأما المؤمنون فقد شخص لهم الرسول عليه الصلاة والسلام الداء بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت)، وقد شخص الدواء بعض الخلفاء حينما قال لبعض المجاهدين: احرص على الموت توهب لك الحياة. وكما قال خالد رضي الله عنه وهو يقاتل أعداء الله: (جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة). فمن أجل هذا الفارق يحصل ما ترونه الآن من أطفال وشباب عُزَّل أمام هذا الجيش المدجج بالسلاح، هذا التحدي يثير استغراب العالم كله: أناس مستضعفون مقابل هذه القوة الغاشمة المجرمة الظالمة، ومع التخاذل المخزي من المسلمين الذين هم في أوضاع أحسن بكثير من أوضاع هؤلاء، ومع ذلك يثبت هؤلاء هذا الثبات.

الجهاد هو الحل

الجهاد هو الحل إن المشكلة لا يمكن أن تحل سلمياً كما يقولون، ولن يحظى المسلمون أبداً بما يسمونه بالسلام العادل والدائم إلخ، فهذا لا يمكن، وليس هذا رجماً بالغيب، وإنما هو انطلاق من قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] أي: وإن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى تسليط عباد لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، فهذا وعد الله سبحانه وتعالى، وهو سنة ماضية، فكلما عاد اليهود للإفساد سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة كما أخبر الله عز وجل، وهذا هو الواقع مهما كانوا في قوة ومنعة وأسلحة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى إن اليهودي ليختبئ وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)، والغريب أن اليهود يعرفون هذا الحديث، ومن ثم فإنهم يستكثرون من زراعة شجر الغرقد. فانظر إلى هذه الموالاة، حتى الحجر والشجر يوالي المسلم، ويوالي من يرفع راية التوحيد. إن اليهود يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى؛ ليقيموا هيكل سليمان على أنقاضه، وسليمان عليه السلام لو كان موجوداً الآن لقاتل اليهود الذين ينتسبون إليه مع المسلمين، فإن هذه الشرائع التي كان عليها سليمان وموسى وعيسى وجميع الأنبياء قد نسخت، ولم تعد توصل إلى الجنة، وسُدّت هذه الأبواب ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ونسخت جميع الشرائع السابقة. فلب القضية وجوهرها عقيدة، فالمفروض على المسلمين أن ينطلقوا من هذا المنطلق، فهؤلاء كفار يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى ويقيموا الهيكل، وهذا دين قد نسخ، وما هم عليه أيضاً دين باطل؛ لأنهم لم يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فمهما طال الليل فلا بد أن يحصل فرج وتنفيس بإذن الله تبارك وتعالى، وما يظن أبداً بهذه الأمة أنها تموت، ولا يمكن ذلك، فقد تهزم ولكن لا تفنى، وإذا كان ديجول الرجل الكافر يقول لأمته بعد الحرب العالمية: لقد خسرت فرنسا معركة ولم تخسر حرباً. يعني: أن الأمر سجال، فيوم لك ويوم عليك، وأما العاقبة فإنها للتقوى، كما قال الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فالنهاية لا بد أن تكون للتقوى وللمتقين. وأقل شيء أن نجتهد في الدعاء لإخواننا، وأن ننحاز دائماً، وننصح كل من يختار الحزب الآخر أن يعود من جديد إلى حزب الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، فهذه سنة لن تتبدل ولن تتغير، ولكن المنافقين لا يفقهون ولا يعلمون، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا، وأن يذل اليهود وينكس راياتهم، وأن يعلي كلمة التوحيد في ربوع الأرض كلها.

حرمة النظر والتطلع في بيوت الغير بدون علمهم

حرمة النظر والتطلع في بيوت الغير بدون علمهم دلت الأحاديث الصحيحة على أنه يحرم على المستأذن أن ينظر في بيوت الغير على حين غفلة منهم، ومن دون أن يتنبهوا لوجوده، فيحتاطوا لذلك، وحينما نقول: يحرم أن ينظر الإنسان في بيوت الغير بدون إذن منهم، نعني بذلك النظر من خلال باب مفتوح أو غيره؛ لأننا قلنا: إن كان الباب مفتوحاً فإن الشرع قد أغلقه بتحريم النظر فيه، حتى يفتحه الإذن من صاحبه، فالنظر سواء كان من باب، أو جدار، أو شق في الباب، أو ثقب في الحائط، أو نافذة، أو كوة، أو فروج في بيت شعر أو خيمة فيها فتحات، فلا يجوز لإنسان أن ينظر في بيوت الغير على حين غفلة منهم دون أن يتنبهوا لوجوده فيحتاطوا لذلك، فمن ذلك حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (اطلع رجل من حجرة في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى -مشط- يحك به رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه)، وفي رواية: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص)؛ لأنها عين خائنة، فهي هدر. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح). وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرئ أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل). وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من ملأ عينه من قاعة بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق. وعن أبي سويد العبدي قال: أتينا ابن عمر رضي الله عنهما فجلسنا ببابه ليؤذن لنا، فأبطأ علينا الإذن، فقمت إلى جحر في الباب فجعلت أطلع فيه، ففطن بي، فلما أذن لنا جلسنا، فقال: أيكم اطلع آنفاً في داري؟ قلت: أبطأت علينا فنظرت، فلم أتعمد ذلك. أي: أنه اعتذر له عن ذلك. وعن مسلم بن نذير قال: استأذن رجل على حذيفة رضي الله عنه فاطلع -يعني: أنه وهو يستأذن اطلع على داخل البيت- وقال: أدخل؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: أما عينك فقد دخلت، وأما استك فلم تدخل. وعن القعقاع بن عمرو قال: صعد الأحنف بن قيس فوق بيته فأشرف على جاره فقال: سوءة سوءة، -أي: أنه لم يتعمد النظر- دخلت على جاري بغير إذن، لا صعدت فوق هذا البيت أبداً. وذلك تكفيراً عن هذا الشيء الذي لم يقصده. فلا يحل لإنسان أبداً أن يطلع من مكان عال على جيرانه الذين هم دونه، وهذا خلق من صميم أخلاق الإسلام، وقد كان من أخلاق الجاهلية، حتى إنّ عنترة الشاعر الجاهلي المعروف يفتخر قائلاً: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها ويقول مسكين الدارمي: ما ضر جاري إذ أجاوره ألا يكون لبيته ستر أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر فرعاية حرمة الجار، وغض البصر عن عورات الجيران كان موجوداً في الجاهلية، فزادت حرمة الجار في ظل الإسلام، ونحن الآن في زمان كما قال بعض العلماء صرنا في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوي المروءة. إلا من رحم الله.

حكم من جنى على عين من يطلع إلى داره

حكم من جنى على عين من يطلع إلى داره مسألة: إذا نظر المستأذن إلى داخل البيت قبل أن يؤذن له، فجنى صاحب البيت على عينه فهل يضمن؟ وهل عليه دية؟ وهل هناك قصاص؟ يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أن أقوى الأقوال دليلاً وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقئوا عينه التي نظر إليهم بها ليطلع على عوراتهم: أنه لا حرج عليهم في ذلك: من إثم، ولا غرم دية العين، ولا قصاص، وهذا لا ينبغي العدول عنه؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه؛ ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم؛ لسقوطها عندنا؛ لمعارضتها النص الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هذه الأحاديث: (لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) أي: ليس عليك إثم، وهذه نكرة في سياق النفي، فهي تعم رفع كل حرج أو إثم أو دية أو قصاص، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه)، فما دام حلالاً فهو لا يستلزم أي إثم أو دية أو قصاص؛ لأن كل ما أحله الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لا مؤاخذة على فعله البتة بنوع من أنواع المؤاخذة. فهذه العين خائنة يجوز أخذها؛ لأنها هدر لا عقل فيها ولا قود ولا إثم، ومما يؤكد ذلك: أن الرسول عليه الصلاة والسلام هم أن يفعل ذلك، فالأحاديث الماضية أحاديث قولية، وأما من ناحية السنة الفعلية فقد هم النبي عليه الصلاة والسلام أن يعاقب هذا الخائن الذي يتلصص ويتجسس على عورات الناس بهذه العقوبة. فعن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمشقص أو مشاقص وجعل يختله ليطعنه). وعن سهل بن سعد: (أن رجلاً اطلع من جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينيك، وإنما جعل الإذن من قبل البصر) رواه البخاري. والمشقص نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض، وقوله: (من جحر) الجحر: هو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط، والحجر: جمع حجرة من حجر البيت. يقول الشنقيطي: وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا لا ينبغي العدول عنها، ولا تأويلها بغير مستند صحيح من كتاب أو سنة؛ ولذلك اخترنا ما جاء فيها من أن تلك العين الخائنة يحل أخذها وتكون هدراً، ولم نلتفت إلى قول من أقوال من خالف ذلك، ولا لتأويله النصوص بغير مستند يجب الرجوع إليه. فلو أنَّ أحدنا اليوم رأى رجلاً يتلصص عليه من النافذة، أو من ثقب في الباب فأخذ سيخاً -مثلاً- وفقأ به عينه الخائنة، فماذا سيفعلون به يا ترى؟ لابد أن يكون عندنا فقه بالواقع، ومعرفة بالمواءمة بين أحكام الشرع وبين الواقع، وكونك تفقأ عينه هذا مباح في ظل الشريعة الإسلامية بما أن هذا هو الراجح من حيث الدليل، أما الآن فنحن في ظل القوانين الوضعية، وأنا لا أدري بماذا تحكم المحاكم في مثل هذا، ولكن ما أظنها تصل إلى حد إباحة أخذ هذه العين الخائنة بلا مؤاخذة، فلابد أن تضع في اعتبارك أنك لو فقأت عينه فستعاقب بمقتضى القوانين الوضعية، وإن كنت لا تأثم عند الله، ولا تستحق العقوبة، لكن من حيث الواقع لا بد أن تنظر قبل أن تخطو حتى تدرك عواقب الأمور؛ حتى لا تبقى مظلوماً من الجهتين: من جهة أن هذا الخائن نظر في بيتك بدون إذنك، وهذا ظلم وانتهاك لحرمتك، ومن جهة أنك ربما ستعاقب بصورة أو بأخرى في مقابل شيء أحله الله سبحانه وتعالى، فلا بد من أن نفقه مثل هذه الأشياء، ونضعها في اعتبارنا.

هل إرسال الرسول ليحضر شخصا يعد إذنا لذلك الشخص بالدخول؟

هل إرسال الرسول ليحضر شخصاً يعد إذناً لذلك الشخص بالدخول؟ وهنا مسألة يتعرض لها العلماء وهي: هل إرسال الرسول ليحضر شخصاً يعد إذناً لذلك الشخص بالدخول؟ يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أن صاحب المنزل إذا أرسل رسولاً إلى شخص ليحضر عنده، فإن أهل العلم قد اختلفوا هل يكون الإرسال إليه إذناً؟ لأنه طلب حضوره بإرساله إليه، وعلى هذا القول إذا جاء منزل من أرسل إليه فله الدخول بلا إذن جديد؛ اكتفاء بالإرسال إليه. أو على القول الآخر: فلا بد من أن يستأذن إذا أتى المنزل استئذاناًً جديداً. فهذه مسألة مختلف فيها، وقد جاءت بعض الأحاديث تؤيد المذهب الأول، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (رسول الرجل إلى الرجل إذنه)، وقوله: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع رسول فإن ذلك له إذن). أما الفريق الآخر القائلون: إنه يستأذن إذا قدم إلى منزل المرسِل، ولا يكتفى بإرسال الرسول، فاستدلوا بما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: (دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبناً في قدح، فقال: أبا هر! الحق أهل الصفة فادعهم إليّ، قال: فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فدخلوا)، الشاهد قوله: (فاستأذنوا)، مع أنه قد أرسل إليهم أبا هريرة، ولم يكتفوا بالإرسال عن الاستئذان، ولو كان كافياً لبينه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] فالعموم هنا يشمل الجميع، سواء من أُرسل إليه أو من لم يرسل إليه. وجمع بعض العلماء بين القولين فقال: إذا طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الإذن، وإلا فلا. يعني: إذا طال الوقت بين إرسال الرسول ومجيء هذا المرسل إليه فإنه يحتاج إلى إذن جديد، وكذلك أيضاً إذا لم يطل العهد، ولكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة. وعلى أي الأحوال: إذا وجد مقتضى الاستئذان فلا بد من الاستئذان في مثل هذه الحالة.

أحكام الاستئذان داخل البيوت وآدابه

أحكام الاستئذان داخل البيوت وآدابه

وجوب الاستئذان على الأم والأخت والأبناء البالغين ونحوهم

وجوب الاستئذان على الأم والأخت والأبناء البالغين ونحوهم في ضوء قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) بين المحققون من العلماء: أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته وبنيه وبناته البالغين؛ لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذكر، وذلك لا يحل له، وهذا إذا بلغ الإنسان سناً صار لعورته فيها حكم، بمعنى: أنه لا يجوز الاطلاع عليها، فهذا هو الضابط في قضية الاستئذان، فمثلاً: الأطفال الصغار ليس لعورتهم حكم، أما الابن البالغ، أو البنت البالغة، أو الأخت البالغة، أو الأم، وكل من لا يحل لك النظر إلى عورته، فهذا لا بد من الاستئذان عليه، فقد ذكرنا من قبل أن الرجل إذا كانت بنته في داخل غرفة في البيت مغلقة عليها، فلابد أن يستأذن عليها، ولا يقول: أنا أبوها وهي بنتي، وكذلك الأخ لا يدخل على أخته، أو العكس، أما هذه الفوضى التي تحصل في بعض البيوت فإنها مخالفة للشرع، فإذا كان هناك شخص يحرم عليك أن تنظر إلى عورته، ففي هذه الحالة لا يحل لك أبداً أن تدخل عليه إلا باستئذان، ولا يصح أن يحتج أحد بقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27]، فيقول: هذا بيتي، والله تعالى إنما حرم أن يدخل الإنسان غير بيته! لأننا نقول له: صحيح أنه بيتك باعتبار أنك مستأجره والعقد باسمك، أو أنك تملكه، أما في حكم الشرع: فما دام أنه كان مغلقاً على شخص بهذه المثابة فهو ليس بيتك، لذلك يقول الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى: بيت الإنسان: هو البيت الذي لا أحد معه فيه. فلو كان هناك رجل يعيش في بيت لوحده، ومعه المفتاح يفتح ويدخل، فليس هناك مشكلة، ولا يحتاج إلى استئذان، فبيت الإنسان هو البيت الذي لا أحد معه فيه، أو البيت الذي فيه زوجته وأمته، وما عدا هذا فليس بيتاً له. نعيد عبارة الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى، يقول: بيت الإنسان هو البيت الذي لا أحد معه فيه، أو البيت الذي فيه زوجته وأمته، وما عدا هذا فهو غير بيته. انتهى كلام ابن عطية، وعليه فإن كان يسكن معه فيه إحدى محارمه كأمه أو أخته أو عمته، فلا يكون بيتاً له، ويجب عليه ما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه عند الدخول في بيت غير بيته من الاستئذان على أهله. وقال الشيخ أبو الحسن المنوفي رحمه الله تعالى: الاستئذان واجب وجوب الفرائض، وقد انعقد الإجماع على وجوبه، فمن تركه فهو عاصٍ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان كذلك فلا تدخل بيتاً فيه أحد حتى تستأذن ثلاثاً، سواء كان ذلك المتواجد فيه محرماً أو غيره مما لا يحل لك النظر إلى عورته. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا بلغ بعض ولده الحلم عزله فلم يدخل عليه إلا بإذن، وهذا النص محتمل للأمرين: أن ابن عمر نفسه لا يدخل على ابنه إلا بإذن أو أن الولد لا يدخل على أبيه إلا بإذن في كل الأوقات، وقبل أن يبلغ الحلم يستأذن في الأوقات الثلاثة التي سنبينها. وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: يستأذن الرجل على ولده وأمه وإن كانت عجوزاً، وأخيه وأخته وأبيه. قوله: يستأذن الرجل على ولده، أي: البالغ، وكلمة (الولد) تشمل الذكر والأنثى، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فكلمة (الأولاد) تشمل النوعين. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته. وعن عطاء بن يسار: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، فقال: إنها معي في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها، فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها)، وهذا مرسل جيد. وعن هزيل بن شرحبيل قال: سمعت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم. وعن علقمة فقال: جاء رجل إلى عبد الله قال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تحب أن تراها. وعن مسلم بن نذير قال: سأل رجل حذيفة رضي الله عنه فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن رأيت ما تكره. وفي رواية: إن لم تستأذن رأيت ما يسوءك. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن. وعن موسى بن طلحة قال: دخلت مع أبي على أمي، فدخل واتبعته فدفع في صدري وقال: أتدخل بغير إذن؟ فيفهم منه أن الرجل يدخل على زوجته بلا إذن، أما الابن فلا يدخل على أمه بغيراستئذان. وعن عطاء قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم، فأعدت فقلت: أختان في حجري -يعني: هو الذي يربيهما- وأنا أمونهما، وأنفق عليهما، أستأذن عليهما؟ قال: نعم، أتحب أن تراهما عريانتين؟! ثم قرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58] قال: فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هذه العورات الثلاث، قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] أي: الذين مر ذكرهم في الآيات التي ذكرناها من قبل وهم الكبار، قال ابن عباس: فالإذن واجب على الناس كلهم. وعن ابن جريج قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثلاث آيات قد جحدهن الناس: قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم شأناً! والإذن كله قد جحده الناس، فقلت له: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت على من حضرني، فأبى قال: أتحب أن تراها عريانة؟! قلت: لا، قال: فاستأذن، فراجعته أيضاً، قال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستأذن. فقال لي سعيد بن جبير: إنك لتردد عليه! - أي ألححت في السؤال وكررت- قال: أردت أن يرخص لي. وجاء في (الموسوعة الفقهية): يتفق المحرمون للدخول على المحارم ونحوهم إلا باستئذان على أن حرمة الدخول على ذوات المحارم وعلى الرجال بغير استئذان أيسر من ترك الاستئذان على الأجنبيات؛ لجواز نظره إلى الشعر والصدر والساق من ذوات محارمه دون الأجنبيات. فهؤلاء يقولون: إن حرمة الدخول على ذوات المحارم وعلى الرجال أخف من النساء الأجنبيات. وقال فريق آخر بعكس ذلك، فقال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم. قال: وكان يشدد في ذلك.

حكم استئذان الرجل على زوجته

حكم استئذان الرجل على زوجته إذا لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته، فإن الأظهر أنه لا يجب عليه أن يستأذن عليها، وإنما يستحب للرجل إشعار زوجته بدخوله، وذلك بأي طريقة، كأن يتنحنح أو ينادي، والسلام هو الأولى وهو المطلوب، لكن يجوز ما ذكرنا، فإذا لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته فإن الأظهر أنه لا يجب عليه أن يستأذن عليها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وقد قلنا سابقاً: إن بيت الرجل هو البيت الذي هو فيه وحده، أو الذي فيه الزوجة أو الأمة؛ لأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما، ولو كان أباً أو أماً أو ابناً كما لا يخفى. ويدل لهذا قول موسى بن طلحة بن عبيد الله: دخلت مع أبي على أمي، فدخل فاتبعته، فدفع في صدري حتى أقعدني على استي، ثم قال: أتدخل بغير إذن؟! فنرى هنا أن طلحة -وهو زوجها- قد دخل بغير إذن. وعن ابن جريج قال: قلت لـ عطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به؛ لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وأيضاً: فإنه قد يروعها، فلو كانت المرأة لوحدها ليلاً في البيت فيدخل عليها زوجها بدون استئذان فقد يروعها ويخيفها، وينتج عن ذلك ما لا يحمد عقباه، فالمفروض عليه الاستئذان حتى لا يروعها، فيندب ويستحب للرجل إيذان أهله بدخوله بنحو التنحنح وطرق النعل ونحو ذلك؛ لأنها ربما كانت على حالة لا تريد أن يراها زوجها عليها، قالت زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق؛ كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. وقال أبو عبيدة: كان عبد الله -يعني: ابن مسعود - إذا دخل الدار استأنس. يعني: تكلم ورفع صوته كي يشعروا بدخوله، قال الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى: ويستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته، قال أحمد: إذا دخل على أهله يتنحنح، وقال مهنا: سألت أحمد عن الرجل يدخل إلى منزله ينبغي له أن يستأذن؟ قال: يحرك نعله إذا دخل، وقال الميموني أنه سأل أبا عبد الله: يستأذن الرجل على أهله -يعني: زوجته-؟ قال: ما أكره ذلك، إن استأذن ما يضره؟ قلت: زوجته وهو يراها في جميع حالاتها؟ فسكت عني. فهذه نصوص أحمد رحمه الله تعالى لم يستحب فيها الاستئذان على زوجته وقوله: أأدخل؟ لأنه بيته ومنزله، واستحب -إذا دخل- النحنحة، أو تحريك النعل؛ لئلا يراها على حالة لا يعجبها ولا تعجبه. ويقول الداخل إلى بيته ما ورد من الأذكار عند دخوله.

هل يستأذن الرجل على مطلقته الرجعية

هل يستأذن الرجل على مطلقته الرجعية المطلقة الرجعية: هي المطلقة الطلقة الأولى أو الثانية وما زالت في فترة العدة، وتقيم عنده في البيت. ففي وجوب استئذان الرجل على مطلقته الرجعية قولان مبنيان على أنه: هل يلزم من الطلاق الرجعي تحريمها على مطلقها أم لا؟ فمن قال: إنها ليست محرمة كالحنفية وبعض الحنابلة قال: لا يجب الاستئذان بل يندب، ويكون دخوله عليها كدخوله على زوجته غير المطلقة. ومن قال: إنها محرمة كالشافعية والمالكية وبعض الحنابلة قال بوجوب الاستئذان قبل الدخول عليها.

سلام الرجل على أهله إذا دخل عليهم

سلام الرجل على أهله إذا دخل عليهم لا يجب الاستئذان عند الدخول على الزوجة، ويستحب الاستئذان، ويستحب أن يسلم الرجل على أهله إذا دخل منزله، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله)، وهذا الحديث فيه كلام لكنه يتقوى بشواهده. ويروى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني! إذا دخلت على أهلك فسلم يكن سلامك بركة عليك وعلى أهل بيتك). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للإسلام صوىً ومناراً كمنارات الطريق إلى أن قال: وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن على الله: وفيه: ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله)، وفي بعض الروايات: (ثلاثة كلهم ضامن على الله: إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله)، ومعنى ضامن أي: صاحب الضمان، كما تقول: تامر ولابن، أي: صاحب التمر واللبن، فمعنى قوله: (ثلاثة كلهم ضامن على الله): أنه في رعاية الله، فكلمة (على) تتضمن معنى الوجوب والمحافظة، وذلك على سبيل الوعد من الله سبحانه وتعالى بأن يكلأه من الضرر في الدنيا والدين. وعن المقداد رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً، ويسمع اليقظان)، وهذا من الآداب التي ينبغي أيضاً أن تراعى، فإن كان هناك أناس نائمون فلا ينبغي إزعاجهم بالأصوات، ولكن يسلم تسليماً لا يوقظ نائماً، ويسمع اليقظان. وعن أبي الزبير أنه سمع جابراً يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة، قال: ما رأيته إلا يوجبه -يعني: يوجب رد السلام- قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، وقال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم.

كراهة طروق الرجل أهله ليلا

كراهة طروق الرجل أهله ليلاً يكره طروق الأهل ليلاً لمن جاء من سفر، فإذا كان الرجل مسافراً سفراً بعيداً، فلا يأتي أهله فجأة دون أن يكون قد أخبرهم من قبل، فإن كان ولا بد آتياً فليبت في المسجد، أو في مكان آخر، ولا يفاجئهم في الليل، فعن جابر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً)، والطروق: هو المجيء بالليل من سفر أو من غيره على غفلة، يقال لكل آت بالليل: طارق، وأصل الطروق: الدق والضرب، وبذلك سميت الطريق؛ لأن المارة تدقها بأرجلها، وسمي الآتي بالليل طارقاً؛ لأنه غالباً يحتاج إلى دق الباب. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلاً). وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشياً). وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم). ففي هذا الحديث نص على بعض الحكمة من ذلك، فربما كان مجيء الرجل على أهله بهذه الطريقة المفاجأة، وبدون سابق إعلام يدخل في نفس أهله أنه يشك فيهم، وقد يوقع في قلب زوجته أنه يسيء بها الظن. وأسوأ ما يفسد العلاقات -سواء بين الزوجين أو بين الآباء والأبناء- المعاملة التي فيها تخوين، أو سوء ظن أو شك، خاصة أن بعض الناس يكون عندهم نوع من الوساوس الخطيرة في هذا المجال، فيعيش في ضنك، ويعيش الناس معه أيضاً في ضنك وفي عذاب، فهذه الأشياء لم يتجاهلها الشرع الشريف، وهذه إحدى الحكم من هذا الأمر، حتى الأبناء ينبغي للإنسان أن يتعامل معهم بثقة، فلا تعامل الابن دائماً على أنه متهم، وتمسكه وتفتش ثيابه، وتنظر ماذا عمل، فإن زرع عدم الثقة في نفسه قد يجعل عنده رغبة في التحدي، وأنه سيعمل ما يشاء ولن تقدر على معرفة ذلك، وهذا نوع من الصراع الداخلي ينشأ من هذا الأسلوب التربوي الذي لا داعي له؛ لأنه إذا لم يكن له سبب مبرر فلا داعي أن تلقي في روع الناس أنك تشك فيهم؛ ولذلك راعت الشريعة هذا المعنى. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)، فتتبع العورات، والتشكك في الناس، والمعاملة على أساس الريبة؛ هذه هي التي تأتي بالفساد، والمطلوب هو العكس، فمن المفروض أن تزرع في أبنائك أنك تثق فيهم، وأنك تحترمهم، وغير ذلك، مما يزرع الثقة فيهم، وبالتالي يسمو لأن يكون على هذا المستوى من الثقة وأنه يستحقها بخلاف العكس. يقول الحافظ ابن حجر في حديث جابر: قوله: (إذا أطال أحدكم الغيبة) يشير إلى أن علة النهي إنما توجه حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلاً نهاراً ويرجع ليلاً، لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة؛ كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً على ما يكره. أي: أن الشخص الذي يخالف هذا الأمر الشرعي، ويأتي بعد طول الغيبة بدون سابق إنذار أو إعلام غالباً ما يلقى ما يكرهه، يقول: إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظيف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله لـ جابر حين قدم معه من سفر: (إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة)، وفي رواية أنه قال: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً -يعني: عشاء-؛ حتى تستحد المغيبة) أي: حتى تدخل ليلاً، والمقصود به في أول الليل، والنهي يكون عن الطروق في وسط الليل، أما لو أتى في أول الليل فإنه لا يدخل في النهي، ولذلك جاء في بعض الأحاديث: (إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أول الليل)، فالذي يخالف هذا الهدي النبوي غالباً ما يقع على ما يكره، إما أن يرى زوجته غير متأهبة لذلك، وإما أن يرى منها ما يحدث النفرة بينهما. يقول الحافظ ابن حجر: ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة؛ لئلا يطلع منها على ما يكون سبباً لنفرته منها، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (أن يتخونهم ويتطلب عثراتهم)، فعلى هذا من علم أهله بوصوله، وأنه سيقدم في وقت كذا -مثلاً- فلا يتناوله هذا النهي، وإنما النهي فيمن يأتي بغتة في وسط الليل، أو في آخره، ففي حديث ابن عمر قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة فقال: لا تطرقوا النساء، وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون) أي: يخبر أهل البيوت أن هذا الجيش قادم. قال ابن أبي جمرة: فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غرة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث.

استئذان الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم

استئذان الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم ذهب الجمهور إلى وجوب أمر الصغير المميز بالاستئذان قبل الدخول في الأوقات الثلاثة، فهو أمر للآباء أن يأمروا الأبناء، لكن هل هو واجب على الأطفال الصغار؟ لا؛ لأن الطفل غير مكلف، فلا يجب عليه هذا الحكم، وإنما الواجب أن الأب يربي الطفل ويعوده على هذه الأمور، وهذا من روعة الشريعة الإسلامية، وكيف أنها لم تترك شيئاً مما يحتاجه الناس إلا وقد عالجته، لكنه يخفى على من يخفى، ويظهر لمن يظهر، فيجب على الولي أن يأمر الصغير المميز بالاستئذان، والمميز: هو الذي يقدر على أن يصف ما يراه بشدة، وكذلك يستطيع أن يميز مثلاً بين العبادة وبين اللعب. أما غير المميز فلا يدخل في هذا الحكم، والآية الكريمة لم تذكر قيد التمييز، وإنما هو كلام لبعض الفقهاء، وعدم وجود فيد التمييز له حكمة عظيمة جداً من الناحية النفسية؛ لأن الطفل حتى قبل سن التمييز يجب أن تحفظ عينه عن أن يرى أشياء لا يحسن أن يراها؛ لأنها قد يكون لها تأثير سيئ جداً فيما بعد، والآية المشار إليها هي قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58]، فالبالغون من الأولاد أو البنات أو الأقارب في البيت، لا بد أن يستأذنوا في أي حال من الأحوال، وكذلك ملك اليمين من العبيد والإماء، وكذلك الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، فهؤلاء أيضاً يستأذنون، لكن في ثلاثة أوقات، وهذا من تيسير الشريعة، فهم كما قال الله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور:58]، فتراهم يتحركون في البيت بكثرة، فيخدمون مثلاً في البيت، أو يأتون بأشياء، ويدخل أحدهم ويخرج ويتصرف بحريته في البيت، فالشريعة هنا راعت حاجة الناس، ويسرت عليهم في هذا الأمر، إلا في ثلاثة أوقات فلا بد أن يدرب الأولاد على عملية الاستئذان، وهذه الثلاثة الأوقات سماها الله سبحانه وتعالى ثلاث عورات، وهذه الأحكام لا يمكن أن تجدها في شريعة من الشرائع على الإطلاق سوى هذه الشريعة الإلهية الحقة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. والتساهل في هذه الأمور له عواقب من أسوأ ما يكون، فلولا أهمية هذه المسألة ما أنزل الله فيها وحياً يتلى في المحاريب إلى أن يأتي أمر الله عز وجل. فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58]، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا بلغ بعض ولده الحلم عزله فلم يدخل عليه إلا بإذن. وقال القرطبي رحمه الله: وكان أنس بن مالك دون البلوغ، لكنه كان يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله تعالى عنهم. وقد جرى عرف الناس على التحفظ والتحرز في غير الأوقات الثلاثة، فلا حرج من دخول الصغار بدون إذن حينئذ، وذلك لأنهم من الطوافين الذين يكثر دخولهم وخروجهم، ولا يجد الناس بداً من ذلك؛ لأن في الاستئذان حينئذ حرجاً عند كل دخول وخروج، أما إذا بلغ الأطفال الحلم فإنهم يدخلون في حكم الأجانب، وعليهم كلما أرادوا الدخول أن يستأذنوا كما يستأذن المحارم؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59]. فهذا التأديب الإسلامي الرفيع الراقي أمر يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية، مستهينين بما ينشأ عن التفريط فيه من صدمات نفسية، وانحرافات سلوكية، ظانين أن الصغار قبل البلوغ لا يتنبهون لهذه المشاهد، في حين يقرر علماء التربية وعلماء النفس: أن وقوع عين الطفل على شيء من هذه العورات، أو اطلاعه على هاتيك الأحوال، قد يترتب عليه معاناة نفسية، واضطرابات سلوكية لا تحمد عقباها، فتحصل له صدمة إذا وقعت عينه على ما لا ينبغي أن يطلع عليه، فالحرمة بين الأبوين وبين الأبناء لا بد أن يحافظ عليها صيانة لهذا الجانب؛ لأن الأولاد يضعون نوعاً من القداسة للأب والأم، فالتهاون في هذه الأمور قد يخدش هذا الجانب، ويصدم الأطفال. فهذه الأمور تلفتنا إلى ضرورة حفظ تلك الأعين البريئة من كل ما يلوث فطرتها النقية، ويجني على صحتها النفسية، ويهدد استقامتها الخلقية، سواء في ذلك داخل البيت أو خارجه، وسواء في ذلك أوقات العورات الثلاث أو في غيرها، أي: أن هذه الآية تلفت نظرنا إلى وجوب حفظ حواس الأطفال، وحفظ عيونهم من أن يقعوا على ما لا ينبغي أن يطلعوا عليه، وليس هذا فقط في الثلاث عورات، أو في البيوت، فالمفروض حمايتهم في كل مكان، فقد يوجد التفلت والتسيب في بعض البيوت، حيث يحصل تساهل قبيح، بل إفراط مشين في كشف الأبدان والأحوال التي سماها القرآن الكريم عورات، فما دامت عورة فيجب أن تستر، ويستقبح كشفها أمام الصغار، فبعض الناس يتساهل في هذا بحجة أن الصغار لا يفهمون، ناهيك عما يعرض من مشاهد مماثلة لها في التلفاز أو غيره، فكل ذلك مما يناقض الحكم التشريعية السامية التي ترمي إلى حماية هؤلاء الأطفال من التنبيه المبكر للغرائز، وتعكير صفو الفطرة، وانحراف السلوك، وكم من حادثة مشينة كانت وليدة التقليد والمحاكاة، ونتيجة الانحراف عن هذا الأدب الإسلامي السامي.

الحالات التي يجوز فيها دخول البيوت بدون استئذان

الحالات التي يجوز فيها دخول البيوت بدون استئذان ذكرنا فيما سبق وجوب الاستئذان، وهنا نذكر أشياء تستثنى من ذلك، ولا يجب فيها الاستئذان، فهناك بيوت يمكن أن تدخل بدون استئذان، وهي كالتالي: أولاً: البيوت غير المسكونة التي فيها متاع للناس، فهذه يجوز دخولها من غير استئذان؛ بناء على الإذن العام بدخولها في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29]، وذلك إذا تعلق بها منفعتهم؛ كدفع الحر والبرد في الخانات والرباطات، ومثلها في هذا الوقت الفنادق، ومنفعة قضاء الحاجة في المواضع المعدة لذلك، وغير ذلك من المنافع. وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] فقال قتادة ومجاهد والضحاك ومحمد بن الحنفية: إنها البيوت التي تبنى على الطرقات يأوي إليها المسافرون، ومثلها الخانات، والخانات: جمع خان، وهو حانوت التاجر، وهي مواطن سكن مؤقتة يدخل الناس إليها دون استئذان، أما بالنسبة للفنادق: فالغرف التي فيها أناس لا يجوز دخولها، وأما صالة الفندق فيجوز دخولها؛ لأنها مكان عام، وفي الغالب فإن الغرف لا يمكن دخولها إلا إذا كانت خالية. وقال مجاهد: لا يسكنها أحد؛ بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل. وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي والشعبي: إنها الدكاكين التي في الأسواق (المحلات)، وقد استظل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ظل خيمة فارسي بالسوق من المطر دون إذن منه. وروى سفيان عن عبد الله بن دينار قال: كان ابن عمر يستأذن في حوانيت السوق، فذكر ذلك لـ عكرمة، فقال: ومن يطيق ما كان ابن عمر يطيق؟! وليس في فعله ذلك دلالة على أنه رأى دخولها بغير إذن محظوراً، ولكنه احتاط لنفسه، وذلك مباح لكل أحد. وذهب ابن جرير وابن عطية إلى أنه لا يدخل الحوانيت إلا بإذن أربابها، فلا يدخل أي محل مفتوح إلا بإذن صاحبه، لكن قال الأولون: إنه لا ريب أن الحانوتي -أي: صاحب المحل، نسبة إلى الحانوت وهو المحل أو المتجر- إذا فتح متجره فهو يفتحه رغبة في دخول الزبائن، وأنه راغب في البيع، وهذا سبب كافٍ لإباحة دخول المتاجر بدون إذن، وقد تعارف الناس على ذلك. قال الشعبي: لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس: هلم. وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط، ففي هذا أيضاً متاع، وقال محمد بن الحنفية أيضاًَ: أراد تعالى بذلك دور مكة. وبين الإمام مالك رحمه الله تعالى الأصل في قول محمد بن الحنفية هذا، فقال: وتجويز محمد بن الحنفية دخول بيوت مكة بغير استئذان مبني على القول بأن بيوت مكة غير متملكة، وأن الناس فيها شركاء. يعني: بناء على أن مكة فتحت عنوة، وتعقب بأن الله سبحانه وتعالى قيد هذه البيوت المذكورة في الآية بأنها بيوت غير مسكونة، وبيوت مكة مسكونة، وأدخل جابر بن زيد في ذلك كل مكان فيه انتفاع وله فيه حاجة، وبنى المالكية ذلك على العرف فقالوا: يباح له أن يدخل بغير استئذان كل محل مطروق؛ كالمسجد، والحمام، والفندق، وبيت العالم والقاضي والطبيب، وهو المكان الذي يستقبل فيه الناس؛ لوجود الإذن العام بدخوله. وقد سمى الشيخ عليش هذه البيوت: بيوت ذي الإذن العام لجميع الناس، فهي بيوت مختصة بأن فيها إذناً عاماً لجميع الناس؛ كبيت الحاكم والعالم والكريم الذي يدخله عامة الناس بلا إذن خاص. وقال الحنفية: إن البيوت إذا لم يكن لها ساكن، وللمرء فيها منفعة، يجوز له أن يدخلها من غير استئذان؛ كالخانات والرباطات التي تكون للمارة، والخرابات التي تقضى فيها حاجة البول والغائط؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29]. وقال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص. وقال أيضاً: من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل، وجاء بالفيصل. وهذا الأسلوب رائق رائع من الإمام أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وكتب ابن العربي عموماً فيها هذه الأساليب البليغة، والتعبيرات الجميلة، فأنا أوصي من يريد أن يقوي لغته أن يستخرج هذه التعبيرات، ويكتبها، ويحفظها، ويستعملها، فكثيراً ما يأتي ابن العربي بعبارات رائقة ورشيقة وشائقة من الناحية اللغوية، وكما تلاحظون هنا يقول: من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل، وجاء بالفيصل. وبين أيضاً أن دخول الداخل في هذه البيوت إنما هو لما له من الانتفاع، فالطالب يدخل المدرسة للعلم، والساكن يدخل في الخان للمبيت فيه، أو لطلب من نزل لحاجته إليه، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة، وكل يؤتى على وجهه من بابه. إذاً: هذا هي حالة الاستثناء الأولى: أن ندخل بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لنا بدون إذن. الحالة الثانية: ترك الاستئذان لدخول بيت إحياء: لنفس أو مال، فقد يكون الإنسان في ظرف لو أنه انتظر حتى يستأذن فقد تفوت المصلحة، فإذا كان هناك في بيت مثلاً حريق، أو مال سيتلف، ففي هذه الحالة يقتحم البيت بغير إذن؛ إحياء للنفس أو حفظاً للمال. وقد أورد الحنفية عدداً من الفروع الدالة على ذلك، وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ما ذهب إليه الحنفية، إلا الحنابلة فإنهم لم يجيزوا دخول البيت إذا خيف ضياع المال إلا باستئذان أما إذا كان لدفع عدو يريد أن يزهق نفساً مسلمة فيجوز دخوله بغير استئذان؛ لما في دفع العدو من إحياء نفوس المسلمين وأموالهم. الحالة الثالثة: أجاز الحنفية والمالكية دخول البيت الذي يتعاطى فيه المنكر بغير استئذان بقصد تغيير المنكر، أي: لابد أن تكون نيته تغيير المنكر، وليس الدخول والاطلاع على العورات، كما إذا سمع في دار صوت المزامير والمعازف فله أن يدخل عليهم بغير إذن، وعللوا ذلك بعلتين: الأولى: أن الدار لما اتخذت لتعاطي المنكر فقد سقطت حرمتها، وإذا سقطت حرمتها جاز دخولها بغير إذن. الثانية: أن تغيير المنكر فرض، فلو شرط الإذن لتعذر التغيير. وهذه الحالة إذا تجاهروا بالمنكر، أما إذا لم يتجاهروا بالمنكر فلا، فمثلاً: لم تسمع مزماراً، ولم تشم رائحة الخمر، وليس هناك أي شيء يدل على وجود المنكر، فهنا لا يجوز التوصل إلى المنكر عن طريق التجسس، فشرط المنكر الذي ينكر أن يكون ظاهراً من غير تجسس، أما لو كان المنكر مختفياً فلا؛ لأنه لم يستوف شروط المنكر الذي يجب تغييره، فأحد شروط تغيير المنكر أن يكون منكراً، وأن يكون ظاهراً بغير تجسس. وأما الشافعية فقد كانوا أكثر تفصيلاً للأمر من الحنفية، حيث قالوا: إن المنكر إن كان مما يفوت استدراكه جاز له دخوله لمنع ذلك المنكر بغير استئذان، كما إذا أخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو خلا بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث؛ حذراً من فوات ما لا يستدرك من إزهاق روح معصوم، وانتهاك عرض محرم، وارتكاب المحظورات، أما إذا لم يفت استدراكه، كما إذا دخل معها البيت ليساومها على أجرة الزنا ثم يخرجان ليزنيا في بيت آخر، أو إذا كان مما يمكن إنكاره ورفعه بغير دخول؛ لم يحل له الدخول بغير استئذان، كما إذا سمع المحتسب أصواتاً منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم؛ أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس له أن يكشف عما سواه.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام لقد ضمن الله تعالى البقاء لدينه، وجعل العاقبة للمتقين ولو كره الكافرون، فعوامل البقاء والانتشار في دين الإسلام تمهِّد له اليوم ليحكم العالم وإن كان جهد المسلمين في هذا الجانب قليلاً، وهذا هو ما تكشفه النصوص، وتوضحه وتؤيده أقوال وكتابات كثير من مفكري وقادة الغرب من غير المسلمين.

أقوال بعض المفكرين الغربيين في أن المستقبل للإسلام

أقوال بعض المفكرين الغربيين في أن المستقبل للإسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد طرح المستشرق الإنكليزي المعاصر استبن سؤالاً يقول فيه: هل يمكن أن نقع يوماً تحت وطأة الخطر الإسلامي؟ ثم أراد أن يأتي ببعض الأجوبة، فقال: أجل، إنهم اليوم دعاة متفرقون، لا نرى عزماً أكيداً لدى كبارهم يحملهم على التضحية، ولا نرى عند ذوي الرأي والوجاهة فيهم أنهم يستطيعون الجلوس معاً جلسة جدية يتحدثون فيها عن مشاكلهم فضلاً عن أن يتكلموا عن حلها، ففي طوال ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن من تاريخ الإسلام يصعب أن نشير إلى حالة واحدة اجتمع فيها ممثلون من جميع أقطار العالم الإسلامي ليتشاورا في مشاكل تعنيهم جميعاً، وليقروا اتباع طريق واحد في العمل. يقول: إن المسلمين قد يستمرون مدة طويلة من الزمن في هذا التفرق والتشرذم، لكن ينبغي أن لا نبالغ في تقدير طول هذه المدة؛ لأن هناك ظاهرة كثيراً ما يهملها الباحثون في حركات المجتمع الإسلامي مهما كان نوعها، وهي أنها تنضج بسرعة مدهشة، حتى إن وجودها -كما أشار الأستاذ لاسنيون أحد المستشرقين الفرنسيين- يندر أن يخطر على بال أحد قبل أن يندلع لهيبها ويروع العالم، والمسألة الكبرى هي مسألة الزعامة، فحينما يجد الإسلام صلاح الدين الجديد رجلاً يجمع بين الحنكة السياسية العظيمة وبين شعور برسالته الدينية يبلغ أعماق نفسه فإن ما عدا ذلك ينحل من تلقاء نفسه. اهـ أما الأمريكي جورج تتسون فيقول في كتاب الشرق الأوسط في مؤلفات الأمريكيين: إن المآثر التي قامت بها الشعوب التي تتكلم اللغة العربية بين القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر كانت عظيمة لدرجة تخمل أجسامنا، وإن شعوب الشرق الأوسط سبق لها أن قادت العالم في مرحلتين طول ألفي عام على الأقل قبل أيام اليونان، وفي العصور الوسطى لمدة أربعة قرون، وليس ثمة ما يمنع تلك الشعوب من أن تقود العالم مرة ثالثة في المستقبل القريب أو البعيد. اهـ ويقول أستاذ فرنسي لطلابه إبان الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب العالمية الثانية -والذي حكى هذه القصة طالب عربي كان يتلقى العلم عليه في ذلك الوقت-، قال لمن يريد أن يربيهم للمستقبل من أبناء بلاده منبهاً إياهم ومعزياً أولاد بلاده الفرنسيين عن الاحتلال الألماني: إن الخطر الذي داهمهم من الألمان ليس هو الذي يخافه عليهم وعلى مستقبلهم، وإنما الخطر الجدير بالخوف هو ما يمكن أن تأتي به هذه الشعوب التي تربض خلف البحر الأبيض المتوسط؛ لأن خطرها هو الذي يهز الكيان ويزلزل الأركان. اهـ قال هذا والعرب والمسلمون في أشد حالات الضعف. ويقول لورن استرون: لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر الأطلس باليابان وتزاعمها على الصين، وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخوف كله ما وجدناه كما تخيلناه؛ لأننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد، ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا أثناء الحرب العالمية الثانية، أما الشعوب الصفراء فإن هناك دولاً ديمقراطية كبرى تتكفل بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في المسلمين، وفي قدرتهم على التوسع والإخضاع، وفي الحيوية المدهشة العنيفة التي يمتلكونها، ألا إنهم السد الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي. اهـ وهذا سلا زار يصرح في حديث له فيقول: الخطر الحقيقي هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون من تغيير نظام العالم. فقيل له: إنهم في شغل عن أن يفكروا في هذا لخلافاتهم ونزاعاتهم، فقال: إني أخشى أن يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا. اهـ **ويقول أحد علماء (السربون) في إحدى مؤلفاته: إن العالم فيه ثلاث قوى: قوة الشرق، وقوة الغرب، وهناك قوة ثالثة لو عرفت نفسها لأمكنها أن ترث القوتين، وهذه القوة هي القوة الكامنة وراء يقظة المسلمين؛ لأن لهم نظرة انفردوا بها عن العالم في تنشأة الرجال. اهـ وقال أحد المسئولين في وزارة خارجية فرنسا سنة (1951م): ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي، فهي حلقة لحلقات سابقة، وإذا كان هناك خطر فهو خطر سياسي عسكري فقط، ولكنه على أي حال ليس خطراً حضارياً تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي، والمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي خاصة، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، وهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب -أي: دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية بصورة خاصة في الشخصية الحضارية الغربية- وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي في اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب، فإذا أصبح لهم علمهم، وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الفتي، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية، ويقذفون رسالتهم إلينا عبر التاريخ، وقد حاولنا خلال حكمنا الطويل في الجزائر أن نتغلب على الشخصية التاريخية لسعة هذا البلد فلم نأل جهداً في فرض شخصية غربية لهم، فكان الإخفاق الكامل من نتائج مجهودنا الضخم الطويل. إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة، وهو في حاجة إلى الاستقلال في استغلال هذه الإمكانات الضخمة الكامنة في بطون سهوله وجباله وصحاريه، فهو -وتأمل هذه العبارة- في عين التاريخ عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه بعد اكتشافاً تاماً، فهو حذر، وهو قلق، وهو كاره لماضيه في عصر الانحطاط، راغب رغبة يخالطها شيء من الكسل -أو بعبارة أخرى من الفوضى- في مستقبل أحسن وحرية أوفر، فلنعط هذا العالم ما يشاء، ولنقو في نفسه الرغبة في الإنتاج، ولنصنع له ما يشاء من منجزات الصناعة الحديثة، شرط أن نبتعد به عن الإنتاج الصناعي والفني -ويقصد الإنتاج التكنولوجي-، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه من مباراة الغرب في الإنتاج فقد بؤنا بالإخفاق الذريع، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الحضاري الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب، وتنتهي معه وظيفته القيادية. اهـ أما (جوستريونغ) فقد كتب كتاب (أثناء الحساب الأخير) الذي اخترعه ويعني به تصفية الحساب، وهو يعني أن العالم الإسلامي سيفيق، وسوف ينتقم من العالم الغربي واليهود الصهاينة ويتولى هو حسابهم. يقول: إن العالم الإسلامي قد أفلت من قبضة الموت الذي أعده ونسق أكفانه الاستعمار الأوروبي، وإن العالم الإسلامي يسرع الخطا إلى الشباب، فيصفي حسابه مع الاستعمار الأوربي الصهيوني، وهو حساب عسير رهيب. اهـ وجاء في مجلة التاريخ الجاري الأمريكية مقال بعنوان: محمد -عليه الصلاة والسلام- يتهيأ للعودة. وفي عنوان آخر: إن المسلمين رقدوا خمسمائة سنة، وهم يتحركون الآن ويتوثبون إلى استنفار. وقال الفير نشادور: إن هذا المسلم الذكي الشجاع قد ترك لنا حيث حل آثار علمه وفنه، آثار مجده وفخاره، إن هذا المسلم الذي نام نوماً عميقاً مئات السنين قد استيقظ وأخذ ينادي: هأنذا لم أمت، إني أعود إلى الحياة، لا لأكون أداة طيعة أو كتلاً بشرية تسيرها العواصم الكبرى. ثم قال: ومن يدري! قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالمسلمين، فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب أو الزمن الموقوت، لست أدعي النبوة، ولكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة لا تقوى الذرة ولا الصورايخ على وقف تيارها. اهـ هذا ما يقوله شخص يستقرئ أحداث التاريخ وعبره، فماذا يقول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وآله وسلم.

أحاديث نبوية في أن المستقبل للإسلام

أحاديث نبوية في أن المستقبل للإسلام أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير من النصوص التي تبشر بأن المستقبل حتماً للإسلام، وهذه حقيقة نوقن بها تماماً كما نؤمن أن الشمس غداً ستشرق من المشرق، يقول الله تبارك وتعالى في شأن هؤلاء الكفار: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، تخيل أن اليهود والنصارى يحاولون إطفاء نور الله بأفواههم، والله عز وجل يأبى إلا أن يتم نوره. فهم الآن في كل بقاع العالم الإسلامي يحاولون إطفاء نور الله، يحاولون وأد الصحوة الإسلامية بأفواههم، وبكل ما أوتوا من قوة، انظر إلى هذا التمثيل! تخيل نوراً عظيماً، وهناك أناس يحاولون أن يطفئوه، كل واحد ينفخ ليطفئه بفمه، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33] حتى وإن كرهوا فلابد من أن تحقق كلمة الله عز وجل. فعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) فهذه نبوءة بأن الإسلام سوف يسيطر على كل الكرة الأرضية. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] أن ذلك يكون تاماً؟! قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله). فقولها: (أن ذلك يكون تاماً) يعني أن وعد الله بظهور هذا الدين على سائر الأديان سوف يتحقق لا محالة، فبشرها عليه الصلاة والسلام وقال: (إنه سيكون من ذلك ما شاء الله). وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً) وهو ما نحن فيه الآن ومنذ زمن بعيد، قال: (ثم تكون ملكاً جبرياً، فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة). إذاً: سوف ينتهي هذا الليل الحالك بإشراق شمس الإسلام من جديد (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وفي هذا إشارة إلى أنه بقدر ما تقترب الدعوة من منهاج النبوة بقدر ما تكون هي المؤهلة لإعادة التمثيل لهذه الخلافة. ويقول -أيضاً- صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، ويقول أيضاً: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، ويقول -أيضاً- صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره)، ويقول -أيضاً- عليه الصلاة والسلام: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب).

تحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية

تحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية -أي: روما-؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً) يعني القسطنطينية، وتحقق هذا بعد حوالى ثمانمائة سنة على يد السلطان محمد الفاتح العثماني. ولهذا السلطان ترجمة طيبة، لكن نشير إشارة عابرة إلى شيء مهم جداً يعكس أننا لابد من أن نهتم دائماً بالجيل القادم، ولابد من أن نربي أولادنا لأجل أن يحملوا هذه الرسالة، وإذا كنا قد هدينا إلى الالتزام وإلى الإسلام في سن متأخرة -إذ ربما التزم بعض الإخوة بعد أن دخل الجامعة أو في الثانوية- فنرجو أن يكون الجيل المقبل -إن شاء الله- أسعد حظاً في أن ينشأ من صغره على هدف يعيش من أجله. أما قصة محمد الفاتح فهي -باختصار شديد- أنه كان ابن السلطان، فكان يؤدبه شيخ وهو طفل صغير، ومؤدبه يدعى آق شمس الدين، وكان هذا العالم المربي هو الذي يربيه ويهذبه ويعلمه، وكان هذا الشيخ يأخذ يد الطفل الصغير محمد الفاتح بين وقت وآخر، ويذهب به إلى الساحل الذي يفصل آسيا عن أوروبا؛ لأن اسطنبول يقع جزء منها في آسيا وجزء منها في أوروبا، وكانت تسمى (الآستانة) في الحقيقة، لكن أتاتورك سماها اسطنبول، واسمها كان (إسلام بول) أي: مدينة الإسلام. فكان يأخذ محمد الفاتح وهو صبي صغير إلى الساحل بصفة مستمرة، ويقول له: انظر إلى هذه المدينة التي هناك، هذه المدينة هي القسطنطينية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون القسطنطينية، فنعم الجيش جيشها، ونعم الأمير أميرها)، ثم ينصرف، ثم يأخذه بعد ذلك مرة أخرى ويسحبه بيده وهو طفل صغير، فظل مداوماً على هذا حتى تولد لدى هذا الصبي الصغير الهمة في أن يدخل في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمغفرة لهذا الجيش، وبالمدح والثناء لأميره: (فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش جيشها) فعاش لأجل هذا الهدف فقط لا لغاية أخرى، وهذا الشيخ كان يعلم أن هذا الرجل سيكون في يوم من الأيام سلطاناً، فأراد أن يساهم في تحقيق هذا النصر العظيم، فأوجد في هذا الصبي من صغره هذه الهمة، فيعيش ليؤدي هذه الرسالة، ويحمل هذا الشرف، ليس كل همه أن يجمع المال، وأن يخرج بمنصب مرموق، وأن يعيش عيشة طيبة، فهذه همة دون، أما أصحاب الهمم العالية فهم يهتمون بمعالي الأمور. فعليك أن تربي أولادك إذ لا يبعد أن يكون ابنك الصغير الذي يركض في المهد ويصرخ ويصيح هو الذي سوف يمكن الله للإسلام على يديه، ولا تحتقر ما في هذه الأجيال والأطفال من طاقات، فينبغي الاهتمام الشديد بالأجيال المقبلة، ونرجو أن تكون أسعد حظاً من جيلنا.

أدلة عامة على أن المستقبل للإسلام

أدلة عامة على أن المستقبل للإسلام الأدلة على أن المستقبل للإسلام كثيرة جداً، وقد ذكرنا منها -من غير نصوص الوحي من الكتاب والسنة- أقوال المفكرين والمشاهير من الغربيين الذين يقرون بهذه الحقيقة مع أننا في أشد حالات الضعف والهوان، فالأمة الإسلامية لن تتخلى عن عقيدتها بالرغم من الذل الذي تتجرعه كل وقت، ومع ذلك هم يخافون من الأمة، فلماذا؟ لأنهم يعرفون مكامن القوة في هذه الأمة. ومن الأدلة -أيضاً- أن الإسلام هو دين الفطرة، وهذا الدين حفظه الله عز وجل من التحريف، فهو منهج حياة شامل، يسهل كل مقومات الحياة، والبشرية الآن في حالة تعطش إلى الإسلام، ومن يرى أحوال الكفار أو يسمعها أو يقرأها سيحكم بأن هذه الأمم كلها انهارت، وليست الشيوعية فقط الذي انهارت، بل العالم الغربي الآن منغمس في حمئة الرذيلة، وأسباب الانهيار تعمل فيه بأقصاها {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]. وإذا أردنا أن نتكلم عن انهيار النظم البشرية فلن نضع أمريكا في مؤخرة القائمة، بل هي في أول هذه القائمة؛ لأنها مع قوتها المادية الهائلة منهارة انهياراً شديدة جداً، ومن الخيانة أن كثيراً من الكتاب والناس يعودون من تلك البلاد فيمدحونها مدحاً شديداً حتى يصوروا للناس أنها الفردوس المفقود، لكن من خبر الأمر على حقيقته وجد أننا متقدمون عنهم بمراحل عظيمة جداً مع ما نحن فيه من الانحراف عن الإسلام، ولنعلم أن إخواننا الذين يعيشون هناك ممن فيهم خير وفيهم ولاء لله ورسوله عليه الصلاة والسلام يعتبرون عودتهم إلى بلادهم الإسلامية -على ما فيها من فساد- أمنية عظيمة جداً، لكنهم دخلوا في أسر الدنيا، فقل من يضحي حتى يعود إلى بلاد المسلمين، فهم جميعاً في حاله شقاء وضنك وعذاب وحرمان من نعمة الحياة بين المسلمين. فالمقصود أن الانهيار ليس فقط في الشيوعية، ولكن أمريكا -كذلك- في قمة من ينهار في الحقيقة، والبشرية الآن كلها تبحث عن منقذ، فليس عندهم قيم في أمور البشرية على الإطلاق، ليس عندهم أي شيء يقدموه للبشرية. ومن الأدلة -أيضاً- أن بشائر الصحوة الإسلامية في كل أرجاء العالم الإسلامي -بل في أعماق أوروبا وأمريكا نفسها- تطل من جديد، مع أن الجهود الدعوية التي تبذل في كل البلاد الإسلامية دون المستوى المطلوب بكثير جداً، ومع ذلك فتجد انتشاراً كبيراً جداً لهذه الصحوة، فهذا مما يبشر باقتراب هذا الوعد والأجل المحتوم، يقول الله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]، ويقول الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28]، فبعد القنوط والإياس يأتي النور والحياة، لكن هذا الدين لم يقم إلا على تضحيات وبذل وأشلاء وجماجم، ولم توقد مصابيح الهداية إلا بدماء الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة.

عدم اليأس من النصر بسبب حال المسلمين اليوم

عدم اليأس من النصر بسبب حال المسلمين اليوم عن خباب رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعوا لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، فتأمل هذا الحديث، وانظر إلى الحال التي نحن فيها الآن من الضعف، فالحال في كثير من بلاد المسلمين ليست كالحالة التي نطق فيها النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث، قال الصحابي: (وقد لقينا من المشركين شدة)، فقد كان المشركون يعذبون الصحابة أشد العذاب، ولما هرعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدل عن الدعاء لهم بتسليتهم وتعزيتهم بأن هذه سنة من الله ماضية، ولابد من البلاء، وبشرهم بالنصر وهم في هذه الحالة من الضعف، والدعوة كانت في بدايتها، والصحابة كانوا يعذبون أشد العذاب، وهذا كما جاء في الحديث الآخر: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا) يعني: لم يُزِل شكوانا، ولم يدع لنا. لأن هذه سنة ماضية من الله عز وجل. وفي هذه الحالة من الاضطهاد الشديد بشرهم رسول الله صلى الله علي وسلم بالأمل، وأحيا في نفوسهم الأمل بالتمكين للدين، بل حلف على ذلك وهو الصادق المصدوق فقال: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر)، ونحن الآن نقسم -أيضاً- على أن الله سيتم هذا الأمر كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]. ونختم الكلام بقصة سراقة بن مالك عندما كان يطارد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه كما في حديث الهجرة، فكان يتعثر به فرسه كلما هم أن يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بدافع الطمع في الجائزة المغرية التي نصبتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أو بخبر عنهما، ثم ساخت قوائم فرسه في الأرض، فطلب منهما أن ينقذاه على أن يرجع، وعاهد النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه على أن يكفيهما من وراءهما، ويضلل قريش حتى لا تصل إلى طريقهما، فخطر في نفسه أن يرجع ويغدر، ويعود من جديد في ملاحقتهما طمعاً في تلك الجائزة، وفي هذه اللحظة التي حدث فيها نفسه بهذه النية وهذا الهم طمعاً في الجائزة إذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول له: (يا سراقة! كيف بك وسواري كسرى في يديك؟!)، يقول الشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى في كتابه (المستقبل لهذا الدين): يعده سواري كسرى ملك الفرس، والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة حول هذا العرض العجيب من ذلك المطارد الوحيد إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر سراً معه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بالحق، وعارفاً بالباطل الذي عليه أهل الجاهلية في الأرض كلها يوم ذاك، كان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على الباطل، وأنه لا يمكن أن يوجد الحق في صورته هذه وأن يوجد الباطل في صورته هذه ثم لا يكون ما يكون، كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها بحيث لا يصلحها ري ولا سماد، كانت قد خرفت بحيث يتحتم أن تجتث، وكانت البذرة الطيبة في يده معدة للغرس والنماء، وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين، ونحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته وكل سماته مع الجاهلية كلها من حولنا، فلا يجوز من ثم أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة، العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا. إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج ليست بأقل من حاجتها يوم ذاك، وإن وزن هذا المنهج اليوم بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج لا يقل عنه يوم ذاك، ومن ثم ينبغي أن لا يخالجنا الشك بأن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع، ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك بسبب ما نراه من حولنا من التصرفات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان.

الأسئلة

الأسئلة

واجب الشباب تجاه القضية الفلسطينية

واجب الشباب تجاه القضية الفلسطينية Q ما هو واجب الشباب المسلم تجاه القضية الفلسطينية؟ A تحرير فلسطين لابد أن يبدأ من دولة خلافة إسلامية، ودولة الخلافة لن تقوم إلا على أيدي رجال لهم صفات حددها الله تبارك وتعالى، وهذه الصفات الآن غير موجودة فينا، والتغيير يبدأ من أنفسنا، فيجب أن يبدأ التغيير من أنفسنا وأن يبدأ التحول من أنفسنا، عملاً بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ولا شك في أنه سيكون هناك جهاد في فلسطين، بل إن نفس الأنظمة العربية تعرف أن إسرائيل تعد لحرب قادمة، وهم يحددون تاريخها بعد عدة سنوات، وهذا شيء معروف، وهذا الوضع لن يدوم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حكم السفر إلى بلاد الغرب لطلب المال والراحة

حكم السفر إلى بلاد الغرب لطلب المال والراحة Q توجد الآن صحوة إسلامية كبيرة واسعة لا نظير لها في البلاد الإسلامية، والشباب المسلم يتعرض لمتاعب اقتصادية وأمنية مما يجعل الكثير منهم يفكر في الهجرة إلى بلاد الغرب، فما هو الحكم الشرعي في السفر إلى بلاد الغرب الكافرة؟ وهل هناك صحوة إسلامية حقيقة في الغرب؟ A مصطلح الصحوة الإسلامية يستعمل هناك أيضاً، والكلام في ذلك يطول، فهناك صحوة نسبية، والوجود الإسلامي في الغرب ما هو إلا قطرة في بحر لجي من الفتن يغشاه موج من فوقه موج من فوقه ظلمات، فالوضع ليس كما نحاول أن نقنع به أنفسنا، فالإخوة هناك غرباء في الدين، وغرباء عن الوطن، وكل أنواع الغربة تحققت فيهم، ونحن نعرف قصة الرجل الذي رأى حماراً وهو يريد أن يأكل الحمار فقال: ما أشبه أذنيه بأذني الأرنب! فهو يريد أن يقنع نفسه حتى يأكله. وهكذا بعض الإخوة يريد أن يبيح لنفسه أن يذهب إلى تلك البلاد للإقامة؛ فيحاول أن يتخذ لنفسه هذه المعاذير، فيقول: إن هناك إخوة في المركز الإسلامي، لكن جميع الإخوة -بلا استثناء- يعانون أشد العناء، وما من أخ إلا وأمله الأسمى في الحياة أن يعود إلى بلاد المسلمين، لكن المشكلة أنه تعود على نمط الحياة هناك، ويرى أن عليه أن يتكيف على الأوضاع هنا إذا عاد، ويطلع على سوء أخلاق الناس وشدة الحياة، وغير ذلك من عوامل التنفير، لكن العاقل دائماً يعرف كيف يزن الأمور ويحسن تقدير العواقب. فالذي يظن أنه سيذهب هناك ويحصل بعض المصالح بدون أن تمسه هذه الفتن أشبهه بطائر يريد أن يأخذ الحبة من الفخ، فأين ذلك الطائر الذي يستطيع أن يلتقط الحبة دون أن يقع في الفخ؟! وهذا يذكرنا بقصة القرد الذي رأى سمكة تصارع أمواج الطوفان، وتصعد وتغطس في حالة عناء من أمواج شديدة، ولا تتمكن من الاستقرار داخل الماء، فأشفق عليها هذا القرد، وأراد أن ينجيها، فأخذها من الأمواج ووضعها في منطقة رملية جافة حتى لا تعاني من الأمواج، فهلكت، وهذه هي النتيجة، فنحن بوصفنا مسلمين -ولا أقول: كمسلمين. لأن هذا تعبير فيه نظر؛ لأننا في الحقيقة مسلمون- نحن لا تناسبنا الحياة في تلك البلاد، ولا تصلح لأمثالنا، فتلك البلاد لا تصلح لمن عنده دين ولا لمن عنده أخلاق. حتى الناس الذين ليس عندهم دين في أوروبا أو أمريكا إذا وصل ابنه إلى التاسعة من عمره يسافر به إلى بلاد المسلمين ثم يعود؛ لأنه يعرف المصير المدمر المقطوع به إذا بقي بأولاده في تلك البلاد، فهم يعيشون في جحيم في الحقيقة، ولا تتصور الصورة المزيفة التي تعطى للشباب عن تلك البلاد. إن السفارة الأمريكية والبريطانية وكذا السفارات الغربية تفزع من امتداد الطابور الطويل الذي يقف أمامها طمعاً في الحصول على تأشيرة الدخول إلى الجنة الموعودة. وأقترح على السفارة الأمريكية وغيرها أن تكتب لافتة أمام السفارة يكتب عليها (إنما نحن فتنة فلا تكفر) حتى يقيموا الحجة على من يريد أن يدخل تلك البلاد قبل أن يدخلها. أقول: إن من يدخل هناك يكفر، لكن لا تنس أن الشباب الإسلامي الذي يتواجد هناك في المراكز الإسلامية قليل جداً، ولو قارنت بين الذين يترددون على المساجد ويحافظون على دينهم وبين الذين يذوبون في الطوفان المدمر ويضيعون تماماً ويتركون دينهم وأخلاقهم وكل شيء لرأيت النسبة بعيدة، فالأصل أن الناس هناك يفتنون، والذي ينجو نادر. فالشاهد أن تلك البلاد لا تصلح لمعيشة المسلم الذي يريد أن يحافظ على دينه، والحقيقة أن الحديث ذو شجون، ويطول جداً إذا تعمقنا فيه، لكن يكفينا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين لا تتراءى نارهما)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم) وكنت أذكر الأخوة هناك بالحديث، وإياك أعني واسمعي يا جارة. ونحن نعلم حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، فدل على راهب فسأله: هل لي من توبة؟ فقال له: وأنى لك التوبة؟! فقتله وكمل به المائة، فهو آيسه من رحمة الله، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على العالم، فقال: من يحول بينك وبين التوبة؟! وبعد أن أرشده إلى التوبة ورغبه فيها، أمره بالتحول وتغيير البيئة، فقال: هناك بلدة فيها قوم صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم. ولما أتت الملائكة لتقبض روحه اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فملائكة العذاب قالت: لم يعمل أي شيء من أعمال الخير، وملائكة الرحمة تقول: أتى تائباً إلى الله عز وجل. فاتفقوا على أن أول قادم عليهم يحكم بينهم، فقيض الله ملكاً، فحكم أن يقيسوا المسافة، فهل هو أقرب إلى البلدة الصالحة أم البلدة غير الصالحة، وفي بعض الروايات أنه لما قبض اقترب بشبر، فزحف حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، وقد يكون هذا سبباً من أسباب نجاته، وفي رواية أن الله أمر الأرض أن تمتد حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، وعندما نتذكر هذا الحديث ونحن نتكلم عن الهجرة إلى بلاد الشياطين والكفار وأصحاب الجحيم والسعير نرى أن الذي يسأل الناس هنا أكرم له وأفضل من أن يذهب هناك فيفسد دينه، ويفسد -أيضاً- دنياه، فتكون دنياه لا بركة فيها. فأين نحن من هذا الحديث؟ هذا الرجل جاهد حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، فما أبعد المسافة بين بلاد الكفار وبلاد المسلمين، فلماذا تذهب هناك؟! نعم هناك نشاط إسلامي، والإخوة هناك ينقسمون إلى معذورين وآثمين، هناك معذورون من بعض المسلمين، هم من بلادهم مطرودون، وما هناك بلاد تؤويهم، فلا حرج عليهم حينئذ لأسباب كثيرة، لكن لا شك في أن هناك قسماً كبيراً جداً من الآثمين الذين لا يحل لهم بأي حال من الأحوال البقاء فيها، وأنا أكرر كلمة قالها الشيخ عباس المدني حفظه الله، قال لبعض إخواننا لما كان هناك في أوروبا: لا أقول لكم: إنكم تغرقون، بل أنتم في الحقيقة غرقى. وضرب لهم مثلاً فقال: لو أن عندنا مليار مارك -وهي العملة الألمانية- فأخذت منه ماركاً واحداً، فكم خسر المليار؟ إن المليار لم يخسر شيئاً، لكن كم خسر المارك؟ لقد خسر المليار. يعني أن الإنسان حين يخرج من المجتمع الإسلامي يخسر كل هذا المجتمع، والمجتمع لا يخسر شيئاً، الخاسر في الحقيقة هو، وأنا أقول هذا ونحن نعيش في الفتن، ونعاني جميعاً كل العناء، لكن من أراد إلا التحول فأرض الله واسعة كما أخبر الله، فيهاجر إلى مكان أفضل أمناً، وأفضل من حيث الرزق، وأفضل من حيث الدين، ولا يذهب إلى مكان أسوأ، فالعاقل يختار ما هو أحسن، ويقدم الدين على الدنيا، فأرض الله واسعة، فيجتهد في الهجرة إلى أي بلاد من بلاد المسلمين بعيداً عن هذا الجحيم في الغرب.

واجبنا نحو مخططات الكفار

واجبنا نحو مخططات الكفار Q نعرف مخططات الغرب وعداءهم للإسلام، فما الواجب علينا شرعاً تجاه هذه المخططات اليوم؟ A هذا سؤال هام جداً، فيحتاج إلى إجابة مفصلة، ولكني أجمل فأقول: الطريق إلى تحقيق مآرب الأمة الإسلامية التي منها تحرير القدس التي تباع الآن بأخس الأثمان والتي حفتها الخيانة من أول يوم في تاريخ هذه القضية، الطريق إلى تحقيق كل أهداف الأمة الإسلامية -ومنها تحرير فلسطين- لابد من أن يمر بإحدى الدول الإسلامية، فمن هي هذه الدولة؟ هي الدولة التي تتمكن من إقامة الخلافة الإسلامية من جديد على أرضها، إذاً: كيف تقوم هذه الدولة؟ إن أي دولة إسلامية تقوم فيها خلافة إسلامية وكيان إسلامي سوف تقلب موازين العالم كله، ومن أجل هذا ستكون الحرب التي يشنها الغرب على المسلمين، فكيف تقوم هذه الدولة؟ لقد وصف القرآن لنا ذلك فقال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، فهذا وعد من الله؛ لأن الله قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] يعني إن عدتم إلى الإساءة عدنا إلى تسليط عبادنا عليكم، فما صفات هؤلاء؟ وصف الله هؤلاء الذين يصلحون لهذه المهمة الإسلامية بقوله: {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5] جمعوا بين القوة والأمانة، كما قال يوسف عليه السلام {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وكما قال مخاطب سليمان عليه السلام {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:39]، فكذلك هنا {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5] يحققون عبودية الله عز وجل وحده، وفي نفس الوقت يأخذون بأسباب القوة، وليست فقط القوة، ولكنهم أولو بأس شديد. ونحن نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام تنبأ أن اليهود لن ينعموا أبداً بما يسمونه السلام الأبدي، بل لابد من قتال بينهم وبين المسلمين يمكن الله فيه للمسلمين، وينصر المسلمين فيه، حتى إن الشجر والحجر يعينان المسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر فيقول الشجر والحجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). فالشاهد أن الرسول عليه السلام لم يخبر عن الشجر أنه سيقول: يا عربي! يا قومي! يا بعثي! يا مصري! يا فلسطيني! فلن ينادي بهذه المسميات أبداً، وإنما يقول: (يا مسلم! يا عبد الله!)، فهؤلاء فقط هم الذين يحققون هاتين الصفتين: الإسلام والعبودية لله، وهم القادرون على ذلك. فالخلافة لن تعود إلا على منهاج النبوة، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، فالأمة مخاطبة، والجماعات الإسلامية مخاطبة، والآحاد والأفراد كلهم مخاطبون بأمر واحد، كل واحد منا لله عز وجل عهد عليه، وليذكره من الآن، فنحن نقترب جداً من وقت النصر والتمكين لهذا الدين في الأرض، وقد جعل الله تعالى للنصر طريقاً، هذا الطريق هو آية في سورة الرعد: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فلو أن كل واحد بجد وبهمة عالية عاهد الله عز وجل على أن يغير ما في نفسه مما لا يرضي الله من صفات أو أخلاق أو تفريط في حق الله وفي جنب الله، وعزم على أن يصلح نفسه من الآن ولم يؤجل، ولو أن الأمة قامت بتوبة جماعية كتوبة قوم يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لكافأنا الله عز وجل بأن يغير ما بنا من أحوال ومن تردي ومن هوان. ثم بعد ذلك الأخذ بكل أسباب القوة في سبيل التمكين لهذا الدين، فبعض الناس يهربون من مواجهة الواقع، ويحسبون أن السنن الكونية تجامل وتحابي، فلأننا موحدون سوف تنزل علينا الملائكة وتنصرنا حتى لو قاتلنا بالسهام والحراب والسيوف! إن السنن لا تحابي أحداً حتى الأنبياء، فالأنبياء جرحوا وقاتلوا وعانوا كثيراً جداً، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]، وكثير من الناس يفزعه البون الشاسع الذي بيننا وبين الكفار في الحضارة والقوة والعلم والمال وغير ذلك فيستسلم ويتخاذل، ولا يجد سبيلاً إلا أن يقول: سوف تنزل معجزات من السماء تنصرنا على أعداء الله، سوف تنزل الملائكة وتحارب معنا! نعم، لكن ألم يقل الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]؟ ألم يصف الله عباده الذين سيقتلون اليهود ويذلونهم فقال: {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]؟ ليس بأساً فقط، لكنه بأس شديد، فبعض الناس يهربون من مواجهة الحقيقة إلى الأحلام والأماني، وبعضهم يقول: ننتظر حتى يخرج المهدي، وكل شيء سوف يحل، والسنن سوف تحابينا لأننا موحدون! السنن لا تحابي أحداً، فالكافر إذا زرع الأرض وحرثها ورعى الزرع ينتج، والأرض لا تقل له: أنت كافر لن أزرع لك، وفي نفس الوقت المسلم الموحد إذا قصر في حرثها فلن تقول له: سوف أنبت لك لأنك موحد! يجب أن نكون على يقين بأن الله سبحانه وتعالى له سنن، كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فيوم لك ويوم عليك، وهكذا دواليك، ودولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، ولابد من أن تكون العاقبة للتقوى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. إذا تأملنا حال بريطانيا فبريطانيا في يوم من الأيام كانت تسمى الأمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، والآن بريطانيا عبارة عن كوكب يدور في فلك أمريكا، فصارت تابعة لأمريكا، والله تبارك وتعالى قادر بقوته على أن يزيل أمريكا ويصغرها ويذلها إذا خرج من يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، فالذي ينصر المؤمنين ليس هو الأسلحة ولا المال، وإنما هو الله عز وجل: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، لكن ينبغي الأخذ بالأسباب، واستفراغ الوسع في الأخذ بهذه الأسباب، فكل ما يمكن أن يكون قوة تضاف إلى رصيد المسلمين فينبغي عدم التفريط فيه إلى أن يأذن الله عز وجل بالتمكين لهذا الدين. أما مكائد المشركين وحيلهم فالله عز وجل زودنا بما ندفع به هذا، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، فهم ينفقون الأموال، لكن قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، ويقول تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]. فالمسألة هي الأخذ بالأسباب، واحترام السنن الكونية، واحترام السنن الشرعية أيضاً، وعدم التعجل والتهور، فحينئذ يكافئ الله تبارك وتعالى من يقيمون دينهم بأنفسهم ويجتهدون في بثه ونشره والجهاد في سبيله، يقول عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} [القصص:5] فهي منة، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، ويقول تبارك وتعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، فهذا الوضع الذي نحن فيه من المذلة والهوان والضعف والقهر وخيانة الحكام كل هذا ليس جديداً، فأمثاله كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي. فقد حصل أن الأمة نهضت من الكبوة وفاقت من السكرة بعد أن بقيت فلسطين في يد الصليبين ما يزيد على تسعين سنة، ومع ذلك حررت، وفلسطين الآن لها في أيدي اليهود مدة تقل عن المدة التي استولى الصليبيون فيها على بيت المقدس، وقيض الله عز وجل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي فمكن الله لهذا الدين على أيدهما. وكذلك فتنة التتار، وحصلت كثير من المواقف التي كانت قريبة من حالنا، فالأمل في سنن الله، وقراءة التاريخ تعطينا العبرة، فهذا شيء ممكن، وليس صعباً أن يمكن الله تبارك وتعالى للمسلمين على ما هم فيه من ضعف. ولكن من أين يبدأ الحل؟ وما هي الحقيقة حتى لا نهرب من مواجهتها؟ الحل أن يبدأ التحول من الآن وبلا تأجيل، فكل واحد منا يراجع نفسه، فينظر في كيفية حاله مع الله؛ وهل يقصر في حقوق الله؟ وهل يبذل كل ما عنده لله؟ وهكذا يراجع ويصلح حاله مع الله ويبدأ يبذل، ففي هذه الحالة ينطبق علينا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] هذه هي الغاية، فإذا غيرنا أنفسنا حتماً فسيغير الله تعالى حالنا، والله تعالى أعلم.

مقتطفات الدعوة وأهدافها

مقتطفات الدعوة وأهدافها الدعوة إلى الله تعالى من أفضل الأعمال وأجل القربات، وهي مهمة الأنبياء والرسل عليهم السلام التي أرسلهم الله تعالى بها، وما دام أنها كذلك فلابد على من يسلك سبيلها أن ينطلق من منطلقات ثابتة تجعله ينجح في دعوته، وعليه كذلك أن يلتزم بالمنهج الصحيح في الدعوة وهو منهج الأنبياء عليهم السلام، وأن يبذل كل ما في وسعه، ولا يستعجل النتائج، فليس عليه إلا أن يعمل ويدعو، والهداية بيد الله تعالى.

شرح حديث: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم)

شرح حديث: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم) الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى) المثل المراد به هنا: الصفة العجيبة، وليس المراد به القول السائر. والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والمراد بالعلم هنا: معرفة الأدلة الشرعية لا الفروع المذهبية. فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم) الهدى المذكور فيه هو الطريق الذي يدل على المقصود وهو الجنة، والعلم المقصود به علم الوحيين. وقوله: (كمثل غيث أصاب أرضاً) أي: كمثل مطر أصاب أرضاً (فكان منها طائفة طيبة) فهذه الأرض أنواع منها طائفة طيبة وهي أفضلها (قبلت الماء) أي: قبلت هذا الماء وشربته وارتوت به (وأنبتت الكلأ والعشب الكثير) الكلأ: هو النبت يابساً كان أو رطباً، فإنه يسمى بالكلأ، أما العشب فيختص بالنبت الرطب، فعطف العشب على الكلأ من باب عطف الخاص على العام. قوله: (وكان منها أجادب) هذا هو القسم الثاني من هذه الأرض و (أجادب) جمع جدباء، وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء فلا تشربه سريعاً، وقيل: هي الأرض التي لا نبات بها. مأخوذة من الجدب وهو القحط. قال: (وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس) لأنها أمسكت الماء، لكنها لم تنبت شيئاً (فشربوا منها وسقوا وزرعوا) أي: بما أخذوه منها من الماء. قوله: (وأصاب طائفة أخرى منها) هذا هو القسم الثالث من الأرض، وهو أردؤها، قال صلى الله عليه وسلم: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ) والقيعان: جمع قاع، وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. قال: (فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم)، وهو القسم الأول الذي علم العلم الشرعي فانتفع بعلم الوحي، ثم علم غيره (ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). يقول القرطبي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت؛ فكذلك علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، شبه من يستمع إلى ما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم بهذه الأرض المختلفة حيث ينزل بها الغيث، فمنهم -أي: من هؤلاء الناس- العالم المعلم، أي أنه يتعلم هذا الوحي ثم يعمل به ثم يعلم غيره، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم ينفعه فيما جمع له، لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي لا تنتفع بالماء لكنها تمسكه بغيره. وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، أي أنه ذكر أولاً طائفتين ثم قال: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان) فجمع بين الطائفتين لاجتماعها في صفة الانتفاع بهما. وذكر الطائفة الثالثة مذمومة لعدم النفع بها فقال عليه الصلاة والسلام: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ).

نصوص ترغب في تعليم الناس ودعوتهم إلى الله

نصوص ترغب في تعليم الناس ودعوتهم إلى الله لقد جاءت نصوص كثيرة جداً في الترغيب في التعليم، ودعوة الآخرين إلى طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده). ومنها -أيضاً-: قول صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم، فقال صلى الله عليه وسلم: مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب) يعني: من شدة ازدحامهم عليه حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب. وقال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً). وقال صلى الله عليه وسلم: (معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر)، وقال في الحديث الآخر: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)، على الذين يعلمون الناس الخير. وإن من وجوه تفضيل العالم على العابد: أن العالم نفعه يتعدى إلى غيره، أما العابد فنفعه قاصر على نفسه، وأصل الحديث رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال (ذكر لرسول صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال عليه الصلاة والسلام: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كالفرق في الفضل بين الرسول عليه السلام وبين أقل واحد من الصحابة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكأنه يذكر هذه الأفضلية-: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير) أي: ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فهذه من الأدلة التي بها يستدل على فضل العلم والتعلم ودعوة الآخرين إليه. يقول الله تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، فحكم على كل الناس بالخسران، ثم استثنى هؤلاء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3]، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وفي الغالب إذا دعا الإنسان غيره إلى الحق فربما قوبل بالأذى، فيطلب منه الصبر على هذا الأذى، فقال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].

مفهوم الدعوة إلى الله

مفهوم الدعوة إلى الله الدعوة في اللغة: مأخوذة من الدعاء، وهو النداء لجمع الناس على أمر الله، فإذا كان عندك أناس تجمعهم على أمر الله فقد دعوتهم وحضضتهم على العمل به. والدعوة مطلقاً يراد بها: الدعوى إلى قضية يراد إثباتها، أي: الدفاع عنها حقاً كانت أو باطلاً، بغض النظر عن هذه القضية، فمن الدعوة إلى الباطل قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]، فقد كان النسوة يدعونه إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، فهذا من استعمال كلمة الدعوة في اللغة في الدعوة إلى الباطل، ومن الدعوة إلى الباطل ما ورد أنه تخاصم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فأراد كل منهما أن يستنصر بطائفته، فقال المهاجري: يا للمهاجرين. وقال الأنصاري: يا للأنصار. فقال صلى الله عليه وسلم حينما بلغه ذلك: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!) فسماها دعوى الجاهلية. أما الدعوة الحق فمثل قوله تبارك وتعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد:14]، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم: (أدعوك بدعاية الإسلام) أي: بدعوة الإسلام. ومنها قول مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] فهنا وردت كلمة الدعوة بالمعنيين الحق والباطل: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر:41] فهذه دعوة حق، {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] هذه دعوة باطل. ومن معاني كلمة الدعوة: المحاولة القولية أو الفعلية والعملية لإمالة الناس إلى مذهب أو ملة. ومن معانيها: الابتهال والسؤال، تقول: دعوت الله أدعوه أي: أبتهل إليه بالسؤال وأرغب فيما عنده من الخير. قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25]، قال في لسان العرب: ودعاء الله خلقه إليها كما يدعو الرجل الناس إلى مدعاة، أي: إلى مأدبة يتخذها وطعام يدعو الناس إليه. فمعنى الدعوة هنا في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] كالدعوة التي يوصلها من يدعو الناس إلى مأدبة أو وليمة، أو شيء من هذا حتى يشرفهم بتناوله. فدعوة الله عز وجل عباده إلى دار السلام هي دعوته عباده إلى أسباب دخولها {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] يعني: يأمركم أو يطلب منكم ويدعوكم إلى أن تتخذوا الأسباب التي توصلكم إلى دار السلام، وهي الالتزام بدينه تبارك وتعالى، فمن استجاب صار من حزب الله {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]. أما المعرضون فهم أتباع الشياطين، يقول الله تعالى حاكياً عن إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، فبين إبليس المقصود من الشرك الذي وقعوا فيه: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، وقد كان الشرك بمجرد أنه دعاهم فاستجابوا له: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، فسمى هذه الدعوة والاستجابة له شركاً، أي أنهم أشركوا مع الله تبارك وتعالى. وقال تعالى عن إبليس: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فكل طائفة لها دعوة. وقال عز وجل أيضاً: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، فعلى كل إنسان أن ينتمي إلى أحد الحزبين: حزب الله أو حزب الشيطان، فكل إنسان يدب على هذه الأرض إما أنه من حزب الله المفلحين، وإما أنه من حزب الشيطان الخاسرين، وكل الأحزاب -سواء أكانت أحزاباً سياسية، أم أحزاباً طائفية، أم أي نوع من الأحزاب- التي تخالف ما عليه الكتاب والسنة، وتخالف منهج الفرقة الناجية ومنهج النبوة هي قطعاً من حزب الشيطان. والذي لا ينتمي إلى الدعوة إلى الله، ولا ينتمي إلى أي اتجاهات سياسية أو فكرية مخربة أو مدمرة، ويظن أنه بهذا لا له ولا عليه هو منتمٍ في الحقيقة لحزب الشيطان، وإعراضه عن دعوة الله إياه إلى دار السلام يجعله ممن أعرض عن خالقه وبارئه تبارك وتعالى، وإن كان دون غيره في الضلال، لكن النار دركات والجنة درجات.

مفهوم لفظ الدعاة

مفهوم لفظ الدعاة الدعاة واحدهم داع وداعية، فالهاء تدخل عليها للمبالغة، والداعي -أيضاً- إما داعٍ إلى الحق وإما داعٍ إلى الباطل، فمن استعمال كلمة الداعي إلى الحق قوله تبارك وتعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، ومنها قوله عن الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31]، ومن الدعوة إلى الحق قوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه). أما الداعي إلى الباطل فكما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، يعني: يزينون للناس الأفعال التي تقودهم إلى أبواب جهنم، وهذا أيضاً يكون من أولياء الشيطان في كل زمان ومكان، وأبواب جهنم يتنوع الآتون إليها، فمنهم من يأتي من جانب الأمور الكفرية كالردة والطعن في الإسلام، ومنهم من يأتي من جانب البدعة، ومنهم من يأتي من جانب الشهوات، فأبواب جهنم تتنوع بحسب تنوع هذه الدلالات. ومن ذلك -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه آثام من تبعه).

منطلقات الدعوة إلى الله تعالى

منطلقات الدعوة إلى الله تعالى أما منطلقات الدعوة فالمقصود بها المنطلقات التي ينبغي أن ننطلق منها إذا أردنا أن نسلك هذا الطريق الذي يجازي الله تبارك وتعالى من يسلكه بالأجر والمثوبة.

الدعوة إلى الإسلام لكونه دينا لا لبيان أفضليته على النظم الأرضية

الدعوة إلى الإسلام لكونه ديناً لا لبيان أفضليته على النظم الأرضية ليست طبيعة دعوة الإسلام كغيرها من المذاهب والأنظمة، فأصحاب هذه المذاهب لا يعتمدون إلا على أنفسهم في تطبيقها وإشاعتها في المجتمع؛ لأنها مذاهب وضعية ابتدعوها، وهم المسئولون عنها وعن تطبيقها والتزام المجتمع بها. وهذا نلمسه كثيراً في الدعوات الأرضية الوضعية، أهلها هم الذين يكونون مسئولين عنها وعن تطبيقها وعن إشاعتها وعن رعايتها، وإذا ضاعوا ضاعت معهم هذه الدعوة، ونجد أنه في المقابل ينجرف كثير من المسلمين الذين يمارسون الدعوة إلى الإسلام إلى السبيل ذاته، ويسعون في الطرق والأساليب نفسها، فتراهم يتنافسون أو يتصارعون هم وأصحاب المذاهب الأخرى على طريق واحدة من الأسلوب والمعالجة والتصور، وينسون في الحقيقة أنهم ليسوا إلا دعاة إلى الله جل وعلا، للقيام بمهمة معينة تدخل في حدود طاقاتهم مقابل ما يمتن الله به عليهم من تحقيق المجتمع الإسلامي المنشود. وآية ذلك أنك ترى بعضهم في غمار هذا التقليد والنسيان لهويتهم لا يهتمون من الإسلام إلا بما فيه من الواجهة الاجتماعية الطهورية -على سبيل المثال- ليقارعوا به الأنظمة الأخرى. فمثلاً: هناك أناس يقولون: النظام الاجتماعي في الفكرة الشمولية أحسن نظاماً من الإسلام، ويذكرون محاسنه، فتجد في المقابل الذين ينتمون لهذه الدعوة يقعون في هذه الفخ، ويسلكون نفس الطريق، فيقولون: النظام الاجتماعي في الإسلام أفضل، ويتكلمون في هذا الجانب من خلال نفس هذه الزوايا الضيقة التي يعرضون منها الإسلام لمقارعة المذاهب الأخرى، وعندئذ يسقط الفرق بينهم وبين أولئك الآخرين في ميزان الله تعالى وحكمه؛ إذ لا قيمة لشيء من الأحكام والأنظمة الإسلامية إلا من حيث كونه ديناً يخضع الإنسان من خلاله لسلطان الله وألوهيته، فينبغي أن يدخلوا هذا الدين من باب العبودية لله تبارك وتعالى، لا لأن الإسلام سيحل لهم مشاكلهم الاقتصادية. ولا شك أن طاعة الله من بركاتها كثرة الخيرات ورفع المحن والآفات، لكن المدخل الذي ينبغي أن يدخل منه الإنسان إلى الإسلام ليس لأن في الإسلام الرفاهية، وليس لأن في الإسلام العدالة الاجتماعية، وليس لأن في الإسلام كذا وكذا من هذه الميزات الضيقة التي تمتاز بها بعض المذاهب الأرضية، فينبغي أن يدعى الناس إلى الإسلام بوصفه ديناً شاملاً لكل حياتهم، يدخلون من باب العبودية لله تبارك وتعالى، أما مقارنة الإسلام بمذهب مثل الشيوعية أو الرأسمالية أو غيرها من المذاهب الأرضية فهذا هو كما يقول الشاعر: ألم ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا فهل تمدح السيف عندما تقول: إن السيف أمضى من العصا وتقارنه به؟ فلا يقاس دين إلهي ونظام إلهي بهذه النظم الأرضية، ولا يصح أن ندخل من نفس هذه الزاوية الضيقة إلى قلوب الناس، وهذا هو السر في أن كثيراً من الناس لا يفهمون من معنى (الحكم بما أنزل الله) في نطاق الدعوة الإسلامية إلا ما يظهر منه فقط في واجهة المجتمع، ويتكون منه النظام العام، ويتبادر إلى أذهانهم أن الحكم بما أنزل الله في الحدود، وفي إقامة الشريعة، وفي الأحكام الظاهرة في المجتمع، وينسون أن هناك مسئولية واجبة عليهم بجانب الحكم بما أنزل الله في إقامة الحدود وغيرها من المجالات هي الحكم بما أنزل الله في كل ما يخصك من حياتك، وأنَّه ما من حالة تكون أنت فيها إلا ولله سبحانه وتعالى فيها حكم، فالمجلس الذي تجلسه له حكم عند الله، فهو إما واجب أو مستحب حين يكون مجلس علم وذكر، والجلوس أمام الأفلام والتلفزيون حكمه أنه حرام أو مكروه على الأقل، وهكذا كل شيء من الأفعال والتصرفات يدخل تحت حكم من الأحكام، ونومك له حكم من الأحكام، وهو أنه من المباحات، وإن أضفت إليه نية التعبد يصبح عبادة تتقرب بها إلى الله عز وجل. فالحكم بما أنزل الله يدخل في معاملة الإنسان نفسه وأهل بيته وأسرته وأولاده، ويدخل في علاقاته مع الآخرين، فما أكثر ما يغفل هؤلاء الناس عنه، بل قد يعرضون عنه تماماً، فترى ازدواجية في الشخصية، حيث ترى الشخص الذي يطالب بحكم الله هو الذي يضيع -مثلاً- صلاة الفجر، ولا يكون أميناً في تعاملاته، ولا يحكم بما أنزل الله في نفسه، وهو الشخص الذي لا ينكر على أهله ولا يعاتبهم بالمعروف كما أمر الله تبارك وتعالى. فالحكم بما أنزل الله أعم من أن يكون في الحدود وفيما يتعلق بالآخرين؛ بل هو عام لكل مسلم في نفسه وفي رعيته. ومع ذلك نجزئ الإسلام ونخصه بهذه الزاوية الضيقة تقليداً لغيرنا من السياسيين أو الحزبيين أو نحوهم، فالإسلام نظام شامل لكل حياة المسلم، يحكم المسلم في كل أحواله وأموره. وإذا نظرنا نظرة واحدة إلى مبحث الحكم في أي كتاب من كتب أصول الفقه ندرك عموم كلمة (الحكم) وكيف أنها تشمل كل حياة المسلم الفرد، والمسلمين مجتمعاً ودولة، ولا يخلو المسلم -كما ذكرنا- في شيء من تصرفاته عن حكم من الأحكام الشرعية المعروفة.

القيام بأعباء الدعوة إلى الله من جملة التكاليف الشرعية

القيام بأعباء الدعوة إلى الله من جملة التكاليف الشرعية المنطلق الثالث: اليقين بأن القيام بأعباء الدعوة واجب من جملة التكاليف التي خاطب الله بها المسلمين، بغض النظر عن النتائج والآمال، فأعباء الدعوة من البيان والحكمة والموعظة الحسنة، والتضحية في سبيل هذه الدعوة، كل هذه الأعمال هي واجب من جملة التكاليف التي خاطب الله عز وجل بها المسلمين؛ بغض النظر عن النتائج والآمال، فبعض الناس يحملون أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به؛ جلباً للنتائج، وتطلعاً إلى الغايات، وربما قفزوا ووثبوا في ظل تطلعاتهم فوق كثير من الأسباب والوسائل الواجبة عليهم مما يدخل تحت إمكانهم ويخضع لطاقاتهم مما لا نشك أن الله أوجبه علينا. فبعض الناس يضعون تطلعات وأهدافاً بعيدة هي ليست مستحيلة، لكنها بعيدة بالنسبة لواقع هؤلاء الدعاة، فهم يقفزون فوق هذه الأسباب حتى يصلوا إلى هذه التطلعات، ولأنها بعيدة جداً قد يسقطون في منتصف الطريق، في حين أن هناك واجبات لا يشك ولا يختلف اثنان في وجوبها على كل من ينتظم في سلك هذه الدعوة. فمن هذه الواجبات: تزكية المرء نفسه، أن يزكي المرء نفسه، وأن يوجه هذه الدعوة قبل كل شيء إلى نفسه قبل أن يخاطب بها الآخرين؛ لأنه لا يستقيم الظل والعود أعوج، وشواهد ذلك كثيرة في الكتاب والسنة، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] وهكذا. ومن ذلك أيضاً: الالتجاء الشديد إلى الله تبارك وتعالى، وكثرة ذكر الله عز وجل في الخلوات والجلوات، ومراقبة النفس، والسعي إلى تزكيتها بكل الوسائل. ومن تلك الواجبات التي لن يقوم بها غيرك: مراقبة الدعاة لبيوتهم، والقيام بدقة على إصلاح حال الأهل والأولاد، وإشاعة ذكر الله وعبادته بين أعضاء الأسرة، هذا واجب، فهل تنتظر غيرك ليقوم به؟! كلا! فلا بد من أن يقوم به رب البيت، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). فإذا صدق أهل كل أسرة الإسلام واستقاموا عليه، ثم فعلوا ذلك مع أهليهم ومن يقومون عليهم يكافئهم الله تبارك وتعالى بالتمكين؛ لأن هذا اجتهاد في تغيير النفس، اجتهاد في تحقيق الشرط الذي شرطه الله تعالى فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. وقال أيضاً: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، فالتمكين في الأرض مكافأة على الاستقامة على طريق الله تبارك وتعالى، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ) فهي منة من الله تعالى ومكافأة منه عزّ وجل.

صور من رحمة الأنبياء عليهم السلام بأقوامهم

صور من رحمة الأنبياء عليهم السلام بأقوامهم وإذا نظرنا إلى سيرة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام نرى حقيقة هذا المعنى، معنى الخوف على الناس من عذاب الله والشفقة والرحمة بهؤلاء القوم، فمثلاً: فرعون الذي طغى وتجبر وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فهل هناك ذنب أعظم من أن يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أن يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]؟! فشر الناس في زمانه كان فرعون لعنه الله، فإذا بالله تبارك وتعالى يبعث إليه رسولين هما موسى وهارون عليهما السلام، ويقول لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فإن القول اللين يكون أقرب إلى قبوله، فباستطاعتك أن تلين قلبه ويستجيب لك، فهل هذا ضعف في الدين؟ هل هذا تنازل من موسى وهارون لفرعون بلين ورفق وحكمة؟ كلا! إذاً ينبغي أن لا يكون هذا الفكر هو الذي يسيطر على أذهان بعض الناس، وهو أن الأصل في الدعوة الغلظة والشدة والجفاء مع الناس، بل الأصل هو الرفق، كما عليه الصلاة والسلام: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)، وكأن كلمة (يحرم) معناها: الحرمان من شيء عظيم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه). ولا يعني هذا أن الداعية يقر المنكرات أو يحب أعداء الله، لكننا نخاف على خلق الله من عذاب الله، ونترفق بهم، وننوع أساليبنا في رفق ولين وحكمة حتى يستجيبوا لداعي الله تعالى. إن الذي يريد أن يروج بضاعته إذا أردت أن تشتري منه يترفق بك، ويلين لك القول، ويبتسم في وجهك، ومن هنا فقد تعجبك السلعة كلما كان البائع ناجحاً في عرض بضاعته وترغيب الناس فيها، وهو يدعو إلى سلعة! فكيف بالذي يدعو إلى الله ويدعو إلى الجنة؟ لا شك أنه ينبغي أن يكون تاجراً حاذقاً ماهراً حتى يوفقه الله تبارك وتعالى. وفي قصة نوح عليه السلام يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، فهل كان نوح عليه السلام يفعل نوعاً من التكتيك السياسي أو العسكري أو نحوه؟ كلا. يقول نوح عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، وهو صادق في هذه الكلمة عليه السلام. ويقول تبارك وتعالى -أيضاً- حاكياً عن نوح عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:61 - 63] قال: (لعلكم ترحمون) فهو حريص على أن يرحموا من عذاب الله عز وجل، ولكنهم شتموا نوحاً عليه السلام -كما في سورة نوح- وفعلوا به العجائب، وأعرضوا عنه أشد الإعراض، ولكن انظر إلى نبي الله نوح عليه السلام في جوابه لهم، فهو لم يغضب لنفسه، إنما أجابهم جواباً مصبوغاً بالرحمة والشفقة واللطف، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:61 - 63]. وإذا تأملنا في قصة حبيب النجار حينما دعا قومه إلى الله عز وجل سنجد ذلك المعنى، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:20 - 25]، فقتلوه بعد هذا الخطاب العظيم، فكان مشفقاً عليهم في حياته وبعد قتله، فبعدما انتقل إلى الجنة قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. أي: لو أن قومي علموا حسن عاقبتي وما لقيت عند ربي من الإكرام والفضل العظيم لما فعلوا معي ذلك، ولما أعرضوا عن دعوة الأنبياء، ولما تركوا الاستجابة لربهم عز وجل، فأشفق على قومه في الحياة الدنيا وبعدما قتلوه. وأكثر ما يسبب انحراف المنحرفين عن الحق وعن اتباع الحق ما قد يشعرون به في الداعية من التعالي والأنانية وحب الانتصار للنفس أو للجماعة، فيكون رد الفعل تعالياً أشد، وأنانية أقوى، واندفاعاً أسرع إلى الانتصار للذات. هذا ما يتعلق بالمنطلق الثاني، وهو أن أعمال الدعوة ينبغي أن تنبعث من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين.

أعمال الدعوة إلى الله عبادة

أعمال الدعوة إلى الله عبادة أول هذه المنطلقات أن أعمال الدعوة عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله عز وجل، فالدعوة مثل أي عبادة أخرى، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر، فالدعوة عبادة، وليست تقصر عن تعريف العبادة، فلا يعملها المسلم لهوى في نفسه، أو لرغبة في العلو في الأرض، فلا يدع إلى الله لأنه يريد العلو في الأرض، أو لأنه يريد أن يشتهر، أو لأنه يريد أن يجتمع الناس حوله، أو لأي شيء من هذه الأغراض؛ فإن هذا يعد انحرافاً عن المنطلقات الصحيحة التي ينبغي أن تنطلق منها الدعوة، بل عليه أن ينتمي إلى هذه الدعوة وينقاد إليها امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى؛ لأنه كما أمره بالصلاة وكما أمره بالزكاة والصيام؛ أمره -أيضاً- بالدعوة إليه ودلالة الخلق عليه تبارك وتعالى. والله تعالى يثيب الإنسان في البهائم كما في الحديث: (في كل ذات كبد رطبة أجر)، فإذا كنت مأجوراً إذا أحسنت إلى حيوان أو بهيمة فسقيتها أو أنقذتها من الهلكة فما بالك إذا أنقذت إنساناً أو أنقذت مسلماً من الهلكة إن أوشك على الغرق أو الحرق أو التلف فأنقذت روحه؟! وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] والحياة هنا حياة البدن، فما بالك بمن يحيي روح هذا الإنسان وقلبه ويدرجه ضمن أولياء الله وعباد الله الصالحين حتى يسلك الطريق إلى دار السلام؟! لا شك أن ثوابه أعظم. ومع ذلك نجد أننا في غفلة عن هذا النفع الذي ينتفع به جميع خلق الله تبارك وتعالى لأجل العمل الصالح، فهل أحد منا يشعر أن النملة في حجرها تستغفر لمن يعلم الناس الخير؟! لقد أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وحتى الحيتان في البحر تستغفر لمعلم الناس الخير، فأي فضل فوق هذا؟! فنحن في غفلة عن هذا، وكل ما خلق الله تبارك وتعالى يدعو للداعي إلى الله تعالى كما في الحديث الذي ذكرناه آنفاً: (إن الله تعالى وملائكته، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون -أي: يستغفرون ويدعون- على معلم الناس الخير)، فأي فضل فوق هذا؟! ومن يزهد في مثل هذا؟! فالشاهد أن أعمال الدعوة هي عبادة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى كأي عبادة أخرى، وليست دعوة إلى العصبية، أو إلى الحزبية، أو إلى العلو في الأرض والارتفاع على الآخرين، أو استجابة لداعية الهوى، إنما يعملها المسلم انقياداً لأمر وتكليف جاء من الله عز وجل في قوله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، ويقول عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. كما أنه يعملها طمعاً في ثواب الله عز وجل الذي أشرنا إليه آنفاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وفي رواية: (خير لك مما طلعت عليه الشمس)، خير من أن تقتني كل ما على وجه هذه الأرض، بل كل ما طلعت عليه الشمس. وقال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله). إذاً: هذا هو المنطلق الصحيح الذي ينبغي أن ينطلق منه كل داعٍ إلى الله عز وجل. وإذا أردنا أن تتضح الصورة أكثر فبالضد تعرف الأشياء، فما هي العوامل أو الأشياء التي تقدح في الانطلاق من هذا المنطلق؟ ما هي مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق؟ هي عدة أمور: أولها: هيجان الرغبات النفسية والشخصية، وقيام حجاب الأنانية، وحب الذات فيمن يسير على هذا الطريق، وهذا علاجه أن يديم الإنسان ذكر الله عز وجل بقلب حاضر، ويكون كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]. ومن مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق: تحول هذه العبادة بمرور الزمن إلى مجرد فكرة أو مذهب سطحي يقارع به المذاهب الأخرى، دون أن يعيش في الحقيقة الإسلامية الكلية المتمثلة في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163]. ومن مظاهر هذا الانحراف: التناقض بين الفكر والعمل، فبعض الناس يتذاكرون أمور الدعوة إلى الإسلام، وينفقون الساعات الطوال في مناقشة أمور الدعوة وأحوال المسلمين، وينسون في غمار حديثهم أهم الواجبات الدينية، كالقيام إلى الصلاة في أول وقتها، ثم لا يقومون إليها إلا آخر الوقت متثاقلين، أو يصلون بسرعة خاطفة شأن من يريد أن يسرع ليتخلص من عبء يلازمه. أن بعض الناس يسهرون الليل الطويل في مناقشة الدعوة ومشكلات المسلمين وما حدث لهم، ويظن أحدهم أنه بهذا يعمل في الدعوة للإسلام، فهذا لا بأس به، لكنه قرب الفجر بقليل ينام وقد سهر الليل الطويل ويضيع صلاة الفجر، فهذا -أيضاً- من مظاهر الانحراف، فلا ينبغي أن يناقض الفكر الذي يدعو إليه السلوك العملي الذي ينبغي أن تطبقه في نفسك. فهذا هو المنطلق الأول، وهو أن أعمال الدعوة تنبعث عبادة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، لا يعملها لهوى في نفسه أو رغبة في العلو في الأرض.

مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق

مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق

الشعور بالشفقة والرحمة على عباد الله تعالى

الشعور بالشفقة والرحمة على عباد الله تعالى المنطلق الثاني: أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين، فعليك أن تنطلق من هذا المنطلق وأن تشعر أنك رحمة للناس ولست عذاباً ينصب عليهم، وهذه الرحمة هي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن المشركين: (لو لعنتهم يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً) رواه مسلم. بل كان صلى الله عليه وسلم يشفق شفقة كبيرة على قومه إذ لم يستجيبوا له وأعرضوا عنه، فكان يشتد به الحزن ويلم به الوجد عليهم، حتى كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، لقد كاد أن يموت ويهلك من الحزن والحسرة عليهم أنهم لم ينجوا من عذاب الله تبارك وتعالى، حتى نزل الوحي يهون عليه أكثر من مرة انفعاله بإعراضهم عنه صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: لعلك تهلك نفسك أسفاً على هؤلاء إذ لم يؤمنوا بك. وقال تبارك وتعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، وقال عز وجل: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]. فلهذا ينبغي أن يستقر هذا المعنى في قلوبنا، وهو أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالرحمة لعباد الله تبارك وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها)، فهو يريد أن ينقذ هذه الفراش من النار وهي رغم ذلك تنجذب إلى ناحية الضوء ولا تدري أن في ذلك هلاكها، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينجي الناس من أن يقتحموا النار ويهلكوا أنفسهم في النار والحال أنهم تجذبهم الشهوات التي تورد النيران فينجذبون إلى النار وإلى ما يؤدي إلى دخول النار من الشهوات والضلالات، وهو يردهم شفقة وخوفاً عليهم، فيمسك هذا من يده وهذا من جانبه وهذا من قميصه، يريد أن ينجي من استطاع من عذاب النار، لكنهم يقاومونه رغماً عنه ويلقون بأنفسهم في جهنم، والعياذ بالله! فانظر كيف صور النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث صفة الرحمة، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فهو رحمة لجميع الأمم، رحمة للمسلمين الذين آمنوا به، ثم رحمة لليهود، ورحمة للنصارى، ورحمة لكل أنواع الكفرة والمشركين، حتى البهائم والحيوانات، فقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرحم حتى هذه العجماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، حتى الحيوان إذا أردت أن تذبحه فلا تعذبه بذلك. وقال سبحانه وتعالى في شأنه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. إن بعض الناس يتصور أن القوة في الدين إنما تكون بالغلظة والجفاء والقسوة على خلق الله، بل والتكبر عليهم والاستعلاء ومعاملتهم بالقسوة، ولا يدري المسكين أن قلبه بيد ربه يحوله متى شاء، كما قال عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، تبينوا فضل الله عليكم، فهو الذي هداكم، فلا تستكبر على خلق الله ولا تتعالَ على عباد الله، فأنت ليس بيدك شيء، وهذا الفضل أعطاك الله إياه وحرم هذا الشخص منه، وهو عز وجل قادر على أن يعكس الأمر فتضل أنت ويهتدي هذا الشخص، فالعبادة فضل من الله ومنة من الله تبارك وتعالى. وكذلك لا ينظر الإنسان إلى الناس في ذنوبهم كأنه رب يطلع عليهم وسوف يحاسبهم ويعذبهم، فإنما هو مثلهم عبد مذنب خطاء، وخير الخطائين التوابون.

مصادر الدعوة إلى الله تعالى

مصادر الدعوة إلى الله تعالى

القرآن الكريم

القرآن الكريم ما هي المصادر التي ننتقي منها الأساليب التي نسلكها في الدعوة إلى الله عز وجل؟ أول هذه المصادر هو القرآن الكريم، فإن الله عز وجل فصل أخبار الرسل الكرام وما جرى لهم مع قومهم، وما قص الله علينا ذلك إلا لنستفيد منه ونتزود من معانيه، كما قال عز وجل: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، أي أنهم أسوة لك في ذلك، كما قال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فهم أسوة لك، وأنت أسوة لأمتك. ثم قال في آية أخرى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، أمره بالتأسي بهم، فكيف يصبر مثلهم إن لم يعرف شيئاً من سيرتهم وآثارهم؟!

السنة النبوية وسير السلف والاستنباطات الفقهية الدعوية

السنة النبوية وسير السلف والاستنباطات الفقهية الدعوية المصدر الثاني: السنة النبوية التي حوت مادة غزيرة من أساليب الدعوة، خاصة إذا ضممنا إليها السيرة الصحيحة، فمن عرف ذلك استفاد كيف يتصرف فيما يلاقيه من مواقف؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ لأنهم كانوا أعلم من غيرهم بفقه الدعوة إلى الله عز وجل، ولما اختصهم الله به من الفضائل العظيمة. وكذلك استنباطات الفقهاء من الأدلة الشرعية، كما في أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد والدعوة. وكذلك التجارب التي يمر بها الإنسان وتمر بها الدعوات ينبغي الاستفادة منها، وذلك يكون في الأمور الاجتهادية، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، سواء كانت تجارب خاصة للشخص نفسه أم تجارب للآخرين. ولا يصح التمسك بالمذهبية في الدعوة؛ لأن المنهج الصحيح في الدعوة هو الذي يتلقى من المصادر السابقة التي أشرنا إليها، والمسلم مطالب بأن يتمسك بما يقضي به دينه.

ضرورة التزام المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله

ضرورة التزام المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله التزام النهج الصحيح هو الذي يقرب من الغاية، بخلاف غيره من المناهج الخاطئة. كذلك التزام النهج الصحيح وبذل الوسع فيه يعفي المسلم من المسئولية عن النتائج، يقول الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فإذا سلكت المسلك الصحيح احتراماً للسنن الشرعية والسنن الكونية فأنت في هذه الحالة غير مطالب بالنتائج، فإذا قدر لك البلاء في الطريق فاصبر عليه وسوف تعان عليه من الله تبارك وتعالى، أما إذا استحمق الإنسان وتصرف تصرفات تخل بالسنن الشرعية وتخل بالسنن الكونية ولا تحترمها فحينئذٍ سيقال: على نفسها جنت براقش. وهو الذي يجني العاقبة السيئة لهذه التصرفات، وبالتالي يكون محاسباً أمام الله عز وجل على تقصيره. فإذا سلكت المنهج الصحيح، وعرفت أن هذا هو المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله، فليس لك أن تنحرف عنه أبداً بحجة صعوبته وأنه طريق صعب، فهذا ليس عذراً، ثم هل هذا هو منهج الأنبياء أم ليس منهج الأنبياء؟ فإن كان هو منهج الأنبياء فليس لك عذر في التنكب عن هذا الصراط بحجة صعوبته، أو لأنه طريق طويل، أو لأن الناس لا يقبلون عليه ويحاربونه ويؤذون من يسلكه، أو تتعجل الغاية وتقول: أنا عجل، أريد أن أرى الثمار بسرعة، فتتعجل هذه الغاية. أو تنساق وراء العاطفة النبيلة والرغبة في الشهادة في سبيل الله، فتريد فقط أن تنال درجة الشهادة، فتفعل أشياء ظاناً أنها تزيد في هذه الدرجة بمجرد هذه الأماني فقط دون أن تنضبط بالضوابط الشرعية والضوابط الكونية، فأنت مسئول ومحاسب عن مشروعية العمل الذي تعمله هل يرضاه الله أم لا يرضاه الله؟ إن بعض الناس يريد أن ينال الشهادة في سبيل الله فيقع في قتل بعض المسلمين، ويظن أن هذا هو طريق الشهادة في سبيل الله، ويترتب عليه ما يترتب من تأخير الدعوة وفتنة الناس عن دينهم، وما إلى ذلك. فهل مجرد هذه الرغبة الصادقة تبيح له أن يقتل مسلماً أياً كان ذلك المسلم حتى لو كان عاصياً أو فاسقاً؟! فينبغي الانضباط بمشروعية العمل، أن يكون الله تبارك وتعالى قد شرعه، فالخطأ لا يصير ثواباً بمجرد العاطفة النبيلة؛ لأن الوصول إلى المقصود لا يكون في السير على طريق لا يؤدي إليه، مهما كان السائر عليه جاداً حريصاً على الوصول إليه، فإنه في النهاية لن يصل إليه وإن كانت نيته صادقة في الوصول إليه. فالنية والعاطفة النبيلة لا تشفع لك، فلا بد من أن تتأكد أنك على الطريق الذي يؤدي إلى المقصود، وعلى الطريق الذي سلكه الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. من أمثلة ذلك: الجهاد، فإنه لم يشرع في مكة، والرسول عليه الصلاة والسلام كان مؤيداً بالوحي، وقد حصل أنه في منى طلب المسلمون أن يميلوا على المشركين ميلة واحدة فيقتلونهم، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (إني لم أؤمر بقتال)، كان تكليفاً من الله تبارك وتعالى. وصلح الحديبية لم تتسع له صدور كثير من المسلمين، حتى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومع ذلك سماه الله عز وجل فتحاً مبيناً، وفيه نزل قوله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، مع أن كثيراً من المسلمين رأوا أن هذا إعطاء للدنية في دينهم، وأنه من التخاذل. فينبغي أن توزن الأشياء بموازين الشرع، وتنضبط بالضوابط الشرعية، بغض النظر عن أصحاب العواطف النبيلة والرغبات أو النيات الصادقة، فإذا تبينت الوسيلة الصحيحة للداعية فيجب عليه أن يسلكها، وإذا بان أن هذا هو الطريق فعليه أن لا يتأثر بالعواطف والقصود الطيبة والحماس لخدمة الإسلام؛ لأن الحماس لا بد له من وقود، ووقوده هو العلم والوعي، هذا هو الوقود الذي يمد العمل والدعوة في الحركة الصحيحة.

لماذا يتبع منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟

لماذا يتبع منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ ذكرنا أن الله عز وجل قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمنهج الأنبياء، فقال عز وجل بعدما ذكر جملة من الأنبياء في سورة الأنعام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وقال عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، وأرشد المؤمنين جميعاً إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4]. فالنبي عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة لكل المسلمين مهما اختلفت صفاتهم، أسوة حسنة للشاب المستقيم في شبابه، أسوة حسنة للمؤمن الداعية في دعوته، أسوة حسنة للزوج مع زوجته، أسوة حسنة للوالد مع أولاده في العاطفة وحسن الخلق، أسوة حسنة للمربي في تربية أصحابه، أسوة حسنة للمجاهد الشجاع، أسوة حسنة للقائد المنتصر، أسوة حسنة للسياسي الناجح، أسوة حسنة للجار الأمين، أسوة حسنة للمعاهد الوفي والحاكم المستقيم، والعالم العامل، وهذه صفات لا تجتمع أبداً في أي زعيم أو مصلح، ولهذا أمر الله عز وجل بطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة بلا قيود، فقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؛ لأنه أسوة ونموذج كامل مطلقاً من كل الوجوه، وقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. أما غيره صلى الله عليه وسلم -كائناً من كان- فطاعته مشروطة بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وإنما خص الأنبياء بالأمر بالاقتداء بمنهجهم وهداهم لأمور: الأول: أن الأنبياء كانوا أسوة لرسولنا، ونحن أمرنا أن نأتسي برسولنا صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن الأنبياء معصومون من الشرك والضلال والزيغ والأهواء والفسوق والعصيان، وهم أشرف الناس نسباً، وأفضلهم أخلاقاً، وأعظمهم أمانة، وأقواهم حجة، يقول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، ويقول في موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]. الثالث: لأن جميع الأنبياء كانوا دعاة إلى نفس هذه الدعوة، وهي الإسلام، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. الرابع: جميع الأنبياء كانوا منتمين إلى حزب واحد هو حزب الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، فكان بين الأنبياء ولاء أقوى بكثير من أي ولاء يكون بين حزب من الأحزاب، فبعضهم أشياع لبعضهم، وهم فيما بينهم ونصراء، وكذلك كل المؤمنين الذين يسلكون نفس هذا السبيل، يقول الله تبارك وتعالى بعدما حكى قصة نوح عليه السلام: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83]، أي: من أنصاره وأهل حزبه. الخامس: لأن منهج الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام هو المنهج الوحيد الكفيل بإعادة الخلافة -بإذن الله تبارك وتعالى- على منهاج النبوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر المراحل التي سوف تمر بها هذه الأمة ختمها بقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، فبعد الانحدار والضعف والضياع الذي تمر به الأمة تعود خلافة لا على أي منهاج، وإنما المنهج الوحيد الذي يعيد الخلافة هو منهاج النبوة، الذي أوضحه الله في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وقال تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، فمنهاج النبوة هو منهاج الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، وهي الطائفة المنصورة التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)، وهذه الطائفة هم أهل السنة والجماعة، فالذي يمثل منهاج النبوة هو هذه الطائفة المنصورة التي تتمسك بالكتاب والسنة.

الأضرار الناتجة عن الخروج عن المنهج الصحيح في الدعوة

الأضرار الناتجة عن الخروج عن المنهج الصحيح في الدعوة إذا تأملنا في الأضرار التي تنتج عن الخروج عن النهج الصحيح في الدعوة فإننا سنرى أن هذه الأضرار تقع ولو مع حسن نية أصحابها، فالخروج عن نهج الأنبياء يؤدي إلى الفشل وعدم بلوغ الغاية، حتى لو وصلها فسرعان ما يدفع عنها ويرمى بعيداً عنها. وأيضاً يؤدي الانحراف عن هذا المنهج إلى لحوق الأذى بالعاملين في الدعوة، وضياع جهودهم بغير طائل، وترك اللين في موضعه إلى الغلظة وإلى القسوة يؤدي إلى نفور المدعو، حتى لو كان الداعي مخلصاً، فينبغي أن يرفق ويلين مع من يدعوه، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].

أهل السنة والجماعة

أهل السنة والجماعة

العلاقة بين السنة والجماعة

العلاقة بين السنة والجماعة السنة تطلق على الاعتقاد الحق، وعلى أهل الاعتقاد الحق، وقد تطلق السنة على جزئي من جزئيات هذا الاعتقاد، وكذلك كلمة الجماعة تطلق على أهل الاعتقاد الحق أو الاعتقاد الحق أيضاً مثل السنة، وقد يعبر بالجماعة عن أصل من أصولها، فالكلمتان تماماً مثل الإيمان والإسلام، أو الفقير والمسكين، فلفظ السنة والجماعة إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا أتت إحدى الكلمتين منفردة في نص شملت المعنيين، شملت الاعتقاد الحق وأهل الاعتقاد الحق، لكن إذا اجتمعتا فقلت: أهل السنة والجماعة فإنهما تفترقان في المعنى، فتصبح السنة عبارة عن الاعتقاد الحق، والجماعة عبارة عن أهل الاعتقاد الحق، فيصير لكل واحد منهما معنى يخصه، فيصير معنى السنة: طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاعتقاد الحق، أو الاتجاه الحق في مسائل الاعتقاد وغيرها، أما الجماعة فهم أصحاب ذلك الاعتقاد أو المنهج الصحيح.

اختصاص اسم أهل السنة بأهل السنة دون غيرهم

اختصاص اسم أهل السنة بأهل السنة دون غيرهم لشيوع هذا المصطلح ووضوحه صار لا يطلق على كثير من أصحاب المقالات، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله: ما هي السنة؟ قال: هي ما لا اسم له سوى السنة. أي: الطائفة الذين ليس لهم اسم غير السنة، أو المنهج الذي ليس له اسم غير السنة، ثم تلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، ولما سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن أهل السنة قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به؛ لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي. فأهل السنة لا ينتمون إلى أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة غير محتاجين إلى اسم، فالذي يحتاج إلى اسم هو الذي يشذ عن الأصل، وهو الذي يعرف باسم رافضي، أو جهمي، أو قدري، أو جبري، وهكذا، فالذي يدعى بلقب معين هو الذي طرأ على الأصل، أما الأصل فلا يميز باسم؛ لأنه لم ينشق عن غيره، وإنما انشق عنه مخالفوه، فأهل السنة هم الأصل الذي انشق عنه كل المخالفين، والمخالف هو الذي سرعان ما يشتهر ببدعة حينما يتنكب السبيل، والأصل لا يحتاج إلى سمة خاصة تميزه، وإنما الذي يحتاج لاسم ومدلول هو الفرع المنشق، وأهل السنة هم أصحاب الطريقة الوسط، السائرون على الصراط المستقيم، المخالفون لأهل البدع.

نشأة اسم أهل السنة والجماعة

نشأة اسم أهل السنة والجماعة قد يتبادر إلى الذهن أن هذا أمر ليس له أهمية كبيرة، لكن حينما نتأمل الخبط الذي يحصل من بعض أعداء أهل السنة والجماعة نحس بخطر الكلام عن هذا الأمر، فمسألة ابتداء التسمية بذلك بحث له أهمية كبرى؛ لأن بعض الناس يتحدثون عن مذهب السنة وكأنه فرقة أو طائفة في الإسلام كسائر الفرق. فنحن الآن نناقش نشأة الاسم، وليس المسمى وهو مذهب أهله، وذلك لأن هذا هو الإسلام، فالسنة والجماعة هو الإسلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فلو قيل: متى تأسس المنهج السلفي؟ قلنا: يوم نزل جبريل على رسول الله عليه الصلاة والسلام في غار حراء وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] هذه هي بداية التاريخ، وإن شئت فعد به إلى إبراهيم، وإن شئت فعد به إلى نوح وإلى آدم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالمذهب قائم، وهو الأصل بلا شك، لكن متى اشتهرت هذه التسمية؟ إن الكثير من الناس في هذا الزمان يحلو لهم الكلام على السنة كما يتحدثون عن أي فرقة أخرى، ويقولون: نشأت في كذا وكذا، أو: في القرن كذا. وكأنها فرقة من الفرق لها بداية زمنية محددة. فمثلاً: هذا زكي نجيب محفوظ، الفيلسوف الهرم الذي أفنى حياته في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى يدعي أن السنة فرقة أو طائفة طرأت في التاريخ، وليست هي الأصل والجذر لهذا الدين، وهناك الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه (إسلام بلا مذاهب)، يتحدث عن السنة ويقول: إن تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنة متأخرة، يرجع تاريخها إلى القرن السابع الهجري يعني: بعد الإمام أحمد -وهذا كلامه- بأربعة قرون. ولعله قال ذلك ليشير إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، كما يحلو لكثير من الناس ادعاء أن هذا المنهج تأسس في القرن السابع، ثم أحياه الوهابيون بعد ذلك في القرن الثاني عشر. وهذا من التضليل ومن المجازفة. وبعض الناس ينسبون المذهب إلى الإمام أحمد فيقولون: إن أهل السنة هؤلاء أسس مذهبهم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-/ وبعضهم ينسبون بداية المذهب إلى أبي الحسن الأشعري، وهؤلاء قد أخطئوا في الفهم؛ لأن السبب في بروز اسم الإمام أحمد أو الإمام أبي الحسن الأشعري رحمهم الله هو أن هؤلاء كان لهم دور تاريخي بارز جداً في الفترة التي عاشوا فيها، وتصدوا لأهل البدع الذين ضلوا في مسائل الاعتقاد، فلأجل ذلك اشتهرت تسميتهم واقترانهم بمذهب أهل السنة، فهم ليسوا مؤسسي المذهب، فالإمام أحمد تقبل المحنة لأن إخوانه من أهل العلم كانوا قد قبضوا وتوفوا، كالإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة والإمام مالك، فهؤلاء لم يدركوا المحنة، وأدركها الإمام أحمد، فانتصر هو ودافع عن السنة ودافع عن العقيدة أمام أهل البدع، وابتلي في ذلك، واشتهر حتى اقترن به اسم المذهب، لكنه ليس هو مؤسس المذهب. وإذا ألغينا ابن تيمية من التاريخ الإسلامي تماماً فهل سيضيع مذهب أهل السنة والجماعة؟ لن يضيع، فـ ابن تيمية نفض التراب عنه فقط، ذكر الناس به بعدما فرضت عليهم السياسة مذهب الأشاعرة وأنستهم مذهب أهل السنة، وكانوا يضطهدون أهل السنة، فـ ابن تيمية نفض الغبار فقط ليعود المعدن الأصيل نقياً صافياً بلا شوائب ولا معكرات. وتجد أن الموسوعة الميسرة في المذاهب والأديان المعاصرة نهج أصحابها نفس المنهج، حيث يتكلمون عن منهج أهل السنة والجماعة أو المنهج السلفي على أنه شيء طرأ على التاريخ الإسلامي، وليس هو أصل دين الإسلام الذي ربى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم. وقد حاول بعض الناس -أيضاً- أن يدعو إلى التقريب بين السنة والشيعة، فألف كتاباً سماه (لا سنة ولا شيعة) ومعنى ذلك أنه لا دين ولا إسلام؛ لأنه يريد التقريب فيظن أن السنة مذهب، والشيعة مذهب فقال: لا سنة ولا شيعة. كلا! كيف لا سنة والسنة هي الدين الصحيح؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وطريقتهم -أي: طريقة أهل السنة- هي دين الإسلام، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة. إذاً حصل التمييز بالاسم، فالأصل هو اسم الإسلام، لكن حصل التمييز باسم أهل السنة والجماعة لما ظهر أهل البدع والانحراف، لكن المنهج موجود وهو دين الإسلام، فمنهج أهل السنة والجماعة هو دين الإسلام الصحيح الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحصل التمييز بالاسم لما حدث الافتراق الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كخروج الخوارج والشيعة ونحوهم. يقول الدكتور مصطفى حلمي حفظه الله: إن أهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. والإمام عبد الله بن محمد بن حبان توفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، والإمام أبو ذر الهروي توفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وكل منهما له كتاب اسمه: (السنة)، فكانوا يصنفون كتباً في العقيدة تحت اسم السنة؛ لشيوع هذا المصطلح في زمانهم. قال: ومحمد بن سيرين توفي سنة عشر ومائة من الهجرة، يقول: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. إذاً هذا ابن سيرين في بداية القرن الثاني وأواخر القرن الأول يقول: فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم. فكان هناك تمييز بين أهل السنة وبين أهل البدع في أواخر القرن الأول، فهذا كان هو الاصطلاح السائد قبل أن يخلق أبو حنيفة ومالك والأشعري وأحمد والشافعي وابن تيمية، وغيرهم من أئمة الإسلام. وفي رسالة المأمون العباسي إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي -وكان كتب تقريراً في الإمام أحمد بن حنبل - يقول: نسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة. فهذه كلها تشير إلى أن المنهج لا يسأل عن ابتدائه، لكن شاع استعمال كلمة أهل السنة حينما تفرقت الأمة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

مفهوم الجماعة

مفهوم الجماعة كذلك نجد لفظ الجماعة يعني موافقة الحق على وجه العموم، كما قال ابن مسعود: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك)، ثم نجد أن كلمة الجماعة خصت -أيضاً- بمسائل العقيدة التي انحرف فيها المبتدعة، فمن ذلك -مثلاً- قول أبي حنيفة رحمه الله: الجماعة أن تفضل أبا بكر وعمر وعلياً وعثمان، ولا تنتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكفر الناس بالذنوب، وتصلي على من يقول: لا إله إلا الله وخلف من يقول: لا إله إلا الله، وتمسح على الخفين إلخ. فذكر أشياء اختص بها أهل السنة دون أهل البدع، رغم أن السنة ليست فقط هذه الأشياء، والعقيدة ليست فقط هذه الأشياء، لكنه ذكر أهم الأشياء التي تميز أهل السنة عن أهل البدع الذين كان يتكلم في شأنهم، فيقول: الجماعة أن تفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً. لماذا؟ لأن أهل البدع خالفوا في ذلك، ولا تنتقص أحداً من أصحاب رسول الله، وذلك لأن هؤلاء خالفوا في ذلك، فيراد بكلمة الجماعة أحياناً التميز العقائدي عن أهل البدع في بعض هذه القضايا الخاصة. وكما عرف الإمام أبو حنيفة الجماعة ببعض أصولها نجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى -أيضاً- يجعل الالتزام بمصادر التلقي عند أهل السنة هو الفيصل بين أهل السنة والجماعة وبين من عداهم، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة. فهنا نظر شيخ الإسلام من زاوية أخرى، وهي الالتزام بمصادر التلقي المعتبرة عند أهل السنة والتي يهدرها غيرهم من المبتدعة، ويقول شيخ الإسلام: فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وهم يَزنُون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال مما له تعلق بالدين. ولما كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، بخلاف أهل الأهواء الذين يرون القتال للأئمة من أصول دينهم وجدنا من يفسر الجماعة بأنها جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على إمام، ومنه ما جاء في الحديث: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، ومنه ما رواه الطبري بسنده أن عمر بن حريث سأل سعيد بن زيد فقال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: (يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة)، فهنا جاء التعبير عن الجماعة بالوحدة السياسية واجتماع المسلمين على الخليفة أو أمير المؤمنين. ومن أصول أهل السنة الاعتصام بحبل الله جميعاً، وعدم التفرق والتنازع، روى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: (اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة) وقوله: (فإني أكره الاختلاف) أي: الخلاف الذي يؤدي إلى النزاع والفرقة (حتى يكون الناس جماعة) وبهذا المعنى سمي العام الذي تنازل فيه الحسن لـ معاوية رضي الله عنهما عن الخلافة سمي بعام الجماعة، لاجتماع الناس وانقطاع الحرب.

سبب تسمية أهل السنة بالجماعة

سبب تسمية أهل السنة بالجماعة أما سبب تسمية أهل السنة بالجماعة فيقول الإمام عبد القاهر البغدادي رحمه الله: إن أهل السنة لا يكفر بعضهم بعضاً، وليس بينهم خلاف يوجب التبري والتكفير، فهم -إذاً- أهل الجماعة القائمون بالحق، والله تعالى يحفظ الحق وأهله، فلا يقعون في تنابذ وتناقض، وليس فريق من فرق المخالفين إلا وفيهم تكفير بعضهم لبعض، وتبري بعضهم من بعض، كالخوارج والروافض والقدرية، حتى اجتمع سبعة منهم في مجلس واحد فافترقوا عن تكفير بعضهم بعضاً، وهذه علامة بارزة جداً للفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، فتجد أن الفرقة الواحدة قد تتشعب منها عشر فرق، وكل فرقة تكفر الأخرى وتلعنها، وتوجب التبرؤ منها، وأن من لم يتبرأ منها فهو كافر، وهذه من أعظم المميزات لأهل البدع عن أهل الحق والسنة، فأهل السنة مهما اختلفوا فإنهم ما داموا محافظين على الضوابط الشرعية -لا يكفر بعضهم بعضاً، ولا يوجب بعضهم التبري من بعض. وخلاصة القول أن الجماعة تعني الحق من الاعتقاد، أو أصحاب الاعتقاد الحق، وقد يعبر عن معنى الجماعة بأصل من أصولها، كما قال بعضهم: الجماعة أن تفضل أبا بكر وعمر. وهذا أصل من أصول الجماعة فقط، وإلا فهي تعني كل مسائل العقيدة وإطلاقها على الاعتقاد الحق، كقولهم: الشذوذ عن الإجماع يعتبر مفارقة للجماعة. كمن شذ عن الجماعة وأباح الغناء مثلاً، فهذا يعتبر شذوذاً وخروجاً عن الجماعة، أي: خروجاً عن الاعتقاد الحق.

مفهوم السنة

مفهوم السنة السنة: هي الطريقة أو السيرة، حميدة كانت أو ذميمة، ومن استعمال السنة لهذا المعنى اللغوي العام قوله عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة ومن سن في الإسلام سنة سيئة)، وتطلق السنة ويراد بها السيرة الحميدة المستقيمة، يقال: فلان من أهل السنة، أي: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة. أما في الشرع فتطلق السنة على عدة معان: منها: أنها تطلق على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند المحدثين: هي ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، وعند الفقهاء: السنة ما ليس بواجب. أي: طلب فعله طلباً غير جازم، بحيث يثاب فاعله ولا يأثم تاركه، وتسمى: الإحسان، والنافلة، والندب، والمستحب، والسنة، هذا عند الفقهاء. وتطلق -أيضاً- على ما يقابل البدعة، كما قال الحافظ ابن حزم رحمه الله: وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة. ولا يعنينا الآن تتبع تلك الاصطلاحات، إنما الذي يعنينا أن نعرف بمصطلح السنة أو أهل السنة كدلالة على اتجاه معين في الاعتقاد. يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: السنة طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات. ثم صار في عرف كثير من العلماء من أهل الحديث وغيرهم أن السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة رضي الله عنهم. وصنفوا في هذا العلم تصانيف سموها كتب السنة، وخص هذا الاصطلاح السنة بأمور العقيدة؛ لأنها أهم فقه من الدين وأهم جزء من الدين، ولذلك صنف كثير من العلماء -خاصة في القرون الأولى- مصنفات تحت اسم السنة، وليس فيها إلا مسائل الاعتقاد، كالسنة لـ ابن أبي عاصم والشريعة للآجري، وهكذا، وإنما قصد هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة. وتطلق السنة على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل، مسألة من أولى بالإمامة من غيره، والكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، وهذا من الإطلاق للسنة على بعض مسمياتها، كما يقال: تسمى الصلاة إيماناً، والطهور إيماناً، فيطلق اسم الإيمان على جزئياته، وكذلك السنة تطلق على بعض مسمياتها؛ لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن أعظم وركن أكبر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، لكن هل الحج عرفة فقط؟ أي: هل الواجب الوحيد في الحج أو الركن الوحيد هو عرفة؟ كلا، فهناك أشياء كثيرة غير وقفة عرفات، لكن المقصود أن هذا أهم أركان الحج. أو لأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم في الاعتقاد، فهو الذي يميز أهل السنة عن غيرهم من أهل البدع. وقد كان الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن، فالقرآن هو المتبوع حقيقة، فحينما نقول: أهل السنة، أو: سنة النبي عليه الصلاة والسلام نجملها بقول عائشة: (كان خلقه القرآن)، فالسنة هي المبينة لكتاب الله تبارك وتعالى، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن، فالمتبوع في الحقيقة هو القرآن، لكن السنة تأتي كمذكرة تذكيرية لما في القرآن، وقد تأتي -أيضاً- بأحكام مستقلة، فمن اتبع السنة اتبع القرآن، والصحابة كانوا أولى الناس بذلك، فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية التي روي في صفتها: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وهم المقصودون في رواية أخرى مفسرة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (وهم الجماعة) لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك)، وقال أبو شامة: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظرة إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. فلفظ السنة -كما ذكرنا- ينبئ عن اتباع القرآن في شخص رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كان خلقه القرآن، وأيضاً لفظ السنة يتناول العبادات والاعتقادات، ثم خصت بالقسم الأهم وهو العقيدة، لاسيما المسائل التي شذ فيها أهل البدع. فالسنة أساساً هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين معاني القرآن، ثم السنة هي طريقة الصحابة الذين مدحهم القرآن والسنة وطبقوهما تطبيقاً عملياً، ثم السنة تشمل بعد ذلك العبادات والاعتقادات، ثم خصت بالاعتقادات؛ لأنها أشد خطراً من العبادات، ومما يميز أهل السنة الاعتقادات التي شذ فيها أهل البدع عن أهل السنة، فامتاز بها أهل السنة والجماعة، مثل: السنة والشيعة؛ لأن هذا الاصطلاح يراد به التمييز بين موقف كلا الفريقين من الصحابة ومن الأئمة.

اللحية لماذا؟

اللحية لماذا؟ إعفاء اللحية من خصال الفطرة التي يشترك فيها كل البشر، ولم يشذ عن ذلك إلا من مُسخت فطرته، أو قلد من مسخت فطرته، وقد كان جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ذوي لحى، وكذلك أتباعهم كانوا ذوي لحى، ولم ينتشر حلق اللحى إلا في الأزمنة المتأخرة، وقد تكاثرت الأدلة على وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها أو تقصيرها.

حكم إعفاء اللحية وأدلة ذلك

حكم إعفاء اللحية وأدلة ذلك الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه الذين كان هواهم تبعاً لهداه. أما بعد: فإن من عادة الناس أنهم إذا تهيئوا لخطر فإنهم يستعدون له، ويأخذون له عدته ويتأهبون لمواجهته، فمثلاً: من أصابه سم أو لدغته عقرب أو حية فإنه يسارع إلى تناول ما يضاد هذا السم؛ كي يتلافى خطره، والناس في حالة الحروب إذا خشوا القذائف الكيماوية فإنهم يتأهبون بالأقنعة الواقية ضد هذه الغازات السامة وغير ذلك، ونحن في هذه الأيام نعيش في جو أشد تسمماً، فنحن نعيش في المحنة التي يمر بها الإسلام، والحملة الشيطانية الخبيثة التي تستهدف صد الناس عن دين ربهم تبارك وتعالى، والتي تطلق بين الحين والآخر قنابل الدخان كي يتم الزحف تحت هذه الستائر الدخانية، فإن كثيراً من الملاحدة والزنادقة الذين يخرجون من جحورهم في هذه المحن وفي ظل هذه الظروف الصعبة، ومن وراء هذا الشر؛ يتفوهون في وسط هذا الجو الملتهب بعبارات لا يمكن أبداً أن يجرءوا على أن ينطقوا بها في الجو العادي، لكن في وسط هذه الحملة المستعرة يستغلون ما يحصل من الفتن التي تجري في هذه الأيام، فهؤلاء من الملاحدة والزنادقة يسيرون بهذه السموم والشبهات، ويطعنون في الدين حتى صار الإسلام نفسه الآن في عرف القوم مرادفاً للإرهاب، وصار المسلمون هم الأصوليين والمتطرفين والإرهابيين فحسبهم الله ونعم الوكيل! ونحن دائماً محتاجون إلى أن نتسلح بالأدلة؛ حتى نكون على بصيرة من ديننا وعلى يقين مما نحن عليه من الحق بإذن الله تبارك وتعالى. ومن القضايا التي نحتاج إلى تجديد العهد بها، خاصة وقد مر زمان طويل دون أن نتكلم فيها، هي قضية حكم إعفاء اللحية، وأدلة ذلك. نحن نتعرض لكثير من الضغوط في هذه الأيام من كل جانب، من الحملات الإعلامية، من الأسر في البيوت، من الآباء خوفاً على أبنائهم، وربما يستجيب كثير من الناس تحت وطأة هذه الضغوط إلى هذا الأمر، فيترخصون بدون عذر في مثل هذا الأمر. إن قضية اللحية في الحقيقة ليست مجرد شعيرات، لكن اللحية هي شعيرة من شعائر الإسلام، وسوف نرى من خلال الأدلة التي نبسطها اليوم إن شاء الله تعالى باختصار أن هذه القضية ليست بالسهولة التي يتخيلها كثير من الناس بأنها مجرد شعيرات، وقد يتفلسف بعضهم فيقول: المهم مراعاة الشعور وليس تربية الشعور، وما إلى ذلك من العبارات المنمقة، التي يصدون بها الناس عن حكم الله تبارك وتعالى في هذه المسألة، فعلى غرار ما تكلمنا من قبل بشيء في موضوع الحجاب تحت عنوان: الحجاب لماذا؟ كذلك أيضا ًنتناول هذه القضية على نفس هذا الغرار: اللحية لماذا؟ أو لماذا نعفي لحانا؟

أدلة إعفاء اللحية وحرمة حلقها أو تقصيرها

أدلة إعفاء اللحية وحرمة حلقها أو تقصيرها إن إعفاء اللحية طاعة لله عز وجل وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب:36]، وتأمل وصف الإيمان؛ لأن المؤمن هو الذي من شأنه أن يستجيب لحكم الله ورسوله فقوله: (وَمَا كَانَ) يعني: ما ينبغي أبداً {لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. في الآية الأولى قال: {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب:36]، وفي الآية الثانية: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] فمما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعفاء اللحى. فقد روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية) رواه مسلم. وهذا الأمر ورد بصيغ متعددة كلها تدل على ترك اللحية على حالها مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعفوا اللحى) (أوفوا اللحى) (أرخوا اللحى) (أرجوا اللحى) (وفروا اللحى)، فهذه كلها أوامر متنوعة تؤدي إلى غرض واحد. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس) رواه مسلم أيضاً. (جاء رجل من المجوس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟! قال: هذا ديننا -يعني: هذا ديننا معشر المجوس- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية). وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟! فقال: إن ربي أمرني بهذا -يعني: كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي). . (ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام وبعث به عبد الله بن حذافة رضي الله عنه دفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كسرى إلى باذان -وهو عامل كسرى على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي في الحجاز رجلين جلدين قويين يأتياني به -يعني: يأسران الرسول عليه الصلاة والسلام ويحضرانه إلى هذا الخبيث كسرى لعنه الله- فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه مع رجل آخر من الفرس فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا -يريدان كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قتل ربكما الليلة -سلط عليه ابنه شيرويه فقتله- فرجعا حتى قدما على باذان) إلى آخر الحديث، وهذا الحديث رواه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، وحسنه الألباني. فظهر من هذه القصة كيف كره النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذينك الرجلين، ولا شك أن هذا يحمل كل مؤمن صادق في إيمانه واتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يفعل فعلاً يتأذى منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونحن إذا تأملنا أحوال الجماعات الوطنية والأحزاب السياسية والفرق الرياضية والفنية وغير ذلك من هذه التجمعات نرى كل واحد منهم يجتهد في إرضاء قائده وزعيمه، ويتبعه في سيرته ولباسه وهيئته، ولا يأتي بفعل يؤذيه، والعجب كل العجب ممن يحلقون لحاهم كيف ينتسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يرتكبون فعلاً يتأذى منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دون أن يجدوا في أنفسهم أدنى حرج من ذلك؟! هناك قصة حكيت عن رجل من الشعراء تأثر رجل فارسي بكلامه في الحكمة والمعرفة، واعتقد أن صاحب هذه الأشعار رجل عظيم في دينه، قد زكى روحه وجسده، فسافر من بلده إليه كي يراه، فلما وصل إلى باب هذا الشاعر المشهور رآه وهو واقف يحلق لحيته، فقال له مستنكراً ومتعجباً: يا سبحان الله! أتحلق لحيتك؟! فقال الشاعر متفلسفاً: نعم، أحلق لحيتي، ولكني لا أجرح قلب أحد. يعني: أجرح وجهي بالموسى، لكن لا أجرح قلوب الناس، فرد عليه الرجل الفارسي بالبداهة: بل إنك تجرح قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع الشاعر ذلك غشي عليه، فلما أفاق قال بالفارسية شعراً معناه: جزاك الله خيراً لقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي. على أي الأحوال فإن إعفاء اللحية طاعة، والطاعة تكون لأمر، والأمر هو أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتينا بالأحاديث التي فيها: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية) ثم بالأحاديث التي فيها نفس الأمر: (اعفوا)، (أوفوا)، (أرخوا)، (أرجوا)، (وفروا). ثم نقول: إن صيغة الأمر تدل على وجوب امتثال هذا الأمر، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وعلى الجهة المقابلة فحلق اللحية يعد معصية محرمة، فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23]. وتقدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإعفاء اللحى، ومخالفة هذا الأمر معصية محرمة يقول عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) متفق عليه. والأمر بإعفاء اللحى وتوفيرها يستلزم النهي عن حلقها، وعن تقصيرها حتى تكون أقرب إلى الحلق، وهذا أمر مهم جداً لابد أن نلحظه، المعصية ليست فقط بحلق اللحية، بل تقصير اللحية في حد ذاته معصية؛ لأن هذا هو الذي كان يفعله المجوس، فقد كانوا يقصون لحاهم، ولذلك أتى الأمر بمخالفتهم، فمن يقصر لحيته ومن يحلقها فكلاهما مخالف لأمر النبي عليه السلام. والقاعدة تقول: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده، إذا أمرت بالسكوت فهو نهي عن الكلام، وإذا أمرت بالقيام فهو نهي عن القعود، فكذلك إذا أمرت بإعفاء اللحية فهو يتضمن أو يستلزم النهي عن ضده وهو حلقها أو تقصيرها. يقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في الحديث: (لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم)، وهذا حديث حسن. قوله: (لا تنتفوا الشيب) أي: الشعرات البيضاء، ولا فرق في نتف الشيب، سواء كان في اللحية أم في الرأس، ولذلك جاء عن أنس رضي الله عنه قال: (يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من لحيته ورأسه) رواه مسلم. فالذي يحلق لحيته قد أزال الشعر الأبيض والأسود، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى أن ينتف الرجل الشعرات البيضاء من لحيته أو من رأسه، فالذي يحلق لحيته قد أزال الشعر الأسود فضلاً عن الأبيض الذي هو نور المسلم، وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه وابن أبي ليلى ردا شهادة من كان ينتف لحيته. وقال الغزالي والنووي عليهما الرحمة: ونتفها -يعني: اللحية- في أول نباتها تشبه بالمرد، ومن المنكرات الكبار. والمرد جمع أمرد، وهو الغلام الذي طر شاربه وبلغ بروز لحيته ولما تبد.

إعفاء اللحية سنة وطريقة محمدية

إعفاء اللحية سنة وطريقة محمدية إن إعفاء اللحية سنة محمدية، فقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]. وقال صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. وثبت في صفته الخلقية صلى الله عليه وسلم أنه كان كث اللحية عظيمها، فعن أنس رضي الله عنه قال: (كانت لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمر يده على عارضيه). وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر وفي العصر باضطراب لحيته، ينظرون إليه من الخلف وهو يصلي، وذلك عندما سئلوا (بم كنتم تعرفون قراءته؟ قالوا: باضطراب لحيته) يعني: باهتزازها، وهذا الحديث في صحيح البخاري. (وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته)، وهذا يدل على عظم لحيته عليه الصلاة والسلام بحيث أنه يحتاج إلى تخليلها. والأحاديث في ذلك كثيرة كلها تؤكد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عظيم اللحية، فيا عجباً! ممن يدعون حبه صلى الله عليه وسلم ثم هم لا يحبون صورته، بل يفضلون عليه صورة أعدائه! والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. تجد الناس يتناقلون كلاماً لا يفقهون معناه، ويقولون: اللحية سنة، نعم هي سنة لكن بالمعنى اللغوي: الطريقة، أي: طريقة النبي عليه الصلاة والسلام، كما تقول: صلاة الجمعة سنة، يعني: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ما حكمها من حيث الأحكام الخمسة التكليفية الخمسة؟ هي من حيث الأحكام الخمسة واجبة؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللأدلة التي سوف نذكرها. يقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. فالمحبة التي لا تضطر صاحبها إلى اتباع المحبوب والتشبه به ادعاء للمحبة، وليست بمحبة حقيقية، وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه: (بينما أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أتقى لربك وأنقى لثوبك حتى لا يتسخ- فقلت: يا رسول الله! إنما هي بردة ملحاء -يعني: هذه الثياب التي ألبسها ثياب رثة أو رخيصة، لا يخشى منها أن يكون هناك كبر أو خيلاء حتى يراعى فيها الاتقاء والإنقاء- فقال له عليه الصلاة والسلام: أما لك في أسوة؟! قال: فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا الحديث حسن لغيره. فيا حالق اللحية! ماذا يكون جوابك إذا أخذت تسرد المعاذير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لك: (أما لك في أسوة؟)؟! إذا كان إعفاء اللحية سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطريقته فعلى هذا يكون حلق اللحية تطرفاً وانحرافاً عن هديه عليه الصلاة والسلام، وخير الهدي صلى الله عليه وآله وسلم. ففي الحقيقة هؤلاء المحاربون لدين الله والصادون عن سبيل الله والمشنعون على أهل طاعة الله هم المتطرفون كما ذكرنا ذلك من قبل مراراً؛ لأن معنى التطرف: هو الأخذ بأطراف الأمور، إما إلى الإفراط أو التفريط، إما إلى الغلو وإما إلى الجفاء، فكلاهما انحراف عن القسط والوسط والاعتدال الذي هو خاصية هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]. فهذا هو الاعتدال، فنحن اختلفنا معهم في حد الوسط، وحد الاعتدال، فنحن نرفع عقيدتنا دائماً بهذا الشعار المقدس: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، لا يمكن أن يكون هناك هدي أحسن وخير من هديه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هدي محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الهدي. فكل ما شرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام أو أمر به أو تكلم فيه من أمور الدين، فنجزم جزماً قاطعاً -ولو خالفنا من على ظهر الأرض قاطبة- أن هذا هو الاعتدال، وأن الانحراف عنه يمنة أو يسرة هو الانحراف وهو التطرف، يقول الشاعر: وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. إذاً: كل من حاد عن فعل أو أمر أو شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المنحرف، سواء كان ذلك في الغلو أو في الجفاء، بالإفراط أو بالتفريط، فهؤلاء هم المتطرفون بحق، فنحن نقولها بكل يقين وبكل قوة: إن هؤلاء المجرمين هم المتطرفون حقيقة، وإن لم يعلموا في الدنيا من المتطرفون فسوف يعلمون حين يردون على ربهم تبارك وتعالى من هم المتطرفون؟! والله تبارك وتعالى يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وهؤلاء يقولون: من يطع الرسول فقد صار متطرفاً، من يطع الرسول فهو إرهابي، من يطع الرسول فهو أصولي، إلى آخر هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان. فإذا كانت سنته صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً وصفة هي إعفاء اللحية، كان حلقها إعراضاً عن طريقته المنيفة، ورغبة عن سنته الشريفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) كما في الحديث المتفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم. هل أحد من الصحابة أمرنا أن نحلق اللحية أو كان يحلقها؟ لا يعرف الصحابة ولا السلف ولا القرون الأولى حلق اللحية، حتى الخلف لا يعرفون حلق اللحية، وإنما هذه الظاهرة لم تعرف إلا مؤخراً منذ أجيال قريبة جداً؛ لما بدأ الاحتكاك بالإنكليز والفرنسيين الكافرين. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الحسن: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) وذكرنا آنفاً الحديث الذي فيه: (أن كسرى لما أرسل رجلين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخلا عليه وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال: من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا -يعنيان كسرى-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي)، وهذا حديث حسن كما ذكرنا. كثير من الناس يفتش عن كلمتين: عن كلمة السنة، وكلمة المكروه، كلمة السنة حتى يضيع ويفرط ما يسميه سنة، وكلمة المكروه حتى يرتكب ما هو مكروه! وهذا قلب للأمور في الحقيقة؛ لأن المكروه أحد قسمي الأشياء التي يطلب تركها؛ لأن الأحكام خمسة، وهي ثلاثة أقسام: ما يطلب فعله، وما يطلب تركه، والمخير بين فعله وتركه وهو المباح الذي لا ثواب فيه ولا عقاب. فالمطلوب فعله هو ما أمر به على وجه الحث واللزوم، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهذا هو الواجب والفريضة. أو ما أمر فعله لا على وجه الحث واللزوم، بحيث يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهذا هو السنة أو الإحسان أو النافلة أو المندوب. والمطلوب تركه إما حرام وإما مكروه، والمكروه داخل في المطلوب تركه، لكن بعض الناس يقولون: إن بعض المشايخ قالوا: إن الدخان (السجاير) مكروه، إذن ندخن! وبعض الناس يقولون: إن إعفاء اللحية سنة، إذن نحلقها! نقول: إن هذا قلب للأمور، ومن علامات الخذلان؛ لأن التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم هو المحبوب لله تبارك وتعالى في كل الشئون وإن لم يكن واجباً؛ لأن المحب الصادق في المحبة لا ينظر إلى الفرق بين الواجب وبين السنة، بل هو يتبع المحبوب لأجل حبه له، فما بالك إذا كان واجباً كإعفاء اللحية؟!

إعفاء اللحية فطرة إنسانية

إعفاء اللحية فطرة إنسانية إن إعفاء اللحية فطرة إنسانية تقتضيها الفطرة السليمة؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، قوله: (فأقم وجهك) يعني: سدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، وحافظ على فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، وهي معرفة الله عز وجل وتوحيده، وتوابع ذلك من خصال الفطرة التي يتجه إليها الإنسان حتى لو لم يرد بها الشرع. لو أن إنساناً ترك بدون أن تؤثر عليه عوامل البيئة المحيطة به، فإنه سيهتدي بالسليقة وبالفطرة إلى الستر واللباس، ولا يتعرى إلا إذا تأثر ببيئة فاسدة، فتراه يستحسن العري، ولا يشعر تجاهه بأي نفور، فهذا دليل على فساد الفطرة، لكن الإنسان السوي حتى لو لم يعرف عن شرع منزل يأمر مثلاً بقص الأظافر، فإنه بفطرته كإنسان سوف يدرك أن الفرق بين الإنسان وبين الوحوش الكاسرة وذوات المخالب أن يهذب أظافره، وهكذا في سائر خصال الفطرة، سواء الاختتان، أو إعفاء اللحية أو غير ذلك من الخصال، فهذه كلها يهتدي إليها الإنسان بفطرته حتى لو لم يرد شرع، فكيف وقد جاء بها الشرع؟! عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والاستنشاق، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء) قال أحد الرواة: (ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) رواه مسلم. فخصال الفطرة هي الهيئة التي ابتدأ الله خلق عباده عليها، وغرس في طباعهم فعلها والميل إليها واستحسانها، وجبلهم على النفور مما يضادها، بحيث لو ترك إنسان هذه الخصال لم تبق صورته على صورة الآدميين، وصاحب الفطرة السوية التي لم يطرأ عليها فساد بتأثير البيئة المحيطة يظل مدفوعاً بفطرته إلى كراهية ما في جسده مما ليس من زينته، ومحبة هذه الخصال الجبلية ولو لم يرد بها شرع منزل، فكيف وقد جاءت بها شرائع النبيين؟! لذلك يقول الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى: وأحسن ما قيل في تفسير الفطرة: إنها السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه. إذاً: إذا كان إعفاء اللحية من خصال الفطرة، فإن حلق اللحية تغيير لفطرة الله وتغيير لخلق الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] قيل في تفسيرها: هي خبر بمعنى الطلب، يعني: لا تبدلوا خلق الله، ولا تغيروا خلق الله والهيئة التي فطركم الله عز وجل عليها، وهذه الهيئة هي معرفة الله عز وجل بتوحيده، وتوابع ذلك من خصال الفطرة. ولذلك جاء ذكر بعض خصال الفطرة في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]، فقد ذكروا أن من ضمن هذه الكلمات بعض خصال الفطرة، وقال الله عز وجل حاكياً عن إبليس لعنه الله قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، فهذا ما توعد به إبليس بني آدم منذ البداية. إذاً: هذا نص صريح في أن تغيير خلق الله عز وجل بدون إذن من الشرع إطاعة لأمر الشيطان، قال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ) فالذي يأمر بحلق اللحية أو بتغيير خلق الله هو إبليس، فحالق اللحية مطيع لإبليس فيما يأمر به، فالله لم يأمر بذلك إنما أمر بإعفاء اللحية، وهكذا أمر الرسول أيضاً عليه الصلاة والسلام، أما الذي يأمر بتغيير خلق الله فهو إبليس. وقولنا: بغير إذن من الشرع، هذا قيد نضعه حتى لا يعترض معترض ويقول: إن هناك تغييراً في خلق الله أمرنا به الشرع وأوجبه أو استحبه لنا، كالختان فهو تغيير لخلق الله، وكذلك قص الأظافر تغيير لخلق الله عز وجل، وكذلك حلق الرأس عند التحلل من الإحرام، وكذلك خصال الفطرة الأخرى، فالتغيير الذي تعبدنا الله عز وجل به ليس من التغيير المذموم. أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64] إشارة إلى الأمر بتحسين الهيئة والتنظيم، كأنه قال: قد فطركم الله في أحسن صورة وأكمل هيئة فلا تضيعوها بما يقبحها ويشوهها، بل حافظوا على هذه الصورة ولا تغيروها عما جبلكم الله عليه، وحافظوا على ما يستمر به حسن هذه الصورة ولا تطيعوا الشيطان في أمره إياكم بتغيير خلق الله، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) متفق عليه، فذكر علة اللعن المستدل به على الحرمة في قوله: (المغيرات خلق الله عز وجل). فالذي يحلق لحيته هل يحلقها للحسن أم لا يحلقها للحسن؟ بل يحلقها للحسن، فهو يريد أن تكون صورته أجمل، وفي الحقيقة هذا ينافي الفطرة؛ لأن زينة الرجل في اتجاه مخالف لزينة المرأة، المرأة يناسبها التزين بالذهب والأصباغ وغير ذلك من الأشياء، أما الرجل فلا يناسبه ذلك، بل الشيء المناسب لزينة الرجل هو أن يحافظ على رجولته. ومن زينة المرأة ألا يكون لها لحية في وجهها، أما الرجل فزينته أن يكون ذا لحية، وألا يتزين ويلبس ملابس المرأة، والرجل يستقبح أن يلبس الملابس التي تختص بالنساء، فكما استقبح ذلك فليستقبح أيضاً التزين بحلق اللحية، للأسف الشديد وجد شيء لا يتخيله الإنسان، وهو أن بعض الشباب يتنمصون، وهذا شيء عجيب جداً! إذاً: حالق لحيته للحسن هو أولى بأن يوصف بأنه مغير لخلق الله سبحانه وتعالى، ودخوله في الوعيد من باب أولى؛ لأن المرأة شرع لها من التزين أكثر مما شرع للرجل، وحلق اللحية في معنى النمص الذي هو إزالة شعر الوجه والحاجبين من المرأة للحسن، وهذا في حق الرجل أقبح.

إعفاء اللحية من سمت الأنبياء والمرسلين

إعفاء اللحية من سمت الأنبياء والمرسلين إن إعفاء اللحية من سمت الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذكرنا من قبل في تفسير فطرة الله أنها من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. يقول تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم عليه السلام بخصال الفطرة. ودل القرآن العظيم على أن هارون عليه السلام كان موفراً شعر لحيته، قال تعالى حاكياً عنه قوله لموسى عليه السلام: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] فلو كان حالقاً لما وقع الأخذ بلحيته. وقال تبارك وتعالى بعدما ذكر في سورة الأنعام جملة من الأنبياء الكرام، ومنهم إبراهيم وهارون عليهما السلام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] أي: أمر الله الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهؤلاء الأنبياء، ونحن مأمورون بالاقتداء بنبينا عليه الصلاة والسلام، فكما أن هارون عليه السلام كان ذا لحية، فقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهارون، وهو داخل في الائتساء به، وأمرنا نحن أن نقتدي بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].

إعفاء اللحية سبيل المؤمنين

إعفاء اللحية سبيل المؤمنين إن إعفاء اللحية سبيل المؤمنين، يقول الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. وقال عز وجل: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15]. وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) متفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) فقوله: (عضوا عليها بالنواجذ) كناية عن شدة التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده. ثم قال: (عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة) وهذا الحديث صحيح. وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين المهديين وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنهم كانوا ذوي لحى كبيرة، فكان أبو بكر رضي الله عنه كث اللحية، وكان عمر كثير اللحية، وكان عثمان كبير اللحية، وكان علي رضي الله عنه عريض اللحية قد أخذت ما بين منكبيه، فهؤلاء أعقل الأمة كلها بإجماع علمائها، ثم بعدهم الأتباع المحسنون والمجاهدون الصادقون الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها، لم يكن فيهم حالق للحيته، وكل هؤلاء الذين فتحوا العالم ومصروا الأمصار ما عرفوا حلق اللحية. إذاً: هذا هو سبيل المؤمنين. ومن دعاء المؤمنين عباد الرحمن قولهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] أي: اجعلنا مؤتمين بمن قبلنا؛ كي نصلح لأن يأتم بنا من بعدنا. ولم ينقل عن أحد من السلف الصالح رحمهم الله أنه حلق لحيته؛ لعدم جوازه عندهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ونحن نقول عكس ما قال المشركون، قالوا في القرآن: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] قالوا احتقاراً للفقراء والضعفاء: لو كان القرآن والإسلام خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء والفقراء والمساكين، أما نحن فنقول في كل أمر يعرض علينا: لو كان خيراً لسبقونا إليه، فلو كان في حلق اللحية خير لسبقنا إليه الصحابة والتابعون والمجاهدون والأئمة في كل زمان ومكان، فالصحابة والسلف لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها. يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في مراتب الإجماع: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز. وهذا إجماع يحكيه الإمام ابن حزم. قوله: مثلة يعني: تشويه، لا تجوز. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يحرم حلق اللحية ولم يبحه أحد. فلو فتشت في طول صفحات التاريخ الإسلامي وعرضه لم تجد من أئمة الهدى ومصابيح الدجى من كان يحلق لحيته، وإنما تسربت إلينا هذه الضلالة واستمرأها بعض المسلمين لما اتصلوا بالكفار، حين احتلوا بلادنا أو حين رحل بعضهم إلى بلاد الكفار، فاحتلوا عقولهم، فأعرضوا عن هدي سلفهم الصالح، واتبعوا غير سبيل المؤمنين حذو القذة بالقذة، واشتغلوا بتقليد اليهود والنصارى وعملوا شبراً بشبر وذراعاً بذراع. والله تبارك وتعالى يقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] ونحن إذا تتبعنا القرآن الكريم سنجد الشريعة والوحي الإلهي دائماً في مقابلة اتباع الهوى، يقول عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] فقوله عز وجل: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هم كل من خالف شريعته صلى الله عليه وسلم، وهم الذين اتبعوا ما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك.

أمر الشرع بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم

أمر الشرع بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم ويقول عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فقوله عز وجل: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ) هذا نهي مطلق عن مشابهة الكفار. وقال الحافظ ابن كثير: ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية. إن ترك التشبه بالكفار في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها القرآن الكريم، وبينها وفصلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحققها في أمور كثيرة من فروع الشريعة، في الصلاة والجنائز والصيام والأطعمة واللباس والزينة والآداب والعادات وغيرها. قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) حتى عرف اليهود أن من خصائص الملة الحنيفية أنهم يتعمدون مخالفة المشركين والكفار من اليهود والنصارى وغيرهم. اليهود الذين كانوا في المدينة عرفوا ذلك ولاحظوه من أفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه!) رواه مسلم. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول أيضاً في الحديث الصحيح: (ومن تشبه بقوم فهو منهم). وعن الحسن قال: قلما تشبه رجل بقوم إلا لحق بهم. يعني: في الدنيا والآخرة. وقال بعض مشيخة الأنصار رضي الله عنهم: (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم) عثانينهم: جمع عثنون وهي اللحية. وتأملوا كلمة (يقصون) جيداً، ما قال: يحلقون وإنما قال: يقصون يعني: يقصرونها. قال بعض مشيخة الأنصار: (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عنانينهم -يعني: لحاهم- ويوفرون سبالهم -يعني: شواربهم- فقال عليه الصلاة والسلام: قصوا سبالكم، ووفروا عنانينكم، وخالفوا أهل الكتاب)، وهذا حديث حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى) متفق عليه. ويقول صلى الله عليه وسلم: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس) رواه مسلم. ويقول الإمام أبو شامة رحمه الله تعالى: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصرونها. فمما ينبغي أن نتنبه إليه جيداً أن المشركين الذي كانوا يعيشون في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ذوي لحى، وهذه النقطة تسبب نوعاً من الاشتباه، وتلبس على بعض الناس هذا الأمر، والعرب ما عرفت حلق اللحية، ولعل هذا كان من بقايا دين إبراهيم عليه السلام الذي بقيت عليه العرب. فالعرب لم تترك زينة اللحى لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فقد كان أبو جهل ملتحياً، وكان أبو لهب ملتحياً، وهكذا. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى) يأتي بعض الناس ويتفلسفون ويقولون: الآن المشركون يعفون لحاهم! فنقول: هذا غير صحيح؛ لأن عامتهم يحلقونها، وهذه البلية ما جاءت إلا من قبلهم، لكن لو نسلم جدلاً أن المشركين يعفون اليوم لحاهم فهل نخالفهم بحلق لحانا؟! لا، فنقول لهؤلاء المغرر بهم: إنكم أسأتم فهم الحديث، والدليل على أنكم أسأتم فهمه أن المشركين الذين أمر الصحابة بمخالفتهم في هذه الأحاديث على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا ذوي لحى، إنما كانت المخالفة في التفاصيل وليس في أصل الفعل، والمعنى: أن اللحى تترك وتعفى لا تقص ولا تقصر مخالفةً للمجوس، فضلاً عمن يحلقها، والشوارب تقص ولا تترك مخالفة أيضاً لهؤلاء المشركين، حتى إن الغربيين كانوا يعفون لحاهم إلى أن أشاع الملك بطرس ملك روسيا حلق اللحية. ومن الغربيين تسربت إلى المسلمين هذه السنة السيئة فيما بعد، فإذا حلقوا لحاهم فنحن نخالفهم في أصل الفعل؛ لأننا نفعل ذلك امتثالاً لأمر نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا أعفوا لحاهم نخالفهم في التفصيل وذلك بقص الشوارب. نضيف إلى ذلك أن بعض الناس يلبسون في هذا الأمر بقولهم: إن هذا التعليل غير مستمر، أي: هم يقدحون في استمرار هذه العلة وهي مخالفة المشركين؛ لأن بعض المشركين اليوم لا يعفون لحاهم، فنقول: إن سنة أكثر المشركين اليوم هي حلق اللحية، بل ما تسربت هذه البدعة إلا من المشركين، وهم يستحسنون ذلك حتى تصبح وجوههم كوجوه النساء، وهم يعتبرون هذا من الزينة، وقد ذكرنا أن هذه زينة خاصة بالنساء، وآية ذلك أنك إذا تعودت أن ترى رجلاً معفياً لحيته، ثم رأيته فجأة قد حلق لحيته، فماذا يكون شعورك؟ تشمئز جداً، وتشعر كأنه مثل الأرنب الذي سلخ جلده، فأنت تنفر من المنظر؛ لأنك تعودت على رؤية الهيبة والوقار والزينة التي تليق بالرجال. أما من أعفى لحيته من المشركين، فلماذا أعفاها؟ ربما يكون قد أعفاها اليهودي أو النصراني تديناً بذلك؛ اتباعاً لعيسى أو موسى، ولأن هذه سنة الأنبياء، ونحن نتفق معهم في هذه الفطرة. وربما أعفى لحيته لأن إعفاء اللحية رجولة وفحولة، فنقول: بفعله هذا قد سلمت فطرته في هذه الجزئية، حيث رأى أن هذا من الرجولة، ففطرته سلمية في هذه الجزئية، وتوافقت شريعتنا فيها مع شريعتهم، ومثال ذلك: أن شريعتنا تأمر ببر الوالدين، وشريعتهم تأمر ببر الوالدين، فهل نترك بر الوالدين لأنهم يطيعون آباءهم؟! ونحن لا نزال نخالفهم في سنة قص الشوارب وهو أخذ ما طال عن الشفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا)، فإذا كان بعض الكفار اليوم كاليهود مثلاً يعفون لحاهم والآخرون يحلقونها، فنحن مأمورون بمخالفة الحالقين والمقصرين لا بمخالفة من أعفاها، فاليهود كفار، وفيهم من يعفي اللحية، وفيهم من يحلقها أو يقصرها، فمن الذي نخالفه من الأصناف الثلاثة؟ نخالف فقط الذي يقصر أو يحلق، أما الذي يعفي فنحن نوافقه فيها، فلو كانت القاعدة أن ما يفعله الكفار يجب اجتنابه مطلقاً لوجب علينا ترك القتال؛ لأن اليهود يقاتلون! فهل نخالف اليهود في ترك القتال، ونتمرد على الفطرة؟! كلا، كذلك لا يقدح في استمرار التعليل بمخالفة المشركين أن أكثر المسلمين اليوم يحلقون لحاهم، ويقولون: أكثر المسلمين يحلقون لحاهم، وهم بذلك يتميزون عن المشركين، فنقول: إذا كان أكثر المسلمين يحلقون لحاهم فإن القرآن والسنة حجة عليهم، وليسوا هم حجة على القرآن والسنة، وقد دل القرآن على تحريم تغيير خلق الله وتحريم التشبه بالنساء، ودلت السنة على أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة التي لا تتبدل بتبدل الأزمان، فانحراف البعض عنها لا يجعلنا نرفض ما شرعه الله لنا وفطرنا عليه لمجرد أن يفرط فيه بعض المنتسبين إليه؛ لأنهم مأمورون بامتثال هذا الأمر.

إعفاء اللحية رجولة وفحولة ورأي الطب في هذه المسألة

إعفاء اللحية رجولة وفحولة ورأي الطب في هذه المسألة إن إعفاء اللحية رجولة وفحولة؛ فإن الله تبارك وتعالى خلق الذكر والأنثى، وجعل وجود الشعر سمة مشتركة بينهما في موضع من البدن، وليس من هذه المواضع المشتركة اللحية والشارب، بل ميز الله تبارك وتعالى بهما الرجل عن المرأة، ولأن يلبس الرجل ملابس المرأة أخف من أن يحلق لحيته تشبهاً بها؛ لأن لحية الرجل هي الفارق الظاهر والمميز الواضح بين الرجل والمرأة، وقد شرع الله لكل من الزينة ما يناسب فطرته، وأباح الشرع للنساء التزين بالذهب والحرير وحرمهما على الرجال؛ لأنهما لا يناسبان كمال الرجولة. وكما أن من جمال المرأة أن تعدم اللحية والشارب في وجهها؛ فإن جمال الرجل وهيبته ووقاره في لحيته وشاربه. أما من وجهة نظر الطب، فالطب محايد لا دين له للأسف الشديد، فلنسمع ما تقوله المصادر الطبية المحترمة في هذا المجال. معلوم من الناحية الطبية أن نمو اللحية في وجه الرجل هو أثر من أثار هرمون الذكورة الذي يسمى (التستوستيرون)، ونزول هذا الهرمون ينبت شعر اللحية والشارب في وجه الرجل، وهناك أمراض تطرأ على بعض الرجال وينشأ عنها مرض نقص الذكورة، وهذا المرض يكون مصحوباً بسقوط شعر اللحية من الوجه. ونفس هرمون الذكورة لو حقن في أنثى سيؤدي إلى مرض عند المرأة يسمى اضمحلال الأنوثة أو نقص الأنوثة أو بعبارة أخرى يؤدي إلى الاسترجال عند المرأة، ومن أهم وأوضح الأعراض الناتجة عن ذلك عرض مشهور جداً في الطب يسمى الشعرانية يعني: كثرة نمو الشعر في مناطق لم تكن مشعرة كاللحية والشارب، فتجد المرأة التي يحصل فيها أعراض الرجولة أنه لابد أن يظهر فيها الشعر في مواضع من البدن ومنها اللحية والشارب. فهذا رأي الطب الذي هو علم محايد لا يتمسك بدين، وهذا الكلام في كل المراجع الطبية، وإن شئتم فراجعوها.

وجه كون حلق اللحية تشبها بالنساء

وجه كون حلق اللحية تشبهاً بالنساء إذا كان إعفاء اللحية من جانب هو رجولة وفحولة فلا شك أن الجانب الآخر وهو حلق اللحية يعد تشبهاً بالنساء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه رأى امرأة تمشي متقلدة قوساً وهي تمشي مشية الرجل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال) وهذا حديث صحيح. فلا شك أن مشابهة حالق لحيته للمرأة أوضح من مشابهة من تقلدت القوس ومشت مشية الرجال، كما أنا المرأة إذا اتخذت لحية مصنوعة في وجهها فهي متشبهة بالرجال، أو اتخذت الشارب الصناعي في وجهها فهي أيضاً متشبهة بالرجال، وكذلك الرجل الذي يحلق لحيته التي زينه الله بها يكون قد تشبه بالنساء, وأنت إذا سألت رجلاً أو حتى صبياً من عامة المسلمين الملتزمين بالدين عن وجه الحليق: من يشبه؟ لقال: يشبه وجه المرأة، ووجه الصبي، ووجه اليهودي والنصراني. ولله الحمد تجد أولاد الملتزمين بإعفاء اللحية إذا رأوا حليق اللحية فإنهم يفزعون ويتغيرون؛ لأنهم محتكون بملتحين! والعلماء أطلقوا على حالق اللحية لفظة بشعة، لكن نحن نعلم أن الإخوة الأفاضل الذين يحلقون لحاهم إنما هو نتيجة أنهم لا يعرفون حكم الله في هذه المسألة، فنعتذر عن وجود بعض الألفاظ الشديدة، لكن هذا يعكس مدى استبشاع السلف لهذا الفعل، ومن هذه الألفاظ الشديدة التي أطلقها العلماء على حالق اللحية لفظة: التخنث. يقول الإمام حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال. فلو أن رجلاً أتى فصبغ أطرافه بالحناء، ومعلوم أن الحناء زينة النساء، فيكون هذا الرجل الذي صبغ أطرافه بالحناء قد تشبه بالنساء، ولو كان ذا لحية وشارب وعمامة، فكذلك من حلق لحيته يكون قد تشبه بالنساء ولو كان ذا شارب وقميص وعمامة. إذاً: لابد أن نلحظ أمراً مهماً جداً، وهو أن قضية التشبه لا يتوقف الاتصاف بها على القصد والنية كالإتلاف والقتل والضرب، فمن فعل ذلك اتصف به وإن لم يقصده؛ لأن قضية التشبه لا تفتقر إلى السؤال عن النية؟ بل يكفي في وصف الإنسان بأنه متشبه بالكفار أو بالنساء مجرد وقوعه في فعل التشبه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أعمال لم يقصد فاعلها التشبه، ولا خطر التشبه على باله، كالنهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الزوال ووقت الغروب؛ لكيلا نتشبه بالكفار الذين يسجدون للشمس في هذه الأوقات، مع أن المسلم لا يقصد بالسجود إلا الله تعالى، ومع ذلك يعتبر هذا تشبهاً، فإذا كان حلق اللحية تشبهاً بالنساء فعلى الجانب الآخر يكون إعفاء اللحية زينة وتكريماً.

من أوجه تكريم الله لبني آدم وجود اللحى في الرجال

من أوجه تكريم الله لبني آدم وجود اللحى في الرجال يقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] يقول بعض العلماء في تفسير الآية: من تكريمه إياهم: خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها. وذكر بعض العلماء من أمثلة هذا التكريم: تزيين الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقال عز وجل: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]. وقال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]. وقال سبحانه وتعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]. وقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (كل خلق الله عز وجل حسن). فلابد أن نوقن أن هذه الهيئة التي خلقنا الله عليها هي نعمة من الله سبحانه وتعالى وتكريم لنا، فوجود اللحية في الرجل نعمة، فحلق اللحية والإطاحة بها طعن في هذه الحكمة، وجحود لهذه النعمة، وكأنك تقول: الهيئة التي خلقتني عليها -يا رب- هيئة قبيحة! معاذ الله! إذاً: هذا كفر بهذه النعمة العظيمة، وانتكاس عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وانحطاط إلى مستوى الكفرة الذين زين لهم سوء أعمالهم، فحلق اللحية ليس رقياً، بل يعتبر انحطاطاً عن هدي الرسول عليه الصلاة السلام، وانحطاطاً إلى مستوى الكفار الذين يحسبون أن التمدن والكمال إنما يكون في القضاء على أكثر الفوارق الظاهرة بين الرجل والمرأة، يقول الشاعر: يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

مكانة اللحية عند الفقهاء من السلف وتعظيمهم لها

مكانة اللحية عند الفقهاء من السلف وتعظيمهم لها بلغ من تعظيم الفقهاء للحية أن قال الأئمة أبو حنيفة وأحمد والثوري رحمهم الله: إن اللحية إذا جني عليها فأزيلت بالكلية ولم ينبت شعرها، فعلى الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها. وقال فريق آخر من العلماء: فيها حكومة. وعلق الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى معلقاً على مذهب أبي حنيفة وأحمد والثوري حيث قالوا: إن على الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها فقال: لأنه أذهب المقصود كله، فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين بحيث لم يعد مرة ثانية. قيس بن سعد لم يكن له لحية، فقال الأنصار: (نعم السيد قيس لبطولته وشهامته، ولكن لا لحية له، فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم، لاشترينا له لحية ليكمل رجلاً) وقال بعض بني تميم من رهط الأحنف بن قيس: وددت أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفاً، وكان الأحنف بن قيس فيه دمامة في ملامحه، وفيه نوع من الميل في رجليه، وكان أعور، وفيه نقص في كثير من الصفات الخلقية، لكنهم لم يذكوا حنفه ولا عوره ولا غير ذلك، وإنما ركزوا على عدم وجود لحية له؛ لأن من لا لحية له يرى عند العقلاء ناقصاً. وذكر عن شريح القاضي أنه قال: وددت لو أن لي لحية بعشرة آلاف درهم. فإذاً: نحن نتعجب من بعض أهل زماننا! يود أحدهم لو بذل مالاً عظيماً؛ ليعدم لحيته إلى الأبد حتى لا يعاني من حلقها دائماً! يقول الشاعر: ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه فإذا كانت اللحية زينة وتكريماً ففي المقابل فحلق اللحية مهانة للإنسان في الحقيقة؛ لأن أئمة الإسلام وعلماء الإسلام لم يوجد من بينهم من حلق لحيته في حياته ولو مرة واحدة إلا إذا كان لعذر المرض. إذاً: الأصل أنه لم يعرف أبداً عن أئمة الهدى هذه المعصية، بل إن بعض الأمراء في بعض الأزمان لم يكونوا متفقهين في الدين، ومع ذلك كانوا إذا أرادوا أن يؤدبوا فرداً من أفراد الرعية لخطأ ارتكبه يحلقون لحيته، ويركبونه دابة ويجولون به بين الناس في الأسواق تعزيراً له، لكن الفقهاء قالوا: يجوز للحاكم أو الأمير التعزير بحلق الرأس لا اللحية؛ لأن حلقها حرام. ألا تتأمل أن الله سبحانه وتعالى ما شرع للرجال أن يحلقوا لحاهم في الحج أو العمرة عند التحلل من الإحرام، إنما شرع لهم حلق الرأس فقط أو التقصير؟! أما اللحية فهل هناك دليل من الكتاب أو السنة يدل على أن اللحية تحلق عند التحلل من الإحرام؟ ابن عمر والذي هو: كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه، ويتشبث بعض الناس بفعل ابن عمر ويقولون: ابن عمر فعل كذا، نقول: نعم ابن عمر فعل ذلك، لكن هل أنتم تتركون لحاكم وتأخذون ما زاد عن القبضة؟! قال بعض العلماء: إن ابن عمر أراد أن يجمع بين الحلق والتقصير، فذهب في معنى قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] أي: محلقين رءوسكم ومقصرين لحاكم، فكان يأخذ منها ما فضل على القبضة، والله تعالى أعلم. بلغ أيضاً من تعظيم السلف لشأن اللحية أن رتبوا على حلقها عقوبة اجتماعية قاسية، وهي رد الشهادة، وقد جاء عن بعض الفقهاء: أن من تعمد حلقها يؤدب وترد شهادته. وقال العلامة الدسوقي: يحرم على الرجل حلق لحيته أو شاربه، ويؤدب فاعل ذلك. أيضاً: إذا كان إعفاء اللحية زينة وتكريماً، فحلقها مهانة؛ لأن حلقها مثلة، والمثلة مثل الذي يقطع أذن إنسان أو أنفه أو يفقأ عينه وغير ذلك. فعن عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة) رواه البخاري، والمثلة: هي التشويه. وعن سمرة وعمران بن حصين رضي الله عنهما قالا: (ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة) إسناده جيد. وروى ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال: (إن حلق اللحية مثلة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة). وقال ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز. فإذا كان بعض العلماء عد قص اللحية مثلة، وعد بعضهم استئصال الشارب بالحلق مثلة، فماذا عن استئصال اللحية كلها؟ إن الوجه عضو مكرم، وهو مجمع المحاسن والحواس، فمن حق الوجه الصيانة لا المثلة والإهانة، وهذا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه). ولذلك يزجر العلماء عن لعبة الملاكمة أو بتعبير أدق عن الضرب في الوجه؛ لأنه لا يجوز أن تضرب المسلم أبداً في وجهه؛ لأن الوجه مكرم، وينبغي أن تحترم الوجه وتصونه عن أي إهانة أو مثلة. فهنا أمر لضبط النفس حتى في حالة الغضب، إن كان ولابد أن يحصل بينك وبين أخيك نوع من العراك أو الشجار أو القتال فاجتنب الوجه، فلا تضرب الوجه. يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه)، وفي لفظ: (فلا يلطمن الوجه)، فلا تضرب أبداً أحداً على الوجه، لا تضرب ابنك ولا أخاك ولا أي أحد على الوجه؛ لأنه منهي عنه. رأى سويد بن مقرن رضي الله تعالى عنه رجلاً لطم غلامه، فقال: (أوما علمت أن الصورة محترمة) رواه مسلم. والصورة هي الوجه كما جاء في الحديث: (الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فلا صورة). ونحن نعجب أيضاً من أهل زماننا الذين يهنئون من يشوه خلقته ويمثل بوجهه، ويحلق لحيته؛ بقولهم له: نعيماً، يقول الشيخ عائض القرني: جحيماً وليس نعيماً!

فتاوى العلماء في إعفاء اللحية وحلقها

فتاوى العلماء في إعفاء اللحية وحلقها أخيراً نذكر بعض النقول ولا نطيل بذكرها؛ لإقناع هؤلاء الذين يتذرعون بكلام المذاهب، ويدعون أن المذاهب تجيز حلق اللحية، أي: مذاهب هذا الزمان، وبعض الناس في هذا الزمان يقولون: إن إعفاء اللحية من أمور العادات وليست من السنن، فنقول: لا التفات لهذا الكلام بعدما سمعنا الأدلة الصحيحة على هذا الحكم الشرعي. هنا فتوى عن اللحية وردت من الشيخ جاد الحق علي جاد الحق لما كان مفتياً لجمهورية مصر العربية، وهذه الفتوى موجودة في الفتاوى الإسلامية الرسمية الصادرة باسم الأزهر برقم (1282) مبادئ الفتوى: الأول: إطلاق اللحى من سنن الإسلام التي ينبغي المحافظة عليها. الثاني: إتلاف شعر اللحية بحيث لا ينبت بعده جناية توجب الدية، على خلاف في مقدارها. الثالث: إطلاق الأفراد المجندين للحى اتباع لسنة الإسلام، فلا يؤاخذون على ذلك، ولا ينبغي إجبارهم على إزالتها أو عقابهم بسبب إطلاقها. وسئل فضيلة شيخ الأزهر جاد الحق كما في الكتاب (60/ 81) المؤرخ في 12/ 6/ 1981م منفرد برقم (194) سنة (1985م) و Q طلب بيان الرأي عن إطلاق الأفراد المجندين اللحى، حيث إن قسم القضاء العسكري قد طلب الإفتاء بخصوص ذلك الموضوع لوجود حالات لديها؟ أجاب المفتي فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق قائلاً: إن البخاري روى في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب). وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى). وفي صحيح مسلم أيضاً عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، قال بعض الرواة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة). قال الإمام النووي في شرحه لحديث: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى): إنه وردت روايات خمس في ترك اللحية، وكلها على اختلاف في ألفاظها تدل على تركها على حالها، وقد ذهب كثير من العلماء إلى منع الحلق والاستئصال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفائها من الحلق. ولا خلاف بين فقهاء المسلمين في أن إطلاق اللحى من سنن الإسلام فيما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق الذي روته عائشة: (عشر من الفطرة). ومما يشير إلى أن ترك اللحية وإطلاقها أمر تقره أحكام الإسلام وسننه، ما أشار إليه فقه الإمام الشافعي من أنه يجوز التعزير بحلق الرأس لا اللحية، وظاهر هذا حرمة حلقها على رأي أكثر المتأخرين. ونقل ابن قدامة الحنبلي في المغني: أن الدية تجب في شعر اللحية عند أحمد وأبي حنيفة والثوري، وقال الشافعي ومالك: فيه حكومة عدل. وهذا يشير أيضاً إلى أن الفقهاء قد اعتبروا التعدي بإتلاف شعر اللحية حتى لا ينبت جناية من الجنايات التي تستوجب المساءلة، إما بالدية الكاملة كما قال الأئمة أبو حنيفة وأحمد والثوري، أو حكومة يقدرها الخبراء والعدول كما قال الإمامان مالك والشافعي، ولا شك أن هذا الاعتبار من هؤلاء الأئمة يؤكد أن اللحى وإطلاقها أمر مرغوب فيه في الإسلام، وأنه من سننه التي ينبغي المحافظة عليها. ولما كان إطلاق الأفراد المجندين للحى اتباعاً لسنة الإسلام، فلا يؤاخذون على ذلك، ولا ينبغي إجبارهم على إزالتها أو عقابهم بسبب إطلاقها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وهم متبعون لسنة عملية جرى بها الإسلام، ولما كانوا في إطلاقهم اللحى مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجب أن يؤثموا أو يعاقبوا، بل إن من الصالح العام ترغيب الأفراد المجندين وغيرهم في الالتزام بأحكام الدين وفرائضه وسننه؛ لما في ذلك من زيادة همتهم، ودفعهم لتحمل المشاق والالتزام عن طيب نفس، حيث يعملون بإيمان وإخلاص. وتبعاً لهذا لا يعتبر امتناع الأفراد الذين أطلقوا اللحى عن إزالتها رافضين عمداً لأوامر عسكرية؛ لأنه باشتراط وجود هذا الأمر فإنها فيما يبدو لا تتصل من قريب أو بعيد بمهمة الأفراد أو تقل من جهدهم، وإنما قد تكسبهم سمات وخشونة الرجال، وهذا ما تتطلبه المهام المنوطة بهم. ولا يقال: إن مخالفة المشركين تقتضي الآن حلق اللحى؛ لأن كثيرين من غير المسلمين في الجيوش وفي خارجها يطلقون اللحى؛ لأنه شتان بين من يطلقها عبادة في الدفاع عن سنة الإسلام، وبين من يطلقها لمجرد التجمل وإبقاء سمات الرجولة على نفسه، فالأول: منقاد لعبادة يثاب عليها إن شاء الله تعالى، والآخر: يرضى بها كالثوب الذي يرتديه ثم يزدريه بعد أن تنتهي مهمته. ولقد عاب الله الناهين عن طاعته وتوعدهم: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:9 - 14] والله سبحانه وتعالى أعلم. فهذه كلمة حق طيبة جزاه الله خيراً عنها. نقول: حتى لو اعتبر هذا الأمر -إعفاء اللحية- من الأمور الشخصية ومن الحريات الشخصية، فلماذا يعطى كل إنسان حرية شخصية ما عدا من يفعل هذه الأشياء طاعة ومحبة لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! تجد المسلم يمتحن بسبب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضطهد؛ لأنه أظهر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به! فأين ذهبت عقول القوم؟! اليهود في أمريكا وضعهم أقوى من وضعهم في إسرائيل نفسها، لكن لا يمكن أن ترى يهودياً حالقاً للحية، ولا ترى يهودياً ليس في وجهه شعر، إلا الصبي الصغير الأمرد الذي ما نبتت لحيته بعد، وترى لحاهم طويلة جداً، لكن تجدهم يطيلون الشوارب. فإن كانت هذه البلاد الكافرة قد تركت لهم الحرية في إطلاق اللحى فنحن من باب أولى؛ لأن الإسلام أمرنا بذلك. ونحن مضطرون أن نستدل بهدي أمريكا لمن يعبدون أمريكا، هناك منظمة في أمريكا أعضاؤها الآلاف من المجندين الأمريكان الذين ذهبوا إلى السعودية في حرب الخليج، وقام بعض الإخوة والدعاة الأفاضل جزاهم الله خيراً بدعوتهم، وإعطائهم النسخ من المصاحف المترجمة باللغة الانجليزية، ونشطوا جداً فيما بينهم؛ فانتشر الإسلام فيهم انتشاراً عجيباً، وأسلم الآلاف منهم، ولما كنت في بريطانيا قابلت أحد الإخوة الكنديين، وهو من الإخوة الأفاضل من أهل التوحيد والعلم، وله كتب قيمة جداً كلها بالإنكليزية، وكان يحاضر ويتكلم على قوله تبارك وتعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] فقال: إن هذا البلاء قد يترتب عليه كثير من الخير، كهذا الذي حصل من إسلام الآلاف من المجندين الأمريكان ودخولهم في حوزة الإسلام، وهؤلاء الجنود لما رجعوا إلى أمريكا كونوا منظمة باسم: منظمة العسكريين الأمريكان المسلمين! ويقول هذا الأخ: أنا ذهبت إلى هذه المنظمة حين دعوني وحاضرتهم عن الإسلام. وقد نشرت جرائد الأسبوع الماضي هنا في مصر خبراً نختم به الكلام هو: أن الحكومة الأمريكية أصدرت قراراً بالسماح للمجندات الأمريكيات المنضمات إلى هذه المنطمة بارتداء الحجاب بناء على أن الدستور الأمريكي يكفل حرية الديانة واحترام الأديان إلى آخر هذا الكلام! فهذه هي أمريكا يا من تنظرون إليها بمنتهى الخضوع والخشوع، وكأن لسان حالكم يقول لـ بوش: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين (الله) خراب وهذا هو الواقع!! إذا صح منك - أي: يا بوش - الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تحريم الغيبة وأضرارها

تحريم الغيبة وأضرارها حرم الله عز وجل على المسلم أن يغتاب أخاه، وشبه غيبته بأكل لحمه ميتاً، فلها أضرار كثيرة تعود على الفرد والمجتمع؛ ولهذا كان التحذير منها شديداً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان السلف ينكرون على أصحاب المجالس التي يذكر فيها مساوئ المسلمين وعيوبهم، وكانوا منشغلين بعيوب أنفسهم ومحاسبتها عن عيوب الآخرين.

حرمة الغيبة شرعا

حرمة الغيبة شرعاً إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ثم أما بعد: ففي سورة الحجرات يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:11 - 12]. الموضوع الذي سنتناول قوله تبارك وتعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]. قد يكون الإنسان حشا ذهنه بكثير من المعلومات حول موضوع معين كالموت مثلاً، فهو يعلم أنه سيموت، لكنه يحتاج بين وقت وآخر إلى أن يجدد العهد بالذكرى، ويذكر نفسه بالموت وما بعده، ومحاسبة الله عز وجل إياه، وقد بين الله تبارك وتعالى أهمية هذه الذكرى في قوله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، فأمرنا بالتذكير إن نفعت الذكرى، وبين في آية أخرى من هم الذين تنفعهم الذكرى، فقال عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فالمؤمنون هم الذي ينتفعون بالذكرى، فهم إذا ذكِّروا ذكروا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً، إذا ذُكِّر ذكر) يعني: معرضاً للفتنة والابتلاء والامتحان، (تواباً نسياًَ) يعني: كثير التوبة والنسيان، فتأتي الذكرى لتجدد عهد القلب بنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، ليعود إلى الجادة ويجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن اللسان من أكبر الجوارح التي تحتاج إلى أن تلجم وأن تكبح عن الاسترسال في هذه الآفات المهلكات. فقول الله تبارك وتعالى هنا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، يعني: إن كرهتم أكل لحم الإنسان الميت طبعاً فاكرهوه شرعاً، فإن عقوبته أشد، يعني: هل منكم ذو فطرة سليمة وطبع مستقيم يقبل أن يأتي إلى جثة أخيه وهو ميت، فيقطعها ويأكل منها؟! هل يحب أحد منكم بطبيعته وفطرته أن يقبل من يفعل هذا؟! لا شك أن A لا يوجد إنسان سوي الفطرة يقبل أن يأكل لحم أخيه وهو ميت. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما ضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل للغيبة؛ لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيحة في النفوس. وقال قتادة في تفسير الآية: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حياً. ولم يقل: أيحب أحدكم أن يغتاب أخاه فكرهتموه، وإنما قال: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)، وهذه عادة العرب الجارية في التعبير عن الغيبة بأكل اللحم، يقول الشاعر: فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً

تعريف الغيبة

تعريف الغيبة بين النبي صلى الله عليه وسلم حد الغيبة المحرمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) أخرجه مسلم وغيره. وهنا وضع النبي صلى الله عليه وسلم حداً فاصلاً للغيبة: (هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)، وهذه عادة الصحابة في تأدبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ذكرك أخاك بما يكره)، وذكرك أخاك المسلم بما يكره، إما أن يكون باللسان، أو ما يقوم مقام اللسان، كحركة العين فيغمز بعينه، ويشير بيديه، ويكتب بقلمه، ويخرج لسانه، فأي شيء يقوم مقام اللسان في الغيبة فهو يدخل في قوله: (ذكرك أخاك بما يكره). قوله: (قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟) يعني: استوضح بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هل من الغيبة أنني أذكر أخي بشيء يكرهه، ولا أفتري عليه، إنما هو شيء فيه؟ وهذا لا يزال يقال حتى اليوم، رغم أن هذا منذ أكثر من أربعة عشر قرناً وضحه النبي صلى الله عليه وسلم، لكننا لا نزال نجد من الناس من يذكر نفس هذه الشبهة، فيقول: هذا شيء موجود فيه، وأنا لا أفتري عليه، أو يقول: أنا مستعد أن أواجهه بهذا؛ ليدفع عن نفسه صفة المغتاب. إذا كنت ستواجهه بهذا ستنتقل من وزر الغيبة إلى وزر أذية أخيك المسلم؛ لأنك سوف تواجهه بما يؤذيه، فلم تخرج أيضاً من الأذية، فالفارق أن هذه أذية في غيبته، وهذه أذية في مواجهته، وكلها أذية، فقول بعض الناس الذين يلبس عليهم الشيطان في هذا الأمر: أنا مستعد أن أواجهه بهذا! أنا مستعد أن أقول هذا أمامه! نقول: هذه غيبة في غيبته، أما في حضوره فهذه أذية للمسلم حينما تذكره بما يكره. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذكرك أخاك بما يكره قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) يعني: إن كنت تذكره من وراء ظهره بشيء ليس فيه فهذا بهتان أشد من الغيبة؛ لأنه كذب وافتراء. وروي (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: ما الغيبة؟ قال: أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع)، وفي بعض الألفاظ: (الغيبة: أن يذكر الرجل بما فيه من خلقه)، وفي بعض الروايات: (ما كنا نظن أن الغيبة إلا أن يذكره بما ليس فيه، قال: ذلك من البهتان). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يرحل له) يعني: أنه لا يعتمد على نفسه، فوصفوه بالكسل أو بالضعف، حتى إنه لا يتولى أمور نفسه وإنما يتولاها له غيره، وإذا أراد أن يركب الجمل أو الدابة فإنه لا يضع الرحل والأشياء التي يركب عليها، وإنما لابد أن يخدمه الآخرون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم فوراً لما سمعهم يقولون ذلك: (اغتبتموه، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا بما فيه -أي: ذكرناه بشيء هو فيه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه) يعني: يكفيك من الإثم والوزر أن تذكره بما فيه - مما يكرهه. قال الراغب: الغيبة أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك، يعني: بدون سبب يحوجه إلى أن يذكر ذلك؛ لأن هناك حالات يجوز فيها أن يذكر الإنسان بما فيه. وقال ابن الأثير: الغيبة: أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه. وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى تبعاً للغزالي: الغيبة ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خَلقه أو خُلقه أو ماله أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز. فكلما يمس المسلم وعرضه فإنه يدخل في حد الغيبة، أن تذكره بما يكرهه، ليس فقط في نفسه، وإنما في أي شيء يختص به في شكله بدنه دينه دنياه خُلقه ملابسه طريقة كلامه طريقة مشيته أولاده زوجته بيته دابته سيارته ثيابه حركته عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق بالشخص، فالتعرض بذكره سواء باللفظ الصريح أو بالإشارة أو بالرمز كله من الغيبة؛ لأن هذا انتهاك لعرض المسلم، والعرض لفظ أوسع بكثير مما يظن بعض الناس؛ لأن بعض الناس يتصور أن العرض هو ما يتعلق بالتعفف عن الفواحش كالزنا ونحو ذلك، لا، العرض هو كل موضع قابل للذم أو المدح في الإنسان، فأي شيء فيك يقبل المدح والذم فهو عرضك، مثل الأمثلة التي ذكرناها. وتحريم النيل من عرض المسلم أصل شرعي متين معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وحفظ العرض أحد الضروريات الخمس التي شرعت من أجلها الشرائع، فمن مقاصد الشريعة العليا حفظ العرض، وقد خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مجمع يزيد على مائة ألف نفس من صحابته الأبرار في حجة الوداع، فقال في هذه الخطبة: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟!) والأعراض: جمع عرض، وهو موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يكون من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب.

الأدلة الواردة في تحريم غيبة المسلم

الأدلة الواردة في تحريم غيبة المسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه). ونظر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك. وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: (يا رسول الله! إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها) يعني: هي مشهورة جداً بالاجتهاد بكثرة الصلاة والصيام والصدقة، لكنها تفعل ذنباً واحداً فقط مع كثرة الصلاة والصيام والصدقة، قال: (غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال صلى الله عليه وسلم: هي في النار، قال: يا رسول الله! فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط -وهي قطع من الأقط وهو اللبن المجفف- ولا تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: هي في الجنة). وعن سفيان بن حسين قال: كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل تخوفت إن قمت من عنده أن يقع في، قال: فجلست حتى قام، فلما ذكرته لـ إياس فجعل ينظر في وجهي فلا يقول لي شيئاً حتى فزعت! يعني: جعل يحدق فيه ويستغرب كيف أنه تجرأ أن يتكلم على أخيه بعدما قام من المجلس، فانزعج من ذلك جداً، فقال لي: أغزوت الديلم؟ قلت: لا، قال: فغزوت السند؟ قلت: لا، قال: فغزوت الهند؟ فقلت: لا، قال: فغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: فسلم منك الديلم والسند والهند والروم ولا يسلم منك أخوك هذا! فلم يعد سفيان إلى ذلك، يعني: تاب من أن يتكلم في أحد. وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، ولا شك أن هذه الضمانة الجسيمة لا تعلق إلا على أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فضمان الجنة لا يكون إلا على شيء عظيم جداً ولا شك أن أعظم ما يهلك الناس هما الأجوفان: الفم والفرج، ولذلك قال النبي عليه السلام: (من تزوج فقد أعانه الله على على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني) أو كما قال، فنصف النجاة في الفرج، والنصف الآخر في اللسان، فمن استقام له هذان ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، فلا يمكن أن تعلق هذه الضمانة الجسيمة إلا على أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحداً عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي رحمه الله: كل منهما -أي: الغيبة والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة هل هي كبيرة أو صغيرة، ونقل الإجماع على أنها كبيرة، وقال آخرون: محله إن كانت في طلبة العلم وحملة القرآن، وإلا كانت صغيرة، يعني: أن بعض العلماء قالوا: إنها تكون كبيرة إذا كانت الغيبة في حق طلبة العلم أو حملة القرآن العظيم، وإن كانت في غيرهم فهي صغيرة. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حبسك من صفية كذا وكذا)، يعني: هي تشير بيدها تريد أن تقصد أنها قصيرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)، هذه كلمة خلطت بماء البحر لتعكر منها ماء البحر، فهذا يدل على أن الغيبة من الذنوب التي يقول الإنسان فيها كلمة لا يلقي لها بالاً قد تهوي به في النار سبعين خريفاً، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أتدرون ما هذه الريح؟! هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين) وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)، فلو كشفت الحجب، وشمت ريح الذين يقعون في الغيبة؛ لظهرت منهم هذه الرائحة التي ظهرت في ذلك الوقت. وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: (هاجت ريح منتنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناساً من المنافقين اغتابوا ناساً من المسلمين فبعثت هذه الريح لذلك). وقد يعرض Q إذا كان في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ظهرت هذه الريح وتبينت، فما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتبين في يومنا هذا؟! A لأن الغيبة كثرت الآن، وامتلأت الأنوف منها فلم تتبين للأنوف نتنها، ومثال هذا لو أن رجلاً دخل دار الدباغين الذين يدبغون الجلد، فإنه لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام ويشربون الشراب، ولا تتبين لهم الرائحة؛ لأنه قد امتلأت أنوفهم منها، وكذلك الغيبة في عصرنا شاعت جداً، فالناس يشتركون في تنفس الهواء المسموم، فما يكادون يحسون بنتن الغيبة. وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)، يعني: كما أنه يتتبع عورات الآخرين يفضحه الله ولو في جوف بيته؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، وبلى) أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هذين الرجلين الميتين المدفونين يعذبان في قبريهما، فقال: وما يعذبان في شيء يكبر عليها أن يحترزا منه، بل هو بسبب معصية كانا يرتكبانها، وكان يسهل عليهما جداً أن يحترزا منها، ولم يكن يشق عليهما تركها؛ لأن الإنسان إذا نهي عن شيء فإنه قد لا يشق عليه تركه، وقد يفرض على الإنسان أن يترك بعض المعاصي كالمستلذات من الشهوات أو المطعومات أو المشروبات ويشق عليه تركها؛ لأنها مستلذة، فمن المنهيات ما يشق تركه كالمستلذات، ومنها ما ينفر الطبع منه كالسموم والنجاسات، فهذه الأشياء الإنسان ينفر منها بطبعه، ومن المنهيات التي لا يشق على الإنسان تركها: الغيبة، قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) قال بعض العلماء: يعني: في كبير في زعمكم أنتم، تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، ففي نظركم تستحقرون هذا الذنب، لكنه عند الله كبير وعظيم. وقوله: (بلى) يعني: حقاً إنه كبير يعاقب الله عليه، وقد عاقبهما سبحانه في القبر بعد موتهما بسبب هذين الذنبين، ثم قال: (فأيكم يأتيني بجريدة؟! فاستبقنا فسبقته، فأتيته بجريدة فشقها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة، وعلى ذا القبر قطعة، قال: إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول) والغيبة معروف معناها، والبول المراد به: أنه كان لا يستنزه من البول، وكان يهمل أمر التطهر من البول. وعن جابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتأذى من البول). وصح عن قتادة رضي الله عنه قال: (ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث، ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس -يعني: أظفار نحاسية- يخمشون -يعني: يخدشون ويعذبون أنفسهم- يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل -يعني: غاب عن المجلس- فوقع فيه رجل من بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخلل -من التخلل وهو استعمال الخلال لإخراج ما بين الأسنان من بقايا الطعام- فقال: ومم أتخلل وما أكلت لحماً؟ قال: إنك أكلت لحم أخيك). وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يمتلئ بطنه، خير من أن يأكل لحم رجل مسلم.

تحذير السلف من آفة الغيبة

تحذير السلف من آفة الغيبة الغيبة ضيافة الفساق كما قال بعض السلف، الضيافة هي ما يقدم للضيف، فالفساق يقدم بعضهم لبعض في المجالس لحوم الناس ليأكلوها بدل المشروبات والأطعمة.

كلام إبراهيم بن أدهم رحمه الله في ذم الغيبة

كلام إبراهيم بن أدهم رحمه الله في ذم الغيبة عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنه أضاف ناساً، فلما جلسوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً؛ فقال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، فأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز، يشير إلى قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات:12]، فبدل أن يبدءوا بالخبز بدءوا أولاً بلحم الناس بغيبتهم. وعن ابن سيرين: أنه ذكر الغيبة فقال: ألم تر إلى جيفة خضراء منتنة؟ هكذا يكون المغتاب.

كلام سفيان الثوري في ذم الغيبة

كلام سفيان الثوري في ذم الغيبة عن محمد بن عبيد الطنافسي قال: كنا عند سفيان الثوري فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله! أرأيت هذا الحديث الذي فيه: (إن الله ليبغض أهل البيت اللحميين)، وهذا ليس حديثاً مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولعلها كلمة أو مثل شائع بين الناس، قال: هل هم الذين يكثرون أكل اللحم؟ قال: سفيان: لا، هم الذين يكثرون أكل لحوم الناس، هؤلاء هم اللحميون. وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب آخر فقال: إياك والغيبة! فإنها إدام كلاب الناس. وعن عبد العزيز بن أبان أن سفيان الثوري رحمه الله قال: إياك والغيبة! إياك والوقوع في الناس فيهلك دينك. وسئل بشر بن الحارث عمن يغتاب الناس، أيكون عدلاً؟ قال: لا، إذا كان مشهوراً بذلك فهو الوضيع. وقال الفضيل: سمعت سفيان يقول: لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إلي من أن أرميه بلساني.

كلام الحسن البصري في ذم الغيبة

كلام الحسن البصري في ذم الغيبة قال الحسن: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده، يعني: أن الغيبة أسرع في إفساد دينه من الأكلة إذا ضربت جسده، وهي تآكل في الجسد، والغيبة تكون بالقول، وتكون بغيره.

كلام الإمام الغزالي في كل ما يدخل في الغيبة

كلام الإمام الغزالي في كل ما يدخل في الغيبة يقول الغزالي رحمه الله تعالى: الذكر باللسان إنما حرم؛ لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكره، يعني: الغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره، ويكون ذلك باللسان أصلاً، لكن قد يقوم غير اللسان مقام اللسان في توصيل هذه الرسالة، وهي انتقاص أخيك أو ذكره بما يكره، فسر تحريمها باللسان أن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وفيها تعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول مثل الإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، فكل ما يفهم منه المقصود داخل في الغيبة وهو حرام.

كلام الإمام النووي في ذم الغيبة وضابطها

كلام الإمام النووي في ذم الغيبة وضابطها قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: إن الغيبة ذكرك الإنسان بما يكره، سواء ذكرته بلفظك أو في كتابتك، أو رمزت أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك، وضابطه: كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرمة، ومن ذلك المحاكاة، وهي: أن يقلده في مشية أو حركة أو في طريقة كلامه، فالمحاكاة كأن يمشي متعارجاً أو مطأطئاً أو على غير ذلك من الهيئات، مريداً بذلك حكاية هيئة من يتنقصه، فكل ذلك حرام بلا خلاف، وقد يحمل بعض الشباب الترفيه عن أنفسهم على مثل هذه الأشياء، فتجده يقلد شيخاً معيناً أو يقلد خطيباً في حركته أو طريقة صوته، ويقصد بذلك الاستهزاء، فهذا من الغيبة المحرمة، وهذا في طلبة المدارس والجامعات شائع جداً، كسخرية الطلبة من أساتذتهم، وهو من سوء الخلق ومن نكران المعروف الذي يسديه إليه أستاذه، حتى الذي يعلمك علماً دنيوياً له حق عليك، ولا ينبغي الاشتغال بغيبته. وبعض الناس عندهم هواية نقد الخطباء، فبمجرد أن يخرج من صلاة الجمعة يبدأ في الغيبة، مع أن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، فتكون أول القسيمة غيبة خطيب الجمعة، فيبدأ الأسبوع بالغيبة؛ والمفروض أن صلاة الجمعة تقوي عنده شحنة الإيمان والورع بعد خطبة الجمعة، لأنه سيبدأ يعد نفسه إلى الأسبوع الآتي، فلما يكون العد بادئاً بمصيبة الغيبة، إذاً بعدها بيوم ويومين سيعمل أعظم من ذلك، فالمفروض أن الإنسان بعد صلاة الجمعة يكون في أعلى درجات الاستعداد للاحتراز عن المعاصي؛ لأنه مازال أمامه أسبوع، فينبغي أن يكف الإنسان عن مثل هذا؛ لكن هناك هواية عند بعض الناس وهي النقد وغيبة الخطباء والكلام عليهم بمجرد ما يخرج من الخطبة، فهذا بلا شك مما لا ينبغي. يقول الإمام النووي رحمه الله: ومن ذلك إذا ذكر مصنف كتاب بعينه غمزة في كتابه قائلاً: قال فلان: كذا، مريداً تنقصه والشناعة عليه، فهذا حرام، يعني: إذا كان يريد التنقص والتشنيع، لكن إن أراد بيان غلطه وبيان الحق، لا التشنيع، حتى لا يقلد، أو ليبين ضعفه في العلم، حتى لا يغتر به ويقبل قوله؛ فهذا ليس بغيبة، بل نصيحة واجبة يثاب عليها إذا أراد ذلك. وإذا قال المصنف أو غيره: قال قوم أو جماعة كذا، أو هذا غلط أو خطأ أو جهالة وغفلة ونحو ذلك؛ فليس بغيبة؛ لأن الغيبة ذكر الإنسان بعينه، أو ذكر جماعة معينين. ومن الغيبة المحرمة قولك: فعل بعض الناس كذا أو بعض الفقهاء أو بعض من يدعي العلم أو بعض المفتين أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو يدعي الزهد، فإذا كان المخاطب الذي تخاطبه يفهم من الذي تقصده فهذه غيبة، وكأنك عينت اسمه، وهذا من الذي تقصده، فهذا من ذكرك لهذا الشخص بما يكره، وإن لم تذكره باسمه، لكونك ذكرت من صفاته ما يجعله متعيناً عند المستمعين. ومن ذلك غيبة المتفقهين والمتعبدين، فإنهم يعرضون بالغيبة تعريضاً يفهم به كما يفهم بالصريح، فهو يؤدي إلى نفس الغاية، وهي التنقض وذكر المسلم بما يكرهه، فمثلاً يقال لأحدهم: كيف حال فلان؟! فيقول: الله يصلحنا، الله يغفر لنا وله، ربنا يصلحه، نسأل الله العافية، والظاهر أنه يريد الورع والتحرر من الغيبة من عدم التصريح في تنقصه، والظاهر أنه أيضاً يدعو له، لكن في الحقيقة هذه غيبة؛ لأنه يقصد بقوله: ربنا يعافينا، ربنا يكفينا شر الدنيا، ونحو ذلك؛ التنقص لأخيه المسلم. فينبغي الاحتراز؛ لأن الشيطان يلبس على العباد الذين ليس عندهم علم بهذه الطريقة، فيغتاب بقوله: الله يصلحنا، الله يغفر لنا، الله يصلحه، نسأل الله العافية، نحمد الله الذي لم يبتلينا بالدخول على الظلمة، الله يعافينا من قلة الحياء. هو يسأل: كيف فلان؟ ما أخباره؟ فيقول: الله يتوب علينا، وهو ما اغتابه في الظاهر، لكنه يقصد بذلك التنقص، وما أشبه ذلك مما يفهم منه تنقصه، فكل ذلك غيبة محرمة، وكذلك إذا قال: والله كلنا مذنبون وكلنا مقصرون، فهو يريد أن يعمم من أجل أن يخفف الجريمة، لكن بلا شك أنه قد أوصل رسالة في ذم أخيه، وبيان أنه سيئ، ومثله أن يقول: والله نحن كلنا بشر، وكلنا مبتلون كما ابتلي فلان، ويظن أنه عندما يتكلم بهذه الصيغة يخفف من جريمته، أو يقول مثلاً: كلنا نفعل هذا الشيء، وهذه أمثلة، وإلا فضابط الغيبة تفهيمك المخاطب نقص إنسان.

كلام شيخ الإسلام في ذم الغيبة

كلام شيخ الإسلام في ذم الغيبة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، يعني: يجلس في مجلس فيساير أهل المجلس، ولا يريد أن يخالفهم فتحصل بينه وبينهم الوحشة، فيساير الناس ويوافقهم كالإمعات، يكون مع الناس حيث كانوا، إن أساءوا يسيء معهم، وإن أحسنوا يحسن معهم، فهو تابع وذيل وموافق ومساير لما عليه أهل المجلس، فلا يريد أن يوحشهم بترك المشاركة في هذه الوليمة التي هي ضيافة الفساق. يقول شيخ الإسلام: فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض مما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس، واستثقله أهل المجلس ونفروا منه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم ويخوض معهم، ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، لكن أنا أخبركم بأحواله. وهذه المقدمة لا تغني عنه شيئاً؛ لأنه بالفعل سيتورط في الغيبة، فيقول مثلاً: والله هذا مسكين، والله هذا رجل جيد، ولكن يفعل كذا وكذا، أو فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، ما نحب ذكر سيرة الناس، الله يغفر لنا وله، وهذه العبارة تفهم أيضاً التنقيص والاستنقاص وهضم جناب أخيه، فيخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك! يقول شيخ الإسلام: وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، ومنهم من يرفع غيره رياءً، يعني: يتصنع إبداء الشفقة والرحمة على أخيه، ففي الظاهر يبين لك أنه مشفق عليه، لكن هو يريد اغتيابه، ثم يتصنع بالدعاء له عند إخوانه، ومن ذلك قوله: فلان حبيب! فلان طيب! أو طيب القلب! وهو يقصد بكلمة طيب أنه مغفل، والسياق يبين ذلك، وأحياناً يقولون: درويش، ويريد أنه يخدع بسرعة، فكلمة: قلبه طيب قد تكون مدحاً، لكن أحياناً السياق يوحي أنه يراد بها أنه يستغفل. يقول شيخ الإسلام: ومنهم يرفع غيره رياء، فيرفع نفسه فيقول: لقد دعوت البارحة في صلاتي لفلان، وأنا كنت أدعو له بالأمس في الثلث الأخير، وفي السحر دعوت لفلان لما بلغني عنه كيت وكيت، والذي يفعل كذا وكذا، فهو في الحقيقة يرفع نفسه، وفي الظاهر أنه يتكلم كلاماً طيباً، لكن هو يرفع نفسه ويرائي ويجهر بعمل السر، وعمل السر لا يجهر به. يقول مثلاً: في ثلث الليل الأخير من صلاتي دعوت لفلان؛ لأنه يفعل كذا وكذا، والظاهر أنه يريد له الخير، لكن هو يريد أن يرفع نفسه، ويضع أخاه ويحقره أو يقول: فلان بليد الذهن قليل الفهم، ومعنى هذا أن المتكلم أكثر ذكاء وأعلم وأفضل منه. يقول شيخ الإسلام: ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة، فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص في حضوره أزال عنه ذلك بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليثبت ذلك عنه. يعني: هو يغتاب لينفس عن الحسد الذي يملأ قلبه على خلق الله سبحانه وتعالى، والحسد خلق لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان، فالمؤمن لا يمكن أن يحسد، فالحسد قرين الكفر، فهو من أخلاق الكافر، خاصة إذا كان في أمور الدين، فهذا من أقبح أنواع الحسد. وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) ليس هذا هو الحسد المذموم، وإنما المقصود به الغبطة، وهي أن تتمنى مثل ما لأخيك من الخير، فهذا لا حرج فيه، فهو جائز، أما الحسد: فهو أن تتمنى زوال نعمته، فالحاسد عدو نعم الله سبحانه وتعالى، ولا يرضيه من أخيه إلا أن تزول عنه نعم الله عز وجل. وإن كان الحسد قبيحاً في حق من يتنافسون على الدنيا فإنه ليس له أي مسوغ أو مبرر فيما بين أهل الدين وطلبة العلم، ونحن نسمع عن بعض طلبة العلم الديني فضلاً عن العلم الدنيوي صدور نوع من الأنانية الغريبة، والتحاسد في طلب العلم، وطلب العلم إنما يراد به النجاة في الآخرة، والجنة واسعة جداً، وفسيحة تسع كل خلق الله سبحانه وتعالى، بل سيبقى فيها أماكن زائدة، فيخلق الله سبحانه وتعالى خلقاً يملئونها، فهي أكبر مما نتخيل قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] هذا عرضها فما بالك بطولها، فالجنة واسعة، فيقبح بالمؤمن أن يحسد أخاه في الدين، فعليك أن تخرج كل الناس من الظلمات إلى النور بما تستطيع، وتزيدهم في الطاعات، فالعجيب جداً أن يوجد بعض أنواع من التحاسد في الدين، وخاصة بين طلبة العلم، فمثلاً: شخص يقف على كتاب مهم يخبئه ولا يظهره لإخوانه! لا يجوز هذا، تأملوا قول الله سبحانه وتعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، وغيرها من الآيات التي يعاتب الله عز وجل فيها نبيه صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على إيمان الكفار، وشدة حزنه على عدم استجابتهم، حتى كاد أن يموت من الحسرة والحزن عليهم {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] ومثال هذا كشخص يريد أن يودع أحب إنسان إليه وقد ركب القطار، ثم بدأ القطار يتحرك ليسافر بهم سفراً بعيداً، فهو يريد أن يتحدث مع هذا الشخص الذي هو أحب إنسان إليه، ابنه أو أخاه أو صديقه، فإذا بالقطار يتحرك وهو يمشي معه، ويتبعه على آثارهم، ولا يريد أن يستسلم، وإلى آخر فرصة يحاول أن يسلم عليه أو يوصيه بوصية أو يعطيه متاعاً، ولا يفارقه بسرعة، فيظل يجري مع القطار من الخارج، فهذه صورة قريبة جداً تبين شفقة النبي عليه السلام وعاطفته تجاه الكفار وصناديد الكفر الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] يعني: هم يمشون وأنت تجري وراءهم، وتتحسر وتحزن، وتحريص على أن تجتذبهم إلى الإيمان، وهم ينفرون منك، وأنت تتبعهم وتغتنم كل فرصة ممكنة، وتجري وراءهم (على آثارهم)، وتكاد تهلك من الحزن والحسرة والأسف؛ لأنهم لم يؤمنوا، فالله سبحانه وتعالى دائماً يواسيه، ويأمره أن يخفف عن نفسه حتى لا يهلك نفسه حسرة على هؤلاء الكفار، لأنه يدعوهم إلى الجنة والنجاة! فيجب أن تفرح لأخيك إذا كان مجتهداً في الطاعات، وإذا ازداد من طلب العلم، وإذا كان عندك بحث أو كتاب أو مرجع أو أي شيء يعينه على طلب العلم، فعليك أن تبذله له ابتداء فضلاً عن أن يطلبه منك فتخبئه أو يأتي شيخ عنده أسانيد وكذا وكذا فيخفي أمره! فبعض الشباب يجدون شيخاً في مكان فيسكتون حتى لا يعلم باقي إخوانهم بدروس الشيخ، فيأتون ويسمعون منه الحديث ويتعلمون منه العلم، فهذه نفسية أناس يريدون الدنيا، فالذي يريد الآخرة لا يحسد في العلم أحداً حسداً مذموماً، والذي يفعل هذا هو يريد الرياء، ويريد السمعة والجاه، وهذه كلها من أعراض الدنيا، فهذا طالب دنيا وليس بطالب علم شريف، فطالب العلم الشرعي يؤثر إخوانه بالعلم، ويبذل لإخوانه النصح، ويحرص على ما ينفعهم. ونحن نرى كثيراً من هذه الأخلاق في بعض التجمعات الطلابية لاسيما في غير العلوم الشرعية، في طلبة الكليات أو البحوث والدراسات، فيحصل عندهم نوع من التنافس والحسد، فيخبئ أحدهم شيئاً من الملخصات والبحوثات عن إخوانه! فهذه النفسيات الغربية العجيبة لا يمكن أن تكون تأدبت ولا تهذبت بأخلاق وآداب الإسلام، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فإن كان هذا قبيحاً في طلاب علوم الدنيا فهو أقبح وأشر في طلاب علوم الآخرة والجنة، فالذي يريد الجنة يحب الجنة لكل الناس. أما الذي يحسد ويحب زوال النعم على الناس فهذا لا يمكن أن يكون مجداً للآخرة، هذا طالب دنيا، وإنما يتستر وراء الدين، لكن هو في الحقيقة يريد الدنيا، فإن كنت صادقاً في حب الله وحب رسوله فينبغي للصادق أن يحب أن يكون كل الناس طائعين لله، وكل الناس مقيمين للصلاة، وكل الناس يتعلمون العلم الشرعي ويستفيدون منه. فمريد الآخرة يبذل ويضحي ويؤثر على نفسه، ويحب أن يكون كل الناس مطيعين لله عز وجل، لا أن يحسد أو يخبئ عن إخوانه أمور الآخرة، هذه إشارة عابرة فيما يتعلق بوباء الحسد بين بعض الفئات القليلة من طلاب العلم الشرعي. يقول شيخ الإسلام: ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص في مجلس لا يتحمس، ولابد أن يدفع هذا الإحسان وهذا الثناء بأي صورة من صور التنقص، ويأتي بها في قالب دين وصلاح: نسأل الله العافية، هو رجل طيب، لكن كذا وكذا وكذا، أو لا يستطيع أن يخرجه من قالب دين وصلاح فيأتي به في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط عنه ثناء الناس. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به. وهذا خلق سيء لا يليق بالمسلم أبداً، لاسيما مع المدرسين، والآن يعتبرون أن هذا الموضوع جائز، وليس فيه أي ذنب، فيسخر منه وكأنه يشرب كوباً من الماء، وكأن المدرس ليس له أي حرمة، وإنما جريمته أنه مدرس يعلمه وينفعه، فما يكاد يشعر أحد بأن هذا إنسان مسلم محترم له حرمة، ويجب أن يصان عرضه، ولا ينبغي أن يقابل الإحسان بالإساءة، حتى لو كان يعلمه علوماً دنيوية مباحة فلا ينبغي أن يقابل هذا الإحسان بالغيبة، فنجد التنقص الشديد للمدرسين، والاستهزاء بهم أو تقليدهم ومحاكاتهم، وهذا تعرفونه جميعاً. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت! ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت! وكيف فعل كيت وكيت! فيخرج الغيبة في معرض التعجب. ومنهم من يخرج الغيب

كلام الحارث المحاسبي في ذم الغيبة

كلام الحارث المحاسبي في ذم الغيبة يقول الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى: إن علم إبليس أنك حذر خائف في كثير من أحوالك، لم يبدأ صاحبك بالتزين له بالغيبة والكذب، إن علم أنك من ذلك نافر وله مجانس، ولكن يدعكما أنت وصاحبك، مادام أنكما لا تريدان أن تتكلما في الغيبة، حتى إذا ذكرتما الله عز وجل، واستأنست قلوبكما، زين لكما فضول الكلام والراحة إلى الدنيا، فإذا خضتما في ذلك زين لكما الغيبة، فإن كنتما من الخائفين في كثير من أموركما أجرى الغيبة من قبل الغضب لله عز وجل أو التعجب أو الإنكار أو التوجع لمن تغتابانه. وهذه فتنة شائعة خاصة في أهل الدين، وهي إظهار الغيبة بحجة أنه يغضب لله عز وجل، فيقول: هذه غيرة على الدين، والغيبة جائزة في ستة أحوال وهي كذا وكذا وكذا، وهو يقصد به التشفي! فمشكلتنا أننا دائماً نبدأ من حيث انتهى الشرع، أقصى منطقة يؤاخذ فيها الشرع تكون بالنسبة لنا نقطة تشريع، وننطلق بعدها إلى بعيد جداً عن حدود الشرع، فالنصيحة للإخوة عموماً ترك الغيبة، وبعض البلاد قد اكتوت بنيران هذه الفتن، فحصدت الدين وحلقته كما تحلق الرءوس، يدخل لهم الشيطان من هذه الثغرة، فيقولون: نحن نغضب للمنهج والدفاع عن السلفية، والرد على أهل البدع إلى غير ذلك من هذه التزيينات الشيطانية، ويصبح من هذه الثغرة ينطلق الشيطان يفعل مفعوله، والذي لا يستطيع أن يضبط لسانه ولا قلمه فننصحه أن يكف وينسى أن هناك رخصاً في الغيبة؛ لأن مشكلتنا أننا أصلاً متمادون في هذا الذنب، ومترخصون فيه جداً، فينبغي الحذر من ذلك، وعدم الإنصات لمن يدعون أنهم يدافعون عن المنهج، وأنهم يدافعون عن كذا وكذا، وهم بسلوكهم إنما يقصدون تنقص خلق الله سبحانه وتعالى.

مستمع الغيبة والمغتاب مشتركان في الإثم

مستمع الغيبة والمغتاب مشتركان في الإثم مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ماعز - فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات يقول: أتيت امرأة حراماً، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الحديث إلى أن قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني) ومعروف أنه إذا بلغ الحد الإمام فلا رجوع فيه، وهنا Q من أتى ذنباً يستوجب حداً في مثل هذا الزمان الذي لا تقام فيه الحدود إلا نادراً في بعض البلاد، هل يعمل مثل ماعز. A لا، حتى لو كان في مجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم -الذين هم خير أمة أخرجت للناس-، فلو كانت الحدود تقام فليس على كل من فعل ذنباً أن يذهب إلى الخليفة ويعترف عنده ليقام عليه الحد، بل الواجب عليه أن يستر نفسه حتى في ظل الدولة الإسلامية التي تقيم الحدود، وهو يكافأ إن ستر على نفسه في الدنيا أن يستر الله في الآخرة، فيقرره الله بذنوبه يوم القيامة فيقول له: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فإذا ظن أنه هالك لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى له: (فأنا أسترها عليك اليوم كما سترتها عليك في الدنيا)، فإن الله سبحانه وتعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، ومن أعظم ما يحبه أن يستر العبد على نفسه وعلى إخوانه. فإذا ابتلي الإنسان بشيء من هذه المعاصي أو القبائح فينبغي أن يستر على نفسه ولا يحدث بذلك أحداً، وقد جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، والمجاهرون هم الذين يأتي أحدهم الذنب بالليل فإذا أصبح يهتك ستر الله عليه ويقول: قد فعلت كيت، ويحكي للناس ما فعل، فهذا يعاقب بأن الله لا يغفر له ولا يعافيه؛ لأنه ضاد الله فيما يحبه، فالله ستير يحب الستر، وفي الحديث: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فينبغي الاهتمام بهذا الأمر، حتى ولو في ظل دولة الخلافة الإسلامية، فالعاصي غير مطالب بأن يذهب للإمام ويهتك ستر نفسه، لكنه مطالب طلباً أكيداً أن يستر على نفسه، ويرجو رحمة الله وعفوه، وإن جهر بذلك وفضح نفسه فإنه يعاقب، فإذا بلغت توبته إلى هذا الحد، وحرص على أن يطهره الله، وبلغ الإمام ذنبه؛ فلا رجوع في الحد، لذلك لما اعترف ماعز بالزنا أراد النبي عليه السلام أن يدفع عنه ذلك فقال له: (لعلك فعلت كذا أو كذا)، بما هو أخف من الفاحشة، فأقر وصرح تصريحاً لا لبس فيه بأنه أتى بالفعل هذا الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجيفة حمار شائل برجله -والشائل: هو كل ما ارتفع، والارتفاع ينشأ من التعفن والغازات في داخل أمعاء الحمار فتتراكم فترفع الرجلين، فالعضلات تتصلب، والغازات تدفعه من شدة التعفن- فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: ها نحن يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة) وقوله: (أشد) بصيغة أفعل التفضيل، فما وجه هذه التفضيل؟ معناه أن الذنب الذي ارتكبتماه بغيبة هذا المسلم الذي أقيم عليه الحد وطهر منه أشد عند الله سبحانه وتعالى من أكل جيفة الحمار المتعفن؛ لأن من يأكل جيفة الحمار لا يكون قد آذى مسلماً، لكن من وقع في الغيبة فقد آذى مسلماً، وانتهك عرضه، وانشغلت ذمته بحقوق العباد، فهذا خير ممن يأكلون لحوم البشر! وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كلا من جيفة هذا الحمار) فخاطب المتكلم وجليسه، وقال: (ما نلتما)، استعمل صيغة المثنى، مع أن الذي اغتاب كان واحداً، لكن الآخر استمع وأقر ولم ينكر عليه، فهذا نذير خطر؛ وما أكثر ما يجلس الإنسان في مجالس آكلي لحوم البشر! وهذه بلية موجودة حتى في أهل الدين والطاعة، كيف تجلس في مجالس الغيبة وتسكت وتقر، إما أن تزيل المنكر وتنكر على هذا المتكلم وإما أن تترك المكان وتفارقه، وإن كنت لا تقوى على هذين الأمرين فاتق مخالطة الناس ما استطعت، فإن من أكثر المخالطة لا يكاد يسلم في هذا الزمان من الوقوع في الغيبة. والمغتاب لو أنه في كل مجلس يجد من يزجره أو يهجره ويترك المجلس؛ لانتبه وأحس بجريمته، فإن كان لا يستحي من الله فقد يخشى هجرة الناس إياه، فلو أنه في كل مجلس وجد من يزجره لتوقف عن الغيبة وانتهى عنها، لكن نحن نساعده بالسكوت والإقرار إن لم يكن بالمشاركة والمؤازرة. إذاً: هذا الحديث دليل على أن الذي يسمع المنكر ويسكت ويقر كمرتكب الجريمة، وكلاهما سواء في الوزر؛ ولذلك قال: (كلا) وقال: (ما نلتما من عرض أخيكما) فنسب الوزر إليهما جميعاً. ومثله قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14] هل عقر الناقة كل القبيلة أم واحد؟ هو واحد، لكن الباقون كانوا مقرين وموافقين، فنسب الفعل إليهم أجمعين. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم نوم بيتكم -يعني: أن نومه يشبه نوم البيت لا نوم السفر، يريد بذلك أن يعيبه بكثرة النوم، يعني: أنه ينبغي له في حالة السفر أن ينام نوماً خفيفاً ويكمل الرحلة- فلما تأخر عن إعداد الطعام لهما، قال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم -يعني: يوافق- نوم بيتكم، فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك -يعني: يطلبان منك الإدام، وهو ما يؤكل مع الخبز- فلما ذهب الرجل الخادم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فقال الرسول رداً عليه: إنهما قد ائتدما، فلما رجع وأخبرهما فزع أبو بكر وعمر وجاءا مسرعين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟! قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه بين أنيابكما)، وفي رواية: (والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه من ثناياكما، قالا: فاستغفر لنا، قال: هو فليستغفر لكما) يعني: صاحب الحق هو الذي يطلب عفوه، ويستغفر لكما. فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما)، وقوله أيضاً: (بين أنيابكما)، وقوله: (هو فليستغفر لكما)، كل هذا يدل على أنهما سواء في الوزر، مع أن الذي تكلم واحد، والآخر لم ينكر عليه. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخش ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: اسكت وهو يشتهي بقلبه استمرارها -ويحب أن يزود الكلام ليتشفى، خاصة إذا كان بينه وبينه عداوة، ويقول ذلك نفاقاً؛ لا يخرجه عن الإثم، ولابد من كراهته بقلبه، يعني: لو كان يشتهي الزيادة، فمعنى ذلك أن قلبه يحب المعصية، ومعلوم أن إنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، لا يعذر فيه أحد أبداً، لكن الإنكار باللسان وباليد أحياناً لا يستطيعه الإنسان، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ثم سكت بعده؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، لكن قال: (وذلك أضعف الإيمان)، فلابد أن يكره المسلم الإثم بقلبه، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإنكار أو أنكر فلم يسمع منه ولم يمكنه المفارقة بطريق؛ حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، وفي هذه الحالة طريقه: أن يذكر الله تعالى بلسانه أو بقلبه، ويفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرون في الغيبة وجب عليه المفارقة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. وعن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له: نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه

أهمية الاشتغال بعيوب النفس

أهمية الاشتغال بعيوب النفس من الأمور المهمة جداً التي تعين الإنسان على أن ينشغل عن الغيبة ويبرأ منها: أن يشتغل بعيوب نفسه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) القذى: هو ما يقع في العين أو الماء أو الشراب من التراب أو التبن أو القش أو أي شيء من هذا، هذا هو القذى، ودائماً يكون شيئاً صغيراً، أما الجذع فهو واحد جذوع النخل، وهو كبير بالنسبة للقذى، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: إنك تنشغل بعيب الناس مع أن فيك ما هو أخطر وأشد جسامة من عيب أخيك، فإذا أردت أن تنتقد أخاك في الإسلام، وتدقق حتى ترى منه أدق العيوب وتنتقد من أجلها، ففي عينك الجذع ولا تراه، لكنك تدقق في رؤية عيب أخيك! فالإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس، لكف عن أعراض الناس وسد الباب إلى الغيبة، ومعروف في علم النفس حيلة الإسقاط، والإسقاط: إنسان يشعر بنقص معين أو هو يعمل ذنباً معيناً فيدافع لا شعورياً عنه، حتى يبرئ نفسه من هذا الذنب، فيرمي به الآخرين، والمولع بذم الناس فيه عيوب، لكن هو لا شعورياًَ يحاول أن يدفعها عن نفسه، وينفيها بأن ينتقص الآخرين، فلو علم ذلك لأدرك أنه إذا أكثر ذم الناس فهو يكشف عن العيوب المستكنة في نفسه. يقول بعض العلماء: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينه عن عيبه عمى هو أعمى عن عيب نفسه، لكن بصره حاد عندما يريد أن يرى عيوب الآخرين!

كلام السلف في الاشتغال بعيوب النفس

كلام السلف في الاشتغال بعيوب النفس يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، ومن سنة القتال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123]، فابدأ بالعدو الأقرب عن العدو الأبعد، فنفسك التي بين جنبيك هي العدو الأول أو الأقرب إليك، فاجتهد بمجاهدتها أولاً. يقول: وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، يقول الشاعر: المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه كما يقول الشاعر أيضاً: لا يشفي كلوم غيري كلومي ما به به وما بي بي الجراح التي في غيرك تؤلمك أكثر أم الجرح الذي في جسدك وفي بدنك؟! جراح غيرك لا تشفي جراحك أنت، وكل بجرحه. وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ذكروا رجلاً فقال: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك. قال أبو البحتري العنبري: يمنعني من عيب غيري الذي أعرفه عندي فوق العيب عيبي لهم بالظن مني لهم ولست من عيبي في ريب إن كان عيبي غاب عنهم فقد أخفى عيوبي عالم الغيب يعني: يمنعني من ذكر غيري بعيوبه ما أعرفه في نفسي من العيوب. قوله: (عيبي لهم بالظن مني لهم) يعني: عيبي لهم بأشياء مظنونة، لكن أنا على يقين من عيبي إن كنت في حالة ظن من عيوبهم. وعن بكر قال: تساب رجلان فقال أحدهما: حلمي عنك ما أعرف من نفسي، يعني: الذي يجعلني أحلم وأصبر ولا أرد عليك أنني أعرف من نفسي عيوباً أكثر من التي تعيرني بها. وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تغتاب أحداً، فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذنب الناس، ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ولقي زاهد زاهداً، فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله، قال الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي في ما أعلم من نفسي شغل عن بغضك. قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى ولو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس. وقال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير. وقال مالك بن دينار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة، وكفى المرء شراً ألا يكون صالحاً ويقع في الصالحين. وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين له، يعني: غوغاء وأسافل. لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك قال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه، فاعلموا أنه قد مكر به. وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس فقال: قد استدللت على عيوبك لكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها: وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب وقال آخر: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل وقال ابن السماك ي: سبعك بين لحييك، تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور، حتى تعاطيت أهل القبور، أي: ما سلم منك أحد تأكل أعراض الأحياء وتؤذيهم، ثم تحولت بعد ذلك إلى أهل القبور. يقول: حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، يعني: يوصف الإنسان بأنه نباش إذا كان يأخذ أكفان الموتى، فيقول: لا، النبش ليس هو سرقة أكفان الموتى، إنما هو النبش الحقيقي الخطير، وهو نبش عيوب الموتى. قال: إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟! يعني: نفس العيب الذي تغتاب به أخاك هو موجود فيك أنت، فما جوابك عند الله؟! ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحساناً لمقته إياك. ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهل هذا جزاؤه إذ عافاك؟! يعني: إما يكون ذنبك مثل ذنبه، وإما أن يكون أعظم من ذنبه، وإما أنك عوفيت، فهل جزاء الله سبحانه وتعالى أن عافاك أن تغير هذا المسلم؟! أما سمعت: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك؟! إن شئت أن تحيا ودينك سالم وحظك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت المدائني يقول: رأيت أقواماً من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب، ورأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب، فاشتغلوا بعيوب الناس؛ فصارت لهم عيوب! لأن من اغتاب اغتيب، ومن عاب عيب. فبحثه عن عيوب الناس يورث البحث عن عيوبه، ولعل في قاعدة: الجزاء من جنس العمل زاجراً للذين يخوضون في عيوب الناس، فيكفوا عنها خشية أن يعاملوا بالعدل، فإن البلاء موكل بالقول: لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن قال تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]. وعن إبراهيم قال: إني لأرى الشيء مما يعاب لا يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به. وعن الأعمش قال: سمعت إبراهيم يقول: إني لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو سخرت من كلب لخشيت أن أكون كلباً، وإني أكره أن أرى رجلاً فارغاً ليس في عمل آخرة ولا دنيا. وقال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وقال ابن سيرين: عيرت رجلاً وقلت يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة. وعن الحسن قال: كانوا يقولون من رمى أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يبتليه الله به. وقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية رضي الله عنه فقضى حاجته ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟! يعني: أنت كثير النقد للخليفة فقال: دعنا من هذا وأحسن، يعن: لا داعي أن نفتح هذا الموضوع، قال: لا والله لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي، أي: صارحني وواجهني بما تنتقده علي، قال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له، فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟! فـ معاوية رضي الله تعالى عنه قال: أنا لا أبرأ من الذنب؛ لأني بشر غير معصوم، لكن هل في المقابل كما أحصيت السيئات وضعت في الكفة الأخرى الحسنات؟ صحيح أن الدولة الأموية ليست كالخلافة الراشدة ولا كالدولة العباسية، لكنها في إطار الخلافة الإسلامية، ونحن الآن نتمنى أن ترجع إلينا حتى الخلافة العثمانية فيا ليت أنها هي التي تحكمنا الآن، فأوضاع العالم الإسلامي الآن معروفة وكيفما تكونوا يولى عليكم، قال بعض السلف: أعمالكم عمالكم، يعني: كيفما تكونوا يولى عليكم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام:129]. فالشاهد أنه قال: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا -يا مسور - ما نلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟ قال: ما نذكر إلا الذنوب، قال: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك -يا مسور - ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم تغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك لرجاء المغفرة أحق مني؟ يعني: إذا كان كنت ترتكب ذنوباً بينك وبين الله سبحانه وتعالى ترجو أن الله سبحانه وتعالى ينجيك من الهلاك بسبب هذه الذنوب، فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ يعني: أنت لماذا تغلق باب الرحمة في وجهي؟ ولماذا لا أطمع في رحمة الله وأن يعفو الله عني ذنوبي؟! قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخير بين الله وغيره إلا اخترت الله على ما سواه، وإني على دين يقبل فيه العمل، ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني، يعني: غلبني، قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه، أي: بعد ذلك تاب من هذا الأمر، فكان إذا ذكر معاوية يدعو له. وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين علي وعثمان وما قولك فيهما؟ هذا الرجل شد الرحال من ال

شرح حديث أبي هريرة في النذر

شرح حديث أبي هريرة في النذر إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل، ويسوء أمره إذا كان على سبيل المعاوضة، وكأن العبد لا يفعل طاعة يتقرب بها إلى ربه إلا إذا أعطاه ربه ما يريد، وهذا هو البخل بعينه، فأنى للعبد أن يعامل ربه بهذه المعاملة، فلا جرم أن ذهب بعض العلماء إلى حرمة هذا النوع من النذر. ومع ذلك فإذا وقع النذر فإنه يجب الوفاء به.

حكم النذر

حكم النذر الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال الله عز وجل: لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أقدره عليه، ولكنه شيء أستخرج به من البخيل، يؤتيني عليه ما لا يؤتيني على البخل). وفي رواية: (يؤتيني عليه ما لم يكن آتاني من قبل)، رواه الإمام أحمد وهو صحيح على شرط الشيخين كما ذكر الألباني. هذا الحديث يدل بمجموع ألفاظه على أن النذر لا يشرع عقده، بل هو مكروه، وظاهر النهي في بعض طرقه أنه حرام، وقد قال بذلك أقوام، أي: أن قلة من العلماء قالوا: إنه حرام. إلا أن قوله تبارك وتعالى: (أستخرج به من البخيل) يشعر أن الكراهة أو الحرمة خاصة بنذر المجازاة أو المعاوضة، دون نذر الابتداء والتبرر، فهو قربة محضة؛ لأن للناذر فيه غرضاً صحيحاً، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التطوع؛ لأن النذر هنا مجرد تعبد وتقرب بقربةً محضة لله تبارك وتعالى بالقيام أو بالصدقة أو بالصلاة أو بالذبح أو بأي شيء من العبادات التي يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، وهذا لا يدخل في باب الكراهة؛ لأنَّه عبادة محضة. وثواب النذر فوق ثواب التطوع؛ لأنه يجب الوفاء به، فهو يثاب عليه. وفي كلتا الحالتين متى عقد أو متى نذر الإنسان نذراً وجب عليه الإتيان به، حتى لو أنشأ هذا النذر المكروه الذي هو نذر المعاوضة أو نذر المجازاة، فهذا النذر الذي هو قربةٌ محضة هو المراد بقوله تبارك وتعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7]، أي: يوفون بالنذر الذي هو قربة محضة.

حكم نذر المعاوضة

حكم نذر المعاوضة أما النوع الذي تكلمنا عنه آنفاً -وهو نذر المعاوضة- فهو كقول الإنسان: لئن شفى الله مريضي لأفعلن كذا. أو: لئن حصل كذا لأذبحن كذا. فهذا داخل في الكراهة، وهذا مرفوض كما بينا. ومن العلماء من قال بتحريمه؛ لأنه لا يخلو من سوء أدب مع الله تبارك وتعالى، فإنه إن لم يشف الله مريضك فماذا ستفعل؟! لن تتصدق، وإذا لم ينجح ابنك في الامتحان فلن تصوم، فهذا فيه سوء أدب مع الله، ومن أجل ذلك حرمه بعضهم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تبارك وتعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ومما افترض عليهم، فسماهم الله أبراراً: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:5 - 7] أي: فسماهم الله أبراراً لأنهم كانوا ينذرون طاعة الله تبارك وتعالى من هذه الأنواع التي افترضها عليهم كالصلاة والصيام والزكاة والحج وما إلى ذلك، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة. وقال الحافظ رحمه الله قبل ذلك: وجزم القرطبي في (المفهم) بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة، فقال: هذا النهي -يعني: النهي عن النذر- محله أن يقول -مثلاً-: إن شفى الله مريضي فعلي صدقةٌ كذا. ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تبارك وتعالى. فكونه علق هذا النذر أو العبادة كالصيام أو الصلاة والصدقة أوالنسك أو الذبح أو أي شيء من هذا على حصول غرض من الأغراض دل على أنه لم يخلص فيه، ولم يمحض النية ولم يخلصها صافية لمجرد التعبد لأجل الله تبارك وتعالى فحسب، وإنما يريد المجازاة، يعني: إن رزقه الله كذا فسوف يفعل كذا، وإن شفى الله مريضه فسوف يفعل كذا، فهذا هو الذي يحمل عليه ما ورد في النهي عن النذر. يقول الحافظ: ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكرة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، فيوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يخرج شيئاً إلا بعوض عاجل، يزيد على ما أخرج غالباً، وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله: (إن النذر لا يؤخر شيئاً من قضاء الله، ولا يدفع شيئاً من قضاء الله، وإنما يستخرج به من البخيل). أي: أن هذه عادة البخيل لا يبذل إلا إذا حصل على عوض عاجل، وغالباً يكون العوض أكثر وأكبر مما تطيب به نفسه، فلذلك إنما الحديث بهذه الصفة، فيقول هذه حالة البخيل، فإنه لا يخرج من ماله شيئاً إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالباً، وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله: (وإنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه)، يعني: لولا النذر لما أخرج شيئاً، وقد ينظم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض. وهناك محذور آخر في نذر المعاوضة ونذر المجازاة، وهو: أنه ربما توهم الجاهل أنه لن يحصل له شفاء إلا إذا نذر ولن ينجح في الامتحان إلا إذا نذر، فإذا انضم إلى ذلك الاعتقاد أن الله تبارك وتعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، فهذا هو المعنى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث أيضاً: (فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئاً) فإذا انضاف إلى معنى المشاركة والمجازاة والمعاوضة وعدم تمحض النية للتقرب إلى الله بالنذر اعتقاد وتوهم الشخص الجاهل أن النذر يغير من قدر الله، أو أن الله لا يفعل ذلك إلا إذا نذر، فهذا أبطله أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: (فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئاً)، فالحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح، ويقصد بالحالة الأولى: أنه يسلك مسلك المعاوضة، يعني: أنه إذا شفى الله مريضه أوفى بنذره، وإذا لم يشف مريضه لا يتصدق بما علقه على شفائه، فهذه الحالة تقرب من الكفر، والحالة الثانية يقول القرطبي: إنها خطأ، ففيها تخاذل خاطئ نتيجة عدم معرفته بهذا الحديث، وعدم ففقه لهذا المعنى؛ لأنه يظن أن هذا الأمر لا يحصل إلا إذا نذر، فيعتبر النذر سبباً من الأسباب المشروعة الموصلة إلى غرضه، وهذا مخالف للشرع، كما في الحديث: (وإن النذر لا يرد من قدر الله تبارك وتعالى شيئاً)، ولذلك قال القرطبي: الحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح. إلا أن الحافظ تعقب القرطبي رحمه الله تعالى بقوله: بل تقرب من الكفر أيضاً. أي أن الحالة الثانية أيضاً تقرب من الكفر. ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة، وقال: الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد. أي: إذا خيف على إنسان هذا الاعتقاد الفاسد وهو أن ينذر نذراً معتقداً أن النذر سبب من الأسباب الشرعية في حصول الغرض، وأن النذر يؤثر في قضاء الله فهذا يحرم عليه النذر، فيكون إقدامه على ذلك محرماً، والكراهة هي في حق من لم يعتقد ذلك. فهذا الكلام الذي قاله القرطبي فيه تفصيل حسن في هذا الباب. قال القرطبي: ويؤيده قصة ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما راوي الحديث في النهي عن النذر، فإنها في نذر المجازاة. وهذه القصة التي يشير إليها القرطبي هي ما أخرجه الحاكم عن سعيد بن الحارث أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سأله رجل من بني كعب يقال له: مسعود بن عمرو فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن ابني كان بأرض فارس فيمن كان عند عمر بن عبيد الله، وإنه وقع بالبصرة طاعون شديد، فلما بلغني ذلك نذرت إن الله جاء بابني بأن أمشي إلى الكعبة. فجاء مريضاً فمات، فما ترى؟ يعني أن ابنه عاد من البصرة، لكنه عاد مريضاً، ثم لبث مريضاً فمات بعد ذلك، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أولم تُنهوا عن النذر؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل أوف بنذرك). فأمره أن يفي بنذره. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. ففي هذا الحديث تحذيرٌ للمسلم من أن يقدم على نذر المجازاة، فعلى الناس أن يعرفوا ذلك، حتى لا يقعوا فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. هذا ما تيسر في تفسير ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أقدره عليه، ولكنه شيء استخرج به من البخيل؛ يؤتيني عليه ما لا يؤتيني على البخل) وفي رواية: (يؤتيني عليه ما لم يكن آتاني من قبل). والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فتاوى مسجد ابن تيمية

فتاوى مسجد ابن تيمية

حكم حديث: (إن أولياء الله الذين إذا رآهم الناس ذكروا الله)

حكم حديث: (إن أولياء الله الذين إذا رآهم الناس ذكروا الله) Q هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أولياء الله الذين إذا رآهم الناس ذكروا الله). A هذا الحديث جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة: أخرجه المروزي في زوائد الزهد لـ ابن المبارك، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم في أخبار أصبهان، والضياء في المختارة. وقوّاه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة، المجلد الرابع، برقم (1733). وهذا الحديث يبين علامة من علامات الأولياء الذين قال الله عز وجل عنهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]. فبين النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علاماتهم، هي أنهم إذا رآهم الناس وشاهدوهم تذكروا برؤيتهم الله سبحانه وتعالى.

حكم حيض المرأة بعد دخول وقت الصلاة

حكم حيض المرأة بعد دخول وقت الصلاة Q إذا حاضت المرأة بعد أذان الظهر بنحو عشر دقائق، أو خمس دقائق، أو بمقدار صلاة ركعة واحدة، فهل تقضي الظهر عندما تطهر من الحيض أم يسقط عنها؟ A تقضي الظهر إذا أدركت منه مدة قدر ركعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة). فالمرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الظهر فإنها تقضي صلاة الظهر؛ لأنه بدخول وقت الظهر قد وجب عليها أن تصلي الظهر، وبدخول وقت يساوي الوقت الذي يستغرق لصلاة ركعة واحدة تجب عليها الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، وإذا طهرت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة واحدة وجب عليها أن تصلي الظهر وتصلي العصر، وكذلك إذا طهرت قبل صلاة الفجر -ولو بمقدار ركعة واحدة- فإنها تقضي المغرب والعشاء.

حكم إيداع الأموال في البنوك وأخذ الفوائد عليها

حكم إيداع الأموال في البنوك وأخذ الفوائد عليها Q ما قولكم في رأي الشرع فيمن أودع أمواله في البنوك ولم يعقد مع صاحب البنك القرض الذي يجري فيه الربا -أي: الذي ورد فيه الخبر: (كل قرض جرّ منفعة فهو ربا)، والحكم يدور مع العلة، فإذا كان تحريم مثل هذا القرض بسبب وجود علة الربا -وهي الفائدة- فإنه سيودع أمواله في البنك بدون أن يتفق معهم على أخذ فائدة، والهدف من وضع الأموال في البنك هو حفظها من التعرض للضياع، وليس المقصود منه الاتجار والربح، ثم إن هيئة البنك تستثمر تلك الأموال في عمليات تحقق لها ربحاً، وقد لا تستثمرها، فهل يجوز للمسلم أن يتقاضى جزءاً معيناً حددته هيئة البنك عند سحب الأموال وعدمه مقابل ما أودع؟ A ننبه أولاً على أن صيغة السؤال في المسائل الشرعية ينبغي أن تكون بلفظ ما (حكم الشرع) وليس من أدب السؤال قول (ما رأي الشرع) إذ الحكم يجب امتثاله، أما قول (ما رأي الشرع) فيدل على أن ذلك وجهة نظر يمكن الأخذ بها ويمكن أن تترك. أما جواب السؤال فإنه لا يجوز للمسلم أن يودع أمواله في البنوك التي تتعامل بالربا، إلا إذا كان يخشى عليها من الضياع، ولا يجوز له أن يدفعها للبنك بناءً على أنه يأخذ فائدة من البنك، وإذا كان الشخص يخشى على نقوده من السرقة ونحو ذلك فله أن يودعها في البنك بدون فائدة؛ لأنه مضطر إلى ذلك، أما أخذ الفائدة من البنك فهو تعامل بالربا، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع. أما القول بإن ترك الفائدة للبنوك الكافرة عون لها على المسلمين، وعدم أخذ هذه الأموال مثل إعطائهم مالاً يعينهم على حرب المسلمين فليس الأمر كذلك، وإنما تركها تعفف من المسلم عما حرم الله عليه، كما يترك لهم قيمة ما حرم الله من الخمر والخنزير، وكما يجوز له الصدقة على فقرائهم إذا كانوا غير حربيين. وقد أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ عبد الله بن قعود، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

حكم العمل في البنوك الربوية

حكم العمل في البنوك الربوية Q أحد الناس يعمل في أحد البنوك بالمملكة السعودية، فهل العمل في البنوك التي تتعامل بالربا حرام أم مباح؟ وإذا كان حراماً فهل يستقيل من هذا العمل؟ A العمل في البنوك وهي بوضعها الحالي تتعامل بالربا حرام، فلا يجوز لك أن تستمر في العمل في البنك الذي تعمل فيه، وأكثر العلماء يقولون: أكثر المعاملات في البنوك المصرفية الحالية تشتمل على الربا، فهو حرام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أعان آكل الربا وموكله بكتابة له أو شهادة أو ما أشبه ذلك كان شريكاً لآكله وموكله في اللعنة والطرد من رحمة الله، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هُم سواء)، والذين يعملون في البنوك المصرفية أعوان لأرباب البنوك في إدارة أعمالها، كتابة، أو تقييداً، أو شهادة، أو نقلاً للأوراق، أو تسليماً للنقود، أو تسلماً لها، إلى غير ذلك مما فيه إعانة للمرابين. وبهذا يعرف أن عمل الإنسان في المصارف الحالية حرام، فعلى المسلم أن يتجنب ذلك، وأن يبتغي الكسب من الطرق التي أحلها الله، وهي كثيرة، وليتق الله ربه، ولا يعرض نفسه للعنة الله ورسوله، وهذا فيه الكفاية إن شاء الله تعالى. وقد أجاب على هذا السؤال العلماء الذين أجابوا على السؤال السابق.

حكم بيع الأدوية والسلع التي عليها صور

حكم بيع الأدوية والسلع التي عليها صور Q ما الحكم إذا كان الصيدلي يبيع بعض الأدوية والأشياء الأخرى التي على أغلفتها بعض الصور المحرمة، مع العلم بأنه ليس من السهل طمس هذه الصور، بالإضافة إلى أنه ربما لا يباع الدواء عند طمس الصورة الموجودة على غلافه؟ A إذا كان الأمر كما ذكر جاز بيع الدواء الذي عليه صورة.

حكم بيع أدوات التجميل

حكم بيع أدوات التجميل Q ما الحكم إذا باع الصيدلي أدوات التجميل الخاصة بالنساء، علماً أن غالبية من يستعملنها من المتبرجات الفاجرات العاصيات لله ورسوله اللاتي يستخدمن هذه الأشياء للتزين لغير أزواجهن والعياذ بالله؟ A إذا كان الأمر كما ذكر فلا يجوز له البيع لهن؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله تعالى عنه بقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

حكم سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب وبدون تكبير

حكم سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب وبدون تكبير Q هل يجوز سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب وبدون تكبير؟ A يجوز سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب، ويكبر عند السجود وعند الرفع منه.

حكم الكلام مع من هو مقيم على المعصية بعد النصح له

حكم الكلام مع من هو مقيم على المعصية بعد النصح له Q هل الكلام بسبب المرافقة في العمل مع من هو مقيم على المعصية بعد النصح له فيه شيء؟ A ينبغي أن تستمر على نصحه وتعامله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجادله بالتي هي أحسن، وتدعو الله له لعل الله أن يهديه، وبالله التوفيق.

حكم من تأول صفات الله سبحانه وتعالى

حكم من تأوّل صفات الله سبحانه وتعالى Q من المعلوم أن بعض العلماء الذين نهجوا منهج الخلف في فهم صفات الله سبحانه وتعالى قد لجئوا لأسلوب تأويل هذه الصفات؛ خشية الوقوع في التشبيه، فما الحكم في هؤلاء؟ A هم يؤولون قوله تعالى: (استوى على العرش) بمعنى: (استولى!) أو (يد الله) بمعنى: قوة الله، وهكذا، والذي يجب هو أن نسلك مسلك السلف في إجراء هذه الصفات على ظاهرها، بدون تشبيه وبدون تعطيل كما هو معلوم. يقول الشنقيطي رحمه الله: ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد؛ لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه، فقصدهم حسن، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيء، وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق. أي: لما سمعوا قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فأول ما سمعوا كلمة (بيدي) تخيلوا ما هو معهود لديهم من صفات المخلوقين فوقعوا في التشبيه، ثم قالوا: ينبغي أن نبطل هذا التشبيه؛ لأنه كفر فقادهم ذلك إلى التعطيل، فنفوا الصفة. فهم في بداية الأمر وقعوا في التشبيه أصلاً، وظنوا أن ظاهر اللفظ هو التشبيه، فلذلك وقعوا في النفي حتى يتفادوا التشبيه، ولو أنهم منذ البداية قالوا: إن ظاهرها هو ما يليق بالله سبحانه وتعالى لَمَا وقعوا في التشبيه ولا في التعطيل. يقول: فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصداً منهم لتنزيه الله، وأوّلوها بمعنىً آخر يقتضي التنزيه في ظنهم، فقالوا: (استوى على العرش) أي: استولى على العرش. فهم كما قال الشافعي رحمه الله تعالى: رام نفعاً فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا يقول: ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5]. وخطؤهم المذكور لاشك فيه، ولا يصح أن يأتي إنسان فيقول: هناك علماء وأئمة يؤولون صفات الله فكيف تخالفونهم؟ فأقول: لسنا نحن الذين نخالفهم، لكنهم خالفوا من هُم أجلّ منهم قدراً وأعظم منهم علماً، ألا وهم أئمة السلف في القرون الخيرية الأولى ومن تبعهم بإحسان. إذاً: ليست المسألة أن إنساناً متأخراً يتعقب علماء الخلف، وإنما بعض رجال الخلف خالفوا قول السلف الذين هم أعلم الأمة بدينهم، فيكون خطؤهم المذكور لا شك فيه، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولاً وجزموا بأن ظاهر صفات الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق لسلموا مما وقعوا فيه. فمثلاً: لو أنهم من البداية سمعوا قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] فقالوا: استوى استواءً يليق بجلال الله، ولا ندري كيف هو؛ لأنه لا يعلم كيف هو إلا هو لسلموا. فأي شيء تتخيله عن الله سبحانه وتعالى بعقلك فاعلم أن الله ليس على تلك الصفة، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فلا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم عالم كل العلم بأن الظاهر المتبادر مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات المخلوقين، ولو كان يخطر في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أن ظاهر هذه الصفات لا يليق بالله لأنه تشبيه بصفات الخلق لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك، ولكنه لم يفصّل؛ لأنه يعلم أن الصحابة يفهمون أن ظاهر هذه الصفات هو ما يليق بالله وليس ما يقتضي التشبيه؛ لأنه لا يجوز في حق النبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ولا سيما في العقائد وفيما ظاهره الكفر والتشبيه. إذاً: لو كان ظاهره يخالف ما يليق بالله سبحانه وتعالى لنفاه النبي صلى الله عليه وسلم، فكونه لم يبين ذلك فمعناه أن الظاهر هو ما يليق بالله، وليس الظاهر هو ما يعرفه المخلوقون، فسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المؤولون لا أساس له من الصحة.

حكم اتخاذ القبور مساجد

حكم اتخاذ القبور مساجد Q بعض الناس -خاصة الصوفية- يستدلون بآية في سورة الكهف على جواز اتخاذ قبور الصالحين مساجد، فيقولون: إذا كان من المقرر شرعاً تحريم بناء المساجد على القبور فهناك أدلة على جواز ذلك، ومن هذه الأدلة قوله تبارك وتعالى في سورة الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، ووجه دلالة الآية على ذلك أن الذين قالوا: (لنتخذن عليهم مسجداً) كانوا نصارى -حسب ما هو مذكور في كتب التفسير-، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله سبحانه وتعالى ولم يعقبها بما يدل على ردها، كما في هذه الآية الكريمة. فما صحة هذا الاستدلال؟! A يقول فضيلة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: الجواب على هذه الشبهة من وجهين: أولاً: إن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا، وهم بنوا هذا الاستدلال على أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون هذا أمراً غير متفق عليه، والقول الراجح في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة، من هذه الأدلة قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي) وقال في آخر هذه الخمس: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) فمعناه: إن شريعتي غير شرائع الأنبياء قبلي. فإذاً: الأنبياء السابقين كموسى وعيسى ونوح وغيرهم كان كل نبي منهم أو رسول يأتي بشريعة لقومه خاصة، فكونها لقومه خاصة معنا أنها لا تلزم غيرهم، وحينئذٍ لا تلزمنا نحن المسلمين، وإنما الذي يلزمنا هو بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته، فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية، أي: لو وافقنا ابتداءً على أن الآية تفيد أن في شريعة النصارى أنهم يبنون المساجد على قبور الصالحين فإذا ثبت أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا فلا يجوز لهؤلاء الناس أن يستدلوا بالآية على أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن هذه القاعدة غير صحيحة، بل الصحيح أن لنا شريعة خاصة ولهم شريعة خاصة. إذاً: لا يلزمنا المخالف بالأخذ بما فهمه من الآية من جواز بناء المساجد على القبور. أما الوجه الثاني الذي يرد به على استدلالهم بآية سورة الكهف فنقول: هبْ أن الصواب قول من قال: شريعة من قبلنا شريعة لنا. فإذا فرضنا هذا جدلاً فإن العلماء الذين يقولون: إن شرع من قبلنا شرع لنا يشترطون أن لا يخالف شرعنا، فإن خالفه فالذي يقدم شرعنا؛ لأن شرعنا أتى لينسخ هذه الشرائع. وما ورد في هذه الآية مشروط بإذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا؛ لأن الأحاديث تواترت في النهي عن بناء المساجد على القبور، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا. وهناك وجه ثالث في الرد، وهو أنه لا يلزم أن تفيد الآية أن بناء المساجد على القبور كان شرعاً عندهم؛ لأن غاية ما فيها أنه: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، وليس فيها تصريح بأن الذين قالوا ذلك كانوا مؤمنين، وليس هناك ما يدل على أنهم كانوا مؤمنين صالحين متمسكين بشريعة نبي مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك. والحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح حديث: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يقول: وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى. وقال الشيخ علي بن عروة: حكى ابن جرير في قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) قولين: الأول: أن القائلين هم المسلمون منهم. والثاني: أنهم أهل الشرك منهم، فالله أعلم. يقول: والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذّر ما صنعوا). إذاً: لم يقتصر على عدم كونه في شريعتهم، بل لعنهم الله من أجل بناء المساجد على القبور. وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر بأن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده فيها شيء من المواعظ والأخبار وغيرها. يقول الألوسي: واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء، واتخاذ المساجد عليها، وجواز الصلاة عندها، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي، وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد. ثم أتى بالأحاديث الثابتة في تحريم بناء المساجد على القبور، وأتبعها بكلام الحافظ الهيتمي في بيان أن ذلك من الكبائر. ثم قال: وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك أفتوا أنها تهدم، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح، فإن الله سبحانه وتعالى قص علينا بلا إنكار. أي: إن قالوا: إن ربنا حكى كلام هذه الفئة: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] ولم ينكر عليهم نقول: نعم لم ينكر سياق القرآن صراحة عليهم، ولكن إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ولعنهم على هذا الفعل واضح، وإنكار الرسول كإنكار الله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. فيقال لهم: هل تنكرون السنة؟ فإن كانوا ينكروا السنة فإنهم فرقة ضالة تنبأ بها النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كانوا يؤمنون بالسنة فقد ثبت في السنة إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الفعل، وأنه لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، فالآية ليست خارجة مخرج المدح لهؤلاء الناس، وليس فيها -أيضاً- ما يحضنا على التأسي بهم. ومتى يمكن القول بأن عدم إنكار الله سبحانه وتعالى على هؤلاء القوم يعني إباحة هذا الفعل؟ نقول: ذلك إذا كان في وسطهم شخص معصوم، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً -أي: نبياً مرسلاً- فلا يدل فعلهم -فضلاً عن عزمهم- على مشروعية ما كانوا بصدده؛ لأنه ما كان فيهم رسول، لكن هؤلاء الناس لم يأت ما يدل على الوثوق بفعلهم. وتأول بعض العلماء اتخاذهم للمسجد على القبور بأنه ليس المعنى الذي نفهمه الآن من بناء المساجد على القبور في مكان واحد، قال: وإنما هو اتخاذ مسجد قريب من كهفهم، وليس المقصود اتخاذ المساجد على القبور بالصورة التي نعرفها في هذا الزمان. وأيضاً فإن الإنسان الذي يستدل بهذه الآية على جواز بناء المساجد على القبور مَثَله كمثل الإنسان الذي يستدل بقوله تعالى في شأن سليمان عليه السلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] على جواز صناعة التماثيل والأصنام، فأما في شرعنا فهذه الأشياء محرمة قطعاً، وكذلك بناء المساجد على القبور.

حكم الاستمناء

حكم الاستمناء Q ما حكم الاستمناء في الشريعة الإسلامية؟ A الاستمناء هو استدعاء المني بغير جماع. وقد ذهب إلى تحريم الاستمناء جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنفية. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وعامة العلماء على حرمته، وهو الحق الذي لا ينبغي أن يدان الله إلا به. انتهى كلام ابن العربي. وأدلة تحريمه هي: أولاً: قوله تعالى في مدح المؤمنين المفلحين في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، إلى أن مدحهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]. فقوله تعالى: (فمن ابتغى) أي: من طلب شيئاً (وراء ذلك) أي: سوى ذلك المذكور في قوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) (فأولئك هم العادون) أي: الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]، فالآيات تدل بعمومها على تحريم ما عدا صنفي الأزواج والإماء. وقد سئل الإمام مالك عن حكم الاستمناء فتلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]. ومن ثم قال بعض العلماء في هذه الفعلة: إنه كالفاعل بنفسه! وهي معصية أحدثها الشيطان، وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل، ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها، والاستمناء ضعيف في الدليل، عار بالرجل الدنيء، فكيف بالرجل الكبير؟! وممن استدل بهذه الآية على التحريم الإمام الشافعي رحمه الله، ومن المفسرين البغوي، والقرطبي، وابن العربي، وابن كثير، والنسفي، والخازن، وغيرهم، ولو فرض وجود خلاف فيه فقد قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: وهذا من الخلاف الذي لا يجوز العمل به، وليت شعري لو كان فيه نص صريح بالجواز أكان ذو همة يرضاه لنفسه؟! ثانياً: قال الله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، وهذا أمر يدل بظاهره على وجوب الاستعفاف، فهو أمر ظاهره وجوب الاستعفاف، ووجوب اجتناب ما ينافي العفة كالزنا واللواط والاستمناء ونحوها، فتكون هذه الأشياء واجبة الاجتناب محرمة الفعل؛ لأن الاستعفاف الواجب لا يتحقق إلا باجتنابها جميعاً. قال الشافعي رحمه الله تعالى في هذه الآية: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]: معناها -والله أعلم-: ليصبروا حتى يغنيهم الله تعالى وهو كقوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6] ليكف عن أكله بسلف أو غيره. انتهى كلام الشافعي. والمقصود بالاستعفاف في آية اليتيم (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) أن القيّم على مال اليتيم لا يأكل من مال اليتيم شيئاً قليلاً ولا كثيراً، وليستعفف ما دام غنياً، وعلى هذا قول الله سبحانه وتعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا) أي: ليتركوا هذا الشيء قليله وكثيره، ما عدا الأزواج والإماء، فلا يُقرب أي شيء يخالف قضاء الوطر عن غير هذا الطريق، فيفهم من ذلك الأسلوب -أي: من كلمة: (وليستعفف) - أنه يجب حفظ الفرج من جميع أنواع الشهوة، وأن من لم يجد السبيل إلى النكاح ففرض عليه أن يصبر حتى يغنيه الله من فضله فيجد السبيل إلى ما أحل الله. وزيادة في إيضاح معنى هذه الآية نقول: هل الاستمناء من الاستعفاف أم لا؟ فإن قلنا: لا فيلزم اجتنابه؛ لأن الآية تدل على تحريم ما ينافي الاستعفاف، وإن قلنا: إنه من الاستعفاف لزم القول بوجوبه -أي: الاستمناء- لأن الآية تأمر بالاستعفاف، وهذا حدث في الدين وخرق لإجماع المسلمين. ومما يؤيد هذا الاستدلال أن الله تعالى ذكر الاستعفاف والنكاح ولم يجعل بينهما واسطة، قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] أي: حتى ينكحوا. فذكر الله سبحانه وتعالى الاستعفاف والنكاح، ولم يجعل بينهما واسطة، فاقتضى ذلك تحريم الاستمناء، ولو كان مباحاً لبينّه في هذا الموطن؛ لأنه مقام بيان؛ إذ أحوج ما يكون الرجل إلى جواز الاستمناء إذا لم يجد سبيلاً إلى النكاح، لاسيما عند توقان نفسه إلى الوطء، وقاعدة الأصوليين: (السكوت في مقام البيان يفيد الحصر)، ودليل هذه القاعدة قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، أي أن الله سبحانه إذا سكت عن بيان شيء في مقام البيان فإنه يفيد انحصاره فيما ذكر فقط، ولا يتعداه إلى غيره، ففي قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] حصر المسألة بين أمرين اثنين فقط هما: الاستعفاف أو النكاح، فاستدل بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] على ما نحن بصدده الإمام الكيا الهراسي والإمام القرطبي وغيرهما، قالوا: هذا المقام هو مقام بيان حكم الاستمناء، فلو كان مباحاً لبينه الله سبحانه وتعالى، فدل على أنه ليست هناك سعة في هذا الأمر. ثالثاً: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). ووجه دلالة هذا الحديث على المقصود أن الشارع أرشد عند العجز عن مؤن النكاح إلى الصوم فقال: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، ولو كان الاستمناء مباحاً لبينه في هذا الموطن، لكنه سكت عنه، فدل على أن ذلك حرام؛ لأن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، كما بيّنا أن سكوت الشارع في معرض البيان لشيء من أفعال المكلفين عن شيء آخر يشبهه أو يجانسه لا يكون نسياناً ولا ذهولاً -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا-، ولكن يفيد قصر الحكم على ذلك الشيء المبين حكمه، ويكون ما عداه -وهو المسكوت عنه- مخالفاً له في الحكم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]. وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على حرمة الاستمناء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم فقال: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم) الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحاً لكان الإرشاد إليه أسهل، وهذا الفعل لو كان مباحاً لكان الرسول عليه الصلاة والسلام أرشد إليه، فهو أسهل من الصيام، وإن كان الصيام فيه ترك والاستمناء فيه فعل، لكن الاستمناء أسهل من الصوم؛ لأن الصوم وإن كان تركاً لكنه أشد من الفعل، وأشق على النفس من كثير من الأعمال؛ لأن الصوم حبس للنفس وكبح لها عن شهواتها، وفي الحديث: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي)، فهذه المزّية لم تكن للصوم إلا لما فيه من المشقة، أما الاستمناء -وإن كان فعلاً لا تركاً- فهو سهل يسير موافق لغرض النفس، ولا يستغرق من الزمان ما يستغرقه الصوم، فلا جرم أن العدول عنه إلى الصوم دليل على حرمته، فيكون في الحديث دلالة على حرمة الاستمناء من وجهين: الوجه الأول: السكوت عنه في معرض البيان، حيث قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ولم يفتح أي باب آخر لقضاء الشهوة سوى هذا الباب، وهو باب النكاح أو الصيام، ولم يذكر الاستمناء. الوجه الثاني: أنه عدل عنه إلى الصوم الذي هو أصعب. وقد وردت جملة أخبار عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص لهم في الاختصاء -وهو حرام في الآدميين؛ لأنه من تغيير خلق الله- ليدفعوا به مشقة العزوبة عن أنفسهم، ويستريحوا من عناء شهواتهم وعناء مقاومتها، فلم يرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرشدهم إلى الصوم، فلو كان الاستمناء جائزاً لأرشدهم إليه؛ لأنه أسهل من الاختصاء، والاختصاء إجراء عملية جراحية لإزالة الخصيتين، فهذا الأمر لو كان مباحاً لكان أسهل من الاختصاء وأسهل من الصوم، فلمّا لم يرشد إليه دل على أنه حرام؛ لأن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر. ومن هذه الأحاديث ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنَتَ، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فائذن لي أن أختصي، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق، فاختصِ على ذلك أو ذر) وهذا الحديث إسناده صحيح، وعلّقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم. فالنبي عليه الصلاة والسلام عزّاه بالقدر، أي: إن كنت عاجزاً عن الكسب أو عن ت

الأضرار الشرعية والصحية للاستمناء

الأضرار الشرعية والصحية للاستمناء من الأدلة المهمة في هذه المسألة القاعدة الأصولية المتقررة أن الضرر يزال، وهي مأخوذة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) أي أن الإنسان لا يضر نفسه ولا يضر غيره. فيؤخذ من هذا الحديث تحريم جميع أنواع الضرر، وأي شيء يحدث ضرراً فينبغي أن يدفع هذا الضرر، وينبغي أن يزال، فالأصل في المضار التحريم، وهذا الحديث هو من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه ابن ماجة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) خبر معناه النهي، مثل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج. فالمقصود من قوله: (لا ضرر) أي: لا تضر نفسك، ولا تضر غيرك، والمضار الناتجة عن هذا الفعل الخسيس الدنيء مقررة عند الأطباء، وهي كثيرة جداً، منها: ضعف البصر، وتقليل حدة الوطر إلى حد بعيد، وإضعاف الأعضاء عموماً، وخصوصاً الأعضاء التناسلية، مما يؤثر -فيما بعد- أقوى تأثير على الباءة. ومن ذلك -أيضاً- إضعاف الأعصاب عامة، واضطراب آلة الهضم، وإيقاف نمو الأعضاء -خاصةً التناسلية- عن نموها الطبيعي، وإحداث التهاب منوي في الخصيتين، وألم في فقرات الظهر، وتقوس الظهر وانحناؤه، كما أنه يحل ماء صاحبه فيصير رقيقاً لا يقوى على التلقيح، وربما يؤثر على الجنين فيكون ضعيفاً. ومن ذلك أيضاً: أنه يسبب رعشة الأطراف، خصوصاً الرجلين، وضعف القوة الذهنية، وقلة الفهم، وصفرة الوجه، واستعداد فاعل هذا الفعل الدنيء للإصابة بالسل والعياذ بالله، وغيرها مما لا يكاد يحصى من الأضرار الصحية، فضلاً عن الضرر في الدين بالجرأة على ما حرم الله سبحانه وتعالى، وظلمة القلب، واسوداد الوجه من المعصية، ووقوع الوحشة بين فاعل تلك الفعلة وبين الله سبحانه وتعالى، ووقوع الوحشة بينه وبين الناس، خصوصاً أهل الخير منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استح من الله كما تستحي رجلاً من صالحي قومك) أي: لو أن رجلاً من صالحي قومك اطلع عليك لاستحييت منه، فكيف باطلاع الله سبحانه وتعالى؟! ومن مضار هذا الفعل الدنيء التسبب في تقليل الحياء عند الشخص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحياء والإيمان قُرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر). وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، وهذا الفعل القبيح الدنيء لا شك أنه مما لا يحب من يرتكبه أن يطلع عليه الناس. وهذا الفعل القبيح بغيض إلى الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها). والاستمناء من أخطر الأمراض والأدواء، وأشدها ضرراً على الجسم والعقل والدين، فبينما ترى الشاب -من هؤلاء المصابين بهذا الفعل الشنيع- قوي الأعضاء، جمّ النشاط، يشتعل ذكاءً وفتوةً، ويلتهب حماساً وقوة، تجري نضرة الشباب في وجهه، ويغلي دم الحياة في عروقه، ثم سرعان ما تراه -وقد أنهكه ذلك الفعل الدنيء- خائر الأعضاء، فاقد النشاط، قد استحال ذكاؤه إلى غباوة وبلادة، وانقلب حماسه وقوته إلى ضعف ووهن، وصارت نضرته صفرة تنبئ بحلول داء عياء، وهبطت حرارة الدم فيه بنسبة ما أخرج من الماء، والتحق بالشيوخ الهرمى وهو لم يزل بعد في سن الشباب، كل هذه البلايا بسبب ذلك الفعل الخبيث! ولا غرو، فإن ماء الرجل قوة عقله، ونضارة وجهه، ومخ ساقه، وخلاصة عروقه، فاستخراجه على غير الوجه المشروع يؤدي حتماً إلى أسوأ النتائج. ومما لا شك فيه أن هذا الفعل حرام عند المالكية، والشافعية، والحنفية، وجمهور الأمة. وممن نص على حرمته الإمام البغوي، والقاضي أبو بكر بن العربي، والحافظان ابن كثير وابن الملقن، والإمام المجتهد التقي ابن دقيق العيد، والعلامة ابن الهمام، والمحقق ابن قاسم العبادي، وشيخ الإسلام الشيخ عبد الله الشرقاوي، ومفتي بغداد السيد الألوسي، وجماعة يطول ذكرهم. ومن الأدلة التي يستدل بها على تحريم هذه المسألة بعض الأحاديث التي لو صحت لكانت من أصرح الأدلة في تحريم هذا الفعل، ولكنها أحاديث ضعيفة، فلا بأس بأن نذكرها على سبيل الإخبار بضعفها. عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العالمين، ويدخلهم النار في أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، ومن تاب تاب الله عليه: الناكح يده، والفاعل، والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنه الناس، والناكح حليلة جاره) يعني الزاني بها. فهذا أحد الأحاديث التي يستدل بها على تحريم هذا الفعل، لكنه حديث ضعيف. وهناك بعض الروايات عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويقول لهم: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل، والمفعول -يعني اللواط- والناكح يده، وناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، وجامع المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، والسابع: المؤذي جيرانه حتى يلعنه الناس، إلا أن يتوب). فهذان الحديثان صريحان في تحريم هذا الفعل، لكنهما ضعيفان، ويغني عنهما ما سبق أن سردناه من الأدلة.

طرق التخلص من هذه المعصية

طرق التخلص من هذه المعصية لا شك أن دواء هذه العادة هو عمارة الأوقات بالطاعات. والدواء الأنفع الذي لا شك في أنه أقرب الطرق إلى العفة هو امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). ومن أنفع الأدوية عمارة الأوقات بالطاعات، وإدمان الذكر، والتفكر في الموت والآخرة. ومنها تجنب الوحدة، ومصاحبة الصالحين، ولزوم جماعة المسلمين في المساجد، وفي الجنائز، وفي صلوات العيد، وفي حلقات العلم وحلق الذكر، فهذه من أنفع الأدوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، والثلاثة لا يقربهم الشيطان) ويقول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما أعلم من الوحدة ما سار راكب وحده بليل أبداً) وفي بعض الأحاديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوحدة، أن يبيت الرجل وحده، أو أن يسافر وحده). ومن أقوى الأسباب الفراغ، فعند الفراغ يخلو الشيطان بذلك الشاب، فيغريه بارتكاب ما حرم الله سبحانه وتعالى، فمن أنفع الأدوية -كما ذكرنا- مصاحبة الصالحين الذين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا ذكر. ولابد من تجنب أهل الفسق وصحبة أهل السوء الذين هم أصدقاء في الظاهر وأعداء ألّداء في الحقيقة والباطن. وهكذا شغل الفراغ بما ينفع في الدين أو الدنيا، كلعب بعض الرياضات المفيدة، مع استصحاب نوايا حسنة بهذه الأنواع من الرياضة التي تقوي البدن ويستفيد منها المسلم. ومن ذلك تجنب أماكن الفساد التي فيها الصور المحرمة، وتجنب الجرائد القبيحة، وتجنب أجهزة الفساد كالتلفزيون وغيره؛ فإن من يقومون على أمرها هم ممن يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. ومن أنفعها -كما ذكرنا- الدواء الأول، وهو لزوم الصوم، وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سبق. ومن ذلك -أيضاً- المواظبة على قراءة القرآن، فهو يغني عن كل هذه النصائح الكثيرة بعد الصيام. ومنها دواء واحد مجمل بعد هذا التفصيل، وهو الذي ورد في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً). وقد يقول قائل: ما علاقة الصدق بقضية مثل هذه القضية الفقهية؟! والجواب أن هذه الكلمة -الصدق- هي أعم وأوسع في معناها مما يتبادر إلى الأذهان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من حنكته وفطنته جمع لك كل هذا الكلام وأضعاف أضعافه في هذه الكلمة (الصدق) فإنك إذا سئلت: هل تسرق؟ فإن قلتَ: لا وأنت قد سرقت وقعت في الكذب، فخالفت العهد الذي عاهدت الله عليه، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بالصدق)؛ لأن الصدق من شأنه أنه هادٍ إلى البر، والبر يشمل جميع أنواع الخيرات، فلذلك كان بعض الشيوخ إذا أتاه بعض أتباعه أو تلامذته تائباً وسأله عن التوبة، وأراد هذا الشيخ أن لا يشتت ذهنه، وأن لا يشوش فكره بكثرة التكاليف يقول له: عليك بالصدق. فيأمره بالصدق لأنه إذا أمره بالصدق فأتى فقال له: صليت أم لم تصل؟ فإذا كان التزم الصدق فسيقول: لم أصل. وإن خالف فسيقع في الكذب، فإن لزم الصدق فإنه سوف يتحرج من أن يقع في الفعل الذي يوجب توبيخه ومعاتبته، فمن ثم كانت الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الصدق؛ لأن الإنسان إذا استطاع أن يتصف بصفة الصدق وتحرى الصدق -أي: التدقيق والاحتياط الشديد في الصدق- فإنه تفتح له جميع أبواب الخيرات، قال صلى الله عليه وسلم (فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

بطلان القصة التي أوردها العيدروس بشأن كتاب إحياء علوم الدين

بطلان القصة التي أوردها العيدروس بشأن كتاب إحياء علوم الدين بعض الناس يمارس أحياناً نوعاً من الإرهاب الفكري، وهذا يحصل من بعض الصوفية وأصحاب المنامات، فيمارسونه ضد من يكشف أخطاءهم ويبين ألاعيبهم، فترى في المنام أنه يخوفك إن أنت خالفته، ويهددك بأنه سيحصل لك كذا وكذا، وهذا النوع من الإرهاب لا يخيف إلا ذوي العقول الخفيفة، لكن الإنسان لا يبالي أبداً ما دام على الحق من الكتاب والسنة الذين هما المقياس الذي يحكم به على أي شيء، حتى لو كان مخالفه صاحب سلطة ونفوذ ما دام معه الكتاب والسنة. وكتاب (إحياء علوم الدين) من الكتب التي تحتاج إلى دراسة مستفيضة، وقد ارتبطت كثير من الأخطاء التي وجدت في هذا الكتاب بمراحل حياة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، فقد مرّ الإمام الغزالي بمراحل ومحن نفسية كثيرة. والإمام الغزالي -كما يشهد له كثير من العلماء- من الأذكياء النوادر في العالم بلا شك، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته، وكان على فقه عظيم جداً، وهو من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، وله مؤلفات في أصول الفقه، ومؤلفات في العقيدة والأخلاق وغيرها، لكن ما اشتهر الإمام الغزالي بشيء من كتبه كما اشتهر بكتابه (إحياء علوم الدين) وليس المجال مجال التفصيل في حسنات هذا الكتاب، ولا مجال تفصيل في أخطائه أو أخطاره التي لو عششت في قلب أو عقل مؤمن ستقوده إلى كثير من الضلالات للأسف الشديد. وهناك بعض الصوفية اختلقوا وكذبوا كذبةً، وجعلها الشيخ عبد القادر العيدروس بمثابة العصا التي يسميها عصا العيدروس، وهي العصا التي يخوف بها كل من يتكلم في كتاب (إحياء علوم الدين)! فأي شخص ينكر على الغزالي وعلى إحيائه شيئاً فإن العيدروس سيرفع هذه العصا مخوفاً إياه من عاقبة ذلك الفعل، وهذا في كتاب (تعريف الأحياء بفضائل الإحياء) للشيخ عبد القادر العيدروس. وقد روى في هذا الكتاب قصة عجيبة، لكنها لا تستهوي من يتحرى الصدق، ويتحرى العلم وصحة الدليل وموافقة الكلام للكتاب والسنة، مهما رأى من التشويه والتهويل. فيقول: ذكر اليافعي أن أبا الحسن بن حربهم الفقيه المشهور المغربي كان قد بالغ في الإنكار على كتاب إحياء علوم الدين، وكان مطاعاً مسموع الكلمة، فأمر بجمع ما ظفر به من نسخ الإحياء وهم بإحراقها في الجامع يوم الجمعة، فرأى ليلة تلك الجمعة كأنه دخل الجامع، فإذا هو بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والإمام الغزالي -رحمه الله- قائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ابن حربهم -الذي أراد إحراق كتاب الإحياء- قال الغزالي: هذا خصمي يا رسول الله، فإن كان الأمر كما زعم تبتُ إلى الله! وهل هذاك توبة تقبل بعد الموت؟! فالإمام الغزالي رحمه الله قد انتقل إلى الدار الآخرة، فكيف يتوب إلى الله وهو في دار الآخرة؟! قال: وإن كان حصل لي شيء من بركتك واتّباع سنتك فخذ لي من خصمي. ثم إن الغزالي ناول النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الإحياء، فتصفحه النبي صلى الله عليه وسلم ورقة ورقة من أوله إلى آخره، ثم قال: والله إن هذا لشيء حسن! ثم ناوله الصديق رضي الله عنه، فنظر فيه فاستجاده وقال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لشيء حسن. ثم ناوله الفاروق عمر رضي الله عنه، فنظر فيه وأثنى عليه كما فعل الصديق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجريد الفقيه علي بن حربهم عن القميص، وأن يضرب ويحدّ حدّ المفتري، فخلعت ثيابه وضُرب على ظهره، فلما ضُرب خمسة أسواط شفع فيه الصديق رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! لعله ظن فيه خلاف سنتك، فأخطأ في ظنه! فرضي الإمام الغزالي، وقبل شفاعة الصديق، ثم استيقظ ابن حربهم وأثر السياط في ظهره -أي: جُلد وهو نائم- فقام وأعلَمَ أصحابه، وتاب إلى الله من إنكاره على الإمام الغزالي واستغفر، ولكنه بقي مدة طويلة متألماً من أثر السياط! فهل صحيح ما حصل في قصة عصا العيدروس؟! وهل يعقل أن إماماً مثل الإمام علي بن حربهم الذي اتخذ موقفه بناءً على أدلة وعلى علم ثم يحدث له ما حدث؟! فأين العلم في مثل هذه الرؤيا المختلطة؟! فهل هذه تخوفنا كي لا نتعرض لكتاب الإحياء ولكي نقبل كل ما فيه مما يخالف الكتاب والسنة؟! وإن الإمام الغزالي رحمه الله -كما يقول بعض العلماء- قد حشى كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمختلقة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا الشيخ الأستاذ عبد الرحمن دمشقية في كتابه: (أبو حامد الغزالي والتصوف) يقول: ألا قاتل الله ملفق هذه الفرية، ما أكذبه! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أم أن تعصبه الأعمى أغفله عن هذه الحقيقة التي أراد الله أن يجعلها علامة على كذبه؟! ألا فليتبوأنّ مقعده من النار هو وأمثاله ممن يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدين، فقد جاء في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه مسلم، وهو حديث متواتر. والأمر الآخر الذي يشهد بكذبه أن الإحياء فيه من الأباطيل التي لا يقرّها ولا يقول بها أجهل الناس بالإسلام، فكيف يرضى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بهذه العجائب؟! ولو فرضنا -جدلاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الإحياء وقلّبه صفحة صفحة -حسبما يقول هذا المدّعي- فهل أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما نقله الغزالي عن أبي تراب النخشبي إذ يقول: لئن رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة؟! وهذا موجود في الإحياء، الجزء الرابع، صفحة (356). وهل أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي يزيد لأحد أعيان بسطام: قولك سبحان الله شرك؛ لأنك سبحت نفسك فعظمتها وما عظمت ربك؟! ألم يطّلع صلى الله عليه وسلم في الإحياء على ما يقارب ستمائة حديث بين ضعيف وموضوع؟! ألم يقرأ قول الغزالي في آداب الخلوة: ويخلو بنفسه في زاوية، ويقتصر على الفرائض والرواتب، ولا يقرن همه بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير، ولا يكتب حديثاً؟! ألم يقرأ قول الغزالي: القلوب وإن كانت محترقة بحب الله تعالى فإن البيت الشعري الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن؟! فهل البيت الشعري يؤثر في القلوب ويهيجها أكثر مما يفعل القرآن الكريم؟! وقول الغزالي -أيضاً- رحمه الله تعالى: اعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن لوجوه عديدة! ثم ذكر التفاصيل في موضع آخر. ألم يقرأ قول الغزالي عن أصحاب مرتبة الصديقين بأنهم قوم رأوا الله سبحانه وحده، ثم رأوا الأشياء به، فلم يروا في الدارين غيره، ولا اطّلعوا في الوجود على سواه، وهذا هو النظر بعين التوحيد، وهو يعرّفك أنه الشاكر وأنه المشكور، وأنه المحب وأنه المحبوب، وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره، فهو الشاكر وهو المشكور! وهذا الكلام يقترب كثيراً من وحدة الوجود. ألم يطّلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا المكذوبة على تقسيم الغزالي الناس إلى صنفين، حيث قال: الصنف الأول: وهم الأذكياء، الذين لا يطلبون الجنة، بل يحتقرونها، وإنما يطلبون مجالسة رب العزة دائماً، والصنف الثاني: وهم البُلْه -أي: السذج - الذين يتمتعون في الجنة بالنسوان والطعام الشراب كالبهائم، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ألم يقرأ قوله: وما حكي من تفرق المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحق؟! ألم يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الغزالي: واستمع بقلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما نودي به موسى: إني أنا ربك؟! أيكون الغزالي معصوماً من كل زلّة ومنزّهاً عن كل ما اقترف، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كتابه ورقةً ورقةً فلا يجد فيها خطأً يسيراً أو ملاحظة صغيرة على الأقل؟! أهذا هو الإحياء الذي زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم تصفحه ورقة ورقة ثم قال: والله إن هذا لشيء حسن؟! وأن أبا بكر رضي الله عنه قال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لشيء حسن؟! إن هذه الرواية المختلقة لم تكن إلا بمثابة تخويف وتهديد لكل من يهم بإنكار هذه الأباطيل الواردة في كتاب الإحياء، فلا يخافن أحد من هذه الأساطير الصوفية، ولا يترددن في إنكار أي شيء باطل يراه، فإن إنكار المنكر هو ركيزة هذا الدين، وما تركه قوم إلا استحقوا غضب الله وعقابه، والصوفية أوهموا الناس عكس ذلك، فإذا أنكر أحد هذه المنكرات الموجودة في مثل هذا الكتاب خوفوه بمثل هذه الأكاذيب، قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]، وقد ترك بنو إسرائيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاستحقوا اللعن على ألسنة أنبيائهم، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَو

بيان بعض ضلالات الصوفية

بيان بعض ضلالات الصوفية لقد عهدنا في الصوفية أسلوب الترهيب من الإنكار على مخالفيهم لصريح شرع الله، وذلك أنهم يلفقون قصصاً لا أصل لها ليخوفوا بها من ينكر عليهم، قال النبهاني: قال المناوي: قال لي فقيه عصرنا -أي: فقيه عصره- شيخنا الرملي: إن بعض المنكرين رأى أن القيامة قد قامت، ونصبت أوانٍ في غاية الكبرَ، وأغلي فيها ماء يتطاير منه الشرر، وجيء بجماعة ضبائر ضبائر، فوضعت فيه حتى تهرى اللحم والعظم، فقال: من هؤلاء؟ قال: الذين ينكرون على ابن عربي وابن الفارض!! ومن ابن عربي وابن الفارض حتى يعذّب هذا العذاب كل من ينكر عليهما كما يزعمون؟ إن ابن عربي يقول في كتابه (فصوص الحكم): فيحمدني وأحمده ويعبدني وأعبده ففي حال أقر به وفي الأعيان أجحده ولو أردت زيادة لتعرف من هو ابن عربي -الذي يرهبوننا ويخوفننا من أن ننكر عليه- فاسمع ما يقول: فلولاه ولولانا لما كان الذي كانا وإنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا فلا تحدق بإنسان فقد أعطاك برهانا فقل حقاً وكن خلقاً تكن بالله رحمانا وقال أيضاً: العبد ربّ والربّ عبد فليت شعري من المكّلفْ إن قلت عبد فذاك رب أو قلت ربّ أنى يكلّف وبما أن حكاية الكفر ليست بكفر فنذكر مقالته الكفرية -والعياذ بالله- حيث يقول: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة هذا هو ابن عربي الذي يعظمونه، ويقولون: احمل كلامه على غير ظاهره! أما ابن الفارض فهو الذي ينادي ربه مخاطباً إياه -سبحانه وتعالى- بضمير المؤنث! وهو يقول: لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصلّ واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدةِ وما كان بي صلى سواي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعةِ وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق من ذاتي لذاتي أحبّتِ فالصوفية يظنون أن الناس لا ينكرون هذا التحريف لحقائق وأصول دين الإسلام، فيذكرون مثل هذه الروايات المكذوبة حتى على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حيلة لهم بغير هذا الطريق؛ لأنه ليس لهم سلاح غير المنامات والتخويف الكلامي، أما السنّة والعلم والأدلة فلا يستطيعون أن يرفعوا بذلك رأساً؛ لأن مثل هذه الكتب وهذه الأفكار تضمنت من العجائب ما يشهد على رده الأدلة الشرعية، بل الأدلة قائمة ضدها، فإذا عجز أحدهم عن القيام في حلبة العلم ومواجهة الأدلة بالأدلة والحجة بالحجة لجأ إلى الأحلام وإلى الاختلاق الصوفي. ويأتي العيدروس بشواهد على كتاب الإحياء وتعظيمه، حتى إنه ينسب إلى الإمام النووي رحمه الله تعالى أشياء لا يمكن أن تصح عن الإمام النووي، منها أنه قال: كاد الإحياء أن يكون قرآناً! وقال: أجمع العلماء العارفون بالله على أنه لا شيء أنفع للقلب وأقرب إلى رضا الرب من متابعة حجة الإسلام الغزالي ومحبة كتبه. ونحن لا نتكلم في الإمام أبي حامد، فإنه إمام، ونسأل الله أن يعفو عنه ويجزيه خيراً؛ لأنه له آراء مشرقة في هذا الكتاب وفي غيره، وإنما نتكلم عن المواضع المخالفة للكتاب والسنة. وقال العيدروس: قال الشيخ الكازروني: لو محيت جميع العلوم لاستُخرِجَتْ من الإحياء. ونقل عن علي بن أبي بكر السقاف قوله: لو قلّب أوراق الإحياء كافر لأسلم! يقول الأستاذ دمشقية: لكنني أتساءل: أي كافر من الملل الأخرى اجترأ أن يوافق أبا تراب النخشبي في قوله: لئن رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة؟! هل هناك كافر عندما يسمع هذا الكلام يسلم؟ ومن منّا يوافق أبا يزيد البسطامي في قوله حين قال له رجل: سبحان الله. فقال له: قولك: سبحان الله شرك؛ لأنك عظّمت نفسك فسبّحتها وما سبحتَ ربك؟! فهل هذه الأقوال تنقل الكافر من الكفر إلى حظيرة الإسلام، ولم نقصد التوسع في هذا الأمر، لكن هذا خلاصة. ومما ينبّه عليه -أيضاً- أن العيدروس يعتبر كتاب الإحياء أشبه بصكوك الغفران التي كانت تباع بها الجنة أيام الكنيسة الرومانية! لقد كان ضمان الجنة أو الحرمان منها من قبل البابا، وكلمة (البابا) كلمة فيها تعظيم عند النصارى لكافر نجس، فهم يعظمونه بكلمة (البابا)، وهي تعني أباهم هُم، ونحن لا نعترف بها؛ لأن فيها تعظيماً لهذا الشخص المعادي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فكان بابواتهم في الكنيسة الرومانية يحجزون للناس أماكن في الجنة حسب النقود التي يدفعونها لهم كما يزعمون. وهذه الخدعة الموجودة عند النصارى أصبحت تتكرر عند الصوفية، وتزداد لمن يحصّل كتاب الإحياء عند العيدروس. يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني في طبقات الأولياء: إن الشيخ مدْيَن الأشموني جاءته امرأة، وقالت له: هذه ثلاثون ديناراً وتضمن لي على الله الجنة. فقال الشيخ موافقاً لها: هذه لا تكفي! فقالت: لا أملك غيرها. فضمن لها على الله دخول الجنة، فماتت فبلغ ورثتها ذلك، فجاءوا يطلبون الثلاثين ديناراً من الشيخ، وقالوا: هذا الضمان لا يصح. فجاءتهم في المنام وقالت لهم: اشكروا لي فضل الشيخ؛ فإني دخلت الجنة. فرجعوا عن الشيخ. وهذا الشيخ أحمد الرفاعي يطلب شراء بستان من صاحبه، فيقول له صاحب البستان: تشتريه مني بقصر في الجنة؟ فقال: من أنا حتى تطلب مني هذا يا ولدي؟! اطلب شيئاً من الدنيا. فقال: يا سيدي! شيئاً من الدنيا لا أريد، فإن أردت البستان فاشتره بما أطلب. فنكّس السيد أحمد الرفاعي رأسه ساعة، واصفر لونه وتغير، ثم رفع وقد تبدلت الصفرة احمراراً، وقال: يا إسماعيل! قد اشتريت منك البستان بما طلبت. فقال: يا سيدي! اكتب لي خط يدك. فكتب له السيد أحمد الرفاعي ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي ضامناً على كرم الله تعالى قصراً في الجنة، تجمعه حدود أربعة، الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه، وفرشه وستره، وأنهاره وأشجاره، عوض بستان في الدنيا، وله الله شاهد وكفيل! فهذه بعض الأمثلة التي تبين ألاعيب القوم التي شابهت إلى حد كبير الرهبنة، والغلو في الدين وفي الرجال، وأكاذيب الكنيسة وأربابها، وبيع العقارات في الجنة هو من جملة هذا التقارب والتشابه، فلا البابا -كما يسمى- قادر على ضمان الجنة لأحد، بل ولا لنفسه، ولا الشيخ عبد الله العيدروس، ولا عبد القادر العيدروس، ولا أحد قادر على ضمان الجنة لأحد، بل ولا لنفسه، فقد جاء في الحديث الصحيح ما يفيد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تزكية الأخ أخاه، فكيف بمن يضمن للناس الجنة؟! بل ومن يريهم إياها، كما فعل الشيخ العيدروس في عبد الله بن أحمد بن كثير! ولما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه وكفّن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم العلاء الأنصارية: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله -تقول ذلك لـ عثمان - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟). وهذا كقول بعض الناس لمن يموت: لقد استراح. ! وما يدريك أنه استراح؟! هل الإنسان اطلع على الغيب؟! هل بمجرد أنه كان مريضاً أو عانى في دنياه يقال: فلان استراح، وربنا أكرمه؟! إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟!) أي: إذا ما أكرم الله عثمان بن مظعون فمن سيكرم؟! فقال عليه السلام: (أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يُفعل بي) أي: في الدنيا، أما في الآخرة فإنه يعرف. فقالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً. فكيف لو يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوماً يضمنون الجنة للآخرين بمجرد قراءتهم كتاباً؟! قال الموافق لمصنفه والمخالط له: أنه ملئ بمادة الفلسفة وشيء من رسائل إخون الصفا، وفيه متناقضات كثيرة. وقد ولى كل إلى ربه وحسابه على الله، ونرجو للمسلمين جميعاً الخير، لكن هذا كان مجرد بيان، كي لا نتردد في بيان الحق، ولا نأبه بمثل ما يسمى عصا العيدروس أو أنصار العيدروس ممن يخالفون الكتاب والسنة، ويلوحون بهذه العصا لمن اجترأ على انتقادهم وكشف زيفهم بأدلة الكتاب والسنة. اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، سبحانك -اللهم- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مسئولية الرجل عن الأسرة

مسئولية الرجل عن الأسرة لقد حمّل الله الرجل مسئولية الزوجة والأولاد، وجعل له القوامة عليهم من حيث الإنفاق والرعاية والتربية الإيمانية والحث على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأعداء الله يحرصون على تفكيك الأسرة وتشتيتها فكرياً وعقلياً وعقدياً؛ لكي يفسدوا المسلمين، فيتحقق لهم ما يريدونه من السيطرة على هذه الأمة، وإبعادها عن دينها، وأخذ خيراتها، فعلى المسلم أن ينتبه من غفلته، ويكون مستعداً لمجابهة الأخطار التي تهدد كيان الأسرة، ويعالج الخلل والخطأ والنقص في التعامل مع أسرته.

الحرب العالمية ضد المرأة المسلمة وطرق التخلص منها

الحرب العالمية ضد المرأة المسلمة وطرق التخلص منها الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فنعود إلى موضوع القضايا التربوية التي سبق أن شرعنا فيها منذ مدة، وقد توقفنا عند مسئولية الرجل عن حماية الأسرة. فقد قرر الإسلام مكانة عظيمة للأسرة، ويتجلى ذلك في اهتمام الشريعة الإسلامية بشئون الأسرة سواء في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما تضمن من أحكام الزواج والرضاع والطلاق والإرث ونحو ذلك. واستطاعت الأجيال المتعاقبة أن ترسخ معاني إسلامية عميقة في الأسرة في مجتمعاتنا، وأحس أعداء المسلمين -وهم يحاولون هدم هذه الأمة- صلابة هذه اللبنات وقوة هذا الحصن، ومن أجل ذلك كان هجومهم في الأزمان الأخيرة مركزاً على الأسرة، فاستخدموا كل القوى التي يمكن أن تصل إليها أيديهم وما أكثرها! {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. فمن هذه الأساليب: سن القوانين التي تفكك الأسرة في كثير من بلاد المسلمين. ومن ذلك أيضاً: شن الحملات على الأسرة عن طريق الفن، بواسطة وسائل النشر والإعلان من قصص ومجلات وصحف وإذاعة وتلفزيون ومسرح وسينما، وما زالوا في طريقهم ماضين. احتفل هؤلاء بمرور مائة سنة على تحرير المرأة الذي بدأه قاسم أمين منذ قرن كامل، وبعد قرن كامل من هذه الثورة الانقلابية على دين الله سبحانه وتعالى من هذا الرجل نرى الآن حصادها وشؤمها وثمراتها المريرة، وكيف أنها بدأت ناعمة هادئة يدعي صاحبها أنه يريد تطبيق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المسلمين هم الذين يسيئون فهم النصوص إلى آخر هذه الأحابيل والحيل، وانتهت بالاحتفال الذي أقيم بمرور مائة سنة على تحرير المرأة -بزعمهم- وتكلم -لا أقول: ناقصات العقل والدين- ولكن عديمات العقل والدين من التلميذات التاريخيات لـ قاسم أمين ودعوته المشئومة. فامرأة من لبنان تجهر وتقول: أنا ملحدة وأفخر بأني ملحدة! وترفض أن توصف بأنها مسلمة. وتقول نوال السعداوي في رسالة للمؤتمر: ينبغي أن نتحدى إرادة الله والعياذ بالله! ومثل هذا مما لا يسوغ نقله وحكايته، وإن كانت حكاية الكفر ليست كفراً، فهذا من حصاد هذه الدعوة المشئومة للتمرد على أحكام الشريعة فيما يتعلق بالأسرة والمرأة. وهذه الحملات مصدرها أعداء الدين، وقد يدعم هذه الحملات سيطرة النزعة المادية على سواد الناس، وانشغال الناس بجلب المال والكسب والرزق يجعلهم لا يلتفتون إلى خطر هذه الأشياء؛ لأنهم في شغل شاغل عن إدراك ما يحاك لهم. الأسرة المسلمة كانت مستهدفة من قبل أعدائها، وأصبحت الآن مهددة من قبل أصحابها المسئولين عنها، فنحن دائماً نلقي اللوم على الآخرين من أعداء الدين الذين بالفعل يحاربون الإسلام، لكن ننسى أن أصابع الاتهام ترتد إلينا نحن أنفسنا في كثير من الأحيان! فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال في الحديث نفسه: (والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته)، وكلمة (مسئول) أصبح لها معنىً عرفياً عند الناس، تعني: موظف في مكان معين، أو شخصية رسمية مسئولة، وننسى المعنى الحقيقي لكلمة مسئول، فإن معناها: أنه سوف يسأل أمام الله، فكلمة (مسئول) تشير إلى هذا المعنى العظيم والخطير، وهو: أن العبد مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى ومحاسب. فحينما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته)، لا يتصورن الأب أن الزوجة والأولاد يملكهم كما يمتلك العبيد أو كما تمتلك الأشياء، فيظن أن له أن يقصر أو لا يقصر، ويتصرف كما يشاء، يضرب يسيء يهين يفعل ما يشاء، لا، بل عليه أن يدرك أنه ممتحن ومبتلى بهذه الولاية وهذه المسئولية، وأنه سوف يحاسب أمام الله سبحانه وتعالى عن كل سلوك مع أهل بيته من زوجة وأولاد. فأمر مهم جداً أن يفهم معنى: (مسئول عن رعيته) وهذا هو لب القضية التي نتناولها؛ لأننا بصفة أساسية نخاطب الرجل الوارث باعتبار أن: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]. ومن أبرز مظاهر هذه القوامة: أن يقوم الرجل بواجباته الأدبية والتربوية والمادية وغيرها نحو هذه الرعية التي ولاه الله سبحانه وتعالى عليها. معنى (مسئول عن رعيته): أنه سيقف أمام الله سبحانه وتعالى، وكما سيحاسب على الصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنه سيحاسب عن تصرفاته وسلوكه تجاه أهله وأولاده. ولم يهمل الإسلام الجناح الآخر في العملية التربوية، خاصة وأن المرأة في بعض المراحل تكاد تستبد بالعملية التربوية خاصة في المراحل الأولى في فترة الرضاعة وما بعدها من الحضانة؛ لأن الطفل يكون شديد الالتصاق بها، وهذه المرحلة أخطر، وهناك أحكام شرعية تشير إلى تخصيص الأم بالحضانة عند انفصال الزوجين، وغير ذلك من الأحكام التي تركز في المراحل الأولى على الأم، كما قال الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها أعدت شعباً طيب الأعراق فالنبي عليه الصلاة السلام لم يهمل ولم يغفل هذا الركن الرئيس في التربية، فقال عليه الصلاة والسلام في نفس الحديث: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، فالأم أيضاً مسئولة أمام الله سبحانه وتعالى عن هذه العبادة الخطيرة، وهي: حسن رعاية أولادها وزوجها وبيتها. فعلى كل أب وأم أن يستشعرا هذه المسئولية نحو الأسرة، وأن ينتقل هذا الموضوع إلى دائرة الاهتمام، فيصبح شيئاً نلفت النظر إليه، وننتبه إلى خطره، وإلى عظيم أثره في مستقبل هؤلاء الأولاد، بل في مستقبلنا نحن حينما نحاسب أمام الله سبحانه وتعالى في الآخرة. فلفت النظر إلى الاهتمام بهذه القضية وخطرها هو أول خطوة على الطريق الصحيح، ونحن الآن ينطبق علينا قول الشاعر: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد فالتيار العام في زمن الغربة الثانية يهدم في كل مكان، ونادراً ما تجد شيئاً يبني، فالمدرس يَهدم ويُهدم وكذا الأبوان ووسائل الإعلام شلة الأصدقاء المجلات الجرائد الأجهزة المرئية والمسموعة وهكذا! فمعظم العوامل المؤثرة عوامل هدامة في زمن الغربة الثانية، وقد رجع الإسلام غريباً كما بدأ غريباً. فلا شك أن هناك خطراً داهماً ماحقاً يهدد كياننا، والأسرة هي القلعة الأخيرة التي يمكن نجاتها من هذه السهام وهذا التهديد، فآخر قلعة يمكن أن يتحصن بها المسلمون ويحافظوا على أولادهم هي الأسرة. نرجع بذاكرتنا إلى عقود كثيرة من الزمان أكثر من خمسة وسبعين سنة، فالحكم الشيوعي في الجمهوريات الإسلامية انتهبها وسرقها تحت ما يسمى بالاتحاد السوفيتي الهالك المفكك، ونستغرب الآن حينما تحررت نسبياً كثير من هذه الجمهوريات، من هذا الدب الأحمر؛ كيف استطاع هؤلاء أن يحافظوا على هويتهم وعلى عقيدتهم في ظل الحرب الإلحادية المركزة ليل نهار!! نجد أن الأسرة هي الكيان الوحيد الذي صمد خلال هذه الفترة سواء في فترات الحكم الشيوعي في هذه الجمهوريات الإسلامية السابقة أو في أوروبا في البوسنة والهرسك وكوسوفو، فالمعقل الوحيد المتبقي على ضعفه هو الأسرة، حتى كانوا يبنون غرفاً تحت الأرض يخفون فيها دينهم، ويعلمون الأولاد الصلاة والقرآن تحت الأرض، ولو علم الشيوعيون بذلك لكان جزاء الأبوين القتل، وأي إنسان يعلم الناس اللغة العربية أو القرآن أو يتكلم بمعنى الإسلام أو يضاد الدعوة إلى الإلحاد وإنكار وجود الله كان جزاؤه القتل في أبشع مجازر وجرائم شهدتها الإنسانية على أيدي هؤلاء الشيوعيين. فكانت القلعة الحصينة هي الأسرة، فأكثر شعوب العالم الإسلامي غزيت بما يهدد عقيدتها في عدة مجالات، ولا شك أن أخطر المجالات على الإطلاق هي مناهج التعليم، غزينا في الأسواق في المتاجر في المصانع في وسائل الإعلام في أدوات تكوين الرأي العام. ليس هذا فحسب، بل حيل في كثير من بلاد المسلمين بين الدعاة العاملين وبين الناس بعد تشويههم بأنهم متطرفون وأنهم رجعيون إلى آخر هذه القائمة من المصطلحات التي ما أريد بها إلا أن يصد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى. فلم يبق لهذه العناصر في كثير من البلاد إلا مجال الأسرة، وبقيت هي المنطلق الوحيد لهؤلاء الدعاة، فلا ينبغي أن نلقي اللوم دائماً على الأعداء ونبرئ أنفسنا، بل كثير منا يتحمل من هذا الأمر أكبر نصيب من المسئولية؛ لأنه باستطاعتنا أن نغير في داخل الأسرة التي لا سلطان لأحد عليها بالإكراه، فإذا تبوأ الأب المسلم والأم المسلمة موقعهما التربوي داخل الأسرة فإنهما ما زالا قادرين على بناء سياج يحمي أولادهم من الأخطار في خارج البيت والأسرة.

أهم الأخطار التي تهدد كيان الأسرة

أهم الأخطار التي تهدد كيان الأسرة

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة الشغل المتواصل

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة الشغل المتواصل الأمر السادس: الشغل المتواصل، فقد أصبح رب الأسرة في معظم الأحيان عاجزاً عن أن يجد الوقت الذي يجتمع فيه بنفسه أو بأفراد أسرته، ويوجههم ويحدثهم ويستمع إليهم، حتى إن زوجته لا يتاح لها أن تجلس معه وتتفاهم معه على الخطة الرشيدة التي يجب أن يسير بموجبها أفراد الأسرة، وقد قلنا من قبل: لابد من وجود سياسة تربوية موحدة بين الأبوين، ويكون هناك اتفاق على أمور أساسية جداً لمصلحة الأولاد، حتى لو كان بينهما خلاف فلا ينبغي أن يظهر أبداً أمام الأبناء، بل يكون خلاف الأبوين سرياً ومكتوماً ولا يطلع عليه الأولاد، فلا بد من الاتفاق على التكامل في الناحية التربوية. فالأب إذا كان يأمر بشيء والأم تأمر بعكسه، يحتار الطفل بينهما، أو الأم تعاند الأب أمام الأولاد، وتحاول أن تكسر كلامه، وتخرق توجيهاته، فهذا كله يدفع ثمنه الأولاد، ولا مخرج منه إلا بالاتفاق على أساليب تربوية معينة تدور على التنسيق والتكامل بين الطرفين، والآن الرجل في الصباح يسارع إلى عمله الدنيوي، ولا يعود إلا متأخراً ليأخذ قسطاً من الراحة، وخلال هذه الفترة تمنع الحركات والهمسات، ولا يستطيع أحد أن يتكلم معه، ثم لا يعود في المساء إلا في ساعة متأخرة من الليل ليجد أهل البيت نياماً! بعض الآباء يستعملون البيت مثل الفندق أو (اللوكندة) يأتي ليبيت فيه ثم في الصباح ينصرف، ولا علاقة له بالعملية التربوية، فيعود في المساء ليجد الأولاد نياماً، ويذهب في الصباح أيضاً وهم نائمون، ولا شك أن هذا أمر مستنكر من عموم الناس، وهو من المتدينين أشد استنكاراً؛ لأن هذا الأخ المتدين سيجد نفسه بعد مدة -بمرور الزمن- في واد وزوجته وأولاده في واد آخر، يحلم أن أولاده سيكونون ملتزمين، ومن أين سيأتي الالتزام بهذه الطريقة؟! لا بد أن يكون هناك توجيه وتربية وتخطيط وآداب ومعاونة، أما مجرد الأماني فلا تنفع، قال الله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} [النساء:123]. هذا شيء طبيعي، ويأتي بعد ذلك الأب يشكو أن ابنه منحرف مع الأولاد ويفعل كذا وكذا أو لا يصلي أو إلى آخر هذه الشكاوى، فهل ستأتي له من السماء وتنزل عليه هذه الاستقامة أم لا بد من الأخذ بهذه الأسباب؟! فبمرور الوقت تزداد الهوة والفجوة بين الطرفين، لا شك أنه سيندم ولاة ساعة مندم، وهذا الشغل لم يقتصر على الرجل، بل شمل في بعض الأسر المرأة التي تترك بيتها طوال النهار، وتكل تربية أبنائها وإعداد بيتها للخادمة؛ فيكون من ذلك الضياع التام. إما الخادمة وأحياناً يكون الشارع، وأحياناً ملاجئ الإيواء التي يسموها الحضانة وغيرها من الأسماء، لكن هي أماكن مجرد إيواء، هل ممكن أن يقدم للطفل من الرعاية في هذه الأماكن عشر معشار ما تقدمه الأم في البيت؟ لا يمكن أبداً.

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة روح اللامبالاة

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة روح اللامبالاة الأمر الثاني: روح اللامبالاة، وهي روح منتشرة في كثير من الناس، مع أن الشرع الشريف يربي في المسلمين الشعور بالمسئولية، ولا أدل على ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته). فنحن نتكلم كثيراً عن الحكم بما أنزل الله ثم نقتصر فقط على دائرة الحدود، الحكم بما أنزل الله في كل الأمور الشرعية، أنت إذا رجعت إلى أي كتاب فستجد فصلاً كبيراً اسمه: الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم به والمحكوم عليه إلى آخره، فحكم الله في كل شيء، فأنت مطالب أن تحكم بما أنزل الله في بيتك، وأن تدير هذا البيت وفق شريعة الله سبحانه وتعالى، فكثير من الآباء يوجد عندهم روح اللامبالاة بالأولاد، وهذا مضاد للإسلام الذي خاطب الآباء بقوله: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال في نفس الحديث: (الرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته)، وقال صلى الله عليه وآله سلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته). فلا تظن أنك إذا أسأت إلى الأولاد أو إلى الزوجة أن الزوجة ستصبر، وأن الأولاد لجهلهم بحقوقهم ما زالوا صغاراً لا يدركون أنك مقصر، أو يستحيون أن يحاسبوك، لا تظن أنك قد نجوت بهذا، فالسؤال منتظر لك يوم القيامة، فستسأل عن سلوكياتك معهم. الإسلام نمى في المسلمين الشعور بالمسئولية نحو الأبناء، فليس هناك أمر يحدث في المجتمع ولا يكون له تأثير، وما أروع حديث السفينة الذي يجعل أي عمل من أي فرد له تأثير على المجتمع كله، فهذا الحديث يبين لنا أن روح اللامبالاة تقضي على الأمة كلها. المسلمون في بلادهم عبارة عن أناس يركبون هذه السفينة، إذ لو أن ذاك الرجل الذي أراد أن يخرق في موضعه من السفينة خرقاً ترك وشأنه، يثقب ثقباً في السفينة ليشرب ولا يؤذي من فوقه، ولم يؤخذ على يده؛ هلك وهلكوا، وآل الأمر من أصغر خرق إلى أوسع خرق، ثم البحر يبتلعهم جميعاً، فإذا استسلمنا جميعاً لروح اللامبالاة فلا شك أن ركاب السفينة جميعاً سيغرقون. ومظاهر الشعور باللامبالاة كثيرة جداً، وهذا الكلام ينكأ كثيراً من الجراح عند بعض الناس؛ لأن بعض الآباء لم يعرف ابنه في السنة كم ذهب إلى المدرسة، وليس عنده أي خبر على أنه ابنه كثير الغياب، وهو يظن أنه خلق لينفق المال، وهو غير مقصر مع أولاده ما دام أنه يعطيهم مالاً، فيهمل أولاده تماماً حتى أن بعضهم لا يعرف ابنه في أي سنة دراسية بلغ أو في أي مدرسة يدرس، فهناك نوع من اللامبالاة والإهمال يعكس فعلاً تمكن الأمية التربوية في مجتمعنا.

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة لزوم التقاليد الاجتماعية وقلة العلم بالدين

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة لزوم التقاليد الاجتماعية وقلة العلم بالدين الأمر الثالث: لزوم التقاليد الاجتماعية المتعفنة وقلة العلم بالدين، فنرى كثيراً من هذه التقاليد التي لم يشرعها الله سبحانه وتعالى تحل محل الدين في كثير من بلاد المسلمين، ومما مكن لها السيطرة الجهل وتخلف الوعي الإسلامي، فالعادات والتقاليد متمكنة تمكناً راسخاً، بحيث ينضاف إليها تخلف الوعي الإسلامي والجهل بأحكام الإسلام. وهذه الأمور تختلف من مكان إلى مكان، لكنها في كل مكان تسيء في عملية بناء الأسرة بناءً متيناً أو تؤثر في محاولة الإبقاء عليها أمام هذه الأعراف، فالتقاليد الاجتماعية المتعفنة راسخة وظاهرة وكثيرة ومعروفة مع الجهل بالدين، فتسيطر على الناس التقاليد والأحوال الاجتماعية بسبب الجهل بالشريعة الإسلامية.

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة تسلط المرأة على إدارة البيت

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة تسلط المرأة على إدارة البيت الأمر الرابع -وهو من الأمور التي أحدثت الاعوجاج في أوضاعنا الاجتماعية وخاصة التربوية-: تسلط المرأة على إدارة البيت، فمن النقص أن ينزل الرجل نفسه في غير منزلتها اللائقة بها، فالله سبحانه وتعالى جعل الرجال قوامين على النساء، وإذا فسد القوام فسد جميع الأقوام، فالرجل له مقام ربان السفينة. فمن هو قائم على شيء فهو أفضل منه، فما دام الرجل قواماً على المرأة فهو بلا شك أكمل من المرأة، وأقدر على الإدارة من المرأة، فشأنه أن يكون مطاعاً لا مطيعاً، ومتبوعاً لا تابعاً. وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن شاء أعلاها وإن شاء سفلها وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التفلت، وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاء، وينتج عنه كثير من الاضطرابات النفسية، أو يزيد من الاضطرابات النفسية إن كانت موجودة، وهذه المصيبة يدفع ثمنها غالياً. فقد تقترح المرأة أن تلبس البنات لباساً لا يقره الإسلام بحجة أنهن صغيرات، وأن الناس هكذا يعملون، وأن المصلحة في مسايرة الزمان، وتظل توسوس لزوجها كما يوسوس الشياطين إلى أن ينهزم الرجل ويستسلم. قد ترى المرأة تقوم بألوان من الاستقلالات التي لا يقرها الإسلام، ويضعف الرجل ويوافق، ويكون في هذا هدم للأسرة، فهذا انتكاس وقلب للأوضاع، حيث تبقى المرأة هي المسيطرة على الرجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الكلام على أمارات الساعة: (أن تلد الأمة ربتها) يعني: ينقلب المخدوم خادماً، والخادم مخدوماً. وليست القوامة أن شخصية المرأة تلغى، لكن جعل الله سبحانه وتعالى القوامة في حدود شرعه، فلا شك أن القوامة هي عملية تنظيمية وليست عملية استبدادية أو استعبادية كما يزعم أعداء الله عز وجل وأعداء المرأة الذين يزعمون أنهم أنصارها، فمهما يكن من أمر فلا شك أن إلغاء شخصية الرجل أكبر خطراً وأعظم أثراً.

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة طغيان الحنان والشفقة

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة طغيان الحنان والشفقة الأمر الخامس: طغيان الأمومة الحانية والأبوة المشفقة، وهذه مبالاة بصورة مرضية، وتسمى الحانية الزائدة، فقد تطغى على الأم الأمومة الحانية أو على الأب مشاعر الأبوة المشفقة، وتتعدى حدودها، وإزاء هذا الفيض من العاطفة، والسيل المتدفق من الحنان، والميل الشديد لاسترضاء الولد وإدخال السرور عليه؛ وقف الإسلام وقفة المذكر المنبه، فلكل شيء حدود، فهذا الحنان وهاتيك العاطفة قد تنسيان الأب مهمته في التوجيه والتربية، فينقلب عندئذ إلى منفذ لأوامر الأطفال الصغار، ويفلت منه الزمام تماماً بحيث تبقى وظيفته هي عبارة عن منفذ لأوامر الأطفال الصغار! فيكون الولد ملكاً في البيت ما يأمر به من أمر إلا يسمع له ويطاع، حتى لو خرب ميزانية المنزل، فمثلاً يريد لعباً من المحل الفلاني رآها وهو يمشي في الطريق، أو يريد يرى قريبه، فينقلب الأب منفذاً، ويتخلى عن التاج الذي وضعه الشرع على رأسه، ويصبح هذا التاج فوق رأس الطفل، وتصبح وظيفة الأب هي تنفيذ أوامر الأطفال الصغار، ويسارع في تحقيق رغباتهم مع أنهم لا يعرفون من الحياة شيئاً، ولا يدرون ما ينفعهم ولا ما يضرهم. فكثير من أجيال المسلمين اليوم لم يجدوا في والديهم إلا الحنان المحض أو الإهمال اللامبالي، فهذا هو التطرف، وهو الأخذ بأطراف الأمور، إما إغراق في الحنان بصورة فيها تطرف وغلو بحيث إنه يصل إلى أن الولد يمسك زمامه، ويوجهه إلى ما يريد، خاصة في بعض الأسر المترفة التي عندها يسار، فيقول الأب: عندنا أموال فلماذا ننكد عليه؟ فيظل مهما أمر يقول الأبوان: سمعنا وأطعنا يا مولاي! ويحصل هذا القلب للأوضاع، فالمرءوس يصير هو الرئيس. والإهمال واللامبالاة بالأولاد غالباً يكون من الأب بسبب انشغاله بالرزق أو سفره إلى الخارج كي يجلب لهم المال، وأحياناً قد يسافر الأب والأم معاً إلى الخارج، ويبقى الأطفال ضحية للضياع ولأصدقاء السوء، وفي ذلك من المفاسد ما لا يخفى. وبسبب هذا التطرف من ناحية الحنان المحض الزائد أو من ناحية الإهمال واللامبالاة المطلقة رأينا أجيالاً فيها الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة. يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله تعالى تعليقاً على هذه النقطة: سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلاً جاء يسترشده لتربية بنت ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار! قال: وكنت أظن في بادئ الأمر أنني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أنما قلته هو الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه! وبعض الناس يسمع هذا الكلام ويخطئ في تنفيذه، فهذا الكلام له ضوابط، فالطفل لغته الوحيدة التي يستطيع بها التفاهم مع المحاطين به هي البكاء، فبعض الناس يقول: ما دام أن الطفل يبكي إذاً نعاقبه وإن كان رضيعاً ابن شهر أو شهرين، مع أن البكاء هو طريقة الحصول على الطعام، فالطفل لا يستطيع أن يقول للناس: أريد أن أرضع، فالبكاء هي اللغة والوسيلة الوحيدة التي يستطيع الطفل أن يعبر بها عما أراده، والبكاء أنواع: بكاء بسبب المرض، بكاء بسبب الجوع، بكاء بسبب الحر، بكاء يريد به أن ينظف وتزال عنه القاذورات مثلاً، فأسباب البكاء كثيرة، فاللغة الوحيدة للطفل هي لغة البكاء، لكن دلالاتها تختلف، والأم التي عندها خبرة تربوية عالية تستطيع أن تميز كل نوع من أنواع البكاء، وتعرف أن هذا بسبب المرض، وهذا بسبب الجوع، وهذا بسبب الحر وهكذا. عندما كان الرجل في سابق الأيام مسيطراً على البيت كانت جلادته وصلابته تخففان من لين الوالدة، أما بعد أن استنوق الجمل في كثير من الأوصاف، -استنوق: أي: صار الجمل ناقة-، وأصبح الرجل يتصف بهذه الأوصاف، ولا مهمة له إلا القيام بالخدمات وجلب الأغراض والحاجيات، ودفع المال والنفقات؛ لم يعد يملك من أمر بيته إلا اليسير كما هو شأن هذا الجيل المائع المنهار. وعلى المرأة المسلمة وظيفة أساسية وهي أن تحافظ على وضعية زوجها وأبي أولادها أمام الأولاد؛ لأنها إذا حاولت هدم هذه الوضعية فالجميع سيدفع الثمن، الزوج والزوجة والأولاد، فحينما تريد أن تنتقم من الأب بأن تشوه صورته أمام أولادها تنقص قدره، وتظن أنها سوف تفوز بانحياز الأولاد إليها؛ فإن هذا يفقدها سلاحاً في غاية الأهمية، وضرورياً لصيانة هؤلاء الأولاد، وإذا غاب سلطان الأب وضعف على الأولاد، فلا شك أن هذا ثمنه فادح.

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة عدم النظر إلى العواقب

من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة عدم النظر إلى العواقب أول هذه الأمور التي تعرض الأسر للخطر: عدم تقدير المستقبل، فكثيراً ما يتصرف الناس بعض التصرفات، ثم لا يقدرون أثرها في المستقبل، وهذا أمر خطير في التعامل مع الطفل منذ فترة الولادة مباشرة كما سنبين بالتفصيل، وربما تمتد إلى فترة المرحلة الابتدائية، فنظرة بعض الآباء للطفل أنه عبارة عن لعبة يتلهى بها، وينظر إليه بازدراء، وأنه ما يأتي منه شيء، وهو ما زال صغيراً، فيحرم كثير من الخير الذي كان يمكن أن يحصله، وأيضاً تزرع فيه كثير من الأمور الهدامة لنفسية هذا الطفل، مما يجعله لا يثق بنفسه أو ينشأ مشوهاً نفسياً. فالآباء يفعلون كثيراً من التصرفات دون أن يدركوا أن هذه التصرفات لها أثرها على أولادهم في المستقبل، وعندما نقول: الآباء ندرج ضمن هؤلاء أيضاً المدرسين؛ لأن الطفل يقضي مع المدرس وقتاً ليس بالهين في المدرسة، ويتلقى العلم على الأساتذة، ويتسرب إليه من رفقائه كثير من المفاهيم، ونحن نتصور أنه شيء هين عادي، لكن هو يترك أثراً في نفسية هذا الطفل خاصة إذا تكرر، فمثلاً الطفل الذي يرسم رسماً ليس فيه روح، فيأتي إلى المدرس أو المدرسة وهو منبهر أنه رسم في حصة الرسم الشيء المطلوب منه حديقة أو بحراً أو كذا، فالمدرسة دائماً ترد على كل طالب مهما كان مجيداً للرسم: سيأتي نفس هذا الرسم! فهذه أكبر كلمة تقال! وهي كلمة عابرة، والمدرسة متصورة أنه شيء سهل هين، لكن الطفل يصطدم صدمة شديدة، ويفقد الثقة بنفسه؛ لأنه قيل له الألفاظ المعروفة، فيبوء بالخيبة والفشل، ولا يجد أملاً! تصوروا أن هذه حوادث عابرة تترك تأثيراً عظيماً في الطفل حتى الطفل الرضيع والجنين في بطن أمه يتأثرا بكثير من الأشياء كما سنبين. ومثلاً يرد الطفل على الهاتف، فيسأل المتصل عن أمه أو أخيه أو أبيه فيقول له: قل له: إنه غير موجود، ويتصور أنه حادث عادي، دون أن يدرك أن هذه السلوكيات في المستقبل لها أثر هدام في سلوكيات الأبناء. فأكبر خطر وأكبر مشكلة أننا نتعامل مع الطفل دائماً بعقلياتنا نحن، فالشيء الذي نراه مساوياً تماماً لعقلنا نكافئه عليه، ونعاقبه إذا قصر في هذا مع أنه لا يد له في ذلك، وأنت لما كنت طفلاً كنت مثله، وكانت إمكاناتك قليلة، وخبراتك قليلة، وإنما تتعلم عن طريق التجربة والخطأ والتلقين والقدوة وغير ذلك من الوسائل، ومن الخطأ الشديد تعذيب الأولاد بالضرب والإهانة والتحقير، ويريدون بذلك أن يتصرف الطفل تصرفاً سليماً صحيحاً. فترى الأب يغضب ويعاقب ابنه للتشفي منه في حين أنه ليس عليه ذنب، فالشرع الشريف قد رفع عنه القلم، ولم يؤاخذه حتى على الصلاة إلى سن العاشرة، وقبلها يؤمر فقط بالصلاة إذا بلغ السابعة فما بالك بما دون ذلك؟! فالشاهد أننا مع الأطفال نتهاون في التصرف أمامهم بتصرفات دون أن نقدر خطرها عليهم في المستقبل، ونتصور أن السكوت على أمر ما هين يسير، ولكن السكوت على هذا الشيء قد يهدم الأسرة هدماً تاماً! قد يتصور الأب أن أولاده الصغار لا يستحقون أن يخصهم بجزء من وقته الثمين، فهو يضحك ويسخر منهم، ولا يأمر واحداً منهم بخير، ولا ينهاه أو يحذره من شر، ولا يقدر المستقبل، ولا يدري أن هذا الطفل الصغير سيكون بعد مدة وجيزة رجلاً كبيراً، وقد يكون له شأنه في البيت وفي المجتمع كله. هذا هو الأمر الأول الذي ينبع من أنفسنا، ونسيء به إلى أبنائنا، وهو عدم تقدير المستقبل، ولا نحس بخطورة الإهمال الذي نتمادى فيه تجاه الأولاد، فهذا له ثمن فيما بعد، فهو يراك -مثلاً- حينما تعق أباك أو تعق أمك، فهذا درس عملي له، وسوف يتسرب إليه نفس هذا الشيء فيما بعد، ويفعل نفس الشيء فيعقك أنت، قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]. فالسلوكيات التي تمر بصورة عفوية ولا ندرك خطرها في المستقبل، هي تنزرع في أعماق هذا الطفل حينما يشب وينشأ عليها، فهذا هو الأمر الأول: عدم تقدير المستقبل والنظر إلى عواقب سلوكياتنا مع الأبناء.

مقتطفات من كلام الصباغ حول تربية الأسرة

مقتطفات من كلام الصباغ حول تربية الأسرة يقول الأستاذ الدكتور/ الصباغ حفظه الله تعالى: أشغال الناس كثيرة ومتنوعة، وهي التي تلهيهم عن العملية التربوية، وبالتالي تؤدي إلى ارتفاع الفجوة بين الآباء وبين الأبناء. يقول: غير أن هناك نوعاً غريباً جداً من أنواع هذا الشغل، وهو ما يكون للدعوة وإصلاح الناس، وذلك خطأ في تصور الدعوة والعمل فيها، والمرء مطالب بأن يصلح أهله أشد المطالبة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. وقال تبارك وتعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، وإهمال الداعية لأهله سيوقعهم في الانحراف والمخالفة، والاشتغال الكامل بوظائف الدعوة هو باب من أبواب الخير، لكن إذا كان على حساب الفروض العينية والمتعينة على الرجل من تربية أولاده والحفاظ على دينهم؛ فإنه يدخل ضمن المشاغل المدمرة. فلا تغلب الدعوة على حساب الواجب العائلي الذي إذا قصرت فيه فلن يكون خيراً في حين أن الآخرين الأبعد منك من الناس من يقوم تجاههم بالواجب الكفائي في دعوتهم. وحينما يحصل الانفصال بين الأولاد من جانب وبين الأب من جانب آخر، فقد لا يستطيع أن يستمر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويقال له: إن كنت صادقاً فأصلح بيتك، ويكون هذا الوضع الخاص مضعفاً لتأثيره في الناس؛ لأنه لابد من القدوة، ويكون هذا سبباً في أن يتعكر صفوه، وتتنغص عليه لذاته، وتواجهه مشكلات قد تحول بينه وبين الاستمرار في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

بعض اقتراحات الدكتور الصباغ في تربية الأهل

بعض اقتراحات الدكتور الصباغ في تربية الأهل اقترح الدكتور الصباغ بعض الاقتراحات في تربية الأهل فقال: أولاً: لابد أن تخصهم بجلسة أسبوعية كأقل تقدير، وإن استطعت أن تكون في مدة أقل كان أحسن، ويكون فيها درس عائلي للأسرة وللأهل. ثانياً: إقامة حلقات للأولاد يتولاها أناس ظلهم خفيف، ودينهم جيد، وبيانهم مشرق، وإن كانت مستوياتها مختلفة للابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي فهو أفضل: (فالمرء على دين خليله). هذه أمور هي بأيدينا، وهذه الأسباب في المحافظة على الأهل والأولاد وتربيتهم وأداء واجب الرعاية نحوهم، ونستطيع بها أن نقاوم هذا المد الجارف من الضلال والانحراف الذي يكتسح المجتمع. فلنتق الله سبحانه وتعالى فيها، ولنصلح الفاسد، ولنحذر غرق سفينة المجتمع، فالأسرة هي القلعة الأخيرة التي ينبغي أن نوقف حياتنا وإمكاناتنا لحمايتها وحفظها، وإنا لمسئولون كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته). سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

وصية الصباغ للزوج حديث العهد بالعرس

وصية الصباغ للزوج حديث العهد بالعرس يوصي الأستاذ الدكتور/ محمد الصباغ حفظه الله تعالى الزوج العروس فيقول له: لا تشتغل طويلاً عن أهلك، واعلم -يا أخي- أن الجلوس إلى عروسك ومحادثتها ليس وقتاً ضائعاً، لاسيما إذا كانت المحادثة تسير في طريق هادف، وتسعى نحو قصد محدود. بعض الدعاة يكون خارج البيت مع إخوانه الذين يتعاون معهم في الدعوة، وإذا عاد إلى البيت يعود بهم إلى البيت، وكل هذا على حساب رعيته التي رعايتها متعينة عليه! فلابد من التوازن بين الحقوق والواجبات، هذا التوازن قد أرسى قواعده النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف حينما قال: (فأعط كل ذي حق حقه). فالإنسان له عدة صفات: فهو مسلم مطالب بالصلاة والصيام والزكاة والحج وطلب العلم إلى آخره، وداعية مطالب بكذا وكذا، وزوج مطالب بحقوق للزوجة، ومزور مطالب بحقوق ضيوفه، وأب مطالب بحقوق أولاده، وعليه حقوق لربه عز وجل، وحقوق لصحته، وهكذا (فأعط كل ذي حق حقه)، ولا تعطي البعض وتترك البعض: (فأعط كل ذي حق حقه). فبعض الناس يرى أن الجلوس مع الزوجة لتوجيهها ومحادثتها وتعليمها وقت ضائع، وهذا كثير ما ينبع من مشكلة موجودة في مجتمعنا وفي تقاليدنا، ويكمن وراءها كثير من المصائب الاجتماعية، وهي مشكلة احتقار المرأة، فبعض الناس تربى على أن المرأة كيان محتقر، لا كرامة لها ولا شخصية ولا قيمة، ويتداولون في ذلك بعض القصص التي لم تصح، وليست من ديننا في شيء، وهي قصص موجودة في بعض كتب الأدب، وليست من القرآن ولا الأحاديث، لكن انظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، ومع ذلك نجد الاحتقار العميق للمرأة، والتكبر عليها، والنظر إليها نظرة ازدراء، مما ينعكس في الاهتمام بها؛ لأنها لا تستحق أصل الاحترام، أو المعاملة الكريمة، أو المجاملة أو غير ذلك، ونسمع أشياء فظيعة جداً من بعض الناس في معاملته لامرأته، ويرى أن الإحسان للمرأة بالكلام الطيب متناف مع الرجولة، ويستنكف أن يكلم المرأة بلطف! ويظن أن ذلك تذلل لها، والمفروض أن يكون شامخاً في السحاب، كيف ينزل إلى مستواها؟! ونسي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما راعى فطرة المرأة في هذا الجانب بالذات جعل الكلمة الطيبة صدقة، يثاب عليها المسلم، بل أعظم من ذلك وأكبر شيء قاله خير مؤدب ومعلم عرفته البشرية صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: وجعل منها حديث الرجل إلى امرأته)، بمعنى: أنه يمكن أن يكذب عليها ويثاب، كيف هذا مع أن الكذب من الكبائر؟! ليس المقصود بالكذب أن تعدها بشيء ثم لا تفي به، وإنما المقصود به: المجاملة التي لا تكلفك شيئاً سوى أن تخرج كلمة طيبة فقط، وماذا سوف تخسر؟ والذي يمنع الزوج من الإحسان إلى المرأة بالكلام الطيب غالباً أنه الكبر، فهو كامن راسخ في نفسيته، واحتقاره المرأة وازدرائها يكون قد تشربه من الجو المحيط به في تنشئته أو من مصادر ثقافية معينة شوهت عند هذه المفاهيم، مثل أشياء تنسب للإسلام وليست من الإسلام، مثل الحديث الموضوع المزعوم: (شاوروهن وخالفوهن) يعني: شاور المرأة وانظر ماذا تقول، ثم خذ بخلافه، كيف هذا؟! ما أكثر ما تشير المرأة بقول يزن عشرات العقول من الرجال! كما حصل حينما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة أم سلمة رضي الله عنها في قصة الحديبية. وتوجد كثير من الألفاظ سيئة وبذيئة لا نستطيع أن ننطق بها، وكثير من الأشياء الموجودة في التراث فيها تحقير للمرأة، وإهدار لحقوقها ولكرامتها، وأنها كيان كقطعة أثاث في البيت! وأنها ينبغي لها أن تتلقى الإهانة تلو الإهانة، ولا تكترت بذلك ولا تتأثر، وكيف تتأثر وهي امرأة محتقرة ولا كرامة لها؟! النبي عليه الصلاة والسلام أباح للرجل الكذب في حديثه إلى امرأته، فما معنى الكذب؟ ليس معناه أن يعد وعداً فيخلف أو يكذب في شيء خارج دائرة المجاملات، والمجاملات أحياناً نفهمها خطأ، ونتصور أن المجاملة بشيء في أقصى درجته قد يكون مستحباً، لا، المجاملة قد تكون واجبة وفريضة في بعض الأحوال، أليس رد السلام مجاملة وهو واجب؟! قال الله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فهذه مجاملة داخلة تحت حكم شرعي واجب، وتشميت العاطس مجاملة اجتماعية وهي واجبة. فموضوع المجاملة واسع، قد يكون فيه واجبات، وقد يكون فيه مستحبات، وقد يكون فيه مباحات، فمجاملة المرأة أمر مهم جداً، فالرجل إذا كسب زوجته فإن ذلك في مصلحته، فإنه يستطيع حينئذٍ أن يتعاون معها على تربية أولاده تربية حسنة، ويستطيع أن يؤمن بيته من الزلازل التي تهدد استقراره. فمن السياسة مع الزوجة المداراة والتلطف والمجاملة حتى لمجرد المصلحة، والمجاملة تدخل تحت إطار الكلمة الطيبة، وليس فيها إخلاف وعد ولا تزوير، بل هي في دائرة المدح كما يقول الشاعر: خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء ففطرة المرأة أنها تحب أن تمدح، فالشرع راعى هذا الجانب، وفطرة المرأة أنها تحب أن تتزين، فاستثنى لها الشرع لبس الحرير والذهب، وهذا كله مراعاة لهذه الفطرة، فالحرير والذهب حرام على الرجال، ومباح وحلال للنساء، وأباح لهن اللعب بالدمى مراعاة لفطرة الأمومة التي تبدأ عندهن منذ الطفولة الباكرة، فمباح للطفلة أن تلعب بالدمى حتى يغذى فيها هذا الشعور، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]؟! وهذا إشارة إلى طبيعة المرأة حتى وهي طفلة صغيرة، فقد تجد طفلة لم تر تلفازاً ولا خالطت أناساً غير ملتزمين، ومع هذا تحب أن تقف أمام المرآة، وتسرح شعرها، وتلبس كذا، وتريد أن تسمع الثناء على أنها جميلة أو أنها تلبس ملابس جميلة وكذا وكذا. فالكذب مع المرأة هو مراعاة لهذه الفطرة، فالشرع أباح للرجل أن يكذب في مجاملته لامرأته، كأنه يحبها كذا وكذا وأنه هو العاشق الموله وأنه كذا وما الذي سوف يخسره؟! بل سيكسب بذلك كثيراً جداً، ولا يخسر شيئاً، وإذا ركب رأسه وعاند فإنه سيدفع الثمن؛ لأن سوء العلاقة حتماً سينعكس على تربية الأولاد. كلما كسب الرجل زوجته كانت الثمرة حسنة جداً في حق الأولاد، ومن المجاملة أن يقول عن طبخها مثلاً: إنه أحسن طبخ في العالم، ويمدح الملابس والشكل، وهذا كله مما يباح الكذب فيه، ويرجى أن يثاب المرء في ذلك، فهل هناك تقدير لنفسية المرأة أكثر من هذا؟! ومع ذلك نجد الحواجز الكثيرة عن هذا بسبب الشعور بالكبر، قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فكيف يتنزل من عليائه لهذا المخلوق الحقير في نظره؟ هو قد لا يقول الحقيقة، لكن سلوكياته تنبئ عن شعور كامل في قلبه باحتقار المرأة وإهدار كرامتها. فالشاهد: أن الرجل ينبغي له أن يجتهد في معاملة زوجته بالمعروف، ولو بالمجاملة، والعلماء حينما تكلموا عن العشق ذكروا أن هناك عشقاً مباحاً وهو عشق الرجل لامرأته! والعشق: هو صرف المحبة، والزوجة يباح عشقها، والسبيل إليها متيسر شرعاً بخلاف الأجنبية، فعشقها يكون بلاء في الدين والدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لم ير للمتحابين مثل النكاح)، فأحسن حل إذا حصل العشق هو الزواج. الشاهد من هذا: أن العلماء ذكروا أن عشق الزوجة هو العشق المباح؛ لأنه لا ضرر فيه، ولا يوصل إلى حرام من خلوة محرمة ونحو ذلك، وإنما هو حلال، والشريعة اتخذت كثيراً من الإجراءات التي توطد العلاقة بين الزوجين. يقول الدكتور الصباغ حفظه الله تعالى: لا تنشغل طويلاً عن أهلك، واعلم أن الجلوس إلى عروسك ومحادثتها ليس وقتاً ضائعاً لاسيما لو تأملنا الحديث في الحالات التي أبيح فيها السمر بعد العشاء، وهي طلب علم أو مؤانسة ضيف أو محادثة أهل. وفي الحديث: (كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربع: وذكر منها: وملاعبة الرجل امرأته)، فاللعب مع المرأة ليس من اللهو الباطل، بل هو مما يعين على الحق، ويعين على العفاف، لاسيما مع حديث العهد بالزواج، فإنه يحتاج إلى نوع من الألفة في المراحل الأولى، والشرع لم يهمل هذا، فقد خصص الشرع للزوجة الثانية أسبوعاً كاملاً يلازمها زوجها إذا كانت بكراً، ولا يذهب للزوجات الأخريات؛ ليحصل الائتلاف وزوال الوحشة بينهما في هذه الفترة. وبعض الناس قد يغالي في فهم هذا الحكم، فبعضهم لا يخرج لصلاة الجماعة، فهذا غلو، والمقصود أنه لا يترك المبيت الذي هو الأساس. يقول الصباغ: إنك بذلك تفهم زوجك، وتطيق لها أيضاً أن تفهمك، وهذا الفهم هو الخطوة الأولى للمعاشرة الحسنة، وكم رأينا في واقع الناس أزواجاً يقضون العشر والعشرين من السنين ولا يفهم أحدهما الآخر، وكان ذلك سبباً من أسباب النكد والشقاق. إنك يا أخي بجلوسك إلى أهلك ومحادثتك إياها تفسح المجال لك لتقنعها بكثير من آرائك التي تبدو غريبة عليها بادئ الأمر. فبعض الناس يشتكي من زوجته، ويريد أن تلتزم أو يشتكي أنها تقصر في كذا وكذا، فحينما تسأله: ما الدور الذي قمت به كي توجهها وتحبب إليها الحق؟ كيف علمتها؟ لا تجد شيئاً، وقد تجد من يريد أن يعذر نفسه فيقول: كلمتها ولم تستجب! هذا فقط! إن تنويع أساليب الدعوة مهم كالرفق والتلطف، والكلام بالمعروف وبالتي هي أحسن، وهذا لا أثر له ولا وجود له، ويريد البيت مثل الثكنة العسكرية، أوامر ضابط لجندي فقط، ويريد أنه يأمر والزوجة تسمع وتطيع. يقول الصباغ: الكلام أول مرة لا يترك الأثر المطلوب، ولا يلمس الإنسان نتيجته، ولكن التكرار، وحسن اختيار الوقت المناسب، والأسلوب المناسب في عرض الفكرة، وضرب الأمثلة الكثيرة؛ لابد أن يترك أثراً كبيراً في الإنسان. واعلم -يا أخي- أن الحديث الطويل الهادف غير الممل، والمؤانسة المهذبة؛ يمدان الحياة الزوجية بالقوة والنماء وأفضل الغذاء، ولتضع نصب عينك ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قا

من آداب المجلس

من آداب المجلس بُعث النبي عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق، فعلّم أمته آداباً عظيمة، فيها خيرات كثيرة، ومصالح عديدة، ومن تلك الآداب: آداب المجلس، فينبغي على المسلم أن يتأدب بذلك في مجالسه؛ حتى تكون مجالسه مباركة خيرة.

سبب نزول قوله تعالى: (ألم ترى إلى الذين نهو عن الجوى ثم يعودون) الآية

سبب نزول قوله تعالى: (ألم ترى إلى الذين نهو عن الجوى ثم يعودون) الآية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين. أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:7 - 10]. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله سبحانه: (ألم تر إلى الذين نهو عن النجوى) قال: اليهود، وكذا قال مقاتل بن حيان، وزاد: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة:8]. وهذه روايات نذكرها من باب جمع ما قيل في الآية وإن لم نقف على من صححها، ومن ذلك ما روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبيت عنده تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا والمحتسبون وأهل النوب؛ فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: ما هذه النجوى؟ ألم تُنهوا عن النجوى؟ قلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله! إنا كنا في ذكر المسيح -يعني: المسيح الدجال - قال: فرقاً منه؟ فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل)، قال ابن كثير: هذا إسناد ضعيف؛ فيه بعض الضعفاء. على أي الأحوال الآية في حق قومٍ نهوا عن النجوى ثم لم يمتثلوا هذا النهي، وإنما عادوا لما نهوا عنه؛ فهذا يكفينا إذا لم يصح في سبب النزول حديث. وقوله سبحانه: ((وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ)) أي: يتحدثون فيما يختص بأحوالهم، ويكون فيه إثم ومعصية، أما العدوان فهو إثم يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفته، حيث كانوا يصرون عليها ويتواصون بها.

حكم تحية الرسول بغير ما حياه الله

حكم تحية الرسول بغير ما حياه الله قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم! فقالت عائشة: وعليكم السام، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك -يعني: الموت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما سمعت أني قلت: وعليكم، فأنزل الله: ((وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)) [المجادلة:8]). وفي رواية في الصحيح: (أنها رضي الله عنها لما قالوا: السام عليك يا محمد! قالت: عليكم السام والذام واللعنة، فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا). ونستفيد من هذا أن الجواب يكون هكذا في رد تحية أهل الكتاب؛ لأنهم يلحنون في القول، وربما ذكروا مثل هذه الأشياء، كقولهم: السام عليكم، أو السام عليك، وهم يقصدون بذلك الدعاء على المؤمنين بالموت والهلكة، فعلمنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نجيبهم فقال: (وعليكم) يعني: نفس الشيء الذي تدعون به علينا فنحن ندعو به عليكم، فإن كان قال: السام، فعليه السام -أي: الموت- أيضاً. ويحتمل أنه أراد أنها من الدعاء على حسب نية القائل، ويحتمل أنه أراد أن يذكرهم بأن هذا أمر مقدور عليه وعليهم لا يستوجب الشماتة أو الدعاء؛ لأن الموت من سنن الله تبارك وتعالى، فكل الناس صائر إلى الموت، فكأنه قال: وعليكم، أي: أن الموت مكتوب عليكم كما هو مكتوب علينا، لكن إن كان قصدهم الدعاء ثم أجاب بقوله: وعليكم، فإنه بين أنه يستجاب لنا فيهم إذا دعونا عليهم، أما إذا دعوا هم على المؤمنين فلا يجيب الله تبارك وتعالى لهم في المؤمنين. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذا أتى عليهم يهوديٌ فسلم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما قال؟ قالوا: سلم يا رسول الله! قال: بل قال: سأم عليكم، أي: تسأمون دينكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوه، فردوه عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أقلت: سأم عليكم؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سلم عليكم أحدٌ من أهل الكتاب فقولوا: عليك) يعني: عليك ما قلت، وهذا مخرج في الصحيح.

معاملة اليهود والمنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم

معاملة اليهود والمنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8]، جاء في بعض الأحاديث أنهم كانوا يحيونه بما لم يحيه به الله، فكانوا يقولون: السام عليكم، وهو يقول: السلام عليكم، كما حياه الله بذلك، {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] فهذا يدل على أنهم في الباطن مكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكونوا منافقين، وإما أن يكونوا من اليهود، كما جاء في تفسير هذه الآية، فإنهم حينما يفعلون ذلك يستبطئون نزول عذاب الله، ويقولون: لو كان هذا نبياً حقاً لنزل العذاب. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] أي: أنهم يحرفون الكلام وفيه إيهام السلام وليس بسلام، وإنما هو شتمٌ في الباطن، وهذه عادتهم، كما كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام راعينا، وإنما يقصدون بذلك وصفه بالرعونة، ولذلك نهينا عن أمثال هذه العبارات، وإنما أمرهم الله أن يقولوا: انظرنا، ولا يقولوا: راعنا. والملاحدة يعرفون في لحن القول الذي يلحنونه ليؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهم يشتمونه في الباطن، ويقولون في أنفسهم: لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأنهم يخفون هذه النوايا الخبيثة، والله يعلم ما يسرون، ويقولون: لو كان هذا نبياً حقاً لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله تبارك وتعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة:8]، وأما الدنيا فيحصل فيها الاستدراج والإمهال،، فليس التفسير الوحيد لعدم نزول العذاب أنه ليس نبياً؛ لأن عدم نزول العذاب قد يكون لأسباب كثيرة، وقد يكون رحمةً بهم أنفسهم، لعلهم يتوبون، أو لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، فلا يحول ذلك دون نزول العذاب، أو لغير ذلك من الأسباب، لكنهم يعلقون على عدم نزول العذاب الدنيوي هذا الأمر فقط، فقال عز وجل: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة:8] أي: يكفيهم جهنم، وهل بعد ذلك عذاب؟ حيث يخلدون في عذاب الله أبد الآبدين، فهي تكفيهم؛ لأنهم في الدار الآخرة يصلونها فبئس المصير. روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سامٌ عليك، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول: فنزلت هذه الآية: ((وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [المجادلة:8]). قال ابن كثير: إسناده حسن. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك، قال الله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8].

النهي عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول

النهي عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول قال الله عز وجل مأدباً عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [المجادلة:9] يعني: كما يتناجى الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، فلا تتناجوا مثلهم على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ولا تفعلوا فعلهم، وإنما: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة:9] أي: حين يحشركم يخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.

النجوى يوم القيامة، وبيان ستر الله على عباده المؤمنين

النجوى يوم القيامة، وبيان ستر الله على عباده المؤمنين روى الإمام أحمد بسنده عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر رضي الله عنهما إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، فيقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟)، فالأمر كما قال عز وجل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] فالإنسان تمر السنوات الطويلة فينسى المعاصي، لكنها محصية عند الله بمنتهى الدقة، كما جاء في بعض الروايات: (حتى فثاثة التين بأصبعه) أي: إذا كان الإنسان جالساً وفت التين بإصبعه فسوف يسأل عنها، ويذكر بها، فكيف بالآثام؟ وكيف بالكبائر العظام؟! فيقرره الله بجميع ذنوبه، حتى الابتسامة والضحكة تحفظ عليه في كتابه فيقول له ربه: (أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18])، وهذا الحديث أخرجه الشيخان في الصحيحين. ففي هذا الحديث تفصيل لمعنى الحساب اليسير المذكور في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:7 - 9]، فالحساب اليسير كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم هو العرض، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، والحساب اليسير فسره صلى الله عليه وسلم بما يجب المصير إليه، فحينئذٍ لا ينظر في خلافه؛ فإذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير فلا يجوز النظر فيما يخالفه؛ فإنه أعلم الناس بكلام الله تبارك وتعالى، فقد فسر الحساب اليسير بأنه مجرد عرض الأعمال، كما جاء في الحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يضع كنفه على المؤمن ويستره من الناس، ثم يقرره بذنوبه، فيذكره بجميع ذنوبه) وتأمل يوماً مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون، وهو يقرره بذنوبه: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وهو يقول: بلى يا رب! بلى يا رب! ويقر على نفسه بجميع المعاصي، حتى إذا وصل إلى آخرها، وظن أنه هالك لا محالة، حينئذٍ يقول الله تبارك وتعالى له: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) وهذا من كرم الله تبارك وتعالى؛ لأنه ستير يحب الستر، ومن رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه عز وجل يوجب عليهم أن يستروا أنفسهم، وينهاهم أن يفضحوا أنفسهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافىً إلا المجاهرين، قيل: ومن المجاهرون يا رسول الله؟! قال عليه الصلاة والسلام: هو العبد الذي يبيت في الليل، فيعمل المعاصي، ثم يصبح في الناس فيقول: قد فعلت، وقد فعلت)، فهذا يعاقب؛ لأنه لم يستر نفسه، فمن ابتلي بشيء من القاذورات -المعاصي- وسترها الله عليه، فيجب أن يستر نفسه، حتى لو كانت المعصية تستوجب حداً، فيستر نفسه، ولا يفضحها، ولا يكشف ستر الله عليه، فإذا منَّ الله عليه بالستر في الدنيا فيرجى أن يستر عليه في الآخرة، كما في هذا الحديث، أما أن يجاهر بالمعاصي فهذا من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك، كما في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فمما حرمه الله إشاعة الفاحشة بأي صورة من صور الإشاعة، كأن يجهر الإنسان بالمعاصي التي سترها الله عليه. فعلى المسلم أن يستر نفسه، ويستر إخوانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، ويجب ألا يتداول الإنسان في كلامه وفي مجالسه ما يفضح نفسه من الحوادث والأشياء البشعة، فلا يجوز للإنسان أن يحكيها، وبعض الناس يتساهلون في هذا، ويظنون أنهم لا يرتكبون شيئاً محظوراً!

نشر الحوادث والجرائم في الجرائد والتلفزيون من إشاعة الفاحشة بين المسلمين

نشر الحوادث والجرائم في الجرائد والتلفزيون من إشاعة الفاحشة بين المسلمين ما ينشر في الجرائد من حوادث القتل والانتحار والفواحش، وأن هذا فعل كذا وفعل كذا؛ هذا كله مما يخدم مقاصد الشيطان في إفساد المسلمين؛ لأن الأشياء إذا اعتادت الأذن على سماعها هانت على القلوب، وخف استعظامها في القلوب، فبالتالي تعين على ارتكاب المعاصي، وربما فتحت حكاية هذه الشرور أبواباً من الحيل للوصول إلى الحرام لم تكن تخطر ببال الناس، بل كان الناس منها في عافية، فإذا علم الإنسان -مثلاً- أن هذا الشخص كان في ضائقة، وحصلت له محن شديدة، فانتحر بالطريقة الفلانية، ويأتون بالتفاصيل، فربما يخلو الشيطان بالإنسان، فيهلكه بهذه الحيلة المحرمة! وإذا أراد أن يسرق يقول: فلان عمل كذا، فيفعل مثله، ولذلك تجد الأولاد الصغار يفسدون بسبب هذه الأشياء، وهذا من بلاء التلفزيون الذي هو دجال هذا الزمان، الذي اخترق على المسلمين بيوتهم، وصار يعيث فيها فساداً. حكي لي أن صبيين صغيرين دخل عليهما أبوهما فوجدهما ماسكين كوبين من الماء، ويتخبطان ببعض، ويقول أحدهما للآخر: الكلام ذا يقال في صحتك! فهما يقلدان السكارى، ولا يلوم الأب إلا نفسه؛ لأنه هو الذي أدخل التلفزيون إلى بيته، فهذا أقل شيء يمكن أن يقع من الفساد، ولولا أني لا أحب أن أشيع الفاحشة لحكيت أشد من ذلك مما يقع في البيوت من جراء وجود هذا الجهاز الخبيث في بيوت المسلمين. فالرجل يظهر أنه غيور، وأنه رجل شهم، وإذا دخل الرجال إلى بيته يحجزهم عن نسائه، ثم يأتي بأفسق الفساق في العالم كله ويدخلهم بيته؛ لتتعلم بناته الرقص! وكيف تعمل المرأة مع معشوقها! وكيف يتكلمون! وفي أثناء ذلك يحصل نوع من تعويد قلوب المسلمين على استمراء هذه المنكرات، وإظهار المرأة الناشز الفاسقة التي تتمرد على زوجها وتفسق عن أمر ربها بأنها مظلومة؛ لأن الشخص الذي يعمل التمثيلية أو يضع هذه القصة هو الذي يتحكم، والناس لا ينتبهون إلى هذا، فهو يريد أن يصل إلى القلوب بطريقة شيطانية ملتوية؛ حتى يغير وينشئ فكرة معينة، فتجد -مثلاً- أنهم في القضايا التي تتعلق بالأمور الشرعية يحاولون أن يظهروا المجرم على أنه مظلوم، حتى المجرم الذي تعدى حق الله تبارك وتعالى! فيقولون: إن المرأة مظلومة ومقهورة، وربما يأتون بالزوج حتى يتمكنون من الطعن في الحكم شرعي، والطعن في أحكام الطلاق، والطعن في تعدد الزوجات، والطعن في أي شيء من الأمور الشرعية، فمن أجل ذلك لا ينبغي أبداً للمسلم بأي حال من الأحوال أن يوجد مثل هذا الجهاز في بيته. وأنا لا أدري كيف يفعل الأخ حينما ينظر هذه المناظر القذرة أمام بناته ونسائه وأبنائه في هذا الدجال الجديد! هل يغلق التلفزيون أم أنه يظل جالساً مع بناته ينظر إلى هذه الفواحش؟! نسأل الله العافية.

الحكمة في الأمر بالستر والنهي عن إشاعة الفاحشة

الحكمة في الأمر بالستر والنهي عن إشاعة الفاحشة الإنسان منهي عن إشاعة الفاحشة بأن يحكي ما ستره الله عليه؛ فالإنسان إذا ستر على نفسه في الدنيا يجازى أن يستره الله في الآخرة، أما إذا هتك ستر نفسه فليبشر بالفضيحة في الدنيا وفي الآخرة. والحكمة من ذلك: أن المجاهرة بالمعاصي تهون استعظامها في القلوب، وتجرئ الناس عليها؛ بحيث تجعل المعصية شيئاً طبيعياً جداً، فالمرأة -مثلاً- تقتل زوجها وتضعه في أكياس! والأولى أن الناس تستفظعه، لكن تكراره يجعل القلوب تألفه، وتتعود عليه، وربما تتفتق هذه الفكرة في ذهن امرأة أخرى ما كانت تخطر ببالها هذه الحيلة! فهذا كله من إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فمن أجل ذلك حرم الله تبارك وتعالى كشف الستر عن المسلم، فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.

تحريم الخوض في أعراض المسلمين

تحريم الخوض في أعراض المسلمين بعض الناس يظنون أن الخوض في أعراض الناس بطولة، وأن المتكلم في ذلك إنسان متابع لأخبار الناس، ويعرف ما لا يعرفه الآخرون، فيخوضون في أعراض الناس بأدنى أدنى شبهة، أو بأضعف أضعف قرينة، ويظنون أنهم يسلمون من العاقبة الوخيمة في الآخرة! ينبغي للإنسان ألا يخوض في عرض أحد من المسلمين؛ فإن الربا من أعظم الجرائم ومن أعظم الكبائر، بل إن أقل وأهون درجة من الربا مثل أن ينكح الرجل أمه والعياذ بالله! ذكر ذلك عليه الصلاة والسلام، ثم في نفس الحديث قال: (وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فأهون الربا وأقل درجة من الربا ذنبها يساوي أن ينكح الرجل أمه، لكن أعلى درجة من الربا -وهي أقبح وأغلظ في العقوبة- هي استطالة الرجل في عرض أخيه! فينبغي أن يفطن المسلمون لذلك، فالإنسان لا يصغي سمعه ولا يرهف سمعه لمن يخوض في عرض أي رجل من المسلمين، وكلمة العرض أعم من المعنى الضيق الذي يتبادر إلى أذهان الناس في هذا الزمان، فالعرض ليس متعلقاً فقط بمسألة الإحصان والفروج، وإنما العرض: كل موضع في الإنسان قابل للمدح أو القدح، سواء ملابسه شكله هيئته مشيته كلامه أموره الخاصة أولاده، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في عرض أخيه؛ فعرض أخيه: كل موضع فيه يقبل المدح أو القدح، فهذا هو العرض، وليس هو المعنى الضيق الذي يتبادر إلى أذهان الناس.

تقرير الله عز وجل لعبده على ذنوبه يوم القيامة

تقرير الله عز وجل لعبده على ذنوبه يوم القيامة يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، فيستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18])، وفي الحديث الآخر: (من نوقش الحساب عذب)، أما مجرد العرض: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فهذا هو الحساب اليسير، أما الحساب العسير فهو المناقشة، فمن نوقش حسابه فلابد أن يعذب، وفي بعض الأحاديث أن العبد ينكر هذه الذنوب، فيقول: ما فعلت، ويحلف على ذلك، فالله تبارك وتعالى يقول: (إنني لن أقبل لك شهيداً دون نفسك، فيختم على فيه، وتنطق جوارحه، فيقول: ويلٌ لكنَّ إنما عنكنَّ كنت أناضل)، فتنطق جوارحه بما فعل من المعاصي، كما قال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، وقال تبارك وتعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

تعريف النجوى وحكم التناجي

تعريف النجوى وحكم التناجي قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] النجوى هي: المسارة، بأن يسر الإنسان في أذن صاحبه كلاماً، ويخفضان الصوت، هذه هي المسارة، وقد يتوهم الناظر إليهما أنهما يريدان به ومصدر هذه النجوى هو الشيطان، يعني: يصدر هذا الفعل من المتناجيين عن تسويل الشيطان وتزيينه، فهو الذي يزين لهم ذلك. وقوله: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10] أي: ليسوءهم، ولكن: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة:10] ومن أحس من ذلك شيئاً فليستعذ بالله، وليتوكل على الله؛ فإنه لا يضره شيء بإذن الله، وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي، إذا كان في ذلك إيذاء للمؤمن. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا وكيع حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجين اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه)، وأخرجه الشيخان وغيرهما. ورواه الإمام مسلم بلفظ آخر: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه).

حكم القيام للقادم

حكم القيام للقادم قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]، في هذا الموضع من كتب التفسير يذكر العلماء أموراً مهمة من الآداب الشرعية، فعامة العلماء المفسرين حينما يصلون إلى هذا الموضع في سورة المجادلة يذكرون الأمور الشرعية المتعلقة بآداب المجلس. قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]. وهنا مسألة من أحكام القرآن، وهي: حكم القيام للقادم، فهل يشرع إذا دخل عليك إنسان -لاسيما إذا كان كبير السن أو من أهل العلم والمنزلة والفضل- أن تقوم له على سبيل الإكرام والتعظيم؟ اختلف العلماء في ذلك خلافاًَ كبيراً، ومن أشهر من ألف في هذه المسألة شيخ الإسلام الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي، والأفضل ألا نقول: محيي الدين؛ لأنه كان يكره ذلك، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كان يكره أن يلقب بـ تقي الدين، لكن جرت عادة اللسان بذلك، فـ النووي قال: لا أجعل في حل من لقبني محيي الدين، واسم كتابه (الترخيص في القيام لذوي المزية والفضل من أهل الإسلام) وهذا الكتاب للإمام النووي، ونعرض الأدلة التي اعتمد عليها في هذه المسألة باختصار إن شاء الله:

فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في حكم القيام للقادم

فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في حكم القيام للقادم نختم الكلام بفتيا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القضية؛ فإنه رحمه الله تعالى سئل عن النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطناً، وربما أدى ذلك إلى بغضٍ وعداوة ومقت، وأيضاً المصادفات في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض والانخفاض، هل يجوز ذلك أم يحرم إلى آخر السؤال؟ يقول رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك)، لكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له. أي: إذا قدم مسافر -مثلاً- فيمكن أن تقوم لتحييه أو تلتزمه وتسلم عليه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـ عكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم)، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه. يقول شيخ الإسلام: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحدٌ عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع ألا يقر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد. وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له. يعني: من كان يعلم أن هؤلاء الناس إذا دخل عليهم قادم لا يقومون؛ لأنهم سنيون سلفيون، ولأنهم يعلمون الحديث، ويقصدون بذلك معنىً شرعياً، وهو: الاقتداء بالسلف وبالصحابة بفعلهم، وهو يعلم أنهم يفعلون ذلك تديناً؛ فلا يجوز له أن يكره ذلك منهم، ولكن كلام شيخ الإسلام فيمن إذا دخل ولم تقم له، وهو لا يعلم هذا الحكم، ولا يعلم هذه الأحاديث، ولا يعلم أنهم يتدينون بذلك، بل يرى هذا تنقص، وأنهم لا يحترمونه؛ فأجاز شيخ الإسلام حينئذ القيام إذا كان في تركه فسادٌ لذات البين. يقول شيخ الإسلام: وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)؛ فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد. هذا تأويل شيخ الإسلام لهذا الحديث، يعني: أن يكون جالساً وهم يقفون على رأسه، وليس المراد أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له، فالقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد. وقد ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه صلوا قياماً فأمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً)، فنهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، وإن كان هذا الحكم نسخ فيما بعد، وقال: (لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً)؛ لأنه كان جالساً وهم كانوا قائمين، فنهاهم عن ذلك، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. يقول شيخ الإسلام: وجماع ذلك كله الذي يصلح: اتباع عادات السلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليها بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة؛ فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

قول الألباني في حكم القيام للقادم

قول الألباني في حكم القيام للقادم هناك مذهب آخر في هذه المسألة، ونحن نذكر هذه الأدلة من باب أن الإنسان يكون على معرفة بمذهب من يخالفه، وأنه يعتمد على أدلة لا على هوى؛ حتى يفرق بين الإنكار في المسائل المتفق عليها والمسائل المختلف فيها، ويرتفع أفق الإنسان بمعرفة مآخذ المذهب المخالف، فمن العلماء من يمنعون القيام للقادم مطلقاً، وممن ينتصر لهذا القول العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، واستدل بحديث أبي مجلز قال: دخل معاوية بيتاً فيه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر، فقام ابن عامر وثبت ابن الزبير، وكان أدربهما -وفي بعض النسخ: أرزنهما، لكن الأصح أدربهما- فقال معاوية: (اجلس يا ابن عامر!). فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، قال الألباني: صحيح، رجال إسناده ثقات، رجال الشيخين، قال: وللحديث شاهد مرسل في قصة طريفة، أخرجه الخطيب من طريق عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد، قال: سمعت أبي يقول: لما أحضر المأمون أصحاب الجواهر فناظرهم على متاعٍ كان معهم، ثم نهض المأمون لبعض حاجته، فقام كل من كان في المسجد إلا ابن الجعد فإنه لم يقم، قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب، ثم استخلاه -أي: خلا به- فقال له: يا شيخ! ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك، قال: أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وما هو؟ قال: علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار). قال: فأطرق المأمون متفكراً في الحديث، ثم رفع رأسه فقال: لا يشترى إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار. يقول الألباني: فصدق في علي بن الجعد -وهو ثقة ثبت- قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]؛ لأنه إذا خالف التجار الآخرين خشي ذهاب البيع عليه، ولكنه خشي أن يخالف نهي النبي عليه الصلاة والسلام، وعومل الآخرون بنقيض قصدهم، وفاتتهم البيعة! ونحو هذه القصة ما أخرجه الدينوري في المنتقى من المجالسة قال: حدثنا أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل وغيره من العلماء، فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل، فقال المتوكل لـ عبيد الله: إن هذا الرجل لا يرى بيعتنا -يعني: أنه لم يقم لي لأنه لا يعتبرني، ولا يعتد بإمامتي- فقال له: بلى يا أمير المؤمنين! ولكن في بصره سوء، يعني: نظره ضعيف فلم يرك، فقال أحمد بن العدل: يا أمير المؤمنين! ما في بصري من سوء، ولكنني نزهتك من عذاب الله تعالى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فجاء المتوكل وجلس إلى جنبه! وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن الأوزاعي قال: حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا. يقول الألباني رحمه الله في فقه الحديث: دلنا هذا الحديث -يشير إلى حديث: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) - على أمرين: الأول: تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له، وهو صريح الدلالة؛ بحيث إنه لا يحتاج إلى بيان، يعني: أن الوعيد الذي فيه (فليتبوأ مقعده من النار) وعيد شديد جداً، كما في قوله: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذا من الكبائر القلبية الغليظة، ولا خلاف في هذا. الثاني: كراهة القيام من الجالسين للداخل ولو كان لا يحب القيام، وذلك من باب التعاون على الخير، وعدم فتح باب الشر، وهذا معنىً دقيق دلنا عليه راوي الحديث معاوية رضي الله عنه، وذلك بإنكاره على عبد الله بن عامر قيامه له، واحتج عليه بالحديث، وذلك من فقهه في الدين، وعلمه بقواعد الشريعة التي منها سد الذرائع، ومعرفته بطبائع البشر، وتأثرهم بأسباب الخير والشر. يعني: أنه يعتمد على قاعدة سد الذرائع؛ ولذلك قال بالكراهة ولم يقل بالتحريم، يقول: فإنك إذا تصورت مجتمعاً صالحاً كمجتمع السلف الأول لم يعتاد القيام لبعض فمن النادر أن تجد فيهم من يحب هذا القيام الذي يرديه في النار، وذلك لعدم وجود لما يذكره به، وهو القيام نفسه، وعلى العكس من ذلك: إذا نظرت إلى مجتمع كمجتمعنا اليوم قد اعتادوا القيام المذكور، فإن هذه العادة -لا سيما مع الاستمرار عليها- تذكره به، ثم إن النفس تتوق إليه، وتشتهيه؛ حتى تحبه، فإذا أحبه هلك، فكان من باب التعاون على البر والتقوى أن يترك هذا القيام، حتى لمن نظن أنه لا يحبه؛ خشية أن يجره قيامنا له إلى أن يحبه، فنكون قد ساعدنا على إهلاك نفسه، وهذا لا يجوز. ومن الأدلة الشاهدة على ذلك: أنك ترى بعض أهل العلم -الذين يظن فيهم حسن الخلق- تتغير نفوسهم إذا ما وقع نظرهم على فردٍ لم يقم لهم! هذا إذا لم يغضبوا عليه، ولم ينسبوه إلى قلة الأدب، ويبشروه بالحرمان من بركة العلم؛ بسبب عدم احترامه لأهله بزعمهم، بل إن فيهم من يدعوهم إلى القيام، ويخدعهم بمثل قوله: أنتم لا تقومون لي كجسم من عظم ولحم، وإنما تقومون للعلم الذي في صدري! وكأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يكن لديه علم؛ لأن الصحابة كانوا لا يقومون له، أو أن الصحابة لا يعظمون النبي عليه الصلاة والسلام التعظيم اللائق به، فهل يقول بهذا أو ذاك مسلم؟! ثم يقول الشيخ رحمه الله: ومن أجل هذا الحديث وغيره ذهب جماعة من أهل العلم إلى المنع من القيام للغير، كما في فتح الباري. ثم قال: ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس، ولو كان في شغل نفسه؛ فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها؛ فتتلقاه وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟ أي: أن الإمام مالك سئل عن امرأة حينما يدخل عليها زوجها تبالغ في إكرامه؛ فأول شيء أنها تتلقاه وتقابله، ثم تنزع ثيابه، ثم تقف حتى يجلس؛ إكراماً لزوجها، فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا؛ فإن هذا من فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. يقول الألباني: قلت: وليس في الباب ما يعارض دلالة هذا الحديث أصلاً، والذين خالفوا فذهبوا إلى جواز هذا القيام بل استحبابه استدلوا بأحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف، والكل عند التأمل في طرقها ومتونها لا ينهض للاستدلال على ذلك. ومن أمثلة القسم الأول: حديث: (قوموا إلى سيدكم)، ففيه زيادة في الحديث: (فأنزلوه). لأنه كان مجروحاً. ومن أمثلة القسم الآخر الضعيف: حديث قيامه صلى الله عليه وسلم حين أقبل عليه أخوه من الرضاعة، فأجلسه بين يديه. فهو حديث ضعيف معضل الإسناد، ولو صح فلا دليل فيه أيضاًَ. ثم ذكر في موضع آخر حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما كانوا يعلموا من كراهيته لذلك). قال: إسناده صحيح على شرط مسلم. ثم قال الألباني رحمه الله: وهذا الحديث مما يقوي ما دل عليه الحديث السابق من المنع من القيام للإكرام؛ لأن القيام لو كان إكراماً شرعاً لم يجز له صلى الله عليه وسلم أن يكرهه من أصحابه، وهو أحق الناس بالإكرام، وهم أعرف الناس بحقه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فقد كره الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القيام له من أصحابه، فعلى المسلم -خاصة إذا كان من أهل العلم وذوي القدوة- أن يكره ذلك لنفسه؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم، وأن يكرهه لغيره من المسلمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)، فلا يقوم له أحد، ولا هو يقوم لأحد، بل كراهتهم لهذا القيام أولى بهم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم إن لم يكرهوه اعتادوا القيام بعضهم لبعض، وذلك يؤدي بهم إلى حبهم له، وهو سبب يستحقون عليه النار، كما في الحديث السابق، وليس كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه معصوم من أن يحب مثل هذه المعصية، فإذا كان مع ذلك قد كره القيام له؛ كان واضحاً أن المسلم أولى بكراهته له.

إكرام الناس على حسب مراتبهم وإنزالهم منازلهم

إكرام الناس على حسب مراتبهم وإنزالهم منازلهم ثم ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى أطرافاً مما جاء في تنزيل الناس منازلهم، وإكرامهم على حسب مراتبهم، وما جاء في احترام وإكرام فضلاء المسلمين، وتوقير أولي السن والورع والعلم والدين، والرفق بطلبة العلم وأولي الفضل والفهم؛ تعظيماً لحرمات المؤمنين المسلمين، ومسارعةً إلى رضا رب العالمين، قال: وهو دليل لما قدمته، وعاضد لما أسلفته: قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. ثم روى حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون، فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً). وعن عامر بن إبراهيم قال: كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا رأى طلبة العلم قال: (مرحباً بطلبة العلم)، وكان يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بكم). وذكر حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) أي: الحاكم العادل. وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا). وهناك حديث ضعيف ذكره عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة رضي الله عنها مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم)، ولكن ميموناً لم يدرك عائشة. وذكر أيضاً عن عائشة أنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم)، وهذا رواه مسلم في مقدمة الصحيح. وعن إسحاق الشهيدي قال: كنت أرى يحيى القطان رحمه الله تعالى يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه علي بن المديني والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحدٍ منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً وإعظاماً. وذكر أيضاً عن الإمام البغوي أنه قال: وكذلك تجوز إقامة الإمام والوالي الرجل على رأسه في موضع الحرب، ومقام الخوف. يعني: أن بعض الأئمة يحملون حديث: (من أحب أن يتمثل الناس أو الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) على أن يكون الإنسان جالساً والناس قيام على رأسه، كالجنود والحراس ونحوهم، ويستثنون حالة الحرب والخوف؛ حتى يدخل الرعب في قلوب الأعداء، كما حصل في صلح الحديبية حينما كان يقف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائماً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر. يقول النووي: هذا الذي قاله البغوي رحمه الله تعالى متفق عليه. يعني: استثناء هذه الحالة، وهو أن يقف على رأس السلطان بالهيبة والسلاح إرهاباً للأعداء في حالة الخوف والحرب، والحديث مشهور في الصحيح.

أدلة المانعين من القيام للقادم

أدلة المانعين من القيام للقادم ثم ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى الباب الثاني في الأحاديث التي يستدل بها على النهي عن القيام وما أجاب به عنها أهل المعرفة والحذق والأفهام. ثم روى حديث أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك)، وهذا الحديث صحيح. الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار). الحديث الثالث: عن أبي أمامة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) وهو حديث ضعيف. ثم أجاب الإمام النووي رحمه الله عن هذه الأحاديث فقال: أما الجواب عن الحديث الأول -وهو أقرب ما يحتج به- فمن وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف عليهم وعلى من بعدهم الفتنة بإفراطهم في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث الآخر: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله)، فقوله هذا من نفس هذا الباب؛ لسد الافتتان به والغلو في تعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامهم له لهذا المعنى، ولم يكره قيام بعضهم لبعض، بل قام صلى الله عليه وسلم لبعضهم، وقاموا لغيره بحضرته، ولم ينكر ذلك، بل أقره، وأمر به في حديث القيام لـ سعد. يقول: وقد قدمنا في الباب الأول بيان هذا كله، وهذا جواب واضح لا يرتاب فيه إلا جاهلٌ أو معاند. الوجه الثاني في الجواب عن هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بينه وبين أصحابه رضي الله عنهم من الأنس وكمال الود والصفا ما لا تحتمل زيادته بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، بخلاف غيره، فإن فرض صاحبٌ للإنسان قريبٌ من هذه الحالة فلا حاجة إلى القيام. أما الحديث الثاني -وهو قوله: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، يعني: فليجلس على مقعده من النار- فقد أولع أكثر الناس بالاحتجاج به، والجواب عنه من أوجه، والأصح والأولى والأحسن، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه: أنه ليس فيه دلالة؛ وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه: الزجر الأكيد والوعيد الشديد للإنسان أن يحب تمثل الناس قياماً له، وليس فيه تعرض للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه. يعني: يحرم على الإنسان أن يحب قيام الناس له، فالإمام النووي يقول: هذا ليس فيه دلالة على المسألة التي نتكلم فيها؛ فالكلام ليس على حب القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فهذا حرام، لكن الكلام في القائم نفسه، فهل في هذا الحديث وعيد له أم لا؟ فمذهب الإمام النووي أنه ليس هناك تعرضٌ لحال الذي يقوم، وإنما فيه تعرض لتحريم محبة القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فالمنهي عنه هو محبته للقيام. يقول: وليس فيه تعرضٌ للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، وهو أنه لا يحل للآتي أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته القيام، ولا يشترط كراهيته لذلك، وخطور ذلك بباله، حتى إذا لم يخطر ذلك بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه، وإذا كان معنى الحديث ما ذكرناه فمحبته أن يقام له محرم، فإذا أحب ذلك فقد ارتكب التحريم، سواءً قيم له أو لم يقم له. يعني: لو أن رجلاً يحب أن يقوم الناس له -وهذا عمل قلبي-، وهم لم يقوموا له؛ فهو يأثم، حتى لو لم يقوموا له. قال: فمدار التحريم على المحبة، ولا تأثير لقيام القائم، ولا نهي في حقه بحال، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث. فإن قال من لا تحقيق عنده: إن قيام القائم سببٌ لوقوع هذا في المنهي عنه، قلنا: هذا سؤال فاسدٌ لا يستحق سائله جواباً؛ فإن تبرع عليه قيل ما قدمناه: إن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة فحسب. الجواب الثاني: أنه حديث مضطرب، والاضطراب يوجب ضعف الحديث، وهذا الجواب فيه نظر كما قال الإمام النووي رحمه الله. ثم ذكر عن بعض الأئمة أنهم قالوا: إنما كره القيام على طريق الكبر، فأما على طريق المودة فلا، فكل من أحب أن تقوم له فلا تقم له. أي: إذا علمت أنه يحب أن تقوم له فلا تقم له، وأظن أن من هذا -والله أعلم- ما يحصل في المدارس؛ حيث إن المدرس يحب أن يقوم التلاميذ له. قال: من يغلظ على من لا يقوم، مخالف لسمت السلف، وهذا دليل على أنه يحب القيام له، حيث يغضب على من لا يقوم له، فالخوف عليه أكثر؛ لأنه وقع في الوعيد بما لا يحتمل التأويل؛ لأنه أحب أن يتمثل الناس له قياماً، فهذه من الكبائر القلبية. وبعض العلماء قالوا: إن هذا الوعيد فيمن يأمرهم بذلك ويلزمهم إياه على طريق النخوة والكبر. وأما أبو موسى فقال: معنى الحديث: أن يقوم الرجال على رأسه، كما يقام بين يدي الملوك. أما الحديث الثالث -وهو: (لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) - فهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به، والوجه الثاني أنه على سبيل التعظيم، فهذا هو المذموم. أي: إذا كان على سبيل النخوة والكبر والتعظيم. أما حديث أبي بكرة -وهو: (لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه) - فأيضاً ضعيف، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تقم من مجلس صلاة وسماع الوعظ والتذكير والعلم ونحو ذلك، على سبيل الإيثار فيما لا إيثار فيه، فلا يقوم الرجل للرجل من مجلسه إذا كان في مجلس علم، ولا يضح بموقعه الأحسن ويؤثر غيره به، فلا ينبغي الإيثار في هذا الموضع، وهذا التأويل ذكره بعض العلماء، وهكذا ما أشبه هذا من القربات التي يكره الإيثار فيها، فمن القصور أن تقام الصلاة وهناك مكان فارغ في الصف المقدم فيقول الإنسان لأخيه: تفضل، فيقول: تفضل أنت! هذا جهل، بل ينبغي أن يتسابقا في أعمال الآخرة التي فيها تنافس، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. أما حديث: (ولا تنافسوا) فهذا في الدنيا، أما في الآخرة فكان الصحابة يبتدرون السواري إذا أذن المأذن، وكانوا إذا أقيمت الصلاة يتسارعون إلى الصفوف الأولى، والنبي عليه الصلاة والسلام رغبهم في هذا، وبين أنهم يستهمون إذا حصل النزاع على الأذان والصف الأول، فيقترعون على ذلك أيهم أولى، وهكذا الدور في التسميع على الشيخ لا ينبغي الإيثار فيه، فإذا جاء دور الطالب وآثر غيره به، فهذا من الزهد في الخير، فينبغي أن يحرص الإنسان أن يكون مقدماً في مجالس العلم ومجالس الفضل، والإيثار يكون في الطعام والشراب وحظوظ النفس ومتاع الدنيا، فيهدي إخوانه، ويؤثر على نفسه، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فهو محتاج إلى الطعام ويتصدق، ومحتاج إلى الملابس ويعطي ولا يلبس هو، فهذا الإيثار محمود في أمر الدنيا، وحظوظ النفس، أما أمور الدين ومعالي الأمور فلا. كان بعض الصحابة إذا كانوا اثنين يجلس واحد منهما في البيت والآخر يجاهد، ويقول الابن لأبيه: يا أبت! لولا أنها الجنة لآثرتك على نفسي! فهكذا ينبغي أن نكون، فالحق في التقرب لله تعالى لا يجوز تفويته، بخلاف الطعام ونحوه؛ فإن الحق فيه للنفس، وإن كان لله تعالى فيه حقٌ في بعض المواطن فنفعه ومقصوده يعود إلى الآدمي، وقد أوضحت هذا الفرق بشواهده وما يرد عليه من أكل الميت عند المخمصة، وجوابه في باب التيمم من شرح المهذب، وهذا القدر هنا كافٍ، والله أعلم. ثم أنهى الإمام النووي الكتاب بقوله: نختم الباب ببيتين على عادة الأئمة والحفاظ: قيامي والعزيز إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيم فهل أحدٌ له عقلٌ ولبٌ ومعرفةٌ يراك ولا يقوم هذا ما تيسر من تلخيص كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى.

أدلة المجيزين القيام للقادم

أدلة المجيزين القيام للقادم يقول رحمه الله: الله تعالى أمر باللطف بالمسلمين، وإكرام أهل العلم والورع والدين، فقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، ومن اللطف بهم والإكرام: أن يحترموا بإلانة القول لهم، والقيام لا على طريق الرياء والإعظام، بل على ما ذكرناه من التكريم والاحترام، وعلى هذا استمر ما لا يحصى من علماء الإسلام وأهل الصلاح والورع وغيرهم من الأفاضل الأعلام، فالذي يختار: القيام لأهل الفضل والمزية من أهل العلم وقرابته والوالدين والصالحين وسائر أخيار البرية، فقد جاءت بذلك جمل من الأخبار، وأقوال السلف الكرام الأبرار، وأفعال العلماء والصلحاء أهل الورع والزهاد وغيرهم من الأخيار. ثم عقد باباً فيما ورد في الترخيص من الآثار والأخبار، وما قال فيه الأعيان من العلماء والأخيار. وذكر بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن يهود نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فأرسل إليه، فجاء على حمار، فلما بلغ قريباً من المسجد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى خيركم أو سيدكم)، وهناك رواية مشهورة على ألسنة الناس بلفظ: (قوموا لسيدكم)، لكن الوارد: (قوموا إلى سيدكم)، وأضف إلى قرينة وجود (إلى) كلمة (أنزلوه)؛ لأنه كان على حمار، وكان مجروحاً رضي الله عنه. وروى الحافظ البيهقي وأبو موسى الأصبهاني بسندهما عن الإمام مسلم قال: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثاً أصح من هذا، وهذا القيام على وجه البر لا على وجه التعظيم. يقول النووي: وقد أفصح الإمام مسلم رضي الله تعالى عنه بحقيقة المطلوب في هذا الكلام المختصر رحمه الله تعالى ورضي الله عنه. وقال الخطابي والبغوي بعد رواية حديث أبي سعيد رضي الله عنه السابق: في هذا الحديث أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والوالي العادل، وقيام المتعلم للعالم مستحب غير مكروه، وإنما جاءت الكراهة فيمن كان بخلاف هذه الصفات، فيحمل كراهة القيام للقادم فيمن كان فاجراً أو فاسقاً أو غير ذلك من الصفات الدنيئة، أو إن كان قيامه من أجل الدنيا أو الرياء. قال البغوي والخطابي: وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال صفوفاً) فهو إذا كان يأمرهم بذلك، ويلزمهم به على مذهب الكبر والنخوة. وعن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده كعب رضي الله عنه في حديث توبته الطويل المشهور فذكره إلى قوله: (وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت المسجد -يعني: لما بشر بنزول التوبة من الله عليهم- فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله! ما قام إليَّ من المهاجرين غيره، ولا أنساها لـ طلحة)؛ لأنه قام يهنئه بالتوبة، وهذا حديث متفق على صحته. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته، وأجلسته في مجلسها) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وحسنه الترمذي، يقول النووي: وهذا الحديث من أصرح الأدلة في المسألة. وروى النووي رحمه الله حديثاً مثل حديث عائشة، وهو: أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه -يعني: من الرضاعة- فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه)، وهذا الحديث ضعيف. وروى النووي أيضاً بسنده عن ابن شهاب: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام كانت تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت يوم الفتح بمكة، وهرب زوجها من الإسلام حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه، هكذا رواه الإمام مالك مرسلاً، وهذا والحديث الذي قبله وإن كانا مرسلين يصح الاحتجاج بهما في هذه المسألة؛ وذلك لأن أكثر الفقهاء قالوا بجواز الاحتجاج بالمرسل، وقال الشافعي وأكثر أهل الحديث: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. ومذهب الشافعية هو التساهل في الأخذ بالحديث المرسل، لاسيما إذا كان عن كبار التابعين، وقال الشافعي رحمه الله كلاماً حاصله: إذا روي المرسل مسنداً أو مرسلاً من طريق أخرى، وقال به بعض الصحابة أو عوام أهل العلم؛ جاز الاحتجاج به. وقوله: عوام أهل العلم ليس المقصود عوام الناس؛ فالعامي مأخوذ من العمى، وهو الذي يقوده غيره، لكن المقصود بعوام أهل العلم: عامة أهل العلم. قال النووي: وقد وجد في هذا الحديث ما يجوز الاحتجاج به، وهو ما قدمناه من الشواهد له، وما سنذكره بعده من أقوال العلماء. والله أعلم. وأيضاًَ ذكر الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا فإذا قام قمنا قياماً حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه)، وهذا الحديث إن صح، ليس له تعلق كبير بالمسالة، فكلامنا على القيام للقادم، أما كون جماعة من الناس يجلسون، وبعدما فرغوا قاموا، فليس في هذه المسألة، إلا أن يقال: إنهم قاموا إكراماً له عليه الصلاة والسلام، يقول الإمام النووي: إسناد هذا الحديث إسنادٌ صحيح، ورواته كلهم مشهورون بالعدالة، إلا هلالاً فإنه ليس بمشهور. وروى أيضاً عن أبي هشام الرفاعي قال: قام وكيع لـ سفيان، فأنكر عليه قيامه، فقال: أتنكر عليّ قيامي وأنت حدثتني عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إجلال ذي الشيبة المسلم) يعني إن من تعظيم الله أن تعظم المسلم الذي شاب في الإسلام، فأخذ سفيان بيده، فأجلسه إلى جانبه. وعن محمد بن الصلت قال: كنت عند بشر بن الحارث -يعني: الحافي الزاهد رضي الله عنه- فجاءه رجل فسلم عليه، فقام إليه بشر، فقمت لقيامه، فمنعني من القيام، فلما خرج الرجل قال لي بشر: يا بني! تدري لما منعتك من القيام له؟ قلت له: لا، قال: لأنه لم يكن بينك وبينه معرفة، وكان قيامك لقيامي، فأردت ألا يكون لك حركة إلا لله عز وجل خالصة. وعن أبي أحمد بن عدي الحافظ عن عبد المؤمن بن أحمد بن حوثرة قال: كان أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى لا يقوم لأحد، ولا يجلس أحداً مكانه إلا ابن وارة، فإني رأيته يفعل ذلك معه. يعني: لمكانته في الإمامة والعلم. وقال الإمام أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه (آداب الصحبة): ويقوم لإخوانه إذا أبصرهم مقبلين، ولا يقعد إلا بقعودهم، وأنشد: فلما بصرنا به مقبلا حللنا الحبى وابتدرنا القياما فلا تنكرن قيامي له فإن الكريم يجل الكراما وروى الحافظ أبو موسى بإسناده عن الإمام أبي سعيد النقاش قال: النبلاء من الرجال والعلماء يكرهون قيام الرجل لهم؛ لكراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مباحٌ لبعض الناس أن يقوم للناس. ثم قال النووي: هذا ما تيسر ناجزاً من الأحاديث وأقوال الأئمة في الترخيص في القيام، وحاصله: أنه ثبت ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة، وبأمره بذلك الأنصار، وبتقريره حين فُعل بحضرته، ومن فعل جماعة من الصحابة والسلف رضي الله تعالى عنهم في مواطن وجهات مختلفة، وفعل أئمة الناس في الحديث والفقه والزهد في أعصارهم.

آداب التخلي [1]

آداب التخلي [1] لقد نظم الإسلام كل شئون المسلم العامة والخاصة، بل نظم أخص المسائل وأدقها بالنسبة للمسلم، فقد وضع أحكاماً وآداباً للاستنجاء وقضاء الحاجة، وبيَّن ما يكره وما يستحب في هذه المسألة، وهذا دليل على شمولية هذا الدين وعمومه.

مقدمة بين يدي باب الاستنجاء وآداب التخلي

مقدمة بين يدي باب الاستنجاء وآداب التخلي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. دين الإسلام هو دين حياتي، يتعامل مع الحياة، وينظم كل شئون المسلم، حتى في الأمور التي هي أصلاً من العادات، فالشرع تعرض لها بأمر أو نهي، وبذلك تنتقل من العادة المحضة إلى العبادة، بحيث يصير هذا المأمور به أو المنهي عنه حداً من حدود الله تبارك وتعالى. فينبغي أن يتعبد المسلم بطاعة ربه والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيما شرع من هذه الأشياء، وقد تعجب بعض أهل الكتاب من هذه الطبيعة للإسلام، فقال بعضهم لأحد الصحابة رضي الله عنهم: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! يعني: قضاء الحاجة. ويقول بعض الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً إلا ذكر لنا منه علماً، ولا طائراً يطير بجناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)، فصلى الله عليه وآله وسلم. فهذا هو الإسلام وهذا الدين إذا نظرت إليه من أي زاوية من الزوايا قلت: إنه لا يمكن إلا أن يكون من عند الله عز وجل، وإنه الدين الحق، وشريعته الخالدة، وكلمة الله التي لا تبديل لها. إذا نظرت إلى الإسلام من جانب العقيدة تجد التوحيد الذي فيه تطهير القلب وتنظيفه من نجاسة الشرك، ومن كل الأخلاق الرديئة والعقائد الفاسدة، وفيه تزكية للنفس بالعقائد الصالحة، وهكذا إذا نظرت إليه من جانب العبادات أو المعاملات أو العادات. ولننظر في باب: الاستنجاء وآداب التخلي، الذي هو من الأمور الشخصية المحضة، فإن الإسلام جعل فيه تشريعاً وأمراً ونهياً وآداباً وحدوداً لله عز وجل حدها، ويجب على كل مسلم أن يتعلمها؛ كي يلتزم بها، وهذه آية من آيات تنظيم الإسلام لأدق شئون الإنسان، فما من الناس إلا وهو يحتاج إلى هذا الآداب حتى يكون متبعاً لكتاب الله ومقتدياً برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لا يكون فقط في الواجبات أو المأمورات، وليس فقط أيضاً في الآداب الشرعية، وإنما أيضاً في العادات المحضة، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه الأربعين: اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، ولست أقول ذلك في آدابه فقط، بل في جميع أمور العادات، فبه يحصل الاتباع المطلق، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. ثم يقول: فلا ينبغي التساهل في امتثال ذلك، فتقول: هذا مما يتعلق بالعادات فلا معنى للاتباع فيه، فإن ذلك يغلق عليك باباً عظيماً من أبواب السعادة. وهذا في العادات المحضة فكيف بالآداب؟! بل كيف بالأوامر والنواهي التي فيها حلال وحرام ومستحب ومكروه وواجب؟!

تعريف الاستنجاء والاستجمار والاستطابة

تعريف الاستنجاء والاستجمار والاستطابة نبدأ بتوفيق الله عز وجل في ذكر بعض مسائل الاستنجاء وآداب التخلي، ونحاول أن نلتزم بالخطة الأصلية التي وضعها صاحب الكتاب الذي نشرحه وهو كتاب (منار السبيل بشرح الدليل). قال المؤلف رحمه الله: [باب الاستنجاء وآداب التخلي. الاستنجاء: هو إزالة ما خرج من السبيلين بماء طهور أو حجر طاهر مباح منقٍ، فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء، ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات تعم كل مسحة المحل، والإنقاء بالماء عود خشونة المحل كما كان وظنه كافياً. ويسن الاستنجاء بالحجر ونحوه، ثم بالماء، فإن عكس كره، ويجزئ أحدهما، والماء أفضل. ويكره استقبال القبلة واستدبارها في الاستنجاء. ويحرم بروث وعظم وطعام ولو لبهيمة، فإن فعل لم يجزه بعد ذلك إلا الماء، كما لو تعدى الخارج موضع العادة. ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الطاهر والنجس الذي لم يلوث المحل]. هذا هو الفصل الأول من هذا الباب، فيبدأ بذكر تعريف الاستنجاء. الاستطابة والاستنجاء والاستجمار هي كلمات تدل على إزالة الخارج من السبيلين، والاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء وبالأحجار، أما الاستجمار فيختص بالأحجار. فالاستطابة هي: الاستنجاء بالماء أو بالأحجار، يقال: استطاب وأطاب إذا استنجى، سمي استطابة؛ لأنه يطيب جسده بإزالة الخبث عنه. أما الاستنجاء فهو استفعال من نجوت الشجرة يعني: قطعتها، فكأنه بهذا التطهير قطع الأذى عنه؛ فلذلك سمي استنجاء. أما ابن قتيبة: الاستنجاء مأخوذ من النجوة، والنجوة: هي ما ارتفع من الأرض؛ لأن من أراد قضاء الحاجة بحث عن شيء مستتر من الأرض فاستتر به فمنه سمي الاستنجاء. أما الاستجمار فهو استفعال من الجمار، وهي الحجارة الصغيرة؛ وذلك لأنه يستعملها الإنسان في استجماره.

حكم الاستنجاء من الريح والنوم

حكم الاستنجاء من الريح والنوم مسألة: ليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء. يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ولا نعلم في هذا خلافاً، قال الإمام أحمد: ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما عليه الوضوء، يقول: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استنجى من الريح فليس منا) عزاه في المغني إلى الطبراني في معجمه الصغير، لكن قال الألباني في إرواء الغليل حديث رقم (45): حديث ضعيف جداً، وعزوه للمعجم الصغير وهم. إذاً: الاستنجاء من الريح ليس من الدين، بل هو بدعة. وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] قال: إذا قمتم من النوم. يعني: إذا قمتم من النوم وأردتم الصلاة فاغسلوا وجوهكم، لم يأمر الشرع بالاستنجاء من الريح والنوم، ولم يأت نص بذلك، وليس هذا في معنى المنصوص عليه حتى يقاس عليه؛ لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة ولا نجاسة هنا؛ لأن النوم في حد ذاته لا يوجد به نجاسة حتى يزيلها، وكذلك إخراج الريح لا يستلزم الاستنجاء. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: وأجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح. إذاً: الدليل هنا هو الإجماع وليس الحديث الضعيف، فقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح والنوم ولمس النساء والذكر، وحكي عن الشيعة أنه يجب، والشيعة لا يعتد بخلافهم، وخلافهم لا يقدح في صحة الإجماع. قال الشيخ نصر في الانتخاب: إن استنجى لشيء من هذا فهو بدعة. وقال الجرجاني: يكره الاستنجاء من الريح، والله أعلم.

شروط ما يصلح الاستنجاء به

شروط ما يصلح الاستنجاء به ذكر العلماء شروطاً في الشيء الذي يصلح أن يستنجى به، وقد ذكر المؤلف رحمه الله حداً مختصراًَ جداً لهذا الأمر فقال: (الاستنجاء هو إزالة ما خرج من السبيلين بماء طهور أو حجر طاهر مباح منقٍ). أي: فإذا استعمل ماء في إزالة النجاسة فيتعين أن يكون هذا الماء ماءًَ مطلقاًَ، فلا يصح ولا يجوز إزالة النجاسة بمائع غير الماء المطلق. قوله: (أو حجر طاهر) فيه احتراز من الحجر النجس، ثم قال: (مباح منق) وسنذكر التفصيل إن شاء الله.

الشرط الرابع: عدم جواز الاستنجاء بما له حرمة أو متصل بحيوان

الشرط الرابع: عدم جواز الاستنجاء بما له حرمة أو متصل بحيوان يشترط فيما يستنجى به: ألا تكون له حرمة، وهذه من المصائب والبلايا التي لا يلتفت لها كثير من الناس. يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تبارك وتعالى: ولا يجوز الاستنجاء بما له حرمة، كشيء كتب فيه فقه أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها، فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة، ولا يجوز بمتصل بحيوان كَيَدِهِ وعقبه وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها. قال بعض أصحابنا: يجمع المستجمر به ست خصال: أن يكون طاهراً جامداً منقياً غير مطعوم ولا حرمة له ولا متصل بحيوان. يقول ابن قدامة رحمه الله: أما الطعام فتحريمه من طريق التنبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الروث والرمة في حديث ابن مسعود، لكونه زاد إخواننا من الجن، فزادنا مع عظم حرمته أولى. وهذا تنبيه إلى أنه لا يستنجي الإنسان بما هو زاد إخوانه الآدميين من الفواكه أو الخبز أو أي شيء مما يؤكل، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظام؛ لأنها زاد إخواننا من الجن، فزادنا مع عظم حرمته أولى ألا يستنجى به. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: فرع: قال أصحابنا: ومن الأشياء المحترمة التي يحرم الاستنجاء بها: الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع، فإن استنجى بشيء منها عالماً أثم، وفي سقوط الفرض الوجهان، والصحيح لا يجزئه، فعلى هذا تجزئه الأحجار بعده، ولو استنجى بشيء من أوراق المصحف -والعياذ بالله- عالماً صار كافراً مرتداً، نقله القاضي حسين والروياني وغيرهما والله أعلم. مسألة: يقول النووي: إذا استنجى بمائع غير الماء لم يصح. يعني: كأن يستنجي بخل أو بأي سائل غير الماء لم يصح. ثم يقول: ويجب عليه أن يستنجي بعده بالماء، ولا يجزئه الأحجار بلا خلاف في هذه الحالة. وذلك لأن المائع من خل أو ماء ورد أو أي شيء من السوائل غير الماء إذا لاقى النجاسة فإنه ينجس بذلك، فتزيد النجاسة على النجاسة، ولا ينقي ذلك إلا الماء. هذا ما يتعلق بشروط ما يستنجى به.

الشرط الثالث: الاستنجاء بالطاهر لا النجس

الشرط الثالث: الاستنجاء بالطاهر لا النجس يشترط العلماء فيما يستنجى به: أن يكون طاهراً، فإن كان نجساً لم يجزئ الاستنجاء به، فإن أزال النجاسة بشيء نجس لم يجزئ، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزئه؛ لأنه يجفف كالطاهر. يقول ابن قدامة: ولنا: (أن ابن مسعود رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة يستجمر بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذه ركس) رواه البخاري، وفي لفظ الترمذي: (قال: إنها ركس) يعني: نجسة. فهذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم يجب المصير إليه، فعلل رفضه لاستعمال هذه الروثة بأنها نجسة، فيفهم من ذلك أن ما كان نجساً لا يجوز الاستجمار به. أيضاً: عملية الاستجمار أو الاستنجاء أو الاستطابة هي عبارة لإزالة النجاسة، فكيف تحصل إزالة النجاسة بالنجاسة؟! وهذا مثل أن يغسل إنسان ثوباً متنجساً بالبول! فإن استنجى بنجس لم يجزئه الاستجمار بعده؛ لأن المحل تنجس بنجاسة من غير المخرج، فلم يجزئ فيها غير الماء كما لو تنجس ابتداءً، ويحتمل أن يجزئه؛ لأن هذه النجاسة تابعة لنجاسة المحل فزالت بزوالها، وهذه المسألة فيها خلاف كما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى. وهذه المسألة ذكرها الإمام النووي رحمه الله فقال: ذكرنا أنه لا يجوز الاستنجاء بنجس، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وجوزه أبو حنيفة وغيره. أي: جوز أبو حنيفة إزالة النجاسة بالروث. ثم يقول النووي: ودليلنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج لحاجته فقال: أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا روث) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة) والرِّمة: هي العظم البالي، والرُّمة هي الحبل، وبه سمي الشاعر ذو الرمة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس). وعن سلمان قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروث والعظام) رواه مسلم. وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله وسلم أن يتمسح بعظم أو بعر) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران) رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. وحديث رويفع بن ثابت من الأحاديث الصريحة جداً في هذه المسألة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك بعدي فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً منه بريء) رواه أبو داود والنسائي، وقال الإمام النووي: هذا حديث إسناده جيد. وهنا مسألة ذكرها الماوردي قال: لو أحُرق عظم طاهر بالنار حتى تفحم وتغير حاله فهل يجوز الاستنجاء به؟ A عند الشافعية في هذه المسألة وجهان: أحدهما: يجوز الاستنجاء به؛ لأن النار أحالته وحولت طبيعته. الثاني: لا يجوز لعموم حديث النهي عن الرِّمة، والرِّمة هي العظم البالي، ولا فرق بين البالي بنار أو بمرور الزمان، وهذا الوجه الثاني صححه الإمام النووي رحمه الله تعالى.

الشرط الثاني: الاستنجاء بشيء منق قالع للنجاسة

الشرط الثاني: الاستنجاء بشيء منق قالع للنجاسة لابد أن يكون ما يستجمر به منقياً؛ لأن الإنقاء مشترط في الاستجمار، أما الزجاج والفحم الرخو وشبههما مما لا ينقي فلا يجزئ ولا يجوز الاستنجاء بهما، ولو كان جسماً صلباً؛ لأنه لا ينقي. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة -الحممة هي الفحم-؛ فإن الله عز وجل جعل لنا فيها رزقاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وضعفه الدارقطني والبيهقي. إذاً: فشرط الشيء الذي يستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة، ولا يشترط أن يزيل الأثر بالماء فقط. ربما يقول بعض الناس: كيف نفصل في مثل هذه الأشياء ونحن الآن نعيش في المدن والأمور ميسرة إلى حد بعيد ولسنا بحاجة إلى ذلك؟! نقول: قال بعض السلف: تعلم العلم فإنك لا تدري متى تحتاج إليه. إذاً: فشرط الشيء المستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة، فالزجاج أو القصب الأملس أو ما يشبههما لا يجزئ كما قال الإمام النووي. أما الفحم إن كان صلباً لا يتفتت أجزأ الاستنجاء به، وإن كان رخواً يتفتت لم يجزئ؛ لأن حديث النهي عن الاستنجاء بالحممة ضعيف، فبالتالي لا يصح الاستدلال به. ومن استنجى بزجاج ونحوه لزمه الاستنجاء ثانياً؛ لأن الزجاج لا يقلع عين النجاسة، إنما يستنجي بالحجر أو ما في معناه. فإن استنجى بالزجاج ونحوه، فتعدت النجاسة محلها؛ فحينئذٍ يتعين عليه استعمال الماء، أما إذا لم تتعد النجاسة المحل فتكفيه الأحجار.

الشرط الأول: الاستنجاء بالأحجار وما في معناها

الشرط الأول: الاستنجاء بالأحجار وما في معناها يقول الشارح رحمه الله: [والاستجمار بالخشب والخرق وما في معناهما مما ينقي جائز في قول الأكثر]. قوله: (وما في معناهما) أي: ما يشبه الحجر؛ وذلك بأن يكون منقياً مطهراً. قال: [وفي حديث سلمان عند مسلم: (نهانا أن نستنجي برجيع أو عظم)]. الرجيع هو الروث، ولا يجوز الاستنجاء به لكونه نجساً، وأما العظم فلأنه زاد إخواننا من الجن. قال: [فتخصيصها بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها]. أي: لأنه خص من الأجسام الصلبة الرجيع أو العظم. قال المؤلف: (فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء) أي: الاستنجاء بالأحجار لا تزيل العين والأثر، إنما تزيل العين فقط وتبقي أثراً معفواً عنه؛ لعموم البلوى به، ولمشقة الاحتراز منه. وإذا استجمر أحد بالأحجار مع وجود الماء فلا بأس، وإن كانت الأحجار تزيل العين ويبقى الأثر، فإذا توضأ بعد ذلك فوضوءه وطهارته صحيحة. قال في الشرح: [إن الإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء. بأن تزول النجاسة وبلتها، فيخرج آخرها نقياً لا أثر به] يعني: يخرج آخر الأحجار نقياً لا أثر به. أما ما ذكر العلماء في شرط ما يستنجى به فيقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني: والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار، هذا الصحيح من المذهب -الحنبلي-، وهو قول أكثر أهل العلم، وفي الرواية الأخرى: لا يجزئ إلا الأحجار، اختارها أبو بكر، وهو مذهب داود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار، وأمره بالأحجار يقتضي الوجوب، فقالوا: لابد من الأحجار، لكن الصحيح من مذهب داود أنه يجزئ الاستنجاء والاستجمار بالأحجار أو ما قام مقامها. إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) أخذ منه بعض الأئمة -ومنهم داود بن علي - عدم جواز الاستجمار بغير الأحجار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار، فحينئذٍ يجب أن يقتصر على الأحجار، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن هذا فيه رخصة، والرخصة أتت بصورة مخصوصة، فيجب الاقتصار عليها فقط كما يقتصر على التراب في التيمم. وأجاب العلماء عن ذلك فقالوا: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) وشبهه من الأحاديث، إنما نص على الأحجار؛ لأن الأحجار هي غالب الموجود للمستنجي بالفضاء، ولأن أسهل شيء يستطيع أن يحصل عليه في ذلك المكان هو هذه الأحجار، فإنه لا مشقة فيها ولا كلفة في تحصيلها، فالنص على الأحجار إنما خرج مخرج الغالب، وهذا مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] فهذا القيد لا مفهوم له، فهل يجوز أن يستدل بهذه الآية على أنه يجوز قتل الأولاد لسبب آخر غير الإملاق الذي هو الفقر؟! لا يجوز، لكن لما كان السبب الغالب الذي كان يدعو بعض العرب في الجاهلية إلى قتل الأولاد هو الفقر نص عليه. كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فغالب الربا يكون أضعافاً مضاعفة، فلذلك نص عليه، فهل يصح أن يستدل بهذه الآية -كما فعل بعض الذين في قلوبهم مرض- على جواز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؟! كلا. وكذلك قوله تبارك وتعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] هل هذا فقط في حالة الخوف أم أن هذه رخصة عامة في أي سفر يقصر الإنسان فيه الصلاة؟ هي رخصة عامة، وقيد الخوف لا مفهوم له؛ لكونه خرج مخرج الغالب، وهكذا نص على الأحجار لهذه العلة. استدل الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى على أن كل ما يشبه الأحجار ويقوم مقامها له حكمها في جواز الاستجمار به بقوله: ولنا ما روى أبو داود عن حذيفة قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع، ولم يكن تخصيص الرجيع بالذكر له معنى. وفي حديث سلمان رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستجمر برجيع أو عظم) رواه مسلم. فتخصيص النهي بالرجيع -وهو الروث- والعظم يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها. وروى طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها، وليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب) رواه الدارقطني. وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً والصحيح أنه مرسل، ورواه سعيد في سننه موقوفاً على طاوس. يقول الإمام البيهقي: الصحيح أن هذا من كلام طاوس وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضاً ذكر البيهقي أن نفس هذا الحديث روي عن سراقة بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه ضعيف أيضاً. قال البيهقي: وأصح ما روي في هذا ما رواه يسار بن نمير قال: (كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئاً أستنجي به، فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطاً يتمسح به أو يمسه الأرض ولم يكن يغسله) أي: يجزئ الحجر وما في معنى الحجر، لكن التراب الرخو ليس فيه معنى الحجر، ولا يقوم مقام الحجر المأمور به، لكن إذا كان تراباً مستحجراً متماسكاً متضاماً يشبه الحجارة، وأمكن الإزالة به والإنقاء؛ فيكون حكمه حكم الحجر، فإن كان رخواً لا تمكن الإزالة به لم يجزئ؛ لأنه يعلق بالمحل. ثم قال الإمام ابن قدامة مبيناً صحة الاستنجاء بالأحجار أو ما في معناها: ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى. أي: متى ورد النص بشيء في معنى معقول نستطيع أن ندركه بأنفسنا وجب أن يتعدى هذا الحكم إلى ما وجد فيه نفس هذا المعنى، وهو ما يسمى بالقيد، والمعنى المعقول ها هنا أن تزال عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار، وبهذا يخرج التيمم فلا يصح القياس على التيمم؛ لأن التيمم غير معقول المعنى، فإن التيمم رخصة غير معقولة المعنى.

حكم الاكتفاء بالأحجار في الاستنجاء أو الماء

حكم الاكتفاء بالأحجار في الاستنجاء أو الماء يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: وهو مخير بين الاستنجاء بالماء أو الأحجار في قول أكثر أهل العلم. أي: يجوز للإنسان أن يستنجي بالأحجار حتى مع وجود الماء، وهذا من الرخص ومن التيسير على عباد الله. وحكى ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة وابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين أنهم أنكروا الاستنجاء بالماء. وذلك لأن الأصل في مجتمع الصحابة هو الاستنجاء بالأحجار. وهذا يدل على شيوع الاستجمار بالأحجار في عهد السلف، فكان هؤلاء الصحابة لا يرون الاستنجاء بالماء. وقال سعيد بن المسيب: وهل يفعل ذلك إلا النساء؟! وقال عطاء: غسل الدبر محدث. وكان الحسن لا يستنجي بالماء. وروي عن حذيفة القولين جميعاً. وكان ابن عمر لا يستنجي بالماء ثم فعله، وقال لـ نافع: جربناه فوجدناه صالحاً. وشرط أن يكون ما يستنجى به غير مطعومٍ هو في الأشياء الجامدة وليس في الماء؛ لأن الماء لا يدخل أصلاً في هذا الخلاف؛ لتواتر الأدلة الصحيحة على أن الشرع أجاز الاستنجاء بالماء، بل ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام الخطابي رحمه الله: زعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم؛ فلهذا كره الاستنجاء به سعد وموافقوه، وهذا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة، والله أعلم. وحكى القاضي أبو الطيب من الشافعية وغيره عن الزيدية والقاسمية -وهما من فرق الشيعة- أنه لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء. إذاً: الزيدية والقاسمية من الشيعة قالوا: إذا كان الماء موجوداً فلا يجزئ إلا استعمال الماء، ولا يجوز العدول عن الماء إلى الاستنجاء بالأحجار مع وجوده؛ فاحذروا أن تكونوا مثل الشيعة دون أن تشعروا، فبعض الناس يستغرب هذا الحكم، ويقول: كيف يجوز أن أستعمل الأحجار مع وجود الماء؟! نعم يجوز.

حكم الاقتصار على الأحجار مع وجود الماء للمقيم والمسافر

حكم الاقتصار على الأحجار مع وجود الماء للمقيم والمسافر يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: ولا شك في جواز الاقتصار على الأحجار مع وجود الماء وعدمه. يعني: يجوز استعمال الأحجار مطلقاً سواء كان الماء موجوداً أو معدوماً، وسواء كان الإنسان مقيماً أو مسافراً. قال: وهذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. يقول الإمام الماوردي: فلو استنجى أولاً بالماء لم يستعمل الأحجار بعده؛ فإنه لا فائدة فيه. وهذا واضح؛ لأن الماء يزيل العين والأثر.

أدلة أفضلية الاستنجاء بالماء على الاستنجاء بالأحجار

أدلة أفضلية الاستنجاء بالماء على الاستنجاء بالأحجار من أراد الاقتصار في الاستنجاء على أحدهما الماء أو الأحجار أو ما قام مقامها فالماء أفضل؛ لهذه الأدلة التي سنذكرها: سبب ورود حديث ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) أنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم الماء عند الخلاء قريباً منه حتى يتناوله، فقال: (من وضع هذا؟ قالوا: ابن عباس) فدعا له هذه الدعوة المباركة، فهذا دليل على استعمال الماء. وعن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء -أي: وعاء صغير من جلد- وعنزة -أي: عصاً مثل الرمح- فيستنجي بالماء). وعن حديث عائشة قالت: (مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء؛ فإني أستحييهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله). ومنها: حديث سبب نزول قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] في أهل قباء؛ لأنهم كانوا يستنجون بالماء. إذاً: من أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل؛ لأنه يطهر المحل، ويزيل العين والأثر، بخلاف الأحجار فإنها تزيل العين فقط وتبقي الأثر، فليس هناك شك أن الماء أبلغ في التنظيف، وأن اقتصر على الحجر أجزأه بغير خلاف بين أهل العلم حتى مع وجود الماء؛ لما ذكرنا من الأخبار، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم. والأفضل أن يستجمر بالحجر ثم يتبعه الماء، أولاً بالحجر ثم يتبعه الماء، لكن إن كان لابد أن يستعمل واحداً من الاثنين فقط، فالماء أفضل. قال أحمد: إن جمعهما فالماء أحب إليه؛ لأن عائشة قالت: (مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول فإني أستحييهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله)، ولأن الحجر يزيل عين النجاسة فلا تصيبها يده، ثم يأتي الماء فيطهر المحل، فيكون أبلغ في التنظيف وأحسن.

حكم الإنقاء بما دون الثلاثة الأحجار

حكم الإنقاء بما دون الثلاثة الأحجار يقول الإمام الخرقي رحمه الله تعالى: فإن لم يعد مخرجهما -أي: إن خرج شيء من السبيلين ولم يتجاوز المخرج ولم ينتشر إلى غيره- أجزأه ثلاثة أحجار إذا أنقى بهن، فإن أنقى بدون الثلاثة لم يجزئه حتى يأتي بالعدد، وإن لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي. لكن يستحب أن يختم على وتر، وإذا لم يتجاوز المخرج بما لم تجر العادة به -فإن اليسير لا يمكن التحرز منه- فإنه يجزئه ثلاثة أحجار منقية. ومعنى الإنقاء: إزالة عين النجاسة وبلتها بحيث يخرج الحجر نقياً وليس عليه أثر لاصق إلا شيئاً يسيراً لا يزيله إلا الماء. إذاً: لابد من الإنقاء واستعمال ثلاثة أحجار حتى يصح الاستنجاء بالأحجار، وإذا لم يحصل الإنقاء فلابد أن يزيد في الأحجار حتى يحصل الإنقاء، وهذا مذهب الإمام أحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور. وقال مالك وداود: الواجب الإنقاء دون العدد. أي: لو حصل الإنقاء بواحدة أو باثنتين يجزئ. وأيضاً قال بهذا أبو حنيفة رحمه الله حيث أوجب الاستنجاء.

أدلة من لا يشترط العدد في الاستنجاء بالأحجار

أدلة من لا يشترط العدد في الاستنجاء بالأحجار احتج أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من استجمر فليوتر، من فعله فقد أحسن ومن لا فلا حرج) فالعلماء الذين قالوا: إن الواجب هو الإنقاء وليس العدد، اعتبروا الشرط الوحيد هو الإنقاء ولم يشترطوا العدد، وقالوا: إن المقصود هو الإنقاء؛ لأنه لو استنجى بالماء لم يشترط العدد فكذلك الحجر. وقد رد على هذا من الشافعية القاضيان أبو الطيب وحسين بالقياس بعبادة تتعلق بالأحجار ويستوي فيها الثيب والأبكار، فكان العدد فيها معتبراً ألا وهي رمي الجمار، ورجم الزاني المحصن يستوي فيه الذكر والأنثى. إذاً: اعتبار العدد في رمي الجمار بحيث لابد أن نستعمل سبع جمرات يوافق اعتبار العدد في الاستنجاء بالأحجار. لكن الإمام النووي بعدما ذكر هذا، يقول: ولا حاجة إلى الأقيسة مع الأحاديث الصحيحة. وقد ذكرنا أن مخالفي الجمهور في هذه المسألة احتجوا بالحديث الذي ذكرناه آنفاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) رواه الدارمي وأبو داود وابن ماجة وحسنه النووي. وأيضاً قالوا: النجاسة لا تجب إزالة أثرها فكذا عينها كدم البراغيث؛ وقالوا: ولأنه لا تجب إزالتها بالماء فلم يجب غيره. وقال المزني: ولأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني؛ لأن المني طاهر والبول نجس.

الجواب عن أدلة من لا يوجب العدد في الاستنجاء بالأحجار

الجواب عن أدلة من لا يوجب العدد في الاستنجاء بالأحجار الجواب على من استدل بحديث أبي هريرة: (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) أن معنى قوله: (ومن لا فلا حرج) أي: فلا حرج في ترك الإيتار؛ وهو محمول على الإيتار الزائد على ثلاثة أحجار؛ حتى نجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث الأخرى التي اشترطت الثلاثة الأحجار، فلو حصل الإنقاء بأقل من ثلاثة أحجار فلابد أن يجعلها ثلاثة أحجار. والدليل على هذا المذهب الصحيح هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار). فنجمع بين قوله: (وليستنج بثلاثة أحجار) وبين قوله: (من استجمر فليوتر) أي: فليوتر، ولا يوتر بأقل من ثلاثة أحجار. ومن الأدلة حديث سلمان رضي الله عنه: (أن رجلاً قال لـ سلمان: إن نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة -أي: آداب التخلي- فقال: أجل نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) رواه مسلم في صحيحه. أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه) يقول النووي: هذا حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح. واحتج أصحاب الشافعي بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله)، وفي رواية: (لا يستبرئ من بوله) رواه البخاري ومسلم. يقول الإمام النووي: في الاستدلال به نظر؛ لأن الدعوى هي أن من استنجى بأقل من ثلاثة أحجار داخل في هذا الحديث، وأنه لم يستبرئ من بوله، والدعوى يستدل لها ولا يستدل بها. أيضاً من الأدلة قول ابن مسعود رضي الله عنه: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالثة فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس) رواه البخاري هكذا. وروى أحمد والدارقطني والبيهقي في بعض رواياته زيادة قال: (فألقى الروثة وقال: ائتني بحجر) يعني: ائتني بحجر ثالث. وفي بعضها: (ألقاها -أي: الروثة- وقال: ائتني بغيرها). ألقى الروثة وقال: (ائتني بغيرها). وأيضاً حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من استجمر فليوتر) هذا متفق عليه، لكن هناك رواية لنفس هذا الحديث للإمام أحمد والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً) قال البيهقي: هذه الرواية تبين أن المراد بالإيتار في الرواية الأولى ما زاد على الواحدة، فما هو الوتر الذي يزيد عن الواحدة؟ إنه الثلاث، فيكون الإيتار بالثلاثة الأحجار واجباً، والإيتار بعد الثلاث يكون مستحباً.

ذكر بعض آداب الاستجمار والاستنجاء

ذكر بعض آداب الاستجمار والاستنجاء يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: وإذا زاد على الثلاث استحب ألا يقطع إلا على وتر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من استجمر فليوتر) فإن حصل الإنقاء بوتر لم تستحب الزيادة، لكن إذا حصل الإنقاء بشفع استحبت الزيادة فيستجمر بخمس أو سبع أو تسع أو ما زاد على ذلك، فإن اقتصر على وتر منقية فيما زاد على الثلاثة جاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن لا فلا حرج). ويقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: لو أن إنساناً بال ومسح الموضع مرتين أو ثلاثاً، ثم خرجت قطرة وجب استئناف المسح أي: إذا حصل بعد المسح بالاثنين مرتين أو ثلاث خروج شيء جديد فإنه يعيد المسح من جديد ولا يبني على ما مضى. ومن هذه الآداب ألا يستجمر بيمينه؛ لقول سلمان رضي الله عنه: (إنه لينهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه) وسلمان صحابي معروف، وترجمته من التراجم المهمة جداً؛ لأنه أنموذج كامل للباحث عن الحق. لو قرأتم قصة إسلامه لوجدتم كيف ينبغي لكل من سأل عن الإسلام أن يتحرى ويبذل الجهد حتى يصل إلى الحق، وأنه إذا أخلص في ذلك فإن الله يوفقه مهما كان أمامه من عقبات، وسلمان أصله فارسي من أصبهان، وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدائن سنة (36هـ) وعمر سلمان عمراً طويلاً جداً، فالمتفق عليه بين المؤرخين أنه عاش مائتين وخمسين سنة، وقيل: ثلاثمائة وخمسين سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى) رواه أحمد وأبو داود بإسناد صححه النووي رحمه الله. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد -وقال فيه-: ولا يستطب بيمينه) فهذه من الآداب التي علمها عليه الصلاة والسلام أصحابه. وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه) متفق عليه. أي: إذا كان يستنجي من غائط أخذ الحجر بشماله فمسح به، وإن كان يستنجي من البول وكان الحجر كبيراً أخذ ذكره بشماله فمسح به. مسألة: لو أن رجلاً استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟ يجزئه، لكنه خالف الأدب الشرعي، يقول علماء الشافعية: يكره الاستنجاء باليمين كراهة تنزيه ولا يحرم. قال إمام الحرمين: الاستنجاء باليمين مكروه غير محرم، قال: وحرمه أهل الظاهر. وقال ابن الصباغ وآخرون: الاستنجاء باليسار أدب، وليس باليمين معصية. وقال الشافعي كما حكاه المزني في مختصره: النهي عن اليمين أدب، لكن لو حصل ووقع أنه خالف فقد ارتكب مكروهاً كراهة تنزيهية، ولكن قد يصح الاستنجاء. ومختصر المزني له مكانة عظيمة عند العلماء فقد قال فيه بعضهم: لم تراعيني ولم تسمع أذني أحسن نظماً من كتاب المزني. يقول الإمام ابن قدامة: يبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل؛ لئلا تتلوث يده إذا شرع في الدبر، والمرأة مخيرة في البداية بأيهما شاءت. والظاهر عدم التفريق، والله أعلم. مسألة: لو أن رجلاً تغوط وقبل أن يستنجي قام، هل تجزئه الأحجار؟ لا تجزئه؛ لأنها تعدت المحل غير المعتاد، فلابد من استعمال الماء في هذه الحالة. ومن الآداب الشرعية في هذا الباب: أنه إذا استنجى بالماء يستحب له أن يدلك يده بالتراب بعدما يفرغ. يقول الإمام النووي رحمه الله: السنة أن يدلك يده بالأرض بعد غسل الدبر، ذكره البغوي والروياني وآخرون، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها قالت: (وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءاً للجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاًَ، ثم غسل فرجه، ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً) متفق عليه. وفي رواية مسلم: (ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً)، وهذا في الغسل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ) وهذا حديث حسن. وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الغيضة فقضى حاجته ثم استنجى من إداوة ومسح يده بالتراب) رواه النسائي وابن ماجة بإسناد جيد. وهذا نوع من التنظيف ويجزئ عنه ما في معناه من الصابون أو غير ذلك. الاستنجاء من البول يسمى انتقاص الماء، والانتقاص معناه: أن الإنسان إذا استبرأ من البول واستنجى بالماء؛ فإن ذلك يقطع نزول البول، فحينئذٍ يقال: إن الماء يقطع البول؛ ولذلك سمي الاستنجاء انتقاص الماء. ويستحب بعد الفراغ من الاستنجاء بالماء أن ينضح على فرجه وسراويله؛ ليزيل الوسواس عنه؛ لأن هذا النضح يحدث بللاً، فإذا وجد البلل فإنه لا يفتح الباب للشيطان ليوسوس، وهذا باب خطير جداً إذا استرسل معه الإنسان، فحينما يتذكر أنه عمداً نضح سراويله بالماء فإنه يذهب عنه ذلك الوسواس. يقول حنبل: سألت أحمد: أتوضأ وأستبرئ وأجد في نفسي أني قد أحدثت بعده؟ قال: إذا توضأت فاستبرئ، ثم خذ كفاً من ماء فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه، فإنه يذهب إن شاء الله. فالإنسان لا يتساهل في باب الوسواس؛ لأنه لو فتحه فسدت عليه عبادته. روى النووي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل فقال: يا محمد! إذا توضأت فانتضح) وهذا حديث غريب، لكن قد ثبت الانتضاح في حديث صحيح.

حكم الاستنجاء من البول والغائط وكل خارج من السبيلين

حكم الاستنجاء من البول والغائط وكل خارج من السبيلين مسألة: لو أن رجلاً قضى حاجته ثم توضأ ثم استجمر، ثم صلى فهل تصح طهارته؟ الطهارة صحيحة؛ لأنه إنما أخر الاستجمار، والشرط هو إزالة النجاسة من بدنه أو ثوبه، وهو قد أزالها، لكن يشترط ألا يمس العورة عند الاستجمار بالأحجار مثلاً. يقول الإمام النووي رحمه الله: الاستنجاء واجب عندنا من البول والغائط، وكل خارج من أحد السبيلين نجس ملوث، وهو شرط في صحة الصلاة، وبه قال أحمد وإسحاق وداود وجمهور العلماء، ورواية عن مالك، وقال أبو حنيفة: هو سنة، وهو رواية عن مالك، وحكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والعبدري وغيرهم عن المزني، وجعل أبو حنيفة هذا أصلاً للنجاسات، فما كان منها قدر درهم بغلي عفي عنه. إذاً: أبو حنيفة اعتبر هذا هو حد النجاسة، فإذا كانت النجاسة بقدر درهم بغلي عفي عنه، وإن زاد فلا، وكذا الحكم عنده في الاستنجاء إن زاد الخارج على درهم وجب وتعين الماء، ولا يجزئ عنده الاستنجاء بالحجر.

آداب التخلي [2]

آداب التخلي [2] من سنن دخول الخلاء: التسمية والتعوذ عند إرادة الدخول إلى الخلاء، وتقديم الرجل اليسرى، والاستغفار بعد الخروج من الخلاء. ومن آداب التخلي الاعتماد على الرجل اليسرى حال الجلوس لقضاء الحاجة. ويكره الذكر وقراءة القرآن حال قضاء الحاجة، وفي مكان قضاء الحاجة.

آداب دخول الخلاء والخروج منه

آداب دخول الخلاء والخروج منه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فالشرع الشريف شرع آداباً عند دخول الخلاء، يقول الإمام ابن النحاس رحمه الله: ذكر علماؤنا رحمة الله تعالى عليهم آداب التصرف في ذلك كله، وهي تزيد على سبعين خصلة، يحتاج من قام إلى قضاء حاجته أن يتأدب بها، وكلها مرتبطة بالاتباع، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. وهنا من مظاهر عظمة الإسلام، فالإسلام نظم كل حياة المسلم حتى أخص خصائصه وأدق الأمور في حياته نظمها له، ولله عز وجل حدود في كل شيء ينبغي أن يراعيها العبد وآداب ينبغي له أن يتمسك بها. ونذكر بعض آداب التخلي مجملة، ثم نفصل ما أجملناه منها: أن ينوي أداء واجب استفراغ ما في المحل مما يخرج، وكذلك إزالة الاحتقان؛ امتثالاً لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: (لا يصلين أحدكم وهو يدافع الأخبثين) وهذا نهي، فينوي أن يجتنب الأمر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) فينوي من قضاء الحاجة أنه يفعل ذلك حتى لا يصلي وهو يدافع الأخبثين؛ امتثالاً لما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يضم إلى ذلك نية امتثال السنن والآداب المشروعة في هذا الموقف. ومن هذه الآداب أن يستتر عن الناس؛ لأنه ليس في كل الأحوال يتيسر بيت الخلاء في الصحراء مثلاً أو غيرها. فإذا وجد الإنسان حائطاً أو كثيباً أو شجرة أو بعيراً استتر به، وإن لم يجد شيئاً أبعد حتى لا يراه أحد. ويستحب له أن يستعد لذلك قبل الدخول، وذلك بأن يهيئ ما يستنجي به من الماء أو الأحجار قبل جلوسه. وإذا دخل محل قضاء الحاجة قدم رجله اليسرى في الدخول وأخر اليمنى، وإذا خرج قدم اليمين وأخر الشمال. أيضاً لا يجوز أن يستقبل القبلة ولا أن يستدبرها في الفضاء عند قضاء الحاجة، وأما إذا كان بينه وبين القبلة بنيان أو شيء يستره فلا بأس. وقد تقدم أنه يجوز الاستنجاء بالحجر وبكل ما يقوم مقامه من كل جامد طاهر مزيل لعين النجاسة، وليس له حرمة ولا هو متصل بحيوان، ولا يجوز الاستنجاء بروث ولا عظم ولا طعام. ويستجمر وتراً ولا يقل عن ثلاثة أحجار أو ما يقوم مقامها. وذكرنا أنه يشترط في الاستنجاء شرطين: الأول: الإنقاء. الثاني: العدد والإيتار بثلاثة أحجار. وإذا أراد أن يستنجي فليغسل يده اليسرى قبل أن يباشر النجاسة؛ لئلا تعلق بها الرائحة. ويبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل والمرأة مخيرة في ذلك. وإذا استنجى بالماء ثم فرغ استحب له أن يدلك يده بالتراب، وهذا من باب النظافة. ويستحب أن ينضح الماء على فرجه وسراويله ليزيل الوسواس عنه. ومن الآداب: ألا يطيل القعود أكثر من قدر الحاجة بل يسارع في الخروج من ذلك المحل. يقول الإمام أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى: إذا أراد الله بعبد خيراً يسر عليه الطهارة. وقال العلماء: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء. ومن مفاتيح دراسة شخصية الإنسان أن يسأل عن سلوكه في هذا الباب؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالوسوسة فهذا شيء خطير جداً؛ لأنه إذا تمادى في هذا الأمر فقد يصل إلى أمور تشقيه وتكدر عليه حياته، فينبغي للإنسان أن يكون حذراً. ونشرع الآن في ذكر أهم آداب التخلي بالتفصيل.

الأدب العاشر: كراهة البول في الحجر والثقب ومكان الاستحمام

الأدب العاشر: كراهة البول في الحجر والثقب ومكان الاستحمام ومن الآداب: أنه يكره أن يبول المرء في شق أو ثقب، والثَقب بالفتح أفصح من أن تقول: ثُقب بالضم. عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يبال في الجحر أو نهى عن البول في الجحر) رواه أبو داود، وصححه الإمام النووي رحمه الله، وضعفه الألباني. ووجه النهي أنه لا يأمن أن يكون في الجحر حيوان يلسعه ويؤذيه، أو أن يكون مسكناً للجن فيتأذى بهم، فقد حكي أن سعد بن عبادة بال في جحر بالشام، ثم استلقى ميتاً، فسُمِعَت الجن تقول: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده وهذا لا يصح؛ لأن المعروف أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه وجد ميتاً في مستحمه وقد اخضر جسده رضي الله عنه، ولم يصح أنه مات بهذه الحادثة. أيضاً: لا يبول في مستحمه كما ذكرنا فإن عامة الوسواس منه؛ وذلك لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في مستحمه) أي: لا يبول في الموضع الذي يستحم فيه.

الأدب الحادي عشر: حرمة البول على القبر

الأدب الحادي عشر: حرمة البول على القبر أيضاً من الآداب: ألا يبول على القبر، وهذا حرام أو مكروه؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق!!) يعني: كلاهما سواء في عدم الجواز أو هما في القبح سواء، فمن أتى بأحدهما فهو لا يبالي بأيهما بدأ.

الأدب الثامن: الاستتار والابتعاد عن الناس حال قضاء الحاجة

الأدب الثامن: الاستتار والابتعاد عن الناس حال قضاء الحاجة من الآداب التي ذكرها العلماء: أن يستتر عن الناس، فإن وجد حائطاً أو كثيباً أو شجرة أو بعيراً استتر به، وإن لم يجد شيئاً أبعد حتى لا يراه أحد. والدليل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: يا مغيرة! خذ الإداوة فأخذتها، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عني فقضى حاجته) رواه البخاري ومسلم. وعن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد) وهذا الحديث فيه ضعف يسير. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: وهذان الأدبان متفق على استحبابهما، وجاء فيهما أحاديث كثيرة جمعتها في جامع السنة. قال الرافعي وغيره: ويحصل هذا التستر بأن يكون في بناء مسقف أو محوط يمكن سقفه أو يجلس قريباً من جدار وشبهه، وليكن الساتر قريباً من آخرة الرحل، وليكن بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل، ولو أناخ راحلته وتستر بها أو جلس في وهدة أو نهر أو أرخى ذيله حصل هذا الغرض، والله أعلم. يعني: لأن المقصود ستر العورة. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: (كان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم هدف أو حائش نخل) يعني: حائط نخل. رواه مسلم في صحيحه.

الأدب التاسع: عدم قضاء الحاجة في طريق الناس وظلهم وغيرهما

الأدب التاسع: عدم قضاء الحاجة في طريق الناس وظلهم وغيرهما هناك أماكن معينة يجتنبها الإنسان عند قضاء الحاجة، يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ولا يجوز أن يبول في طريق الناس ولا مورد ماء ولا ظل ينتفع به الناس؛ لما روى معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي بإسناد جيد. قوله: (البراز) بالفتح أو الكسر. قوله: (في الموارد) أي: موارد المياه؛ وبعض العلماء قالوا: المورد: هو الطريق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنين -وفي بعض الروايات: اتقوا اللعانين- قالوا: وما اللعانان -أو وما اللاعنان- يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم) أخرجه مسلم. ومن الآداب: ألا يبول تحت شجرة مثمرة؛ لئلا تسقط الثمرة عليه فتتنجس، أما في حال عدم وجود الثمرة فلا بأس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب ما استتر به لحاجته هدف أو حائش نخل. ولا يبول في الماء الدائم، قليلاً كان الماء أو كثيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن البول في الماء الراكد) متفق عليه، ولأن الماء إذا كان قليلاً تنجس به، وإن كان كثيراً فربما تغير بتكرار البول فيه، وأما الجاري فلا يجوز التغوط فيه؛ لأنه يؤذي من يمر به، وإن بال فيه فلا بأس؛ لأنه كثير لا يؤثر فيه البول؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص النهي عن البول بالماء الراكد، فدل على أن الجاري بخلافه، والأولى اجتنابه. أيضاً: لا يبول على ما نهي عن الاستجمار به كالعظم وسائر المطعومات، فقد نهينا عن الاستجمار بها، فمن باب أولى لا يجوز أن يبول عليها؛ لأن هذا أبلغ من الاستجمار بها، العظام لا يستجمر بها؛ لأنها زاد إخواننا من الجن، فمن باب أولى لا يبول عليها. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث) الملاعن: هي مواضع وأماكن اللعن، وهي جمع ملعنة، مثل مقبرة ومجزرة، فالمقبرة موضع القبر، والمجزرة موضع الجزر، وكذلك الملعنة موضع اللعن. وفي رواية أخرى: (اتقوا اللعانين) والمقصود بهما صاحبا اللعن، يعني: اللذين يلعنهما الناس كثيراً. وفي رواية أبي داود: (اللاعنان) أي: الأمران الجالبان للعن؛ لأن من فعلهما لعنه الناس في العادة، فلما صارا سبباً للعن أضيف الفعل إليهما. قال الخطابي: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، فالتقدير: العنوا الملعون فاعلهما. قال الخطابي: وغيره الموارد هي طرق الماء، واحدها مورد. قال: والمراد بالظل مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلاً ومناخاً ينزلونه أو يقعدون تحته، وليس كل ظل يمنع قضاء الحاجة تحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى حاجته تحت حائش النخل كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وللحائش ظل بلا شك. قوله: (البراز) قال الخطابي: وهو هنا بفتح الباء البراز، وهو الفضاء الواسع من الأرض، كنوا به عن قضاء الحاجة كما كنوا عنه بالخلاء، وأهل الحديث يروونه البراز بكسر الباء، قال الخطابي: وهو غلط. ثم ذكر أن البراز بالكسر الغائط نفسه لا الفضاء. وأما قارعة الطريق فهي أعلى الطريق، وقيل: صدر الطريق أو ما برز منه، والطريق تؤنث وتذكر تقول: هذا طريق أو هذه طريق. إذاً: اتقاء الملاعن الثلاث متفق عليه، وقضاء الحاجة في هذه الملاعن مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال بعض العلماء، لكن صحح الإمام النووي أنه ينبغي أن يكون محرماً؛ لهذه الأحاديث، ولما فيه من إيذاء المسلمين، وفي كلام الخطابي وغيره إشارة إلى تحريمه.

الأدب السابع: كراهة الكلام حال قضاء الحاجة

الأدب السابع: كراهة الكلام حال قضاء الحاجة يقول ابن قدامة رحمه الله: ولا يتكلم لما روى أبو سعيد رضي الله عنه حيث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم، وحسنه النووي وصححه الحاكم وضعفه الألباني في تمام المنة. قوله: (لا يخرج الرجلان يضربان) أي: يأتيان، تقول: ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء، وتقول: ضربت في الأرض إذا سافرت، كقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101]. علق الإمام النووي رحمه الله تعالى على ما ذكره الشيرازي في كراهة الكلام عند قضاء الحاجة فقال: هذا الذي ذكره المصنف من كراهة الكلام عند قضاء الحاجة متفق عليه. قال أصحابنا: ويستوي في الكراهة جميع أنواع الكلام، ويستثنى مواضع الضرورة، بأن رأى ضريراً قد يقع في بئر، أو رأى حية أو غيرها تقصد إنساناً أو غيره من المحترمات، فلا كراهة في الكلام في هذه المواضع، بل يجب في أكثرها، فإن قيل: لا دلالة في الحديث المذكور على ما ادعاه المصنف؛ لأن الذم لمن جمع الأوصاف المذكورة في الحديث كلها، قلنا: ما كان بعض موجبات المقت فلا شك في كراهته. والمراد حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط) يعني: يأتيان الغائط: (كاشفين عن عورتيهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك) فبعض الناس بناء على صحة الحديث يقول: إن المقت من الله إنما هو على كشف العورة والكلام لا على الكلام فقط، فلا ينطبق الحديث إلا على من جمع بين هاتين الخصلتين: كشف العورة، والتحدث، ف A ما كان بعض موجبات المقت فلا شك في كراهته.

الأدب الثالث: كراهة استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة

الأدب الثالث: كراهة استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة ذكر العلماء في أحكام التخلي ومنهم الإمام ابن قدامة: أنه يكره للمرء أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه؛ لما فيهما من نور الله تعالى، فإن استتر عنهما بشيء فلا بأس؛ لأنه لو استتر عن القبلة جاز فهاهنا أولى، ويكره أن يستقبل الريح؛ لئلا ترد عليه رُشاش البول فينجسه. قوله: ويكره أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه لما فيهما من نور الله تعالى، أخذوا هذا الحكم من حديث ضعيف، والكلام في استقبال القبلة لا ينبغي ربطه بمسألة استقبال الشمس والقمر، فلا يقال: لا يستقبل الشمس والقمر ولا يستدبر القبلة ولا يستقبلها؛ لأن هذا قد يكون فيه مشقة، ومما يوضح أن هذا الحكم غير صحيح معرفة الفرق بين استقبال القبلة وبين استقبال الشمس والقمر: الفرق الأول: أن دليل النهي عن استقبال القبلة عند التخلي صحيح مشهور، ودليل استقبال الشمس والقمر ضعيف بل باطل، ثم هذا النور مخلوق؛ لأنه انعكاس لضوء الشمس على سطح القمر. والحكم بالاستحباب أو الكراهة يحتاج إلى دليل، ولا دليل في هذه المسألة. الفرق الثاني: أنه يفرق في القبلة بين الصحراء والبنيان كما يأتي إن شاء الله، لكن لا فرق هنا. الفرق الثالث: النهي في استقبال القبلة واستدبارها للتحريم، وهنا يقولون: إنه للتنزيه إذا صح الحديث، وهو لم يصح. الفرق الرابع: أنه في القبلة يستوي الاستقبال والاستدبار، وهنا لا بأس بالاستدبار، وإنما كرهوا أن يستقبل الشمس والقمر.

الأدب الرابع: استحباب الاعتماد على الرجل اليسرى حال الجلوس لقضاء الحاجة

الأدب الرابع: استحباب الاعتماد على الرجل اليسرى حال الجلوس لقضاء الحاجة يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: يعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى؛ لما روى سراقة بن مالك قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى) رواه الطبراني في المعجم. وهذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الأدب الخامس: استحباب تغطية الرأس ولبس الحذاء حال قضاء الحاجة

الأدب الخامس: استحباب تغطية الرأس ولبس الحذاء حال قضاء الحاجة يقول ابن قدامة: ويستحب أن يغطي رأسه، ويروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولأنه حال كشف العورة. قال: ويلبس حذاءه؛ لئلا تتنجس رجلاه.

الأدب السادس: كراهة الذكر والقراءة حال قضاء الحاجة

الأدب السادس: كراهة الذكر والقراءة حال قضاء الحاجة يقول ابن قدامة: ولا يذكر الله تعالى على حاجته إلا بقلبه. فإذا سمع المؤذن يؤذن فلا يردد الأذان بلسانه لكن بقلبه، وكره ذلك ابن عباس وعطاء وعكرمة. وقال ابن سيرين والنخعي: لا بأس به؛ لأن الله تعالى ذكره محمود على كل حال. وروى المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى توضأ، ثم اعتذر إلي فقال: إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر، أو قال: على طهارة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة. وفي رواية البيهقي: (فسلمت عليه وهو يتوضأ فلم يرد علي) والكراهة المذكورة في هذا الحديث بمعنى ترك الأولى، لا كراهة التنزيه. يقول ابن المنذر: وترك الذكر أحب إلي ولا أؤثم من ذكر، يعني: لا يحرم الذكر في هذه الحالة باللسان، لكنه مكروه كراهة تنزيه. يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله: ولنا على هذه الكراهة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد السلام في هذه الحال، فذكر الله أولى من السلام ألا يفعل، فإذا عطس حمد الله بقلبه ولم يتكلم. وقال ابن عقيل: توجد رواية أخرى عن الإمام أحمد أنه يحمد الله بلسانه إذا عطس. والأول أولى للحديث الآنف الذكر أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد السلام، مع أن رد السلام واجب، ففي هذه الحالة يمنع رد السلام مع وجوبه فكيف بما هو دونه مما ليس بواجب؟! وأيضاً لا يسلِّم الإنسان حال قضاء الحاجة ولا يرد على مسلِّم؛ لما روى ابن عمر: (أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم فلم يرد عليه السلام) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية البيهقي: (فسلمت عليه وهو يتوضأ). وقد ذكر الألباني في إرواء الغليل حديث ابن عمر: (مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه) فقال: أخرجه مسلم وغيره، وجاء في بعض الروايات: (فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة). ثم قال الألباني في إرواء الغليل: هذه الزيادة فيها فائدتان: الأولى: أن ترك الرد لم يكن من أجل أنه كان على البول فقط كما ظن الترمذي حيث قال: وإنما يكره هذا عندنا إذا كان على الغائط والبول، كما فسر بعض أهل العلم ذلك. ثم يقول: فهذه الزيادة تدل على أن الترك إنما كان من أجل أنه لم يكن على وضوء، فلازم هذا أنه لو سلم عليه بعد الفراغ من حاجته لم يرد عليه حتى يتوضأ، ويؤيده حديث أبي الجهم: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه السلام) متفق عليه. ويفيد هذا الحديث استحباب ذكر الله على طهارة، وصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحواله، لكن يستحب ألا تذكر الله عز وجل إلا على طهارة، فهذا من آداب الذكر المستحبة، والدليل أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متوضئاً حين سُلم عليه ولم يستطع أن يتوضأ في هذه الحال؛ فعمد إلى الجدار وتيمم حتى يرد عليه السلام، وهذه إشارة واضحة إلى استحباب أن يكون الإنسان متطهراً إذا أراد أن يذكر الله تبارك وتعالى، وأولى ثم أولى ثم أولى إذا أراد أن يمس أو يقرأ القرآن. يقول الألباني: الفائدة الثانية من هذه الزيادة: كراهية قراءة القرآن من المحدث لاسيما المحدث حدثاً أكبر، فإنه كره صلى الله عليه وسلم أن يرد السلام من الحدث الأصغر فبالأحرى أنه يكره قراءة القرآن منه فضلاً عن الجنب.

الأدب الثاني: الاستغفار عند الخروج من الخلاء

الأدب الثاني: الاستغفار عند الخروج من الخلاء صح عند الخروج أن تقول: (غفرانك)، وهذا الذي صح في هذا الباب فقط، وما عدا ذلك فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: (غفرانك) غفران مصدر، ونصب بمضمر تقديره: أسأل غفرانك. قيل: وجه طلب الغفران في هذا المحل أنه استغفار عن الحالة التي اقتضت عدم ذكر الله مدة لبثه في الخلاء، فهو نظر إلى أن ذلك تقصير في حق الله، وإنما حال دون ذلك هذه الحالة التي لا يليق فيها ذكر الله عز وجل باللسان، فلأجل ذلك استغفر لتوقف لسانه عن ذكر الله في هذه المدة، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يترك ذكر الله بلسانه إلا عند قضاء الحاجة، فكأنه عليه الصلاة والسلام رأى ذلك تقصيراً فتداركه بالاستغفار. وقيل: وجه طلب الغفران أنه وجد القوة البشرية قاصرة عن الوفاء بشكر النعم التي أنعم الله بها عليه، وكأنه استحضر نعمة الله جل وعلا عليه في الطعام والشراب، وتسويغ هذا الطعام والشراب، وهضمه وامتصاصه، وغير ذلك من النعم الجليلة المتعلقة بالطعام إلى أوان تسهيل مخرجه، ولو شاء الله عز وجل لحبسه عنه فتضرر بذلك ضرراً عظيماً، وربما هلك، فعلم أن شكره قاصر عن بلوغ حق تلك النعم الجليلة والعطايا الجزيلة والمعافاة الجميلة، ففزع إلى الاستغفار من تقصيره في شكر هذه النعم.

الأدب الأول: التسمية والتعوذ عند دخول الخلاء

الأدب الأول: التسمية والتعوذ عند دخول الخلاء يقول عند دخوله: باسم الله، أعوذ بالله من الخبُث والخبائث، وقد جاء في بعض الروايات الجمع بين البسملة والاستعاذة بهذه الصيغة، وقيل: لا يصح الجمع بين البسملة والتعوذ في رواية واحدة، وأصح ما يستدل به على سنية التسمية في هذا الموضع هو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله). ومعنى ذلك: أن كلمة (باسم الله) تكون حجاباً بين الجن وبين ابن آدم في هذه الحال، بحيث لا يرون عورة الإنسان، مع أن من شأن الجن كما قال عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فهم يروننا ونحن لا نراهم إلا إذا قال المسلم: باسم الله، فإنه يحال بين الجن وبين رؤية الإنسان، وهذا فيه تقوية الحياء في نفس المسلم في هذا الموضع حتى عن أعين الجن. وفي رواية أخرى: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: باسم الله). وقوله: (إذا وضع أحدهم ثوبه) أعم من حال التخلي. قال بعض العلماء: في هذا الموضع تقدم البسملة على التعوذ، خلافاً للقاعدة المعروفة في الصلاة وفي القراءة حيث يقدم التعوذ على البسملة، فالتعوذ في قراءة القرآن إنما هو لأجل القراءة، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن البسملة من القرآن، فقدم التعوذ عليها، بخلاف تقدم البسملة على التعوذ هنا، فيقول أولاًً: باسم الله، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) الخبُث: بضم الباء جمع الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، وكأنه عليه الصلاة والسلام أراد بذلك ذكور الشياطين وإناثهم. وقد صرح جماعة من أئمة الحديث أنه بإسكان الباء في كلمة (الخبْث) منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام، واختلف الذين رووا سكون الباء في كلمة الخبث في معناه، فقيل: الخبث: الشر، وقيل: الكفر، وقيل: الشيطان، أما الخبائث فقالوا: هي المعاصي؛ لأنها جمع معصية. والمعروف عند غيرهم من العلماء أنه بضم الباء في كلمة الخبُث، والمعنى ذكران الشياطين وإناثهم. وقال ابن الأعرابي: الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التعامل مع البنوك التي أعلنت إسلاميتها

حكم التعامل مع البنوك التي أعلنت إسلاميتها Q البنوك التي تعلن إسلاميتها في التعامل مثل بنك فيصل هل يحل التعامل معها شرعاً؟ A إن كان البنك لا يزال يتعامل بالربا، وإن ادعى أنه إسلامي، فيجب أن يتجنب الإنسان التعامل معه إلا عند الضرورة، والضرورة أن يكون عنده مال لا يجد موضعاً أميناً لهذا المال سوى البنك، فيضعه بدون ما يسمى بالفائدة، وهي في الحقيقة عين الخسارة في الدين.

آداب التخلي [3]

آداب التخلي [3] اختلف العلماء في بعض المسائل المتعلقة بقضاء الحاجة، ودخول الخلاء والخروج منه، ومن هذه المسائل: حكم البول قائماً، وكذلك استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة في الفضاء والبنيان، ومعرفة أدلة المختلفين في هذه المسائل وجمعها من أسباب معرفة الصواب فيها.

حكم البول قائما

حكم البول قائماً إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمن آداب التخلي ألا يبول الإنسان قائماً، بل يبول قاعداً؛ لئلا يترشش البول عليه، وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم. وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائماً. وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) قال الإمام الترمذي رحمه الله: وهذا أصح شيء في الباب. وقد رويت الرخصة في البول قائماً عن عمر وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة رضي الله عنهم أجمعين. ودليلهم هو ما رواه حذيفة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) والسباطة هي المكان الذي تلقى فيه الفضلات من التراب والكناسة. فهذا هو الحديث الذي يستدل به من رخص في البول قائماً؛ فلذلك نحن قلنا: يستحب أن يبول الإنسان قاعداً، ومعنى ذلك أنه لا يأثم من بال قائماً، وسبب قول ابن مسعود: هذا من الجفاء، أنه لم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) لا شك أنها أخبرت عن علمها، لكن من علم حجة على من لا يعلم، فقد صح عن بعض الصحابة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول قائماً مرة أو مرتين، وهذا لا ينافي حديث عائشة، فهي أخبرت عما تعلمه. ونقول: كان غالب حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم البول قاعداً، أما ما ثبت من تبوله عليه الصلاة والسلام قائماً فيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى. فأول دليل على الرخصة في جواز البول قائماً حديث حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) رواه البخاري وغيره، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليبين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، وبعض العلماء قال: إن ذلك كان لعلة بمأبضيه، وبعضهم قال: لأنه لم يكن هناك مكان يتمكن من الجلوس فيه. وقد تأتي أغلب الأدلة في مسألة من المسائل بالمنع، ثم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل هذا الشيء الذي نهانا عنه، فيحمل العلماء هذا على أنه فعله ليبين الجواز، وليبين أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو نهي كراهة تنزيهية مثل الشرب قائماً، وكذلك الشرب من فم القربة أي: السقاء، يقول بعض العلماء: وقد يفعل للمكروه مبيناً أنه للتنزيه فيكون في حقه من القرب كالشرب من فم القرب ومعنى البيتين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يفعل الشيء المكروه مبيناً أنه للتنزيه؛ لأن المكروه قد يطلق على الحرام، كما قال عز وجل بعدما ذكر قتل النفس والزنا وأكل مال اليتيم: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] فهناك كراهة تحريم وكراهة تنزيه، فإذا نهى عليه الصلاة والسلام أمته عن فعل معين ثم فعله فهو يريد بذلك التوسعة عليهم، وليبين أن هذا النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه. فقد يسأل سائل ويقول: إن الله عز وجل لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا ما هو أفضل، فإذا كان النهي عن هذا الشيء أفضل فكيف يفعل النبي عليه الصلاة والسلام المفضول الذي نهى عنه؟ ف A أن هذا يكون في حقه عليه الصلاة والسلام قربة فاضلة وليست مفضولة؛ لأنها في مقام التشريع والتوسيع على أمته ورفع الحرج عنها، فكما نهى عن الشرب من في السقاء وفعل ذلك مرة؛ ليدل على أن الكراهة تنزيهية، وكذلك كان أغلب أحواله عليه الصلاة والسلام أنه لا يبول قائماً، وفعل ذلك مرة؛ حتى يرفع الحرج عن الأمة، ويبين أن البول حال الجلوس هو على الاستحباب وليس على الوجوب. يقول ابن قدامة: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أنه كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه، وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضيه، والمأبض: هو باطن الركبة من كل حيوان. ويقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ما بلت قائماً منذ أسلمت) رواه الترمذي في كتابه تعليقاً لا مسنداً. وروى ابن ماجة والبيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أتى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً فقال: يا عمر! لا تبل قائماً، فما بلت بعد قائماً) لكن إسناده ضعيف. وروي عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائماً) رواه ابن ماجة والبيهقي وضعفه البيهقي وغيره. وهذه أحاديث ضعيفة يغني عنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم، يقول النووي: وإسناده جيد وهو حديث حسن. وأما الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) فهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. قوله: (لعلة بمأبضيه) هذه الزيادة رواها البيهقي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، لكن قال البيهقي: لا تثبت هذه الزيادة.

البول حال القيام بين الكراهة والإباحة

البول حال القيام بين الكراهة والإباحة قال النووي رحمه الله: أما حكم المسألة فقال أصحابنا: يكره البول قائماً بلا عذر كراهة تنزيه، ولا يكره للعذر، يقول: وهذا مذهبنا. وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: واختلفوا في البول قائماً، فثبت عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد رضي الله عنهم أنهم بالوا قياماً، وروي ذلك عن علي وأنس وأبي هريرة وفعله ابن سيرين وعروة، وكرهه ابن مسعود، وصح عنه موقوفاً أنه قال: (من الجفاء أن يبول الرجل قائماً) رواه البيهقي. كذلك كرهه الشعبي وإبراهيم بن سعد، وكان لا يقبل شهادة من بال قائماً. وقال مالك إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فمكروه، وإن كان لا يتطاير فلا كراهة. قال ابن المنذر: البول جالساً أحب إلي وقائماً مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

جواب استشكال كونه عليه الصلاة والسلام بال في سباطة قوم خاصة بهم

جواب استشكال كونه عليه الصلاة والسلام بال في سباطة قوم خاصة بهم قد يستشكل هنا كيف بال النبي صلى الله عليه وسلم في سباطة قوم وهي مكان خاص بهم؟! أجاب العلماء عن هذا الاستشكال بعدة إجابات أظهرها: أنه علم أن أهلها يرضون بذلك ولا يكرهونه، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه. الجواب الثاني: أن سباطة القوم لم تكن خاصة بهم فقط، بل كانت بفناء دور الناس كلهم، فأضيفت إليهم لقربهم منها. الجواب الثالث: أنهم أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة فيها بصريح الإذن أو معناه والله تعالى أعلم.

سبب بوله صلى الله عليه وسلم قائما

سبب بوله صلى الله عليه وسلم قائماً ذكر الخطابي والبيهقي في سبب بوله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً أوجهاً: الوجه الأول -وهو المروي عن الإمام الشافعي رحمه الله-: أن العرب كانت تستشفي بالبول قائماً لوجع الصلب، فكان به صلى الله عليه وسلم إذ ذاك وجع الصلب. قال القاضي حسين في تعليقته: وصار هذا عادة لأهل هراة، يبولون قياماً في كل سنة مرة إحياءً لتلك السنة. وهذا كلام لا ينسب إلى الشريعة، وإنما ينسب إلى تصور أهل الدنيا في علوم الدنيا من الناحية الطبية، وربما يكون فيها شيء من الصحة، فهذا يرجع إلى العلوم التي كانت قاصرة فيما مضى، أو ربما كانت أساساً تقوم على التجريب، ولأجل ذلك نحن قد لا نقبل هذا التأويل في هذا الزمان. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم بال قائماً لعلة كانت بمأبضيه، وذكرنا أن هذه الزيادة رواها البيهقي، ولكنه ضعفها وقال: لا تثبت هذه الزيادة. والمأبض يجوز فيه تخفيف الهمزة فتقول: مابض أو مأبض كما تقول: الراس أو الرأس، لما مات العباس رضي الله عنه استحيا الناس أن يعزوا ابنه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فتشجع رجل وأقبل عليه وقال: اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الراس خير من العباس صبرك بعده والله خير منك للعباس والشاهد أنه قال: (الراس)، فهذه الكلمة يصح فيها تخفيف الهمزة. الوجه الثالث: أنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود، فاحتاج إلى القيام إذا كان الطرف الذي يليه عالياً مرتفعاً. الوجه الرابع: أنه لبيان الجواز كما ذكرنا. الوجه الخامس ما قاله الخطابي: لكون ذلك -أي: البول حال القيام في السباطة- في الغالب سهلاً ليناً ليس صلباً بحيث يتردد إليه الرشاش، وإنما يتسرب فيه البول ولا يرجع على البائل.

حكم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة

حكم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة -الفضاء أي: الصحراء أو الخلاء- وهذا في قول أكثر أهل العلم، وهو مذهب الشافعي وقول العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي ومالك وإسحاق ورواية عن الإمام أحمد. واستدلوا بما رواه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) متفق عليه. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتى أحدكم الغائط) الظاهر هنا أن الغائط المقصود به هنا الموضع الذي يتغوط فيه، قال أهل اللغة: أصل الغائط المكان المطمئن، كانوا يأتونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث كراهة لاسمه. ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها، واستعمال الكنايات في كلامها، وصون الألسن مما تصان الأبصار والأسماع عنه، وهذا في القرآن وغيره كثير جداً. ولـ مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها).

حكم استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة في الفضاء والبنيان

حكم استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة في الفضاء والبنيان قال العلماء: لا يحرم استقبال بيت المقدس ببول ولا غائط ولا استدباره لا في البناء ولا في الصحراء، لكن يكره؛ لكونه كان قبلة، واستدل بعض العلماء بحديث معقل بن أبي معقل الأسدي رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، وقال النووي: إسناده جيد ولم يضعفه أبو داود. وهناك عدة أجوبة عن هذا: الأول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال بيت المقدس حيث كان قبلة، يعني: كأن النهي حصل مرتين، لما كانت القبلة أولاً إلى بيت المقدس نهى عليه الصلاة والسلام في ذلك الزمان عن استقبال القبلة التي كانت في بيت المقدس، ثم نهى عن استقبال الكعبة حين صارت هي القبلة، فجمعهما الراوي في حديث واحد فقال: (نهى أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط)، وهذا جواب ضعيف. الجواب الثاني: أن المراد بالنهي أهل المدينة خاصة؛ لأن من استقبل بيت المقدس وهو في المدينة استدبر الكعبة، وإن استدبر بيت المقدس استقبل الكعبة، وهذا التأويل ضعيف أيضاً. أما المختار الظاهر عند الإمام النووي رحمه الله، فقد قال: إن النهي وقع في وقت واحد، وأنه عام لكلتيهما في كل مكان، ولكنه في الكعبة نهي تحريم إذا كان في الفضاء، وفي بيت المقدس نهي تنزيه، ولا يمتنع أن يجتمع نهي واحد يكون فيه تحريم وتنزيه وإن اختلف معناه، وسبب النهي عن بيت المقدس كونه كان قبلة فبقيت له حرمة الكعبة، وقد اختار الخطابي هذا التأويل. فإن قيل: لم حملتموه في بيت المقدس على التنزيه؟ قلنا: للإجماع فلا يعلم من يعتد به حرمه، فالصارف للنهي عن التحريم إلى التنزيه هو الإجماع.

حكم استقبال القبلة حال الاستنجاء والجماع

حكم استقبال القبلة حال الاستنجاء والجماع قال بعض العلماء: لحرمة الكعبة يكره استقبال القبلة حال الاستنجاء، قال الشافعية: لا يكره ذلك، بل يجوز استقبال القبلة حال الاستنجاء؛ لأن النهي ورد في استقبالها ببول أو غائط. وقال الشافعية أيضاً: ولا كراهة في إخراج الريح إلى القبلة أيضاً لما ذكرنا. وقال الشافعية أيضاً: يجوز الجماع مستقبل القبلة ومستدبرها في البناء والصحراء؛ لأن الشرع ورد في البول والغائط.

مذهب أبي أيوب في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في البنيان

مذهب أبي أيوب في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في البنيان قال أبي أيوب رضي الله تبارك وتعالى عنه في الحديث الذي ذكرناه: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل). أجاب بعض العلماء على ذلك من وجهين: أحدهما: أنه شك في عموم النهي للبنيان والفضاء، فلما شك احتاط بالاستغفار، فلا يحمل ذلك على أنه جزم بتحريم هذا حتى داخل البنيان، وإنما هو كنوع من الاحتياط والتورع منه رضي الله عنه. الوجه الثاني: أن هذا مذهب أبي أيوب رضي الله عنه، فهو لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً، وقد خالفه غيره من الصحابة. إذاً: أحاديث النهي جاءت عامة بدون التفريق بين البناء والصحراء، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه، لكن الشرع قد جاء بالتفريق بين كونه في البينان أو كان يستره شيء كما جاء عن ابن عمر وبين كونه في الفضاء، فإذا ورد الشرع بالفرق فلا يلتفت إلى قياس ولا إلى من يخالف هذه الأدلة، ومع ذلك فالفرق ظاهر بين الحالتين، فإن المشقة تلحق الإنسان في البناء دون الصحراء.

من قال بجواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة

من قال بجواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة قال عروة بن ربيعة وربيعة وداود: يجوز استقبالها واستدبارها في البناء والصحراء؛ لما روى جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحسنه النووي رحمه الله. قال هؤلاء الأئمة الثلاثة: إن هذا دليل على وقوع النسخ؛ لأن الصحابي رآه يفعل ذلك قبل أن يقبض بعام، فدل على نسخ وإلغاء الحكم السابق الذي تضمنه حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه.

رد الجمهور على من جوز استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الفضاء

رد الجمهور على من جوز استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الفضاء يقول الإمام ابن قدامة: ولنا أحاديث النهي وهي صحيحة. يعني: على صحة مذهبنا الذي عليه جمهور علماء الأمة. قال: وحديث جابر يحتمل أنه رآه في البنيان أو مستتراً بشيء. وسيأتي حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النهي إنما هو في الفضاء، أما إذا كان في البنيان فيجوز. ثم قال: ولا يثبت النسخ بالاحتمال. أي: احتمال أنه كان مستتراً بشيء أو كان في البنيان. قال: ويتعين حمله على ما ذكرنا؛ ليكون موافقاً للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك.

أقوال العلماء في استقبال القبلة واستدبارها في البنيان

أقوال العلماء في استقبال القبلة واستدبارها في البنيان قال ابن قدامة: أما في البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء يستره ففيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا يجوز حتى في البنيان. يعني: لا يستدبر ولا يستقبل القبلة عند قضاء الحاجة، سواء في الفضاء أو البنيان، وهذه الرواية للإمام أحمد، وهو قول الثوري وأبي حنيفة؛ لعموم الأحاديث في النهي؛ لأن أحاديث النهي لم تخصص البنيان من الفضاء. أما الرواية الثانية: فهي أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان، وروي ذلك عن العباس وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر. يقول ابن قدامة: والصحيح أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان؛ لحديث جابر رضي الله عنه. وقد روت عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن قوماً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوقد فعلوها؟! استقبلوا بمقعدتي القبلة) رواه الإمام أحمد وابن ماجة وحسنه النووي، لكن أشار البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن في هذا الحديث علة. يقول ابن قدامة: رواه أصحاب السنن وأكثر أصحاب المسانيد منهم: أبو داود الطيالسي رواه عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة، قال أحمد: أحسن ما روي في الرخصة حديث عائشة وإن كان مرسلاً فإن مخرجه حسن. وقال أحمد: وعراك لم يسمع من عائشة فلذلك سموه مرسلاً. فقوله صلى الله عليه وسلم: (أوقد فعلوها؟) استفهام لأن هذا النوع من الاستفهام يقتضي الإقرار به فضيحة، كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه. قوله: (استقبلوا بمقعدتي القبلة) المقعدة: بفتح الميم هي الموضع الذي يقعد عليه الإنسان لقضاء الحاجة، يعني: حولوا هذا الموضع إلى اتجاه القبلة، والحديث فيه علتان. يقول ابن قدامة: وهذا كله في البنيان، وهو خاص يقدم على العام. والعام هو حديث أبي أيوب: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره)، والخاص هو حديث عائشة إذا صح، فهو يدل على أن ذلك إنما يكون في البنيان، فالخاص يقدم على العام. وعن مروان الأصفر قال: (رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نهي عن هذا؟ قال:، بلى، إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس) رواه أبو داود والدارقطني والحاكم وصححه على شرط البخاري. يقول ابن قدامة: وهذا الفعل من ابن عمر تفسير لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام في حديث أبي أيوب: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا) ففعله يفسر أن ذلك إنما يكون في البنيان، فإن كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. يقول: وفيه جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه. لأن النسخ لا يصار إليه إلا عند العجز عن الجمع بين النصوص، ولأن النسخ فيه إبطال لأحد الدليلين في المسألة، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، فهذا هو الذي ينبغي أن يسلك عند التعارض، فالجمع متى ما أمكن أولى. وعن الإمام أحمد أنه قال: يجوز استدبار الكعبة في البنيان والفضاء جميعاً؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) متفق عليه. لذلك صدر المسألة ابن قدامة بالقدر المتفق عليه بين أكثر أهل العلم فقال: لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة في قول أكثر أهل العلم، ثم تعرض بعد ذلك للاستدبار على التفصيل الذي ذكرناه.

حكم تمشيط الشعر والبول في مكان الاغتسال والاستحمام

حكم تمشيط الشعر والبول في مكان الاغتسال والاستحمام جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمتشط أحدنا أو يبول في مغسله) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وصححه النووي والحافظ ابن حجر وأيضاً الألباني. وقد رواه بعض التابعين عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وجهالة الصحابي لا تضر؛ لأن كل الصحابة عدول رضي الله عنهم، وأقمع الله الشيعة وأذلهم حيث يترجمون لبعض الصحابة المشهورين جداً مثل عبد الله بن مسعود فيكتبون: مجهول! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا غير السب لهم والطعن واللعن. إذاً: جهالة الصحابي لا تضر؛ لأن جميع الصحابة عدول، وقد زكاهم الله وعدلهم رضي الله عنهم، حتى في الأمم السابقة قبل أن يخلقوا وقبل أن يوجدوا، قال الله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29]. قوله: (إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يمتشط أحدنا كل يوم) أي: لا يكون ذلك شغلنا الشاغل بحيث يمتشط أحدنا ويدهن ويسرح شعره ويضيع ما أوجب الله عليه، وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى، منها أنه عليه الصلاة والسلام: (نهى عن الإرفاه، قيل: وما الإرفاه؟ قال: كثرة التدهن والتنعم) وكذلك: (نهى عن الترجل إلا غباً) والترجل: هو تسريح الشعر. قوله: (إلا غباً) يعني: في وقت دون وقت بحيث لا يواظب عليه ويكون شغله الشاغل. قوله: (أو يبول في مغتسله) يعني: مكان الاغتسال، أو كما سماه في الحديث الأول: (مستحمه) وسمي مستحماً؛ لأنه مشتق من الحميم، والحميم: هو الماء الحار الذي يغتسل به. يقول النووي: واتفق أصحابنا على أن المستحب ألا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة؛ لئلا يترشش عليه. وهذا في غير الأماكن المتخذة لهذا الفعل كالمرحاض فلا بأس به؛ لأنه لا يترشش عليه، ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة.

حكم تغطية الرأس ولبس الحذاء حال قضاء الحاجة

حكم تغطية الرأس ولبس الحذاء حال قضاء الحاجة يقول الإمام النووي والإمام ابن قدامة: ويستحب أن يغطي رأسه حال قضاء الحاجة. تغطية الرأس هي نوع من التعبير عن الحياء، فلقد كان السلف يستحيون أن يكشف أحدهم رأسه، وهذه المسألة ترجع إلى العرف، ففي بعض البلاد قد يقدح في مروءة الشخص إذا كان يكشف رأسه، وفي بعضها لا يقدح أن يكشف رأسه، فهذه الأمور ترجع إلى العرف، وأمور المروءة ليس فيها تحريم أو إثم، لكن يقولون في تعريف الرجل العدل: هو الذي لم يرتكب كبيرة، ولا يصر على صغيرة، ولا يأتي بفعل يخالف المروءة. فالإنسان لابد أن يجتهد في مراعاة المروءات وأعراف الناس الذين يعيش بينهم؛ لأنه ليس كل شيء لابد أن يكون مثل حد السيف وفيه حلال وحرام ويكون عليه أدلة، لا. فمثلاً: عندما نرى شخصاً يمضغ العلك في الشارع، نقول له: هذه الطريقة منفرة، فعلى الإنسان أن يراعي وقاره وهيئته ووجاهته، كذلك لو أن الإنسان مشى بإزار يستر ما بين سرته وركبته ففعله هذا ليس بحرام، لكن هل هذا من المروءة؟! لا ليس من المروءة. فالشاهد أن على الإنسان أن يراعي ظروف المجتمع وعاداته ما لم تخالف كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. حكي عن نافع أنه صلى وهو حاسر الرأس، فقال له ابن عمر: هل إذا خرجت إلى الناس كنت تخرج هكذا حاسر الرأس؟ فقال: لا، قال: فالله أحق أن يتزين له، أو فالله أحق أن يستحيا منه. جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال للصحابي الجليل معاوية بن حيدة (احفظ عورتك إلا من أهلك أو ما ملكت يمينك) وحفظ الفروج يتضمن أمرين: حفظها عن المحرمات كالزنا وغير ذلك، وحفظها عن أن تكشف، فقال هذا الصحابي للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أرأيت إن كان أحدنا خالياً؟ - يعني: ليس معه أحد- فقال عليه الصلاة والسلام: فالله أحق أن يستحيا منه الناس) فحتى في حال الاختلاء يجتهد الإنسان ألا يتكشف. يقول الإمام النووي رحمه الله: قال إمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون: يستحب ألا يدخل الخلاء مكشوف الرأس، قال بعض أصحابنا: فإن لم يجد شيئاً وضع كمه على رأسه. ثم قال: ويستحب ألا يدخل الخلاء حافياً. روى البيهقي بإسناده حديثاً مرسلاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء لبس حذاءه وغطى رأسه) وهذا حديث مرسل ضعيف. وروى البيهقي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء غطى رأسه، وإذا أتى أهله غطى رأسه) لكنه ضعيف أيضاً. قال البيهقي: وروي في تغطية الرأس عند دخول الخلاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو صحيح عنه. يقول النووي: وقد اتفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال وهذا منها، وكلام الإمام النووي رحمه الله في حكاية اتفاق العلماء على هذا فيه نظر.

حكم دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله

حكم دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله من الآداب ألا يصطحب شيئاً فيه ذكر الله عز وجل. يقول ابن قدامة: إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله تعالى استحب وضعه، لكن لا يجب عليه أن يضع هذا الشيء الذي فيه ذكر لله. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) رواه ابن ماجة وأبو داود والبيهقي والترمذي والنسائي، وضعفه أبو داود والنسائي والبيهقي، قال أبو داود: هو منكر، وإنما يعرف عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق - أي: من فضة- ثم ألقاه) وقال النسائي: وهذا الحديث غير محفوظ، وخالفهم الترمذي فقال: حديث حسن صحيح غريب. وقيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه؛ لأن فيه محمداً رسول الله، ثلاثة أسطر: سطر فيه محمد، وسطر فيه رسول، وسطر فيه الله، وهذا ثابت في الصحيحين: (أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم (كان محمد رسول الله)) عليه الصلاة والسلام.

الغلو في الدين [1]

الغلو في الدين [1] الغلو في الدين قضية قديمة قِدَمَ الأديان على هذه الأرض، فقد ابتلي به أناس على مدار التاريخ البشري، وقد كان ذلك إما بدافع الحرص على تحقيق العبودية الخالصة لله سبحانه، فأدى بهم حرصهم هذا إلى الخروج عن الطريق السوي الذي ارتضاه الله لعباده، وإما بسبب الاتباع والتقليد الأعمى للرؤساء الضالين عن الطريق السوي.

استعراض مجمل لكتاب الغلو في الدين للشيخ اللويحق

استعراض مجمل لكتاب الغلو في الدين للشيخ اللويحق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فسنقوم بتلخيص البحث القيم الذي كتبه الشيخ عبد الرحمن بن معلا اللويحق وهو بعنوان: (الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة). وكالعادة فنحن نختار أحياناً بعض الكتب والبحوث القيمة التي لا تتوافر مع الإخوة، فنحاول نشر ما فيها من الفوائد بإذن الله، فهذا البحث في الحقيقة موضوعه يكاد يكون هو موضوع الساعة، ونحتاج لوقفة حتى نستخلص حقائق الغلو في الدين وتحديد الكلام في هذا الأمر. فيذكر المؤلف هنا في مقدمة الكتاب أنه قبل هذا العصر الذي نعيشه كان البحث في الغلو ينصب على غلو الصوفية كعبدة القبور، وعقائد الشيعة مثلاً، ونحو هؤلاء من الغلاة، ولكنه في العصر الحديث توجه وجهة أخرى. أي أن الغلو فيما مضى كان يختص بأهل الأهواء وأهل البدع الذين غالوا وتطرفوا في تناولهم لبعض قضايا الدين، مثل القضايا العلمية أو القضايا السلوكية، أما في العصر الحديث فقد توجه البحث في الغلو وجهة أخرى، حيث وقعت بعض المذاهب التي تنتمي إلى الدعوة الإسلامية في الغلو وغير ذلك من الأوصاف المنفرة كالتعصب والتطرف والتشدد وغير ذلك، مما جعل أعداء الإسلام اليوم يستغلون هذه الانحرافات من أجل محاربة الإسلام نفسه، تحت شعار محاربة التطرف والغلو وغير ذلك.

حقيقة الأطراف المتعلقة بالغلو

حقيقة الأطراف المتعلقة بالغلو تجاذب هذا الموضوع أطراف متعددة، منهم الجفاة الذين يتهمون أهل التمسك بالدين بالغلو. ومنهم الأعداء الذين يتخذون مهاجمة الغلو ذريعة لمهاجمة الإسلام. ومنهم الغلاة أنفسهم الواقعون في الغلو حقيقة، ومع ذلك ينفون هذا الغلو عن ذاتهم ويتهمون غيرهم بالمروق من الدين. إن أبرز ملامح هذا العصر ما يسمى بثورة المعلومات ووسائل الاتصالات، وهذه الوسائل أدت بدورها إلى نشر هذا الموضوع بكثافة شديدة جداً بين العامة والخاصة، وأضحى هذا الموضوع حديثاً للدهماء والعلماء دون أن يحكم بشيء من الضوابط والمعايير، فمن هنا تكمن أهمية تناول هذا الموضوع بإنصاف وتجرد.

أهمية موضوع الغلو وتعلقه بمستقبل الدعوة الإسلامية وضوابطه

أهمية موضوع الغلو وتعلقه بمستقبل الدعوة الإسلامية وضوابطه يقول المؤلف حفظه الله: إن لهذا الموضوع أهمية بالغة في ذاته وفي زمنه، وفيما يتعلق بمستقبل الدعوة الإسلامية، فمن حيث الموضوع ذاته فهو يتعلق بعقيدة المسلمين وتنقيتها من شوائب الغلو من جانب، ويتعلق بالدعوة الإسلامية والدعاة من جانب آخر. أما من حيث زمن الموضوع فإن البحث كتب في الظروف الآتية: أولاً: بروز بعض أعمال الغلو وآراء الغلو من بعض المنتمين إلى التيارات الإسلامية، ولا شك في أن مثل هذه الانحرافات تحتاج إلى نقدها وكشفها نصحاً للمسلمين. ثانياً: غياب معنى الغلو في الشريعة عن أذهان معظم الناس، فهم لا يعرفون ما معنى الغلو في شريعة الإسلام، وسحبوا على الإسلام مفهوم الغلو الموجود عند النصارى، فالنصارى يعبرون عن الغلاة بلفظة الأصوليين، هؤلاء هم الغلاة عند النصارى، فسحبوا نفس هذا اللفظ على الإسلام، مع وجود البون الشاسع بيننا معشر المسلمين وبين حقيقة هذا الإطلاق الخبيث كما سنبين إن شاء الله تعالى بالتفصيل. إذاً: فغياب معنى الغلو عن معظم أذهان الناس جعلهم يأخذون مفهوم الغلو عند النصارى الذي يعبرون عنه بالأصولية أو يعبرون عنه بالتطرف، مما يؤكد الحاجة إلى بيان المعنى الصحيح حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها. ثالثاً: اتخاذ محاربة الغلو ذريعة لمحاربة الإسلام، مما يستلزم رفع الستار عن أخطر ميادين الصراع بين الإسلام وبين الكفر، فلو أنهم ظهروا بأنهم يريدون تحطيم الإسلام وحرب الإسلام والتنفير من الإسلام ذاته لواجهوا مقاومة شديدة من المسلمين، لكن استغلوا بعض الغلو من بعض الناس فاتخذوه ستاراً كي يغطوا الزحف الذي يحاولون من ورائه القضاء على دين الله تبارك وتعالى. أما من حيث مستقبل الدعوة فإن لهذا الموضوع أهمية عظيمة جداً؛ لأن التجرد من الغلو وكشف استغلال الأعداء لكلمة الغلو لاشك في أن له أثراً عظيماً جداً في تصحيح مسار الدعوة الإسلامية. فبحث هذا الموضوع -موضوع الغلو- يمكن أن يساعد على ذلك، وذلك من عدة نواح: أولاً: بالتأصيل، وذلك بوضع القواعد التي تحكم المواضع التي يحصل فيها الخلط بين التمسك بالدين وبين الغلو. ثانياًًً: بالتحصين، فإن الغلو -في الحقيقة- ليس مشكلة آنية وقتية فقط، لكنه مشكلة قد تتكرر في كل وقت وفي كل زمان، فالحادث يمكن أن يزول، لكن قد يطرأ مرة أخرى إذا وجدت عوامله، فلابد من بيان جذور الغلو التاريخية وأصل النشأة؛ حتى تقطع المشكلة ويحصن الدعاة بضدها فلا يتكرر نموها مرة أخرى. ثالثاً: من أجل حماية الدعوة الإسلامية؛ لأن وجود الغلو سبب عرقلة الدعوة الإسلامية، ولقد أوجد الغلو المسوغات لضربها، فلابد من إبعاد هذه العوائق عن طريق الدعوة الإسلامية وحمايتها من كل ما يتسبب في عرقلتها والوقوف في طريقها.

بيان مجمل لما يتضمنه كتاب الغلو في الدين

بيان مجمل لما يتضمنه كتاب الغلو في الدين ذكر المؤلف أهمية الموضوع وذكر الموضوعات الأساسية التي سيتناولها بالبحث والتمحيص والتحقيق، فذكر في الفصل الأول تحديد مصطلحات البحث، وبيان وسطية الإسلام، ويسر الإسلام وسماحته، ومعنى الغلو في اللغة ومعنى الغلو في الشريعة. وفي الفصل الثاني تكلم عن جذور الغلو في الدين، وطبيعته في حياة المسلمين المعاصرة في مبحثين: أولاً: جذور الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، وذكر فيه ثلاثة مطالب: الأول: الجذور التاريخية للغلو. الثاني: الجذور الفكرية، الثالث: الجذور النفسية. ثانياً: طبيعة الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، وحجم الغلو في الدين أيضاً، ومفهوم الغلو في الدين عند العلماء المعاصرين؛ لأن بعض العلماء لهم في بعض المواضع وجهة نظر في استعمال كلمة الغلو، كما سنبين إن شاء الله تعالى. كما ذكر مفهوم الغلو في الدين عند العلماء اليوم، وفي الفصل السابق ذكر معنى الغلو في اللغة، ثم معنى الغلو في الشرع، وهنا ذكر تعريف العلماء المعاصرين للغلو. ثم ذكر -أيضاً- مفهوم الغلو في الدين عند العالم اليوم؛ لأن التمسك بالدين في عصرنا صار غلواً وما عليه المجتمعات من الانحرافات هو الوسط، فأي انحراف عن هذا الواقع الذي تعيشه هذه المجتمعات يسمى تطرفاً وغلواً، ومن ثم ذكر مفهوم الغلو عند الغربيين. أما الفصل الثالث -وهو من أهم الفصول في الحقيقة- فتكلم فيه عن مظاهر الغلو العقدية والتشريعية. فذكر -أولاً- الغلو في قضية الولاء والبراء، باعتبارها قضية من أهم قضايا أصول الدين بعد التوحيد، فذكر أن هذه القضية طرأ فيها نوع من الغلو عند كثير من الناس. ثم ذكر الغلو في مفهوم الجماعة؛ لأن بعض الجماعات غلت وشوهت بجمال الإسلام، وقسمت الإسلام إلى أحزاب وشيع متناحرة بسبب تحزبها وتعصبها لمفهوم الجماعة، وذكر أمثلة من نقول بعض المنتمين لهذه الجماعات تعكس مدى الغلو الشديد في هذا المفهوم. ثم تكلم عن الغلو في التعصب للجماعة، بجعل الجماعة مصدر الحق، والغلو في القائد، والغلو في البراءة من المجتمعات المسلمة. ثم ذكر في المبحث الثاني الغلو في التكفير، وذكر فيه أحد عشر مطلباً، أولها: معنى الغلو وخطورة التكفير، ثم التكفير بالمعصية، ثم تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله بإطلاق بدون تفصيل، ثم تكفير الأتباع المحكومين بغير ما أنزل الله بإطلاق، ثم تكفير الخارج عن الجماعة، ثم تكفير المقيم غير المهاجر، ثم تكفير المعين دون مراعاة الضوابط الشرعية، ثم تكفير من لم يكفر الكافر بزعمهم، ثم بدعة التوقف والتبين، ثم القول بجاهلية المجتمعات المسلمة المعاصرة، ثم الغلو فيما يتعلق بالحكم على ديار المسلمين اليوم وبأنها ديار كفر وحرب أو ديار إسلام، وما يترتب على ذلك من تداعيات في منتهى الخطورة. وأما المبحث الثالث فهو يتكلم عن إحداث أصول تشريعية جديدة؛ لأن بعض أهل البدع وأهل الغلو أحدثوا واخترعوا أصولاً جديدة في الشريعة، فذكر -أولاً- الغلو في ذم التقليد، وفيه ثلاثة مطالب: الأول: الغلو في مفهوم التقليد وإنكار الإجماع، الثاني: الغلو في ذم المقلدين، الثالث: إلزام جميع الناس بالاجتهاد والتشديد على الناس. أما الفصل الرابع فيقول: خصصته لبيان مظاهر الغلو العملية، ووسمته بمجالات الغلو العملية والسلوكية. فالفصل الثالث كان في مجالات الغلو الاعتقادية، أما الرابع ففي القضايا عملية وسلوكية، وذكر فيه مباحث: المبحث الأول: الغلو في السلوك الفردي، وتكلم فيه عن أمرين: أولاً: التشديد على النفس. ثانياً: تحريم الطيبات. المبحث الثاني: الغلو في السلوك الاجتماعي، وذكر فيه قضية الخروج على الحكام والغلو فيها، وكذلك قضية تحريم التعليم والدعوة إلى الأمية والغلو فيها، وقضية تحريم الصلاة في المساجد بحجة أنها مساجد ضرار، وقضية إيقاف وتعطيل صلاة الجمعة بحجة أن البلاد بلاد كفر ولا يوجد إمام إلى غير ذلك من الكلام، وقضية اعتزال المجتمعات ومفاصلتها، وقضية هجرة المجتمعات ودعم القول بمرحلية الأحكام، وقضية القول بأننا نعيش في العهد المكي، وقضية تحريم العمل في الوظائف الحكومية ومظاهر الغلو في هذا الجانب. لقد كان المؤلف -في الحقيقة- إلى حد كبير جداً موفقاً في هذا البحث، مع كثرة المصنفات في هذا الجانب، لكن الغالب على الناس خاصة في هذه الظروف التي نعيشها الآن أنهم يحرصون على أن يحصلوا على شهادة حسن سيرة وسلوك بالنفاق والمداهنة في مثل هذه القضايا الحساسة، لكن هنا قد وفق المؤلف في هذا البحث، ونحسبه -إن شاء الله- أنه كان متجرداً في عرضه للقضايا والبحث العلمي.

معنى الوسطية في الإسلام ومظاهرها

معنى الوسطية في الإسلام ومظاهرها نشرع في ذكر المقدمة التي تحدث فيها عن وسطية الإسلام؛ لأننا نريد أن نتكلم عن الغلو، أو بتعبير آخر: عن الإفراط والتفريط، أو بتعبير ثالث: عن التطرف، وهو الأخذ بالأطراف. وحينئذٍ فلاشك في أننا نحتاج -أولاً- إلى أن نتحدث عن اتصاف الإسلام بالوسطية حتى نستحضر منذ البداية أن الوسط هو ما أنزله الله وهو الحق، وأن من حاد عنه صار متطرفاً. إذاً: فبدلاً من أن نقول عن الذي يمتنع عن التطرف إنه (متطرف) سنقول: إن المتطرف هو الذي يصافح النساء، وبدلاً من أن نقول: إن المتطرفين هم الذين يحاولون تسييس الدين نقول: المتطرف والملحد والزنديق هو الذي يريد أن يفصل الدين عن الحياة ويدين بدين العلمانية. وهكذا في كل قضية من القضايا سيخرج هؤلاء الذين تكالبوا على دين الإسلام عن وسطية الإسلام.

حقيقة اتصاف الأمة المحمدية بالوسطية

حقيقة اتصاف الأمة المحمدية بالوسطية إن وسطية الإسلام هي -في الحقيقة- من أبرز خصائص هذه الأمة المحمدية، فقد قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] فقوله: (أُمَّةً وَسَطًا) يعني: عدولاً. لذلك نجد الإسلام في كل قضية من القضايا العلمية أو العملية يقدم المنهج الوسط والعدل والمعتدل في كل شئون الحياة، بل لا يكتفي الإسلام بهذا، وإنما مع أخذه بالوسطية يحذر تحذيراً شديداً جداً من الانحراف إلى أحد الاتجاهين: الغلو أو التقصير، أو الإفراط أو التفريط. ونحن نكرر هذا الدعاء في اليوم والليلة على الأقل سبع عشرة مرة، وهو قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ولم يكتف سبحانه وتعالى بذلك، بل وصفه بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] إذاً: الصراط المستقيم لا يمكن أن يكون مستقيماً إلا إذا خالف سلوك هذين الفريقين: أولهم: المغضوب عليهم وهم اليهود لعنهم الله. ثانيهم: الضالون وهم النصارى؛ لأن اليهود عصوا الله عن علم فاستحقوا الغضب، والنصارى عبدوا الله عن جهل فاستحقوا الضلال. فهذه الوسطية التي تميز الإسلام عما سواه من الأديان هي العدل، فإن معنى قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً. والدليل على أن سياق الآية يفيد هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الوسطية علة لتكليف هذه الأمة بالشهادة على الأمم الأخرى؛ لأن الشاهد يشترط فيه العدالة، ولا تقوم الشهادة ولا تقبل إلا من عدل، وكذلك قوله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فلذلك قلنا: إن (وسطاً) تشمل -أيضاً- معنى الخيرية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً. فبين وصف الأمة بالخيرية ووصفها بالوسطية تلازم؛ إذ إن الوسط في لغة العرب الخيار، كما سيأتي إن شاء الله، أما السنة فجاء الخبر فيها صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير الوسطية بالعدالة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب. فتسأل أمته. هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقول: من شهودك -يا نوح- على أنك أبلغتهم؟ فيقول نوح: محمد وأمته عليه الصلاة والسلام) لأن هذه الأمة تؤمن بجميع الأنبياء، وتعظم جميع الأنبياء، وتنزه جميع الأنبياء عما لا يليق بهم، إلى غير ذلك من اعتقادها النقي في حق الأنبياء؛ لأن من أركان إيمان أمة محمد أنهم يؤمنون بنوح وغيره من الأنبياء عليهم السلام عن طريق القرآن والوحي الذي أخبر أن نوحاً أتى قومه وبلغهم وحصل معهم كذا وكذا وكذا، فلذلك هذه الأمة تشهد عن علم يقيني، وهو الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فلذلك لما ينكر قوم نوح ويقولون: ما جاءنا من نذير. يظنون أن هذا الإنكار ينفعهم في هذا الموقف، قال صلى الله عليه وسلم: (فيقول: من شهودك؟ فيقول نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: محمد وأمته. فيجاء بكم فتشهدون. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] قال: عدلاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]) هذا الحديث رواه البخاري وأحمد رحمهما الله تعالى.

معنى الوسط في كلام العرب

معنى الوسط في كلام العرب يقول ابن جرير رحمه الله: وأما الوسط فإنه في كلام العرب الخيار، يقال: فلان وسط الحسب في قومه أي: متوسط الحسب. إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه. وورد عن أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه وصف المهاجرين في يوم سقيفة بني ساعدة بقوله: (هم أوسط العرب داراً) والمقصود به أنهم خير العرب. ومن ذلك أيضاً قول زهير بن أبي سلمى: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي العظائم فقوله: (وهم وسط) يعني: هم عدول. ومن معاني الوسط الشيء الذي يكون بين طرفين، وليس هناك تعارض بين القول بأن الوسط هو العدل وبين القول بأن الوسط هو الجزء بين الطرفين؛ لأن الجزء بين الطرفين في موضع اعتدال من الجانبين، وهذا من حيث اللغة. قال الطبري رحمه الله تعالى: وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلو بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوه فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله عز وجل أوسطها. وكذلك العدل يأتي دوماً وسطاً بين طرفين ذميمين، قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: (اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم، والله إن سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن تركتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدا) وهذا إشارة إلى نفس هذا المعنى. وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتاباً إلى عامل من عماله فقال بعد أن أوصاه بلزوم طريق من سلف: ما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، لقد قصر بينهم إخوان فجفوا، وطمع عنهم قوم آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

حكم استبدال الألفاظ الشرعية بغيرها من ألفاظ البشر

حكم استبدال الألفاظ الشرعية بغيرها من ألفاظ البشر يحاول بعض الناس الاعتياض عن هذه التعبيرات الشرعية العظيمة بكلام يسمونه الحكمة، كقولهم مثلاً في محاولة وضع حد لتعريف الوسطية: إن الفضيلة وسط بين رذيلتين. والخطأ في هذه العبارة هو جعل هذه المقولة معياراً بشرياً للحكم على الرذائل والفضائل، وهذا ليس بصحيح؛ لأن تحديد الفضيلة والرذيلة ليس من شأن البشر، وإنما هو إلى الله سبحانه وتعالى، ولأن الذي جعلنا الأمة وسطاً هو الله سبحانه وتعالى، وذلك بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} [البقرة:143] فإذاً: الميزان هو شرع الله تبارك وتعالى في تحديد الوسطية والفضيلة والرذيلة. ولأن تحديد الوسط بالنسبة للعقل البشري شيء صعب جداً، فمن الصعب أن يتفق الناس على شيء وسط. يقول أرسطو: إن إدراك الوسط في كل شيء أمر صعب جداً. ويقول الغزالي: إن إدراك الوسط هو من أعقد الأمور وأعصاها، كذلك تحديد الوسط أمر نسبي يختلف باختلاف الأشخاص، ولذلك قال ابن سينا: ليس وسط الشيء عينه، بل الوسط بالنسبة إلينا. إذاً: الوسطية ليست معياراً بشرياً، ولكنها ميزة تميز بها هذا الدين وتميزت بها شرائعه، فالدين وأهله براء من الانحراف، سواء الجانح إلى الغلو أو الجانح إلى التقصير. إن مظاهر هذه الوسطية في الدين كثيرة جداً؛ إذ هي شاملة لجميع جوانب الحياة، فكل أمر من أوامر الإسلام جاء على وفق العدل.

الوسطية ومواقف الناس فيما يتعلق بالسلوك المادي

الوسطية ومواقف الناس فيما يتعلق بالسلوك المادي نذكر هنا بعض الأمثلة لبيان أن مواقف الناس تتأرجح فيما يتعلق مثلاً بالسلوك المادي، فهناك موقفان متطرفان: الأول: زاغت طائفة فرأت أن المال هو الهدف الأسمى والغاية القصوى، كما هو معروف عن اليهود الذين وصفهم تبارك وتعالى بقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] ومعروف حب اليهود للمال، وهو مما يتندر به الشعراء، حتى إن أحدهم يصف جمال امرأة بأنه ينسي اليهودي الذهب، وهذا يدل على إسراف اليهود في حب المال وعبادته. الثاني: زاغت طائفة أخرى وهم النصارى، فحرموا على أنفسهم حقها من الحياة فابتدعوا الرهبانية، يقول عز وجل عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]. وجاء الإسلام أمام هذين الانحرافين بالعدل، وأعطى كل ذي حق حقه، فقال عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] وقال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]. ونهى عن الإفراط في حب المادة، فقال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ونهى -أيضاً- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشديد على النفس والترهب كما يفعل النصارى، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم). فإذاً: كل ما يثبت عن الدين فلابد من أن نقطع بأنه هو العدل وهو الوسطية والخيرية، وأن نكل هذا الأمر إلى الدين وليس إلى العقول البشرية، فهو دين الوسطية والاعتدال، وهذه هي الميزة التي ميزت الإسلام عن سائر الأديان في كل القضايا بلا استثناء.

اليسر والسماحة في الإسلام

اليسر والسماحة في الإسلام إن من خصائص الإسلام أنه دين قد بني على اليسر وعلى السماحة، وهذه -أيضاً- مقدمة مهمة جداً قبل الخوض في مناقشة أطراف الغلو كما ذكرنا. فيسر الإسلام وتيسيره من سماته التي تميز بها عما سواه من الأديان، فإن الله سبحانه وتعالى جعل من إحدى الحكم التي بعث من أجلها عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]. كذلك جاءت الشريعة برفع الحرج والتضييق على الناس أو التعنت في تكليفهم، فليس الحرج معروفاً في الشريعة، بل نزه الله سبحانه وتعالى هذا الدين عنه بقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني: في الدين الذي أنزله الله. ولا يصح لبعض الناس أن يتهاونوا في أحكام الشريعة وأن يفرطوا بحجة أن لا حرج في الدين؛ لأنه الدين الذي لا حرج فيه هو الذي أنزله الله ليس الدين الذي تخترعه أنت لنفسك. وبعضهم إذا أنكرت عليهم شيئاًَ خطئاً يقولون لك: الدين يسر. فأي دين هذا هو اليسر؟! أهو الدين الذي أنزله الله والذي شرعه الله، أم الدين الذي اخترعتموه لأنفسكم من ترك للصلوات الخمس وغير ذلك؟! إن اليسر هو في الدين الذي أنزله الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعلم من خلق، ويعلم طاقة الناس، فهو سبحانه لم يكلفنا بالصلاة إلا ونحن نستطيع أداء الصلاة، يقول عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهذا هو معنى أن الدين يسر، وأن الله لا يكلفنا إلا بما نطيق، وهناك بعض الحالات الاستثنائية، كأن يكون الإنسان مريضاً أو مسافراً، فشرع سبحانه من الرخص ما يخفف عن الإنسان هذه المشقة الطارئة، لكن ليس هذا هو الأصل.

الموقف الشرعي العملي من المبتدعة والعصاة

الموقف الشرعي العملي من المبتدعة والعصاة لقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) فالدين يسر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة التميمي: (يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم …) وقال صلى الله عليه وسلم لقائمي الليل: (ليقم أحدكم ما استطاع، فإذا فتر عن ذلك فليقعد) إلى آخر الحديث، فكان ينكر على الغلاة حسب الحال وحسب الآثار التي تترتب على هذا الانحراف. وعلى هذا فإننا نستحضر معنى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه مع العصاة يتلطف وينصح برفق، لكن مع المبتدعين يقسو عليهم أشد القسوة؛ لأن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية. ففي الحديث: (أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام نادماً وذكر له ما فعل، فنزل قوله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال الرجل: يا رسول الله! ألي هذه؟ قال: لمن عمل بها من أمتي) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا في القتل وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، ونزل قوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]) فتجد في هذا الرفق والتلطف مع العصاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في المسجد) فتخيل الموقف! يبول داخل المسجد الذي هو أطهر بقاع الله، وفي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وبحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام وأمام الناس! قال: (جاء أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). فتخيل لو أن هذه الحادثة حصلت الآن في زماننا، فماذا سيحصل من الناس؟ سترى الغلظة في التعامل، وبهذا ندرك الفرق بين رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على الأمة ورفقه بهم عليه الصلاة والسلام، وبين من ينتسبون إليه وهم لم يفقهوا بعد روح الإسلام من حيث السماحة واليسر والتلطف مع الناس حتى لو كانوا عصاة أو مخالفين، فقال لهم: (دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) فبين أن همهم بالوقوع في الرجل من باب التشديد المخالف لسماحة الدين ويسره، وبين لهم أن هذا البول يراق عليه دلو من الماء ويطهر بالمكاثرة، وبهذا علمنا أحكام النجاسات وكيف تزول النجاسة. وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، قال: فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) وانتهى الأمر، فانظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالصحابة! فلو أن واحداً اصطحب معه ابنه الصغير إلى المسجد فمعلوم أن هذا الطفل الصغير قد يلهو أو يبكي، فبمجرد أن ينصرف الإمام من الصلاة إذا بالأصوات ترتفع لدرجة أفظع بكثير من صوت هذا الصبي الصغير، ويحدثون ضوضاء أشد من ضوضاء ذلك الصبي الصغير المعذور، وهم غير معذورين. وعلى أي الأحوال لا نستطيع أن ندرج كل صورة تخالف التيسير والسماحة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أنصح البشر للأمة على الإطلاق، فعلينا نحن -المسلمين- أن نتبعه في تسامحه وتيسيره ولا نتشدد؛ لأن الانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأشياء يعتبر تشدداً وتنطعاً وتطرفاً. يقول المؤلف: وليست هذه الأحاديث إلا صوراً عملية لبيان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية معاملة العصاة والمخالفين، وإلا فالدين كله شاهد على أن العاصي لا يعامل بالتكفير، وإنما إن عوقب فأقيم عليه الحد فهو كفارة له وطهرة، وتطهير للمجتمع، ومن ستر الله عليه وتاب فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنفاً ولا متعنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) صلى الله عليه وآله وسلم.

مشروعية الرخص

مشروعية الرخص هناك أشياء أخرى بجانب أدلة القرآن والسنة نستدل بها على يسر هذا الدين وسماحته، منها: ما ثبت من مشروعية الرخص، وهذا أمر مقطوع به ومعلوم من الدين بالضرورة، فإن هذا نمط من التشريع يدل قطعاً على رفع الحرج والمشقة، ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف، والرخص كثيرة جداً، منها: قصر الصلاة في السفر، والمسح على الجوربين أو الخفين، والتيمم في حال فقدان الماء وعند تعذر استعماله لمرض وغيره، والفطر في الصيام للمريض أو للمسافر أو غير ذلك، وصلاة الإنسان وهو مريض جالساً أو حسب ما يستطيع، إلى غير ذلك. ولقد حث الشرع في الأخذ بهذه الرخص، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) إذاً: الشرع لا يقصد بهذه التكاليف الشرعية أن يعنفنا وأن يوقعنا في الحرج وفي المشقة. وقد أجمع العلماء على عدم وقوع الحرج في التكليف، وهذا يدل على عدم قصد الشارع له، وهذا متقرر باستقراء آحاد الأحكام.

نهي الشرع عن التنطع والتشدد في جميع الأمور

نهي الشرع عن التنطع والتشدد في جميع الأمور ومن جانب آخر وجدنا نصوصاً شرعية فيها وصف الدين باليسر وبالسماحة وبالرفق مع العصاة وغير ذلك، وبالمقابل نجد في الشريعة النهي عن التشديد في الأمور، بحيث صار النهي عن التشدد وعن التنطع وعن التطرف والتعصب وغير ذلك من الأصول القطعية للشريعة الإسلامية. والرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ التيسير منهجاً شاملاً عاماً في حياته، كما جاء في الحديث أنه (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم) كذلك أيضاً كان آخذاً نفسه بالرفق داعياً إليه، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) فكان عليه الصلاة والسلام ألطف الناس في دعوته وأرفق الناس بالناس، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر دعاته ورسله باليسر والتيسير، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا) وهذا التيسير المقصود به التيسير الجاري على وفق الشرع والعدل لا على وفق الأهواء. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) وحكمة هذا اليسر أن هذا الدين دين الفطرة، وأمور الفطرة مستقرة في النفوس يسهل عليها قبولها؛ لأنه متطابق تماماً مع الفطرة البشرية، كما قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] قال: يأتي نور الإسلام متطابقاً تماماً مع نور الفطرة. وصاحب الفطرة السليمة ينفر من الشدة ومن العنف.

التعامل باللين مع المخالفين

التعامل باللين مع المخالفين وكما أن الإسلام هو دين اليسر والسماحة فهو دين اللين، وأبلغ مظاهر سماحة الإسلام تبرز في نطاق الدعوة ونشر الدين، وفي معاملة العصاة والمخالفين، فقد جعل الله سبحانه وتعالى الأصل في الدعوة هو اللين وليس الشدة، حتى لو كان الشخص الذي توجه إليه الدعوة من أعتى خلق الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. قال الحافظ ابن كثير: والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق يكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع. وذلك لأن المقصود ليس هو أن تكشف عوراته وأن تبين له بأنك أعلم منه أو أنك أقوى منه أو كذا، لكن المقصود هو أن تأخذ بناصيته إلى الله سبحانه وتعالى، وأن تهدي قلبه إلى الحق، فتسلك الطريق الأسهل والأقرب، وهو النصيحة بالرفق وباللين وبالتي هي أحسن. يقول تبارك وتعالى واصفاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وللدعاة من بعده طريق الدعوة ومنهجها: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، فأرشده سبحانه إلى القيام بالدعوة بإحدى طرق ثلاث: بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالجدال بالتي هي أحسن، وهذا من باب التأكيد على معنى السماحة في الدعوة وعدم التشديد والتعنيف فيها. وقال عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] يقول الطبري: أي: لا تجادلوا -أيها المؤمنون بالله وبرسوله- اليهود والنصارى -وهم أهل الكتاب- إلا بالتي هي أحسن، إلا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حدوده.

حقيقة الجهاد في الإسلام وعدم منافاته لسماحة الإسلام

حقيقة الجهاد في الإسلام وعدم منافاته لسماحة الإسلام أما الجهاد لنشر الإسلام الذي هو جهاد الطلب وهو جهاد النصر لدين الله وجهاد الدفاع عن الأديان والمقدسات والأعراض والأموال فليس فيه منافاة للسماحة، فهو لا يكون إلا بعد استنفاذ الوسائل الأخرى؛ إذ هو لنشر الإسلام وإبعاد الشانئين الصادين عن سبيل الله، ولذلك فإن مظاهر السماحة فيه بينة، وهذا ما توجهه الفقرة التالية، فيذكر هنا المؤلف سماحة الإسلام في الجهاد، ويذكر حديث بريدة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله). ونحن نرفض تماماً أن يقارن الإسلام بغيره من النظم الوضعية؛ لأن البشر حينما يضعون مواثيق وعهوداً ونظماً فيما بينهم، ويتنازل بعضهم مع بعض في المبادئ، سواء أكانت هذه النظم مع أمم نصرانية أم أجنبية أم مع أي شيء كان، فدين الله لا يتساوى مع غيره من الأديان، وهذا لا يمكن قبوله أبداً، فأهل الباطل دائماً يكونون مستعدين للتنازل حتى يتعايشوا تعايشاً سلمياً كما يزعمون، فأهل الباطل عندهم الحل الوسط هو أن نلتقي في وسط الطريق، نعبد معك إلهك سنة أو شهراً وتعبد إلهنا سنة أو شهراً، وهذه هي المساومة من كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تبارك وتعالى بهذه الشدة وهذه الصرامة والوضوح: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:1 - 6] أي: الذي هو الباطل. {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: الذي هو دين الحق. وليس معناه أن تقول: لكم دينكم ولي دين، وكل واحد على دينه. لا، لكن المقصود بقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6] أي: دينكم الباطل. كقوله عز وجل: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41] يعني: كلانا على طريق آخر، ولا يحصل التقاء بين هذين الطريقين. وإنما ذكرنا هذا لأن هناك تلاعباً شديداً بعقول بعض المسلمين، حيث فهموا موضوع التسامح فهماً خاطئاً، حتى إن بعض الناس من المسلمين كتب مقالات في الجرائد فيها الحمية والحماس يقول فيها: كيف تصفون النصارى بأنهم كفار؟! وبعض العلمانيين كتب في هذا وقال: إن اليهود والنصارى والصابئين كلهم داخلون الجنة. واستدل على هذا بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69] ونقول: هذا تحريف وإلحاد في آيات الله تبارك وتعالى. ونعود إلى موضوعنا، فقضية الجهاد جاءت به شريعة الله سبحانه وتعالى لمن كان مؤمناً بها، فلا يناقش، لكن يقول: سمعنا وأطعنا. فالله سبحانه وتعالى هو الذي فرض الجهاد، فهل تطيع الله أم تصطحب أي مذهب أو دين باطل؟! فالكفر كله الآن متحد ضد المسلمين، كل العالم بلا استثناء، فالمنافقون والزنادقة واليهود والنصارى والهندوس عباد البقر وعباد الأصنام متحدون ضد المسلمين، وهناك بعض الناس عندهم أمل في بطرس غالي على أساس أن هذا الرجل يتبع الأمم المتحدة والسلام والإنسانية إلى غير ذلك، وأقول: هذا خصم للإسلام، فهو في كل معركة بين الإسلام وأعدائه لابد من أن ينضم إلى أعدائه، فهل ينتظر من مثل هذا أن يكون عنده رأفة أو رفق بالمسلمين؟! هل ننتظر من الهندوس رأفة ورفقاً؟ انظر إلى الدساتير والقوانين التي لا تنفذ إذا كانت المعركة ضد المسلمين، هذا هو الوضع الحقيقي، حيث تجد أهل الباطل يتعايشون فيما بينهم، لكن لا يتعايشون مع الدين الإسلامي؛ لأن الوحي أوضح عقيدة الولاء والبراء بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] فالله سبحانه المطلع على ما في قلوبهم هو الذي يخبرنا بذلك. فإذاً: أهل الباطل فيما بينهم يتنازلون حتى يتعايشوا، أما مع الحق فلا يمكن أبداً أن يحصل التقاء في وسط الطريق بين عقيدة الحق وبين هذه الأديان المزيفة أو المحرفة. فبالنسبة لقضية الجهاد لا داعي لأن نتنازل ونقول: إن الجهاد في الإسلام كان جهاد دفاع لا جهاد طلب. كلا، إن الإسلام دين جهاد ومبادءة، ولذلك على المسلمين أن يكونوا أقوى الناس وأشد الناس أخذاً بأسباب القوة، حتى ينتصر أهل الحق على أهل الباطل، ولم يحصل أن الإسلام أكره أحداً على الدخول فيه، كما هو معروف، بل إن الدين الإسلامي خير المشركين بين دفع الجزية وبين القتال؛ لأن الهدف من هذا الجهاد هو حمل الأمة لهذه الرسالة إلى البشر؛ لأجل سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحتى لا تقف جيوش الكفر على حدود هذه البلاد وتمنع من انتشار هذا النور الذي أنزله الله للعالمين رحمة للناس، بل الهدف من الجهاد أن يدخل الناس الجنة ويقادوا إلى الجنة ولو بالسلاسل. فهؤلاء الطواغيت يقفون بجيوشهم ليدافعوا حسب زعمهم عن الوطن وتراب الوطن المقدس وغير هذا. والملاحدة والزنادقة يصفون الفتح الإسلامي بأنه هدم، ويقولون: إن بلادنا ظلت مستعمرة منذ كذا سنة. ويقصدون بهذا أبهى فترة عاشتها بلادنا، وهي فترة العصر الإسلامي المشرق. فالحمد الله الذي وفق هؤلاء المجاهدين من الصحابة الذين قهروا جيوش الفرس والروم حتى تمكنوا من أن يدخلوا إلينا دين الإسلام، وهذا من بركة جهاد هؤلاء الصحابة الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم وأبنائهم حتى يصل إلينا هذا الدين، وهناك من يحقد على الصحابة ويصفهم بأنهم غزاة، كما قال إسماعيل صبري في الأربعينات أو الخمسينات، قال: إنني أمقت النقاب والحجاب مقتاً شديداً؛ لأن الحجاب يذكرني بأولئك الفاتحين الأجانب الذين أتوا إلى هنا ونشروا الحجاب. ويقصد بالفاتحين الأجانب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهم أطهر أمة وخير أمة أخرجت للناس، فلما عتا الباطل وانتفش وكان معه سلاح وقوة وقهر وبطش وإعلام وغير ذلك أبرز وأظهر ما كان بالأمس يخفيه، لكن الباطل في النهاية لابد له من أن يضمحل ويذوب، والمؤمن في حالة الضعف ينبغي أن يكون واثقاً بربه صامداً كالجبل في اعتقاده واعتزازه بحكم الله، ومعلوم أن الباطل مثل زبد البحر لا يلبث أن ينفض فقاقيع تطفوا على السطح، وكم سمعنا ممن حاربوا الإسلام ونكلوا بدعاة الإسلام وشوشوا على الإسلام ثم صاروا في خبر كان، وإذا ذكروا فلا يذكرون إلا باللعنة وبالدعاء عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحفظ الدين، وما وكل الله أحداً من الخلق بأن يحفظ دينه، قال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والقرآن يبطل مفعول كل هذه السموم، فأي فكرة خبيثة يحاولون نشرها ويجندون لها كل الطاقات لنشرها تأتي آية واحدة من القرآن تدحضها وتبطلها. وعلى كل حال فإن الجهاد لابد من أن نستحضر أنه حكم إلهي وهو عين العدل الإلهي، والعدول عنه هو التطرف في الحقيقة. يقول بريدة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغدوا باسم الله في سبيل الله) وقوله: (في سبيل الله) يعني أنهم ما أرادوا مالاً ولا جاهاً ولا دنيا ولا شهرة، وإنما جاهدوا وضحوا في سبيل الله عز وجل، ولذلك رفع الله ذكرهم في العالمين، قال (اغدوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغدوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا) فنهي عن الغدر وعن التمثيل بالجثث، وقد روي أن المسلمين لما أرادوا فتح فارس مثل الخبثاء الفرس بجثث المسلمين، فقطعوا أعضاءهم وشوهوا جثثهم بعد قتلهم، فأقسم بعض المسلمين ليمثلن بهم كما مثلوا بقتلى المسلمين، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال لهم: (ومتى كان لنا في الفرس أسوة؟!) أي: نحن أسوتنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد غضب عليه الصلاة والسلام أشد الغضب حين وجد بين القتلى أطفالاً صغاراً وذرية، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألم أنه عن قتل الذرية) فهذه هي الأخلاق، وهذه هي القيم، وهذه هي المثل والفضائل، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين) إلى آخر الحديث

عهود المسلمين مع غيرهم وموقف الإسلام منها

عهود المسلمين مع غيرهم وموقف الإسلام منها إذا أعطى المسلمون غيرهم عهداً من العهود أو الدخول تحت ذمة المسلمين أو أمانهم فإنه يجب الوفاء بالعهد، وأن يستقيم المسلمون على العهد ما استقام لهم الكافرون، ولذلك جاء النهي عن الغدر والأمر بالوفاء للمعاهد، ونصوص ذلك كثيرة في القرآن والسنة، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، ويقول عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] وقال عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9] ويقول عز وجل: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. فالمسلمون هم الفئة التي إذا غلبت عدلت ولم تظلم، بخلاف غيرهم، فإنهم كما قال الله عز وجل عنهم: {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] ويقول عز وجل: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] كما يحصل الآن في العالم كله من تواطؤ على ذبح المسلمين وإحراقهم وتجويعهم وإضعافهم وإنهاك قواهم، وهذا ليس جديداً علينا، فنحن نقرأ القرآن، وهذا موجود في القرآن فقوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة:8] أي: كيف إذا كان لهم الغلبة والعلو؟! {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8]. وإننا نلاحظ سماحة الإسلام في التعامل مع العصاة والمخالفين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم أتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) كما بين أن المعاصي درجات، وأن كل عاص يعامل حسب جرمه، وأنه لو عومل جميع الناس بالزجر والضرب والهجر لكان ذلك سبباً في نفورهم من الدين. يقول عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] فهذا هو رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول الله له: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فالشأن مع العاصي والمخطئ ليس زجره وتكفيره، بل دعوته إلى التوبة وتصحيح المسار وبيان وجه الخطأ الذي وقع فيه، فهذه كانت مقدمة فيما يتعلق ببيان سماحة الإسلام ويسره. ويبقى الكلام على معنى الغلو في اللغة ومعنى الغلو في الشرع. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الغلو في الدين [2]

الغلو في الدين [2] لقد بيَّن علماء الإسلام أهمية الألفاظ الشرعية في العقائد وغيرها، وذكروا خطورة إطلاق المصطلحات غير الشرعية القديمة والحديثة، إلا في حالات استثنائية بعد معرفة معانيها ومقصود واضعيها، وهذا إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، وإلا فالأفضل البعد عن هذه الاصطلاحات الموهمة والمشتبهة.

أهمية فهم الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية

أهمية فهم الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيذكر المؤلف تمهيداً في أهمية الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية، وينبه إلى أن العلم بحقائق الأشياء والوعي بمفاهيمها لابد من أن يكون أساساً لتضييق دائرة الخلاف أو لإزالته؛ لأنك لا تكاد تجد خلافاً في أي مسألة من المسائل إلا ومن ورائه اختلاف أو سوء فهم بحقيقة الأمر المختلف فيه، قد يكون الطرفان متفقين، ولكن قد يوجد سوء فهم لبعض المصطلحات التي قد تغطي على الحقيقة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد رجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ أو نفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلاً عن أن يعرف دليله. فحكم الإنسان على أي شيء أو على أي مبدأ راجع إلى التصور الموجود في ذهنه، لذلك فعلماء المنطق عبروا عن هذا بعبارة صحيحة، وهو قولهم: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فإذا تصورت الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة سيختلف حكمك عليه. مثلاً: كلمة التصوف، يمكن أن نجد من الناس من يتكلم في التصوف فيقول: هؤلاء ملاحدة وزنادقة ومشركون وخارجون من الملة إلى آخر ذلك، وكذلك عن حكم دراسة التصوف. بينما آخر تجده يمدح التصوف ويذكر محاسنه، وأن أهله أهل دين، وأنهم أولياء الله، وغير ذلك من ألفاظ المديح، لكن إذا دققت ما الذي يقصده هذا الذي عمم في الجانبين ستجد أن من مدح التصوف إنما نظر لما في تصوره وفي ذهنه من أن التصوف هو ذكر الله والاجتهاد في طاعة الله، والتورع عن المحرمات، والاهتمام برياضة النفس وتهذيب القلوب وتزكيتها إلى آخره، وقد لا يخطر بباله على الإطلاق تلك المعاني الإلحادية التي انحرف بها بعض غلاة التصوف. أما الشخص الذي يصف أهل التصوف ويعمم بأنهم ملاحدة وزنادقة وحلوليون، إنما نظر إلى المتطرفين جداً من الصوفية، خاصة في العقيدة، كـ ابن عربي أو غيره ممن ألحدوا في ذات الله تبارك وتعالى وقالوا بالحلول وبوحدة الوجود أو غير ذلك من العقائد الشركية التي تخرج فاعلها أو ناطقها من الملة. فإذاً: على الإنسان قبل أن يتكلم في قضية أو في مصطلح معين أن يبين ما الذي يقصده من هذا الذي يذمه أو يمدحه.

أسباب اهتمام العلماء بالألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية

أسباب اهتمام العلماء بالألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية اهتم علماء المسلمون بالألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية اهتماماً بالغاً، وذلك لأمور: أولاً: أن عدم تحديد الألفاظ ومعانيها وحدودها يجعلها نسبية غير محررة، فيستخدمها كل فريق كما يحلو له بمعنى أنهم يستخدمونها على ما تدفعه الأهواء وما تمليه عليهم العقائد، كما وقع -مثلاً- في تاريخنا الإسلامي من كون بعض الظالمين يصفون أهل السنة والجماعة بأوصاف متناقضة لا يمكن أبداً اجتماعها، حيث نجد المعطلة الذين يعطلون صفات الله تبارك وتعالى يطلقون على أهل السنة بأنهم مشبهة، والمشبهة يسمون أهل السنة بالمعطلة، أما أهل السنة فهم على صراط مستقيم لم تتقاذفهم أهواء هؤلاء ولا أولئك. ثانياً: أهمية تحديد هذه المصطلحات قبل الخوض فيها؛ لأنه أحياناً قد تحدث معان محدثة طارئة لبعض الألفاظ، وليست معاني أصلية وردت في الكتاب والسنة، فتطرأ بعض المعاني والمفاهيم والاصطلاحات الحادثة لقوم أو فئة من الناس؛ لأن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ موجودة في النصوص الشرعية أو في كلام أهل العلم، فيظن أن المراد بها نظير مراد قومه، ويكون مراد الشارع خلاف ذلك، وهذا الأمر اتضح وضوحاً تاماً في العصر الحديث، لما للإعلام من أثر في تغيير المصطلحات لكثرة استعمالها، مع أن المراد بها معان غير المعاني التي كانت لها أصلاً. ثالثاً: تبرز أهمية الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية في أنها أصبحت الآن أداة من أدوات الصراع الفكري، إذ يهتم أعداء أي فكرة أو مبدأ في صراعهم مع الأفكار الأخرى بالألفاظ والمصطلحات العلمية، وذلك بتحريفها وتغييب القول الحق فيها، إذ يأتون إلى المعاني الصحيحة فيبرزونها في قوالب منفرة، وكذلك العكس، حيث يأتون إلى المعاني الفاسدة ويبرزونها في قوالب محبوبة للناس، فمثلاً: الفن الذي هو صناعة التماثيل، والذي هو رسم الصور القبيحة التي لا حياء فيها، وغير ذلك، حيث يسمون أعماله الفنون الجميلة، ويقولون: كلية الفنون الجميلة. ومثل هذه الأشياء فيها قلة الحياء، ومبارزة الله سبحانه وتعالى بتصوير ما فيه روح أو صناعة التماثيل، ولا شك أن هذا من أكبر الكبائر. فإذاً: من أقوى أسلحة أعداء الإسلام في هذا الزمان الترويج للمفاهيم الفاسدة، ومحاربة المفاهيم الصحيحة من خلال اللعب بالمصطلحات، وهذا فن قديم يتقنه أعداء الدعوة في كل زمان ومكان، ولقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان تلك الحقيقة شعراً، حيث يقول: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فعسل النحل الشهي الطيب هو في الحقيقة طيب وشفاء للناس، فيمكن أن تعبر عنه بجنى النحل من باب المدح له، ويمكن أن تعبر عنه بلفظ منفر، فتقول: هذا قيء الزنابير. والقيء هو الذي تخرجه الزنابير من بطنها. فهكذا ما يحصل اليوم في الصراع الفكري، حيث يقوم المخرفون باستعمال هذه المصطلحات للتلاعب بهذه الحقائق وتنفير الناس منها. ومعلوم أن أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم استعملوا سوء التعبير فيه وفي الوحي الذي جاء به للتنفير عنه وعما جاء به. ولو نظرنا في قصص جميع الأنبياء لوجدناهم وسموا ووصفوا بالجنون وبالسفاهة وبالضلال، وبغير ذلك من الأوصاف المنفرة، وهم أكمل الناس وأزكى الناس بلا شك، فهذا فرعون لعنه الله يقول في حق موسى عليه السلام: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] إلى غير ذلك من الألفاظ التي رمي بها الأنبياء أجمعون، والمقصود من ذلك تشويه هؤلاء الرسل لكي ينفر عنهم الناس، وهو نفس الشيء الذي حصل داخل الفرق الإسلامية، فنجد أعداء أهل السنة والجماعة قد حرصوا في شتى أحقاب التاريخ الإسلامي على التنفير من مذهب أهل السنة، وإطلاق الألفاظ المنفرة عليهم، كالحشوية والمعطلة أو المشبهة أو غير ذلك من الصفات. أو تجد هؤلاء المخرفين يستعملون ألفاظاً طيبة لتغليف حقائق فاسدة، كالمعتزلة حينما يقولون: إن مذهبنا يقوم على خمسة أصول: منها التوحيد. فما ذهبوا إليه من انحراف في فهم قضايا العقيدة أسموه توحيداً لترويجهم هذا المذهب الفاسد للناس، ومنها العدل، وهو ضلالهم في القضاء والقدر وغير ذلك.

مصطلح العلمانية بين الحقيقة والزيف

مصطلح العلمانية بين الحقيقة والزيف وهنا مثال من أخطر الأمثلة في الحقيقة، وله أثر سيء جداً في واقعنا المعاصر، ألا وهو كلمة (العلمانية) أو (العالمانية) على الأصح، وهذا المصطلح الخطير حقيقته -كما نعلم- فصل الدين عن الحياة، فاستعمل النصارى هذا المصطلح، ومنهم فيكولر حيث ترجم مصطلح العالمانية إلى علمانية، لكي يلبس على الناس هذا الأمر، فأصبح عامة الناس إذا ذكرت العلمانية يفهمون أن العلمانية المقصود بها احترام العلم واتباع المنهج العلمي، في حين أن الكلمة لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، بل هي أقرب ما تكون إلى الجهل، ولذلك نتحرى أن لا ننطقها بهذا الوصف (العلمانية) حتى لا تلتبس على الناس، بل ننطقها (العالمانية) وهي لا تنسب إلى العلم على الإطلاق، لكن تنسب إلى العالم. ومعناها: لا علاقة لنا بالدين، وإنما الإيمان بهذا العالم المادي الموجود أمامنا. أي: فصل الدين تماماً عن القيم والأخلاق ونظم الحياة. فهذا معنى الكلمة. إذاً: أدق وأصح تعبير أن نقول: (العالمانية) نسبة إلى العالم، نسبة إلى هذه الدنيا بغض النظر عن الآخرة، واعتبار قضية الإيمان واليقين والآخرة والغيبيات والدين كلها قضايا شخصية لا ينبغي أن تتدخل في حياة الناس أو تنظم شئونهم. فهذا نموذج من المصطلحات الخطيرة التي روجت، واستغل فيها جهل الناس لتمرير هذه المفاهيم الخبيثة، فقضية (العالمانية) وليست (العلمانية) هي -في الحقيقة- تقوم على الجهل؛ لأن الأشياء التي ينبغي أن تعلم في هذا الوجود ليست هي المعلومات المحسوسة فحسب، وإنما هناك معلومات أعظم وأخطر ينبغي أن نعلمها ونوقن بها، ومنها حقائق الغيب. ففي الحقيقة حتى لو قلنا: إن العلمانية المقصود بها العلم التجريبي فهذا إنما مجاله -فقط- هو ما يخضع للحواس، فالمنهج العلمي -كما يقولون- هو التجربة والملاحظة والاستنتاج، فلابد في العلم التجريبي من أن يكون خاضعاً للحواس، يرى أو يشم أو يحس إلى غير ذلك. إذاً: العلمانية في الحقيقة تحجب البشر من الاطلاع على القسم الأكبر والأخطر والأهم من المعلومات التي ينبغي أن يؤمنوا بها، وهو الإيمان بالغيب عن طريق الوحي الذي يعلمنا ويعرفنا بغيبيات موجودة لا ننكرها، فالعلمانية في الحقيقة دعوة جهل وليست دعوة علم. إن العلمانية نشأت -كما نعلم- بسبب صراع الكنيسة مع العلم التجريبي؛ لأنهم كانوا كلما اكتشفوا شيئاً جديداً من الاكتشافات العلمية ثارت الكنيسة وطاردت العلماء وأحرقتهم بالنار وهم أحياء، وحصل صدام شديد جداً، لقد كانت الكنيسة دائماً تتسلط بعقيدتها الشركية التي قدمتها لهم: التثليث، والغفران، والعمد. وهذا مصادم للفطرة، فأدى هذا التنفير والصدام إلى التمرد على هذا الدين، ولذلك فمن التلبيس -أيضاً- أن ينسبوا التقدم المادي في الغرب إلى دين النصارى، كلا، فهم ما تقدموا علماً إلا حين تحرروا من قيود دين كنيستهم المحرف، أما عندنا فمن الظلم أن تطبق هذه العالمانية على دين لم يعرف أبداً على الإطلاق صراعاً بين العلم وبين الدين؛ لأن هذا الدين أنزله الله، وهو الذي خلق الحقائق العلمية عز وجل، فلذلك يأتي نوراً على نور، ويتفق هذان النوران، ولا يمكن أبداً أن يحصل تناقض بين حقيقة علمية ثابتة قطعاً -ولا نقول: نظرية؛ لأن النظرية تتغير- وبين آية أو حديث، لا يمكن أن يحصل تناقض أبداً. يقول شيخ الإسلام: إن الرسل تخبر بمحارات العقول ولا تخبر بمحالات العقول. أي: تخبر بأشياء يحار فيها العقل بحيث يقصر عن فهمها وإدراكها على وجه التفصيل، ولا تخبر بمحالات العقول، أي: لا تخبر بشيء مستحيل. والمستحيل هو اجتماع النقيضين، وهو لا يمكن أن يحصل، لكن يخبرون بغيبيات لا تطيقها العقول، فينبغي تفويض علمها وتفاصيل علمها إلى الله سبحانه وتعالى. فالمهم أن كلمة (العلمانية) أنموذج من الاصطلاحات الخبيثة التي راجت على المسلمين، حتى إن بعض الشيوخ لم يحسن دراسة هذا المصطلح ونشأته وخلفياته، فلذلك صرح ببعض التصريحات وقال: إن العلمانية لا تتناقض مع الإسلام. فهو يقصد أن العلمانية بمعنى احترام العلم، مع أن كلمة (العلمانية) لا علاقة لها -كما ذكرنا- بالعلم على الإطلاق من حيث الاشتقاق، ولا من حيث المعنى والمضمون.

ضرورة الرجوع إلى اللغة العربية والشرع لمعرفة معاني الألفاظ الشرعية

ضرورة الرجوع إلى اللغة العربية والشرع لمعرفة معاني الألفاظ الشرعية إذا أردنا أن نعرف معاني الألفاظ الشرعية فلابد من أن نرجع إلى اللغة العربية وإلى مقصود الشرع من هذه الألفاظ. وهنا نقف عند بعض المصطلحات التي تتعلق بهذا البحث ونلخص معانيها من حيث اللغة. أولاً: الغلو. تدور الأحرف الأصلية لهذه الكلمة ومشتقاتها على معنى واحد يدل على مجاوزة الحد والقدر. أي: كل ما جاوز حده وقدره فهذا هو الغلو، ويقال: غلا السعر يغلو -وذلك ارتفاعه- غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلواً أي: جاوز حده وغلت القدر تغلي غلياناً، وغلت السهم غلواً: إذا رميت به أبعد مما تقدر عليه. فالغلو هو مجاوزة الحد، يقال: غلا في الدين غلواً أي: تشدد وتصلب حتى جاوز الحد. فهذا بالنسبة لكلمة الغلو. ثانياً: التطرف. هذه الكلمة تدور في اللغة على أحد أمرين: الأول حد الشيء. الثاني: الحركة في بعض الأعضاء، يقال: ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال ويقال: طرفت عينه. أي: تحركت. فمادة (طرف) تستعمل في حركة بعض الأعضاء، كما أن الطرف هو حد الشيء، وهذا هو المعنى الذي يهمنا في هذا البحث، وهو أن الطرف مأخوذ من حد الشيء وحافته، فالمراد من كلمة الطرف منتهى الشيء وغايته. وكذا يقال: تطرفت الشمس. أي: دنت للغروب، يقول الشاعر: دنا وقرن الشمس قد تطرفا وقال شمر: اعرف طرفه. يعني: إذا طرده؛ لأنه إذا طرده يصل إلى غاية الشيء ومنتهاه ويخرج منه. وكذلك يقال للناقة إذا رعت أطراف المرعى: طرفت الناقة. أي: ذهبت إلى طرف البستان وأخذت تأكل من الحشائش فيه. فالطرف هو منتهى كل شيء. فإذاً: التطرف تفاعل من الطرف، يقال: تطرف يتطرف فهو متطرف. وخلاصة الكلام أن الشخص إذا تطرف فقد تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط. ثالثاً: التنطع. التنطع هو البسط والملامسة، والتعمق في الكلام مأخوذ من النطع، والنطع هو التجويف الأعلى في الفم الذي يظهر عندما يتعمق الإنسان ويتشدق في الكلام، وعندما يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة، فيظل يتكلم حتى يظهر التجويف الذي في أعلى سقف الفم، ثم استعمل في كل تعمق، سواء أكان في القول أم في الفعل، فهذا معنى كلمة التنطع. رابعاً: التشدد. ومعناه القوة والصلابة، وشاده مشادة: غالبه وصارعه، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) يعني: غلبه الدين. خامساً: العنف. وهو خلاف الرفق، والذي لا يقود الخيل برفق يسمى عنيفاً.

أقسام الناس تجاه دعوة الرسل

أقسام الناس تجاه دعوة الرسل ينقسم الناس إزاء دعوة الرسل إلى أقسام ثلاثة: فمنهم من يكون متمسكاً بالحق ومعتدلاً على الصراط المستقيم. ومنهم: المفرط الزائغ عن حدود الله عز وجل. ومنهم الغالي الذي يتجاوز حدود الله. أما النصوص الشرعية فقد جاءت بالتحذير من الغلو والإفراط والتفريط، وجاءت الشريعة تفرض علينا أن ندعو الله سبحانه وتعالى -على الأقل- سبع عشرة مرة في اليوم والليلة بقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فهذا معنى سؤال الله سبحانه وتعالى أن يقي المسلمين شر الانحراف إلى هذا الطرف أو ذاك.

أساليب القرآن في التنفير والتحذير من تعدي الحدود

أساليب القرآن في التنفير والتحذير من تعدي الحدود الأسلوب الأول: الدعاء بطلب الاستقامة، وبيان أن الاستقامة لا تكون إلا بالبراءة من منهج هؤلاء الذين غضب الله عليهم والذين هم ضالون عن الطريق المستقيم؛ لأن كليهما متطرف، أما الصراط المستقيم فهو صراط الذين أنعم الله تعالى عليهم، كما في سورة الفاتحة. الأسلوب الثاني: التحذير من تعدي الحدود، يقول عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]. إذاً: هذا هو الميزان، وهذا هو الاعتدال، وهذا هو الصراط المستقيم، فكل انحراف عن هذا الاعتدال فهو في الحقيقة تطرف. فمثلاً: المرأة المتبرجة تعدت حدود الله سبحانه وتعالى، حيث أمرها بالحجاب وهي تهتك ستر الله عز وجل، وتبارز الله بالمعصية وتجهر بها وتكشف ما أمر الله بستره، فهذه متطرفة منحرفة وظالمة، يقول الله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] أي: لا تتجاوزوها. ثم قال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] إذاً: فغير المحجبة هي المتطرفة، وليست المحجبة هي المتطرفة. وكذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى، فالرجل الذي يحلق لحيته متطرف ومتعد لحدود الله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، وهذا خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو متطرف وظالم، يقول عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]. إذاً: فينبغي أن نستحضر أن الميزان والوسط هو ما جاء به القرآن والسنة، هذا هو الاعتدال، وكل انحراف عن هذا هو في الحقيقة تطرف. وقد افتتن بعض الإخوة بما وصم ووصف به أهل الدين وأهل الطاعة من التطرف والتنطع وغير ذلك، فينبغي أن ننظر إلى هؤلاء الذين وصفوا أهل الدين بالتطرف على أنهم هم المتطرفون في الحقيقة، ولا يفت في عضدنا هذه الحملات الشيطانية ليل نهار على أهل الطاعة وأهل الدين. إذاً: فكل شخص يخالف أمر الله وأمر رسول الله نقول له: قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] فالحدود هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة المأمور بها وغير المأمور بها، وتعديها هو تجاوزها وعدم الوقوف عليها، وهذا التعدي هو الهدف الأعظم الذي يسعى إليه الشيطان؛ إذ إن مجمل ما يريد الشيطان تحقيقه أحد الانحرافين: إما الغلو وإما التقصير، فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له أيضاً، هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد. وذلك هو الأسلوب الثاني في معالجة الإسلام لقضية التطرف والانحراف. الأسلوب الثالث: الدعوة إلى الاستقامة ولزوم الأمر وعدم الغلو والزيادة، يقول تبارك وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] فقوله: (لا تطغوا) أي: لا تنحرفوا ولا تتعدوا حدود الله تبارك وتعالى التي أمر الله عز وجل بها. الأسلوب الرابع في علاج قضية التطرف والغلو: النهي عن الغلو وتوجيه الخطاب لأهل الكتاب على وجه الخصوص، حيث يقول عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ} [النساء:171]. لأن اليهود اخترعوا له من قبل قضية الخطيئة الأصلية، وأن البشرية كلها ملوثة، فربنا -عندهم- لا يتوب على المولود؛ لأنه ولد ملوثاً بخطيئة آدم، فحتى يتاب عليه لابد من أن يعمد، وذلك بالتغسيل، فإذا غسل صار نصرانياً مستحقاً للنجاة إلى غير ذلك، وهذه من مظاهر غلوهم. ومن مظاهر غلوهم اختراع الرهبانية التي ابتدعوها وما أذن الله تبارك وتعالى بها، يقول عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] والاستثناء هنا منقطع بمعنى (لكن). أما إعراب (رهبانية) فهي مفعول به لفعل مقدر، أي: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها. وقوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) أي: ما أمرناهم بها ولا كلفناهم بها، كتحريم الطيبات والتعبد بترك الزواج وغير ذلك. فقوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: ما كتبناها عليهم، لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله عن طريق اتباع شرع الله، وليس بالابتداع. هذا هو معنى قوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) عز وجل. واليهود -أيضاً- عندهم قدر كبير جداً من الغلو، وإن كان النصارى أكثر غلواً في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف. فكل هذه النصوص، كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]، وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77] توجيه النهي فيها عن الغلو لأهل الكتاب إنما المقصود به تنبيه هذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعوا فيه من الغلو، وحتى تجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله سبحانه وتعالى على الأمم السابقة. الأسلوب الخامس الذي عالج به الإسلام قضية الغلو والتطرف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أمته عن الغلو حتى لا يقعوا فيما وقع فيه من سبقهم من الأمم التي بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع -أي: صباح المزدلفة- هلم القط لي الحصى -حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى- فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تحذيرنا مما يحصل الآن من جهلة الناس عند رمي الجمرات، فبعضهم يرمي إبليس عند الجمرات، وبلغني أن بعض الناس أطلق الرصاص على الشاخص، وبعضهم يرمون الجمرات بالنعال، ومن يذهب إلى الحج يراها، فهذا من الغلو. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) عليه الصلاة والسلام. والمقصود بقوله: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي. وتطرف البوصيري في فهم هذا الحديث فقال: إن النهي عن المدح بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فقط عن أن نصفه بأنه ابن الله كما قالت النصارى، أما ما عدا ذلك فنحن في حل من أن نمدحه بما شئنا، فمن ثم خرج منه كثير جداً من مظاهر الغلو الشنيع، كمثيل قوله: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم يعني أن أهم شيء هو أن لا تقول: إن محمداً ابن الله أو ثالث ثلاثة. فكان مما نطق به البوصيري من الكلام الشنيع قوله مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم: فإن من علومك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا غلو لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الأسلوب السادس من أساليب القرآن في التنفير من الغلو: بيان مصير الغالي وعاقبته. فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) يدعو عليهم بالهلاك، أو يخبر بهلاكهم؛ لأنهم انحرفوا عن الجادة وتعدوا حدود الله تبارك وتعالى، فقوله إياها ثلاث مرات فيه توكيد للهلاك بالنسبة للمتنطعين، وهم المتعمقون المغالون المباينون الحدود في أقوالهم وفي أفعالهم. وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) فهذه -أيضاً- صورة من مظاهر الغلو.

عاقبة المشدد على نفسه في أمور الدين

عاقبة المشدد على نفسه في أمور الدين لقد بينت السنة أن عاقبة الشخص الذي يخالف الفطرة ويكلف نفسه بأشياء فوق طاقته ينتهي به الأمر إلى أنه لا يصل إلى الغاية، وهناك بعض الآثار ما أظنها صحيحة، لكن تبين لنا هذا المعنى، منها: قوله: (فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) فقد مثل برجل خرج في الصحراء راكباً على دابته وحملها أثقالاً كثيرة جداً، ثم مشى في الصحراء وتوغل فيها وأتعب دابته، وانتهى الأمر به إلى أن الدابةلم تستطع حمل ما عليها؛ لأنه حملها فوق طاقتها، فهو بهذا لا أرضاً قطع؛ حيث إنه لم يصل إلى الموضع الذي يقصده، ولا ظهراً أبقى؛ حيث إنه أهلك هذه الدابة بالأحمال الثقيلة. فكذلك الإنسان مثل هذه الدابة، حتى كان بعض العلماء يحسن اختيار طعامه، فقيل له في ذلك فقال: إن الدابة إذا أحسنت علفها فإنها تستطيع أن تنجز مهامها، فكذلك هذا الجسد هو الآلة التي تحمل روحك وتبلغ بها إلى مقاصدك وتنفذ بها حاجياتك. فالإنسان إذا أنهك جسمه بأشياء فوق طاقته فإنه يعجز عن مواصلة السير، فلا يصل إلى هدفه، (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى). وهذا في الحقيقة نلاحظه بصورة واضحة جداً فيمن يبتلى بالانتماء للجماعات المتطرفة بحق، كجماعة التكفير، حيث نجد الواحد منهم يكلف نفسه بأشياء فيها تجاوز لحدود الله عز وجل، فهذا الأمر يحتمله لكن لفترة محددة، ولا يستطيع الاستمرار عليه؛ لأنه ضد الفطرة، والشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى جاء فيها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهذا خالفها وكلف نفسه فوق وسعها وتشدد في أخذ أمور الدين وأمور العقيدة وغير ذلك، فمثل هذا إن أراد الله به خيراً أعاده إلى الجادة وإلى طريق أهل السنة والجماعة والاعتدال والوسط، أو -والعياذ بالله- يحصل عنده انقلاب كلي وانحراف وتفلت كامل، فبعدما كان يكفر الناس من أجل بعض الأشياء التي لا تقتضي تكفيرهم إذا به يقع فيما هو أكبر مما كان يكفر الناس بسببه من الترخصات وتعدي حدود الله تبارك وتعالى؛ لأنه حمل نفسه فوق فطرتها، والفطرة تأبى الاستمرار على هذا طويلاً. ولهذا تجد عامة هؤلاء متلونين لا يثبتون على قرار، فإذا ابتلي أحدهم بشيء من هذه الأفكار تجده دائماً كما يقول الشاعر: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل فكلما جاءه رجل أجدل من رجل ترك ما جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام لجدل هؤلاء. فظاهرة تعدي حدود الله بتكليف النفس فوق ما تطيق يؤدي إلى عدم الثبات، فإما أن ينحرف تماماً وإما أن يأخذ الله بيده وينجيه من هذه الانحرافات. والسنة بينت أن عاقبة المشدد على نفسه الانقطاع، وأنه ما من مشاد لهذا الدين إلا ويغلب وينقطع، فالسنة بهذا تبين لنا أن الشخص الذي يتجاوز حدود الله عز وجل هو عبارة عن مصادم لدين عز وجل والدين سيغلبه. وهذا الدين الذي أنزله الله فيه اليسر والسماحة، فما من أحد يريد أن يغالب هذا الدين ويصارعه إلا غلبه هذا الدين وهزمه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا) فقوله: (فسددوا) أي: ليكن هدفك الأول أن تصل إلى المقصود مائة في المائة، فالسداد أن تصيب النقطة التي هي في الوسط. أما إذا عجز الإنسان عن السداد ولم يستطع أن يصيب الهدف وإنما اقترب من الهدف بقدر المستطاع فهذا يدل على أنه اقترب من الدائرة الأصلية، وبهذا يكون قد تفوق نسبياً على غيره ممن بعد عنه أكثر. إذاً: فمعنى (سددوا وقاربوا) أي: افعلوا الأمور تماماً كما كلفتم بها، فإن عجزتم فاتقوا الله ما استطعتم، وذلك بأن تقتربوا من السداد بقدر المستطاع. فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) وفي لفظ قال عليه الصلاة والسلام: (والقصد القصد تبلغوا) فقوله: (والقصد القصد) يعني الاعتدال. وقوله: (تبلغوا) أي: تصلوا إلى غايتكم ومرامكم. يقول الحافظ ابن حجر: والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، وحتى لا يقع ذلك جاء بختام الحديث آمراً بالتسديد والمقاربة.

أنواع الغلو وأمثلته ونتائجه

أنواع الغلو وأمثلته ونتائجه إن الغلو ليس نوعاً واحداً، ولكنه يتنوع باختلاف متعلقه من أفعال العباد، فهناك غلو اعتقادي وغلو عملي، فالغلو الاعتقادي يسمى غلواً كلياً. والبدعة أقسام: بدعة كلية وجزئية، والبدعة الكلية: أن تكون قاعدة مبتدعة يتحاكم إليها وتصير أصلاً، بحيثَ تَفصَّل القضايا على أساسها، مثل قاعدة تحكيم العقل في النقل، فهذه بدعة كلية. والبدعة الكلية تنتظم تحتها فروعاً كثيرة جداً، فالمراد بالغلو العملي ما كان متعلقاً بكليات الشريعة أو أمهات المسائل في الشريعة الإسلامية، والمراد بالغلو الاعتقادي ما كان متعلقاً بباب العقائد، فهو محصور في الجانب الاعتقادي. وأمثلة الغلو الاعتقادي الكلي كثيرة، منها: الغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، كما يحصل من الشيعة، فإن الشيعة من أقبح الفرق المتطرفة في الإسلام، فهم يغلون كثيراً في أئمتهم الاثني عشر المزعومين، فلقد غلوا فيهم حتى وصلوا بهم إلى مراتب وصفات الألوهية. ومنها الغلو في البراءة من المجتمع العاصي، كأن يعيش إنسان في مجتمع مظاهر بالفسق والعصيان فيغلو في التبرؤ من المجتمع، ويغلو في تطبيق قضية الولاء والبراء إلى حد تكفير أفراد هذا المجتمع واعتزالهم، وهذه سنناقشها إن شاء الله تعالى بالتفصيل. ويدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة من الأحكام، بحيث يكثر من الإنسان مخالفات في قضايا جزئية، حتى تصير بمجموعها كلية؛ لأن المعارضة للشريعة في الحالتين منطبقة عليهما كليهما، فمعارضة الشريعة بالقاعدة الكلية يترتب عليها مخالفات جزئية كثيرة حينما تطبق هذه القاعدة، كذلك إذا كان الإنسان منحرفاً في قضايا جزئية كثيرة ومتعددة جداً فمخالفة الشريعة تقوم بها -أيضاً- بصورة كلية تماماً كما في الحالة الأولى. فإذاً: يدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة؛ إذ إن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلو في أمر كلي، والغلو الكلي الاعتقادي أشد خطراً وأعظم ضرراً من الغلو العملي؛ لأن الغلو العملي مثل أن يقوم إنسان الليل ولا ينام، ويصوم النهار ولا يفطر أبداً، إلى غير ذلك من أنواع الغلو العملي، ومثل تحريم الطيبات على نفسه، وتحريم الظلال، وتحريم أكل اللحوم وهكذا، فهذا غلو عملي، لكن الغلو في العقيدة أخطر وأشد من الغلو العملي، وفي كل شر؛ إذ الغلو الاعتقادي هو المؤدي إلى الانشقاقات، وسبب تفرق الأمة هو الغلو الاعتقادي، فالأمة ما افترقت إلا بسببه، ولذلك فسر علماء الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فسروه بأن الفرقة في أمة الإجابة لا أمة الدعوة. والدليل على ذلك ما ورد في صدر الحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقين) واليهود الذين افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة كانوا أهل دين واحد، وكذلك قوله: (وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فهذه الفرق حاصلة في أمة الإجابة، وهي الأمة المسلمة، وهذا -أيضاً- يؤيده الواقع، فإننا رأينا أصول هذه الفرق -سواء المرجئة أو الخوارج أو المعتزلة أو القدرية وما تفرع عنها من البدع المعروفة- من المسلمين. إذاً: فالانشقاق الذي حصل داخل الجماعة المسلمة إنما حصل بسبب الغلو الكلي الاعتقادي، فهذا هو المظهر السائد للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم؛ لأنها ما تسمى فرقة إلا لأنها انحرفت عن الفرقة الناجية. يقول عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). فهذا دليل على أن مخالفة أهل السنة والجماعة هي التي تؤدي إلى حصول التصدعات والانشقاقات، فأساس الانشقاق في الأمة نابع من خلاف في العقيدة بسبب الغلو الكلي الاعتقادي. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: ذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا جزئي من الجزئيات. يعني: لا يصح أن تصف جماعة بأنها فرقة ضالة إذا كانت تخالف في قضايا جزئية، لكن يمكن أن تصفها بأنها فرقة ضالة إذا كانت تخالف في قضية كلية اعتقادية، مثل الشيعة، فهي فرقة من الفرق الضالة؛ لأنها تخالفنا في كليات، فعندها غلو كلي في قضايا الاعتقاد. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي أو الفرع الشاذ ما ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، أرأيت كيف غلت الطوائف كالخوارج والشيعة في كليات من الدين، فأدى غلوهم إلى ظهور فرق ونشوء جماعات، بينما غلا أشخاص في السلوك والعبادات فلم يؤد غلوهم إلى ظهور فرق جديدة. يعني أن فرقة الخوارج نفسها تفرقت إلى جماعات كثيرة حتى كفر بعضهم بعضاً، وهذا شأنهم في كل زمان، ففي مصر لما ظهروا في الفترات الأخيرة منذ السبعينات تفرقوا حتى صارت فرقة تكفر الفرق الأخرى، كذلك الشيعة تفرقت إلى فرق كثيرة جداً حتى كفر بعضها بعضاًً. وهذا دليل على أنَّ الغلو الكلي الاعتقادي أعظم خطراًَ بالنسبة للغلو العملي السلوكي؛ لأن الغلو السلوكي العملي الاعتقادي لم ينشأ عنه فرق انشطارية، وأوضح مثال على ذلك الصوفية، فعندما كانوا موجودين في صدر الإسلام لم يكونوا يشكلون فرقة خطيرة على المجتمع المسلم، فقد كانوا في بداية أمرهم على الزهد والاستقامة على السنة وإصلاح الظاهر والباطن، لكنهم لما طرأ عليهم بعد ذلك انحرافات في قضايا كلية اعتقادية كبدعة ادعاء العصمة لمشايخهم ونحو ذلك من أمور الغلو الكلي الاعتقادي، فحينئذ صاروا فرقاً شتى، منهم الملحد، ومنهم المبتدع، ومنهم من هو دون ذلك.

الفرق بين الغلو الكلي الاعتقادي والغلو الجزئي العملي

الفرق بين الغلو الكلي الاعتقادي والغلو الجزئي العملي أولاً: منطوق النصوص، فقد وردت في الغلو الكلي الاعتقادي أحاديث تدل على أنَّه بسبب هذا الغلو ستظهر جماعات وفرق وأحزاب، كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في قصة الرجل الذي اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، فهذا الرجل قال كلمة خطيرة والعياذ بالله، قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فقال عليه الصلاة والسلام: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله -يقولون: إنه خالد بن الوليد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان). هذا الحديث يخبر عن فرقة الخوارج؛ لأن من صلب الرجل خرجت فرقة الخوارج، فأخبر أنه لا يرفع ثوابهم إلى السماء، ولا يقبل الله منهم هذا العمل، وهذا الوصف -في الحقيقة- للخوارج يتضح ويتبين منه أن الإخلاص وحده لا يكفي، بل لابد من الإخلاص والمتابعة معاً، فالخوارج لو اطلعت على اجتهادهم وإخلاصهم في العبادة لرأيت عجباً، كان يقول عنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (رأيت قوماً أيديهم كأنها نقر الإبل، جباههم قرحة من كثرة السجود) وكذلك صارت الركب مثل جلود الإبل في الخشونه من شدة العبادة والركوع والسجود، ولما دخل ابن عباس معسكرهم كي يناظرهم سمع دوياً كدوي النحل وهم يتلون القرآن، لكن -وللأسف- مع اهتمامهم بتلاوة القرآن فإنهم لا يفقهون القرآن، وهذا هو أحد أوصافهم الأساسية، كما سنبين إن شاء الله تعالى. وكان عندهم ورع غريب جداً، لكن هذا الورع وجوده عدمه سواء، فهم لم يتورعوا عن قتل بعض الصحابة، وبقر بطون النساء الحوامل، وتكفيرهم للمسلمين، والخروج على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وهذه المأساة التي حصلت منهم، ومع ذلك كانوا في سيرهم زهاداً، فهذا واحد منهم أخذ تمرة من النخل فأكلها فقال له صاحبه من الخوارج: أخذتها بغير حقها! فما زال به حتى لفظها تورعاً. وهذا آخر معه سيف أراد أن يجربه، فمر به خنزير لأهل الكتاب فقتله، فقالوا: قتلته بغير حق. وذهبوا إلى صاحب الخنزير ودفعوا له قيمة هذا الخنزير، في حين تواطئوا على قتل المسلمين وإراقة دمائهم بغير حق، كما هو معلوم من سيرهم. وجاء في بعض الآثار عن بعض السلف أنه قال: إن الشيطان إذا أراد أن يهلك إنساناً خلى بينه وبين العبادة وأمره بالخشوع والبكاء كي يصطاده ويصطاد به، حتى يجتهد في جانب العبادة على غير بصيرة، فيكون مبتدعاً وفتنة لكل مفتون. فالشاهد من الكلام أن الشريعة نفسها فرقت بين الغلو الاعتقادي الكلي والغلو الجزئي العملي، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام في جانب الغلو الاعتقادي حينما تكلم عن الخوارج قال في حقهم: (يخرج من ضئضئ هذا قوم) وذكر كلمة قوم، أي: فرقة صفاتهم كذا وكذا وكذا. أما الغلو الجزئي العملي فمثاله ذلك الذي كان يغلو غلوا شديداً في قيام الليل، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) فقوله: (ليصل أحدكم) عبر فيه بالواحد. وقوله: (نشاطه) أي: مادام نشيطاً فليصل قائماً، فإذا فتر فليقعد، ولا يضع حبلاً بين الساريتين ويتعلق به؛ لأن هذا شدد على نفسه وكلفها فوق طاقتها. وكذلك الغلو الاعتقادي الكلي بلاؤه عام على الأمة كلها؛ لأن الإنسان حين يغلو في اعتقاد ما، كأن يعتقد كفر المسلمين فهل سيقتصر على هذا الحد أم أن وراء هذه العقيدة مفاسد وأضراراً لا تحصى، علاوة على شناعة النطق بغير علم في مثل هذه القضية الحساسة، فيترتب عليها استحلال للدماء واستحلال للأعراض، وكم سمعنا من المآسي في هذا الباب، تجدهم يتزوجون المرأة وهي على عصمة زوجها؛ لأن هذا كافر حسب زعمهم، فيطلقها من زوجها ويتزوجها، وكذلك محاولة إراقة دماء كثير من المسلمين، ومعروفة حادثة قتل الشيخ الذهبي رحمه الله. فإذاً: لا تقف القضية عند مجرد وجهة نظر فحسب، لكنها تنعكس في سلوك عملي شديد الضرر على المجتمع أو على المسلمين. فإذاً: الغلو الكلي الاعتقادي عام الضرر على الأمة كلها، بينما ضرر الغلو الجزئي العملي مقتصر على الغالي والمتطرف نفسه. وأيضاً: الغلو الاعتقادي الكلي مطرد الضرر في كل الأحوال وباستمرار، بينما الغلو الجزئي نسبي، بحيث يكون مؤثراً على الشخص نفسه وغير مؤثر على شخص آخر.

الأوصاف التي تجمع وتربط الغلاة ببعضهم على مر الدهور والأزمان

الأوصاف التي تجمع وتربط الغلاة ببعضهم على مر الدهور والأزمان إن الناظر في الغلاة وفي الفرق الغالية يجد على مر العصور أن بينهم خصائص وأوصافاً معينة تجمعهم وتربطهم ببعضهم تكاد تطرد فيهم، وقد ذكر العلماء لهم أوصافاً إجمالية وتفصيلية. والمطرد هنا في كثير من فرق الغلاة وصفان يجمعانها، فكأن هذين الوصفين قاسم مشترك بين كل الفرق الغالية، وهذان الوصفان بينهما النبي عليه الصلاة والسلام في قصة الرجل الذي اعترض على قسمته صلى الله عليه وسلم وإعطائه صناديد نجد أكثر من غيرهم، وفي هذا الحديث (ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله -ويرون أنه خالد بن الوليد رضي الله عنه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) فوصفهم بوصفين، وهذا الوصفان مطردان غالباً في الفرق الضالة كلها.

الوصف الأول: عدم فهم القرآن ورد السنة

الوصف الأول: عدم فهم القرآن ورد السنة هؤلاء الغلاة الضالون قد يحتجون بآيات من القرآن، ولكن لا يفهمونها الفهم المناسب والفهم الصحيح. إذا: فالقرآن لا نستطيع أن نفصله عن البيان العملي، والسنة بمثابة المذكرة التفصيلية التي تشرح القرآن، فلا نستطيع أن نستقل بفهم القرآن دون الرجوع إلى السنة وإلى أهل اللغة وأهل العلم في ذلك، فإن أدلة القرآن كثيراً ما تكون أدلة عامة، فترى صاحب الهوى يستدل بها لإثبات باطله، ومن ثم قال بعض العلماء: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل وليس معنى ذلك أن القرآن يؤيد الفرق الضالة، كلا، وإنما العيب فيهم؛ لأنهم أساءوا فهم القرآن ولم يحسنوا تفسيره على الفهم المستقيم. وهذان الوصفان الموجودان في هذا الحديث يجمعهما قول الله عز وجل في الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] الظلم والجهل، فهذا هو الوصف المشترك بين جميع الفرق الضالة. فالسبب عدم فهمهم للقرآن، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده. يقول النووي رحمه الله: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم. أي: القرآن لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بأن يقع ذلك في القلب، ومن ثم فعدم فهمهم لآيات القرآن يجعلهم يحملون آيات أنزلت في المشركين ويطبقونها على المسلمين، حتى قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما في الخوارج: (إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين). ومن مظاهر عدم فهمهم للقرآن أنهم يتبعون متشابه القرآن ويعرضون عن المحكم، كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقول الله تبارك وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فالخوارج لما قبل علي رضي الله تعالى عنه مبدأ التحكيم قالوا: كفرت بالله، والله عز وجل يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] وأنت تحكم الرجال، فقال أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: (نعم إن الحكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل) ولذلك لما تولى ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما مناظرتهم قال لهم ابن عباس في الرد على هذا الاستدلال: ألم يقل الله عز وجل: {……. فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]؟ فها هو القرآن نفسه يشرع لنا عند وصول النزاع بين الرجل وامرأته إلى هذا الحد مبدأ التحكيم، فهل إصلاح حال امرأة مع زوجها أهم أم إصلاح حال الأمة؟. هذه أمة انقسمت وتقاتلت، ففي أيهما التحكيم يكون أولى، في إصلاح حال الأمة وهذا الذي رضي به علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما نادوا إلى تحكيم القرآن، أم في إصلاح حال الزوجين؟! وكذلك لو أن امرءً اصطاد صيداً وهو محرم كأرنب أو غير ذلك، فقد شرع القرآن الكريم في ذلك مبدأ التحكيم، وذلك في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] كما هو معلوم، فهذا في دم أرنب، أفلا يكون التحكيم أولى في حقن دماء المسلمين؟! فهذا استدلال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد رجع بسببه الآلاف لما سمعوا مناظرته القيمة معهم. قال الحافظ: وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: (لا حكم إلا لله)، انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها، فأدى بهم هذا القصور في فهم القرآن إلى الخروج عن السنة، وجعل ما ليس بسيئة سيئة وما ليس بحسنة حسنة، فهم إنما يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن. ولذلك هذا الرجل الذي هو أساسهم وأصلهم ماذا حصل منه؟ لقد كان بداية ضلاله وشؤم ضلاله اعتراضه على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك تجد شؤم هذه المخالفة موجوداً في كل الخوارج تقريباً، تجدهم يستدلون بالقرآن ويستقلون بفهمه ويفصلونه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم المبينة له، بزعم أن السنة تخالف ظاهر القرآن. فهذا فيما يتعلق بكلمة (جهولاً) أي: عدم فهمهم للقرآن الكريم وأثر الانحراف في هذا.

الوصف الثاني: الظلم واستحلال دماء المسلمين

الوصف الثاني: الظلم واستحلال دماء المسلمين الوصف الثاني هو الظلم، فهم يفترون على الله سبحانه وتعالى بالاستدلال بآياته في غير ما أنزلت له، ويظلمون خلق الله باستحلال حرماتهم عن طريق التكفير واستحلال الدماء، وقد ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في وصفهم قال: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) وهذا بناء على تكفير المسلمين الذي يكاد أن يكون وصفاً مشتركاً بين طوائف الابتداع والغلو. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الفرق الثاني بين الخوارج وأهل البدع أنهم يكفرون بالذنب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار كفر ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول في جمهور الرافضة وجمهور المعتزلة والجهمية وطائفة من غلاة المنتسبة لأهل الحديث والفقه ومتكلميهم. فإذاً: استحلالهم دماء المسلمين ثمرة ونتيجة لغلوهم وابتداعهم؛ لأنهم يرون من ليس على طريقتهم خارجاً عن الدين حلال الدم، وهذا شأن كل صاحب بدعة، كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: محدثان أحدثا في الإسلام: رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمثل من رأى مثل رأيه، فسل سيفه وسفك دماء المسلمين، ومترف يعبد الدنيا لها يغضب وعليها يقاتل. ويقول أبو قلابة رحمه الله: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف. وكان أيوب السختياني رحمه الله يسمي أصحاب البدع خوارج، ويقول: إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف. أي: اجتمعوا في الخروج على المسلمين. إذاً: فهؤلاء يجمعون بين الجهل بدين الله وبين ظلم عباد الله، فجهلهم بدين الله تعالى حيث يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، والظلم لعباد الله حيث يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وهاتان طامتان عظيمتان. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: طريقة أهل البدع يجمعون بين الجهل والظلم، فيتبعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، وينبني على هذا التكفير استحلال دماء المسلمين وقتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان. وهذا الأمر في الغالب، وليس مطرداً في كل الأحوال، ويمكن أن تضاف إلى هاتين الصفتين صفات أخرى -أيضاً- تتميز بها بعض فرق أهل البدع.

الغلو العملي حكمه وأمثلته وضوابطه

الغلو العملي حكمه وأمثلته وضوابطه ما مضى كان متعلقاً بالغلو الكلي الاعتقادي، أما النوع الثاني فهو الغلو الجزئي العملي أو السلوكي، والمراد بالجزئي ما كان متعلقاً بجزئية أو أكثر من جزئيات الشريعة العملية، سواء أكان قولاً باللسان أم عملاً بالجوارح، وذلك مثل قيام الليل كله. وإذا كان الغلو الجزئي العملي مرتبطاً بعقيدة فاسدة انتقل إلى كونه غلواً كلياً اعتقادياً، وذلك مثل من يعتزل مساجد المسلمين؛ لأنه يراها مساجد ضرار، فهذا غال غلواً كلياً اعتقادياً. وكذا إذا تعددت أبواب الغلو الجزئي العملي تحولت إلى غلو كلي اعتقادي؛ لأن الضرر المترتب عليها نظير الضرر المترتب على الغلو الكلي الاعتقادي. وقد عالج النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوراً من الغلو العملي التي حدثت في عصره، فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها -أي: قالوا: هذه عبادة قليلة- فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فانظر إلى الشدة مع المبتدع والغالي، فاعتبر مثل هذا غلواًً وخروجاً عن هديه وسنته صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه -أيضاً- قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لـ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، تقوم الليل فإذا فترت وتعبت من كثرة الصلاة فإنها تتعلق بهذا الحبل وهي تصلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) فقوله: (ليصل أحدكم نشاطه) يعني: أن تصلي قائماً ما دمت نشطاً وقادراً على القيام، فإذا تعبت وفترت فارقد، أو اجلس. فهذا فيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق والتنطع فيها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل) - وأبو إسرائيل هذا صحابي كان مشهوراً بكنيته، واختلف في اسمه، فقيل: اسمه: يسير، قالوا: (أبو إسرائيل) نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) فأقره على الفعل الشرعي فقط، أما ما عدا ذلك من هذا التنطع فألغاه. قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة، كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله، فلا ينعقد به النذر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: فلانة. وأخذت تذكر من صلاتها واجتهادها في العبادة، قال: مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه) قوله: (عليكم بما تطيقون) أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصاد على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق من العبادات. وكذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في تشدده في موضوع الصيام وغيره وكيف عالجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: يتبين من هذا كله أن المسلم لا يحتاج إلى أن يوجب شيئاً جديداً على نفسه يتقرب به إلى الله عز وجل، فإن ذلك من تجاوز الحدود التي حددها الله وأوضحها، كما أنه لا يجوز للمسلم أن يحرم الطيبات التي أحلها الله عز وجل له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:87 - 88]. كما يتضح ذلك في بعض روايات النفر الثلاثة حيث حرم بعضهم على نفسه أكل اللحم، فهذا من الابتداع والتنطع والغلو. فترك الطيبات تنسكاً وتعبداً لتعذيب النفس والتشديد عليها شبهة افتتن بها كثير من العباد والمتصوفة، متبعين في ذلك سنن من قبلهم من رهبان النصارى الذين ابتدعوا رهبانية لم يؤمروا بها في الدنيا، وذلك بتحريم الحلال وإضاعة المال، فإن كل ذلك مما جاء الشرع بالنهي عنه والتحذير من الوقوع فيه.

ضوابط في مفهوم الغلو وغيره من المصطلحات الحديثة

ضوابط في مفهوم الغلو وغيره من المصطلحات الحديثة سبق أن تكلمنا أن الشرع دائماً يرغب في التيسير وفي رفع الحرج، وأن الإنسان لا يشدد على نفسه، وأن يختار دائماً الأيسر ما لم يكن إثماً، كما كان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتكلمنا في مقدمة الكلام عن معنى الغلو، وبينا أن الغلو معناه مجاوزة الحدود التي حدها الله تبارك وتعالى. إذاً: أصل الإنسان الغالي أنه يقصد من غلوه التقرب إلى الله سبحانه، فهو ينظر إلى معنى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] لكنه لا ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) فيتجاوز هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يتجاوز حدود الله. ولذلك يقول العلماء في تعريف البدعة: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بها المبالغة في التعبد لله عز وجل. فكل مبتدع يقصد المبالغة في العبادة ولا يقنع بالحدود التي حدت له. والغلو هو في حقيقته حركة في اتجاه القاعدة الشرعية والأوامر الإلهية، لكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدها الشارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدين وليس خروجاً عنه في الأصل، بل هو نابع من الرغبة في الالتزام به. وأمر آخر هو أن الغلو ليس دائماً في الفعل، بل يدخل فيه الترك أيضاً، فمثلاً: ترك الحلال وتحريمه نوع من أنواع الغلو، هذا إذا كان تركه للحلال تديناً، أما إذا ترك المسلم الحلال من الطعام لأن الطبيب نهاه عن أكله لأنه يضره فهذا أمر لا حرج فيه، لكن أن يترك المسلم شيئاً من الطعام متعبداً بذلك ومتنسكاً ومتقرباً إلى الله بتركه فهذا مبتدع ضال، وهذا غلو في الدين وتجاوز لحدود الله، وهذا من الظلم. ثم إن نسبة الغلو إلى الدين -كما يقول بعض الجهلة أو الخصوم للدعوة الإسلامية: الغلو الديني، أو التطرف الديني- هو تجوز في العبارة؛ إذ الغلو إنما هو في أسلوب التدين لا في الدين نفسه، والأسلوب هذا إنما هو راجع إلى البشر؛ لأنهم غير معصومين، وليس راجعاً إلى الدين نفسه الذي هو دين الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تقول: الغلو الديني أو التطرف الديني كما ذكرنا، ولذلك جاء التعبير القرآني: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] قوله: (لا تَغْلُوا) يعني: لا تغلوا غلواً دينياً. وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والغلو في الدين) ولم يقل: إياكم والغلو الديني. فهذا راجع إلى السلوك وليس إلى الدين نفسه، فالدين براء من الغلو، وهذا المعنى إذا اتضح لكثير من الجهلة ممن يحملون هذه الحملات على المسلمين وعلى عباد الله لكان لزاماً عليهم أن يستغفروا حتى الممات مما صنعوا من التنفير من الدين بسبب استعمال هذه العبارات المنفرة. فالتطرف الديني والتعصب الديني والغلو الديني كلها ألفاظ غير صحيحة؛ لأن الدين ليس فيه غلو وليس فيه تطرف، وإنما الغلو يكون في سلوك بعض من ينتسبون إلى الدين. فيجب أن يتأمل الإنسان قبل أن يحكم على شيء من الأشياء بأنه غلو، وذلك بأن ينظر إلى العمل بدقة، فقد يحكم عليه بأنه غلو مع أنه في ذاته ليس غلواً، لكن الوسيلة إليه قد تكون من باب الغلو، فيقع الخلط في هذا الباب، وهذا سوف يشرح إن شاء الله تعالى فيما بعد بالتفصيل. ثم إنه ليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة، ولكن من الغلو الإثقال على النفس إلى درجة الملل، فطلب الأكمل في العبادة مثل أن تكثر من صلاة النافلة، فهذا شيء حسن ومحمود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليكثر) إذاً ليس المراد بالنهي عن الغلو منع طلب الأكمل في العبادة؛ لأن هذا من الأمور المحمودة، لكن المقصود من المنع من الإفراط المؤدي إلى الملل، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك ما هو أفضل. وليس من العدل من العبد أن يصف شخصاً بالغلو إذا التزم رأياً فقهياً، فلا تعتبر وجهة النظر المخالفة تشدداً مادام التزام المرء جاء بناء على أحد أمرين: إما اجتهاد سائغ شرعاً بأن بلغ درجة الاجتهاد، وإما تقليد لعالم من العلماء موثوق في دينه وعلمه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد. لقد تعودنا أن نسمع إذا خالف شخص في قضية ما أن مخالفه يصفه بأن متشدد، وذكر هنا بعض الشيوخ مثالاً يقول فيه: رأيت امرأة تلبس جلباباً يغطي كل بدنها وفتحة واحدة فقط للعين تنظر منها الطريق وغير ذلك، فقلت: ما هذا التشدد وما هذا الغلو؟! فهذا الإنكار في مثل هذه المسألة لا يجوز، بغض النظر عن التحقيق العلمي في القضية؛ لأنه رأي ناشئ عن اجتهاد، سواء أكان اجتهاد أحد الأئمة الكبار أو اجتهاد من هو موثوق بعلمه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد، وكان مأموناً في دينه وفي علمه من عدم اتباعه للهوى. إذاً: لا يجوز أن تصف الرأي المخالف لك في مثل هذه القضايا بأنه غلو في الدين، بخلاف أهل الجهل وأهل البدع، فإنهم يتكلمون بالهوى، يقول الله عز وجل عنهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23] لكن هذا اتبع أدلة شرعية معتبرة، فالأخذ بالرأي الأشد من الآراء المختلفة لا يعد دليلاً على الغلو، فقد يكون تشدداً من وجهة نظر المخالف، لكن هو في الحقيقة لا يراه تشدداً، بل هو يراه حكم الله، فلذلك لا يجوز استعمال مثل هذه العبارات الشديدة كالتنطع أو الغلو أو التطرف في حق من يأخذ برأي يراه مخالفاً وتشدداً، بينما يراه مخالفه أقرب إلى حكم الله. وهناك غلو من جهة أخرى، مثل أن يأخذ الإنسان برأي، وهذا الرأي رأي صواب، وتجد صاحب هذا الرأي يصف المخالفين له بالمروق من الدين، كما يحصل أحياناً من بعض علماء الظاهرية إذا كان الحق معهم، فإذا بهم يسلطون ألسنتهم على من خالفهم في قضية فقهية ويقولون: لا يقول بهذا إلا فاسق لا مروءة عنده ولا دين. ويشتمون أئمة العلم وأئمة الهدى، وقد يكون الذي خالفهم إماماً جليلاً كالإمام أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما فتجد كلاماً فظيعاً تقشعر منه الجلود، فهذا غلو في أسلوب الانتصار للرأي وليس غلواً في الرأي ذاته، فقد يطرأ الغلو على الرأي الفقهي السليم بسبب أسلوب الشخص الذي يدافع عن هذه القضية. كذلك في المقابل تجد إنساناً يأخذ بقول شيخ معين على أساس أن هذا الشخص معصوم لا يخطئ ولا يتطرق إلى كلامه خطأ على الإطلاق، فهذا -أيضاً- من مظاهر الغلو؛ لأنه ينتصر له بغير هدى من الله، فغاية علمه أنه مقلد. إذاً: يمكن أن يكون للإنسان رأيه في قضية، أو عقيدته في قضية هي حق، ولكن وسيلته في إقناع الآخرين لهذا الدفاع والانتصار لهذا الرأي هي التي يدخلها الغلو. لقد كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما متشدداً في فقهه، كان يميل إلى الاحتياط الشديد في العبادة، لكن هل وصفه واحد من الصحابة بالغلو؟ هذا لم يكن. إذاً: ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يصف انحرافاً عن شريعة الله تبارك وتعالى أن يطلق وصفاً عاماً، بل يختلف الأمر بحسب درجة الانحراف. ومن قواعد الشريعة أنه لا يكفي الانحراف في قضية جزئية في جماعة أنت تعلم أنها خارجة عن الدين أو أنها فرقة ضالة من فرق أهل النار حتى يكون انحرافها في قاعدة كلية من قواعد الشريعة أو في مسألة كلية من كليات الدين، فيطلق الوصف، بل لابد من أن نقول: النصارى عندهم غلو في عيسى عليه السلام حيث رفعوه إلى مقام الألوهية. يقول شيخ الإسلام: والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر به عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والرافضة والمرجئة. ولا يعني هذا أن غيرها من الفرق ليست منحرفة، بل المقصود أن الابتداع أو الغلو الفرعي لا يصل بصاحبه إلى أن يعد من أهل البدع والغلو بإطلاق، بل يقال: غال في العمل الفلاني. أو: مبتدع في الأمر الفلاني. فلو أن الإنسان وضع يديه على الصدر بعد الرفع من الركوع فبعض العلماء -مثل الشيخ ناصر الدين الألباني - تكلم في هذه القضية وقال: هذا ابتداع. أو: هذه بدعة وضلالة. فيأتي بعض الإخوة الذين عندهم في فهمهم قصور فيقولون: إن الشيخ الألباني يقول عن الشيخ الفلاني: إنه مبتدع وضال. مع أن الشيخ الألباني لم يقل: مبتدع. ولم يقل: ضال. وإنما قال: هذه بدعة. نقول: هناك فرق بين أن تصف الفعل بأنه بدعة وبين أن تطلق على الشخص وصفاً عاماً بأنه مبتدع، ففي مثل هذه القضايا الجزئية الدقيقة لا ينبغي إطلاق وصف الغلو أو البدعة بصورة عامة، لكن لو أن شخصاً ابتدع في موضوع معين فلك أن تقول: ابتدع في الموضوع الفلاني، ابتدع في الأذان، ابتدع في كذا. لكن لا تطلق الوصف إلا بالضابط الذي ذكرناه، فإطلاق وصف الغلو دون انتباه إلى هذا التقسيم تجوز في العبارة وتعميم في الحكم، وهو مثيل ما يتهم به الغلاة. ومن وصف مسلماً ارتكب كفراً عملياً بالكفر وبأنه كافر مطلقاً فهذا يعتبر غلواً منه هو ذاته، وهكذا. فتعميم إطلاق أوصاف التكفير والتفسيق دون رجوع للضوابط الشرعية هو -في حد ذاته- غلو من فاعله. ومن الأمور التي ينبغي ملاحظتها حينما نطلق لفظ الغلو هو الحرص على اللفظ الشرعي، كما يقول شارح الطحاوية رحمه الله: والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة وطريقتهم، فهم يعبرون عن الحقيقة في القضايا المختلفة بالمصطلحات الشرعية التي استعملت في الكتاب والسنة. فمثلاً: قضية الفوقية. فأهل السنة لا يقولون: التحيز ولا الجهة، ولا مثل هذه العبارات التي أحدثها المبتدعون، لكنهم يستعملون ما ورد في الشريعة ولا يحيدون عنه أبداً. وكذلك لا نقول: هذا تطرف. بل نقول: هذا غلو؛ لأن التطرف لفظ أو مصطلح محدث ليس من الألفاظ الشرعية، لذلك لا تجد في كلام أهل العلم لفظ التطرف إلا على سبيل الندرة في مواضع متفرقة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهذا يدل على أنه لا مانع من مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صح

مفهوم الغلو عند المسلمين وعند الغربيين

مفهوم الغلو عند المسلمين وعند الغربيين هناك فرق بين مفهوم الغلو عند المسلمين وبين مفهوم الغلو عند الغربيين، فالغلو عند الغربيين يعبرون عنه بهذه الكلمة التي ذكرناها، أي: (الأصولية) فهم يطلقون على حركات الغلو والتطرف كلمة ( exstravagant) باللغة الإنجليزية، وهذا المصطلح يرمز لمذهب معين في الحياة الغربية، والعقلية الغربية بمجرد سماعها لهذا المصطلح تتذكر واقعاً مر بها، ولكي نفهم الاصطلاح الغربي لابد من أن ندرس معنى ذلك المصطلح، وتاريخ نشأة الجماعة النصرانية المسماة بمصطلح الأصولية، وحتى نفهم حقيقة كلمة الأصولية هذه فها نحن نقول: مجلس الأمن الدولي. فهل صحيح من حيث النسبة أنه مجلس الأمن الدولي؟! إن مصطلح الأصولية في مفهوم عامة الناس في الغرب هو التمسك الحرفي بالإنجيل. ويرى بعض الباحثين الغربيين أن هذا التعريف بعيد عن الدقة، وأنه إذا أريد تعريف الأصولية فلابد من استعراض مجموعة من الصفات التي لا يقرها معظم النصارى، وهي في الوقت نفسه صفات مشتركة بين فئات الأصوليين النصارى. أبرز تلك الصفات -كما ذكرها هو وغيره من الباحثين- في الأصولية النصرانية ما يلي: أولاً: عصمة الإنجيل عند الأصوليين وتنزيهه من أي نوع من أنواع الخطأ، لا في العقيدة والأخلاق فحسب، بل وفي كل ما يتعلق بالتاريخ ومسائل الغيب. ثانياً: أخذ الإنجيل بمعانيه الظاهرة بلا تأويل، أي: أخذه أخذاً حرفياً؛ لأنه يمثل كلمة الله مدونة بالحرف الواحد. ثالثاً: الإيمان بكل ما ورد في الإنجيل يعد أساسياً بالنسبة لحياة المسيحية. رابعاً: رفض الآراء والنظريات الحديثة في علم اللاهوت والدراسات التي تتضمن نقداً للإنجيل وما ينتج عن ذلك من استنباطات وأطروحات. خامساً: رفض الآراء العلمية المناقضة لما في الإنجيل، كنظرية النشوء والارتقاء، حيث هدفت الأصولية إلى تفنيد كل المحاولات الرامية إلى استخدام المذاهب العلمية الحديثة في التعامل مع نصوص الإنجيل. سادساً: رفض الفصل بين الكنيسة والدولة، والطلب إلى السياسيين أن يأخذوا قراراتهم حسبما يأمر الله. سابعاً: القول بمبدأ الألفية، وملخصه أن العالم أشرف على النهاية، وأن ألفاً من السنين ستبدأ بعد هذه النهاية، وهي تتميز بالسلام ووفرة الخيرات وتكون بداية هذه السنين بنزول عيسى عليه السلام. وبناء على هذا المبدأ فإنهم يؤيدون ما يسمى بمبادرة حرب النجوم؛ لأنها تمهد لتدمير العالم تحقيقاً لتلك النبوءات، وهذا ما ذكره ريجن وكان ينتصر له رسمياً، كان يقول: علينا أن نتعاون مع اليهود حتى يمهدوا لمعركة الملحمة. ويسمونها موقعة (هرمجدون). إذاً: الغربيون يعتقدون بهذه الحرب وأنها ستحصل بينهم وبين المسلمين. وفي حرب الخليج عبروا عنها ببعض التصريحات، كقولهم: إننا ذهبنا لهذه الحرب المقدسة أو للتمهيد لها. ثامناً: أن فهم الأصوليين هو الفهم الوحيد الصحيح على الإطلاق للديانة النصرانية، يقول أحد الباحثين الغربيين: إن الأصوليين يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن فهمهم للدين هو المفهوم الصحيح والوحيد على الإطلاق. تاسعاً: أن الأصوليين هم المسيحيون الحقيقيون، ويحبون أن يسموا أنفسهم بذلك. وأصحاب المذهب نفسه يفخرون بهذا الوصف، هذا فيما يتعلق بأمور الاعتقاد.

أبرز صفات الأصوليين العملية في الغرب

أبرز صفات الأصوليين العملية في الغرب أولاً: اهتمامهم بالجانب السياسي. يقول بعض الكتاب: هم يشبهون أصحاب الأحزاب السياسية التي تود الاستيلاء على الحكم والسلطان من طريق تكثير السواد والحصول على كثرة نيابية في الولايات التي تكثر فيها جموعهم، ولذلك دخل بعض الأصوليين انتخابات الحزب الجمهوري الأمريكي المهيئة للانتخابات الرئاسية الأمريكية، وفاز المرشح الأصولي في ولاية ميتشجن، فنال نصف أصوات المندوبين الحزبيين. ومن أدلة اهتمامهم بالأمور السياسية أن بعض زعاماتهم البارزة تؤيد مرشحين معينين في الانتخابات الأمريكية. ثانياً: يسعى الأصوليون إلى استنان الشرائع والقوانين الرسمية المؤيدة لمذهبهم والمفوضة لمخالفيهم. ثالثاً: في السلوك الفردي يمتنع الأصوليون النصارى عن تناول بعض المحظورات، فأغلبهم لا يتعاطون الخمر، ولا يشربون الدخان، كما أنهم لا يشاركون في حفلات الرقص، ولا يذهبون إلى السينما أو المسرح، إذ إن ذلك كله محرم على المنتمين للتيار الأصولي النصراني، ولعلنا سمعنا عن طائفة موجودة في أمريكا اسمها: (طائفة الأمش) وهؤلاء أناس يعيشون على الفطرة تماماً، ويرفضون أي شيء مصنوع من الأشياء الحديثة. أي: لا يستعملون الكهرباء، ولا الملابس مصنوعة، كذلك الطعام المعلب المصنوع، ويعيشون في مناطق ريفية، والنساء فيهم محجبات بحجاب شبه كامل، وكل منتجاتهم وكل أكلهم من الأشياء الطبيعية، مثل الأجبان والألبان ونحو هذه الأشياء، ولا يشترون أي شيء صناعي، حتى السيارات لا يستعملونها.

دلالة مصطلح الأصولية عند الغرب

دلالة مصطلح الأصولية عند الغرب تعتبر كلمة (الأصولية) كلمة تدل على الازدراء في المجتمع الغربي، يقول أحد الباحثين الغربيين: إن كلمة (الأصولية) تعتبر كلمة غير محببة للنفس، فهي عبارة تقترن عادة بالعداء والازدراء، وتدل على ضيق الأفق، والتعصب الأعمى، والنزعة المناهضة للتقدم وانتشار العلم، والنزعة الطائفية. ويؤكد أن ذلك كان سبباً في شعور الناس في الغرب بالحساسية والنفور إزاء المسمين بهذا الاسم. ونظراً لهذه الخلفية عن مصطلح الأصولية يكره الأصوليون النصارى أن يطلق عليهم، ويفضلون أن يسموا بأحد هذين الاسمين: (الإنجيليين) أو (الإنجيليين المحافظين) وهذا ما ينفي صحته كثير من الباحثين الغربيين، يقول أحدهم: إن مصطلح (الأصولية) هو التعريف المعتاد والمتداول عموماً في اللغة الإنجليزية للظاهرة التي نحن بصددها.

نشأة الأصولية النصرانية وانتقالها إلى البلاد الإسلامية

نشأة الأصولية النصرانية وانتقالها إلى البلاد الإسلامية نشأت الأصولية النصرانية في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث عقدت حلقات ومؤتمرات للبروتستانت المحافظين، وفي أحد المؤتمرات -وهو مؤتمر (نياجرا) - في سنة (1995م) ميلادية أعلنت أسس الحركة الأصولية، ولكن الكنائس البروتستانتية انشقت في أوائل القرن العشرين فصار أتباعها فريقين: الأصوليين، والعصرانيين، ثم في الفترة ما بين (1901م) إلى (1915م) نشر الأصوليون في أمريكا عدة كتابات بعنوان: (الأصوليات) واستعملت فيها عبارة (الأصوليين) للدلالة على العناصر المتمسكة بالتعاليم التقليدية، والأفكار المستوحاة من النصوص الإنجيلية، والاعتقاد بألوهية عيسى عليه السلام وعذرية ميلاده، وغير ذلك من الأفكار، واستطاعت هذه الجماعة استمالة أكثر من خمسين ألف شخص في بدايتها. ثم انتقل مصطلح الأصولية إلى البلاد الإسلامية، حيث نقل الغربيون هذا المصطلح ووصفوا به طائفة من المسلمين، وهذا تقريباً من سنة (1395هـ) أو (1975م) حيث دخلت هذه الفترة بأحداث كثيرة منسوبة إلى من يعلنون الإسلام ويدعون إليه، واندلعت بعد هذه الفترة بسنوات الثورة المسماة بـ (الإيرانية) ووقعت -خاصة في المنظمات الشيعية في لبنان- أحداث كثيرة، وحصل من كثير من بعض المنظمات بعض الأشياء التي فيها تهديد لمصالح الغربيين، وبدأت هذه المذاهب أو هذه الجماعات تلتفت للمجتمع الغربي، وذلك لما بدأ الصدام مباشرة وبعض العمليات التي نفذت ضد الغربيين. يقول رجل يدعى دكتور فثري كرايان: إن إطلاق اسم الأصوليين على العديد من الناس قد أصبح شائعاً في الكتابات السياسية والصحفية في السنوات الأخيرة. ومع نهاية عام (1980م) التي هي حوالي (1400هـ) أو (1401هـ) كانت الصحف الأمريكية تنشر الكثير عما نسميه بالمد الأصولي، كما أن هذه الفترة شهدت تنامي الصحوة الإسلامية وظهور المظاهر الإسلامية كالحجاب واللحية والدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا كله جعل الغرب يعيش في حالة من القلق، إلى درجة دفعت ببعض الباحثين إلى وصفها بأنها حالة مرضية. كما أن مصطلح (التطرف) -وهو مقابل في الاستعمال لكلمة (الأصولية) - استعمل أول ما استعمل في إسرائيل عندما بدأ المسلمون يعون ذاتيتهم ويعودون للإسلام، ووعوا أن الإسلام هو مصدر العزة والنصر. وهذا ليس عليه برهان واضح، غير أن هناك دراسة وثائقية نشرت عام (1406هـ) بعنوان (عداء اليهود للحركة الإسلامية) فيها بعض ما ينشر في الصحف اليهودية وأذيع على الإذاعات الإسرائيلية، تذكر الأخبار التخوف الكبير من المتمسكين بالإسلام ووصمهم جميعاً بالتطرف، وبعض هذه الأخبار والمقالات متقدم في تاريخه، مما يشعر بأن اليهود من أوائل من استخدم مصطلح التطرف، وأنهم الذين أسسوه لتلامذتهم، ومعروف دور إذاعة لندن الخبيث في نشر مصطلح (الأصولية) ومقصودهم به كل ملتزم بالإسلام. وعلى أية حال فسواء نشره اليهود أم غيرهم فمن المؤكد أن انتقال هذا المصطلح إنما كان عبر الإعلام الغربي الذي يتحدث عما أسماه. ظاهرة الأصولية الإسلامية، متأثراً في تسميته هذه بالخلفية الموجودة عند الغربيين عن ظاهرة الأصولية النصرانية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

كشف مؤامرة تحريم النقاب [1]

كشف مؤامرة تحريم النقاب [1] ظهرت في الآونة الأخيرة فتاوى جريئة على أحكام الله تعالى، سالت بها أقلام مأجورة، وكتبتها أيادٍ مطمورة، ونشرتها صحف مأزورة، وهذا في زمن غاب فيه أهل العلم حيناً، وفُقدوا عن تبصير الأمة أحياناً، وهذا ما فتح الباب للمبتدعة والنعّاق لينثروا ما في جعبهم من سموم، ومن تلك الفتاوى فتوى المدعو إسماعيل منصور الذي تجرأ على الله تعالى، فأفتى بتحريم النقاب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

جهل من يخرج عن أحكام الدين بدعوى الاجتهاد والتقليد

جهل من يخرج عن أحكام الدين بدعوى الاجتهاد والتقليد بسم الله الرحمن الرحيم ولي المتقين. الحمد لله رب العالمين الذي لا يهدي كيد الخائنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قاصم ظهر الماكرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين. اللهم! صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه في حال انفتاح ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (قبل الساعة سنوات خداعة يُصدّق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويُخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة). وما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا). فبقى الذين إذا يقولوا يكذبوا ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا وفي حال انفتاح ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: (سيأتي قوم يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) وفي حال غياب رءوس أهل العلم حيناً، وقعودهم عن تبصير الأمة أحياناً، وفي حال تداعي الأمم علينا من كل أُفق، إلى غير ذلك مما يعيشه المؤمنون في قالب هذه الأزمات، خصوصاً الأزمات الفكرية الغثائية الحاسة التي أفقدتهم توازنهم وزلزلت كيانهم، كل بقدر ما علّ من هذه الأسباب ونهل، فصار الدخَل، وسار الدخن، وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالاً فسيحاً لنشر بدعهم ونثرها، حتى أصبحت في كف كل لاقط، فامتدت من المبتدعة الأعناق، وظهر الزيغ، وعاثوا في الأرض الفساد، وتجارت الأهواء بأقوام بعد أقوام، إلى غير ذلك من الويلات التي يتقلب المسلمون في حرارتها، ويتجرعون مرارتها، إذا بسرب من المبتدعة يحاولون اقتحام العقبة لتكثيف الأمية الدينية وزيادة غربة الإسلام بين أهله، وهذا ممن يدعي العلم، وهو عارٍ عنه، وقد تزّيا بزيّ أهله، وراج سوقه على بعض العوام بما يلفقه من الأكاذيب والأوهام، ورأى حينما خاطب هؤلاء الأغمار الرعاع أنه لا معارض له من أولئك، كما يتكلم المتكلم بين المقابر بما شاء من الكلام، حتى تخيل بذلك أنه من العلماء الأعلام، ولو بقيت بدعته حديثة الأدراج أو الأوراق لهان الأمر، ولكان من الخطأ الرد عليها وتنبيه المسلمين إليها؛ لأنه إشهار لفكرة تكون قد ماتت في مهدها، ولفت لأنظار المسلمين لينظروا في بيتها. ادعى هذا الرجل دعوى لو قالها قائل لـ عمر لهاجت سِرَتُه، ولبادرت بالجواب درّته، دعوى لا تقوم على قدمي الحق، ولا على قدمي باطل وحق، دعوى لا تستحق النظر فيها فضلاً عن الاشتغال بالرد عليها، ولكن لأن لكل ساقطة لاقطة، ولأن له صديقاً حميماً أشرف في نصرة بدعته، وفتح له باب جريدته، ونشر فيها إفكه وضلالاته كان السكوت على مثل هذه الضلالة يعرض كثيراً من الأبرياء للانزلاق من ورائه والتأثر بأباطيله، فهذا كله أوجب الرد عليه، والكشف عن افتراءاته؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] وفي ذلك -أيضاً- فائدة للباهت المفتري نفسه، وهي احتمال أن يعود إلى رشده، وأيضاً- التقليل من أوزاره من جراء تقليل عدد المتورطين المضللين به، الذين سوف يحمل أوزارهم فوق أوزاره كما قال عز وجل: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]. وقال عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]. وهناك كثير من الإخوة يرون أن مثل هذه الردود ينبغي أن توجّه جلساتها لنواحٍ علمية مجردة عن النقاش والأخذ والرد، مع أن غالب هؤلاء قد يلتبس عليهم الأمر نتيجة نشاط هؤلاء المبتدعة وإفساح وسائل الإعلام لهم، فلا يتبينون حقيقة ما اختلف فيه الناس فضلاً عن التمسك به والدعوة إليه، ومع ذلك كنا نتمنى أن لا نضيع الوقت في ذكر هذا، ولكن كثيراً ما تجري الرياح بما لا يشتهي الملاح. أساء المبتدع وافترى، ونال من أخواتنا المحجبات ومن حجابهن، بل وصل الأمر إلى رميهن بالفاحشة، فعلى الأقل علينا أن ننتصر لهؤلاء الأخوات امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل امرأً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال، وليس بخارج) وردغة الخبال -كما في بعض الروايات المفسرة- هي عصارة -أو عرق- أهل النار. فردع المبتدع بالبيان واجب، خاصة أنه يتسلم مقام الاجتهاد والتجديد، حيث يدعي أنه مجتهد ومجدد، وبالتالي لا نأمل في أن ينفتح من الشر ما هو أكثر من ذلك، نعم تكون هذه الفقرات يجتمع بعضها إلى بعض فتسبب سيلاً من البدع والضلالات التي قد تتفتح عنها عبقريته، فردعه عن بدعته بالبيان واجب؛ حتى لا تتوالى الخطرات التي يزخرفها بدعوى الاجتهاد والتجديد، فتكون سيلاً على توالي الغفلات. ولا نشك في أنه لو كان هناك سلطان شرعي يزع الله عز وجل به ما لا يزع بالقرآن لما كان لمثل هذا جزاء إلا التعزير والتأديب والحجر عليه، ومنعه من الكلام في الدين استصلاحاً للديانة وأحوال الجماعة؛ لأن الحجر على هؤلاء الجهال ألزم وأوجب من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان، والمبتدع إذا هُجر وزُجر بات كالثعلب في جحره، أما ترك تحسيسه ببدعته فهذا تزكية وتنشيط له وتغرير بالعامة؛ لأن العامي مشتق وصفه من العمى، فهو ينقاد لمن يقوده. لقد تجانف هذا المبتدع للعدوان والإثم، وجمع من الترّهات ما يمج سماعه أولو الألباب السليمة والعقول المستقيمة، وسمّى أوراقه بـ (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب). واشتملت هذه الصفحات الكاذبة الخاطئة على ألفاظ مبتدعة، وإشارات مخترعة، وأقوال مختلقة، ليست من أقوال أهل الإسلام، بل لم يقل بها أحد من الأئمة الأعلام، وإنما هي من أوضاع الصحافيين والمسمين بالمفسرين اللئام. استتر -كما تعودنا من أمثاله- وراء دعوى الاجتهاد، فهو يقول عن نفسه بأنه حصل أكثر أسباب الاجتهاد، وبأنه يجدد للأمة أمر دينها! هذا كما هو في كتابه باللفظ. وفي الحقيقة أن أخطر أمرين في هذا الزمان -ونحن في نفس الوقت أحوج الناس إليهما- التجديد والاجتهاد، تجديد الدين، وفتح باب الاجتهاد لأهله، وهاتان النافذتان في نفس الوقت هما أخطر النوافذ لغزو الإسلام وإفساد أهله؛ لأننا نرى كل من أراد أن يخترع شيئاً في الدين ويخرج على قواعد أهل العلم يحتمي وراء هاتين الدعوتين: التجديد والاجتهاد. فهذا الترابي -مثلاً- في السودان من خلال نافذة التجديد والاجتهاد يخرج على الأمة بآراء وبدع وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، فيدعو إلى إسقاط حد الردّة عن المرتد، وإلغاء حد شارب الخمر، وإباحة زواج المسلمة من الكافر اليهودي أو النصراني، إلى غير ذلك من الدعاوى الواسعة بدعوى الاجتهاد وبدعوى التجديد. فهذه الدعوى ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب؛ لأنها دعوة لهدم الإسلام والتفلّت من أحكامه ونظمه، والثورة على تراثنا الفقهي، لكن بدون مواجهة التيار الإسلامي مباشرة ومعاداته، وإنما بالمشي معه تحت ستار الإسلام، لكن بلبوس جديد، هؤلاء -حقاً- هم قطاع الطريق على هذه الأمة في سيرها إلى الله تبارك وتعالى على الصراط المستقيم، فالله طليبهم وهو حسيبهم. كان الأولى -إن كان هذا الرجل مخلصاً للإسلام وأهله- أن يتقي الله في شتات الأمة وغرس الشقاق في أنفسهم ونشر البلبلة وقد تكسرت الرماح عليهم من كل جانب، فإذا به يختار ميداناً محبباً لأعداء الصحوة الإسلامية والكائدين لرجالها ونسائها، ولذا طار به أهل الفتن والأهواء، ثم إن أجواء العصر الذي نعيشه على أهبة الاستعداد لاحتضان عالم الشقاق، فتحمل له العَلَم الخفاق لنشر صيته في الآفاق، فيغتر بذلك أثيرُ الحظ الزائل، وما زاد الأنصار بوقاً ينفح به العدو الصائل. أثارت هذه البدعة عاطفة من الاستحسان والإعجاب في دوائر يتفق الجميع على الريبة في كل ما تستحسن، والشك في كل ما تصفق له وتهلل، كما قيل: قل لي من يصفق لك أقل لك من أنت. وصارت مقالاته تكأة لاستعداء الأعداء على حكم الله الشرعي في هذه القضية، فمن اعتاد على تبسيط ما لا يمكن تبسيطه سوف يكون من الصعب عليه إدراك خطر هذه الدعوة إلى السفور باعتباره واجباً شرعياً، الأمر الذي لم يجرؤ عليه حتى قاسم أمين في ذروة ضلاله، حيث لم يتجرأ على هذه الدعوى العريضة الواسعة من أن النقاب محرم، وأن المنقبة مجرمة وآثمة، وتستحق النار، وأن المتبرجة أقرب إلى الله وأقرب إلى سواء السبيل، لم يجرؤ أحد على الإطلاق من قبل أن يتفوه بمثل هذه الدعوى، وما من شك أن فتح هذا الباب من جديد هو محاولة لإحداث نكسة في الصحوة الإسلامية حتى ترجع إلى الوراء خطوات وخطوات. فنستعين الله تبارك وتعالى في كشف بدعة هذا الرجل، وإن كنت لست أهلاً لذلك، لكن الضرورة قد تُلجئ الإنسان إلى التيمم إذا لم يجد الماء، كما يقول أبو علي البصير: لعمر أبيك ما نُسب المعلّى إلى كرمٍ وفي الدنيا كريمُ ولكن البلاد إذا اقشعرّت وصوّح نبتها رُعي الهشيمُ

كشف المبتدع ومشروعية الرد عليه إذا أظهر بدعته

كشف المبتدع ومشروعية الرد عليه إذا أظهر بدعته قال بعض العلماء: القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلّمٍ ومُعّرّفٍ ومُحذّرِ ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومَن طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يكره التصدي لمجادلة المبتدعين، وقد حكى عنه الغزالي في كتابه المسمى: (المنقذ) أنه أنكر على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض. فقال أحمد: نعم، ولكن حكيتَ شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يُؤمَن أن يطالع الشبهة من تَعْلق بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه. قال الغزالي: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية. نقول قبل أن ندخل إلى الموضوع: إن صاحب الحق المتفهم لحقه، والمحيط بأطرافه لا يبالي بالمخالفين وإن كثروا أو ضخُمت ألقابهم، ولا يبالي بكل ما يولدون من شبهات وإن بدت كبيرة قوية، ولا يجعل مناط الحق بمركز ولا لقب ولا شهرة؛ لأنه يعلم أن من سنن الله في الاجتماع وفي الكون أنه عز وجل يسلّط الأضداد بعضها على بعض، فيسلط الباطل على الحق، والضلالة على الهدى، والخطأ على الصواب، والجاهل على العالم، والسفيه على الحليم، والأحمق على الكريم، إن هذه ضرورة اجتماعية تخلّص الحق من شوائب الباطل، والصواب من متاهات الأخطاء، فيمتاز الحق بأهله، والباطل بأهله، مثل تلك الضرورة الكونية التي يسلط الله فيها الليل على النهار ليخرج الفجر ناصعاً من سواد الليل. إن من المكابرة والعناد أن تقول بخلاف ما أجمع عليه أهل العلم بعد ثبوت ذلك بالسنة الصحيحة ومشاهدة إقرار أئمة الأمة وصلحائها وأفاضلها في كل زمان ومكان من عهد نزول الوحي إلى اليوم، وإن إنكار هذا الجاهل المبتدع لأمر مُجْمَع على مشروعيته لا قيمة له، وليس من المعقول أن يُكذب الصحابة والسلف ويُصدق هذا الفاذ الشاذ عن الجماعة، ثم إنك إذا نظرت في كلامه ترى أنه قضى -تقريباً- نصف الكتاب في مدح نفسه، والثناء على منهجه، وفي الكلام عن الأدلة، حتى أوهم الناس أنه على شيء من العلم أو أنه يحترم الأدلة، وهو أكثر ما يكون بعداً عن الأدلة، وكذلك في حواره الآن على صفحات الجريدة يكثر من الكلام في العمومات ويختبئ وراءها، فيذكر الأدلة العامة؛ لأنه ليس عنده قضية محددة ولا دليل محدد، ويتكلم عن احترام العلماء وأهمية العلم، وتسفيه الجهلاء، ويقول: لا نأخذ الحق من الرجال. ثم يصول ويفتي ويعيد وكأنه على حق، حتى يغطي ضلاله وباطله وبدعته. ونقول: نعم الحق لا يُعرف بالرجال، لكن نقول في نفس الوقت -كما قال الشاطبي رحمه الله تعالى-: إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق -أيضاً- لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاّء عليه. ويقول بعض العلماء: الانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل أحد فيه ينبئان عن خلل في العقل. وعن زفر بن الهذيل أنه قال: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يُجنّ. قالوا: كيف ذلك؟! قال: يقول بما لم يقل به أحد. أي: أن يقول الإنسان بما لم يقله أحد قبله من أهل العلم. وأرى من الواجب الديني أن أوصيه إن كانت فيه مسكة من العقل وبقية صالحة للتعقل أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه. وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريدِ والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة. ويقول أبو عمرو بن العلاء البصري -وهو أحد القراء السبعة-: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال. ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قلّما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة. وهذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله ورضي عن أبيه وجدّه يقول: ليس ما لا يعرف من العلم، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن. ويقول إبراهيم بن أبي عبلة رحمه الله: من حمل شاذّ العلم حمل شراً كثيراً. ويقول الحافظ ابن حجر: إذا تكلم المرء في غير فنّه أتى بهذه العجائب. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة -شيخ الإمام مالك - فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه. فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم. ثم قال ربيعة: ولبعض من يُفتي هاهنا أحق بالحبس من السّرّاق. أي: أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص. وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدُّخَلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويقدّرون أنهم يُصلحون. وقال القاسم بن محمد: لأنْ يعيش الرجل جاهلاً خير من أن يقول على الله ما لا يعلم. وقال الأمير شكيب أرسلان: ومن أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص، والذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط. لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون. وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.

كشف مؤامرة تحريم النقاب [2]

كشف مؤامرة تحريم النقاب [2] إن من المتفق عليه بين الصحابة أجمعين، وبين جميع علماء الدين، أن النقاب مشروع بأمر رب العالمين، ولم يؤثر عن أحد من علماء الدين -لا من الفقهاء ولا من المحدثين- أنه صرح بكراهته فضلاً عن القول بتحريمه. ومن قال بالتحريم فقد أسقط نفسه من منزلة التكريم، واتبع الظن والتوهم؛ إذ إنه جاء الأمة الإسلامية بما لم تعهده ولم تسمع به، فظن أنه قد أتى بما لم تستطعه الأوائل، ولم يعلم بأنه من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

مؤامرة تحريم النقاب والرد عليها

مؤامرة تحريم النقاب والرد عليها قال بعض العلماء: القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلّمٍ ومُعّرّفٍ ومُحذّرِ ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومَن طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يكره التصدي لمجادلة المبتدعين، وقد حكى عنه الغزالي في كتابه المسمى: (المنقذ) أنه أنكر على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض. فقال أحمد: نعم، ولكن حكيتَ شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يُؤمَن أن يطالع الشبهة من تَعْلق بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه. قال الغزالي: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية. نقول قبل أن ندخل إلى الموضوع: إن صاحب الحق المتفهم لحقه، والمحيط بأطرافه لا يبالي بالمخالفين وإن كثروا أو ضخُمت ألقابهم، ولا يبالي بكل ما يولدون من شبهات وإن بدت كبيرة قوية، ولا يجعل مناط الحق بمركز ولا لقب ولا شهرة؛ لأنه يعلم أن من سنن الله في الاجتماع وفي الكون أنه عز وجل يسلّط الأضداد بعضها على بعض، فيسلط الباطل على الحق، والضلالة على الهدى، والخطأ على الصواب، والجاهل على العالم، والسفيه على الحليم، والأحمق على الكريم، إن هذه ضرورة اجتماعية تخلّص الحق من شوائب الباطل، والصواب من متاهات الأخطاء، فيمتاز الحق بأهله، والباطل بأهله، مثل تلك الضرورة الكونية التي يسلط الله فيها الليل على النهار ليخرج الفجر ناصعاً من سواد الليل. إن من المكابرة والعناد أن تقول بخلاف ما أجمع عليه أهل العلم بعد ثبوت ذلك بالسنة الصحيحة ومشاهدة إقرار أئمة الأمة وصلحائها وأفاضلها في كل زمان ومكان من عهد نزول الوحي إلى اليوم، وإن إنكار هذا الجاهل المبتدع لأمر مُجْمَع على مشروعيته لا قيمة له، وليس من المعقول أن يُكذب الصحابة والسلف ويُصدق هذا الفاذ الشاذ عن الجماعة، ثم إنك إذا نظرت في كلامه ترى أنه قضى -تقريباً- نصف الكتاب في مدح نفسه، والثناء على منهجه، وفي الكلام عن الأدلة، حتى أوهم الناس أنه على شيء من العلم أو أنه يحترم الأدلة، وهو أكثر ما يكون بعداً عن الأدلة، وكذلك في حواره الآن على صفحات الجريدة يكثر من الكلام في العمومات ويختبئ وراءها، فيذكر الأدلة العامة؛ لأنه ليس عنده قضية محددة ولا دليل محدد، ويتكلم عن احترام العلماء وأهمية العلم، وتسفيه الجهلاء، ويقول: لا نأخذ الحق من الرجال. ثم يصول ويفتي ويعيد وكأنه على حق، حتى يغطي ضلاله وباطله وبدعته. ونقول: نعم الحق لا يُعرف بالرجال، لكن نقول في نفس الوقت -كما قال الشاطبي رحمه الله تعالى-: إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق -أيضاً- لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاّء عليه. ويقول بعض العلماء: الانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل أحد فيه ينبئان عن خلل في العقل. وعن زفر بن الهذيل أنه قال: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يُجنّ. قالوا: كيف ذلك؟! قال: يقول بما لم يقل به أحد. أي: أن يقول الإنسان بما لم يقله أحد قبله من أهل العلم. وأرى من الواجب الديني أن أوصيه إن كانت فيه مسكة من العقل وبقية صالحة للتعقل أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه. وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريدِ والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة. ويقول أبو عمرو بن العلاء البصري -وهو أحد القراء السبعة-: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال. ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قلّما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة. وهذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله ورضي عن أبيه وجدّه يقول: ليس ما لا يعرف من العلم، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن. ويقول إبراهيم بن أبي عبلة رحمه الله: من حمل شاذّ العلم حمل شراً كثيراً. ويقول الحافظ ابن حجر: إذا تكلم المرء في غير فنّه أتى بهذه العجائب. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة -شيخ الإمام مالك - فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه. فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم. ثم قال ربيعة: ولبعض من يُفتي هاهنا أحق بالحبس من السّرّاق. أي: أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص. وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدُّخَلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويقدّرون أنهم يُصلحون. وقال القاسم بن محمد: لأنْ يعيش الرجل جاهلاً خير من أن يقول على الله ما لا يعلم. وقال الأمير شكيب أرسلان: ومن أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص، والذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط. لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون. وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.

عدوان إسماعيل منصور في جريدة النور وجراءته على القول على الله بغير علم

عدوان إسماعيل منصور في جريدة النور وجراءته على القول على الله بغير علم في أول شعبان سنة 1409من الهجرة نظم الحمزة دعبس -صاحب جريدة النور- تظاهرة إعلامية، وفجر هذه القنبلة في ساحة الفكر، وبدأها بقوله: وددت لو أن العاملين في الحقل الإسلامي لا يُقدِمون على عمل من الأعمال في الحياة العامة -في مصر وغيرها- قبل أن يبحثوا عن هذا العمل في الكتاب والسنة، ولا يجوز لواحد منهم أن يتقدم خطوة واحدة في تنفيذه قبل ذلك، فإن وجد هذه الخطوة في كتاب الله أو في السنة المشرفة أو فيهما معاً خَطَاها، وإن لم يجد هذه الخطوة فيهما فلا يخطوها، وفوق ذلك فإن القرآن والسنة ليسا من الكلأ المباح يبيحه لنفسه كل واحد من الناس، ولكن ذلك مقصور على أهل العلم والفقه؛ لأنهم يملكون وسائل المعرفة فيقدمون، وأما غيرهم فلا يملكونها، ولا يجوز لهم من ثَمّ أن يقتحموها، ومن يفعل ذلك وهو لا يملك هذه الوسائل فقد ظلم نفسه، وعرّض نفسه ومن يتبعه للهلكة. ثم أخذ يتكلم على مشكلة النقاب، وأنها أخذت حجماً متزايداً في الحقل الإسلامي في الآونة الأخيرة، حتى بلغ أمرها ساحات المحاكم، وأدت إلى كثير من الاضطرابات، واختلف الناس في حكم النقاب، ثم ذكر في خلاصة الكلام أنه طول عمره يعلم أن النقاب إما واجب أو مستحب، ثم قال: وقد زارني أخي في الله الذي أحبه في الله -وكان الأَولى أن يبغضه في الله لبدعته وضلاله- الدكتور إسماعيل منصور رئيس تخصصات الطب الشرعي والسموم. كأنه ظن أن كلمة طب شرعي تعني أنه درس علماً شرعياً، فما هي مؤهلاته التي بهرته وجعلته -ما بين طرفة عين وانتباهتها- ينقلب رأساً على عقب، فيرى الواجب حراماً! لمجرد أنه عَلِمَ أنه يرأس تخصصات الطب الشرعي والسموم؟! نعم! يحق له أن يباهي بهذه الشهادة ويتيه بها على أقرانه في كليات الطب البيطري، وإن كانت الشهادة الأخرى التي هي ليسانس الآداب في الفلسفة فليفتخر بها في كلية الآداب في قسم الفلسفة، ثم الشهادة الأخرى -وهي شهادة مجروحة في الحقيقة- دراسات في القانون، حيث إنه حاصل على رسالة الحقوق من جامعة القاهرة، وله دراسة في قسم الدكتوراة في هيئة القانون العام، وهذه ليفتخر بها في ساحات المحاكم التي تحكم بغير ما أنزل الله أو في كليات الحقوق. لكن حتى الآن ليس هناك أي شيء يشهد له بأن له أن يتكلم في العلم الشرعي بهذه الطريقة الجريئة، مع أننا لسنا نقول: لا يتكلم في الشرع إلا من كان معه شهادات، فإن تكلم بحق فأهلاً به ومرحباً، ولكن -وحتى الآن- كل هذا لا يفيدنا بشيء. ثم قال: ولم يكتف بذلك -يعني: لم يكتفِ بالطب الشرعي البيطري، والطب الشرعي والسموم، والحقوق، والآداب (الفلسفة) - حتى حصل على إجازة في تجويد القرآن، ثم راح ينفق علمه هذا بلا مقابل في الدعوة الإسلامية -وظل يمدحه في نشاطه في الدعوة، ثم يقول: وأنا لا أزكيه على الله!

تحريم إسماعيل منصور للنقاب واختيار عنوان البحث

تحريم إسماعيل منصور للنقاب واختيار عنوان البحث ثم قال: وقد سعدت بزيارته سعادة بالغة؛ إذ لا يتحدث في أي مسألة من مسائل الدنيا والآخرة إلا رد أقواله رداً أصولياً إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع أن الكتاب لا توجد فيه صفحة واحدة فيها عزو لأحد من أهل العلم، ولو فتحت أي صفحة لا تجد فيها أي عزو في الهوامش إلى أي مصدر من المصادر التي ينقل منها، وبهذا يتبين أن الرجل لا يعرف شيئاً اسمه التأصيل العلمي. ثم قال: ويحدثك عن صحة الحديث أو حسنه أو ضعفه، ويملك عليك شوارد حسك، فإذا استفهمت أجاب ودلل على كل كلمة في إجابته، وذلك هو النمط الذي يجب أن يكون في مجال العمل الإسلامي، لا يركن إلى سقاطيف من كتب، ويدعي بها علماً. ثم يقول: زارني الدكتور إسماعيل منصور، وتبادلنا أطراف الحديث، وفوجئت بحكم جديد علي في النقاب إذ قال لي: إن حكم النقاب (حرام!!) وقد دهشت لهذا الحكم؛ فإني لم أسمعه من قبل، بل سمعت ما يناقضه، وقال لي: إنه اهتم بهذا الأمر اهتماماً بالغاً، وأعدّ حوله بحثاً، ورجوته رجاء حاراً أن يوافيني بهذا البحث، وفي الأسبوع الماضي أنجز وعده، وأحضر بحثاً مستفيضاً، وقعد يعرض البحث باختصار، وأعلن الدكتور إسماعيل منصور أن توجيه الأحكام الشرعية بدعوى الحماس أمر خطير في الدين؛ لأنه يفضي إلى القضاء على شرف هذه الأمة التي ما قامت إلا على الدليل والبرهان. ويظل يسرد ويبدئ ويعيد كلاماً في الأدلة والبرهان، واتباع الكتاب والسنة، ونقض من يحيد عنهما، وعادته في ذلك التهويش والتهويل؛ ليطلق هذه النصوص كستار من دخان يختبئ الزحف من ورائه. يقول: وانتهى إلى أن وجه المرأة ليس بعورة بأدلة من القرآن كأننا نسمعها لأول مرة. هذا ذنبك أنت أيها الصحفي؛ كونك في مثل هذا الموقع الحساس -مسئول عن جريدة- إذ كان ينبغي أن تعرض مثل هذا البحث على أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم، فإذا كان صالحاً نشرته، وإلا فلا تفعل. يقول: فقلت للدكتور إسماعيل منصور: وإلامَ انتهيت في هذا البحث؟ قال: إنه ليس واجباً ولا مندوباً ولا مباحاً وإنما هو تكلف وحرام!! فقلت له: إن نشر هذا البحث على أجزاء يقتضي وقتاً طويلاً. وفتح له باباً من أبواب الجريدة فوراً، وفي طرفة عين تحول الواجب الذي يعتقده واجباً أو مستحباً إلى حرام، وسمح له بالنشر فوراً! لو أتاك رجل لبس الحق بالباطل، وبحث وفق الأدلة -كما يزعمون- وأفتى بوجوب شرب الخمر، ووضع بحثاً له عنوان، بحيث يكون العنوان جميل ومسجوع مثل (إيضاح الأمر في وجوب شرب الخمر) هل تقول له: أنا أول مرة أسمع هذه الفتوى. ثم تنشر له البحث فوراً، وتجعله باباً ثابتاً تفرضه على القراء لمدة تسعة أو عشرة أشهر؟!! ما أسوأ ظن هذا الصحفي بعقول القراء!! هل كل الناس مغفلين هكذا؟! قد تستطيع خداع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، لكن أن تخدع كل الناس كل الوقت فلن يستطيع أن يفعل هذا أحد. فإذاً: هذه المسألة ما هي إلا قنبلة إعلامية فجّرت حتى تنفق الجريدة أكثر، أو حتى تلهي الناس عن واقعهم الأليم، وإلا فماذا؟!! يقول: فقلت له: ويحسن أن نختار له عنواناً. ليست المشكلة في الصحف الآن أن تبحث كيف صار الواجب حراماً؟! لكن المشكلة عندهم الآن: ما هو أنسب عنوان لهذا البحث القيم؟! يقول: واقترحتُ أن نطلق على هذا الباب اسم: تأثيم وعقاب من تتكلف النقاب. انظر إلى صحبة السوء التي كانت تجتمع في هذا الوقت وتتآمر لاختيار عنوان للبحث، وهؤلاء هم الأُمناء جداً!! وجعلوا عنواناً بخط عريض في الجريدة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب!!) ولأن مستوى البحث في بعض الأشياء يصعب على عوام الناس هضمه، فيكفي أنك تظل لمدة عشرة أشهر تنشر عنواناً عريضاً في الجريدة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) وهذا التكرار أسلوب من أساليب الصحافة المغرضة، وهي قاعدة: (ما تكرر تقرر) فكثرة التكرار يحفّظ الجماهير والعوام هذه العناوين. تمشي الآن الأخوات المنقبات في بعض الأماكن، فيراهن العوام الجهلة -لأنهم بيد من يقودهم- فإذا بهم يعيّرون الأخوات وينكرون عليهن، ويقولون: النقاب هذا حرام!! الآن العوام يُفتون في الشوارع؛ بسبب هذا المبتدع، وبعض الخطباء الجهلة انبهر أيضاً بالكلام، وخصص خطب الجمعة لمهاجمة النقاب! سبحان الله ما أشد غربة الإسلام في أهله!! وأول عنوان كانوا قد اختاروه لهذا البحث: (تأثيم وعقاب من تتكلف النقاب) فاعترض أحدهم قائلاً: حتى من ارتدته بغير تكلف فهي آثمة! فاختار صديق أن يكون اسمه: (النقاب تكلف معاب يستوجب الإثم والعقاب!!) فقلت -أي: الصحفي-: إن كلمة معاب فيها تكلف واصطناع، فذكر ثالث عنوان: (القول بتعميم النقاب تكلف يستوجب العقاب) فقال الدكتور إسماعيل منصور: هذا تأثيم لمن يقول بذلك، وهو حق! غير أن البحث متوجه لاتخاذ النقاب رداءً. فهتف الأخير: وجدتها! وانتبهنا إليه، فقال: (القول في النقاب أن من تركه يثاب) فقلت: إن هذا يصح في الحرام والمكروه، وقد انتهى الدكتور إسماعيل منصور إلى أنه حرام. قلتُ: إذاً نسميه: (حكم النقاب في الإسلام أن ارتداءه حرام) قال: نقترح غيرها ونوازن بينها. فقال صديقنا: (فصل الخطاب بتحريم النقاب) فقال الدكتور إسماعيل منصور: أنا رأيي صحيح! ولكنه يحتمل الخطأ -مع أنه يرى أن رأيه لا يحتمل الخطأ كما سيأتي- ولذا فلا أسميه فصل الخطاب. كأنه يريد هنا أن يتشبه بالأئمة في تورعهم عن الفتيا بغير علم. فقال: لو أطلقنا عليه: (إرشاد الأصحاب إلى تحريم النقاب) أو: (تبصير الأصحاب في تحريم النقاب) ثم رجع إلى نفسه وقال: ولكن الإرشاد والتبصير قد يكون فيه نوع من الاستعلاء، وأعوذ بالله منه!! ثم قال: لو أطلقنا عليه: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) لكان أجدر؛ لأننا أُمرنا بالتذكير في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] وانشرحت صدورنا لهذا التعبير، واتخذناه عنواناً لهذه السلسلة من المقالات الشيقة التي فيها من العلم الكثير، وفيها من الفائدة ما هو غزير، وأمتع ما في هذه السلسلة هو طريقة البحث، والمثابرة على الحق! والوقوف في وجه الموجة وإن كانت عالية، وفي مقابلة القوة وإن كانت عاتية، وعدم الخوف من الاتهام بالخروج على المألوف، ومن بعض الأشخاص الذين رفعوا أنفسهم أو رفعهم الناس إلى مرتبة التخويف، واعتبار كلامهم بمنزلة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خيانة صاحب الجريدة وعبثه بالرسائل التي ردت على إسماعيل منصور

خيانة صاحب الجريدة وعبثه بالرسائل التي ردت على إسماعيل منصور يقول الحمزة دعبس: فقلت له: أنا سأنشر الردود التي تردّ عليك كلها. فقال لي: هذا حق مصون، وأنا أرحّب بها كل الترحيب، ولكن أجّلها إلى نهاية المقالات. ومن المعلوم أن أي جريدة -غالباً- حينما تنقل بعض المقالات تقول: المقالات أو الآراء المنشورة في هذه المجلة على مسئولية أصحابها، والجريدة غير مسئولة عنها. حتى لو كانت حقاً واضحاً، فكيف بمثل هذه الفرية وهذه البدعة والضلالة؟! وأنت أيها الصحفي انحزت بكل قوة إلى هذا الرأي الذي لم يسبق لك دراسته، ثم لم تعرضه على أهل العلم قبل أن تنشره، ثم فرضته بالقوة أيضاً خلال عشرة أشهر أو ما يقارب ذلك فرضاً، وحجبت كل الردود التي وصلت إليك، هل هذا السلوك فيه تجرد وفيه إنصاف أم لأنك أنت في يدك المحبس تتحكم كما تشاء وكما تهوى؟! أهذه هي الأمانة؟! ومن العدل أن كل ما تنشره من مقالات، فعليك أن تنشر الردود عليها أو تعرضها على العلماء ليقولوا قولتهم، أما أنك تنشر خلال هذه المدة الطويلة، وتحفّظ الناس: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) لتتخذ من أساليب الصحافة المغرضة وسيلة لزعزعة هذا الحكم الشرعي فحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم بعد أن انتهت المقالات، لم ينشر الرجل رداً واحداً من الردود التي وصلت، وأخفى الردود، وإذا بأحداث العراق والكويت تفجر القضية من جديد، وحوار مع الأصحاب حول موضوع تحريم النقاب، ومن جديد يفجّر القضية، وينشر صورة قبيحة لامرأة محجبة لتشويه الحجاب، وهذا المسلك السيئ لا يسلكه المنصفون أو أهل العلم والفضل، إنما يسلكه الصحفيون في وسائلهم للتشنيع على الأخوات أو على المسلمين عموماً في طريقة النشر لتلك الصور التي تثير الاستفزاز، حيث إن فيها نوعاً من التنفير من صورة المنقبات، وهذا من أساليب الصحافة المغرضة. وهذا الحمزة دعبس كان قد أخذ على نفسه العهد بعد العهد أنه سينشر الردود حتى يسكت الأصوات المعارضة، فإذا به فجأة يحيل جميع الردود التي وصلته إلى الخصم ليكون هو القاضي! ويقول له: نريد أن ترد على هذا الكلام الذي وصلنا. انظر إلى هذا التمادي في الظلم والتجنيّ، فبعد كل هذا العدوان يعطيه في الأخير جميع الردود ويعرضها من وجهة نظره هو، ثم يقوم الدكتور بالبتر والتحريف للكلام، ويخفي ما يمكن أن يدينه أو يهز صورته. كانت أول مقالة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) في أول شعبان عام (1409) هجرية كما ذكرنا، وفي الأسبوع المقبل بعدها مباشرة كتب الحمزة يقول: اعتذار: قدمنا في العدد الماضي سلسلة من المقالات للدكتور: إسماعيل منصور في التذكير بتحريم النقاب، وقد اتصل بي العديد من الزملاء والأصدقاء، وأسدوا إلي نصيحة بعدم نشر هذه السلسلة؛ لأن النقاب في مصر من الندرة الشديدة بمكان، فلا تكاد المنقبات يمثّلن شيئاً يُذكر، أو نسبة يُعتّد بها في المجتمع المصري. وهذا كلام تشم منه رائحة الازدراء والاحتقار. ثم يقول: هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: فإن العمل الإسلامي يعاني من الفض على بعض أعضائه الذين يتعرضون للتعذيب، وهم في صدام مع الشرطة وغيرها، ولسنا بحاجة إلى أن نحملهم هموم جديدة، تتوالى عليهم من الأصحاب، وتكفيهم شرور السلطة، وتسلط الشرطة، وهجوم الكُتّاب العلمانين من النصارى والشيوعيين. فكأن هذا منه رحمة ورأفة بالعمل الإسلامي؛ لأنه يعلم أن العمل الإسلامي القائم على العلم، والأصالة، واتباع الدليل، واحترام الشرع، هم الذين يلتزمون بهذا الحكم، فهذا لا يجهله، فيقول: لا نريد أن نزيد همومهم، ويكفيهم ما لاقوا من المعاناة، ومن المحن، فلا ننضم نحن أيضاً عليهم!! يقول: وقد استمعت إلى النصيحة، وذهبت أوازن بين مزايا النشر وعيوبه، واستشرت من حولي، فأيدوا وجهة نظر الناصحين، وتدبرت حالي مليّاً، فوجدت أن حكم الإسلام واجب التبيان! وأن السكوت عنه مع العلم به قد يكون فيه عصيان! سبحان الله! يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ ولكني سمعت أصواتاً عديدة تهتف: الخلاف شر. فاكتفيت بإثبات رأي الدكتور إسماعيل منصور الذي أكنّ له كل تقدير واحترام، والذي انتهى فيه بالدليل والبرهان إلى أن النقاب تكلّف وحرام، وأذعنت للنصيحة عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم) وأنا مقدّر كل التقدير لأدلة الدكتور إسماعيل منصور وله أقدم الاعتذار. إذاً: الاعتذار موجّه إلى إسماعيل منصور!! ولم يعتذر أنه انحاز مسبقاً بكل قوة إلى هذا الرأي الباطل، ولم يعتذر عن هذه الديباجة المثيرة التي زيّن بها هذا الباطل وزخرفه، ولم يعتذر للأخوات، بل يزدري المنقبات ويحتقرهن، ويقول: هن ندرة! ولا يشكلن أي ثقل في المجتمع! إذاً: ما الذي جعلك تعدل عن هذه الحكمة وهذا التعقل؟! وما الذي جعلك تعدل عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم)؟! فهذا عذر أقبح من ذنب. وكان ينبغي ألا يوجه الاعتذار إلى ذلك المبتدع، كان ينبغي أن يعتذر إلى ملايين المسلمين الغيورين على دينهم، والذين آذاهم بما فعل، وإلى آلاف النساء المنقبات اللاتي هَمَزهن ولَمَزهن. فالشاهد: أنه هنا أبرم أمر رشد لم يلبث أن نقضه في العدد الثاني الصادر في الأسبوع الذي بعده، بحجة هي أوهن من بيت العنكبوت! ما هي الحجة؟ هي أنه قبل أن يعمل بهذه النصيحة نسي صلاة الاستخارة، فعاد وصلاها فانشرح صدره أن ينشر المقالات من جديد. هذه هي الحجة التي جعلته يبطل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم)! يقول: نسيت أن أستخير. فلما تذكر الاستخارة استخار، ورأى أنه انشرح صدره لنشر هذا النور في الآفاق!! وأنا مضطر إلى أن أتكلم عن الرد الذي أرسلتُ إليه بعد أن نشر هذا الاعتذار، باعتبار أني كنت ممن أرسلوا ردوداً، وكنت أحد ضحاياه أيضاً! فأتحدث عن ما لامسته بنفسي، ولعله إذا انضم إلى الكلام من أرسل مثلي، فقد تكون هناك طامات أكبر لم نطّلع عليها في الخيانة وعدم الأمانة في نقل كلام الآخرين، فهذه الرسالة قبل أن أتلوها عليكم قد جاءت رداً على هذا الاعتذار، قبل أن يكون إسماعيل منصور نشر حرفاً واحداً من مقالاته، بل خبأ هذه الرسالة، وفي الشهر الماضي في أواخر الشهر الماضي بدأ ينشر من جديد ويقول: إنه وصلتنا رسالة من فلان، وسوف نرد عليها. فأوهم القراء أنه ليس هناك رد إلا رسالتي هذه فقط، فأقول: أولاً: هذه الرسالة لم تكن رداً على إسماعيل منصور؛ لأنه لم يكن نشر شيئاً، بل هي رد على صاحب الجريدة، وقد كان المفروض أن ينشرها، لكنه كتمها وخبأها كما فعل مع آخرين، ثم إنني قبل موسم الحج أرسلت إليه الجزء الثالث من كتابي: (الحجاب) مع خطاب صغير، وقلت له: من صفحة كذا إلى صفحة كذا يتضمن الرد على إسماعيل منصور، فإن كنت ترى أن تنشره كما هو فلك ذلك، وإن كان طويلاً فكلِّفْني بالأمر وأنا أختصر الرد وأرسله إليك. فإذا كلفني فيكون فيه التزام ضمني بأنه لا يحرّف الكلام؛ لأنه هو الذي قال لي: اكتب، فانتظرت فلم ينشر أي شيء، ثم إنه بعد ذلك قال إسماعيل منصور في الأسابيع الأخيرة: وصَلَنا خطاب صغير من فلان، يشير فيه إلى أنه أرسل مع الرسالة مطبوعات عن الحجاب. فكأنني صوّرت له صفحات معدودة من عدة كتب، ولم يبين أن هذا ردّي الذي أرد به عليه، لكنه قال: مطبوعات عن الحجاب -حتى يوهم أنها مطبوعات قليلة- وفيه أدلة لوجوب النقاب، وتتضمن ردوداً عن المقالات السابقة بالتحريم. ثم قال بعد ذلك معلقاً على الرد الذي أرسلته إليه: ولم يأتِ رد علمي ولا غيره في نفس المقالة. وهذا لأنه قال: بعث مطبوعات. ولم يقل: بعث رداً، فقال: لم يأت رد علمي ولا غيره، وإنما أوصل رسالة ليس فيها رد علمي على الإطلاق، بل هي مليئة بالاتهام وسوء الظن. فكأن هذا هو المنهج السلفي في نقد الآراء المخالفة له، فأوهم الناس أن الذي رد عليه هو هذه الرسالة، والصحيح أن هذه الرسالة ليست رداً على إسماعيل منصور، بل كانت رداً على الحمزة دعبس، فكتمها إلى قبل أسابيع قليلة، ثم نشرها من خلال عيّنة أعطاها لـ إسماعيل منصور، حيث قال له: رُدّ على هذه الرسائل. فالمفروض إن دعبس يجعل كل طرف يمثل وجهة نظره الخاصة به إذا كان هذا مبطلاً والآخرون على حق، لكنه أوهم أن هذا هو الرد على إسماعيل منصور، وهو رد على الحمزة دعبس قبل أن ينشر إسماعيل منصور حرفاً واحداً.

نص الرسالة التي فيها الرد على إسماعيل منصور وتلاعب الصحافة بها

نص الرسالة التي فيها الرد على إسماعيل منصور وتلاعب الصحافة بها هذه نص الرسالة التي كانت رداً على الاعتذار، وهذه الفقرة التي سأذكرها حُذفت من الرسالة بكاملها: بسم الله الرحمن الرحيم (فتيا شاذة واعتذار يحتاج إلى اعتذار). كنت أتلهف شوقاً للحصول على نسخة من العدد الأخير من جريدة النور؛ لأطالع ما وعد به الأستاذ الحمزة دعبس -وفقه الله- من نشر سلسلة مقالات بعنوان (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) والذي مهّد لها بديباجة مثيرة للمشاعر، وقبل أن ينشر دليلاً أو حتى شبهة دليل على دعواه تحريم النقاب وتأثيم المنقبة، وإذا به -عفا الله عنه- يصدّر الصفحة الرابعة من الجريدة باعتذار موجّه -فقط- إلى صاحب المقالات، مع أنه كان ينبغي له أن يعتذر عن إعلانه المسبق بالتحيز الكامل لهذا الرأي الجريء، فضلاً عن أن اعتذاره يحتاج إلى اعتذار؛ لما ينبعث منه من روح الاحتقار والازدراء للمنقبات، فجاء اعتذاره أشد على النفوس من الذنب نفسه، لهذا نناشد الأستاذ حمزة دعبس أن يبادر بالاعتذار عما نشره من دعاية مسبقة توهم أن صاحب المقالات أتى بما لم تستطعه الأوائل! أو أن يواصل المسيرة وينشر البحث كاملاً، ويضرب عرض الحائط بالأصوات المتعقلة التي نصحته بالكف عن هذه الحملة على المنقبات؛ حتى لا يقف في خندق واحد -وحاشاه- مع أعداء الصحوة الإسلامية، ولا أدري كيف استطاع الأستاذ حمزة -حفظه الله- أن يقنع ضميره بأنه برأ ساحته بهذا الانسحاب السريع، كيف وقد أشعل الفتيل بالفعل ثم انسحب وهو لا يدري ما ترتب على ما قدمه من آثار. فحذفت هذه الفقرة بكاملها، ولم ينشروا منها حرفاً واحداً سوى كلمة (وقال: إن اعتذاره يحتاج إلى اعتذار) فأتى بالمقالة في الأسبوع الثاني وسماها (اعتذار عن الاعتذار). ثم إن الفقرة الآتية حُذف السطر الأول والثاني منها، حيث كنت تكلمت فيها عما حدث من منصب الإفتاء الذي جلس عليه رجل من كلية الآداب، وشتم الأخوات المنقبات، وتطاول على الإخوة بألفاظ لا تليق حكايتها، وحرّض مسئولي الجامعة على أن يمنعوا المنقبات من دخول الجامعة. فالفقرة الثانية من الرسالة: ولقد كنا بالأمس القريب نستنكر فتوى بعض الذين يوظفون الإسلام خادماً لأهواء الساسة، غافلين عن أن دين الله يُخدم ولا يَخدم، أعني تلك الفتيا المفزعة المحلولة العقال، المبنية على التجّري لا التحرّي، المؤسسة على الظن وهو أكذب الحديث، أو الهوى وهو معبود باطل خبيث، التي أصدرها طائفة تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجاً، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً، حيث تمخضت عبقريتهم عن اكتشاف مذهل هو أن النقاب ليس فرضاً ولا سنة! إذاً: الكلام في الرد على من افترى منصب الإفتاء، وليس على إسماعيل منصور الذي زعم أن هذا الكلام رد عليه، بدليل سياق الكلام، بعد ذلك قلت: فكيف بتلك الفتيا الجريئة التي زادت الطين بلة، والتي لا ندري من أي آبار الضلال استقاها صاحبها وانتشلها. وهذه الفقرة التي سأذكرها الآن حذفت أيضاً، وهي: لأنه ليس في كتاب ولا سنة صحيحة أو سقيمة، ولا في مذاهب من سبق، ولا في اجتهاد أئمة الاجتهاد صوابه وخطئه ما يمتّ إليه هذا الزعم بصلة، فإذا كان الحال كذلك فأي رجل له مسكة من فقه يتجاسر على أن يسجل على نفسه هذه المقولة المحدثة؟! ثم قلت: (إن هذا البحث يجوز الحكم على بطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور التالية). فماذا قال الحمزة؟ قال -حتى يشنع علي-: المعروف عند الناس أنه لا يحكم على الكتاب من عنوانه! وليس الأمر كما قال، بل كم من كتاب يحكم عليه من عنوانه مهما زين العنوان ورصعه بالسجع والتكلف، فهو باطل قطعاً يحكم عليه من عنوانه، كما لو ألف أحد كتاباً سماه (توضيح الأمر بوجوب شرب الخمر في ضوء القواعد الأصولية والحديثية والفقهية) فهذا العنوان لا يحتاج إلى نظر في هذا البحث، فالعنوان يعطيك نتيجة البحث المقطوع ببطلانه، فيجوز الحكم عليه ابتداء، وكما لو ألف مؤلف كتاباً أسماه (الرمي بالبلاط على من حرم الاختلاط) أو ألف كتاباً أسماه (الاجتهاد بفرضية الزواج من ثمان عشرة امرأة) أو (ضوء القمر في تحريم غض البصر) فهذا كلام مسجوع وعنوان جميل، ولكن هل ينظر في مثل هذا البحث حتى يحكم عليه أنه حق أم باطل؟! فإذا حرم الإنسان المباح فذلك جريمة، فكيف بمنً يحرم الواجب؟! وحذف الأسباب الأربعة لأنه لو نشرها من البداية لاهتز موقفه كثيراً، لكنه حذف هذه الأسباب الأربعة التي عللت بها جواز الحكم على هذا البحث من عنوانه، فخبأ هذه الأسباب، وكانت الأمانة تقتضي أن يذكر ما هي هذه الأسباب، لكنه قال: وذكر أسباباً أربعة. وانتهى الكلام! فهل هذه أمانة؟ فما هي الأسباب؟ قلت: إن هذا البحث يجوز الحكم على بطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور التالية: أولاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا - يعني ديننا- هذا ما ليس منه فهو رد) وهذه الدعوى محدثة لم يقل بها أحد من السلف، ولم ينص أحد من أئمة الهدى في العصور التي يعتد بالخلاف فيها على أن النقاب حرام وأن المنقبة آثمة {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]. فقال إسماعيل منصور عنا: إننا نحن الذين يقال في حقنا: (سبحانك هذا بهتان عظيم). هذا ويؤيد الحكم على البحث بالبطلان من عنوانه أن العلماء يشترطون في المجتهد أن يكون عارفاً بمواضع الإجماع؛ لأن المسألة إذا ثبت فيها إجماع فلا يجوز النظر فيها، فمن نظر فيها فهو مخطئ قطعاً. واشترطوا أن يكون المجتهد عارفاً بالناسخ والمنسوخ؛ حتى لا ينظر في الحكم المنسوخ، فيأخذ بآية منسوخة -مثلاً- ويستنبط منها الأحكام. ثانياً: أن خلاف العلماء في هذه المسألة يدور بين القول بالوجوب وبين القول بالاستحباب، فأصل المشروعية موضع اتفاق بين جميع علماء الأمة، وقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) عن الإمام ابن المنذر رحمه الله إجماع العلماء على مشروعية أن تسدل المحرمة الثوب على وجهها لتستتر به عن نظر الأجانب.

مخالفة إسماعيل منصور لجميع العلماء في تفسير آية الحجاب

مخالفة إسماعيل منصور لجميع العلماء في تفسير آية الحجاب يقول إسماعيل منصور: أجمعت الأمة على أن آية الحجاب خاصة بأمهات المؤمنين. والعكس هو الصحيح، فإذا رجعنا إلى كلام العلماء فلا نكاد نجد مفسراً واحداً من المفسرين يقول: إن آية الحجاب خاصة بأمهات المؤمنين. بل إن عامة العلماء ابتداءً من شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، ثم القرطبي، ثم ابن كثير، وجميع المفسرين على مرّ العصور ينصّون بقولهم: وهذه الآية وإن كانت نزلت في أمهات المؤمنين فحكمها عام لسائر نساء الأمة. وليس هذا مجال التفصيل في الكلام، لكن هل يحل له أن يدّعي الإجماع بدون أن يسند كلامه إلى أي مرجع؟! وإلا فمن أين حكى هذا الإجماع؟! ثم يأتي إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59] فيقول: لو كان في هذه الآية هذا الحكم للزم أن يتحقق فيها الإجماع، لكن الذي حدث هو العكس تماماً، وهو أن جلّ العلماء الثقات والمفسرين على أنها لا تدل على تغطية الوجه على الإطلاق، وغاية ما فيها تغطية الجسم بالجلباب الذي لا يتضمن الوجه كما هو معروف! ثم يعتبر العلماء الذين قالوا بخلاف ذلك قلة نادرة، وهذا مخالف تماماً لأقوال جميع المفسرين في جميع الأعصار في هذه الآية، كما سنبين إن شاء الله تعالى. ونحن نتحداه أن يأتي باسم عالم واحد فقط خلال أربعة عشر قرناً قال: إن النقاب حرام! والكتاب الذي ألفه يحتوي على مائتين وخمسين صفحة تقريباً ليس فيه دليل واحد على تحريمه، ولا يستقيم له دليل واحد، بل كلها عمومات ومغالطات وتمويه، وليس هناك تأصيل ولا عزو لأي عالم من علماء الأمة على الإطلاق.

مخالفته لجميع العلماء في انتقاب الصحابيات

مخالفته لجميع العلماء في انتقاب الصحابيات يقول: اذكروا لنا واحدة من الصحابيات -فقط- تنقّبت؟! سبحان الله! كل الصحابيات في الأصل أنهنّ منقبات، وهذا لا يحتاج إلى دليل كما سيأتي إن شاء الله، بل ذلك -في الحقيقة- فضيحة، وإنها لمأساة أن ينسب مثل هذا إلى العلم، وأن يجترئ هذه الجرأة على شرع الله تبارك وتعالى، وسوف نأتي بالمزيد. ولو كان كلام الرجل صحيحاً -فرضاً- فمعنى ذلك أن الأمة كانت غارقة في الضلال لمدة أربعة عشر قرناً تنتظر ولادته السعيدة حتى يخرجها من الظلمات إلى النور! ولم يوجد عالم قال ببدعته وضلالته، ويا ليته كان أهلاً للاجتهاد وعنده كفاءة في الاجتهاد حتى يكون ما قاله قائماً على قول الظاهرية وبعض الحنفية أنه يجوز إحداث قول آخر زيادة على الخلافات المذكورة من قبل، وإن كان جمهور العلماء يمنعون إحداث أقوال أخرى. ثالثاً: إذا رجعنا إلى تصريح العلماء الثقات وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة تحتجب والأمة تتبرج. ونقل الإمام ابن رسلان عن إمام الحرمين اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وما زال علماء الأمة عبر العصور يتناقلون هذه الكلمة عن إمام الحرمين بالتسليم والقبول. وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات. وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال. هذه الفقرة بترها تماماً، وأنا أسميه الهروب الكبير؛ لأن الرجل عرف تماماً أن هذه النصوص لو أثبتها لشكّ الناس في كلامه، لكنه قال: ثالثاً: نعم، فإذا رجعنا إلى تصريح العلماء الثقات وجدنا (ويأتي هنا برأي شيخ الإسلام ابن تيمية وإمام الحرمين والغزالي ويكرر رأي ابن حجر السابق) فأخفى كلام العلماء حتى لا يفتضح، فأقول: أولاً: هذا ليس رأياً، بل هذا نقل عن المسلمين في كافة العصور، فليس من الأمانة أنك تقول: رأي ابن تيمية. فهو ليس رأي ابن تيمية، بل هو نقله، ونقل ابن حجر، ونقل الجويني، ونقل الغزالي، فليس من الأمانة أن تسميه رأياً لهؤلاء الأئمة.

تجاهله لأقوال أهل العلم وعدم التأدب معهم

تجاهله لأقوال أهل العلم وعدم التأدب معهم ثم يغالط ويقول: وأقول لسيادته -أي: يقول لي-: إنك -يا أخي- تفعل مثلما يفعل أحد المتخاصمين -لا أقول الخصمين- الذي يختلف مع أخ له في أمر ويريد أن يدلل على صدق موقفه أمام القضاء، فيسرد أسماء أشخاص قالوا بصدقه وأنه على حق، دون أن يدخل في لب القضية فيعرضها ويبينها، ولو أن كل أتباع رأي أتوا بأسماء العلماء المؤيدين لهم لبقي الخلاف في كل الأمور قائماً، لكن الأصح هو أن نأخذ الرأي بدليله دون أن نعجب بالأسماء أو نستكثر منها. وأقول: هذا لو كان في المسألة خلاف، لكن كل العلماء ضدك، وأنت يتيم خارج عن الجماعة، فكيف تدلس وتوهم أن هناك خلافاً في القضية، وتقول: ولو أن كل واحد جاء بأسماء العلماء إلخ؟! بل كل العلماء لم يقل منهم أحد بقولك، فائت بعالم واحد خلال أربعة عشر قرناً قال ببدعتك وضلالتك! ثم يفتخر ويقول: هل رأيتني -يا أخي- في كلامي عن النقاب أذكر أسماء أو أعرض أدلة، إن الذي قرأ الكتاب يعرف ذلك جيداً، ولهذا فما زلت أقول لك: المشكلة أنك لا تعرف حقيقة المنهج العلمي أصلاً، فلا يعقل أن أزعم أنني وحدي على الحق دون سائر العلماء الأفاضل، معاذ الله! يقول هذا وهو يشتم العلماء الأفاضل كلهم، ويقول: إنهم تأخذهم العزة بالجهل! ويصفهم بالجهل والسفه وأقبح الصفات، وهو هنا يدعي أنه يحترم رأي الآخرين. يقول: معاذ الله! إنما قدمت رأيي الذي اقتنعت به، ولم أقتنع بآراء علماء أفاضل. وكان ينبغي أن يقول: لم أقتنع بآراء كل العلماء الأفاضل لأنه خالفهم كلهم، فهو يوهم أن هناك علماء معه يؤيدونه. يقول: ولم أقتنع بآراء علماء أفاضل على الرغم من ذيوع شهرتهم وعلو منزلتهم؛ لأن كلامهم لم يكن قوياً من الناحية العلمية مع تقديري لمكانتهم العالية! ولا أكتمك هذا؛ فإني لو كنت أرى أن الناس يحتملون نقد كلام هؤلاء الكبار وبيان عدم قوة الدليل العلمي لبينت لهم ذلك، ولكن الناس لا يحتملونه الآن. إذاًَ: ما زال هناك أشياء ستأتي، ولعلي -بفضل الله- أقدم ذلك فيما بعد إذا استطاع الناس أن يحتملوه بمشيئة الله تعالى وفضله ورحمته. أقول: وإنما ذكرت اتفاق المسلمين على مشروعية النقاب بهذه النقول المختصرة لبيان فساد هذه المقولة المبتدعة، وأنها مخالفة لسبيل المؤمنين، ولست بصدد الكلام على أدلة وجوب النقاب -وما أكثرها- لأن لكل مقام مقالاً، ومع أنني قلت له: ليس هذا مقام التفصيل. فأوهم أن هذا كل الرد الذي أرسلته، وخبأ الجزء الثالث الذي فيه الأدلة، ثم بتر الفقرة التالية بكاملها وأخفاها؛ لأنها تفضح جهله أيضاً، ولم يذكر منها إلا هذين السطرين: السبب الرابع: أن هذا الرأي الكاسد والقول الفاسد لا يدخل في الخلاف السائغ. وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر وبتر الكلام ووقف هنا، ثم أخذ يرد عليه، وقال: ثم يقول صاحب الرسالة بعد ذلك: رابعاً: أن هذا الرأي الكاسد والقول الفاسد لا يدخل في الخلاف السائغ. وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر وهنا -أيضاً- نردف بتعليقنا على ذلك فنقول: هل وجدتني -يا أخي- استندت في قولي بالتحريم إلى أن القول في النقاب قول فيه خلاف! فالمصيبة أنه لا يعتبر أن المسألة فيها خلاف، وأنا أقول له: إن هذا خلاف لا يجوز؛ لأن الخلاف فيه تناقض في أقصى الطرفين إلى آخر ما أذكره، فيرد بقوله: من قال لك: إن فيها خلافاً؟ فهو -أيضاً- يهمل أقوال جميع العلماء الذين يقولون بالوجوب أو الاستحباب، أو حتى لو قال أحدهم بالإباحة فكلامه مهدر عنده ليس له قيمة، وكأنه يقول: كل عالم يقرر رأيي الذي أميل إليه، ومعاذ الله أن أقول: إن هذا باحث عن الحق. يقول: هل وجدتني -يا أخي- استندت في قولي بالتحريم إلى أن القول في النقاب قول فيه خلاف، ثم أصدرت بناء على ذلك رأيي بالتحريم؟! لو أني فعلت ذلك لحق لك أن تنظر في قولي من حيث إنه يتعلق بالاختلاف من عدمه، لكنني درست موضوع النقاب دراسة تأصيلية بعيدة عن أقوال العلماء! وهذه أعظم وثيقة إدانة لهذا الجاهل؛ إذ كيف يتعلم بدون العلماء؟! وهذه تكفي في إبطال كل ما يمكن أن يخرف ويهرف به، ومع ذلك فهو يفتخر في موضع آخر ويعيرني بأني أعتمد على كلام العلماء، حيث يقول: لأنك لا تستطيع أن تنظر في الأدلة بنفسك! وهذا قطع لأعظم أسباب التوفيق، ألا تسأل أهل الذكر؟! فقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. فيقول: لكني درست الموضوع -موضوع النقاب- دراسة تأصيلية بعيدة عن أقوال العلماء، سواء من أيّد أو من عارض. وأقول: كلهم عارضوك، ولا أحد منهم أيدك. ثم يقول: إنني درست النصوص بالحياد العلمي، وحققت ما استطعت من النصوص النبوية الشريفة، وكنت أقرأ الرأي فأدرسه، ولا أقول: قال فلان لتأييد وجهة نظري، كما لم أذكر بعض هذه الأقوال إلا نادراً لإثبات حق العلماء في ذلك.

مراوغة إسماعيل منصور والحمزة دعبس في الرد على الرسالة

مراوغة إسماعيل منصور والحمزة دعبس في الرد على الرسالة بعد هذه العبارة التي رد عليها هرب من مواجهة الحقيقة، ولم ينشر -أيضاً- هذه العبارة المهمة جداً في القضية، وهي: وإنما ينظر في الخلاف إذا كان بين أمرين كلاهما مطلوب الترك: إما على وجه الحتم واللزوم فهو الحرام، أو غيره فهو المكروه، أو بين أمرين كلاهما مطلوب فعله: إما على وجه الحتم واللزوم فهذا الواجب، أو غيره فهو المستحب، أما الخلاف غير المعتبر ابتداء فهو ما يصفه فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى في كتابه (ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين) بأنه أخطر أنواع الخلاف، وهذا ما لا يصح نسبته إلى الشريعة المنزهة عن التناقض، قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فليت شعري -أي: ياليتني أعلم- ماذا تفعل المسلمة التي تريد أن تحتاط لدينها في عمل إن هي عملته عوقبت في نظر البعض، وإن لم تعمل نفس العمل تكون آثمة معرضة للعقاب في نظر البعض الآخر، لا ريب أن الحق هنا في أحد القولين ولا يتعدد، والحاصل أن الخلاف الذي ينتصر له الأستاذ حمزة لا يُعتدّ به، ولا يجوز النظر فيه أصلاً بهذا الاعتبار. فقال في رده على كلامي السابق: ثم يقول في نفس الموضع: فليت شعري ماذا تفعل المسلمة إلى قوله: في نظر البعض الآخر. وأقول تعقيباً على ذلك: إنني سأدلك يا أخي على ما يجب أن تفعله المسلمة في هذه المسألة دون أدنى حيرة: إن عليها أن لا تزيد شيئاً على هدي نبيها صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة الأفاضل رضوان الله عليهم! وهكذا يظل يأتي بالعمومات، ويستدل بنفس الدعوى على أن النقاب حرام. ثم في موضع آخر يقول: إن النقاب حرام؛ لأن النقاب من الخبائث، والرسول أتى ليحرم علينا الخبائث! ونقول له: اثبت -أولاً- أنه من الخبائث؟ وهو غريب جداً في فهمه للآيات والأحاديث ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونقول له أيضاً: عليك باتباع الصحابة واتباع الكتاب والسنة. لكنه يأتي بالكلام العام ويهرب من الأدلة العلمية. ففي آخر الجواب يقول: إن كان عندك علم في ذلك فأخرجه لنا، فإن لم تجد فأحب أن تلتزم بهذا الحديث كما التزمنا به، فلا تخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بأية اختراعات! وأقول: فمن الذي يخترع ويبتدع؟! ما رأيت باطلاً أشبه بحق من كلامك. بعد ذلك قلت له في A وأخيراً: لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم دواء داء الفرقة بقوله: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، فالسنة تجمع المتفرقين، وتوحد المختلفين، ولقد جعل الله عز وجل إجماع العلماء حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يضاده -وهو الاختلاف- حجة أيضاً، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود رضي الله عنه قوله: الخلاف شر. وما أحسن قول حافظ المغرب الإمام أبي عمر ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله): الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله. أذكر هذا مع أن دائرة الخلاف في المسألة التي نحن بصددها قد ضاقت إلى حد كبير في هذا الزمان، حيث يكاد يتفق علماء المذاهب المتبوعة على وجوب الحجاب الكامل لجميع بدن المرأة عن الأجانب، حتى الذين يرون أن الوجه والكفين غير عورة أصلاً، وذلك نظراً لفساد أكثر الناس في هذا الزمان، وعدم تورعهم عن النظر المحرم إلى وجه المرأة الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زنا العين)، ولولا خشية الإطالة لأفضت في ذكر النقول عنهم، وأكتفي بهذا القدر. ثم قلت في نهاية الخطاب: وكلّي ثقة إن شاء الله أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب، أُسوة بما فعلته مع عزيز أحمد سكرتير سفارة أفغانستان الشيوعية، وممثل الدولة التي فتكت بالمسلمين، دون أن ترى الجريدة في ذلك ازدواجاً في المواقف المبدئية، والله تعالى من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين. وفي الأسبوع الماضي الذي بعده مباشرة كتب الحمزة اعتذاراً عن الاعتذار، ثم في نهاية الكلام نشر سطوراً قليلة جداً من الرسالة، ثم قال: إن هذا البحث لا يجوز الحكم ببطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور الآتية وقدم أسبابه الأربعة، وانتهى الكلام على هذا بأن هذا الخلاف لا يعتد به، ولا يجوز النظر فيه أصلاً بهذا الاعتبار، وقال: إنه كله ثقة بمشيئة الله تعالى أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب، وبتر بقية الكلام. وأقول له: كيف تقول: الرأي والرأي الآخر، وحرية الرأي! إنها رهبانية ابتدعوها وما رعوها حق رعايتها، فحرية الرأي أصلاً بدعة ضلالة، ثم تُعطى حرية الرأي لإنسان مضل مبطل يناقض كلام الله وكلام رسوله، فهذه ليست حرية رأي، ومع ذلك يا ليتكم احترمتم حرية الرأي، لكنها الخيانة كما ترون. فأنا أريد أن أبكته بطريقة غير مباشرة؛ لأنه ينشر مقالة لـ عزيز أحمد سكرتير دولة أفغانستان الشيوعية، ويقول: من باب حرية الرأي والرأي الآخر جاءنا هذا الرد من عزيز أحمد سكرتير دولة أفغانستان. وهي مقالة طويلة بطول الصفحة كلها، يهاجم فيها الإخوة الأفغان المجاهدين، ويطعن فيهم، ويدافع عن الحكومة الشيوعية العميلة، فأنا أقول له: ساو بيني وبين عزيز أحمد هذا، وعاملني مثلما تعامل هذا الشيوعي الملحد، وانشر كلامي بأمانة كما نشرت الرأي الآخر للرجل الشيوعي. لكنه بتر الكلام وقطعه عند قولي: (وكلي ثقة إن شاء الله أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب) وقطع الكلام على هذا، وحذف العبارة التي قلت فيها: أُسوة بما فعلته مع عزيز أحمد سكرتير سفارة أفغانستان، وممثل الدولة التي فتكت بالمسلمين، دون أن ترى الجريدة في ذلك ازدواجية في المواقف المبدئية. فبتر هذا الكلام وأظهر أني حريص على أن ينشر الرد في الجريدة وينشر اسمي! فقال: وقال: وكلي ثقة في أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب. ولا شك أننا بإذن الله تعالى سوف ننشره وكافة التعقيبات الأخرى بعد نشر مقالات الدكتور إسماعيل منصور في تحريم النقاب؛ لتكون مواجهة الدليل بالدليل والبرهان بالبرهان؛ إذ لا يكفي في هذا الصدد الرد على العنوان! ثم يقول في اعتذاره: عندما كتبت مقدمة من البحث القيم للدكتور إسماعيل منصور لم أكن أحسب أن هذا الموضوع سوف يثير هذه الانفعالات المتباينة، وكنت قد أكدت أنني استشرت من حولي ممن أثق بعلمهم فأشاروا بعدم نشره، ولكنني لم أكن قد استخرت! وأقول: في أي شيء تستخير؟! إن صلاة الاستخارة تكون في شيء مباح أو حق، لكن أن تستخير في أن تعصي الله وتنشر الباطل فلا تجوز الاستخارة أصلاً في هذا الباطل. يقول: لم أكن قد استخرت عندما اعتذرت عن نشر هذه السلسلة، واتفقت في ذلك مع الدكتور إسماعيل منصور على الاستخارة! إلى آخر الكلام في (الاعتذار عن الاعتذار) ثم أخرج الرسالة إسماعيل منصور أخيراً من الدرج إبان غزو العراق للكويت مباشرة، وفجّر هذه القنبلة، وظل ينتقد ويرد على رسالتي بعد سنة ونصف تقريباً أو أكثر من إخفاء الرسالة، ثم يوهم أن ردي على كتابه هو هذه الرسالة، والصحيح أن الرسالة كُتبت قبل أن ينشر شيئاً من مقالات إسماعيل منصور، بدليل أن تاريخ الرسالة هو (11/ 3/1989م). ثم يقول: وهذه الرسالة تقوم في موضوعها الأساسي على الاتهام الذي لا يتوافق مع أي منهاج من مناهج العلوم قديماً أو حديثاً، فلم يتطوع بالرد على واحد منها بآية كريمة. فيقول: لم يتطوع بالرد على واحد منها -أي: من أدلته- بآية كريمة، أو حديث شريف، أو قاعدة فقهية، أو حجة اصطلاحية، وإنما اكتفى باتخاذ مقام الواعظ المعرض عن الموضوع كله ابتداء، مقرراً من أول وهلة أن الصواب الكامل والحق الصراح هو في الحكم على كل هذه المقالات بالبطلان دون انتظار لقراءة ما فيها، بل من مجرد قراءة عنوانها هكذا، ولا ندري كيف رضي صاحب الرسالة بهذا القول الذي لو طبق في مجال البحث العلمي لأغلقت الجامعات أبوابها، ولطفقت ساحات العلم خاوية، فلا تجد من تؤويه، ولطمست أمجاد علماء الإسلام الجهابذة وآثارهم العظيمة، سواء أفذاذ الصحابة الأفاضل رضوان الله عليهم أو أعلام التابعين الأوائل رضي الله عنهم، الذين انتظموا جميعاً في طريق بيضاء نقية، لا تعرف في مناقشة الأمور العلمية سوى تقديم الحجج، وسوق البراهين، واستخراج الأدلة، ولم يلجئوا في إقامة علومهم إلى المصادرة على الأقوال، ولا اتهام نيات أصحابها أو التسرع في الحكم دون دراسة أو تمحيص. وأقول: كأنه ظن نفسه في معمل الطب الشرعي (معمل السموم) حيث تكون التجربة، ثم المشاهدة، ثم الاستنتاج، ولم يعلم أنه مع مسألة شرعية تحكمه قواعد من الكتاب والسنة، فليس لنا أن نُخضع العلوم الشرعية لأهواء الناس، وكل يقول بحجة البحث العلمي فيخترع ما شاء، لا، فهناك ضوابط وموازين وأصول وقواعد ثابتة، والرجل يريد أن يسبح في الفضاء، ولا يريد أن يتقيد بضوابط أو بقواعد أو بأصول، ثم يلجأ إلى المغالطة، حيث انتقل مباشرة إلى الكلام عن المنهج العلمي، وإغلاق الجامعات و، فهل هذا هو الأسلوب العلمي؟! الله المستعان! ثم يقول: يا أخانا المسلم الفاضل! قدم لنا علماً ودليلاً وبرهاناً. يَتَمَسْكنُ بهذه العبارة حتى يظهر للناس أنه مسكين ومغلوب على أمره، مع أنني أرسلت له الكتاب في مائتين وخمسين صفحة مملوءة بالأدلة الكافية. ثم يقول: فلعلنا نتعلم من علمك هذا، وإلا كنا نحن المخطئين، ولصرنا بذلك عن حدود الأدب خارجين، ومن يدري! ربما حكم علينا بأشد من ذلك وأعظم، أليست هذه مأساة؟! أليست هذه كارثة؟! بل إن صاحب الرسالة يحكم علي بسبب هذه المقالات التي فيها الرد على تحريم النقاب بأني ليست لي مسكة من فقه؛ لأني تجاسرت على هذا القول، بينما أستطيع أنا الآن أن أحكم له بأنه أخ فاضل، يبدو أنه محب لدينه القويم، غيور

خذلان الله سبحانه وتعالى لإسماعيل منصور في بداية بحثه

خذلان الله سبحانه وتعالى لإسماعيل منصور في بداية بحثه إن الله سبحانه وتعالى خذله في بداية البحث وفي خاتمته، وأما ما بين الدفتين فإن شاء الله سنتكلم عنه فيما بعد ذلك. فأول الأمر هو أنه تعالى قطع عنه أعظم أسباب التوفيق، وهو سؤال العلماء، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]. فلو أن الحمزة عرض البحث على أهل العلم قبل أن ينشره لكان قد جنب الأمة شراً عظيماً؛ إذ كيف يمكن أن ينشر مثل هذا البحث بهذه الطريقة؟! أين المسئولية أمام الله؟! فأول شيء كان يجب أن يفعله هو أن يعرضه على أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم. ثم ختم الكتاب -أيضاً- بما سنذكره، فأعرض تماماً عن كلام العلماء، ولا يوجد عزو واحد فقط إلى أي مصدر علمي، لا تفسير ولا فقه ولا أصول ولا ذكر لاسم عالم واحد فقط، بل ويفتخر بذلك، ويعتقد أن هذا من أعظم محاسنه! وأقول: إن اتباع نظر من لا نظر له، واجتهاد من لا اجتهاد له هو محض ضلالة، ورمي في عماية، فهذا هو مقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا). إعراض كامل عن سؤال أهل الذكر مع ادعاء الاجتهاد والتجديد، حيث يدعي أنه يجدد للناس أمر دينهم، وأنه مجتهد بلغ مرتبة الاجتهاد! فماذا تكون النتيجة؟ النتيجة هي هذه الثمرات المريرة، وهذه الجرأة على الله والقول على الله بغير علم، فإن التعالم دائماً هو عتبة الدخول على جريمة القول على الله بلا علم المحرمة لِذَاتها تحريماً أبدياً في جميع الشرائع والملل، وهذا مما عُلم من الإسلام بالضرورة. فنقول: هل الصحابة عرفوا أن النقاب حرام؟! فإن عرفوا أن النقاب حرام فهل وسعهم أن يعلنوا أن النقاب حرام أم سكتوا عن هذا؟ فإن ادعى أنهم أعلنوا فأين الدليل؟! وإن علموا أنه حرام ولم يظهروا ذلك فنقول له: أفلا وسعك ما وسعهم؟! وإنا لندعو عليه كما دعا عبد الرحمن الأذرمي على بعض أهل البدع في مناظرة حكاها ابن قدامة في لمعة الاعتقاد، فنقول لـ إسماعيل منصور: هل وسع الصحابة والسلف أن يسكتوا عن تحريم النقاب أم لم يسعهم؟ فإن قال: وسعهم أن يسكتوا عن تحريمه فنقول: لا وسّع الله على من لم يسعه ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالحين والخلف من بعدهم. ولا يسعني في هذا المقام أن أتكلم بالتفصيل، وإن كنت في شوق شديد إلى أن نفضح هذه الجريمة، ونكشف عدوانه بالأدلة، فإنه يتكلم في العلماء الذين خالفوه فيقول: أم ماذا أصاب عقولهم على وجه التحديد؟! كأن العلماء ناقصو العقل! ثم يختم البحث فيقول: لقد فتح لنا العلم الموضوعي في هذا البحث المحايد آفاقاً عظيمة في الإسلام تقوي العقيدة، ونحن نفاخر بذلك، ونعتقد أنها تكون في ميزان حسناتنا، وأننا سوف ننال بها -إن شاء الله- الفردوس الأعلى من الجنة إلى آخره. فهو يعتقد عقيدة إيمانية يقينية راسخة -وسبحان الله! - أن بحثه فتح آفاقاً عظيمة في الإسلام تقوي العقيدة، وتثبت الأحكام، وتدفع إلى مزيد من الالتزام! وأقول: إنما هو التزام بهدي هدى شعراوي، ومزيد من الالتزام بهدي قاسم أمين، لكن لا مزيد من الالتزام بهدي عائشة أم المؤمنين، أو حفصة، أو أسماء.

طغيان إسماعيل منصور في بدعته

طغيان إسماعيل منصور في بدعته المؤلف لا يبيح في هذا الكتاب للمرأة كشف الوجه فقط، بل أن تظهر الزينة الملحقة بالوجه والكفين، وتلبس ما شاءت من الزينة في كفيها، وتضع ما شاءت من الأصباغ على وجهها، ويبيح ذلك بسوء فهمه للأدلة، أهذا هو مزيد من الالتزام الذي يدفع إليه هذا البحث؟! وقد قيل: (من ثمارهم تعرفونهم) ونقول: دعوى الاجتهاد والتجديد مع الاستغناء عن أهل العلم ينتج ثمرات مثل هذا البحث، فما هي ثمراته؟! A يقول: ومن ثمرات ذلك أننا صرنا ننظر إلى أمر المرأة المتبرجة في مقارنة مع المرأة المنقّبة، ونحن نشفق على الثانية -أي: المنقبة- أكثر من إشفاقنا على الأولى -أي: المتبرجة-؛ لأن الأولى -المتبرجة- عاصية تعلم أنها عاصية، بينما الثانية عاصية تعلم أنها فاضلة، كما أن الأولى ليست عرضة للكبر والعجب المانعين من دخول الجنة، بينما الثانية أكثر عرضة لذلك! وأقول: من التي هي أقرب للكبر: التي تتزين بالملابس الباهية والذهب والحلي وتضع المكياج على وجهها وغير ذلك من أدوات الزينة، أم التي تستر نفسها؟! فهو يعتقد أن المنقبة عرضة للكبر أكثر من المتبرجة! ثم يقول: فأيهما أحق بالإشفاق؟! وأيهما أقرب للتوبة؟! وأيهما أولى بالاستغفار لها؟! إن المنقبة تحتاج إلى أن نستغفر لها مرتين، بينما المتبرجة مرة واحدة؛ لأنها أقل ابتلاء وأقرب إلى سواء السبيل! وإن كانتا كلتاهما منحرفتين عن الهدي النبوي، دون أن يكون المنحرف يميناً أفضل من المنحرف إلى ناحية الشمال، الكل في العدول عن الحق سواء. يقول: وهكذا تمضي المنقبة في الطريق قد رفعت شعار مخالفة الهدي النبوي الأمثل، ومعاداة سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ومخالفة فعل الصحابيات الفاضلات جميعاً! يقول: وتشبهت ببعض طوائف أهل الكتاب، وألقت بنفسها في فتنة الكبر والعجب الذي لا يدخل أحد الجنة وفي قلبه مثقال ذرة منه، وصدت من رآها عن سبيل الله! يقول: وصورت للناس الإسلام على أنه ضيق وعنت، وأنه يأخذ أتباعه بهذه الشدة ولا يرحم، فعسّرت ولم تيسّر، ونفّرت ولم تبشر، وعرقلت مصلحتها في السعي في هذه الحياة السريعة الحركة! وهذه النزعة الغزالية إنما هي (شنشنة نعرفها من أخزم) وإلا فمن التي تتشبه بأهل الكتاب: المتبرجة أم المنقبة؟! وهذا الكلام يدل على نفس ممتلئة غيظاً، فهو ينفث هذه السموم لأنه متخصص في السموم! وكأنه بهذا الكلام يرى أنه لا بد من تلطيف الجو للناس، وتخفيف كثافة نور الإسلام حتى لا يعشو أبصار الكافرين، فإن أعين الكفار لا تحتمله. يقول: وأضرت ببصرها بهذا التضييق غير المشروع! وربما اصطدمت بالناس أو بوسائل المواصلات بسبب الإبصار بعين واحدة، فلا تحدد المسافة على الإطلاق، وحرمت نفسها من أحكام شرعية عظيمة وسنن ثابتة! أقول: إن من النماذج المهولة في بحثه أن عادته في الكتاب أنه يكذب الكذبة ثم يصدّقها، وخياله واسع جداً، حيث يتوهم ويتوهم، ثم يتعارك مع صدى الصوت حينما يرجع إليه وكأنه إنسان آخر يرد عليه! انظر كيف أنه يتخيل ثم يتعارك مع نفسه، لذلك أسمي ما قاله: (العراك مع صدى الصوت) إذ يقول: قد يذهب البعض ممن يحبون الجدل العقيم إلى القول بأن حجب العين اليمنى وإبراز اليسرى هو من قبيل تكريم العين اليمنى، وبذلك يحدث التوافق مع معنى التيامن الوارد في الحديث السابق، ونحن نقول: إن هذا كلام واه سقيم؛ لأنه -ببساطة شديدة- يقلب الحديث الشريف رأساً على عقب، إذ يجعل نظر المرأة من باب التشامل لا التيامن، وهذا يمثل خروجاً على قاعدة التيامن الواردة، ولو كان استثناء منها للزم النص عليه شرعاً، لا أن يلتقط من هنا وهناك، كما ثبت في السنة الحث على تقديم اليد اليسرى دون اليمنى عند الاستنجاء، فهذا مما هو معلوم بطريق الشرع بالنص عليه، وهو ثابت في بابه، وليس هاهنا مجال للتوسع فيه، فتأمل. أقول: نعم تأمل! ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني ثم يقول: كما أن الزعم بأن الحجب في الجوارح تكريم هكذا وفق الهوى ودون نص ثابت يؤدي إلى إمكان القول بأن من تكريم اليد اليمنى حجبها عند الطعام وتقديم اليسرى بدلاً منها، وهذا مخالف للسنة النبوية الشريفة، فإن قيل: كلا، إن تقديم اليد اليمنى لتناول الطعام والشراب والنهي عن تقديم اليسرى لذلك ثابت نصاً فلا تصح المخالفة. قلنا: إن ذلك مسلّم به، فهل ثبت لديكم نص بإبراز العين اليسرى للنساء عند الإبصار وتأخير أو حجب اليمنى؟ إن كان لديكم هذا النص فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. وأقول: انظر كيف خرج هكذا عن الموضوع الأصلي الذي نتناوله بالنقاش! فهل نحن نتكلم عن تكريم الأعضاء أو عن قاعدة التيامن في كل شيء؟! سبحان الله! هكذا تكون المراوغة عند الإفلاس عن وجود الدليل. الرجل يتعارك مع نفسه، فصوته يعود إليه ويتعارك مع صدى الصوت؛ إذ لا يوجد أحد افترض هذا الكلام التافه، وهذه التلبيسات كثيرة في كتابه من أول الكتاب إلى آخره، فانظر إلى العلم والاجتهاد والتجديد! ثم بعد هذا تفتح له الجريدة بهذه الطريقة المريبة!

الخاتمة السيئة لكتاب إسماعيل

الخاتمة السيئة لكتاب إسماعيل يقول في خاتمة الكتاب: أضرت المنقّبة ببصرها بهذا التضييق غير المشروع، وربما اصطدمت بالناس أو بوسائل المواصلات بسبب الإبصار بعين واحدة، فلا تحدد المسافة على الإطلاق، وحرمت نفسها -وانظر إلى العبقرية- من أحكام شرعية عظيمة وسنن ثابتة، مثل: 1 - بشاشتها في وجه أختها المسلمة التي هي صدقة. 2 - حرصها على الشهادة لله فيما يجد من أمور مفاجئة أو تبايعات أو حوادث في الطريق؛ ليحق الحق ويبطل الباطل، بأن يعرفها من يريد شهادتها فيما شهدت فيدعوها إلى الشهادة بعد ذلك. 3 - معرفتها لأختها أو جارتها المسلمة حتى تتعاون معها على البر والتقوى. أقول: لا تستغرب هذا؛ لأنه فهم من آية الحجاب أن النقاب يكون داخل البيت وخارج البيت، وسيأتي النص على ذلك. ثم تأمل قمة العدوان والبهتان والظلم المبين، وهي خاتمة السوء لكتابه والعياذ بالله. إذ يقول: وفَتَحَتْ -أي: المنقبة- أبواباً خبيثة تستجلب الضرر للمسلمين؛ إذ يمكن أن يؤوي هذا الغطاء بعض المجرمين والهاربين من القصاص الذين يستترون به حتى يتموا أغراضهم في غفلة من رأي العامة! وأقول: وهل المجرمون محتاجون إلى أن يختفوا الآن؟! وهل الفاسقات يحتجن إلى الاختفاء في هذا الزمان وفي هذا المجتمع الذي نعيشه؟! هذه واحدة. والله لو كان هناك سلطان شرعي لعّزره ولأدبه على هذا الكذب والبهتان، فالله المستعان! قال: ويئوي كذلك رجالاً يدخلون بيوتاً على أنهم من النساء لمظهرهم، فيؤمن من جانبهم، بينما هم يأتون الفاحشة في هذه البيوت! ويئوي بعض غير المسلمين الذين يدخلون إلى مساجدهم واجتماعاتهم الدينية والعلمية للتجسس عليهم والكيد لهم. ويئوي بعض اللصوص في المواصلات العامة، فتكثر الجريمة، ويزيد الإفساد في الأرض! ويمكن للنساء المنحرفات أن يسرن مع غير أزواجهن، ويسافرن معهم دون خوف كشف أمرهن، فتزيد إمكانات الراغبات في الانحراف، وغيره كثير، كل ذلك وهي تحسب أنها تحسن صنعاً بما أتت من مخالفتها لأحكام الكتاب والسنة عموماً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) نعوذ بوجه ربنا الكريم من مخالفة الكتاب والسنة، ومعاندة الهدي النبوي الأمثل، ومعارضة الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة الأفاضل أجمعين، والتشبه بأهل الكتاب، والصد عن سبيل الله! انتهى كلامه. فنقول له ما علمناه ربنا سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] وزور جسيم من مثل هذا الأفاك الأثيم، فهو يعلم تماماً أن الحقيقة على النقيض من ذلك، وهذه الشبهة قديمة قدم الكائدين للإسلام والمنافقين الذين في قلوبهم مرض. ونقول له: فض الله فاك لهذا الافتراء الذي يصل إلى هذا الحد من الاتهام وإثارة الريبة في فتيات هن أعز نساء هذه الأمة. إن المنافقين في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا أفقه من هذا؛ لأنهم علموا أن المرأة الحرة تبالغ في الستر؛ لأن المرأة التي تبالغ في ستر نفسها تكون قد أعلنت عن عفتها وتصونها، وأنها لا يمكن أن تقارب الفاحشة وقد غطت وجهها أو كفيها، فالمنافقون فقهوا ذلك، فكانوا يتعرضون للإماء بالليل ويعرفونهن لأنهن كاشفات لوجوههن، فإذا رأوا المرأة الحرة كاشفة وجهها يظنونها أَمَة، مع أنه يحرم التعرض للإماء والحرائر، لكن الحرائر كن مشهورات بالعفة، والإماء قد يوجد فيهن شيء غير ذلك، فكانوا يعرفون أن الستر علامة العفة، ويقولون: حسبناها أمة؛ لأنها كشفت وجهها. أفيكون الآن الستر علامة السوء والعياذ بالله؟! فالمنافقون في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام أفقه من منافقي زماننا.

حرص العلماء على حفظ السنة وإتقانها

حرص العلماء على حفظ السنة وإتقانها نختم الكلام بذكر قصة تعيننا على أن نكمل الحوار إن شاء الله فيما بعد، وهي تتعلق بشأن الشخص المتعالم، حين يأتي أحد الناس مثل الحمزة دعبس ويقول: عثرت على كتاب كله أدلة وعلم وكذا وكذا وينخدع بالعبارات الرنانة التي يمتدح بها الكاتب بحثه، وأن كلامه مليء بالأدلة واتباع القرآن والسنة واحترام السلف واحترام العلماء. وكم من فقيه خابط في ضلالته وحجته فيها الكتاب المنزلُ فالاستدلال بالعمومات يستطيعه كل أحد، وليس هذا هو المحك؛ لأن هذا لا يعجز عنه أحد، فنجد كثيراً من الناس لا علم عندهم يفتنون بمثل هذا الباطل. يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله: المتعالم محل إعجاب من العامة، فالعامي يغتر إذا سمع المتعالم يجيش بتعالمه الكذاب المحروم من الصدق، وقوفاً عند حدود الشرع. وترى العامي يضرب بيمينه على شماله تعجباً من علمه وطرباً، بينما العالمون يضربون بأيمانهم على شمائلهم حزناً وأسفاً من انفتاح باب الفتنة والتغرير بعدة المستقبل بله العوام، فأضحى لزاماً أن نقابل مجاهرتهم هذه بالمجاهرة -لكن بالحق- لكشف باطلهم، وإسقاط تنمرهم، والعمل على هدايتهم واستصلاحهم. والقصة التي نختم بها الكلام هي قصة الإمام البخاري رحمه الله حين امتحنه أهل بغداد؛ لأن لها مناسبة، حيث إن الكاتب في بداية البحث زعم أنه يتشبه بالإمام البخاري، حيث يقول: أنا حرصت على أن أقتدي بالإمام البخاري، فقبل أن أثبت أي شيء في الكتاب أصلي ركعتي الاستخارة، وحافظت على الوضوء في كل الفترة التي كتبت فيها البحث! فإن كان يدعي التشبه بـ البخاري فنريد أن نعرفه بعلم البخاري، ونذكر هذه القصة بمناسبة الكلام السابق للشيخ بكر حفظه الله فالإمام البخاري حينما أتى إلى بغداد أراد أهل بغداد أن يمتحنوه؛ لأنهم كانوا يسمعون عن الإمام البخاري أنه من الحفاظ، فاجتمع حشد هائل من العوام ومن العلماء في هذا الامتحان المفاجئ للإمام البخاري رحمه الله تعالى، فوقف العلماء في جهة والعوام في جهة، واختار العلماء عشرة منهم، وكل واحد من العشرة أعدّ عشرة أحاديث بالسند والمتن فأصبحت مائة حديث، وأخذوا يركبون سند حديث على متن حديث آخر، ويقدمون ويؤخرون بين رجال السند، وهكذا، بحيث أصبح اختباراً دقيقاً جداً لا يمكن أبداً لأي إنسان عادي أن يكتشفه. فجلس الإمام البخاري رحمه الله لهذا الامتحان، فوقف العالم الأول، وسرد للبخاري العشرة الأحاديث، فكان كلما قرأ عليه حديثاً يقول له البخاري: لا أعرفه. ثم الثاني فيقول: لا أعرفه. ثم الثالث فيقول: لا أعرفه. وهكذا حتى أتموا المائة حديث. وكان العوام كلما قال الإمام البخاري: لا أعرفه يقولون: البخاري هذا جاهل وليس بعالم، فإنه لا يعرف شيئاً؛ إذ كلما يقرأ عليه حديث يقول: لا أعرفه! فكان يزداد انتقاصاً في نظر العوام ويزداد ارتفاعاً في عيون العلماء، ولم يتكلم أحد من الفريقين، بل كلاهما متعجب. العوام يتعجبون -في نظرهم- من جهل البخاري -وحاشاه رحمه الله- والعلماء يتعجبون من علمه وقوة حفظه. فلما فرغ العلماء العشرة من سرد الأحاديث المائة-حيث سرد كل واحد منهم عشرة أحاديث- رجع البخاري فوراً إلى الأول وقال له: أما أنت فقد قلت كذا وكذا. وسرد له العشرة الأحاديث بأخطائها ثم قال: وصوابها كذا وأعاد العشرة الأحاديث مرتبة بالتصويبات، ثم الثاني والثالث حتى أتم المائة يذكر فيها البخاري الخطأ ثم الصواب حديثاً حديثاً، فانبهر العلماء من قوة حفظه وإتقانه للحديث.

الترهيب من التعالم وادعاء العلم

الترهيب من التعالم وادعاء العلم في هذا الواقع الذي نعيشه الآن نجد أن بعض العوام فرحين جداً بـ إسماعيل منصور -في نظرهم- الذي اكتشف بعبقريته المذهلة أن النقاب حرام، بينما العلماء يبكون أسفاً وحسرة على هذا الدين، وعلى غربة الإسلام بين أهله وفي وطنه، ويصدق ذلك قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال لأصحابه: هل في أولئك من خير؟! قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار). وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه قام ليلة بمكة من الليل فقال: اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وكان نائماً- وسمعه وهو يقول هذا إشفاقاً -عليه الصلاة والسلام- وكان عمر أواهاً- أي: كثير البكاء والتضرع والدعاء -فقال: اللهم نعم، وحرضت وجاهدت ونصحت. فقال صلى الله عليه وسلم: ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، ولتخاضن البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن ويقرءونه ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟! قالوا: يا رسول الله! من أولئك؟ قال: أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار). فهذه هي الفتنة المعاصرة، يخب فيها كل خب، وإن تركنوا إليهم {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47]. فما أحوجنا إلى الصدق، وإنا لنشهد ونقيم الشهادة لله تبارك وتعالى على أن كتاب هذا الإنسان لا يصنف أبداً في قوائم البحوث العلمية، ولا مكان له في درجاتها، ولا حتى في أحط دركاتها، كيف وقد قام على التمويه والكذب مما يأسى عليه الإنسان الكريم؟! وإذا عري الكتاب عن زخرف القول واللعب بالألفاظ فلن يكشف ذلك إلا عن ضحالة فكر وضلالة قلب، فليتق الله المسلم فيما يقول ويكتب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم). وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). فيا طالب الأخرى ويا مبتغي الهدى ليسعد عند الله في يوم يسأل لعمري لهذا الحق يعلو مناره عليك به إن الأباطيل تسفل وأستعير هنا عبارة ختم بها الشيخ أبو بكر جابر الجزائري حفظه الله كتابه (القول الكريم الغالي في الدفاع عن الداعية محمد الغزالي) حيث يقول في آخر كتابه: آه وآه ثم آه، وهل ينفع أهل آه ألف آه، إلى هنا كل القلم من شدة الألم، وضاقت النفس من قوة الرفس، فأرجو أن أكون أزحت الستار، وبينت العوار، ومن لم يستره الليل لا يستره النهار، ومن لم ير بالتوبة الجنة فسيرى بالأبصار النار، والأمر لله الواحد القهار. نسأل الله أن يرزقنا هدياً قاصداً، وأن يجنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء. سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

كيف نفهم المراهقين [1]

كيف نفهم المراهقين [1] تحمل البيئة المحيطة بالإنسان عوامل تكوين شخصيته، والجوانب المؤثرة في نموها وتكاملها، ولكن مما يؤسف له أن هذه البيئة تكتنفها عوامل بشرية كثيرة متمثلة في الجهل بالتربية بشكل عام، وبكيفية التعامل مع المراهقين بشكل خاص، وقد وضع الإسلام منهجاً تربوياً يكفل بناء الشخصية بناءً صحيحاً، وهو خير من المناهج الغربية، فعلى الآباء الالتزام بمنهج الإسلام، والتعامل مع المراهقين على أساس توجيهاته.

أثر البيئة الأسرية في تكوين الشخصية

أثر البيئة الأسرية في تكوين الشخصية الحمد لله كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وصلى الله على نبينا محمد الذي أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيه أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ ثم أما بعد: فعن الأسود بن سريع رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وهذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في سننه، ورمز له السيوطي بالصحة. قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود) يعني: كل مولود من بني آدم يبقى على هذه الفطرة، ويولد سليماً نقياً مستعداً لتوحيد الله سبحانه وتعالى؛ ولو افترضنا أن هناك طفلاً ولد في مكان بحيث تهيأت له أسباب الحياة دون أن يخالط أي مخلوق من البشر؛ لنطق هذا الطفل إذا شب وبلغ بالتوحيد، ولاهتدى بفطرته التي غرسها الله فيه إلى توحيد الله سبحانه وتعالى والإيمان به. فالفطرة السليمة هي الأصل، ثم يطرأ بعد ذلك الانحراف بسبب عوامل منها: عوامل البيئة، والوالدين، وهما من أقواها؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)؛ ففي هذا إشارة إلى خطر تأثير الأبوين في اتجاه ومستقبل أولادهما. فإذا كانت التربية فاشلة، أو كان الوالدان كافران؛ فهذا الطفل سوف يقلد أبويه، وتفسد فطرته بهذه العوامل، أما إذا بقي على الفطرة السليمة النقية، ثم جاء الأبوان يقويان هذه الفطرة؛ حينئذ ينظر فيما نصب من الدلائل الجلية على التوحيد وفقه الرسول صلى الله عليه وسلم نظراً صحيحاً يوصله إلى الحق والرشد، ويعرف الصواب ويلزم ما طبع عليه في الأصل من هذه الفطرة. أما إذا كان أبواه يهوديين أو نصرانيين فهما اللذان يهودانه أو ينصرانه ويكونا السبب في الانحراف عن هذه الفطرة. وقوله: (أو يمجسانه) أي: يدخلانه المجوسية، بأن يصداه عما ولد عليه، ويبينا له الملة المبدلة والنحلة الزائفة، وهذا لا ينافيه قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]؛ لأن المراد به: لا ينبغي أن تبدل تلك الفطرة، وحق هذه الفطرة أن تبقوا عليها؛ لأنها صبغة الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، أو قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]: خبر يراد به نهي الناس عن أن يتسببوا في تبديل فطرة الله، وفي مسخ عقائد الناس، فهو خبر بمعنى النهي كما قال البيضاوي. والفطرة تدل على نوع من الفطر، وهو الابتداء والاختراع، فقد تنازع أعرابي مع آخر على بئر فقال أحدهما للآخر: أنا الذي فطرتها، يعني أنا الذي ابتدأت حفرها، والمعني بها هنا: تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة؛ إذ ليس المقصود قطعاً فطرة الإسلام، وليس المقصود أن المولود إذا ولد يكون عالماً بالإسلام والإيمان والإحسان، ومتعلماً قضايا التوحيد بدلائلها وغير ذلك؛ لأن الواقع غير ذلك، لكن المقصود التهيؤ والاستعداد لقبول الحق، وهذه الفطرة لا تلبث أن تنمو رويداً رويداً إلى أن تصل أقصاها في سن البلوغ الذي جعله الله سبحانه وتعالى سن التكليف؛ فحينئذ تفصح عن نفسها، ويعرب هذا الإنسان عما رسخ في فطرته من الاعتقاد في حقائق الوجود؛ لأن أقوى دليل على وجود الله سبحانه وتعالى هو الفطرة نفسها؛ فكل إنسان يشعر بهذه الحقيقة الإيمانية الكبرى؛ فالإنسان إذا ترك على ما فطر عليه، واستمر على لزوم هذه الفطرة، ولم يفارقها ولم يغيرها؛ فلسوف يبقى على هذه الفطرة وسيقبل الإسلام ويستقيم على دين الله سبحانه وتعالى؛ وإنما يعدل عنه بآفة من الآفات البشرية والتقليد، فالفاء في قوله: (فأبواه)، للتعقيب أو للتسبب، أي: إذا تقرر ذلك فمن تغير عن هذه الفطرة فإنما يكون ذلك بسبب أبويه. والحاصل أن الإنسان مفطور على التهيؤ لأن يدين بالإسلام بالفعل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، فنحن نُخلَق ولا نعلم شيئاً، لكن هذه البذرة موجودة في قلب الإنسان بعوامل متعددة، ويبدأ يستيقظ فيه هذا الشعور ويتنامى ويكثر في وقت من الأوقات، ذلك حينما تكثر أسئلة الطفل عن الوجود والسماء والشمس والقمر، ويبدأ يسأل أسئلة ليستكشف بدافع من هذه الفطرة الكامنة فيه حقائق الوجود، حتى إذا ما وصل سن التكليف فإنه يكون ناضجاً لدرجة تؤهله أن يكون مكلفاً -كما سنبين إن شاء الله تعالى- فهو مهيأ للإسلام بالقوة؛ لكن لابد من التعلم واكتساب العلم بالفعل، فمن قدر الله كونه من أهل السعادة قيض الله له من يعلمه سبيل الهدى؛ فصار مهذباً بالفعل، ومن خذله وأشقاه سبب له من يغير فطرته ويثني عزيمته، والله سبحانه وتعالى هو المتصرف في عبيده كيف يشاء، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]. وهذا الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: (كل إنسان تلده أمه على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ فإن كانا مسلمين فمسلم)، ورواه البخاري بلفظ: (كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها من جدعاء). خلاصة الكلام في هذه القضية: أن هذا الحديث يشير إلى عنصر مهم جداً في تكوين الشخصية في مراحل الطفولة أو الشباب أو المراهقة، وهو تأثير البيئة التي تعد أخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق، وبالذات بيئة الأسرة التي تحيط بالإنسان. وهو أيضاً يشير إلى أهمية استقلالية المسلمين في استقاء المناهج التربوية عن الملاحدة والكافرين من أهل الغرب وغيرهم الذين اقتحموا هذا الباب وأفسدوا فيه كثيراً من الأمم في هذا المجال كثيراً وأبعدوها عن صراط الله سبحانه وتعالى المستقيم. والحقيقة أن المناهج التربوية السوية والمستقيمة ينبغي أن تكون حكراً على المسلمين؛ بناءً على قوله تبارك وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وترببية النفس البشرية ليست كغيرها من العلوم التي تخضع للتجارب المعملية والأمور الحسية، إنما هي محاولة لاستكشاف خصائص هذه النفس، وقد يصيبون أحياناً ويخطئون أحياناً أخرى، ويختلط عندهم الخطأ بالصواب، نظراً لاختلاف الثقافة والمفاهيم للحياة وللكون والألوهية، فمن الخطأ الجسيم أن تطبق هذه المناهج الغربية التربوية على أبناء المسلمين مع الاختلاف الشاسع بين قوم يؤمنون بالله وبالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وبين قوم يكفرون بالله سبحانه وتعالى وكتابه ورسوله؛ لا شك أن العقيدة سوف تنعكس في هذه المناهج كما سنرى ذلك بالتفصيل. كما أن كثيراً من حقائق هذه العلوم النفسية مبثوثة في ثنايا القرآن والسنة، وقد يأتي الشق السليم من علوم النفس وعلوم التربية ويتوافق تماماً مع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، وهذه العلوم لا تؤكد هذه المفاهيم، وإنما هي تستكشف حقائق قد غرسها الله سبحانه وتعالى في هذه المخلوقات بالفعل، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، هذه الآية تشير إلى حقيقة تعترف بها العلوم الحديثة، وقد تزعم أنها هي التي استنبطتها، وهي: أن هناك فرقاً بين البلوغ وبين الرشد، فقد يبلغ الإنسان ولا يكون راشداً، بالذات في أوائل مرحلة المراهقة، فهو من الناحية الجسمية أو التناسلية صار ناضجاً، لكنه ليس راشداً فيتأخر النضج العقلي عن النمو الجسدي، فهذه الأمور موجودة في هذه الآية الكريمة؛ لأن الله تعالى قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}، هذه إشارة إلى أن البلوغ هو في جانب التناسل، وحينئذ يبدأ اختبارهم كي تعلموا هل بلغوا الرشد أم لا؟ فإذا بلغوا الرشد {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]. أيضاً هذا الحديث لا شك أنه يعكس معلومة مهمة جداً، وهي تأثير البيئة التي تعتبر أكبر وأخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق. وعليه سنبدأ إن شاء الله تعالى بفتح ملف المراهقين؛ كيف نفهم المراهقين؟ وما هي مشاكل المراهقين؟ وكيف ينبغي أن تحل؟

سبب الحديث عن مشاكل المراهقين

سبب الحديث عن مشاكل المراهقين كان الأولى بنا أن نبدأ بالمراحل الأولى من الأمور التربوية وهي مرحلة الطفولة الباكرة التي تبدأ من الميلاد إلى ما بعدها من المراحل، لكن هناك أسباب ستتبين إن شاء الله من خلال البحث تسوغ لنا البداءة بموضوع المراهقين رغم أنه ليس متماشياً مع الترتيب المنطقي لهذا الأمر.

الحرص على نفع الإنسان ودفع ما يضره

الحرص على نفع الإنسان ودفع ما يضره قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (احرص على ما ينفعك)، هذا هو الدافع الأساسي للتوقف عند هذه القضية الحيوية لدراستها والاهتمام بها؛ فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) مفهومه: تجنب ما يضرك، أو اجتهد في تجنب ما يضرك؛ فمن هذا المنطلق نحن نعطي هذه القضية قدراً خاصاً من الاهتمام.

انتشار الأمية التربوية

انتشار الأمية التربوية الواقع أننا الآن في أزمة تربوية شديدة، يمكن أن نعبر عنها بالأمية التربوية؛ إذ لم تعد الأمية قاصرة على العجز عن القراءة والكتابة، فقد أصبحت الأمية التربوية موجودة في طوائف هم أولى الناس بأن يحيطوا بها علماً، وعلى الأخص الآباء والأمهات الملتزمون بهذه القضية. وللأسف الشديد أن بعض المدرسين اليوم في داخل مكان يسمى سابقاً وزارة التربية والتعليم نسمع عنهم أشياء سيئة نتيجة عدم الخبرة التربوية، أو فساد بعض من ينتسبون إلى فئة التدريس، الأمر الذي ينعكس بلا شك على هؤلاء الطلبة، ويصبحون هم فيما بعد هم الضحايا للتوجيه الخاطئ الذي يفتقر إلى كثير من المبادئ التربوية السليمة. وننبه إلى غلطة فادحة يقع فيها أحياناً المدرسون والمدرسات والآباء والأمهات بغض النظر عن خطر البيئة من حول المراهق من أصدقاء ووسائل الإعلام، وغير ذلك من المؤثرات التي سنشير إليها؛ فبقي المسجد هو الحصن الباقي من حصون الإسلام كي ننطلق منه إلى المناهج التربوية، والتوعية التربوية السليمة لحماية أبناء المسلمين قدر المستطاع من هذه المؤثرات، ولا شك أنكم سمعتم بالمأساة الأليمة التي وقعت في إحدى المدارس القريبة من المسجد، حيث خرجت منها هذه الفئة الضالة من الأولاد الملاحدة الذين يزعمون أنهم يعبدون الشيطان، وهذا أمر ما كنا نتخيله. الأعجب من ذلك ردود أفعال المجتمع، فقد وجدنا فزعاً شديداً من كلمة عبادة الشيطان، ومناسك عبادة الشيطان، وما يفعله هؤلاء الأولاد، في حين وجدنا أموراً في غاية التناقض، دخلت أحد المحلات لأشتري بعض الأشياء، فشاهدت في التلفزيون رجلاً مهندماً حليقاً يتكلم بقال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، ويعيب على الأسرة إهمال التربية، وفساد الشباب، فلفت نظري أن الكاميرات تنقل صوراً من الذين يحاضرهم هذا الشخص وهم جالسون بمنتهى التأثر، وكأن لسان حالهم يقول: كيف أصبح أولادنا يعبدون الشيطان؟ ومن هؤلاء أمهات في غاية التبرج، ولا تدري أنها أيضاً تعبد الشيطان، وقد اجتمعوا من أجل مناقشة عبادة الشيطان في حين أن كثيراً منهم يعبدون الشيطان وهم لا ينتبهون؛ لماذا؟ لأن الشيطان خدعهم بأن سول لهم عبادته، لكن بطريقة لا تحمل اسم عبادة الشيطان، فما أكثر الذين يعبدون الشيطان! هل آزر والد إبراهيم كان يقول: أنا أعبد الشيطان، أم أن الشيطان سوغ له عبادة الأصنام؟ ومع ذلك قال له إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، وقال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]. فالعبادة نوعان فقط: عبادة لله وعبادة للشيطان، لكن الناس يتفاوتون في مقدار عبوديتهم للشيطان، فمن عبده بأن أطاعه بارتكاب المعاصي فهذا فاسق فاجر، ومن أطاعه في استحلال المعاصي فهو كافر خارج من الملة، فالحقيقة أن كثيراً من الناس في مجتمعنا يعبدون الشيطان، لكنهم فزعوا لأن هذه عبادة صريحة، وإلا فإن كل معصية وكفر يقع في هذا الوجود إنما هو من الشياطين التي تؤزهم أزاً على هذه المعاصي، وهم في الحقيقة يطيعون الشيطان. لا نريد أن نخرج عن موضوعنا؛ لكن هذه من أقبح ثمرات الفوضى، أو بتعبير آخر فالأمية التربوية التي تشيع الآن في مجتمعاتنا، تؤكد ضرورة التوعية بالنسبة لهذه المراحل الخطيرة من مراحل العمر.

الحصن الأخير للتربية هو المساجد

الحصن الأخير للتربية هو المساجد هل هذا الموضوع يناسب دراسته في المسجد؟ لا شك طبعاً؛ لأن المسجد صار الآن هو الحصن الوحيد الذي يؤمن على التوجيه والتربية والتوعية، وقد توجد أماكن أخرى! ويوجد من المدرسين أناس أفاضل يراعون هذه الأشياء، ويتقون الله في توجيه الشباب وغير ذلك، لكن يبقى المسجد هو المنطلق؛ لأن الإسلام هو دين حياة وليس ديناً منعزلاً كالكنيسة، فهو دين يتعامل مع الحقائق كحقيقة، وهو حقيقة تتعامل مع الواقع وليس نظرية مثالية تتعامل مع الفروض والخيال. وكل واحد منا أحد اثنين: إما أب عند هؤلاء الذين يوشكون أن يقتربوا من المراهقة، وإما أب عنده أولاد بالفعل دخلوا مرحلة المراهقة، وإما إخوة يعمرون المساجد -أغلبهم أيضاً من المراهقين- يحتاجون إلى أن يعرفوا ما لهم وما عليهم. فالآباء يحتاجون إلى فهم طبيعة هذه المرحلة حتى يتوقوا الأخطار التي يمكن أن تنعكس انعكاساً خطيراً على مستقبل أبنائهم، ولا مانع في نفس الوقت من الاستفادة من الدراسات النفسية الحديثة، فالحكمة ضالة المؤمن يلتمسها أنى وجدها، ومعلوم أن الجزء الصحيح في علوم النفس وعلوم التربية هو ما يتوافق مع الإسلام، ولا حرج من الاستفادة من هذا المجال؛ لأن سنن الفطرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في المخلوقات واحدة لا تتغير، والعلوم والبحوث الحديثة قد تستكشف بعض الأمور المكنونة في هذه النفس الإنسانية، والله سبحانه وتعالى أشار إلى المراحل التي يمر بها الإنسان في قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].

الاهتمام بالنمو الجسمي دون الاجتماعي

الاهتمام بالنمو الجسمي دون الاجتماعي من الأخطاء التي نقع فيها: أن الذي يلفت أنظارنا في الغالب هو النمو الجسمي للطفل: كان رضيعاً، ثم بدأ يترقى في مراحل الطفولة، ثم يدخل مرحلة المراهقة بمراحلها الثلاث، ثم يدخل بعد ذلك في مرحلة الرشد، ثم مرحلة العمر المتوسط، ثم الشيخوخة، فالذي يلفت أنظارنا أكثر هو النمو الجسمي، ونغفل عن أنواع أخرى من النمو، وبالتالي لا نواكب هذه التطورات. فهناك نمو آخر غير النمو الجسمي، فكما أن الجسم ينمو فإن النفس تنمو وتمر بمراحل، والعقل ينمو ويمر بمراحل، والعواطف تنمو أيضاً، كذلك السلوك الاجتماعي وبعض الناس قد تتغير تعاملاته مع ابنه نظراً لنموه الجسمي؛ لكنه لا يدرك النمو النفسي، وأن كل مرحلة لها طبيعة لابد أن يتفهمها ليعرف كيف يتعامل مع ابنه لكي يجتاز هذه المرحلة بسلام.

مرحلة المراهقة مرحلة بناء الشخصية

مرحلة المراهقة مرحلة بناء الشخصية مرحلة المراهقة من أخطر مراحل نمو الإنسان، بمعنى أنها تتطلب رعاية خاصة، فإذا تصورنا دائرتين متداخلتين، دائرة الطفولة ودائرة الرشد، فإذا تداخلت هاتان الدائرتان تولدت بينهما المسافة المشتركة، وهي مرحلة المراهقة، ويكاد المراهق إذا وقف على أطراف أصابعه أن يتطلع إلى عالم الرجولة، وفي نفس الوقت يريد أن يتخلص من آثار مرحلة الطفولة كما سنبين إن شاء الله تعالى. فخطورة هذه المرحلة بجانب مرحلة الطفولة؛ لأنها أساس بناء الشخصية، والشخصية يبدأ تكوينها مبكراً أكثر مما نتخيل؛ فنحن ننظر للطفل الرضيع على أنه مضغة لحم نلهو بها ونفرح بها فقط، لكن الجوانب التربوية نهملها مع الرضع ثم مع الأطفال بعد ذلك في المراحل المختلفة، على حين أننا نجهل أن بذور الخير أو الشر أو الصحة النفسية أو الأمراض النفسية كلها توضع في هذه المرحلة الأولى، ولا تلبث أن تنمو حتى تظهر فيما بعد، ثم إذا بلغ عمره ثمان عشرة سنة أو عشرين سألنا: أين التربية؟ ولم يعد هناك تربية في هذه السن؛ بل هو علاج؛ لأن التأسيس وبناء الشخصية ينتهي في مرحلة المراهقة، وكل ما يأتي بعد مرحلة المراهقة والطفولة يكون نتاجاً وثمرة لما تلقاه الإنسان من تربية في فترة الطفولة ثم المراهقة. إذاً: لو تمكنت الصفات والخصائص من الشخصية في مرحلة البناء والتأسيس، فما بعد ذلك هو ثمرة لهذه التربية، والتربية لا تبدأ بعد اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين سنة، ولكنه علاج للتربية الخاطئة، كما لو وجد إنسان فيه عاهات نفسية فإنه يحتاج إلى علاج وليس إلى تربية؛ لأن التربية قد فات وقتها، ونحن لا نيأس ولا نؤيس ولكن ننبه على أهمية الاهتمام المبكر بالتربية المبكرة منذ أول يوم يولد فيه الطفل، بل في الحقيقة منذ كان جنيناً في بطن أمه، بل أخص من ذلك منذ أن اختار أمه التي ستلده. أيضاً هذه المرحلة هي مرحلة تأسيس وبناء شخصية هذا الإنسان وتحديد ملامحها، كما أنها مرحلة مفترق الطرق بالنسبة للمراهق، ويكون له أحاسيسه المرهفة، وبالتالي يتخذ في هذه المرحلة قرارات مصيرية تؤثر في كل مستقبله فيما بعد. مثال: الطالب يحدد اتجاهه في الدراسة أو المهنة خلال هذه المرحلة، وتتخذ قرارات مصيرية ومستقبلية؛ إذاً: التوعية المبكرة بهذه الأمور تقي كثيراً من المخاطر، فالاهتمام بهذه القضية هو من باب أن الوقاية خير من العلاج، وكما يقولون: الدفع أسهل من الرفع، قبل أن تنزل المصيبة اتق حصولها من البداية، إذا جاءت سيارة أيهما أسهل: أن تدفع السيارة أم أن ترفعها في الهواء؟ لا شك أن الدفع أسهل من الرفع، وهذا هو نفس معنى: الوقاية خير من العلاج؛ ولذلك كلما زاد الإنسان وعياً كلما احتاط في اتخاذ الإجراءات الوقائية، ونتائجه تكون مضمونة وأقرب من الإجراءات العلاجية؛ لأنه قد يستجيب للعلاج أو لا يستجيب.

جهل الآباء بالتربية الصحيحة

جهل الآباء بالتربية الصحيحة واقعنا الذي نعيشه مما يفرض علينا الاهتمام بهذه القضية، حيث يوجد من الآباء من يجهل أن هناك علماً اسمه: علم تربية، فمن الآباء من لا يلتفت أصلاً لشيء اسمه تربية، ولا مناهج تربوية، ولا أسس تربوية، وموضوع التربية عنده ينحصر في كيف أن يطعم ولده طعاماً جيداً، ويلبسه ملابس جيدة وغير ذلك من الاحتياجات الحسية، ولا تخطر على باله خطورة موضوع التربية، بالتالي تحصل ممارسات خاطئة من الآباء نتيجة ما ذكرناه من نسيان الأمية التربوية، حتى ربما كان الشخص أستاذاً في الجامعة، ويرتكب أخطاءً فادحة من الناحية التربوية، وأنا أعرف بعض النماذج من هؤلاء. فنتيجة الجهل بقواعد التربية أو القواعد الصحية أو النفسية يحصل كثير من الأخطاء، فنلاحظ الشخص الكبير الذي لا يفهم الأسس التربوية يضع عقله بموازاة عقل الطفل الصغير، فإذا أخطأ الطفل فإنه يوجهه طبقاً لقدراته العقلية هو! فإذا أخطأ الطفل وجد الضرب الشديد، وليس الضرب الذي هو نوع من أنواع العلاج بشروطه! بل الضرب للتشفي وللانتقام، فلذلك لا يتوقف الضرب حتى يفرغ كل شحنة الغضب من صدره، وهذا الضرب غير مشروع، ويعتبر إساءة بالغة! لأن الضرب إنما شرع كعلاج، وله شروط حتى يكون علاجاً. كذلك الأب الذي عنده الخبرة بالحياة، والنضج الكامل حينما يتعامل مع المراهق وتبرز مشاكل نتيجة الخلل سواء من المراهق نفسه أو من الأبوين -كما سنذكر أمثلة على ذلك- لكن الإنسان إذا أدرك كيف يفكر من أمامه، استطاع أن يتعامل معه؛ فالمراهق هذه المرحلة بالنسبة له مرحلة مؤقتة يمر بها، كالنزوع للتمرد، والنزوع للاستقلالية، وإثبات الذات ولو بأي طريقة، والتمرد على الكبار، هذه ظواهر تعتبر طبيعية في هذه المرحلة بالذات، وهذا أمر متوقع. المهم: كيف يمر خلال هذه المرحلة بسلام وبأقل قدر ممكن من المشاكل والأضرار؟ كما ذكرت من قبل: كثير من الآباء يكون عنده منهج تربوي لكنه منهج تربوي خاطئ، فيتصور أن أحسن تربية هي التي رباه عليها أبوه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، فهذا المنهج الذي وجد عليه أباه هو أحسن تربية، فبالتالي يطبق نفس الأساليب التربوية التي سلكها معه أبوه، بغض النظر عن صحتها أو خطئها أو وضعها على معايير أو موازين التربية العلمية الصحيحة، لذلك نجد من بعض هذه الممارسات ما يترك أثراً سيئاً جداً، فبعض الآباء يطرد الابن من البيت، وهذا فيه إهانة لهذا الولد أو الشاب أمام أصدقائه، وكذا تحقيره كأن يقول له: أنت لست بنافع أنت فاشل أنت ليس فيك أمل؛ كل هذا الكلام في الحقيقة ليس علاجاً؛ لأن الاستبداد المطلق في التعامل مع المراهق بطريقة فيها غلو شديد يقضي على شخصيته، ويخرجه مشوهاً نفسياً. قد توجد بعض التصرفات دقيقة جداً لا ينتبه الإنسان إليها، وفي نفس الوقت تترك أثراً غير حميد في نفسية المراهق في مرحلة المراهقة المبكرة خاصة، فإذا مرض الولد تجده يريد أن يثبت أنه رجل كبير، وليس طفلاً صغيراً، فقد يحمل في نفسه إذا وجد أن أباه يصطحبه إلى طبيب الأطفال، أو يذهب إلى المحل فيقول: هل عندك أثاث أطفال؟ وأمثال هذه التصرفات التي هي عفوية لكنها تنعكس في نفسية هذا الطفل وهو مهتم جداً بكيف يعامل، ويريد أن يعامل الآن على أنه رجل، وأن يودع مرحلة الطفولة.

أخطاء المدرسين التربوية

أخطاء المدرسين التربوية أشرنا من قبل إلى أن من أسباب الخلل في هذا المجال: ما يصدر ممن كانوا فيما مضى يؤتمنون على التربية والتعليم والمناهج، والوزارة العلمانية الخبيثة لها دورها في تدمير وتجفيف منابع الإسلام في مناهج التربية. فلم يعد هناك تربية أصلاً، ولم يعد ذاك الاهتمام الذي كنا نلقاه من قبل في طفولتنا مع المدرسين، فكم من كلمة طيبة من مدرس غيرت مجرى حياة إنسان! وكم من سلوك خاطئ من مدرس قد يحرف حياة الشاب أو هذا الطفل طول حياته فيما بعد! فإذاً الأخطاء التي تقع من الذين يؤتمنون على مناهج التربية، كالمدرس الذي يناقش الأولاد مثلاً عن الأفلام مسلسل الليلة الماضية ما رأيك في أغاني فلان وفلان من المطربين؟ أو المدرسة التي تقول للأطفال: سأمتحنكم غداً! ثم في اليوم التالي لا تفعل، لماذا؟ تقول: أنا كنت أضحك عليكم من أجل أن تذاكروا، دون أن تلتفت إلى أن هذا فيه تدمير لشخصية المدرس. المدرس قد يثبت سلوكاً متناقضاً أمام التلاميذ! فيكذب، أو يغش، أو يحتال، وغير ذلك من هذه السلوكيات ومن ذلك أن مدرس المادة قد يرى طالباً داخل لجنة الامتحان فيقول له: قابلني إذا أفلحت! فهل هذه تربية؟! والنماذج كثيرة جداً، وأغلب المدارس تقع فيها هذه الأخطاء.

الحماية أو الشدة الزائدة من الآباء

الحماية أو الشدة الزائدة من الآباء بعض الآباء يسلك مسلك الحماية الزائدة، حتى إن ابنه يبلغ هذه السن وهو لا يسمح له بأن يعبر الطريق إلا وهو يمسك بيديه حتى لا تصدمه السيارات، وهذه حماية زائدة وتدليل زائد! وهذا فيه تحطيم لشخصية هذا الطفل. وبعض الآباء عنده إهمال تام، خاصة في حالة انفصال الأبوين، أو إذا سافر الأب عن البيت، فهذا أيضاً ينتج الانحرافات، وأضرارها ظاهرة كما ترون في هؤلاء الذين يعبدون الشيطان. فالذي يقع إما إطلاق العنان للمراهق بزعم أنه الآن في مرحلة ينبغي أن يعتمد فيها على نفسه، وهذا تأثر بالمناهج الغربية الفاسدة في التربية، وإما الكبت الشديد والاستبداد والقهر والبطش، وهذا أيضاً مما ينتج آثاراً سيئة، بعض الناس من نظرته الخاطئة للتربية يمدح من ينظر إلى ابنه نظرة بعينيه فيرتعد! فهو يرى أن هذه هي التربية السليمة، وهكذا كثير من الخطأ والخلل موجودة في المناهج التربوية.

المشاكل في حياة المراهقين وكيفية علاجها

المشاكل في حياة المراهقين وكيفية علاجها هناك الكثير من المشاكل الملحة التي يعاني منها المراهقون، ونحن حينما نتكلم عن المراهقين لا نقصد الذين يأتون إلى المساجد فقط؛ لأن هؤلاء أراد الله بهم خيراً بأن يأووا إلى بيوت الله، وأن يكونوا ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شاب نشأ في عبادة الله)؛ لكن نقول: كل من ينتسب إلى الإسلام من شباب المسلمين وأبناء المسلمين هم منا ونحن مسئولون عن إنقاذهم وانتشالهم من الضياع. انتشار ظاهرة التدخين: معروف أن التدخين يبدأ في مرحلة المراهقة؛ لأن المراهق يريد أن يثبت أنه رجل؛ فيتشبه بالرجال، ويرى البطل في الأفلام يدخن، ويرى إعلانات التدخين، فيعتقد أن التدخين من خصائص الرجولة؛ فيبدأ التقليد والمحاكاة، فيقع فريسة لهذه العادة السيئة. والتدخين هو حضانة الإدمان؛ لأن نسبة كبيرة جداً من المدمنين لابد أن يكونوا مدخنين، وقليلاً ما تسمع عن شخص أدمن ويكون قد نجاه الله من التدخين مسبقاً، بل المرحلة الإعدادية للإدمان هي التدخين، ثم بعد ذلك يأتي الإدمان كما تعلمون. الفواحش توجد أيضاً في مثل هذه المرحلة، وواضح تماماً أن الأولاد الذين يعبدون الشيطان ما فزعوا إلى ذلك إلا اتباعاً لشهواتهم، فالموسيقى التي هي من الخمر، لأنها تفسد الروح كما تفسد الخمر العقل والبدن؛ تحتاج إلى توعية بخطرها ومنافاتها للدين، ولا عجب أن كان من أهم مداخل هؤلاء الشباب لعبادة الشيطان الموسيقى، والسلف رحمهم الله تعالى سموها من قبل (مزمار الشيطان)، كما قال أبو بكر: وسماها العلماء: (قرآن الشيطان المضاد لقرآن الرحمن) وأنها رقية الزنا، وغير ذلك من التعبيرات التي سموا بها هذه الموسيقى. العادات القبيحة التي تنتشر أيضاً بينهم: رفاق السوء، وكيف يتخلصون منهم؟ عقوق الوالدين، ونلاحظ في قضية العقوق بالذات الفارق بين المنهج الإسلامي وبين المنهج الغربي الإلحادي، فالمنهج الإسلامي ينظر للمراهق على أنه مكلف مسئول عن تصرفاته، وهذا لا يأتي عبثاً، بل هو من حكمة الله سبحانه وتعالى. أما المناهج الغربية فإنها تركز على عملية التبرير لما يقع، وأن الطفل ينبغي أن يطلق له العنان إلى حد ما، بل يعيبون على الإسلام إيجابه بر الوالدين، وأن يعطي الوالدين هذه السلطة وهذا الحق، مع أن بر الوالدين مما يجب بالعقل، ولو أن الله سبحانه وتعالى لم ينزل في القرآن والسنة نصوصاً توجب بر الوالدين لكان العقل موجباً لبر الوالدين، ولو وجد من عنده عقل سليم؛ فإنه سوف يصل بهذا العقل إلى وجوب بر الوالدين، فكيف إذا انضم إلى ذلك الشرع؟ فالمناهج التربوية الحديثة لا تعطي حيزاً كبيراً لقضية العقوق؛ أما المناهج الإسلامية فإنها تجعله مسئولاً، وتوجب عليه أن يكون حذراً في تصرفاته مع والديه حتى لا يقع في العقوق الذي هو أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله سبحانه وتعالى، ولا يسوغ ذلك ولا يبرره بأنه في مرحلة المراهقة التي فيها الاستقلالية والتمرد، لأن العقوق قد ينعكس بعد ذلك في كل حياته إذا غضب عليه والداه. أيضاً نجد كثيراً من الشباب لا ينظر إلى الدراسة على أنها عبادة، وليست من أجل الاستقلال الاقتصادي فقط، والصحيح أنه ما دامت الدراسة على الأقل مباحة، وأبوك أو أمك يأمرانك بها؛ فينبغي أن تحتسب أجر هذه الطاعة، وتجتهد في هذه الدراسة، خاصة وأنه يفرغك ويعينك بماله للدراسة، فواجبه أن ينفق عليك، وأنت واجبك أن تستذكر في المقابل؛ والكثير من الشباب لا نجده مقتنعاً بذلك؛ مع أن هذه تنتقل إلى مجال العبادة، وهي طاعة للوالد فيما يهواه، وإذا كان هواه لا يصادم الشرع فأنت مطالب بأن توافقه في هواه. قلنا من قبل: إن الملتزمين أحوج للاهتمام بهذه القضية من غيرهم، باعتبار أن انفتاح المجتمع يجعل الإنسان شخصية لا تشكلها الأسرة فحسب، فهناك المدرسة، والرفقة، ووسائل الإعلام إلى كثير جداً من المؤثرات التي أصبحت تشارك الأسرة وتنازعها، بل قد تستولي منها على زمام التربية تماماً كالتلفاز والفيديو والبث المباشر، وغيرها من الأمور التي زلزلت مركز الأسرة، وصارت كالأب الثالث المزاحم للأبوين في عملية التربية. أيضاً صعوبة التكيف مع الأحداث التي نعيشها، وبخاصة مسألة اشتداد (غربة الإسلام) يوماً بعد يوم وفي العلوم النفسية أنه لابد أن تتكيف مع المجتمع الذي أنت فيه حتى تكون صحيحاً نفسياً؛ أما نحن فنتكيف مع المجتمع الإسلامي الذي هو في بيتنا في مسجدنا ونقيم ما يمكن أن نسميه المجتمع المصغر، حتى نحمي أنفسنا من فساد المجتمع الأكبر، فبالتالي لا شك أن الإنسان يتعرض لصراع بين البيت والمدرسة، وبين البيت والإعلام، فأقوى وسيلة وقائية بعد الاستعانة بالله سبحانه وتعالى أن يكون هناك توعية وإقناع للأبناء بمنهج الإسلام، لكي يتسلحوا بما يقنعهم؛ لأن الإقناع سلاح مهم جداً في مرحلة المراهقة، ويكون الإقناع عن طريق إقامة الأدلة بكل أنواعها، وذلك حتى يقتنع المراهق ويتحمل نفس الفكر، أما إذا انتظرت منه أن يخرج مثلك، وظننت أنه في مأمن، فقد أخطأت؛ لأنه يغزى من جوانب أخرى كثيرة خارج البيت، فبالتالي يحتاج إلى تكييفه بما يخرجه معتزاً بدينه، متمسكاً به، صابراً على غربة الإسلام. المراهقة في نظر علم النفس الحديث: هي مرحلة نمو طبيعي، وإن كان المراهق في الحقيقة لا يتعرض لأزمة في هذه الفترة طالما أن النمو يسري ويجري في مجراه الطبيعي وفقاً لاتجاهاته الانفعالية والاجتماعية. أكبر مشكلة تبرز في حياة المراهقين اليومية، والتي تحول بينه وبين التكيف السليم، هي علاقته بالراشدين، وبالذات الآباء منهم؛ فهو يكافح بالتدريج كي يتحرر من سلطة الآباء؛ لأنه يريد أن يكون كالكبار من حيث المركز والاستقلال، فبالتالي يريد أن يصل بسرعة لمستوى الكبار ويتحرر تماماً من سلطتهم، وبالتالي تنشأ الصراعات. فالمراهق لا ينصت لأحد ممن يكبره، وهو يعتقد أن طريقة معاملته لا تتناسب مع ما وصل إليه من نضج، وما طرأ عليه من تغيير، وتجده يقول: لا يوجد من يفهمني أو يدرك ما عندي من خبرة وأني أستطيع أن أستقل بالأمور، وقد يجد أن الآباء قد يتدخلون في شئونه الخاصة، فيكثرون أسئلة من نوع: أين كنت؟ ومع من؟ ماذا تقرأ؟ ماذا استمعت؟ ماذا كان يقول لك فلان؟ فيتدخلون بصورة تفصيلية في هذه المظاهر الحياتية، وبالتالي يتمثل الأمر في صورة صراع بينه وبين الكبار، فيصبح الوضع في المنزل أو عمل الأبوين مثل عمل الشرطة التي تضبط الناس وتراقبهم وتتابعهم، فيصير البيت كأنه ثكنة عسكرية أو مركز شرطة بين هذا المراهق وبين الأبوين. لكن المنزل الصالح الذي يخرج شخصاً سليماً معافىً من الآفات النفسية هو الذي يتفهم حاجة المراهق إلى الاستقلال وصراعاته من أجل أن يحقق ذاته، ثم يساعده ويشجعه بقدر الإمكان، فينبغي أن يتعامل معه كرجل قادر على الاستقلال، كما يشجعه على تحمل المسئوليات، واتخاذ القرارات، والتخطيط للمستقبل؛ هذا الفهم لمركز المراهق لا يأتي دفعة واحدة، ولكنه يكون محصول سنوات من الاستقلال التدريجي المتزايد، وإبراز الذات، والأسرة هي التي ينبغي أن ترسم الخطط لمراهقها حتى يتعلم الاعتماد على نفسه في سن مبكرة، فبذلك تعمل أحسن ما في وسعها لتأكيد نضج الفرد، هذا النوع من التوجيه يجب أن لا يكون أمراً عرضياً، لكنه ينبغي أن يكون نتيجة تفكير عميق وواع من الآباء، فالآباء يجب أن يسألوا أنفسهم على الدوام: متى نستطيع أن نسمح لولدنا المراهق أن يفعل هذا أو ذاك؟ ومن ثم يحدد هو بنظرته ما هو السلوك السليم في كل مرحلة؟ ما هي الفرص التي نسمح له بها كي يمارس استقلاله ويكتسب خبرات جديدة في الحياة وتبرز نضجه وذاته؟ فأحسن سياسة تتبع مع المراهق هي: سياسة احترام رغبته في الاستقلال والتحرر، لكن بشرط عدم إهمال رعايته وتوجيهه؛ فهذه السياسة تؤدي من جهة إلى خلق جو من الثقة بين الآباء وأبنائهم، وبالتالي يستطيع الابن أن يستفيد من خبرات أبيه ويصغي إلى نصحه، وفي نفس الوقت تساعد المراهق نفسه على أن ينمو نمواً ناضجاً ومتزناً. وتتميز مرحلة المراهقة في خصائصها عن مرحلة الطفولة والصبا؛ مما يؤدي إلى تعقيد وتنوع مطالب هذا النمو الذي يطرأ على المراهق، وبالتالي تتنوع وظائف المراهق وواجباته، هذا التنوع عبارة عن عملية تمهيدية لاكتمال النضج، ولانخراطه في مجتمع الراشدين، ومجتمع الشباب. أعطى الإسلام هذه المرحلة أهمية تتناسب مع الواقع النمائي للمراهق، كما لفت النظر لهذا الحد الفاصل بين مرحلة الصبا ومرحلة المراهقة، فإن الصبي بمجرد أن يبلغ الحلم وتظهر عليه علاماته؛ فإنه في نظر الشرع لم يعد ذاك الطفل أو الصبي بل غدا فتىً مسئولاً عن كل ما يصدر عنه من سلوك، ويصبح لحينه مكلفاً بكل واجبات العقائد والعبادات والأحكام التشريعية. كما أن من مظاهر أهمية هذا الموضوع أن أكثر الباحثين في هذا الموضوع يهملون إبراز المنهج الإسلامي في تربية المراهقين إبرازاً يظهر تميزه على المناهج البشرية الوضعية. على الجانب الآخر نجد انتشار المزاعم الباطلة والمذاهب المنحرفة التي سادت ولا تزال تسيطر على تفكير الغالبية من علماء النفس، والتي تسربت إلينا من ترهات وضلالات أوروبا والغرب، والتي تطبع بصمتها وتترك تأثيرها السلبي على المراهقين المسلمين. يتعامل الإسلام مع مرحلة المراهقة بحكمة بالغة، ويركز فيها بكثافة على استغلال القوى المتفجرة لدى المراهقين، وتكييفها وتوجيهها الوجهة الصحيحة؛ لتثمر الثمرة المرجوة التي سقيت بذرتها وهذبت شجرتها منذ الطفولة المبكرة، ولا يفصل الإسلام فصلاً تاماً ما قبل مرحلة المراهقة عما بعدها كما يفعل الغربيون، بل يتعامل معها كبناء يستحق أن توضع له الأسس الجسمية والروحية والنفسية والعقلية، حتى يتمكن الإنسان من اجتيازها دون مشاكل تحرف سلوكه، أو تؤثر في بدنه وعقله. فالتركيز على تربية المراهق في المجال النفسي والعقلي الذي يحظى باهتمام كبير في الإسلام أمر طبيعي يتطلبه النمو الجسمي السريع والنمو العقلي للمراهق، وذلك أنه كالسفينة التي تدخل منطقة أمواج عاتية؛ فإنها تحتاج من ربانها قيادة ماهرة حكيمة ت

تعريف المراهقة وأقسامها

تعريف المراهقة وأقسامها أما من حيث اللغة، فيقال: رهقه أي: غشيه ولحق به، أو دنا منه سواء أخذه أم لم يأخذه، والرهق: السفه والنوك والخفة، وركوب الشر والظلم، وغشيان المحارم، وركوب المخاطر، والكذب والعجلة، وحمل الغير على ما يكره. وهذه المعاني قد تجتمع في المراهق الذي تسوء تربيته أو يهمل إهمال البهائم، ويقال: راهق الغلام، أي: قارب الحلم، ويقال: دخل مكة مراهقاً، يعني: دخل مكة آخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف، أي: الوقوف بعرفة، ويقال: أرهقه عسراً: كلفه إياه، ويقال: أرهق الصلاة: أخرها حتى تدنو من آخر الوقت. أما في الاصطلاح فهو: المرحلة النمائية الثانية التي يمر بها الإنسان في حياته من الطفولة إلى الشيخوخة، وهي تتوسط بين الصبا والشباب، وتتميز بالنمو السريع في جميع اتجاهات النمو البدني والنفسي والعقلي والاجتماعي. ووردت مادة رهق بمشتقاتها في القرآن الكريم في أربعة مواضع، منها قوله تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] أي: لا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، في حين قال في الكافرين: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس:27]. وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، أي: ضلالاً وحيرة وقلقاً، {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:13]. أما تعريف المراهقة عند علماء النفس؛ فهم يعتبرون المراهقة مثل الفاصل بين مرحلة ومرحلة، وفي نفس الوقت هي واصل بينهما؛ والمرحلتان هما الطفولة والرشد، فالمراهقة هي التدرج نحو النضج البدني والتناسلي والعقلي والانفعالي. أما البلوغ فيقتصر على ناحية واحدة فقط من نواحي النمو، إذاً: البلوغ يعبر به عن نوع واحد فقط من أنواع النمو وهو النمو من حيث القدرة على التناسل عن طريق الغدد التناسلية، واكتساب معالم جديدة تنتقل بالطفل من فترة الطفولة إلى فترة الإنسان الراشد. إذاً: البلوغ هو بداية المراهقة، ولا يعني النمو في كل مجالات النمو، وعلماء النفس يعتبرون أن المراهقة مرحلة ميلاد جديدة للإنسان، وهو الميلاد النفسي للإنسان عندما يحس بذاته، ويقع بين البلوغ والرشد كما ذكرنا. وكون البلوغ هو بداية المراهقة وليس كل المراهقة أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6]، هذا هو البلوغ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]. ومما تجدر الإشارة إليه أنه فيما مضى كانت مرحلة المراهقة أقل مما هي عليه الآن، وذلك أن فترة المراهقة ليست من الأمور الثابتة، بل من الأمور المتفاوتة باختلاف الثقافات والبيئات والأفراد أنفسهم؛ فهناك فروق فردية سواء بين الذكور والإناث أو بين الذكور أنفسهم، وهناك تفاوت في البداية والنهاية كما سنبين، وفيما مضى كانت مرحلة المراهقة أقل؛ لأن التعليم الإلزامي كان ينتهي عند السنة الثانية عشرة مثلاً، وبعدها يدخل الشخص في دنيا العمل، والزواج قد يكون مبكراً جداً بالذات في البيئات الريفية، فقد يتزوج بعد سن ست عشرة سنة، ويستقل تماماً، أما الآن فامتدت فترة التعليم، وبالتالي امتدت فترة الطفولة من الناحية الاقتصادية، وليس هكذا فحسب، فقد تجد عند بعض الناس أنه لابد أن ينتهي من تعليمه ويدخل مهنته، ثم يتخصص فيها، فبالتالي امتدت هذه الفترة امتداداً كثيراً في المجتمعات المتحضرة، فامتدت فترة التعليم، وطالت فترة العزوبة، وتأخر سن الزواج، وبالتالي لا يستطيع الاستقلال عن أهله اقتصادياً واجتماعياً بسرعة، وبالتالي تمتد فترة المراهقة، فهي تبدأ من البلوغ إلى اكتمال نمو العظام حيث يستقر النمو العضوي عند الفرد، وذلك غالباً بين سن اثنتي عشرة إلى تسع عشرة سنة؛ تزيد أو تقل. تنقسم المراهقة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: المراهقة المبكرة: ويربطونها بالمرحلة التي هي من اثنتي عشرة سنة إلى أربع عشرة سنة، وهي فترة التعليم، ثم المرحلة الثانية: من خمس عشرة إلى ثماني عشرة، وهي المراهقة المتوسطة، وهذه تكون غالباً في التعليم الثانوي، ثم المرحلة الثالثة: وهي من ثماني عشرة إلى اثنتين وعشرين، وهي مرحلة التعليم الجامعي. وكما أشرنا من قبل: إذا دخل الفرد مرحلة الشباب بعد سن العشرين دون أن تتم تربيته خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة فقد فات الأوان، ويصبح المطلوب حينئذ العلاج وليس التربية، فلا نقول: تربية الشباب، ولكن: علاج الشباب؛ إنما كانت تربية في المراحل التي هي قبل سن العشرين. فالتربية وقاية من الآفات، والعلاج يواجه الآفات ويحاول رفعها، ولا شك أن العلاج أشق من التربية؛ لماذا؟ لأن الشباب قد بلغ الأشد وبلوغ الأشد يتطلب الشعور بالذاتية، والشعور بالذاتية هو ما يشقى به الكثير من الآباء والأمهات والمجتمع؛ لأن الذاتية حين تحب أن تستقل قبل استكمال عناصر الاستقلال فذلك هو الفساد، يظل الواحد منا يوجه وليده إلى أن يبلغ سناً معينة، ثم يسمع منه معارضة لرأيه، فهل هذا الصغير مأمون على الذاتية، لو أنه أدب في مرحلة التأديب وربي لكان مأموناً على الذاتية، لكن إذا فات الأوان على المرحلة الأولى التي هي التربية، والمرحلة الثانية التي هي التأديب، وأعطيت له الذاتية، فإنه يحصل الفساد الكبير. والتربية التي يقصدها الإسلام هي أن يتعهد المربى تعهداً يبلغه الكمال المهيأ له، فالمربى تستقبله بيئاته لكنه يحتاج إلى المربي، فهو الذي ينقل له القضايا التي تشكل خميرة سلوكه في الحياة.

تحديات وعقبات على طريق المراهقة

تحديات وعقبات على طريق المراهقة أما عن التحديات التي تواجه الآباء والمربين؛ فإن الطريق ليس مفروشاً بالورود، لكن هناك تحديات جسيمة تواجههم يجب عليهم أن يقهروها. فالتحدي الأول يتمثل في سمات وخصائص المراهقة بقوة غرائزها، وعنادها واندفاعها والميل إلى مقاومة توجيه الآباء والمربين، والنزعة الاستقلالية، والميل إلى المناقشة والجدل وخاصة في مسائل الدين إلى حد الشك أحياناً؛ مما يتطلب منهم قدراً كبيراً من الحلم والصبر وسعة الصدر. التحدي الثاني: وهو ما يبذله أعداء الدين وأعداء الإسلام من جهد مكثف للانحراف بأبنائنا بعيداً عن الإسلام وقيمه؛ مستخدمين في ذلك من أساليب التشويق ما يسحر ألباب تلك البراعم البشرية الغضة، ويزين لهم طريق الغواية والانحراف بدعوى الحرية والتحرر والاستقلال في الرأي، تلك المعاني التي تصادف هوىً لدى المراهق على وجه الخصوص؛ ولذلك فعلى من أراد أن يبني أمة أن يستثمر مرحلة المراهقة، ومن أراد أن يحصن أمة فعليه أن يستثمر مرحلة المراهقة. فهذا التزيين للغواية والانحراف بدعوى التحرر والاستقلالية، وتلك المعاني التي تصادف هوى لدى المراهق على وجه الخصوص، وتتفق تماماً مع حاجاته النفسية، ويجد أن فيها تأكيداً لذاته، فتراه يستجيب لها بسرعة؛ لأن داعي الغرائز قوي جداً عنده، فيجد هذه الاتجاهات تجعله يحقق ذاته في هذا المجال، حيث إن هذا الدافع قوي عنده، لكن دافع العقل والاتزان العاطفي والاتزان الاجتماعي غير موجود عنده، فلذلك يستجيب لأنه لم يكتمل نضجه العقلي والانفعالي والاجتماعي، وإنما نضج في هذا الجانب فقط، فبالتالي يستجيب لهذه المغريات ولهذا التزيين، وينجذب إليه لعدم نضج القوى العقلية عنده؛ كما يقول الشاعر: إنما تنجح المقالة في المرء إذا صادفت هوىً في الفؤاد فيؤثر فيه هذا الكلام ما دام يصادف هوىً في نفسه وفي تكوينه بجانب الفراغ العقائدي أو الفكري، وهذا يكون عند الكثير من الشباب، فعندهم فراغ وخواء، حيث لا عقيدة ولا انتماء ولا فهم ولا فكر، فبالتالي إذا أدخلت هذه السموم في قلبه يتشربها قلبه بسهولة، كما قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فمشكلة الفراغ هي سبب الامتلاء والتشبع بهذه القيم وهذه المفاهيم. التحدي الثالث: ويتمثل في التقدم المذهل في وسائل الاتصال والنشر للكلمة المسموعة والمقروءة والمرئية، الذي جعل من المتعذر إقامة السدود والحواجز أمام ما نريد أن لا يصل إلى عقول أبنائنا ونفوسهم، وأصبح الأمر يعتمد أساساً على الدوافع الذاتية للفرد وقوة إرادته، فجهاز الفيديو مثلاً -وبالتالي البث المباشر- يشكل أكبر الأخطار التي تهدد أبناءنا في الدين في السنوات الأخيرة. فالأمر وصل لمرحلة أنه يصعب جداً أن تخضع وسائل الاتصال الحديثة أو الكثير منها إلى أي نوع من الرقابة، بل ربما تسرب موضوع عبادة الشيطان إلى المراهقين من خلال شبكة الإنترنت، ومستحيل أن تخضع هذه الشبكة لرقابة؛ فبالتالي يسهل التفاعل مع هذه الأفكار الخبيثة التي يصعب جداً أن نوجد حواجز صناعية بيننا وبينها، وبالتالي يتعين أن يكون أقوى حاجز وأقوى منعة وحصن بين الشباب وبين هذه التيارات الفاسدة هو تقوية العقيدة والإيمان، والوازع الذي ينبع من ذاته هو كي يرفض رفضاً تلقائياً وذاتياً هذه المناهج الوافدة المنافية لعقيدته، فإذاً ينبغي الاعتماد على الرقابة الداخلية، بمعنى: أنك تجعل هذا الفتى هو نفسه يتشبع بالخوف من الله سبحانه وتعالى، وبالاستحياء منه عز وجل، وبالقيم الإسلامية التي تعطيه ميزاناً للأمور التي يتفاعل معها حيثما توجه.

تجربة عملية لعلاج سلوك المراهقين

تجربة عملية لعلاج سلوك المراهقين أتلو عليكم الآن تجربة ذكرها بعض الخبراء النفسيين، يقول بعض هؤلاء: يعامل الكثيرون من الآباء أبناءهم معاملة تكاد أن تكون واحدة في مختلف عمرهم، وهم بهذا لا يتبينون أن الطفل بتقدمه في العمر تتغير ظروفه الجسمية والنفسية، وهذا التغيير يستلزم تعديلاً في المعاملة التي يلقاها، وإلا فإن استمرار نفس المعاملة الطفلية الأولى قد يؤدي به في النهاية إلى التعبير عن نفسه بصور شتى قد تكون غير مرغوب فيها. قال صديقي: لقد بدأت ألاحظ أن سلوك ابني إبراهيم أخذ يتغير عما كان عهدي به من قبل، فبعد أن كان صبياً مطيعاً أخذ يظهر التمرد وعدم الانصياع لأوامري، بل لعله في بعض الأحيان يصبح عدوانياً، فيسيء إلى إخوته بالضرب مثلاً، وإذا نزل ضيوف ببيتنا احتل مقعداً كبيراً بينهم، وأخذ يجاذبهم أطراف الحديث كما لو كان رب الأسرة أو شخصاً بالغاً متقدماً في العمر، وليس طفلاً في الخامسة عشرة -هذه هي الشكوى- ومع أني نهرته مراراً على أن لا يفعل هذا، وأن يبقى مع إخوته الصغار، إلا أنه لا يلبث أن يعود إلى سلوكه هذا، فيجعل من نفسه رفيقاً لضيوفنا من الأصدقاء أو الأقارب، وأقول لك الحق: إني بدأت أضعه تحت ملاحظة دقيقة، وحاولت أن أحصي حركاته وتصرفاته، فتبين لي تبدل كبير في أسلوبه وفي نمط حياته، فقد أخذ يهتم بملبسه وأناقته بشكل لم يعودنا إياه من قبل، وهو يمضي الساعات أمام المرآة يمشط شعره، ويحكم رباط عنقه الذي تنازلت له عنه مجبراً بعد إلحاح طويل من جانبه، بل لقد اكتشفت ما هو أسوأ من هذا وذاك، فقد شاهدته بالقرب من المنزل يدخن سيجارة وضعها بين شفتيه بطريقة عجيبة لا تدل على أنه من مدمني التدخين، وإنما توحي فقط بأنه معجب بنفسه وبالسيجارة بين شفتيه، وقد كظمت غضبي ولم أتصرف معه أي تصرف قبل أن أستشيرك وألتمس منك النصح والمعونة، وحتى أوفر عليك بعض المتاعب: قمت من جانبي بالبحث عما إذا كانت هناك عوامل معينة دفعت به إلى هذا السلوك، كأن يكون قد تعرف على أصدقاء فاسدين أو غير ذلك، لكني لم أتمكن من الانتهاء إلى أي سبب من هذه الأسباب؛ فأصدقاؤه لم يتغيروا، ولم يحدث أي طارئ على ظروفه في المنزل أو المدرسة، فما هو السر إذاً في هذا السلوك؟ وهل لك أن تكشف لي عما استعصى علي فهمه؟ فقلت له: أريد أن أذكر لك أولاً أن اهتمامك بما طرأ على ابنك إبراهيم من تغيرات إنما هو تصرف حميد ينبغي أن يتبعه كل الآباء، وبأن يكونوا حريصين على ملاحظة كل تغيير يطرأ على أبنائهم، ومحاولة فهمه، وتناول الأسباب التي أدت إليه، وفي هذا النوع من العلاج المبكر الذي قد يقي الطفل شر مضاعفات لا نعلم مداها، والتي قد لا تستجيب للعلاج بسهولة مستقبلاً إذا تركت بدون اهتمام واستفحل أمرها. وفيما يختص بحالة ابنك بالذات؛ فإن ما وضحته لنا من ظروف يوحي بأن السبب فيما بدا لك من سلوك شاذ، والذي قد لا يكون شذوذاً بالمرة، مرجعه إلى أن إبراهيم يمر بمرحلة يسميها علماء النفس: مرحلة المراهقة -طبعاً مع التحفظ من قوله: قد لا يكون شذوذاً بالمرة- فهو كما ذكرت في الخامسة عشرة من عمره، ومعنى هذا: أن هناك تغيرات حيوية هامة تعتري هذا المراهق الصغير تغيرات جسمية ونفسية وبيولوجية، وغير ذلك من تغيرات تجعل منه شخصاً جديداً غير ذلك الطفل الذي عرفته قبل أن يدخل هذه المرحلة، ويترتب عليها تغيرات في علاقته بأسرته وبالمدرسة وبجماعة رفاقه، واتجاهاته نحو المجتمع وغير ذلك، هذه الاتجاهات لا بد من دراستها وفهمها فهماً جيداً حتى لا نسيء إليه بتفسيرنا لسلوكه تفسيراً قد لا يتفق مع الواقع، وحتى نتمكن من التعامل معه وفقاً لهذه الاتجاهات. ومن أهم مشكلات المراهق: ما يتعلق بعلاقاته ببالغين وبصفة خاصة بوالديه، ورغبته في التحرر من سلطان البالغين للحصول على ما لهم من مكانة واستقلال، وعلاقة المراهق بالبالغين مشكلة تتطلب ليس فقط قبولاً لرغباته ودوافعه، بل تتطلب -من جانبه- أيضاً قدراً من قبوله لإشراف الآخرين وقبول آرائهم. كل هذه المشاكل تتبلور حول الواقع الذي يحرره كون المراهق فرداً يقترب من الوصول إلى أقصى درجات النضوج، ويمر من الطفولة إلى البلوغ، وهو أحياناً أقرب ما يكون إلى الطفولة منه إلى البلوغ، وأحياناً أخرى يكون أقرب إلى البلوغ منه إلى الطفولة، مع أنه في الواقع لا هو هذا ولا هو ذاك. ومن المألوف في حضارتنا وفي تقسيماتنا ألا نقول بما هو وسط، فمثلاً قد نقسم الأفراد إلى بالغ وطفل، وقد نقسم الأطفال إلى خير وشر، إلا أنه من الناحية العملية فإن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، فمثلاً في حالة المراهقة غالباً ما نواجه أفراداً لا يمكن وصفهم في أي من هاتين الفئتين؛ لأن في ذلك تداخلاً، لأنه يمكن أن ينضج جسمه لكن عقله لم ينضج اجتماعياً أو انفعالياً، والعكس ممكن. والمراهق باعتباره مزوداً برغبات الفرد البالغ التي تهدف إلى الاستقلال، وإلى درجة من التلقائية، فإنه يواجه بالحقيقة المرة، وهي أن الكبار يفسرون دوره بدور طفل، ويفرضون عليه الاعتماد الطفلي، ونتوقع منه أن يطيع والديه، وعليه أن يذهب إلى المدرسة، وأن يحترم علاقته بالمدرسين، وهي علاقة طفل ببالغ لا شك فيها، وبهذا فإننا ننكر عليه مكانة البالغ ومسئوليته في المجتمع، كما أن دوافعه وحياته الاجتماعية يسودها الكف؛ وفوق كل شيء فهو معتمد باستمرار على البالغين، ويجب عليه أن يتقبل مكانته منخفضاً، وأن ينفذ ما يفرض عليه من أوامر، وهكذا فإنه قد يحاول أحياناً حتى بطريقة سافرة أن يحارب في سبيل الحصول على مكانته والاعتراف به، ومن ثم يمكن اعتبار الرغبة والصراع السافر للاستقلال أموراً طبيعية في حياة المراهق، يعني: أنها مرحلة مؤقتة. قلنا: إن المراهق يرغب في أن يحرر نفسه من إشراف الكبار، حتى يتخذ ما يعتبره حقه ومكانه الطبيعي في الحياة، وتسمى عملية الاستقلال عن الوالدين، وعن إشراف البالغين الآخرين، وإحلال الاعتماد على الذات والكفاية الذاتية محلها؛ هذه العملية تسمى: الفطام النفسي. ولا تتوقف آثار عملية التحرر على المراهقة فقط، بل قد تمتد نتائجها خلال باقي حياة الفرد البالغ، فالمراهق قد يجاهد في سبيل الاستقلال بدون أن يحصل على ما يبتغيه، ولا تحدث له عملية الفطام النفسي؛ وعندما ننكر عليه الاستقلال ويتأخر تحقيقه مدة كافية؛ فإن المراهق قد يتقبل عدم الفطام، وبالتالي قد يفضله، وعلى هذا فمن الشائع أن ترى شخصاً ينبذ الاستقلال بشدة، ويجد نفسه غير قادر على التكيف مع العالم بدون حماية والديه، فبعض الآباء يجدون من الصعب أن يسمحوا لأطفالهم بالنمو مستقلين، ويحاولون أن تستمر علاقاتهم بأبنائهم على مستوى علاقة أب بطفل؛ وإذا استطاع الآباء بمرور الزمن السيطرة على مقاومة الأبناء، وأن يغرسوا فيهم عادات إذعان لسلطانهم، فبالتالي يجد المراهق بمرور الزمن أنه من الصعب عليه الانفصال، ثم يصبح من المريح له قبول الرعاية بدون الحاجة إلى الصراع والمنافسة في هذا الوضع، وتصبح رعايته ذات أهمية بالغة بالنسبة له. لا يعني هذا أن المنزل أو المدرسة ينبغي أن يمتنعا عن فرض أي نوع من الكف أو الضبط، فنحن نريد أن نتفهم سبب هذه الظواهر، لكن هل يعني هذا أن يترك له الحبل على الغارب؟ لا! فلا بد من الكف والضبط، لأن المراهق لا زال محتاجاً بالفعل إلى توجيه ومساعدة، لكن ينبغي أن لا تقتصر وظيفة كل من المنزل والمدرسة على المساعدة فقط، بل لهما وظيفة الحماية والضبط، لكن، فما الوسيلة المستخدمة للتوجيه؟ إن المنزل والمدرسة الصالحان هما اللذان يتعرفان على حاجات المراهق للاستقلال وصراعه في سبيل التحرر، ثم يساعدانه ويشجعانه كلما أمكن ذلك، وهما يهيئان له الفرص والوسائل كي يحاول الوصول إلى مكانة مستقلة، ويشجعانه في تحمل المسئولية، ووضع القرارات، وخطط المستقبل، وبصفة عامة اتخاذ موقف البالغ في وقت مبكر كلما أمكن ذلك. وهذا يتوقف على النمو في كل الاتجاهات وليس فقط النمو الجسمي، ولذلك نجد أن السلف الصالح والكثير من العلماء كانوا في سن مبكرة من حياتهم يعتادون الخروج للرحلة في طلب العلم، وإذا كان الشخص في بداية المراهقة يخرج مغترباً، ويلاقي العقبات والمشاق في سبيل طلب العلم؛ لا شك أن هذه علامة على النضج الاجتماعي المبكر، فبالتالي استطاع أن يستقل بحياته، أما مع هذه الأساليب المعاصرة فلا يمكن أن يستقل بحياته. على أن المراهق لا يتصرف تصرف الراشد مائة في المائة، ولا يتم ذلك دفعة واحدة، بل هو نتاج سنوات من الاستقلال التدريجي والاعتماد على الذات؛ فالأسرة التي تتجه هذه الوجهة إنما تهيئ للمراهق فترة سهلة غير حافلة بالمشكلات والصعوبات، وأفضل شيء للأب أن يصل إلى مرحلة يكون فيها صديقاً لابنه، كي يستطيع توجيهه، ويكتسب ثقته، وبالتالي يذعن له عن قناعة، ويسلك معه مسلك الإقناع وليس مسلك الثكنة العسكرية، أو مركز البوليس والشرطة، أو أن الواجب أن تنفذ، فالإقناع والتوجيه السديد هو الأكثر فعالية. على أن إعطاء المسئوليات لا ينبغي أن يتم عفواً وبمحض الصدفة، بل لابد أن يكون نتيجة تصميم دقيق من ناحية الوالدين، فلا بد لهما أن يسألا: متى نستطيع أن نسمح له بأن يفعل هذا أو ذاك؟ ما هي الفرص التي نستطيع أن نمده بها، والتي سوف تسمح له بأن يتصرف مستقبلاً، وأن يكتسب خبرات تدعم نضوجه واعتماده على نفسه؟ وهناك إشارة في القرآن إلى هذا: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، إلى قوله: {لا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]؛ فقد يبلغ الولد الحلم لكنه سفيه لم ينضج من الناحية العقلية، بحيث إذا مكنته من ميزانية الأسرة مثلاً بددها تماماً كما يبددها الطفل؛ لأنه ما نضج النضج الذي يؤهله لذلك؛ فهذه إشارة قرآنية إلى مراعاة هذا الجانب: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، وهذا يتفاوت من شخص إلى آخر، لكن يمكن ذلك على سبيل الاختبار بأن يقف الأبوان خلف المراهق في هذه المرحلة ليساندانه ويدعمانه ويفيدانه بخبراتهما مت

كيف نفهم المراهقين [2]

كيف نفهم المراهقين [2] الشباب مكمن الطاقة في عمر الإنسان، وتحتل فترة المراهقة مقتبل هذه الفترة، وهذه الفترة تمتاز بنمو هذا الطفل على جميع الأصعدة الجسدية والعضوية والعقلية والفكرية والاجتماعية والانفعالية، وهو نمو متسارع ملحوظ، ولسرعته يكاد المراهق لا يحسن التكيف معه، أو السيطرة على نفسه، ومن هنا يأتي دور البيئة التي تحيط به في كيفية توجيهه الوجهة الصحيحة، وتجنيبه مواضع الخطر والخطأ.

من فوائد حديث: (اغتنم خمسا قبل خمس)

من فوائد حديث: (اغتنم خمساً قبل خمس) الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)، رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الإمام أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية عن عمرو بن ميمون مرسلاً، ورمز له السيوطي بالحسن، وقال العراقي: إسناده حسن. وكان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لرجل وهو يعظه، أي: افعل خمسة أشياء قبل حصول خمسة أشياء أخرى تضادها. قوله: (حياتك قبل موتك) أي: اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك؛ فإن من مات انقطع عمله، فمن مات توقف عن أسباب النجاة، وفاته أمله، وحق ندمه، وتولى همه؛ فاقترض من نفسك لأجل نفسك ولمصلحتها فيما بعد الموت وقوله: (وصحتك قبل سقمك)، كما أن الحياة يعقبها الموت، كذلك الصحة يعقبها السقم، فهي عارية، أو ضيف زائل عما قريب، فاغتنم العمل حال صحتك قبل أن يمنع مانع المرض؛ فتقدم المعاد بغير زاد، ويحول المرض دون الاجتهاد في العمل، فما دمت في حالة الصحة والعافية فاغتنم هذه النعمة قبل أن تزول عنك؛ فإنها سرعان ما تزول، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). وقوله: (وفراغك قبل شغلك)، أي: اغتنم فراغك في هذه الدار قبل شغلك بأهوال القيامة التي أول منازلها القبر؛ فاغتنم فرصة الإمكان لعلك تسلم من العذاب والهوان. وقوله: (وشبابك قبل هرمك)، أي: اغتنم الطاعة حال قدرتك قبل هجوم عجز الكبر عليك؛ فتندم على ما فرطت في جنب الله. وقوله: (وغناك قبل فقرك)، أي: اغتنم التصدق بفضول مالك قبل عروض جائحة تفقرك، فتصير فقيراً في الدنيا والآخرة. هذه الأمور الخمسة التي نوه بذكرها النبي صلى الله عليه وسلم من خصائصها: أنه لا يعرف قدرها إلا بعد زوالها، ولذلك عبر عنها بقوله: (اغتنم)؛ لأن الإنسان لا يشعر بقيمة هذه النعمة إلا بعد أن يفقدها، وبعد أن تولي عنه، ويصعب عليه أن يستدعيها من جديد، ولهذا جاء في الحديث: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). ونحن نركز بالذات على قوله عليه الصلاة والسلام: (حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك) لشدة لصوقه بموضوعنا، ففرصة الحياة فرصة ثمينة، وقيمة الوقت قد تكلمنا عنها من قبل مراراً، وسوف يسأل الإنسان عن وقته وحياته، كما جاء في الحديث: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه)، إلى آخر الحديث. وقد ورد كثير من كلام العلماء والشعراء في تمني عودة الشباب بعد زواله، كما قال الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيب فاستعمل (ليت)؛ لأنها تستعمل في تمني المستحيل الذي لا يمكن إدراكه، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط، لشدة قصر فترة الشباب كان كشيء سقط دون أن يشعر به. وقال الشاعر الآخر مبيناً أيضاً سرعة مضي هذا الوقت وهذا العمر، وهو الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى، قال: وغلام قَرَب الساعة من أذنيه يسمع منها الطرقات قال ما بداخلها قلت سوسة تقرض أيام حياتي طفل صغير أخذ الساعة التي تصدر صوتاً معروفاً، فقرب الساعة من أذنيه ليسمع الطرقات المنتظمة التي تصدر من داخل الساعة، فسأل: ما الذي يصدر هذا الصوت من داخل الساعة؟ فقلت: سوسة تقرض أيام حياتي. فهكذا يمضي العمر ويولي. ويقول الشاعر الآخر: ما قلت للشباب في كنف الله ولا حفظه غداة استقلا ضيف أقام عندنا قليلاً سود الصحف بالذنوب وولى وتقول حفصة بنت سيرين رحمها الله تعالى: يا معشر الشباب! خذوا من أنفسكم وأنتم شباب؛ فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب. ففترة الشباب هي فترة القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، فهي فترة العمل والاستقامة التي لها قيمة وأثر؛ لأن الإنسان إذا ولى شبابه ضعفت فيه دوافع الهوى والغرائز؛ وحينها فمن الطبيعي أنه يئوب إلى ربه سبحانه وتعالى ويستعد للقائه بالكف عن المعاصي، لكن ليس كفه ككف الذي يجاهد نفسه ويستقيم لوجه الله تبارك وتعالى. الشباب لهم وضع خاص في ميزان الإسلام، وفي شريعة الإسلام، وفي تاريخ الإسلام؛ فما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا شباباً؛ وأشار القرآن أيضاً لذلك في قوله تعالى عن أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]؛ وأيضاً قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام إن قومه قالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]. ففي تاريخ الإسلام لا يرتبط الشباب كما يرتبط الآن في أذهان كثير من الناس بالتهور بالجهالة بالفواحش بالتفريط في جنب الله؛ وإنما ارتبط بتدعيم رسالة الإسلام؛ فمن الذي نشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وأضاء جنبتي العالم كله بنور الإسلام والتوحيد؟ إنهم الشباب؛ نعم كان يوجد شيوخ وكهول في الجيش الإسلامي، بل حتى أحداث؛ لكن عمدة الجهاد كان على هؤلاء الشباب الذين نصروا دين الله تبارك وتعالى، فالشباب هو فترة العمل والإنجاز. ومن الخطأ أن نربط في أذهاننا كلمة الشباب أو المراهق بالمشاكل، فليس شرطاً أن ترتبط بالمشاكل، ونحن سنتعرض لمشاكل نعانيها بسبب أوضاعنا في هذا العصر تنشأ نتيجة سوء الفهم أو الجهل، وغير ذلك من الأسباب والظواهر التي تزحف علينا زحفاً وتجوس خلال ديارنا. الشباب هم الأعمدة التي أقيم عليها بناء الإسلام وبناء الدعوة كما ذكرنا عن أصحاب الكهف حيث كانوا شباباً، وعبر عنهم بالفتوة: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقال تعالى في إبراهيم: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، وقال تعالى فيمن استجابوا لموسى عليه السلام: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83]، وأسامة بن زيد تولى إمارة الجيش وهو شاب في مقتبل شبابه. وبعض الناس يسوغون للشباب مخالفة الشرع والانحراف عن الدين، ثم يتوب فيما بعد! أخت تتحجب! يقولون: ما زلت شابة، دعيه لما تكبرين! إذاً: ما قيمة الحجاب؟ حينما تصير من القواعد اللاتي قال تعالى فيهن: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60]؛ فإذاً: قيمة العمل والاستقامة عند الله سبحانه وتعالى إنما تكون عند قوة الدوافع الداخلية في الإنسان التي تغلب مخالفة الشرع، ومع ذلك يستقيم ويجاهد هواه في ذات الله عز وجل. هذه بعض الفوائد المنتقاة من قوله عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك).

خصائص فترة المراهقة

خصائص فترة المراهقة نعود إلى موضوعنا الذي بدأناه وهو: كيف نفهم المراهقين؟

كيفية استخدام مصطلح المراهقة بصورة صحيحة

كيفية استخدام مصطلح المراهقة بصورة صحيحة ونود قبل الاستطراد في هذا الموضوع أن نبين أن هناك منزلقاً تربوياً يقع فيه كثير من الناس عند الكلام على موضوع المراهقين، لسبب فرط الكتابة والكلام حول هذا الموضوع، فالمجتمعات المعاصرة أعطت انطباعاً مغلوطاً عن الدلالة النفسية لكلمة المراهقة، هذا الانطباع جعل هذه المرحلة عند كثير من الناس مرتبطة بحكم أخلاقي عند عموم الناس وعند معظم المراهقين. كلمة "مراهقة" عبارة عن حكم أخلاقي يحكم به على الشخص حتى صارت عند بعض الناس تعني الشطط في السلوك الخلقي والاجتماعي والديني؛ وكثيراً ما نجد المعلمين إذا أرادوا أن يعبروا عن عدم رضاهم عن سلوك فتىً من الفتيان يقولون: هذا مراهق، ويقصدون بذلك إعطاء هذا الانطباع عن جنوحه سلوكياً أو خلقياً أو دينياً. واستعمال الكلمة في هذا السياق عبارة عن إصدار حكم أخلاقي عليه، وهذا الاستعمال ليس استعمالاً علمياً؛ لأنه لا يعطي المدلول الحقيقي لكلمة المراهق؛ فإن فترة المراهقة تبدأ من سن الثانية عشرة إلى سن العشرين تزيد أو تنقص سنة أو سنتين، وهي عبارة عن قنطرة للعبور عليها من الطفولة إلى الرشد، وهذه الفترة لها مميزات خاصة، وقد يكون لها مشاكل خاصة. وإذا كانت الولادة هي تاريخ بداية الطفل فإن المراهقة هي نوع جديد من الميلاد، فهي ميلاد الرجولة عند الفتى، وتظهر خصائص هذا الميلاد في نموه في عدة مجالات، وفي التغييرات الجسمية والنفسية والانفعالية والاجتماعية والفكرية. إذاً: كلمة المراهقة ليست سبة، وليست تعبيراً عن انحراف أو شذوذ في السلوك أو الخلق، بل هي عبارة عن مصطلح علمي يقصد به التعبير عن هذه المرحلة المتميزة بخصائص معينة كما ذكرنا. إذاً: هي اصطلاح علمي يختص بفترة من العمر، وليست حكماً أخلاقياً على نوعية معينة من السلوك، فهذا أول ما ينبغي الالتفات إليه ونحن نناقش هذا الموضوع. كثير من الآباء يتساءلون: من هو المراهق؟ ما هو عالمه؟ ما الذي يحدث للمراهقين ليحصل هذا التغير الملفت في هيئاتهم وتصرفاتهم وطبيعة علاقاتهم؟ ولماذا لا ينقاد المراهقون الانقياد التام المعتاد للكبار؟ لماذا تكثر الخلافات والمشكلات بين المراهقين والكبار؟ ما الأسباب الخفية وراء شيوع الانحراف وارتكاب الشذوذ في كثير من أفراد هذه الفئة في المجتمع؟ هذه الأسئلة وغيرها -كما أشرت من قبل- لا نقصد بها أساساً هذه الفئة من الذين يتواردون على المساجد، فإن هذه الفئة أقل الفئات من ناحية هذه الانحرافات أو المشاكل، وكلامنا موجه لكل من ينتمي إلى الإسلام فيشمل المقصرين والجانحين خلقياً أو سلوكياً من أبناء المسلمين، ما دام المراهق في دائرة الإسلام فهو يخصنا، ويهمنا أن ننقذه مما هو فيه. ثم لا يمكن أن نجد أجوبة صحيحة على هذه الأسئلة كلها إلا إذا عرفنا من هو المراهق، وما خصائصه الجسدية والعقلية والانفعالية، ونموه الاجتماعي؟

الخصائص الجسدية للمراهق

الخصائص الجسدية للمراهق فيما يتعلق بالنمو الجسدي للمراهق هناك مجموعة من الأسئلة تلفت النظر في هذه المرحلة: ما الذي يدعو المراهقين إلى استعراض ما لديهم من قوة، ولفت الأنظار إليهم أحياناً؟ ولماذا يسعى الكثير منهم أحياناً إلى اقتناء المجلات غير المحافظة، أو متابعة المسلسلات الغرامية أو البوليسية مثلاً؟ ولماذا يقومون بالمراسلات والمهاتفات والمعاكسات؟ ولماذا يصاب المراهق بالارتباك وعدم التوازن أمام الكبار؟ وما الذي يجعله يسرح ويحلم كثيراً في حالة اليقظة؟ ولماذا تسيطر عليه أحلام اليقظة؟ ولماذا تحاول الفتاة أو الفتى أحياناً التخفي بجسمه أو ببعض أعضاء جسمه عن الكبار؟ ما أسباب العزلة والانزواء والقلق والشك الذي ينتاب المراهق بشأن جسده؟ وكيف نفهم هذه الأسئلة وهذه الاستفسارات العديدة؟ جوابها: أن المراهق يعيش تحولاً عضوياً وجسدياً، حيث يحصل له نمو مفاجئ في جسده لا يعي الكبار عنه إلا القليل، ومن ثم فإنهم لا يحسنون التعامل مع المراهق والمراهقة، ولا يجيدون بناء العلاقة معه؛ مما يؤدي إلى كثير من الأخطاء التربوية والتوجيهية والعلاجية عند معايشة المراهقين والاحتكاك بهم، فجسد المراهق يواجه عملية تحول كامل في وزنه وحجمه وشكله وفي الأنسجة والأجهزة الداخلية، وفي الهيكل والأعضاء الخارجية، ويعد هذا التحول ميزة لمرحلة المراهقة ومن أبرز معالمها. النمو في المراحل السابقة بالنسبة للطفل كان مطرداً ومتدرجاً وبطيئاً باستثناء المرحلة المبكرة جداً في حياة الطفل، والفترة التي قبل المراهقة يكون نموه فيها بطيئاً لا يكاد يشعر به. أما في مرحلة المراهقة فإن الفرد يحس بالتغير العضوي السريع المتتابع على كل صعيد، ويكون مفاجئاً لم يعهد من قبل، ولذلك فإن من المهم جداً الانتباه للتعليقات التي تصدر في هذه المرحلة، فنجد الأقارب تتفاوت ردود أفعالهم حينما يفاجئون بالمراهق إذا لم يأت إليهم منذ مدة كبيرة؛ فيرى هذا الفتى وقد تضخم جسمه، وفتلت عضلاته، واتسع هيكله العظمي فتصدر التعليقات، وهذه التعليقات قد يكون لها أثر سيئ جداً، وقد يكون لها أثر حسن حسب انضباط هذا الشخص الذي يعلق. فمثل هذه التعليقات والمواقف قد تؤثر عليه سلباً أو إيجاباً. وهذا أمر يشهده ويتعجب له الراشدون من الكبار عندما يفاجئون بالطفل وقد بدا طويل القامة، مفتول الساعدين، عليه سمات الرجال، وكذلك بالنسبة للفتاة تبدأ تظهر الانفعالات والتعقيبات والتعليقات على هذا الوضع المفاجئ الذي يرونه. ترى الراشد عندما يرى ذلك المراهق بعد انقطاع يكيله بكلمات التعجب والاستغراب، ربما بعضهم يتعجب ويستغرب، والبعض الآخر ربما تصدر منه عبارات السخرية والاحتقار، يقول لك مثلاً: طفل الأمس أضحى كبيراً! أو ربما تصدر عبارات الفخر والاعتزاز بهذا الوضع الجديد، وهذا أحسن ما يكون من الردود، وهذا يرجع إلى اتجاهات الأسر ووعيها، مما يثير كل هذه الانفعالات أو الردود التي تشير إلى أنه قد كبر وتغير في وقت محدود وسرعة ملفتة. وترى الآباء والأمهات يهمزون أو يلمزون أبناءهم وبناتهم لما بدا من تغير أجسادهم وأشكالهم، سواء كانت البدانة أو طول الساقين وضخامة القدمين والكفين، فتحدث التنبيهات أو التعليقات أو المداعبات المشوبة بالاستغراب، وأحياناً بالسخرية والاحتقار. خلاصة الكلام: أن هذه كلها تعكس شعور هؤلاء الكبار بسرعة التغير والتحول عن الطفولة القاصرة المحدودة إلى السمات المؤذنة بالاكتمال والاستواء. وزن المراهق في هذه المرحلة يزداد زيادة ملحوظة جداً، وبصورة ملفتة مع وجود بعض الفروق بين الفتيان والفتيات، فيتجه الجسم إلى البدانة، ويقترن بزيادة الوزن النمو السريع والملفت في العظام والأنسجة العضلية، حيث تطول الساقان والذراعان، ويكبر حجم الكتفين والقدمين، ويكبر الرأس، أما في داخل الجسم فتبدأ بعض الغدد في إفراز هرمونات خاصة، أما الهيئة العامة فسوف تتحول إلى ملامح الرجولة والخصائص الثانوية، إلى آخره. إذاً: الشكل العام يتغير بالنسبة للبنات أو بالنسبة للفتيان بصورة ملفتة، ويتجه كل منهما في اتجاه معاكس للآخر تماماً في الغالب، ثم ينفرد كل نوع بتغيرات جسمية تخصه لا يشاركه فيها الآخر.

مميزات الخصائص الجسدية للمراهق

مميزات الخصائص الجسدية للمراهق تتميز بعض هذه التغيرات العضوية أو الجسمية بأنها ترتبط أحياناً بالمضايقة الشديدة من قبل المراهقين أو المراهقات، وقد تشعرهم بالإحراج وبالخجل، كظهور حب الشباب الذي يوجد في الوجه وغير ذلك من الأشياء، أيضاً عدم التناسب بين الأجزاء المختلفة للجسم؛ لأنه ليس في وقت واحد يتناسخ الجسم كله، فقد ينمو نمواً سريعاً فتظهر الحنجرة بصورة معينة مثلاً، وتختلف أبعاد العظام، والجسم لم يعتد التكيف مع الأبعاد الجديدة، فبالتالي يكثر جداً التعثر مثلاً، وتكثر التعليقات أيضاً ممن يحيطون به، لذلك يسمونها بفترة الارتباك، أو سن الارتباك، حيث يكثر تعثره واصطدامه بالآفات ويكثر سقوط الأشياء من بين يديه، ويزداد شعوره بالحرج نتيجة هذه الأشياء، والسبب هو هذه الطفرة في النمو، ونقص اتفاق الجسم، واختلاف أبعاد الجسم، وأنه محتاج الآن إلى أن يتعلم حسن استخدام أعضاء الجسم بهذه الأبعاد الجديدة، فهذا يكون وراء ظاهرة التعثر في البداية. ملامح الوجه تظهر بصورة غير متناسقة كذلك الجسم غير متناسب حينما تقارن الأطراف بالجذع، ويحصل الاختلال الحركي، ويفقدون الاتزان في المشي والجري وحمل الأشياء والعمل اليدوي. هناك تغييرات داخلية سواء تتعلق بانخفاض نبض القلب، وارتفاع ضغط الدم تدريجياً، واستهلاك الجسم للأوكسجين، وبالتالي يشعر بالإرهاق وبالجهد وبالتعب، ويرغب في الراحة، ويكون شديد الحساسية جداً لأي نقد يتعلق بشكله، أو بجسمه، أو لهذه الملامح الجديدة، سواء كان من ذويه أو زملائه ومدرسيه أو غيرهم. هذه التغيرات أكثرها يتصف بالجدة والسرعة والتزامن، وتكون ملحة ومستغربة لدى المراهق نفسه ولدى أهله ومجتمعه، وتقوم هذه التغيرات بتحويل الطفل إلى عالم جديد ووسط غريب عليه، كما أن التركيبة الاجتماعية والأسرية لا تقبل في الغالب هذه التحولات المفاجئة والسريعة بسهولة وعفوية. أما الجدة فالمقصود بها في هذه التغيرات: أن هذه التغيرات جديدة في نوعها لم يسبق له أن مر بها من قبل، كظهور اللحية والشارب وتغير الصوت وإفراز بعض الغدد، وهذه التغيرات تشعره بأن عليه أن يستعد لعهد جديد ومهمة مختلفة بقدر اختلاف حالته، وتحولات جسده. هذه التغيرات تحدث كلها في وقت متقارب وفترة محددة قد لا تتجاوز ثلاث سنوات، يتصاحب فيها نمو العظام والأنسجة وزيادة الطول والوزن، وظهور الشعر، وتغير الصوت، والتغيرات الأخرى، فالمطلوب أن يتكيف مع هذه الأوضاع تكيفاً صحيحاً، أو يعان على ذلك. كما أن الإطار الاجتماعي القريب والبعيد يلاحظ هذه التحولات المتجمعة والمتتابعة، وفي الغالب لا يحسن فهمها ولا التعامل معها؛ على أي الأحوال هو في هذه المرحلة يستعد لمواقف الرجولة ولوظائفها ومهماتها، وكل ذلك تقتضيه سنة الله سبحانه وتعالى الذي له الخلق والأمر. هذا ما يتعلق بالتحولات الجسدية في هذه المرحلة.

الخصائص العقلية للمراهق

الخصائص العقلية للمراهق هناك مجال آخر من المجالات التي ينمو فيها هذا الإنسان أو هذا المراهق: وهو النمو العقلي، وهو في هذه المرحلة ملاحظ، وهذا التغير يشهد للإسلام، ولسبق الإسلام، وبأن هذا القرآن لا يمكن أن ينزله إلا خالق هذا الإنسان الذي هو أعلم بمن خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، لذلك نتعجب من آيات الله سبحانه وتعالى حينما نعرف أن الشرع ربط التكليف وعلامة التكليف بمجرد بلوغه كما هو معلوم. هناك بعض أسئلة نستطيع من خلالها أن نجيب على أسئلة تتعلق بالنمو العقلي في المراهق. منها مثلاً: ما الذي يدعو المراهق للاختلاف في الرأي مع والديه ومعلميه؟ ما الأسباب التي تجعله يناقش القضايا معهم، ويجادل فيها بعد أن كان مستسلماً في سن الطفولة؟ لماذا يريد المراهق التحدث والنقاش والمداولة؟ ولماذا ينزع إلى الاستقلالية؟ لماذا ينزع إلى محاولة الانفراد في اتخاذ القرار، خصوصاً فيما يتعلق بحياته الشخصية؟ بل لماذا يسفه أحياناً آراء الآخرين، ويتهمهم بالإجبارية وبمصادرة الآراء، أو يسمهم بالفردية والتحيز؟ ولماذا يعاند ويصر ويجابه؟ ولماذا يجنح في كثير من الأحيان إلى المثالية والصور النموذجية للحياة ويطالب بذلك؟ ثم ما أسباب ورود الأسئلة الملحة من المراهق؟ مثلاً: من أنا؟ ما هويتي؟ ما وظيفتي؟ ما هدفي؟ ما موقعي من الأسرة؟ ما موقعي من المجتمع؟ هل أنا طفل أو طفلة؟ هل أنا رجل أو امرأة؟ بل قد ترد أسئلة مثل: لماذا خلقت؟ ما هدف الحياة؟ ما نهايتها؟ وأسئلة أخرى عن الحياة والكون والإنسان أعمق من هذه وأشمل؛ لأنه الآن منتقل لمرحلة جديدة، عقله نما ولم يعد عقل ذلك الطفل الذي كان متعلقاً بالأمور المادية كما مضى. لماذا تبرز مواقف الإباء ومقت التبعية؟ والاشمئزاز من المن والأذى وتظهر منه ألفاظ العزة والأنفة أحياناً، بل قد يلجأ بعض المراهقين إلى محاولة الانفصال، والبعد عن الهيمنة الأسرية، والاعتماد على النفس، أو على الأقل التظاهر بالقدرة على ذلك بل لماذا المجابهات بين الآباء والمراهقين والمتعلقة بكيفية الإنفاق، ومصادره، ومدى الحرية، أو التبعية فيه؟ ولماذا يفكر المراهق في ذاته، ودواخل نفسه، ويتأملها وينتقدها أحياناً بعد أن لم يكن كذلك؟ وكيف ينتقد هيئته وصفاته ويتفكر فيهما؟ هذه الأسئلة كلها تنم عن تحول مهم وجديد في تكوين المراهق من الناحية العقلية، فالتحولات والتغيرات العقلية والمعرفية تكمن فيها إجابة هذه الأسئلة الآنفة الذكر. أيضاً يتحول من التفكير الفردي - حيث كان فيما قبل يفكر فقط في ذاته- إلى التفكير شبه الجماعي، ويتحول من التفكير الموجه خارجه فقط، إلى التفكير القادر على تأمل الذات، كذلك يتأمل في المحيط الخارجي مع تأمله في ذاته في الوقت نفسه، كما أن المراهق والمراهقة تحولا عن التفكير السلبي القابل للتبعية إلى التفكير الإيجابي الباحث عن المسئولية، ومن التفكير الآني في اللحظة الحاضرة فقط إلى التفكير الآني والمستقبلي معاً. القدرة العقلية في مرحلة المراهقة تشهد تحولاً نوعياً، حيث يبدأ الفرد بإدراك المجردات والمعنويات، بعد أن كان أسيراً للمادة لا تتضح له أشياء إلا بالتمثيل المادي، ولا يستوعب القضايا المطروحة استيعاباً صحيحاً إلا بعد اقترانها بالنماذج والأمثلة الموضحة. فالمراهق يستطيع باستعداده العقلي أن يدرك المعاني والقيم إذا ذكرت أمامه مثل: الصدق والإخلاص، فيفهم معنى الصدق، ومعنى الإخلاص، أما في الطفولة الأولى فلا يستطيع أن يعي هذه الأشياء. فالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والنبل والعزة والكرامة وصفات الحرية والعدل والمسئولية، كل هذه القيم يستطيع أن يدركها ويفهمها، ويستطيع أيضاً إدراك الأبعاد المتعددة للقضية الواحدة في وقت واحد، والنظر للأمور نظرة شمولية يصفونها بنظرة عين العصفور! لأن العصفور وهو يطير يطلع على أبعاد المنطقة التي يطير فوقها كلها، بخلاف الشخص الذي يمشي ويرى أمامه جزءاً واحداً فقط. ويكتسب المراهق قدرة على تصور الموقف وتخيله، فمثلاً: يستطيع أن يتصور ويتخيل مكاناً معيناً يريد أن يصل إليه من عدة طرق دون أن يكون قد سلك هذه الطرق من قبل؛ فنمت لديه القدرات العقلية والتخيل حتى وصل لهذا النضج. ويتمكن أيضاً من التحكم في البدائل المتعددة للوصول إلى حل المشكلة، واختيار أي هذه الحلول أنفع، كما أنه يستطيع عندما يقع في مخالفة لا يرضى عنها والده أن يتصور الموقف المنتظر بأبعاده، ثم يفكر في الأوجه المتعددة للحل، وما يترتب على كل وجه، ويقوم بعملية الاختيار؛ وهذه الملكات كلها لم تكن موجودة في السنين الماضية. مثلاً: إذا عرضت عليه قضية الفراغ، وأسباب الفراغ، وكيفية استغلاله، بإمكانه أن يفهم ما معنى كلمة الفراغ، ويتصور أسبابها، والكيفيات المحيطة بها؛ بخلاف الأطفال، إذا أتيت طفلاً وقلت له: اكتب موضوعاً أو تحدث عن الفراغ وأسبابه، وكيف يستغل وقت الفراغ؟ فكثير من الأطفال قد لا يدركون جميع أبعاد مثل هذه الكلمة إلا إذا وضحت لهم، وضربت لهم الأمثلة؛ فضلاً عن أسباب الفراغ وكيفية استغلاله. وتميز المراهق عمن دونه بالقدرة على التفكير المعنوي، والتصور والتخيل، مما يساعده على تفهم القضايا، ووضع الحلول للمشكلات حتى قبل حدوثها، وهذا هو الذي يجعل المراهق يعي المعاني والقيم ويستطيع تفهمها. هذا هو الأصل في المراهقين؛ لكن المشكلة أن الخجل الذي يشعر به المراهق قد لا يمكنه من أن يظهر كل إمكانياته، ولذلك إذا وجد الوالدان أو البيئة التي تستطيع أن تستخرج كوامن هذه المواهب فيه فسوف ينضج نضوجاً مبكراً، بخلاف ما إذا بقي أبوه يقول له: لا تشتر كذا لأنك غير قادر، فيحطم فيه الثقة بالنفس، ولذلك فإن هدفنا من هذه الدراسة أن نفهم أن المراهقين غير مرتبطين بالمشاكل، ولا نتصور القضية على أن الأب في جانب والابن في جانب وكلاهما يحارب الآخر، فنحن نريد من الأبوين أن يقفا وراءه ليساندانه ويدعمانه ويوجهانه، وليس المقصود أن يقتلا طاقاته، أو يحطما الثقة في نفسه كما يحصل للأسف الشديد عند الكثير من الآباء. من فطرة الله عز وجل أن المراهق يستطيع أيضاً في هذه المرحلة أن تتجاوز تساؤلاته الإطار المادي القريب إلى الأبعاد المعنوية النفسية الكونية، فهو يفكر في معنى الحياة، وأهداف الحياة، وخلق الكون، والنفس، وأسباب هذا الخلق، ويستطيع إدراك المعاني المرتبطة بذلك، وهو في نفس الوقت يبحث عن هويته وموقعه ممن حوله، ووظيفته الاجتماعية إلى غير ذلك من الجوانب المحتاجة إلى هذا النوع من التفكير التجريدي في المعاني. ورغم ما تمنحه خاصية التفكير المجرد والتصور التخيلي للمراهق من سعة أفق، كذلك يقدر على التعامل مع البيئة بكل أبعادها، ويقدر على فهم المعاني والمجردات على وجه حقيقي.

مشكلات الخصائص العقلية للمراهق

مشكلات الخصائص العقلية للمراهق هل هذه الصفات الجميلة في هذه المرحلة من النمو العقلي الرائع الذي يحصل بهذه الصورة لها سلبيات؟ نعم لها بعض السلبيات والمشكلات المعرفية، والاجتماعية، وأهمها مشكلتان: - المثالية في المطالب، والحيرة بين البدائل. وذلك أن خاصية القدرة على التخيل والتجريد تعطي المراهق فرصة التفكير للوصول إلى حلول مثالية للمشكلات التي تعرض عليه، سواء مشكلات شخصية، أو أسرية، أو اجتماعية، وهذه الحلول المثالية غير ممكنة التطبيق، أي أنها ليست مستحيلة الوقوع لكنها من الناحية الواقعية غير ممكنة التطبيق، فيمكن للمراهق على أساس من هذا التفكير أن يتصور بيتاً مثالياً، ومجتمعاً مثالياً، وأمة مثالية؛ لكنه يصطدم بالواقع الثقيل المعقد. وهذا الخلل في الاستفادة من خاصية التفكير المجرد والتصور نشأ عن فقد الخبرة، أي أن عنده القدرة على التفكير لكن ليس عنده خبرة، فهو يفقد التجربة، ويفقد الرصيد الواقعي الذي يتولد عند الإنسان من احتكاكه بظروف الحياة المختلفة واختلاطه بأصحاب الخبرة والمراس، وهذا الذي يقربه إلى الواقعية! إذاً: توضع معادلة تلخص هذه المشكلة، وهي: (أن التفكير المجرد + فقد الخبرة =المثالية في الحلول أو الخطط) فتجده دائماً يفكر في آفاق بعيدة جداً، فيقول مثلاً: لابد أن يتحد العالم كله، ويصل بتفكيره إلى أبعاد مثالية جداً في التعامل مع الأمور. وإذا كانت هذه المطالب نموذجية ومثالية فمن الطبيعي أنها تواجه بالإهمال أو بالرفض من قبل الوالدين أو المجتمع، وبالتالي ينشأ الصراع بينه وبين الأسرة، أو بينه وبين المجتمع، أو ينشأ الاغتراب نتيجة هذا الاصطدام، ويعتزل المجتمع، ويفقد ثقته بالناس، وبالتالي ينتشر عند الشباب سلبية وتشاؤم. وهذه المشكلة أيضاً يمكن التعبير عنها في معادلة: (آراء ومطالب مثالية + رفض مستمر دون بيان =اغتراب وصراع) الأب أو المجتمع يرفض هذه الآراء دون أن يفهم هذا المراهق ويقنعه، فهو مقتنع بالتفكير المثالي وآراؤه المثالية النموذجية، والمجتمع أو الآباء يرفضون أفكاره دون بيان ودون توضيح ودون إقناع، فينشأ عن ذلك صراع أو اغتراب. - أما المشكلة الأخرى التي تنشأ عن هذه الخاصية فهي: الحيرة والنقد: ذكرنا أن المراهق يستطيع أن يتصور المواقف المختلفة قبل حدوثها، ويستطيع عند مواجهة المشكلات أن يدرك الوجوه المختلفة لها، والبدائل المتعددة لحلها، وعندما يواجه مشكلة ذات بدائل متعددة في حلها لابد من اتخاذ القرار لتحديد الحل واختياره، وإذا وضع في الاعتبار فقد الخبرة مع طبيعة المراهق الانفعالية وقعت هذه المشكلة بالنسبة له، فهو لابد أن يختار، ولابد أن يعرف التعليل عند اختيار هذا الحل دون غيره، ومن هنا تنشأ مشكلة الحيرة بين البدائل المختلفة، وتنشأ موجة الشك والتردد، وينشأ عنده الاتجاه للنقد والتمحيص لما حوله حتى في بعض المسلمات التقليدية الاجتماعية، باحثاً عن الحكمة من ورائها، ومناقشاً لوالديه أو معلميه في مواقفهم وفي اتخاذهم للقرارات واقتناعهم بالمسلمات. ورغم ما يواجهه المراهق من حيرة بين البدائل إلا أنه ينزع إلى اتخاذ القرار بنفسه، واختيار الحل الذي يقتنع هو به، لكنه قد يخفق في كثير من الأحيان ويفشل ما لم تتم إحاطته بوسط يساعده على اتخاذ القرار المناسب بطريقة غير مباشرة، أو بطريقة مباشرة غير ملزمة. يستطيع أيضاً أن يعي أو يستوعب الرموز المركبة، إذا رمزنا له بواحد عن سين مثلاً، واثنين نرمز لها بصاد، فهو يستطيع أن يعرف أن (س + ص =3)، بالتالي يقدر أن يفكر هو بذاته، وبالتالي تنمو عنده القدرة على تأمل ذاته وأحواله وصفاته وسماته، ويبدأ بانتقاد ذاته. كما أنه يستطيع تكوين فكرة عن ذاته وطاقاته وميوله وحاجاته، ولا يتقبل رأي الآخرين فيه بسهولة؛ لأنه يريد أن ينبع الرأي منه هو، فرأي الآخرين في نفسه لا يتقبله، ويكون شديد الحساسية للنقد. ولبروز قدرة المراهق على التفكير والتأمل في نفسه وفي ذاته يبدأ عنده الادعاء أن الراشدين لا يفهمونه، وأنهم لا يدركون معاناته ولا مرحلته، ولا شك أن هذا النوع من التفكير لم يكن موجوداً في مرحلة الطفولة، إذاً: هذه من خصائص مرحلة المراهقة التي تتسم بالتغيرات البالغة في مستوى التفكير ونوعيته.

خصائص المراهق التفكيرية

خصائص المراهق التفكيرية المراهق يخرج من التفكير السلبي إلى التفكير الإيجابي الذي يبحث فيه عن المسئولية، ويتفحص ذاته ومقامه وسمعته؛ فيتساءل دائماً: ما هي صورتي عند الناس؟ بماذا يحكم عليّ الآخرون؟ هل أنا كبير بالفعل؟ ولماذا لا أقوم بمهام الرجال؟ هل أنا أحمل صفات الكبار؟ ما الذي يجعلني مقبولاً؟ ما هي عناصر القبول والرد الاجتماعي؟ كيف أقوم بالعمل المناسب؟ إذاً: لدى المراهق مستوى من النضج العقلي يمكنه من أن يحس ويشعر ما إذا كان هناك من يعامله معاملة المهمل أو المنبوذ، فهذا النضج الذي عنده يشعر بأنه يعامل بهامشية. أيضاً يتمكن من الشعور بالقيمة عندما يكون مسئولاً فيستجيب للوضع الذي يوضع فيه. وهذا كله مؤشر مهم على أن تفكيره قد أصبح تفكيراً إيجابياً، وبهذا التفكير بدأ يتفتح على الحياة. من مميزات المراهق: أنه يدرك إدراكاً تاماً مفهوم الزمن، كذلك يقدر على التفكير المستقبلي إضافة للتفكير الآني، حيث يستطيع أن يفكر في الأمور الآنية الحالية، وهذه كانت موجودة في الطفولة، لكن الشيء الجديد أنه بجانب التفكير الآني الحاضر يستطيع أن يفكر في المستقبل، فلا يكون أسير الحال مشدوداً إليه كما هو حال الطفل دون سن العاشرة. عقلية المراهق تتمكن من فهم الأبعاد الزمنية: الماضي والحاضر والمستقبل، وتستطيع ذاكرته استدعاء الماضي كما تستطيع التفكير في المستقبل ما قرب منه وما بعد بالتحديد وبالتعميم، فيدرك ما معنى الأيام والأشهر والسنين والقرون، ويدرك معنى بداية الحياة ونهايتها، ومفهوم الدنيا والآخرة، والوعد والوعيد، والأمل والطموح، والوسيلة والغاية، والمرحلة والنهاية إلى غير ذلك من المفاهيم التي ترتبط بالزمن وبأبعاد الزمن. هذا الاستعداد يؤدي عادة إلى الفهم الصحيح لكل هذه المعاني دون لبس أو غموض، وليس كحال الطفل الذي يفهم هذه المعاني فهماً خاصاً به مختلفاً عن مفهوم الكبار؛ لأن استعداده العقلي محدود، كما أن هذا الاستعداد هو من المهيئات؛ وإدراكه لأبعاد الزمن من الفطر التي يودعها الله فيه؛ لأنه في هذه الحالة يتهيأ للتساؤل عن خلق الكون؟ عن الحياة وأهدافها وأسبابها؟ عن الإنسان ووظائفه ونهايته؟ كذلك هذا من المهيئات التي تدعوه للتفكير بالمستقبل، فيتخيل المستقبل يخطط للمستقبل، وينشغل بذلك حتى يصل أحياناً إلى ما يسمى بأحلام اليقظة؛ وقد يفرط في إنفاق الوقت في تخيل المستقبل وهو ما يسمى بـ: أحلام اليقظة. هذه الاستعدادات أيضاً تمكنه من أن يواجه الآخرين، ويتصدى لهم عندما يريدون التخطيط لمستقبله بمعزل عن رأيه ووجهة نظره. كذلك يتضمن التفكير في المستقبل الصورة المستقبلية لحياته، وطبيعة عمله، ونوع مهنته، وشريك حياته، وهذا في نظره من أهم الموضوعات، ومكانته في الأسرة والمجتمع، ولديه أيضاً استعداد أوسع من ذلك، فيمكن أن يتضمن تفكيره المستقبلي التفكير في أحوال مجتمعه، ومستقبل أمته ومكانتها، والعمل للنهوض بها، لكنه لا يسلم في هذا كله من المثالية في التفكير؛ نظراً لقلة خبرته، وقصر تجربته؛ مما قد يصيبه بالإحباط، وبخيبة الأمل أحياناً.

خصائص المراهق الانفعالية

خصائص المراهق الانفعالية أشرنا من قبل إلى أن أكثر الناس يلفت نظرهم النمو الجسدي، وبالتالي يعاملون الطفل بنفس المعاملة التي كانت من قبل، وكأنه لا يدرك هذه الفروق، مع أنه ينمو في جسده كما ينمو في عقله، كما أنه ينمو في عواطفه حيث ينمو اجتماعياً. هنا أيضاً بعض الأسئلة من خلالها ندلف إلى موضوع انفعالات المراهق ونموه الانفعالي: هل تظهر موجات الغضب عند المراهقين أكثر من غيرهم؟ لماذا يتم التعبير عن الغضب بالانفعالات الشديدة أو المباشرة كالمصادمة والمضاربة، والتحدي، والتراشق اللفظي، والاستعراض الجسمي؟ لماذا يتسرع المراهق في اتخاذ القرارات، وفي الحصول على المطلوبات؟ لماذا العجلة والسرعة في ممارسة الأعمال، واقتناء الحاجات وتنفيذ المهمات؟ هل يحزن المراهق ويغتم؟ هل تصيبه الكآبة؟ هل يلجأ إلى العزلة والانطواء؟ هل يحس بالغربة والهامشية والدونية أحياناً؟ ولماذا؟ لماذا يفرح المراهقون بشدة عندما يفرحون؟ ولماذا يتشنجون عندما يشجعون؟ ولماذا يسرفون عندما يمدحون؟ يعني أن خصائص الانفعال لا تعرف الوسطية، فإذا أحب يحب حباً شديداً، إذا كره يكره كرهاً شديداً، فيكون هناك نوع من الأخذ بأطراف الأمور في المواقف الانفعالية ولا تكون متزنة. لماذا يسرفون عندما يهجون؟ هل صحيح أن العاطفة تغلب على فترة المراهقة؟ لماذا انفعال الحب والتعلق عند المراهق يتمكن منه تمكناً شديداً، ويستولي على نضجه ومشاعره، ويستولي على فكره ومخيلته؟ لماذا أحلام اليقظة؟ لماذا الجنوح إلى الخيال؟ لماذا يسرح كثيراً على مقعده وفي السيارة، وعلى فراشه، وبين الناس أو منفرداً؟ لماذا الإعجاب والتعلق بالنماذج الاجتماعية الشائعة؛ كنجوم الرياضة والمغامرات؟ لماذا الاقتداء بها والدفاع عنها والمعاداة والمؤاخاة من أجلها؟ كل هذه الأسئلة تدور حول انفعالات المراهق، وقد لا تتوفر دائماً الإجابات عليها، لكن أهم ملامح النمو الانفعالي عند المراهق التي يتميز فيها عن غيرها من المراحل هي ما يلي:

غلبة الخوف والقلق

غلبة الخوف والقلق غالباً ما يخاف المراهق على ذاته وعلى مستقبله، ويخشى من احتمالات الفشل والنجاح، ويشعر بعدم الاسترخاء نظراً لعدم الثبات على شيء، ولفقد الرؤية الواضحة، وللغموض الذي يكتنف طريقه الجديد، فهو يشعر بمشاعر الرجال ويملك بعض صفاتهم، لكنه لم يسلك طريقهم من قبل؛ فهو في بداية الطريق الطويل يقلق ويتساءل: ما هو العمل؟ ما هي الوظيفة؟ ما هو الدخل؟ من سيشاركه حياته؟ ما موقعه ومهمته؟ هل سيفشل أم سينجح؟ ما هي الضمانات؟ ماذا سيقول عنه الناس إذا عجز أو فشل؟ كيف سيواجه الحياة مع البطالة والهامشية؟ قد يخاف المراهق ولا يعرف مما يخاف، حيث يدركه القلق من المجهول، ويتوقع أن شيئاً مؤذياً سيحدث له، ولا يدري ما هو هذا الشيء، قد لا يكون لهذا الشيء وجود أصلاً، فهو مجرد توهم سببه الإفراط في الحساسية والعاطفة لديه.

قوة الانفعال

قوة الانفعال من هذه السمات قوة الانفعال: فبسبب التكامل العضوي والعقلي يملك ما يملكه الكبار من أنواع الانفعالات، ويدرك ما يدرك الكبار من الاستثارة والشعورية، فهو يحب ويكره، ويهدأ ويغضب، ويتأنى ويعجل، ويجرؤ ويخاف، وهكذا أيضاً صفات الرحمة والشفقة والشجاعة والأنفة والإخلاص والمودة والعطف والبر إلى آخرها، لكن مع وجود كل هذه الانفعالات -التي هي موجودة عند الكبار- تنقصه أيضاً في هذا المجال الخبرة والتجربة، ويستولي عليه التغير السريع المتتابع، فهو من حيث النمو والنضج يعيش في أوضاع وسمات جديدة عليه كل الجدة، ومن حيث البيئة والاكتساب لم تعركه التجارب بعد، ولم تثقله الخبرة، فبضاعته في هذا الشأن قليلة مزجاة، وزاده محدود جداً إن كان له زاد. ومن هنا فإن من أصعب الأشياء عليه أن يضع الشيء في موضعه، أو أن يعطي كل ذي حق حقه، أو أن يمسك إذا اقتضى الحال الإمساك، أو يطلق إذا اقتضى الحال الإطلاق؛ شأنه كمن يملك الوسيلة والمادة لكنه لا يجيد استعمالها بحسب المقتضى والحال، لذلك لا يستقر في انفعالاته، ولا يكون واقعياً في التعبير عنها، فيغضب كثيراً وسريعاً وربما لأسباب حقيرة قد لا يستطيع التحكم في المظاهر الخارجية لحالاته الانفعالية؛ فقد يلقي أو يحطم ما في يديه قد يتلف بعض المقتنيات قد يشتم أو يسب أو يهدد أو يضرب، وهو عندما يرغب في شيء يسرع إليه ويسعى حثيثاً في طلبه، ويتعجل في اتخاذ القرارات الخطيرة بشأنه، بل إذا أحب أسرف وبالغ، يتعلق بمن يحب، ويهيم به، ويضحي من أجله، ويملك عليه لبه، ويستولي على حاله ومخيلته، وهو حديثه وشغله الشاغل، وهذا سر شيوع الغرام والهيام في هذه السن. والله سبحانه وتعالى وضع هذه الفطرة في هذه المرحلة؛ لأن أولى الناس بها هم أهل الدين والإسلام والطاعة، فهذه الطاقة تعطى لتصرف في تسخيرها لطاعة الله سبحانه وتعالى، وإقامة العبودية له، لكن تعتري ذلك عوامل كثيرة تخرج بهذه الطاقة إلى مجال آخر، فالمراهق إذا أعجب بشخص أو جماعة أو أنموذج سعى إليه وجمع الناس عليه، وبذل في سبيله، وبالغ في مدحه، ودافع عنه ونافح، ووضعه في أول مهماته التي لا يساوم عليها؛ وهذا من أسرار تعلق المراهقين الشديد بالرياضيين وبالفرق الرياضية، وبأصحاب الفن والتمثيل والمغامرات، وأبطال السيرك، وأبطال التاريخ أحياناً؛ فما سر هذا التعلق وهذا الغلو، أو ما سبب هذا الانفعال الشديد بهذه الصورة؟ -هذا من جهة المشهورين كأبطال، وليست هذه البطولة، لكن نحن نتعامل مع الواقع الموجود الآن في مجتمعنا- هؤلاء الأبطال في نظره توفرت لهم أشياء مهمة: الشهرة الظهور مكانة اجتماعية، ومكانة اعتبارية متميزة، الآن أصبحت هذه النماذج مجربة ومقربة وموثقة يتم الاحتذاء بها، والتوحد معها، ويترتب على ذلك الضعف في المراهقين واللمعان في المشتهرين: الميل والتعلق والإعجاب الشديد، والمبالغة في التأييد والمناصرة والتشنج. والعكس أيضاً صحيح! فالمراهقون يبالغون في الكراهية عندما يكرهون، ويظهرون من المقت والسخرية ما ينبئ عن هذه المبالغة، وانظر في مواقفهم من الفرق الرياضية التي لا يحبونها، أو الأشخاص الذين يكرهونهم؛ كبعض مدرسيهم مثلاً.

الإغراق في الخيالات والأحلام

الإغراق في الخيالات والأحلام يغرق المراهقون في خيالاتهم وأحلامهم، ويبالغون في تصور الحياة ومتاعها، ويضعون خططاً مثالية لها، ويجنحون إلى ذلك بسبب استعدادهم للتصور والتخيل، وأيضاً قلة الخبرة في الوقت نفسه، فقد يكتب المراهق الشعر، أو يكتب النثر، ويصور عواطفه وأحاسيسه، ويسطر خياله وسرحانه، فتحس منها العاطفة الجياشة، والحساسية المرهفة، بل وترى الجري وراء عاطفته، والثقة بها، والبناء عليها. هذه الميزة لدى المراهقين: القابلية للإيحاء، والاستهواء، وسرعة الاستثارة، وهشاشة الانفعال، والفراغ النفسي المستعد للامتلاء، بعبارة أخرى: مثل هذه الغرابة في الانفعال والعاطفة يمكن أن توجه الوجهة السليمة، وأن تضبط عن طريق محيط تربوي شامل متزن؛ لتخرج الشاب القوي الطموح المنضبط المتعلق بالمثل العليا، والنماذج الرائعة في تاريخ أمته وحاضرها؛ فيتعلق بـ خالد بن الوليد بـ عمر بن الخطاب بـ أبي بكر الصديق بالصحابة بالتابعين بعلماء المسلمين بالمجاهدين في القديم والحديث. هذه الطاقة إنما أودعها الله فيه ليخدم بها أمته ودينه، ويعز بها الإسلام في فترة العمل كما ذكرنا؛ ولذلك فإن من أراد تحطيم شباب المسلمين يبدأ معهم من هذه الفترة، كل عوامل التحطيم والاستهواء بما يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى كالفن والرياضة، وغير ذلك من الأشياء المعروفة، والعكس بالعكس كما ذكرنا. إذاً: هذه الغزارة في الانفعال والعاطفة يمكن أن توجه الوجهة الصحيحة السليمة، وتضبط عن طريق محيط تربوي شامل متزن؛ لتخرج الشاب القوي الطموح المنضبط المتعلق بالمثل العليا، والنماذج الرائعة في تاريخ أمته وحاضرها. ويمكن أيضاً أن تستثمر في تربية انفعالاته ووضعها في الاتجاه الصحيح، ليعرف المراهق كيف يرحم، ومتى يرحم، ولماذا؟ كيف يحب، ومتى يحب، ولماذا؟ كيف يعجب، ومتى يعجب ولماذا؟ وهكذا. هذه الغزارة يمكن أن تمهد لبناء شاب ذي عواطف فياضة متفاعلة مع الحياة؛ متجهة للخير والإصلاح، مؤثرة في علاقاته بالأمة في شتى مستوياتها.

الذاتية

الذاتية من خصائص النمو الانفعالي: الذاتية: أي: إعجاب المراهق بذاته، فهو يعتد بها، ويعتقد في نفسه أنه محط أنظار الناس، وبؤرة اهتمامهم، ويسيطر على بعضهم الاعتقاد بأن الناس ينظرون إليهم كما ينظرون هم إلى أنفسهم، أو هكذا يجب أن يكون رأي الآخرين فيه، وهذا ناتج عن قلة أو فقد التوازن الانفعالي والعاطفي لديه، وعن التحولات الفجائية والسريعة المؤدية للرجولة؛ مما يشعره بالاكتمال والتمام. فهذه التطورات الجديدة في عقله في جسمه في انفعالاته في نموه الاجتماعي تلقي في روعه أنه مستحق أن الناس ينظرون إليه كما ينظر هو في نفسه، وأنه يستحق هذه المكانة؛ لأنه الآن اكتمل وتم. أيضاً نفس الخصائص تنتج نتيجة قلة الخبرة والتجربة اللتين تساعدان على الواقعية، وتحجمان من جموح المراهق وخياله، لذلك كان سبب ظاهرة الذاتية والاعتداد بالذات أن المراهق عنده حساسية مرهفة لنقد الآخرين، فلا يكاد يتحمل النقد بسبب هذه الخاصية من خصائص المراهقة، وهي الذاتية وإعجابه بنفسه؛ فيكون ذا حساسية مرهفة لنقد الآخرين، ويتألم من ذلك ويتوجع، وقد يطوي حسراته وآلامه عن الآخرين. وهذه الحساسية للنقد والرهافة في مواجهة مشاعر الآخرين إنما نتجت بسبب ما يشعر به من خسارة وخيبة أمل فيما كان يعتقده عن رأي الآخرين فيه، فبدل المدح إذا به يجد الذم؛ وبدلاً من ذكر مزاياه يذكرون مثالبه بدلاً من أن يشيدوا بحاله إذا بهم يستسفهون حاله، أو يشوهون صورته بدلاً من تلميعه والثناء عليه كما يرى هو نفسه. فأحلام المراهق وخيالاته وغلبة عواطفه وانفعالاته تضفي عليه قوة وكمالاً وفتوة، وتصوره عند نفسه على درجة من الأهمية والقيمة لا حقيقة لها في الواقع، ولا وجود لها عند الناس، بل إن عكس الصورة هو ما يعتقده الناس عنه، فهو ما زال صغيراً غير قادر على تحمل المسئولية، وممارسة المهام الصعبة، لذلك يصير في بعض الأحيان ناقماً على والديه، أو المجتمع، فما من أحد يفهمه، أو يشعر بأنه قد أصبح شخصاً آخر، ولا يعامل بالمعاملة التي يستحقها، ولا يرونه كما ينبغي أن يروه؛ فتبدأ العبارات تترا على لسانه: لا أحد يفهمني، أنا أفهم منكم، أنا أعرف بحالي، أنا لا أريد أن أجلس إلا مع أصحابي؛ لأن أصحابي هم الذين يفهمونني. وتبدأ موجات الغضب والاشمئزاز من مجتمع الكبار، ويشرع المراهق في الممارسات الدالة على هروبه من قضاء الوقت مع والديه، ومن الجلوس في منتديات الكبار ومناسباتهم، والضيق والتبرم من تلك المجالس، فينزوي وينحاز إلى مجتمع الشلة أو الجماعة التي ينتمي إليها، ويشتد ولاؤه لهذه الجماعة أقوى من ولائه لوالديه، وارتباطه بأصدقائه يكون أقوى من ارتباطه بالوالدين أو بالبيت. هذه الذاتية تعد من الاعتبارات المهمة التي يجب أن تلحظ عند التعامل مع المراهق وتربيته، أو عند حل مشكلاته، ومعالجة انحرافاته. فمثلاً الإنسان لابد أن يكون حذراً في النقد أو عند إسداء النصح، وتكون الطريقة غير المباشرة أنجح وأوقع في نفسه، فالمفروض الانتباه لهذه الحساسية، وأنه لا يكاد يتحمل النقد، وقد تكون هذه الذاتية هي منبع الحساسية المرهفة، أو الرفض والمواجهة، أو الخيبة والإحباط، ومن ثم العزلة والانطوائية، أو الارتماء في أحضان رفقة السوء والانقطاع إليهم، وقد تكون هذه الذاتية هي سبب الغرور والعجب والمثالية، أو الطموح الزائد، أو الإغراق في العناية بشكله وهندامه، إلى آخره.

خصائص النمو الاجتماعي للمراهقين

خصائص النمو الاجتماعي للمراهقين يتساءل الكبار عن ميولات أبنائهم الاجتماعية بعد سن الطفولة ومقاربتهم للبلوغ: لماذا يزهد المراهق في التأسي بالكبار، ويرفض سلطتهم ظاهراً أو باطناً؟ ولماذا ينقاد لرفاقه وأصحابه وينصرف إليهم في مشاعره وتوجهاته؟ لماذا يلجأ إلى جماعة الرفاق في تحديد ميوله وهواياته، وفي تحديد شكل ملابسه وهندامه، وفي كيفية قضاء وقت فراغه؟ هل يحتاج المراهق فعلاً إلى الرفقة أو الجماعة بحيث لا يمكن الاستغناء عنهم كضرورة صحية وتربوية؟ وما دور هذه الرفقة في نمو شخصية المراهق؟ ولماذا يغترب مع رفقته وينزوي عن المجتمع، وتظهر عليه أعراض الجنوح أحياناً؟ هل يحتاج المراهق إلى التقدير والاحترام من قبل والديه ورفقته ومجتمعه أم لا؟ هل يطمح المراهق إلى تحقيق ذاته وتطلعاته بثقة الآخرين به، واعتمادهم عليه، وتحميلهم إياه العمل والمسئولية؟ وما دور هذه الأشياء في صحته النفسية وفي نمو شخصيته؟ لماذا يمقت بعض المراهقين مجتمع الكبار، ويثورون عليه، ويخرجون على أعرافه؟ لماذا يوجدون أعرافاً خاصة بهم في التعامل والتخاطب؟ تجد الشلة يسموها بالإنجليزية (ميني سوسياتك) أي: مجتمع مصغر؛ لأنه يكون معهم لساعات، حتى أننا نلحظ لغة خاصة بهم هم؛ واصطلاحات تدور فيما بينهم في هذا المجتمع المغلق الذي يشبه حارة اليهود، لهم رموزهم وقوانينهم وأعرافهم، وقد يهددون الواحد منهم لو ترك الشلة بعقاب جماعي ويقاطعون، خاصة بالذات في المجتمعات التي هي بعيدة عن الملتزمين؛ فلهم أعراف في التعامل والتخاطب وأنماط الملابس التي يلبسونها والاهتمامات والهوايات. جواب هذه الأسئلة كله يفسر لنا سمات وخصائص النمو الاجتماعي للمراهق. يعيش المراهق في حالة تبدل عضوي ومعرفي وانفعالي سريع ومتتابع، ولا شك أن هذا النمو يقربه من الرجولة والنضج، أو يقربه من مجتمع الكبار ويبعده عن مجتمع الأطفال، وهذا واضح في التحولات التي تطرأ على القدرات العقلية التي تؤهله للفهم للمحاكمة العقلية تساعده على إدراك الأشياء كما هي في الواقع تساعده في القدرة على البحث والنقاش وإدراك وجهات نظر الآخرين. أيضاً التغيرات العضوية كالزيادة في الطول والوزن، كل هذه التغيرات تؤذن ببداية الرجولة والاكتمال، لكن كثيراً من الكبار يرفضون ذلك، أو لا يأبهون به، أو يصادمونه، وهذا التصرف من الكبار يسيئ إلى المراهق، ويؤدي به إلى خيبة الأمل والشك، أو يؤدي به إلى المعاندة ونبذ سلطة الكبار، والارتماء في أحضان الرفقة، وإلى ضعف الارتباط بالكبار، وعدم الاعتراف بأعراف الكبار ونظمهم، وإلى الثورة عليها ومحاربتها باطناً أو ظاهراً. أيضاً من خصائص هذه الفترة: المشاعر الجماعية، فيشعر بأنه يريد كهفاً يأوي إليه، لأنه لا يفهمه أحد في البيت؛ ويعاملونه كطفل، وهذا كله سببه عدم فهم خصائص هذه المرحلة، وعدم وجود سياسة تربوية واضحة المعالم في طريقة التعامل معه، فلديه إحساس وتعطش للانتئماء إلى رفقة أو صحبة أو مجموعة تشاركه مشاعره تعيش مرحلته يبث إليها آلامه وآماله وأفراحه وأتراحه وتبث إليه ذلك، هذه الرفقة أو المجموعة تعنى بأحاسيسه ومطالبه وتعمل لإشباعها، وقد تنجح وقد تخفق، وهذه الرفقة أحياناً تخلص لبعضها حتى لو في سبيل الشر، وتقوم على التعاون والتكامل حتى ولو على الإثم والعدوان؛ لأنهم يظنون أن بعضهم يخدم بعضاً، وأن هذا من الوفاء للأصدقاء وغير ذلك. لا يستغني معظم المراهقين عن هذه الرفقة لأنها مطلب حيوي، وحاجة نفسية ملحة تقتضيها التغيرات الفجائية والتحولات الجديدة غير المعللة، ولذلك قد يحاصر الأب ابنه محاصرة شديدة، وهو يظن أنه يحميه، وبالتالي يحرمه تماماً من الاحتكاك بأي إنسان، وفي بعض هذه الحالات- يقول له الأب: لا توجد حاجة إلى صديق، فيعزله تماماً عن الرفقة، وبالتالي يحرمه من النمو الاجتماعي الطبيعي؛ لأن مفهوم إيجاد البديل والرفقة الصالحة غائب، والحديث معروف: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء) إلى آخر الحديث، فلا بد من إيجاد هذه الرفقة من خلال المساجد؛ لأنها لم تعد ممكنة من خلال الأندية الاجتماعية -كما يقولون- فقد أصبحت بؤر فساد وانحراف؛ فلا بد من وجود البدائل، وليس الحل هو حرمانه من الانخراط في أقرانه أو مجموعة السن الموافقة له، فهذه من الأمور المهمة جداً. إذاً: تقوم الشلة أو المجموعة على التعاون والتكامل، ولا يستغني معظم المراهقين عن هذه الرفقة؛ لأنها مطلب حيوي وحاجة نفسية ملحة تقتضيها التغيرات الفجائية والتحولات الجديدة غير المعللة، التي لا يجد المراهق الجواب عليها في حال عزلته وانزوائه، ولا يحسن التعامل معها كما يرى بمفرده، فيلجأ إلى رفاقه أو أصحابه في مرحلته ومن أبناء سنه؛ لأنه يحقق ذاته مع أصحابه، فمشاكلهم واحدة ومفاهيمهم واحدة وخصائصهم واحدة، يحقق ذاته معهم، وهم قد يتعاملون مع بعض كأنهم رجال؛ بخلاف ما يلقى من معاملة في البيت، لذلك تجد ولاءه للشلة أقوى بكثير من ولائه للبيت، والوقت الذي يقضيه معهم يكون أكثر مما كان يقضيه من قبل في المنزل. من الأشياء المهمة أيضاً: خصوصيات المراهق، فهو لا يرى أنه كالكبار تماماً بالذات والديه؛ لأنه يرى فرقاً كبيراً في السن بينه وبين والديه، لكنه يتجه إلى أساليب مختلفة تقل أو تكثر في نمط هندامه في أسلوب حياته في موضوعات اهتمامه في كيفية قضاء وقت الفراغ، ولذلك هو حساس إذا قورن بكبار السن في هذا الجانب، ولا ينتبه له كثير من الكبار. موضوع تحقيق الذات شيء يسعى إليه كل إنسان حتى الطفل؛ لكن كل مرحلة تقوم بما يناسبها، وتجتمع كلها في مفهوم واحد، هو: أن الإنسان يقوم بالوظائف الملائمة لقدراته واستعدادته، ويمارس الأدوار المناسبة له والمتوقعة منه. هذا المراهق يعيش مرحلة انتقال من الصبا إلى الرجولة، بالتالي يتغير موقعه ووظيفته في الأسرة أو في المجتمع من حيث طبيعتها ومستواها ومقدارها. والمراهق يبتغي تحقيق ذاته، واختبار قدراته، وتفريغ طاقاته، وهو يريد أن يبلو نفسه بممارسة الدور الاجتماعي، والقيام بالمسئولية، ومرحلته ومستوى نضجه يقتضيان رفض البطالة، ويرفض الهامشية الاجتماعية، وهذه الهامشية والبطالة أيضاً قد يفرضهما عليه الكبار أحياناً، بل إن كثيراً من المراهقين يمقتون التبعية، ويكرهون أن يكونوا عالة على غيرهم، هذا شعور فطري يولد فيه كره أن يكون عالة على غيره، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، وهم يسخرون داخل أنفسهم من هذا الأسلوب في التعامل، كما أن مشاعر اللوم ومقت النفس تراودهم وهم يرون أنفسهم تبعاً للكبار وعالة عليهم، بينما قد يموت هذا الإحساس أو يضعف إذا لم يستغل في حينه بتوجيهه الوجهة الصحيحة، واستثماره في تربية المراهق وتهذيبه. كل خصيصة من الخصائص التي نذكرها قابلة لحسن التوجيه، وقابلة لسوء الاستعمال، فالحاجة إلى تحقيق الذات مطلب نفسي مهم للمراهق، وتحقيق الذات ممكن أن يتم بأمور كثيرة، المهم أن يكون له دور في الحياة، حتى لو كان طالباً يدرس فهذا دوره في الحياة اقتنع به ويبذل في سبيله. فهذا الشعور بالحرص والحاجة إلى تحقيق الذات مطلب نفسي مهم للمراهق ينبع من داخل نفسه، وينبع من أحاسيسه وهواجسه ومشاعره المدعومة، هذه المشاعر إنما يدعمها التحولات، فهناك تحولات عقلية معرفية عضوية انفعالية يمر بها جسده وعقله وانفعالاته، وهو لا يحس بالتنفيس عنها إلا إذا قام بالدور الاجتماعي المناسب، وتحمل المسئولية حسب مؤهلاته وقدراته وطاقاته، والمجتمع الحديث غالباً ما يواجه هذا الميل إلى الاستقلالية، أو إلى رفض البطالة ونبذ الهامشية الاجتماعية بنكران شديد وإهمال بالغ، وغالباً ما تكون مشاعر ومواقف الكبار غالباً والأمهات والمدرسين والإخوة الكبار مخيبة لآمال المراهقين قولاً وعملاً، فهم لا يأبهون بأن يحقق المراهق ذاته من خلال استغلال طاقاته، ومنحه للمسئولية، وعزو الوظائف المناسبة له، بل إن الكبار أحياناً يسخرون من المراهقين ويحتقرونهم أن يقوموا بمثل ذلك. ويتجه بعض الكبار إلى عدم الثقة بهم، وعدم الاطمئنان إلى ما يتولونه من الأعمال، ويشعرونهم بذلك بطرق مباشرة وجهاً لوجه، وبطرق غير مباشرة من خلال عزلهم عن ممارسة الأدوار المناسبة، ومنعهم من تحمل المسئولية، وصرفهم إلى أعمال هامشية أو تكميلية أو ترفيهية، ويقوم الأعم والأغلب من الآباء بتوجيه أبنائهم إلى الدراسة وتفريغهم لذلك، والاستغناء بذلك عن توظيفهم، أو تكليفهم بأعمال أو مهمات تحقق ذاتيتهم، وتشعرهم بالمسئولية وبشيء من الاستقلالية، وتبرز شخصياتهم، وتصقل قدراتهم الاجتماعية. أما النظام الاجتماعي الحديث فتطول فيه فترة الطفولة والاعتماد على الغير، حيث لا ينتهي الفرد من التعليم العام إلا في سن الثامنة عشرة، ثم عليه أن يستمر في الجامعة إلى الثالثة والعشرين مثلاً، وهو في كل ذلك مستقبل فقط؛ فهذه السياسة لا شك أنها تتصادم مع متطلبات تلك المرحلة واحتياجاتها الطبيعية، وقد تؤدي إلى كثير من المشكلات، أو إهدار الطاقات، وتعطيل الحاجات. فالإسلام عامل المراهق على أنه مسئول عن التكاليف الشرعية بمجرد البلوغ، وحمله المسئولية عن نفسه في العبادات في المعاملات في التصرفات المختلفة؛ وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يأذن بالجهاد في سبيل الله لمن بلغ الحلم من الفتيان وهو من أشق المهام وأصعب الوظائف.

تجربة عملية لعلاج سلوك المراهقين

تجربة عملية لعلاج سلوك المراهقين هنا تكملة للقصة السابقة عن إبراهيم الذي تلونا قصة سابقاً، وأن أباه كان يشكو منه، يقول هنا: المراهقة هي فترة النمو الاجتماعي، وفيها يميل المراهق إلى إعطاء اهتمام كبير لأوجه النشاط والميول والاتجاهات الخاصة بأقرانه، ويسعى المراهقون إلى الحصول على القبول من أقرانهم، وهم في سبيل الاحتفاظ بهذا القبول يذهبون إلى مدىً بعيد، فيصبح الانحراف عن عرف الجماعة أمر لا يمكن التفكير فيه، طالما أن هذه الجماعات تحقق لهم إشباعاً لم يستطيعوا الحصول عليه في عالم البالغين، ومن ثم تتضح أهمية الجماعة. استطرد صديقي يقول: ولكنك لم توضح لي بعد ذلك الجانب الآخر الذي تكشفته في سلوك ابني إبراهيم، فما يكاد يجد لديه قدراً من وقت الفراغ أو عطلة أو ما شابه ذلك حتى يسرع إلى مجموعة من رفاقه في الحي الذي نقطنه يقضي معهم ساعات فراغه إلى آخر الكلام يقول: أنا لا أريده أن يخالط أحداً أو يكون له صداقات مع أحد، مع أن هذه الشلة على مستوى طيب من الخلق، ومن بيئة طيبة، بل إن معظم آبائهم هم من أصدقائي، إلا أنني مع هذا أعارض أشد المعارضة أن يتخذ لنفسه أصحاباً؛ لأني أعتقد أنه من الأفضل أن لا يرتبط بمثل هذه المجموعات، وأن يتفرغ للتفكير في دروسه ومستقبله، وبالرغم من بذلي النصح له مراراً عديدة إلا أنه لم ينصرف عن أصدقائه، وإن كان يحاول ظاهرياً أن يظهر لي أنه قد خضع لتعاليمي؛ فما قولك أيها الصديق العزيز؟ فأجبته قائلاً: إن المراهق يواجه مواقف مشكلة تتطلب إيجاد حلول لها، فهو لا يزال فرداً بدون خبرة كافية بعد، بل لا زال في الواقع طفلاً يجد نفسه بسرعة في عالم البالغين، وهو يجد نفسه أيضاً بدوافع جسمية ونمو جسمي وميول وقيم جديدة وفكرة جديدة عن نفسه، وعليه من ناحية أخرى أن يظهر اتجاهات اجتماعية ناضجة وكافية، ومهارات معينة إذا أراد أن يحصل على درجة من التوافق الاجتماعي كشخص بالغ. كل هذا يؤدي به في النهاية إلى الإحساس بعدم الأمن في مجالات كثيرة من حياته اليومية، ومن ثم فإنه يبحث عن شيء يمنحه الأمن وحماية الذات، وهو يجد ما ينشده في الجماعة من أقرانه الذين لهم مثل مواقفه، فيستطيع باندماجه مع أقرانه أن يحل مشكلاته، وأن تهيئ له الجماعة الانتماء والمكانة التي كان يبحث عنها، كما تمنحه الجماعة أيضاً الخبرات والتدريب اللذين كان يجاهد في سبيلهما، ولهذا فإن الجماعة تصبح هامة جداً بالنسبة للفرد؛ بحيث إن الاستبعاد منها أو عدم وجود مكانة للمراهق فيها يسبب له خبرات صادمة، وباندماج المراهق شيئاً فشيئاً مع أقرانه ومشاركته في نشاط الجماعة تزداد مشاعره بالانتماء إلى الجماعة يوماً بعد يوم، حتى لقد تصبح الجماعة كل شيء بالنسبة له، وهذا الانتماء للجماعة الذي تزداد أهميته بالنسبة للمراهق لأنه يحل محل الروابط الأسرية إلى حد ما، مما يهيئه لأنواع جديدة من التكيف إزاء حياة الجماعة من البالغين. يقول: إن فائدة هذا الانتماء توفير الأمن، والحصول على مكانة، والشعور بالانتماء، كذلك الجماعة التي يحتك بها تعطيه فرصة أن يتعلم من طريقها شيئاً عن حقوق الآخرين؛ كما أنها تهيئ له مأوى من عالم البالغين، ثم لها في النهاية وظيفة تعليمية هامة؛ حيث يتعلم العمليات الاجتماعية القائمة، ويتخذ الدور الذي ينبغي أن يقوم به فيما بعد، ويتعلم أيضاً المنافسة والتعاون والقيم والأهداف التي تساعده في المشاركة في الحياة الاجتماعية. نفس الجماعة قد يكون لها تأثير ضار إذا كانت جماعة منحرفة، مثل التدخين والمخدرات كل هذا الفساد يأتي من هذه الجماعة، إذاً: يتعين بالنسبة لمن يريد السلامة لأبنائه في هذه المرحلة ربطهم بالمتدينين. وقد كنت أود أن أحضر لكم كتاباً مؤلفاً بالفرنسية ومترجماً باللغة العربية، كان البحث يتناول مشكلة انحراف الأحداث؛ والغريب أن الرجل الفرنسي الذي كتب هذا البحث قال كلاماً في غاية الروعة يقول: إن العاصم الوحيد من الانحراف بالنسبة للأحداث أو للشباب المراهقين هو أن يعيش من أجل عقيدة يقتنع بها، ويدعو إليها، ويضحي في سبيلها. هذا كلام رجل كافر، وإذا كان أكبر ما يحمي الشباب هو أن يعيش من أجل عقيدة يقتنع بها، ويعمل في سبيل نشرها، والدفاع عنها ويضحي في سبيلها، فلا أعظم ولا أنبل من عقيدة الإسلام ومنهج الله سبحانه وتعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، فهذا هو طريق النجاة والسلامة للأبناء، والآباء لو فقهوا لما قلقوا ولا انزعجوا إذا ارتبط أبناؤهم بإخوانهم من الملتزمين في جماعة المسجد أو شلة المسجد؛ لأن هذا هو الذي يعصمهم من كافة المنزلقات في هذه المرحلة. لكن بعض الآباء يكون عندهم ازدواجية: هذا رجل غربي يقول لك: لن نعطيه الحرية المطلقة والاستقلالية، ونترك له الحبل على الغارب، ويرخي له العنان تماماً بكل أنواع الفساد التي يمكن أن يفعلها! بل حتى في البنات أيضاً يفعلون ذلك، حتى إذا ما التجأ ابن للدين والالتزام ولطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله عليه السلام والحياة من أجل الإسلام وبالإسلام ينزعج وينقلب إلى وحش كاسر، ونرى على الجهة المقابلة تماماً: الكبت المنع من صلاة الجماعة الخوف عليه أن يفرضوا عليك، وهل إذا انحرف عن سبيل الله سيسلم وسينجو؟ لا! إن الله سبحانه وتعالى قد يبتليه، ويكفي أن يبتلى مثلاً بالمخدرات، ومثل هذا ينتهي تماماً إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن من أقوى الأسلحة لدى أعداء الإسلام نشر وتهريب المخدرات؛ لأنها تحطم الشخص تماماً من الحياة، وقل من يسلم منها إذا دخل في أسرها، وكذلك التدخين والفساد الأخلاقي والانحرافات، كل هذه تنشأ بسبب البعد عن العقيدة والبعد عن الله. إذاً: ليس لهذه المحن من كاشفة إلا الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والثبات على طريق الإسلام الذي هو دين الفطرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.

الإحياء

الإحياء أبو حامد الغزالي رحمه الله إمام بحر، وعالم متمكن له مكانته، يعد من أذكياء العالم، وأعاجيب الزمان، نال شهرة عظيمة حتى لقب بحجة الإسلام، وهو بشر كغيره يصيب ويخطئ، وقد أوغل في التصوف فخرج عن الحقيقة، وخرج في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتفاق، ومن ذلك ما جاء في كتابه إحياء علوم الدين، الذي نال شهرة واسعة، واهتماماً كبيراً من العلماء، وهو بحق يعد دستور التصوف، ففيه من الانحرافات والشطحات ما ينبغي أن يوقف عندها، وأن تبين ويحذر منها.

ضمان الرزق من الله تعالى لعباده

ضمان الرزق من الله تعالى لعباده الحمد لله الذي أنار الحق وأبانه، وهدم الباطل وأزاله، والصلاة والسلام على رسوله محمد خير عابد وقانت، القائل: (لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فعن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وغيره، وحسنه الألباني. يقول المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير: قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)؛ لأن الله تعالى ضمنه له، وكما أن الله سبحانه وتعالى لا راد لقضائه إذا حضر الأجل ونفذ العمر، كذلك لا راد لرزقه، فإن رزق الله لا يرده كراهية كاره ولا يجره حرص حريص، ولكن سبق علم الله سبحانه وتعالى وقضاؤه وقدره بما كتب لكل نفس، سواء من الطعام أو من الشراب أو من النفس، ومن كل ما يرزقه الله سبحانه وتعالى. وقد ضمن الله عز وجل هذا الرزق لعباده فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، ونحن نرى كيف يطمئن الناس إذا ضمنت لهم البنوك الأموال، وإذا حازوا الشيكات، وإذا رصدت لهم الأرصدة والضمانات الكافية، فيثقون بهذه الضمانات من لدن المخلوقين، وقد جاء هذا الضمان من الله سبحانه وتعالى فقال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وهذا من صيغ العموم، خاصة إذا دخلت عليها (من) (وما من دابة). ثم لم يكتف الله سبحانه وتعالى بهذا الضمان الوارد في قوله: (إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) حتى أقسم فقال سبحانه وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23].

ضرورة الأخذ بالأسباب في طلب الرزق

ضرورة الأخذ بالأسباب في طلب الرزق ثم لم يكتف سبحانه وتعالى بهذا القسم حتى أمر بالتوكل وأبلغ وأنذر فقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]؛ فإن ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب التي ربطها الله سبحانه وتعالى بالنتائج، فإن الرزق مضمون، وقد سبقت كتابة الأرزاق، ولكن مع ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك). وقد علمتنا سيرة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام الأخذ بالأسباب، وكذلك سير الصالحين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أخذ بالأسباب وعمل بها؛ حتى يعمي الخبر على كفار قريش، وهذه مريم عليها السلام تؤمر بالأخذ بالأسباب مع ضمان الرزق: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، وموسى عليه السلام أخذ بالأسباب حينما فر من فرعون وخرج من المدينة خائفاً يترقب. يقول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، فلابد من الحرص على ما ينفع، سواء في الدين أو في الدنيا، وهذا لا ينافي أن الرزق مضمون؛ لأن الرزق وكل الأعمال قد سبق قضاؤها من عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك لابد من الأخذ بالأسباب، فإن لم يطمئن العبد بضمان الله سبحانه وتعالى، ولم يقنع بقسمه عز وجل، ولم يبال بأمره ووعده ووعيده؛ فهو من الهالكين. قال الحسن رضي الله عنه: لعن الله أقواماً أقسم لهم ربهم فلم يصدقوه. وقال هرم بن حيان لـ ابن ادهم: أين تأمرني أن أقيم؟ قال: فأومأ بيده إلى الشام، قال: وكيف المعيشة فيها؟ فقال له: أف لهذه القلوب، لقد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة. المقصود: أن يكون الإنسان على ثقة بما في يد الله سبحانه وتعالى، ويكون أوثق بهذا منه بما في يده هو، فإن ما عند الله سبحانه وتعالى لا ينفد، وإنما يعطي العبد بمقدار ما يصلحه: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، ولذلك لا يحل للإنسان أن يبحث عن الرزق فيما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، فإن ما عند الله لا يطلب بمعاصي الله، وإنما يطلب بطاعة الله وما أحله سبحانه وتعالى.

بحث قيم يدرس كتاب إحياء علوم الدين

بحث قيم يدرس كتاب إحياء علوم الدين ما يتعلق بكتاب: إحياء علوم الدين، يعتبر من القضايا المهمة التي سبق أن وعدنا بالكلام المفصل فيها، ثم يسر الله سبحانه وتعالى كتاباً قيماً بعنوان: أبو حامد الغزالي والتصوف، دراسة حول العديد من كتب الغزالي وخاصة كتابه: إحياء علوم الدين للأخ الشيخ عبد الرحمن دمشقية، والكتاب غير متوفر مع أهميته، وهو عبارة عن دراسة نقدية للفكر الصوفي، وقد تكلم عن مرجع يعد بحق دستور التصوف الذي يعتمد عليه الصوفية اعتماداً أساسياً حتى يومنا هذا، والدراسة النقدية أيضاً في إمام من أئمة التصوف، وعلم من أعلامه، فالإمام الغزالي رحمه الله تعالى يعتبر محطة رئيسية في قضية التصوف، لابد أن ينزل عليها ويردها كل من نسب إلى طريق التصوف.

قاعدة مهمة قبل الكلام عن الغزالي وكتابه

قاعدة مهمة قبل الكلام عن الغزالي وكتابه لكن قبل أن نشرع في دراسة فكر الإمام أبي حامد الغزالي كعلم من أعلام التصوف ومحطة رئيسية من محطاته، هناك قاعدة ينبغي أن تكون محل اتفاق قبل الشروع في المقصود، هذه القاعدة: هي أن تخطئة غير المعصوم أهون من نسبة الباطل إلى المعصوم، بمعنى: تخطئة الشخص غير المعصوم أهون من أن ننسب الباطل والخطأ إلى المعصوم وهو الشريعة المطهرة، فالمعصوم هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللذان هما بحق حجة الإسلام على كل أحد، والكتاب والسنة هما المرشد من الضلال، وهما القسطاس المستقيم، وهما ميزان العمل، وهما منهاج العاملين والعارفين. إن التساهل في هذه القاعدة تحت أي ضغط أو إرهاب فكري، يعيد فتح باب التحريف والتبديل في دين الله على مصراعيه، والتحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات بالخطأ. إن الإسلام لا يعطي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا معشر المسلمين في الواقع نعطي هذه العصمة للرجال، ويعز علينا أن نرى الشخصية الكبيرة التي نحبها ونجلها تخطئ، كما أننا عملياً لا نتعامل مع هذه الشخصيات الكبيرة إلا على أساس التسليم لهم بكل شيء أو رفض كل شيء. لقد تحول هذا الأسلوب إلى منهج مقرر، يتحدى القواعد الإسلامية الراسخة التي يحفظها كل الناس، مثل قول مالك بن أنس: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الكلام في الأصل مروي عن الحبر البحر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخذه عن ابن عباس مجاهد والحكم بن عتيبة، وعنهما أخذه الإمام مالك رحمه الله تعالى، ثم اشتهر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، ثم أخذه الإمام أحمد رحمه الله عن الإمام مالك رحمهم الله تعالى أجمعين. إذاً: التنازل عن القاعدة التي ذكرنا آنفاً يعد تنكراً لهذه الأصول التي أسسها السلف الصالح، مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما المذكور. ومثل قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي. وقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. وقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أبطلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي. وقول الشافعي أيضاً رحمه الله تعالى: كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا. إن تذوق العلم وحده هو الذي يستطيع أن يعودنا الاحترام الواجب لأهل العلم، بحيث نصل معه إلى درجة نقدر فيها العلم الذي عندهم، ونغفر لهم الخطأ الذي وقعوا فيه دون أن يصير خطؤهم غلاً في أعناقنا، نأخذ ما أصابوا فيه ونتجنب ما أخطئوا فيه، دون أن نجعل خطأهم انتقاصاً لهم، ودون أن نجعل صوابهم عصمة مطلقة لهم، فهذا الأمر هو الذي ينزه الاحترام الواجب لأهل العلم عن أن يتحول إلى نوع من التقديس والغلو والتعصب. فليس الهدف إذاً تجريح شخصيات أو تقليصها، وإنما الهدف اتخاذ موقف سديد بين الحق وبين الرجل، وأن يبقى الحق حقاً والرجل رجلاً؛ لأن الحق حق فقط، ولكن الرجل غير المعصوم يمكن أن يكون محقاً، ويمكن أن يكون مبطلاً، وبينهما درجات كثيرة، ولهذا يقال: لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله.

أبو حامد الغزالي ومكانته العلمية

أبو حامد الغزالي ومكانته العلمية نحن الآن سندرس فكر أبي حامد الغزالي وكتبه، خاصة كتاب الإحياء، الذي هو بحق -كما ذكرنا- دستور التصوف، وكلاهما -الكتاب والمؤلف- ملآ أسماع الدنيا، وشغل الناس كثيراً، فـ أبو حامد الغزالي إمام بحر وعالم له مكانته، يعد من أذكياء العالم وأعاجيب الزمان، نال شهرة عظيمة، حتى لقب بحجة الإسلام. هذه المكانة الرفيعة إلى جانب نبوغه وعبقريته وعلو همته، ليست محل منازعة بين الموافقين والمخالفين له على السواء، ولقد اجتمع في أبي حامد رحمه الله تعالى الذكاء الخارق، والعاطفة الجياشة، حتى كأنك إذ تطالع كتاباته تتعامل مع كائن حي، تحس فيه الحرارة المتقدة والوجدان الصادق، وتتنسم من خلال السطور عبير الإخلاص الذي كان همه. لقد كان الإخلاص هم أبي حامد رحمه الله تعالى، حتى قال فيه الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى: لولا أن أبا حامد رحمه الله من الأذكياء وخيار المخلصين لتلف. وحتى إن رجلاً يقول للإمام أبي حامد رحمه الله وهو في سياق الموت: أوصني، فيقول له: عليك بالإخلاص، عليك بالإخلاص فلم يزل يكررها حتى فارق الحياة رحمه الله تعالى، ومع ذلك فإن أبا حامد كان من البشر، وواحداً من ولد آدم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، يقول تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وقد التقى به هنا في الإسكندرية: كان أبو حامد تاجاً في هامة الليالي، وعقداً في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وخرج في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتفاق، فكان علماء بغداد يقولون: لقد أصابت الإسلام فيه عين.

المآخذ على أبي حامد الغزالي

المآخذ على أبي حامد الغزالي

قلة علمه بالحديث

قلة علمه بالحديث المأخذ الأول على أبي حامد رحمه الله تعالى: قلة علمه بالحديث. ونحن ندرس سيرة الإمام أبي حامد حتى نأخذ العبرة والعظة؛ فإن طريق النجاة والفرقة الناجية أخص خصائصها التمسك بالكتاب والسنة، ولا يصح التمسك بالكتاب والسنة إلا بمعرفة سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، فمن ليس بعالم بالحديث لا يكون عالماً قط، يقول الإمام أبو حامد عن نفسه: بضاعتي في علم الحديث مزجاة. وقد أثر قلة بضاعة الإمام الغزالي في علم الحديث في مذاهبه الفكرية وتصرفاته الفلسفية والكلامية كما سيأتي بالتفصيل. وننبه إلى هذا لأن العاصم من الوقوع في هذه المخاطر هو التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل. ومن ثم قال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله تعالى: شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتاباً على بسيط الأرض أكثر كذباً منه، يعني: لا يوجد كتاب مشحون بالكذب على رسول الله -يقصد بذلك الأحاديث الموضوعة والضعيفة- أكثر من كتاب الإحياء. فنقول كما قال بعض العلماء: إنه كتبها كما اقتراها لا أنه افتراها، فليس المقصود أن أبا حامد هو الذي وضع هذه الأحاديث، معاذ الله وحاشاه من ذلك، لكنه أثبتها كما قرأها لا أنه افتراها. هذا هو المأخذ الأول الذي سوف نلاحظه من سيرة هذا الإمام.

شكه وحيرته واضطرابه بين مذاهب الفلاسفة والصوفية

شكه وحيرته واضطرابه بين مذاهب الفلاسفة والصوفية المأخذ الثاني: شكه وحيرته واضطرابه بين مذاهب الفلاسفة والصوفية. فقد كان أبو حامد رحمه الله يعظم المنطق، رغم بعض النقد الذي وجهه إليه، واستطاع أن يدخله في علوم الإسلام؛ بل جعل تعلمه فرض كفاية على المسلمين. وفي النبوة اقتفى الغزالي أثر الفلاسفة بعامة وابن سينا بخاصة، وتلمح في أبي حامد شخصية فيها ذكاء ونبوغ لا ريب فيهما، وفيها رغبة في معارضة الغزو الثقافي الدخيل على المسلمين، كما ظهر ذلك جلياً في كتابيه العظيمين: تهافت الفلاسفة، وفضائح الباطنية، وتراه مع ذلك في أكثر كتبه تابعاً للفلسفة اليونانية والتصوف الهندي الشرقي، رغم أنه أراد أن يهدم هذه المذاهب، إلا أنه لم يسلم من دخنها، ووقع في بعض مؤاخذاتها، حتى قال فيه تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع. وهذا يذكرنا بنصيحة شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الإنسان لا يفني عمره في تتبع الفرق الضالة والانحرافات الفكرية لأن القلب لابد أن يتصرف وأن يتوه ويعلق به كثير من مفاسد هذه الضلالات، يقول: وإلا كان قلبك مثل الإسفنجة، فإن الإسفنجة كلما ألقيت إليها قطرة تتشربها وتتشبع بها حتى تمتلئ بالشبهات، فلذلك يقول الإمام أبو بكر بن العربي في شيخه: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة ثم أراد أن يتقيأهم فما استطاع. وفي مكان آخر: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة فأراد أن يخرج فما استطاع. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولما وقع في المضنون به على غير أهله وغيره من كتبه -أي: الشيخ أبو حامد - ما هو من جنس كلام الفلاسفة في الشفاعة وفي النبوة وغير ذلك، اشتد نكير علماء الإسلام على أبي حامد لهذا الكلام، وتكلموا في أبو حامد وأمثاله بكلام معروف. وممن انتقد أبا حامد وتكلم فيه أصحاب أبي المعالي كـ أبي الحسن المرغياني وغيره، وأهل بيت القشيري وأتباعه، والشيخ أبو البيان، وأبو الحسن بن سكر، وأبو عمرو بن الصلاح، وأبو زكريا النووي، وأبو بكر الطرطوسي، وأبو عبد الله المنذري، وابن حمدين القرطبي، وأبو بكر بن العربي تلميذه، وأبو الوفاء بن عقيل، وكان من أشد الناس على أبي حامد أبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، والخرزي وغيره من أصحاب أبي حنيفة. إذاً: حينما نتكلم في دراسة نقدية لفكر الغزالي ولكتابه إحياء علوم الدين خاصة، نقول: لسنا أول من قرع هذا الباب من أولي الألباب؛ بل لنا سلف قاموا على شرف المناضلة والذب عن الشريعة الغراء، مع احترامهم وحبهم للإمام الغزالي، وحسن ظنهم به رحمه الله تعالى.

حصره لاحتمالات النجاة في مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية

حصره لاحتمالات النجاة في مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية المأخذ الثالث: أن الإمام أبا حامد حصر احتمالات وجود طريق النجاة في دوائر الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والمتصوفة: أراد أن يبحث عن الحق فقال: إن الحق لا يخرج عن هذه الطوائف الأربع: الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية، وهذا بعد الدراسة المستفيضة التي أنفق فيها كماً كبيراً من عمره رحمه الله، فخلص بعد دراسة هذه الاتجاهات والتنقل بينها إلى أن المنقذ من الضلال هو التصوف، وقد أخطأ الإمام رحمه الله تعالى خطأً فادحاً حين أغفل منهج أهل السنة والجماعة، منهج أصحاب الحديث وأهل العلم والفقه والأثر، الذين هم بحق الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وقد ذكر العلماء أنهم أصحاب الحديث أو أهل العلم والفقه والأثر. فإذا قلنا: نوافق الإمام الغزالي رحمه الله تعالى فيما أخذه على الباطنية والفلاسفة والمتكلمين وإذا كان هو قد أصاب في الأمور التي أخذها عليهم، فلا يلزم من هذا أن يكون الإمام أبو حامد مصيباً في اعتباره التصوف طريق النجاة، بل إن التصوف ذاته في حاجة إلى من يحاكمه، ويزنه بميزان الكتاب والسنة اللذين هما بحق حجة الإسلام، ليكشف مظاهر مخالفته لدين الله سبحانه وتعالى. فالتصوف بمعناه المعروف الآن يخالف دين الله عز وجل في مصادر التلقي، فهناك فرق بين مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة أهل الاستقامة، والصوفية المبتدعين، ونحن نخالفهم في تقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة، ونخالفهم في تبني معظم المفاهيم الكنسية الرهبانية، ومصادمة بعض مقاصد الشريعة كالترغيب في العزوبة، والترهيب من النكاح، بجانب انحراف الصوفية في تصوراتهم؛ ونخالفهم في الإلهيات والنبوة والولاية، واعتقادهم اختصاص الخواص بأسرار دينية لا يطلع عليها غيرهم, وتقديم المكاشفات والإلهامات والمنامات المزعومة على الأدلة المعصومة، وشيوع استدلالهم بالأحاديث والآثار الواهية والموضوعة إلى آخر مظاهر انحرافهم عن الجادة، فضلاً عن بدعهم الشنيعة التي أفاض في ذكرها الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تلبيس إبليس، أو: نقد العلم والعلماء -الكتاب له اسمان- وغيره من الأئمة الأعلام. ومن ثم يمكننا بعد الدراسة المستفيضة لأحوال الصوفية ومخالفتهم للكتاب والسنة أن نخلص إلى القول بأن الصوفية فئة غارقة في البدع بأنواعها: علمية وعملية، حقيقية وإضافية، عبادية وعادية، فعلية وتركية، كلية وجزئية، وأن الصوفية غير مؤهلة لحمل أمانة هذا الدين إلى العالمين؛ لأنها لا تؤتمن عليه وقد انحرفت عن حقائقه هذا الانحراف الخطير. هذا فيما يتعلق بالمؤلف وهو الإمام أبو حامد الغزالي باختصار.

كتاب إحياء علوم الدين

كتاب إحياء علوم الدين أما الكتاب المؤلف وهو كتاب الإحياء، ونحن في الحقيقة نتحرج من أن نقول: إحياء علوم الدين، لكن نستطيع أن نقول: كتاب الإحياء، فهناك ظاهرة تتعلق بكتاب الإحياء تستلفت النظر. وهذا الكتاب قد استحوذ من اهتمام العلماء على قدر عظيم، ما بين شارح ومختصر، ومخرج لأحاديثه، وراد عليه وهكذا، فقد شرحه الإمام الزبيدي في كتاب يقع في ثلاثين مجلداً سماه: إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، وألف الحافظ العراقي كتاباً مستقلاً في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين أسماه: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار لتخريج ما في الإحياء من الآثار، والكتاب الملحق بالطبعة المتداولة من إحياء علوم الدين هو مختصر للكتاب الأصلي الذي ألفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، أما الكتاب الحقيقي فلا أعلم أنه عثر عليه حتى الآن، لكن يقال إن الزبيدي استعان به في تخريجاته الرائعة للأحاديث في كتابه إتحاف السادة المتقين. كذلك الإمام الغزالي نفسه ألف على كتاب الإحياء كتاب الإملاء في إشكالات الإحياء، وشقيق الإمام الغزالي أحمد بن الغزالي ألف كتاب: مختصر إحياء علوم الدين، وهو أول من اختصره، كذلك الشيخ عبد القادر العيدروس ألف كتاب: تعريف الأحياء بفضائل الإحياء.

مواقف العلماء من كتاب الإحياء

مواقف العلماء من كتاب الإحياء من الناس من غض الطرف تماماً عن المآخذ التي تضمنها هذا الكتاب وغلا فيه، حتى قال بعضهم: كاد الإحياء أن يكون قرآناً! وقال آخر: لو بعث الله الموتى لما أوصوا الأحياء إلا بالإحياء! وقال ثالث: من لا يطالع في الإحياء فما فيه حياة! وقال رابع: الحجة فيما اختاره الحجة! وقال خامس: دع اللحية واقتنِ الإحياء! يعني: دع الاهتمام باللحية والمظهر واقتن كتاب الإحياء. وفي الجانب الآخر -وانظر إلى تضارب مواقف العلماء من الكتاب- أفتى بتحريق نسخ الإحياء علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وتم ذلك بالفعل، فقد جمعوا نسخ كتاب الإحياء وأحرقوها، وسماه كثير من علماء المغرب: إماتة علوم الدين، وقام الإمام ابن عقيل الحنبلي أعظم قيام فيه بالذم والتشنيع، وقال فيه قولاً شديداً حوى أوصافاً شنيعة لا نستجيد حكايتها؛ لأننا كطلبة علم لنا حدود لا ننقل كل ما يكون في الكتب. وصنف بعض العلماء في الرد على ما تضمنه الإحياء من مجازفات، كما فعل الإمام أبو الفرج بن الجوزي، فقد ألف كتاب: إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء، والإمام أبو الحسن بن سكر ألف كتاب: إحياء مجلس الأحياء في الرد على كتاب الأحياء، والإمام المازري ألف كتاب: الكف والإنباء عن كتاب الإحياء. ومن العلماء من زجر عن مطالعته إلا بشروط، كما قال الإمام المازري: ومن لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز، وإن كان فيه ما ينتفع به. يعني: مع أنه يوجد ما ينتفع به في هذا الكتاب، إلا أنه لا تجوز قراءته لكل أحد، إلا رجل قد آتاه الله من العلم ما ينجو به من غوائل وآفات هذا الكتاب. ومن العلماء من أرشد في رفق إلى التحذير من مطالعته، كما فعل الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، ومنهم من زجر عن ذلك مطلقاً، كما قال الشيخ عبد اللطيف الحنبلي في رسالة كتبها إلى بعض أصحابه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ في الله عبد الله بن معيذر، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد: فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية؛ وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والثقافة التي اشتملت على الداء الجسيم والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قيام للإسلام إلا به. وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنه الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة نهج فلسفة منتنة يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها ومطالعة قاصيها ودانيها إلى أن قال: إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشان؟! كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك وهز أعطافك وحركك فلسفة منتنة وزندقة مبهمة أخرجت في قالب الأحاديث النبوية والعبارات السلفية إلخ. وهناك فريق من العلماء نظر إلى القواعد الجليلة المبسوطة في الإحياء، والمقتبسة من نور القرآن ومشكاة السنة، فرأوه مدرسة تربوية شاملة في جنسها ونفيسة في نفسها، وفي ذاك الوقت أدركوا خطر المجازفات التي تضمنها، والتي تنحرف بمعتقد سالكها عن سبيل أهل السنة والجماعة، فدندنوا حول الإحياء. إذاً: هناك علماء رفضوا على الإطلاق كتاب الإحياء حتى قاموا بإحراقه، وعلماء غالوا فيه حتى قالوا: كاد الإحياء أن يكون قرآناً، وعلماء حذروا من قراءته إلا لبعض الخواص ممن قد حشاهم الله بالعلم بحيث يأمنون غوائل الكتاب، ثم أتى هذا الجانب المتوسط الذي أراد أن يجمع بين المصلحتين، واتخذ الموقف الوسط، فدندنوا حول الإحياء يحاولون تهذيبه، وإخراجه غضاً سائغاً من بين فرث الفلسفة ودم الكلام المذموم، ومن هؤلاء الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى، الذي ألف كتاباً في تهذيب كتاب الإحياء سماه: منهاج القاصدين ومفيد الصادقين، قال في مقدمته: اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مسموع.

القول الوسط في كتاب الإحياء

القول الوسط في كتاب الإحياء هذه المواقف من العلماء، وهذه الدندنة حول الكتاب -كما سنرى- تفيد أن الكتاب فيه فوائد قطعاً غير موجودة في غيره، وأن الكتاب عبارة عن مدرسة تربوية شاملة في علم الأخلاق والرقائق، وفي نفس الوقت هذه الظاهرة تومئ وتشير إلى أن الكتاب فيه آفات خطيرة أدت إلى هذه المواقف من العلماء، ويجمع هذين الجانبين موقف الفريق الوسط الذي قام بتهذيب الكتاب ودندن حوله، وجعله محور حركته في إيجاد مدرسة تربوية مستخلصة من فوائد كتاب الإحياء. يقول الإمام ابن الجوزي في مقدمة منهاج القاصدين ومفيد الصادقين: اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها -أي: كما وجدها وقرأها في الكتب- لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مسموع، وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها، وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: الصلاة يوم السبت، والصلاة يوم الأحد، والصلاة يوم كذا، وكل يوم له صلاة مخصوصة به بلا دليل وبلا حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم- يقول: وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه وندب إلى العمل به -يعني جمعه أبو حامد، ورغب الناس: إلى العمل به- ما لا حاصر له، من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد إلى غير ذلك مما قد كتبت عن عواره في كتابي المسمى: بتلبيس إبليس، وسأكتب لك كتاباً يخلو عن مفاسده ولا يخل بفوائده إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. ثم قام الإمام نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي باختصار كتاب ابن الجوزي منهاج القاصدين ومفيد الصادقين، في كتاب سماه: مختصر منهاج القاصدين، وهو معروف ومتداول. وممن اختصر كتاب الإحياء أيضاً العجلوني ومحمد بن سعيد اليماني، وأحمد بن موسى الموصلي، والسيوطي، والقاسمي في كتابه: موعظة المؤمنين، ثم حققه طائفة وأسموه: تهذيب موعظة المؤمنين، وللشيخ محمود عوض رحمه الله أيضاً مختصر له أسماه: طب القلوب، وللشيخ أبي الحسن الندوي أيضاً مختصر له أسماه: تهذيب الأخلاق، وقد تجاوزت الكتب المؤلفة حول كتاب الإحياء العشرين كتاباً. ونحن اليوم على أعتاب نهضة قرآنية وصحوة سنية ويقظة سلفية، نتلمس الطريق الذي نرتقي بسلوكه إلى مستوى الجيل الأول، بعيداً عن مخلفات الغزو الفكري، سواء كان الغزو الحديث أو القديم؛ فالحديث يتمثل في العلمانية والتنصير والاستشراق إلخ، والغزو الفكري القديم المتمثل في الباطنية والفلسفة والكلام والصوفية إلخ. فما أشد حاجتنا إلى الدراسة المسفرة الواعية لفكر أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى، باعتباره رمزاً من رموز المنهج الصوفي، دخل في غمار الفلاسفة والمتكلمين والباطنية، فحمل عليهم وانغمس في صفوفهم، وما زال يجاهدهم حتى فل شوكتهم وكسرهم، وفرق جموعهم شذر مذر، وفلق هام كثير منهم، غير أنه أصابه في أثناء ذلك شيء من دمائهم، فحاول أن يغسل أثر الدم عنه فما استطاع، فالإمام أبو حامد لم يكن يقصد أن يتبني منهج الفلاسفة أو الباطنية، لكنه دخل يقاتلهم ويقضي عليهم، فأصابه شيء من لوثهم، أو من دمائهم.

نشأة الإمام الغزالي في أحضان التصوف وعودته إلى مذهب السلف

نشأة الإمام الغزالي في أحضان التصوف وعودته إلى مذهب السلف هذا هو حال أبي حامد رحمه الله تعالى، وواجبنا أن نتأمل في تجربته وأن نستنبط منها العبر، وأعظم عبرة نستقيها من تجربة الإمام أبي حامد رحمه الله تعالى، هي عودته بعد طول غربة إلى منهج السلف الصالح رحمه الله تعالى. فالإمام أبو حامد في آخر أيامه ندم على تضييع عمره في هذه الطرق المشتتة، وعكف على دراسة علم الحديث، حتى إنه رحمه الله مات وصحيح البخاري على صدره رحمه الله تعالى، فأعظم عبرة نستخلصها من تجربته -كما سنرى- هي عودته بعد طول غربة إلى منهج السلف الصالح، نادماً على بضاعة العمر النفيسة التي أنفقها في التحري والبحث والتنقل. فحري بنا أن نحرص جميعاً على نقطة البداية ونحن نتلقى المفاهيم والعلوم، وهذه أعظم العبر، وهي أن كل إنسان عليه أن يهتم بنقطة البداية في تربية نفسه وتعليمها، أو في تربية غيره من أولاد أو غيرهم، فنقطة البداية تشكل محوراً خطيراً جداً في حياة أي إنسان، والغالب أن الإنسان دائماً يتعصب لأول شيخ تعلم على يديه، ويتعصب لأول كتاب قرأه، ويتعصب لأول مدرسة ينتمي لها، فمن كان يراد له السعادة من الله سبحانه وتعالى وفقه الله إذا كان حدثاً أن ينشأ على يد رجل من أهل السنة والجماعة، وإن كان كافراً وأسلم أن يسلم على يد رجل من أهل السنة، وإلا فكم رأينا عشرات الكفار يسلمون على أيدي أناس لا علاقة لهم بالإسلام، ويظنون أن هذا هو الإسلام. وعلى كل حال فالإنسان يتعصب ويتمسك بأول من يرشده إلى الإسلام، فإذا كان حظه سعيداً ووقع عند واحد من أهل السنة، فهذه من علامات إرادة الخير به. وقد كانت نقطة البداية في تربية الإمام أبي حامد أنه نشأ في أحضان الصوفية، وتربى في كنفها، وترعرع في ظلالها، فإن كان الغزالي بدأ بالصوفية، وتدرج إلى الباطنية والفلاسفة والمتكلمين، وظن في النهاية أن طريق الخلاص والنجاة هو طريق التصوف، ثم ندم بعد ذلك على هذا كله ورجع إلى منهج السلف الصالح، وألف وقال كلاماً عظيما جداً في الانتقال إلى عقيدة السلف في نهاية عمره وفي آخر مؤلفاته، وإن كان -كما ذكرنا- مات والبخاري على صدره، من شدة اهتمامه وتعطشه إلى علم الحديث الذي أيقن أنه فرط في حقه كثيراً؛ فعلينا أن نبدأ من حيث انتهى الغزالي رحمه الله تعالى، وأن ندقق في الطريق الذي سوف نسلكه قبل أن تطأه أقدامنا، وننفق فيه بضاعة العمر، وإلا فإذا مشينا في طريق مسدود فسنقف في النهاية أمام سد منيع يحول بيننا وبين طريق النجاة، فنعض أناملنا، ويغشانا الندم ولات حين مندم! وقد قيل: فساد الانتهاء من فساد الابتداء، فالأصل أن الإنسان إذا كانت بدايته فاسدة فإنها تستمر معه إلى النهاية والعياذ بالله، إلا من رحمه الله، ومن هنا عد السلف الصالح رحمهم الله تعالى من علامات السعادة للإنسان إذا نسك وإذا تعبد وإذا تاب: أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها، وأن يقيض الله له رجلاً من أهل السنة والجماعة يضع قدميه منذ البداية على طريق الفرقة الناجية والطائفة الظاهرة المنصورة.

ترجمة الإمام الغزالي رحمه الله

ترجمة الإمام الغزالي رحمه الله

اسمه ومولده ونشأته

اسمه ومولده ونشأته يقول عبد الرحمن دمشقية: هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي المعروف بـ الغزالي، ولد بطوس سنة (450هـ)، وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، فلما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وقال له: إن لي لتأسفاً عظيماً على تعلم الخط، وأشتهي استدراك ما فاتني في ولدي هذين فعلمهما، ولا عليك أن تصرف في ذلك جميع ما أخلفه لهما. فلما مات أبوهما أقبل صديقه على تعليمهما إلى أن أفنى ذلك المال اليسير الذي خلفه لهما أبوهما، فتعذر عليه القيام بقوتهما لأنه كان رجلاً فقيراً، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فآويكما به، وأصلح ما أرى لكما أن تلجآ إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم، فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما. يعني: إنكما ما زلتما صغيرين، وأنا ليس عندي ما أنفق عليكما، فأنصحكما أن تلتحقا بإحدى المدارس، فإنكما من طلبة العلم، وستجدون فيها القوت والطعام. ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجاتهما، وكان الغزالي رحمه الله تعالى حينما يتذكر هذه الأيام يحكيها، ويقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، يعني: كانت بداية طلب العلم أنهما يذهبان إلى المدرسة حتى ينالا القوت؛ لأنه نفذ ما كان لهما من مال في تعلم الخط، فقد أرادا العلم لأجل القوت فقط، فأبى العلم إلا أن يأخذ بناصيتهما حتى يكون لوجه الله سبحانه وتعالى. كانت الحالة المادية الصعبة هي التي دفعت بـ الغزالي إلى دخول إحدى المدارس الدينية ليتعلم الفقه فيها ظاهراً، وليضمن القوت باطناً، حيث إنه لم يكن له اختيار في ذلك، لكن هذا الفقر كان عامل خير في تكوين شخصية الغزالي الفقهية التي تطورت ونمت بشكل أثار حوله إعجاب الآخرين، ولذلك نرى الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى يصفه بأنه كان من أذكياء العالم، ومعلوم أن الغزالي من الأذكياء النوابغ في التاريخ، وأنه من شخصيات التاريخ النادرة التي عرفت بالذكاء الخارق. يقول: كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه، وقد ساد الإمام الغزالي في شبيبته، حتى إنه درس بالنظامية في بغداد وكان يحضر درسه هذا أكابر العلماء، وممن كان يحضر عنده أبو الخطاب وابن عقيل، فتعجبوا من فصاحته واطلاعه. وقد حكى عنه ابن كثير أيضاً بأن النسخ كان من مصادر قوته، كان ينسخ الكتب والمصاحف مثلاً ويبيعها.

طلبه للعلم ونبوغه فيه

طلبه للعلم ونبوغه فيه قال ابن السبكي رحمه الله: وفي عام (465هـ) -وكان عمره حينئذٍ خمسة عشر عاماً- بدأ الغزالي يدرس الفقه على أحمد الراذكاني بطوس، ولما تمكن من العلم سافر إلى جرجان ليطلب المزيد من العلم على يد الشيخ أبي نصر الإسماعيلي، وعلق عنه التعليقة، ثم قدم نيسابور ونزل هناك على إمام الحرمين الجويني، وجد واجتهد حتى برع في العلوم، ووقف على الخلاف والجدل والأصلين -يعني أصول الدين وأصول الفقه- والمنطق، وقرأ الفلسفة وأحكم ذلك كله، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدى للرد عليهم وإبطال دعاويهم. وقد أظهر إمام الحرمين الجويني عناية خاصة به لما ظهر له فيه من بوادر النبوغ السريع، حتى كان الإمام الجويني يصف الغزالي بأنه البحر المغرق، وقد لازمه الغزالي مدة انتهت بوفاته سنة (478هـ). لقد كان هذا التلميذ النابغ للإمام الجويني يمضي نحو تألقه وسطوعه بخطوات سريعة، فقد ألف كتاباً في أصول الفقه أسماه: المنخول من علم الأصول، غطى هذا الكتاب على أستاذه حتى قال له شيخه الجويني لما رآه وقرأه: دفنتني وأنا حي هلا صبرت حتى أموت! يقول ابن عساكر نقلاً عن عبد الغافر -وهو أحد تلامذة الغزالي - في ترجمته: ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان، وجد واجتهد حتى تخرج في مدة قريبة، وبز الأقران -يعني: تفوق على أقرانه- وحمل القرآن، وصار أنظر أهل زمانه في المناظرة، وأوحد أقرانه في أيام إمام الحرمين، وكان الطلبة يستفيدون منه ويدرس لهم ويرشدهم، ويجتهد في نفسه، وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف. وكان الإمام مع علو درجته وسمو عبارته وسرعة جريه في النطق والكلام لا يصفي نظره إلى الغزالي سراً لإنافته عليه في سرعة العبارة وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصنيف، فكان الشيخ يجد حرجاً من أن يتصدر تلميذه لتأليف الكتب، وإن كان متخرجاً به منتسباً إليه، كما لا يخفى من طبع البشر، ولكنه يظهر التبجح به والاعتزاز بمكانه ظاهراً خلاف ما يضمره. ثم بقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام، ثم عهد إليه التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد فقبل ذلك، وكان ذلك سنة (484هـ) ولم يكن تجاوز فيها الرابعة والثلاثين من عمره.

تدريسه في بغداد وتصديه لفضح الباطنية

تدريسه في بغداد وتصديه لفضح الباطنية وقد احتل من مجلس نظام الملك هناك محل القبول، وظهر اسمه، وبرزت مناظراته للفحول ومناقرته للكبار، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق، حتى أدت به الحال إلى أن صمم على ترك المعسكر والتدريس بنظامية بغداد. وصل أبو حامد إلى بغداد ولاقى تشجيعاً له على تحقيق دعوته ومواصلة تدريسه في نظامية بغداد، وصارت له مكانة وشهرة واسعة، حيث كان مدرساً لثلاثمائة من الطلاب في الفقه والأصول وغيرهما، لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد أصابه مرض اضطره إلى مفارقة بغداد، فرحل إلى الحجاز حاجاً، ثم أتى الشام وتركها ذاهباً إلى القدس نحو سنتين، وقيل: إن خروجه من بغداد كان لسبب خطر الباطنية الذين تم على أيديهم اغتيال نظام الملك سنة (485هـ)، وبهذا فقد قويت شكيمتهم واستفحل أمرهم، ولقد كان وقع نبأ نظام الملك عميقاً في نفس الغزالي، وتأثر بسبب ذلك تأثراً بليغاً، وبلغ هذا التأثر مبلغه حين توفي المهتدي سنة سبع وثمانين وأربعمائة بطريقة غامضة، ولعلها مؤامرة باطنية أيضاً. ثم جاء المستظهر بالله فطلب من الغزالي محاربة عقيدة الباطنية وفضح آرائهم ومذهبهم، ففعل الغزالي ذلك، وصنف ضدهم العديد من المصنفات أشهرها كتابه: المستظهري، إذاً: المستظهري نسبة إلى المستظهر بالله الذي أمره بالرد على عقائد الباطنية، وأصبح اسم الكتاب: فضائح الباطنية، ولذلك لما رد الغزالي على عقيدة الباطنية وفضحهم أصبح مهدداً بالخطر، فالباطنية يترصدونه ويتحينون الفرصة المواتية للتخلص منه، فخرج من بغداد سنة (488هـ)، وقد ترك أخاه أحمد للتدريس في نظامية بغداد، وفي بغداد أيضاً انصرف الغزالي إلى دراسة الفلسفة دراسة عميقة، فطالع كتب الفارابي وابن سينا، وألف على إثر ذلك كتابه: تهافت الفلاسفة. يقول بعض العلماء: الغزالي لم يؤلف هذا الكتاب عن رغبة مجردة في العلم؛ بل لأنه عانى من مرحلة من الاضطراب والتشكك الذهني أو الفكري، والدليل على ذلك أنه ألف كتابه المشهور: تهافت الفلاسفة لإبداء شكوكه في قيمة العلم وبراهينه المنطقية، وبعض الناس يفسرون خروجه من بغداد بأنه كان نتيجة هذه الشكوك التي طرأت على عقيدته فجعلته يترك التدريس، وترك الأهل والولد والمال وخرج من بغداد سنة (488هـ).

تركه للتدريس وخروجه من بغداد إلى الشام

تركه للتدريس وخروجه من بغداد إلى الشام يقول الغزالي حاكياً عن خروجه من بغداد: ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من كل الجوانب، ولاحظت عملي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، فلم أزل أتردد بين تجاذب الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من تسعة أشهر، أولها رجب سنة (488هـ)، ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري، أظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أضمر في نفسي سفر الشام؛ حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً، ففارقت بغداد. فخرج الغزالي يريد الشام في الباطن، وأظهر للناس أنه يريد الحج في الظاهر، ويبدو أنه كان تواقاً إلى العيش في الشام، والدليل على ذلك أنه عزم في نفسه على أن لا يعود إلى بغداد أبداً. يقول: ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله؛ بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وسمعة. فخرج الغزالي إلى مكة، فالمدينة، فدمشق، فالقدس، فدمشق، فالإسكندرية، ثم عاد إلى بغداد؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي تلميذه: رأيت الغزالي في البرية -وهي صحراء دمشق- وبيده عكازة، وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته في بغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم، فدنوت منه فسلمت عليه وقلت له: يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خيراً من هذا؟ فنظر إلي، ثم قال: لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول في مغارب الأفول تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل وعدت إلى تصحيح أول منزل ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي

عودته إلى التدريس في بغداد

عودته إلى التدريس في بغداد ثم بعد عشرة أعوام من السفر بين الحجاز ودمشق والقدس والإسكندرية، عاد أخيراً إلى نيسابور، وكان ذلك سنة (498هـ)، بأمر من الوزير فخر الملك علي بن نظام الملك، الذي كان وزيراً في نيسابور للسلطان سنجر حاكم خراسان، فألح عليه فخر الملك إلحاحاً شديداً في ذلك، فلبى الغزالي طلبه، وتولى التدريس بالنظامية في ذي القعدة سنة (499هـ)، لكنها فترة قصيرة لم تدم طويلاً، فسرعان ما طغت أيدي الباطنيين على فخر الملك سنة (503هـ)، وحينئذ خرج الغزالي مسرعاً إلى طوس ثانية، وسكن في الطابران منها.

وفاته رحمه الله

وفاته رحمه الله توفي الغزالي يوم الإثنين (14) من شهر جمادى الآخرة سنة (505هـ)، ودفن بظاهر قصبة طابران وهي قصبة في طوس، فرحمه الله تعالى، ولم يعقب إلا بنات، وكان له من الأسباب إرث وكسب يقوم بكفايته ونفقة أهله وأولاده، قيل: لقد قسمت كراريس الغزالي بعدد الأيام التي عاشها فبلغت أربعة كراريس لكل يوم، أي أنهم قسموا المؤلفات التي ألفها فوجدوا أن كل يوم كان يؤلف فيه أربعة كراريس، وقد بلغت هذه الكتب والرسائل المئات، منها المطبوع ومنها غير المطبوع.

تأثر الإمام الغزالي بأهل الكلام والفلاسفة والباطنية والصوفية

تأثر الإمام الغزالي بأهل الكلام والفلاسفة والباطنية والصوفية لقد عاش الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى زمناً كثرت فيه الآراء والمذاهب والفرق، وكان أبرز تلك الفرق آنذاك أهل الكلام والفلاسفة والباطنية والصوفية، وقد عكف الغزالي على دراسة كل واحدة من هذه الاتجاهات الأربعة. تلقى الأصول وعلم الكلام عن إمام الحرمين الجويني وتفرغ لدراسة الفلسفة دراسة وافية، وأكب على كتب ابن سينا: كالشفاء والنجاة والإشارات، حتى يقول بعض العلماء: الغزالي أمرضه الشفاء، يعني: كتاب الشفاء لـ ابن سينا، والعجيب أن بعض الناس يضللون في دراسة كتب التاريخ فيقولون: الفلاسفة أنشئوا حضارة، وبرعوا في شتى الاتجاهات الفكرية، فكان منهم ابن سينا، والكندي، والفارابي!! المقصود أنه درس كتب ابن سينا: كالشفاء والنجاة والإشارات، ورسائل أبي حيان التوحيدي، ورسائل إخوان الصفا، ولذلك فإن أغلب الفلسفة التي في كتاب الإحياء مأخوذة من هذه الرسائل الإلحادية الباطنية (رسائل إخوان الصفا) ومؤلفات الفارابي، وتهذيب الأخلاق لـ ابن مسكويه، وأكثر المصادر التي أخذ منها هي النجاة لـ ابن سينا، وتهذيب الأخلاق لـ ابن مسكويه.

ذكر بعض خرافات الصوفية

ذكر بعض خرافات الصوفية وها هو الشيخ أحمد الرفاعي يطلب شراء بستان من صاحبه فيقول له صاحب البستان: تشتريه مني بقصر في الجنة؟ فقال: من أنا حتى تطلب مني هذا يا ولدي؟! اطلب من الدنيا. فقال: يا سيدي! شيئاً من الدنيا لا أريد، فإن أردت البستان فاشتره بما أطلب. فنكس السيد أحمد الرفاعي رأسه ساعة واصفر لونه وتغير -ما أدري هل كان الوحي ينزل عليه أم ماذا؟! - يقول: نكس رأسه ساعة واصفر لونه وتغير، ثم رفع وقد تبدلت الصفرة احمراراً، وقال: يا إسماعيل! قد اشتريت منك البستان بما طلبت! فقال: يا سيدي! اكتب لي خط يدك، فكتب له السيد أحمد الرفاعي ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي ضامناً على كرم الله تعالى قصراً في الجنة تجمعه حدود أربعة: الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه وستره وأنهاره وأشجاره، عوض بستان في الدنيا، وله الله شاهد وكفيل. فهذه بعض مهازل هؤلاء الصوفية التي شابهوا بها سلوك النصارى، بالإضافة إلى الرهبنة والغلو في الدين وفي الرجال، مما جعل تصرفاتهم شبيهة بمهازل الكنيسة وأربابها، فلا شك أن بيع العقارات في الجنة أسلوب معروف عند النصارى. فالبابا لا يقدر على أن يضمن لأحد الجنة، بل ولا لنفسه، ولا الشيخ عبد الله العيدروس قادر على ضمان الجنة لأحد بل ولا لنفسه. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد نهيه عن تزكية الأخ أخاه مجرد المدح فقط، فكيف بالذي يضمن له الجنة؟! (لما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه وكفن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم العلاء الأنصارية: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه، فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال عليه السلام: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي، فقالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً). يقول الله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، يعني: في الدنيا، أما في الآخرة فلا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام مقطوع له بأنه يكون في الجنة.

عجائب وغرائب وخرافات من كلام الغزالي

عجائب وغرائب وخرافات من كلام الغزالي

كلامه حول الخلوة والانقطاع من الدنيا

كلامه حول الخلوة والانقطاع من الدنيا نعرض بعض العجائب من أقوال الغزالي في كتبه، وخاصة كتاب الإحياء. يقول: وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم، وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه، أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال الحضرة الربوبية. واستدل على ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، فهو ينصح الشخص الذي يدخل في الخلوة بأن يخلو بنفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض، ولا يقرن همه بقراءة القرآن، ولا بالتأمل في التفسير، ولا بكتب حديث ولا غيره. فنقول: ومن أين يأتيه الخير إن كان يعتزل القرآن ويعتزل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! ويقول أيضاً: واطو الطريق فإنك بالواد المقدس طوى، واستمع بسر قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما نودي به موسى: إني أنا ربك! ويقول أيضاً: اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي أن لا يشغل نفسه بالتزويج، فإن ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك، ويستجره إلى الأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله، ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى، فلا تقاس الملائكة بالحدادين، قال أبو سليمان الداراني: من تزوج فقد ركن إلى الدنيا. فنقول: أين هذا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)؟! فهذه دعوة كنسية، ورهبانية ليست من الإسلام في شيء؛ لأنها مناقضة لأصول مقاصد الشريعة العليا.

كلام الغزالي عما يسمى بالأباجاد

كلام الغزالي عما يسمى بالأباجاد وله في بعض كتبه كلام كانوا يسمونه الترياق، ويسمونه: أباجاد، وهذه الأشياء يتعاطاها المنجمون الذين ينظرون في النجوم، ويعتقدون أن لها تأثيراً على الحوادث الأرضية، وأن معرفة هذه الأشياء لها صلة بالأحوال الفلكية، فكانوا يعملون حوالي تسعة مربعات، ويكتبون أحرفاً ضمن هذه المربعات، فتكون هذه الحروف رموزاً لأرقام محددة، يحصل بواسطته كشف المقادير المخبأة في تلك الأفلاك، يعملون مربعين منقسمين إلى ثلاثة أفلاك، ويعملون في كل مربع تسعة مربعات، فواحد فيه: (ب. ط. د. ز. ع. و. واحد. ح) وهكذا، حروف ورموز لهؤلاء المنجمين، والغريب أن الغزالي رسمها في بعض كتبه! وذكر أنه من الأسباب ذات الخواص العجيبة والمجربة في معاملة الحامل التي عسر عليها الطلق، ثم قال: يكتب على خرقتين ثم يشدهما لم يصبهما ماء، وتنظر إليهما الحامل بعينها وتضعهما تحت قدميها، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج. وهذه الطريقة شائعة الاستعمال عند اليهود؛ لأنهم أهل خبرة بها. وقد سئل ابن عباس عن قوم يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم، فقال: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق).

إثبات الغزالي للمشاهدات والمكاشفات الصوفية

إثبات الغزالي للمشاهدات والمكاشفات الصوفية ويقول الغزالي أيضاً: عند أول سلوك طريق التصوف تتبع المشاهدات والمكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجة يضيق عنها نطاق النطق. يعني أنه لا يجوز لنا أن نحكيها، إنما هي أسرار وألغاز! مع أنه لا يوجد في الإسلام أسرار ولا ألغاز، يقول الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، وقال عليه الصلاة والسلام للصحابة أجمعين في أعظم اجتماع لهم وهو حجة الوداع: (ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد ألا إنكم مسئولون عني فبماذا تجيبون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت)، فهل بعد ذلك يشك شاك أن الرسول عليه السلام خص بعض الناس بعلوم وخبأها عن الآخرين؟ هذه أيضاً من مهازل هذا الفكر الصوفي الخبيث. يقول: ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجة يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ، بل الذي لابسته تلك الحالة لا يزيد على أن يقول: وكان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر يحيلك على مذهلات، (وكان ما كان مما لست أذكره) أي حصلت أشياء لا أستطيع أن أحكيها، فهي أسرار، كما لو سرحت في مقامات الفناء ونحو ذلك مما يذكرونه، ومثل هذه الكلمات التي لا ينطقون بها، فإذا نطقوا بها كانت قرينة الكفر، والتي يذكر الغزالي بأنه لا أحد يحاول أن يفسر هذه الأشياء أو يعبر عنها، مثل قول بعضهم: سبحاني ما أعظم شأني! وقول الحلاج: ما في الجبة إلا الله! وقول الآخر: أنا الحق وما في الدارين غيري! ونحو ذلك من تعبيراتهم الكفرية.

كلام الغزالي حول إسقاط الجاه عند الناس

كلام الغزالي حول إسقاط الجاه عند الناس يلفت الغزالي في مواضع من كتابه إلى وسيلة إسقاط الجاه، فيقول: إن الجاه نوع من الكرب للإنسان، ولذلك يستحسن بعض الناس أن يعملوا تصرفات حتى يسقط جاههم في قلوب الناس. ويقول: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق. وهذا مذهب الملامتية، والملامتية الشخص الذي لا يظهر في ظاهره ما في باطنه، وهذا عند الصوفية من أعظم الناس إخلاصاً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يخفي على الناس صلاحه وتقواه ويظهر خلاف الحقيقة. يقول: إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس؛ ليسلموا من آفة الجاه. أي: من أجل أن يتخلص من مسألة الجاه، فإن الناس يحترمونه لأنه رجل صالح وتقي، فيقول: أريد أن أزيل عني هذه الشبهة، وحتى لا أطلب الجاه بقلوب الناس، فيأتي ببعض التصرفات كأن يظهر أنه مجنون مثلاً، ويجعل الصبيان يضربونه بالحجارة، أو يجلس على مزبلة، أو في مكان قذر بحيث يمتلئ بالقمل والقاذورات، يقول الغزالي: فمنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر، حتى يظن أنه يشرب الخمر فيسقط في أعين الناس! وأقول: هل هذه مفاهيم إسلامية؟ أن توقع نفسك في مواقع الشبهة ومواقع التهمة؟! ومما يحكى أن بعضهم عرف بالزهد وأقبل الناس عليه ووصفوه بالزهد، والرجل عابد ومجتهد في العبادة، فدخل حماماً عاماً ولبس ثياب غيره -سرق ملابس غيره- وخرج، فوقف في الطريق حتى عرفوه، من أجل أن يكتشفوا أن هناك ملابس سرقت فيبحثون عن الذي سرقها، فيجدون أنه هو الذي سرقها، فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب، وفي هذه الحالة اطمأن أنه لم يعد متهماً بالصلاح، طالما أنه سيتهم بالفسق. أيضاً يقول عن بعضهم: إنه كان يعالج قوة الغضب، ويتكلف صفة الحلم، فكان يعطي السفهاء أجرة ليزدروه بالشتم في المحافل فيتعود احتمالهم. يعني أنه يريد أن يمرن نفسه على أن يشتم أو يهان من أجل أن يعالج صفة الغضب في نفسه! فيعطي بعض السفهاء أموالاً من أجل أن يشتموه في المحافل أمام الناس، ويصبر هو على ذلك الشتم تدريباً لنفسه، فصار بحيث يضرب به المثل في الحلم! وآخر عالج حب المال بأن باع كل ماله، ورمى بثمنه في البحر. هذا يريد أن يعالج فتنة المال، فباع كل ما يملك من أموال وأخذ ثمنها وألقاه في البحر!! أليست هذه سفاهة؟! سبحان الله! وهذا مثل عباد الهند، يقول الغزالي: وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول ليلة على رجل واحدة لا ينتقل عنها. وحكى عن الشبلي أنه عالج البخل بأن قام ورمى أمواله في دجلة، وقال: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل! وعقب الغزالي على فعل الشبلي بقوله: فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله، بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له! كيف سيكون جوابه أمام الله سبحانه وتعالى إذا سأله عن ماله من أين اكتسبه وفي أي شيء أنفقه؟ لماذا لا يحرص على أن يطعم الفقراء والجياع بهذا المال، أو يعد للغزو والجهاد في سبيل الله؟ وسوف يعالج البخل، وفي نفس الوقت ينفع بهذا المال غيره.

قول الغزالي إن من أولياء الله من تزوره الكعبة وتطوف به

قول الغزالي إن من أولياء الله من تزوره الكعبة وتطوف به أيضاً يقول الغزالي في الإحياء: إن من أولياء الله من تزوره الكعبة وتطوف به! أيها الإخوة! هذه الخرافات الصوفية هي فعلاً أفيون الشعوب، تجد الحكام الظلمة والطواغيت أعداء الإسلام لا يجدون مطية أحسن من الصوفية يركبونها للعبور على الإسلام والإجهاز عليه، حتى إن هناك كتاباً ألفه رجل أمريكي اسمه: (القناطر التي نعبر عليها حتى نجهز على الإسلام) وكل الكتاب يتكلم على أن الصوفية هي أعظم مطية نستطيع أن نركبها لنقضي على الإسلام. فإذا كان الغزالي يقول: إن الكعبة تروح إلى بعض الناس وتطوف بهم، فلا نستبعد ما حكي عن رابعة أنها نذرت هي وآخر أن يحجوا إلى الكعبة، فالرجل نذر أن يذهب زاحفاً على بطنه، وهي نذرت أن تمشي خطوة وتركع ركعتين وهكذا حتى تصل، وكل واحد وفى بنذره، فوصل الرجل إلى الكعبة قبلها، فحينما وصل لم يلق الكعبة في الحرم، فقال: أين الكعبة؟ قالوا: ذهبت تستقبل رابعة! والله المستعان!

قول الغزالي بأنه يجوز للصوفي تمزيق ثيابه عند السماع

قول الغزالي بأنه يجوز للصوفي تمزيق ثيابه عند السماع يقول أيضاً: يجوز للصوفي تمزيق الثياب الجديدة. وهذا عندما يسمع الإنشاد الصوفي ويحصل الانفعال والوجد، ونحو هذه الأشياء من الفناء، فيجوز له تمزيق الثياب الجديدة إذا قطعها قطعاً مربعة، يعني إذا أراد أن يقطع ثيابه فلا يقطعها قطعاً عشوائية، بل يقطعها على هيئة معينة فيجوز له ذلك. وكيف تحصل هذه الهيئة؟ يقول: يجوز للصوفي تمزيق الثياب الجديدة إذا قطعها قطعاً مربعة مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات، فإن الثوب يمزق حتى يخاط منه القميص ولا يكون تضييعاً. يعلق الإمام ابن الجوزي على ذلك قائلاً: ولقد عجبت من هذا الرجل كيف سلبه حب مذهب التصوف عن أصول الفقه ومذهب الشافعي! وليس العجب من تلبيس إبليس على الجهال فيهم، بل الفقهاء الذين اختاروا بدع الصوفية على حكم أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين.

قول الغزالي بأن صلاة المنفرد أفضل من الجماعة إذا كان خشوعه يزيد بانفراده

قول الغزالي بأن صلاة المنفرد أفضل من الجماعة إذا كان خشوعه يزيد بانفراده أيضاً من ذلك: فتوى الغزالي بأن صلاة المنفرد أولى من صلاة الجماعة إن كان خشوعه يزيد بانفراده، وقد أنكر الإمام السبكي هذه الفتوى على الغزالي رغم أنه متعصب للغزالي، وقال: ولا تترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أفتى البعض بأنها فرض -صلاة الجماعة- وجعلها آخرون شرطاً لصحة الصلاة لمثل هذه الخيالات. أيضاً من هذه العجائب: أنه استحسن ابتداء قص الأظفار بالسبابة؛ لأن لها الفضل على بقية الأصابع، ولكونها المسبحة.

قول الغزالي بأفضلية السماع على القرآن

قول الغزالي بأفضلية السماع على القرآن أيضاً من عجائب ما قاله الغزالي: قوله بأفضلية السماع -سماع الغناء- على القرآن لقلب المبتدئ. يقول: فإن سأل سائل: إن كان سماع القرآن مفيداً بالوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين؟ قال الغزالي: فاعلم أن السماع أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه. ثم ذكر الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع، وأن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب. وأطال في ذكر الأوجه إلى أن ختم بالوجه السابع فقال فيه: السابع: أن القرآن كلام الله وصفة من صفاته، وهو حق لا تطيقه البشرية؛ لأنه غير مخلوق، فلا تطيقه الصفات المخلوقة، والألحان الطيبة مناسبة للطباع، فنسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، فما دامت البشرية باقية، ونحن بصفاتنا وحظوظنا نتنعم بالنغمات الشجية والأصوات الطيبة، فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى التصاعد أولى من انبساطنا إلى كلام الله تعالى الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه يعود. وهذا كلام عجيب! فهل مجرد وجود التلذذ بهذه الأنغام والتمتع يبيح الفعل؟! إذاً لماذا لا نستحل كثيراً من المحرمات التي فيها مثل هذا التلذذ؟! ثم يحكي الغزالي قصة رجل فيقول: وقد حكي عن أبي الحسن الدراج أنه قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه، فلما دخلت الري كنت أسأل عنه، فكل من سألته عنه قال: أيش تعمل بذلك الزنديق؟ قال أبو الحسن: فلم أسأل عنه حتى دخلت عليه في مسجده، وهو قاعد في المحراب، وبين يديه رجل وبيده مصحف يقرأ، فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية، فسلمت عليه، فأقبل علي وقال لي: أتحسن أن تقول شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: هات، قال: فأنشأت أقول: رأيتك تبني دائماً في قطيعتي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني كأني بكم والليت أفضل قولكم ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته، وابتل ثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال: يا بني! تلوم أهل الري يقولون: يوسف زنديق! هأنا من صلاة الغداة أقرأ المصحف لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين. أي: أنك استغربت من الناس الذي كنت تسألهم في الطريق وكلما تسأل واحداً: أين فلان؟ فيقول لك: الزنديق ماذا تريد منه؟! يقول: كيف تستغرب من ذلك وأنا جالس أقرأ القرآن من صلاة الفجر إلى هذا الوقت وعيني لم تقطر منها قطرة، وقد قامت علي القيامة بسماع هذين البيتين من الشعر! ويعلق الغزالي على هذه القصة بقوله: فإذاً القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى، فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن! ويستدل الغزالي على إباحة السماع الصوفي بقوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] فيقول: إنه الصوت الحسن.

تجويز الغزالي للرقص عند التواجد بالسماع

تجويز الغزالي للرقص عند التواجد بالسماع الصوفية ليس لهم سلاح غير المنامات والخيالات والأوهام، كما يقول بعض السلف: أعوذ بالله من فكر الفلسفي وخيال الصوفي، فالفلسفة فكر منحرف، والصوفية خيال وأوهام وأساطير وخرافات، يروي الغزالي عن الدنوري قوله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: يا رسول الله! هل تنكر من هذا السماع شيئاً؟ فقال: لا أنكر منه شيئاً، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختتمون بعده بالقرآن. لا حول ولا قوة إلا بالله! مثل التلفزيون فعلاً. أيضاً: يقول الغزالي في ذكر آداب السماع: الأدب الخامس في السماع: موافقة القوم. يعني تتأدب مع الناس الذين تسمع معهم الإنشاد الصوفي، فإذا جاء واحد منهم وأصابته المواجيد وانفعل وقام يرقص، فقم واشترك معه في الرقص؛ لأن هذا من حسن العشرة وحقوق الأخوة. يقول: موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، كذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته. يعني إذا سقطت عمامة أحدهم لأجل الوجد فعليك أن توافقه أيضاً وتنحي عمامتك. يقول: كذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته، أو خلع الثياب إذا سقط عنه الثوب بالتمزيق، فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والمعاشرة. وهذا مذكور في الإحياء (2/ 304 - 305). يقول: ومن الأدب أن لا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه، ولا يشوش عليهم أحوالهم، إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح. أقول: لقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى أن الرقص والطبل والتصفيق هذه من أفعال المشركين: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق. فالتصفيق عند الصوفية من جملة الآداب التي يؤدونها في خلواتهم. فأي دين هذا؟! يقول بعض الشعراء: أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي؟! ما قال الله سبحانه وتعالى ذلك وما أحل الله عز وجل ذلك.

الجنة ونعيمها وأهلها عند الغزالي

الجنة ونعيمها وأهلها عند الغزالي أخيراً: نختم برأي الغزالي رحمه الله وعفا عنه في الجنة وأهلها. فيرى الغزالي أن للعارفين مقاماً يجاوز مقام الجنة، أي أن العارفين لهم مقام أعلى من مجرد الدخول إلى الجنة، وهو مقام مجالسة الرحمن الدائمة. هذا المقام لا يناله عموم الناس وهم عوامهم، وإنما هو لخواص الناس من العارفين. وكل هذا الانحراف سره اعتماده على أثر ضعيف من الآثار السيئة والأحاديث الضعيفة، حديث ضعيف يقول: (أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب)، كان الناس إذا رأوا رجلاً معتوهاً فيقولون: هذا ولي من أولياء الله، وبمجرد أن يموت يبنون على قبره قبة، ويقولون للناس: إن هذا من أولياء الله، وأنتم لا تعرفون ذلك، هؤلاء لهم أسرار وكذا وكذا، ويفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب)، ومن هنا يستطيع الإنسان أن يتصور إلى أي مدى تعتبر الصوفية خطراً على الإسلام ومفاهيم الإسلام. يقول الغزالي: فمن كان حبه في الدنيا رجاء نعيم الجنة والحور العين، مكن من الجنة يتبوأ منها حيث يشاء، فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنساء، فهناك تنتهي لذته في الآخرة، فالأبرار يرتعون في البساتين وينعمون في الجنان مع الحور العين والولدان، والمقربون ملازمون للحضرة عاكفون بطرفهم عليها، يستحقرون نعيم الجنان بالإضافة إلى ذرة منها، فقوم بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون وللمجالسة قوم آخرون، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر أهل الجنة البله). والحديث -كما سبق- ضعيف. أرونا إثبات رؤية الله في الآخرة؟ أين مرتبة إثبات رؤية الله في الآخرة لأهل الجنة؟ التي يدافع عنها الغزالي ويرد على المعتزلة في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، فأهل الجنة يرون ربهم؛ لأن الإنسان بدن وروح، فنعيم البدن نعيم حسي، ونعيم الروح هو أعظم هذا النعيم، وهو الذي يأخذ كل لذات الجنة وهو رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، فليس هناك تعارض أن يتم النعيم لهم من كل الوجوه، وأن يكون أرقى وأعظم هذه المقاصد هو رؤية الرب سبحانه وتعالى في الآخرة؛ فهو يقول: إن تناولهم لشهوات البطون والفروج يلهيهم عن إبصار جمال الله وجلاله الذي هو خاص بالمقربين فهذه الآية لها هذا الكلام، وهو يعلم عقيدة أهل السنة في إثبات رؤية الله في الآخرة، خاصة وأنه أطال في الرد على المعتزلة في إنكارهم الرؤية. يقول الغزالي: وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف، يعني أن هناك جنتين: جنة البله وجنة المعارف، وجنة المعارف لها ثمانية أبواب غير أبواب الجنة الثمانية. فيقول: وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف، واعتكف فيها، لم يلتفت أصلاً إلى جنة البله، وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فتكون من جملة البله. إذاً: البله هم الذين يريدون النجاة الفوز بالجنة والنجاة من النار. يقول: ولا تظن أن روح العارف من الانشراح في رياض المعرفة وبساتينها، أقل من روح من يدخل الجنة التي يعرفها ويقضي فيها شهوة البطن والفرج، وأنى يتساويان! بل لا ينكر أن يكون في العارفين من رغبته في فتح أبواب المعارف لينظر في ملكوت السماء والأرض أكثر من رغبته في المنكوح والمأكول والملبوس. وخلاصة الكلام يقول: فإن كنت ترى مشاركة البهائم لذاتها، أحق بالطلب من مساهمة الملائكة في فرحهم وسرورهم بمطالعة جمال حضرة الربوبية، فما أشد غيك وجهلك وغباوتك. يقول: اعلم أن هذه الشهوة خلقت في العارفين ولم تخلق لك، كما خلقت لك شهوة الجاه ولم تخلق للصبيان، وإنما للصبيان شهوة اللعب. فأقول: أين هذا الكلام من سلوك الأنبياء؟ لماذا لا ننضبط بضوابط الكتاب والسنة؟ أليس إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وأبو الأنبياء يدعو الله سبحانه وتعالى ويقول: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85]؟ والأنبياء كلهم كانوا يطلبون الجنة، فالصوفية اخترعوا مفاهيم أجنبية عن الإسلام، يحكون عن رابعة العدوية أنها مشت وفي يدها اليمين ماء وفي يدها الشمال نار، فقالوا: أين تذهبين يا رابعة؟ قالت: أنا ذاهبة إلى الجنة والنار، سوف أطفئ النار بهذا الماء، وأحرق الجنة بهذه النيران، حتى أفني الجنة والنار، حتى لا يعبده الناس خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه! فهذه المفاهيم أجنبية، مفاهيم دخيلة على دين الإسلام، وليست من الإسلام في شيء، فهم يقتبسون تارة من النصارى والرهبان، وتارة من اليهود، وتارة من البراهمة والهنادسة والوثنيين، فهذه الأشياء كلها من الفلاسفة، ومن المتكلمين، ومن الباطنية الملاحدة وهكذا، فدين الصوفية دين أجنبي عن دين الإسلام! الرسول عليه السلام رغبنا في أن ندعو الله عز وجل: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة) إلى آخر الحديث، والوسيلة ذكر عليه الصلاة والسلام أن الوسيلة منزلة في الجنة، ورغب أمته في أن يدعوا الله سبحانه وتعالى أن يكون هو صاحب هذه المنزلة صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل البشر، أحوجهم لله وأحبهم لله، ومع ذلك كان يسأل الله الجنة، وقد ورد في الحديث: أن مريم وفاطمة رضي الله عنهما من سيدات نساء العالمين، و: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وورد أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وسعد بن مالك وعبد الرحمن بن عوف مشهود لهم بالجنة، وبشر الله أهل بدر بالجنة، وكذلك وعد بالجنة الذين بايعوا تحت الشجرة، وأي الوعدين أعظم: وعد الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الأفاضل الكرام بالجنة، أم وعد الغزالي نفسه والصوفية بجنة المعرفة التي يعظمونها بجانب جنة الخلد التي وعد المتقون؟ أي قيمة تحصل لهذا الوعد الإلهي إذا كانت هذه الجنة مخصوصة بالبله الذين ليس لهم هَمٌّ إلا الأكل والتمتع، وأنهم يشابهون الأنعام كما يرمز الغزالي إلى ذلك؟ فمتاع الجنة عند الغزالي بهذه النظرة الصوفية مثل متاع الدنيا ينبغي أن يزهد فيه. يقول بعض السلف: يا معشر الشباب! أكثروا من ذكر الحور العين حتى تتشوقوا إلى الجنة! فالشريعة تأمر بالحرص على متاع الجنة سواء في ذلك المتاع الحسي والمتاع الروحي، وهؤلاء الصوفية يوافقون الشريعة في الزهد في الدنيا، لكنهم يخالفونها في أنهم يطالبوننا بالزهد في فضل الله سبحانه وتعالى ورحمته في الجنة. فهذه مناقضة للشريعة، وهذا فهم دخيل وأجنبي عما بعث الله عز وجل به رسله. يقول الغزالي حاكياً عن ممشاد الدينوري قال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بملكها فما أعرتها طرفي! يعني: احتقاراً للجنة وزهداً فيها. ويقول أيضاً: روي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: إلهي إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك وآنستني من ذكرك. وهكذا يأتون بعد تلك العبارة بكلام حسن من أجل أن تتقبلها وتشرب السم في العسل، وهذا كما يحكون عن رابعة العدوية أنهم قالوا لها: يا رابعة! هل تحبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله إني لأحبه غير أن حبي لله لم يبق في قلبي مكاناً لحب مخلوق سواه! وهل تتعارض محبة رسول الله مع محبة الله؟ وهذا الكلام لا يصح عنها رحمها الله، لكن هذا الكلام معتمد عند الصوفية ويبنون عليه دينهم. وقيل أيضاً لـ رابعة العدوية: ألا تسألين الله الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار. تقصد مجاورة الله أولاً ثم بعد ذلك تسأله الجنة. وروي عن بعضهم قوله: من عبد الله لعوض فهو لئيم! سبحان الله! أي معارضة للقرآن والسنة مثل هذه التي تعرض في ثوب الزهد والتصوف؟! وكل هذه الأشياء موجودة في كتب الغزالي.

انحراف الصوفية في العبادة والمحبة

انحراف الصوفية في العبادة والمحبة أيضاً: انحرف الصوفية بمزيد من الشطحات والانحرافات، حيث صرفهم الشيطان عن طلب أعظم ما وعد الله سبحانه وتعالى به عباده بدعوى المحبة والإخلاص في التعبد، فيقولون: نعبد ربنا حباً فيه فقط، لكن لا نعبده خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته! فاختلت عندهم الموازين، وظنوا أن الرجاء والخوف من الله سبحانه وتعالى يخل بالعبودية الصحيحة. يقول أبو يزيد البسطامي: ما النار؟ لا أفهمها، لأستندن عليها غداً وأقول: اجعلني فداء لأهلها وإلا بلعتها! أستغفر الله أستغفر الله! ويقول: ما الجنة؟ لعبة صبيان ومراد أهل الدنيا. ولا يكتفي بتحقير ما عظمه الله سبحانه وتعالى؛ بل لما سأله أحدهم أن يحدثه بشيء من كراماته قال له: أدخلني الله في الفلك الأسفل، فدورني في الملكوت السفلي وأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فصوت لي في السماوات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم أوقفني بين يديه فقال: سلني أي شيء رأيته حتى أهبه لك، فقلت: يا سيدي ما رأيت شيئاً فأسألك إياه! كل هذا لم يعجبه شيء منه والله المستعان، وهذه كلها موجودة عند الغزالي تحت فصل: حكايات المحبين، أي: الذين لا يعبدون الله خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنة؛ لكن حباً فيه. وهذا التصرف من الصوفية جعل من بعدهم يبنون على هذه المفاهيم الاستخفاف والاستهانة بالنار وبعذابها، حتى إنهم قالوا: إن عذاب النار مشتق من العذوبة، فيقول ابن عربي في حق أهل النار: وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين يسمى عذاباً من عذوبة لفظه وذاك له كالقشر والقشر صاين وهذا الملحد ابن عربي يفسر قوله سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]، فيقول: (عذاب) هنا مشتقة من العذوبة والريح من الراحة، {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] يقول: إن الريح هاهنا إشارة إلى ما فيها من الراحة، فإن بهذه الريح أراحهم الله من هذه الهياكل المظلمة. وهذه درجة أحط من درجة احتقار الجنة والنار، فالصوفية الأوائل بنوا المذهب على أن تعبد الله حباً فيه -وهذه زندقة- لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته؛ فأتى ابن عربي فيما بعد وأسس المذهب الأحط من هذا، وهو أن عذاب النار في ذاته نعيم وراحة وعذوبة. يقول: وفي هذه الريح عذاب، أي: أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، ويسألون الله أن يذيقهم هذه العذوبة، ولما قرأ البعض كلام ابن عربي قال: الله يذيقكم هذه العذوبة، يقصد هؤلاء الصوفية. وقد قال الحلاج قبل ابن عربي: أريدك لا أريدك للثواب ولكني أريدك للعقاب فاستجاب الله له فمات مصلوباً، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]. ولا شك أن هذه التصرفات إنما نشأت بسبب أنهم لا يعبدون الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، لكن يزعمون المحبة، وكما قال بعض السلف الصالح -وهذا محكي عن مكحول الدمشقي -: من عبد الله بالخوف فهو حروري -أي مثل الخوارج- ومن عبده بالرجاء فهو مرجئي أو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو مؤمن موحد. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من هؤلاء الموحدين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

حجية السنة ومنزلتها من القرآن

حجية السنة ومنزلتها من القرآن لقد أنزل الله عز وجل على نبيه القرآن، وجعله معجزاً في البلاغة والفصاحة والحجة والبرهان، وأنزل على نبيه وحياً مرادفاً لوحي القرآن، وهو السنة المطهرة التي خرجت من لسان من لا ينطق عن الهوى، فجاءت السنة مبيِّنة لمجمله، ومفصِّلة لمحكمه، ومقيِّدة لمطلقه، ومخصصِّة لعمومه، وناسخة لبعض أحكامه، وبعضها جاء بإثبات حكم مستقل، وهناك توجد دعوات ضالة تدعو إلى ترك السنة وعدم الاحتجاج بها، وقد رد عليها العلماء، وبينوا ضلالها.

وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد انتهينا في تفسير سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، وقال الله عز وجل أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. وقوله: (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) فيه إشارة إلى أن طاعة أولي الأمر مقيدة بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليست طاعة مستقلة، وفي ذلك أيضاً إثبات لحجية السنة النبوية كمصدر مهم من مصادر التشريع. فهذه الآية تصلح عنواناً لمبحث مهم نحتاجه بين الفينة والفينة، وهو إثبات حجية سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه، واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا هم أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم، وما قصد له الكتاب، فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وقال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في أثناء حكايته لحجة الوداع: فنظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به.

الأدلة القرآنية على حجية السنة النبوية

الأدلة القرآنية على حجية السنة النبوية حجية السنة النبوية ضرورة دينية، ولاشك أن هذا أمر كان ومن في قلبه ذرة من إيمان في غنى عن بيان أدلته؛ لكن لا بأس أن نبين هذه الأدلة، لقطع شبه الملاحدة, ودابر الزنادقة الذين يريدون الكيد بالإسلام، والعبث بعقول الدعاة من المسلمين وراء ستار البحث عن الحقيقة، أو الحرية الفكرية المزعومة التي تجاوزت حدها وطغت في هذا العصر.

عصمة النبي صلى الله عليه وسلم

عصمة النبي صلى الله عليه وسلم فمن أول أدلة حجية السنة: عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقد انعقد الإجماع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء معصومون عن أي شيء يخل بالتبليغ، ككتمان الرسالة، والكذب في دعواها، والجهل بأي حكم نزل عليهم أو الشك فيه، والتقصير في تبليغه. وهم كذلك معصومون من أن يتصور الشيطان لهم في صورة الملك، ومعصومون من أن يلبس عليهم في الرسالة، ومعصومون من أن يتسلط على خواطرهم بالوساوس، ومعصومون من تعمد الكذب في أي خبر أخبروا به عن الله تبارك وتعالى، وتعمد بيان أي حكم شرعي على خلاف ما أنزل الله عليهم، سواء كان ذلك البيان بالقول أم بالفعل، والمعجزات التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على أيدي الأنبياء عليهم السلام تقوم مقام قوله تعالى: صدق رسلي في كل ما يبلغونه عني؛ لأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخاطب كل واحد من بني آدم خطاباً مباشراً، ويقول له: إن محمداً عليه الصلاة والسلام رسولي، فاتبعه وآمن بما جاء به. لكن هذا -مع عدم إمكان وقوعه في الدنيا لأحد- فإنه يقتضي أن يصبح الإيمان عن طريق الإجبار والإكراه، لكن الله سبحانه وتعالى بعث رسله وأيدهم بالمعجزات، وهذه المعجزات تقوم مقام قول الله سبحانه وتعالى للبشر: صدق رسولي فيما يبلغه عني، فآمنوا به واتبعوه. فالله سبحانه وتعالى أيدهم بالمعجزات التي لا يمكن أن تكون لأحد من البشر ولا تجري إلا على يد من أيده الله سبحانه وتعالى بها وخرق العادة على يده. فإذا جاز على الأنبياء أي شيء مما يخل بالتبليغ، إذاً لأدى ذلك إلى إبطال دلالة المعجزات على النبوة، وهذا مخالف، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47]. ثم بعد هذا شهد الله له عليه الصلاة والسلام بالبلاغ والصدق، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] إلى آخر الآيات. وقال تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3]. فهو معصوم من أن ينطق بالهوى على الإطلاق، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فلذلك إذا استعملت قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] فهذا أبلغ من أن يقال: (وما ينطق بالهوى)؛ لأن استعمال حرف (عن) فيه تنبيه على مصدر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم. أما في آخر حياته عليه الصلاة والسلام فقد أوحى الله إليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولم أترك شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه). وأيضاً: الرسل معصومون من السهو والغلط في هذا التبليغ على الصحيح، والذين جوزوا مثل ذلك أجمعوا على حصول التنبيه فوراً من الله سبحانه وتعالى، وعدم التقرير عليه، هذا كله يستلزم أن أي خبر أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وأقره الله عليه، صادق قطعاً ومطابق لما عند الله سبحانه وتعالى من الحكم فيجب التمسك به بالإجماع. فبهذا تثبت حجية قول النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن إن هذا كلام الله؛ لأنه معصوم كما ذكرنا، وتثبت أيضاً حجية قول النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث القدسية، قال الله أو قال رب العزة كذا وكذا لأنه معصوم من السهو والخطأ في التبليغ، ومن أن يوسوس له الشيطان أو أن يلبس عليه، ومن أن يكذب على الله، ومن أن يقصر في التبليغ، فهو معصوم من كل هذه الأشياء لسبب، وهو: أن أقواله وأفعاله حجة صلى الله عليه وآله وسلم. وبهذه العصمة تثبت حجية قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، لأنه خبر معصوم فيكون حجة دالة على أن الوحي قسمان: كتاب، وغير كتاب، الكتاب: هو المعجز المتعبد بتلاوته وهو القرآن الكريم، وغير الكتاب ما ليس كذلك، وهو قسمان: الحديث القدسي، والحديث النبوي. فإذا كان كل ذلك من عند الله كان الكل حجة قائمة على الخلق إلى يوم الدين. وبعصمته صلى الله عليه وسلم عن الكذب في التبليغ تثبت حجية قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله مثلاً: (بني الإسلام على خمس)، وقوله: (ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله)، وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني منا سككم)، وقوله: (فعليكم بسنتي)، وبهذا تثبت حجية جميع أنواع السنة من قول أو فعل أو تقرير، قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي). فهذا الخبر صادر عن معصوم من الكذب، ومن الخطأ في التبليغ، فهذا يدل على أنه لا يمكن أن يكون الضلال في التمسك بالسنة، وإنما الضلال في تركها، والعمل بما يخالفها، فلا يمكن أن يأمن الإنسان من الضلال إلا إذا أخذ بالقرآن والسنة معاً. أما الضالون المبتدعون ممن يسمون أنفسهم بالقرآنيين، فهؤلاء غير معصومين من الضلال؛ لأن الأمان من الضلال معلق على أمرين، لا على أمر واحد، وهما: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي).

تقرير الله للصحابة على استمساكهم بالسنة

تقرير الله للصحابة على استمساكهم بالسنة أما الدليل الثاني فهو: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تمسكوا بالسنة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو عصر الوحي، وقد أقرهم الله عز وجل على ذلك. فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يحث أمته على التمسك بسنته، ويحذرهم من مخالفتها، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يمتثلون أمره في ذلك، ويقتدون به، ويتبعونه في جميع أقواله وأفعاله، وتقريراته، ويعتبرون أن كل ما يصدر منه فهو حجة يلزمهم اتباعها. وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أفضل من كل من أتى بعدهم من العلماء والأئمة والمجتهدين، وكانوا أقدر على الاجتهاد واستنباط الأحكام من الكتاب، ومع ذلك فكانوا لا يستقلون بالفهم منه فيما ينزل بهم من الحوادث، بل كانوا يرجعون إليه صلى الله عليه وسلم في كل ما يطرأ من أحوال. حتى إنهم إذا اجتهدوا في حال غيابه عنهم صلى الله عليه وآله وسلم سألوه عند حضوره، فإن أقرهم وإلا رجعوا عن اجتهادهم. فحث النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على اتباع السنة، وتحذيرهم من مخالفتها، ثم اتباع الصحابة للسنة، وتمسكهم بها، واحتجاجهم بها دليل على حجيتها، وهذا السلوك في حد ذاته قد أقرهم الله عليه، ولم يبين أنهم أخطئوا فيه، مع أن الزمان كان زمان وحي، ولو كانوا مخطئين في ذلك لما أقرهم الله سبحانه وتعالى عليه؛ لأن تقرير الله عز وجل في زمان الوحي حجة بمثابة الوحي المنزل نفسه، وهذا كله مضاف إلى أنه تبارك وتعالى كان يأمرهم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، ويحذرهم من عصيانه ومخالفته. إذاً: الدليل الأول: العصمة، الدليل الثاني: تقرير الله عز وجل للصحابة رضي الله تعالى عنهم في استمساكهم بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

آيات القرآن الدالة على وجوب اتباع النبي والرضا بحكمه

آيات القرآن الدالة على وجوب اتباع النبي والرضا بحكمه الدليل الثالث: القرآن الكريم نفسه: فقد شحن القرآن العظيم بمئات الآيات والكلمات التي تدل مجتمعة دلالة قاطعة على حجية سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الآيات يمكن أن نقسمها إلى مجموعات متوائمة ومتوافقة، المجموعة الأولى: آيات تدل على وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباعه، والرضا بحكمه، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62]. يقول ابن القيم: فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا إلى مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه صلى الله عليه وسلم. وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فالمؤمن لا خيار له في أمر الله عز وجل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] لأنه لا يمكن أن ينقاد في الظاهر وقلبه غير مطمئن، فالإيمان لا يثبت إلا باجتماع هذه الأمور كلها. وعن عروة قال: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شراج الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجهه عليه الصلاة والسلام، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر) واستوعب النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في الماء حين أحفظه الأنصاري، وكان قد أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وهذا الحديث أخرجه الجماعة. إذا تأملنا وجه الدلالة في هذا الحديث فالكلام هنا متعلق بهذه الحادثة التي هي سبب النزول، فهذا الحكم الذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجد في آية من القرآن؛ ولكن أتت الآية في القرآن الكريم لتقر هذا الحكم، وتنفي الإيمان عمن لم يمتثل ويرضى به ظاهراً وباطناً. ولهذا قال الشافعي: وهذا القضاء سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حكم منسوخ في القرآن، وليس حتماً في القرآن، ومع ذلك القرآن أتى يحرض على الانقياد له، ودل على أن السنة حجة. وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء:60 - 61]، يعني: إلى سنته، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61]. إذاً: هذه جملة من الآيات تدل على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرضا بحكمه.

الآيات الدالة على أن السنة تبين القرآن وتشرحه

الآيات الدالة على أن السنة تبين القرآن وتشرحه المجموعة الثانية: آيات تدل على أن السنة تبين الكتاب وتشرحه شرحاً معتبراً عند الله، مطابقاً لما حكم الله به على العباد، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. هنا تنزيلان: ((َأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ)) المبين وهو السنة ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) من القرآن؛ لأن السنة تبين القرآن. والسنة منزلة كما أن القرآن منزل بنص هذه الآية: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. والحكمة إذا أتت في سياق الامتنان على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي سنته بإجماع السلف، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى كما في هذه الآية. وتدل الآية على أن الأمان من الضلال يكون باتباع القرآن (الكتاب)، واتباع الحكمة التي هي السنة. وقال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231] فكلاهما منزل. وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، فالواو هنا تقتضي المغايرة، فالكتاب غير الحكمة. وقال تبارك وتعالى مخاطباً أمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فعطف الله الحكمة على الكتاب، والعطف بالواو يقتضي المغايرة. والحكمة لا يصح أن تكون شيئاً آخر غير السنة؛ لأن الله تعالى امتن علينا بتعليمها، والمن لا يكون إلا بما هو صواب، وحق مطابق لما عنده، فتكون الحكمة واجبة الاتباع كالكتاب، خصوصاً وأن الله قد قرنها به، وهو لم يوجب علينا كسائر كتبه إلا اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا المعنى أفاده الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة.

الآيات التي توجب طاعة الرسول مطلقا

الآيات التي توجب طاعة الرسول مطلقاً هناك جملة ثالثة من الآيات الكريمات تدل على وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة، وتبين أن طاعة رسول الله هي طاعة الله عز وجل. كما قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132]، وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20]، وقال عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]. قال ميمون بن مهران: الرد إلى الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم. من الآيات التي تدل بمجموعها على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92]، إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].

الآيات الدالة على وجوب اتباع النبي مطلقا والتأسي به

الآيات الدالة على وجوب اتباع النبي مطلقاً والتأسي به المجموعة الرابعة: آيات تدل على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، والتأسي به كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. وقد كلفه الله سبحانه وتعالى باتباع ما أوحي إليه، سواء كان وحياً متلواً وهو القرآن أو غيره مكتوباً، وهو السنة، وأمره بتبليغ جميع ما أنزل إليه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب:1 - 2]. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] إلى آخر الآية ثم مدح هديه فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73] وقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79] وقال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46].

الأحاديث الدالة على حجية السنة

الأحاديث الدالة على حجية السنة الدليل الرابع على حجية السنة: السنة الشريفة نفسها. فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن، ألا وإني والله قد أمرت، ووعظت، ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم) رواه أبو داود. وهذا رد على المكذبين بالسنة والطاعنين فيها، وقد وصفوا بالاتكاء الذي يدل على الاسترخاء والتواني، وعدم الكد والكدح والسهر في طلب العلم، فيكون أحدهم متكئاً على أريكته ويهاجم السنة وهو شبعان، بخلاف المجاهدين من المحدثين والعلماء الذين جابوا الأقطار، وسافروا إلى الأمصار، وضحوا بكل شيء في سبيل خدمة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله) متفق عليه. وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) رواه ابن حبان في صحيحه. والشرة الهمة والنشاط. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض) رواه الحاكم وصححه. ولما تردد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في كتابة الأحاديث ليحفظها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق، وأشار بيده إلى فمه)، فلا يخرج من فم النبي عليه السلام كلام إلا وهو حق. أيضاً حديث العرباض بن سارية: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) إلى آخر الحديث. من ذلك أيضاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر باتباع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه من الموجودين في عصرنا، بل وعد من يقوم على ذلك بالأجر العظيم، ولا شك أن هذا يستلزم حجية هذا الكلام، لأنه يدل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بما يقوله من السنن والأحكام، وحثه على حفظها وتبليغها، فما قيمة ذلك إذا لم تكن السنة حجة؟! وقال عليه الصلاة والسلام: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد؛ فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار). وقال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه). هذا الحديث واضح الدلالة على حجية السنة، فهو يدعو بنضارة الوجه لمن يحفظ الحديث، ويحافظ على لفظه، ثم ينقله إلى من بعده، فيبلغه وينشره للناس، ثم علل ذلك بقوله: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم لفظة: (فقه)؛ لأن الفقه هو الفهم الدقيق الذي يعين على استنباط الأحكام من اللفظ، فلولا أن السنة دليل شرعي، وحجة شرعية لما اشترط فيمن يحمله أن يكون فقيهاً؛ لأن بعض الناس يحمل الفقه وليس بفقيه، فإذا أدى اللفظ بدقة، وبلغه إلى من هو أفقه منه مكن هذا الأفقه من أن يستنبط منه الحكم الشرعي الذي ينسب إلى الله، وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)، وروى البخاري في حديث وفد عبد القيس لما نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن أربع، وأمرهم بأربع، ثم قال لهم: (احفظوه وأخبروا من وراءكم)، لأن هذه مسائل فرعية، كي يعلموها الناس. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه، وإلا فلا).

تعذر العمل بالقرآن وحده

تعذر العمل بالقرآن وحده أما الدليل الخامس فهو: تعذر العمل بالقرآن الكريم وحده، وتعذر إقامة الشريعة، وإقامة الفضائل، وسائر أمور الدين بدون الرجوع إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]. ونحن اليوم نتكلم في هذا الموضوع، وقد صدرت تصريحات ممن يتطاول وهو جاهل ولا يعرف قدر نفسه، حيث تكلم في عمر رضي الله تعالى عنه، وهو لا يعلم أن مما بايع عليه الصحابة: (وألا ننازع الأمر أهله)، وليس هذا خاصاً في الخروج على الخلفاء فقط، بل يدخل فيه احترام التخصصات؛ فهذا الجاهل يجلس أمام مجموعة من الشيوخ، ويطعن في السنة، ولا يقوى واحد منهم فقط على أن يعترض، بل أقروه ليتكلم كما يشاء فيما يتعلق بالدين وهو عدو نفسه وعدو الله؛ فالله المستعان على ما نرى من فتن آخر الزمان، ونطق الرويبضة! وقد كان له أن يتكلم في أي شيء من أمور الدنيا، لكن تكلم في أمر الدين، وأنكر سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يعتبر نفسه شيخاً من مشايخ الإسلام، وأنه يمثل الإسلام، فيظن أنه إذا كتب مقالاً ينكر فيه السنة فلن يكون هناك شيء اسمه السنة، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشره الله سبحانه وتعالى بقطع كل من يؤذيه كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]. والأبتر هو مقطوع الذكر، وهو الذي يقطع من الخير كله بسبب بغضه وشنآنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لسنته. كل رويبضة تافه، يوغل في الجهل وفي الصد عن سبيل الله، ومع ذلك يظن نفسه حجة، فيتجرأ ويأتي أمام المشايخ الأزهريين ويقول لهم: نحن ليس عندنا شيء اسمه سنة، فلا نعترف بسنة، نحن نعترف بالقرآن وحده! فنقول لمثل هذا: قال الله سبحانه وتعالى مثلاً: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]. وهذا نفهم منه وجوب الصلاة والزكاة، ولكن ما هي تلك الصلاة الواجبة؟ ما وقتها؟ ما عددها؟ وعلى من تجب؟ وكم مرة تجب في العمر؟ وما هي هذه الزكاة؟ وعلى من تجب؟ وفي أي مال تجب؟ وما مقدارها؟ وما شروط إخراجها؟ وقال الله تبارك وتعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]. والذي نأخذه من الآية وجوب قراءة ما تيسر من القرآن الكريم، لكن ما المراد من هذه القراءة؟ هل هي في الصلاة؟ أم هي قراءة القرآن عموماً؟ وإذا كانت في الصلاة ففي أي ركعة؟ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]. ففهمنا من الآية وجوب الركوع والسجود، لكن كم عدد الركعات في اليوم؟ وجاء في السنة أكثر من ركوع في صلاة الخسوف. وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]. ففهمنا من ذلك تحريم الكنز وعدم الإنفاق، لكن ما المراد بهذا الإنفاق المقابل للكنز؟ هل هو إنفاق جميع المال كما فهم الصحابة لما نزلت هذه الآية، أم إنه إنفاق بعض المال؟ وهذا البعض من الذي يحدده؟ وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. فما المراد بالظلم: هل هو جميع أنواع الظلم كما فهم الصحابة أم أنه نوع خاص منه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أنه خاص وهو الشرك قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. وقال تعالى أيضاً: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]. نفهم من الآية وجوب قطع يد كل منهما، لكن هل كل سرقة توجب القطع؟ وما هي شروط قطع اليد؟ وما هو نصاب المال الذي توجب سرقته قطع اليد؟ وكيف يتم القطع؟ وهل تقطع اليد من الكتف أم من العضد أم من الكوع؟ هذا كله محتمل من حيث اللغة. وإذا تكررت السرقة فهل يتكرر القطع؟ كل هذا لم يبينه إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لما أرسل علي بن أبي طالب ابن عباس إلى الخوارج قال له: اذهب إليهم فخاصمهم -يعني: ناظرهم- ولا تحاجهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة. قال الشاعر: ورب فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل بعض النصوص القرآنية الكريمة عامة، وهي مفتقرة إلى التبليغ الذي بينها به الرسول صلى الله عليه وسلم أو العلماء.

أقوال السلف في حجية السنة والإنكار على من يعارضها

أقوال السلف في حجية السنة والإنكار على من يعارضها

التحذير من وضع الأحاديث دليل على حجيتها

التحذير من وضع الأحاديث دليل على حجيتها كذلك غلظ الله سبحانه وتعالى عقوبة من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذاك إلا لأن الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يستلزم تبديل الأحكام الشرعية، واعتقاد الحرام حلالاً، والحلال حراماً. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من يقل علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار)، وهذا الحديث متواتر، وفي بعض الروايات: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وقال عليه الصلاة والسلام: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)، وهذا رواه مسلم، وروي أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم! لا يضلونكم ولا يفتنونكم). إن لم يكن الحديث والسنة حجة فلماذا هذا التحذير الأكيد من الأحاديث المكذوبة، ولم يحصل بها الضلال والفتنة؟ و A لأنها إضافة إلى الشرع؛ ولأن الأحاديث الصحيحة حجة، فهذه إذا اعتقد أنها صحيحة ففيها تعرض للشرع بالزيادة أو بالنقصان. وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه (أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا، وجيئونا بكتاب الله فقال له عمران: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟ أتجد في كتاب الله الصيام مفسراً؟ إن القرآن أحكم ذلك، والسنة تفسره).

علي بن أبي طالب يحض على المحاجة بالسنة

علي بن أبي طالب يحض على المحاجة بالسنة ولما أرسل علي بن أبي طالب ابن عباس ليناظر الخوارج وقال له: لا تخاصمهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة. فقال له: يا أمير المؤمنين! فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، قال له علي: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فخرج إليهم فحاجهم بالسنة، فلم يبق بأيديهم حجة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! عليكم بالعلم قبل أن يرفع، فإن من رفعه قبض أصحابه، وإياكم والبدع والتنطع! وعليكم بالعتيق، فإنه سيكون في آخر هذه الأمة أقوام، يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد تركوه وراء ظهورهم. وعن رجاء بن حيوة عن رجل قال: كنا جلوساً عند معاوية رضي الله عنه قال: إن أغرى الضلالة لرجل يقرأ القرآن فلا يفقه فيه، فيعلمه الصبي والعبد، والمرأة والأمة، فيجادلون به أهل العلم.

كلام ابن عمر في حجية السنة

كلام ابن عمر في حجية السنة وأخرج مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نجد صلاة الخوف، وصلاة الحضر في القرآن، ولا نجد صلاة السفر، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: يا ابن أخي! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأيناه يفعل.

كلام مطرف في حجية السنة

كلام مطرف في حجية السنة وعن أيوب السختياني أن رجلاً قال لـ مطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: إنا والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا، وهو النبي صلى الله عليه وسلم.

كلام أيوب في حجية السنة والإنكار على من يخالفها

كلام أيوب في حجية السنة والإنكار على من يخالفها وعن أيوب أيضاً قال: إذا حدثت الرجل بسنة، فقال: دعنا من هذا وأنبئنا عن القرآن، فاعلم أنه ضال. يعني: إذا حدثت رجلاً بالسنة فقال: لا تكلمني إلا بالقرآن دون السنة والشيطان يمنيه أنه على الصراط المستقيم، فتلك علامة على أنه ضال؛ لأن العصمة من الضلال لا تأتي إلا بالتمسك بالقرآن والسنة. يقول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، ولم يقل كتاب الله فقط، مع أن كتاب الله نفسه حجة.

كلام ابن مسعود في حجية السنة

كلام ابن مسعود في حجية السنة وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن امرأة جاءت إليه فقالت: أنت الذي تقول: لعن الله النامصات، والمتنمصات والواشمات إلخ؟ قال: نعم. قالت: وتنسب هذا إلى القرآن؟ قال: نعم، قالت: فإني قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجد ما تقول فقال لها: إن كنت قرأت لقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قالت: بلى، قال: فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله النامصات إلخ) متفق عليه. وعن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرماً عليه ثياب، فنهاه، فقال هذا الرجل: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].

كلام عمران بن حصين في حجية السنة

كلام عمران بن حصين في حجية السنة وجاء من طريق خليل بن أبي فضالة المكي أن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد! إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: لا، قال: فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه في كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا بعير كذا؟ وفي كل كذا درهماً كذا؟ قال: لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] أوجدتم فيه الطواف سبعاً؟ واركعوا ركعتين خلف المقام؟ أوجدتم في القرآن: (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام؟) أما سمعتم الله قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم.

كلام سعيد بن جبير في حجية السنة

كلام سعيد بن جبير في حجية السنة وعن سعيد بن جبير أنه حدث يوماً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، فقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك. يعني: أن القدر المشترك بين كل من يعترض على السنة أو يدعي اتباع القرآن فقط، هو الإغراق في الجهالة. فلو قام كل واحد منا وجرد نفسه وعقله، وحاول أن ينسى كل ما علمه من السنة، ونسي أي شيء متعلق بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً نسي ما علم من الدين بالضرورة عن طريق السنة، ونسي كل ما استنبطه الفقهاء باجتهاداتهم وبالأقيسة التي استعانوا عليها بالسنة، ثم نظر هل يستطيع أن يجيب عن شيء من هذه الأشياء التي ذكرنا كالصلاة، وشروطها، وأركانها، وكذلك الصيام والحج وغيرها؛ فإنه لن يجد جواباً. فإذا لم نستطع أن نقيم الصلاة، ولا الزكاة، ولا الصيام، ولا الحج، ولا أي شيء من أمور الدين إلا عن طريق السنة، فهل يمكن أن يكلفنا الله بتكاليف أخفاها عنا، وأعمانا عن مراده منها؟ وهل يمكن أن يكلفنا الله أن نصل إلى رضاه بعقولنا؟ العقول لا تستطيع أن تهتدي إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى في كل هذه الأشياء، بل لابد أن تأتي عن طريق الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

كلام ابن حزم في الرد على من ينكر السنة

كلام ابن حزم في الرد على من ينكر السنة هذا كله يدلنا على أن الله سبحانه وتعالى لم يكلفنا بهذه التكاليف التي أجملها في كتابه، وهو يعلم حق العلم سبحانه وتعالى أن عقولنا تقصر عن إدراك مراده، فما كلفنا لذلك إلا وقد نصب لها شارحاً مبيناً، ومفسراً موضحاً، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنزال وحيه وتأييده له. في هؤلاء يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يجتنب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذة منها في الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها، وفي مزدلفة، ورمي الجمار، وصفة الإحرام، وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق؟ وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفة الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا والأقضية والتداعي والأيمان، والأحباس، والعمرة، والصدقات، وسائر أنواع الفقه. وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل بها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإجماع، إنما هو على مسائل يسيرة، فلابد من الرجوع إلى الحديث ضرورة. وقال ابن حزم رحمه الله تعالى أيضاً: ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال. هذا كلام ابن حزم رحمه الله تعالى.

كلام عمر بن الخطاب في العمل بالسنة

كلام عمر بن الخطاب في العمل بالسنة وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي! فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، فاستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم! وقال أيضاً رضي الله عنه: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل.

من أدلة حجية السنة ما ثبت في القرآن من أن السنة وحي كالقرآن

من أدلة حجية السنة ما ثبت في القرآن من أن السنة وحي كالقرآن ومن أدلة حجية السنة ما ورد في آيات قرآنية تثبت أن السنة وحي كالقرآن الكريم. منها: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولم يقل وما ينطق بالهوى؛ لأن نطقه عن الهوى أبلغ. فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟ فتضمن نفي الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق، ونفيه عن نفسه، فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151]، وقال تعالى في دعاء إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]. وقال تعالى -وتأملوا كلمة: (وَأَنزَلَ) يعني: أنزل وحيه-: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هذا قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18]، يعني: أنت تقرأ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] وكلمة: (بَيَانَهُ) هذه تعم كل أنواع البيان، أن يظهره بلسانه عليه الصلاة والسلام فيقرؤه كما أقرأه جبريل، وكذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] ضمان وتأمين لتبيين الأحكام المجملة في القرآن الكريم، فما في القرآن من أحكام الله سبحانه وتعالى تكفل ببيانها، وما يتعلق بها من الحلال والحرام، والتفصيل والإجمال، والقييد والإطلاق وما إلى ذلك. فهذا بلا شك يدل على حجية السنة؛ لأن الذي بين هو الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] فالله سبحانه وتعالى أوحى المبَين والمبِين كلاهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]. وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى أيضاً في تفسير هذه الآية التي ذكرناها في سورة النجم قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] قال في موضع آخر قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل. أي: ما نطقه {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائداً إلى القرآن، فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يوحى، وقد احتج الشافعي لذلك بقوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، فالعطف يقتضي المغايرة، فالحكمة لما عطفت على الكتاب كان كلاهما منزل من عند الله. وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]، يعني: في كل تصرفاته هو اتباع للوحي، سواءً كان في ذلك لهذا الحكم الذي في القرآن أم في السنة. فهو في كل سلوكه متبع للوحي، يعني: إذا صلى سنة الظهر كذا وكذا وفعل كذا قال في ركوعه وسجوده ولبس كذا وأكل كذا وقال كذا فهذا كله داخل في الوحي؛ لأن الله أمره أن يعلم الناس قال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]، يعني: ما يصدر عني أي شيء إلا بوحي، فهذا بلا شك دليل على أن السنة بأنواعها وحي من الله تبارك وتعالى. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] لفظ (الذِّكْرَ) يشمل كل ما أنزله الله الذكر المتلو الذي هو القرآن، والذكر غير المتلو الذي هو السنة النبوية بأنواعها. السنة وحي، لكنه وحي في المعاني، والألفاظ من عند النبي عليه الصلاة والسلام، أما القرآن فلفظه ومعناه من عند الله تبارك وتعالى، ولذلك لما اشتكى رجل للإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فرد عليه الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى فقال: تعيش لها الجهابذة، قال الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فاستدل بالآية على أن الذكر يشمل سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وممكن بعض الناس القاصرين يقول: كيف أتبع السنة، والسنة فيها أشياء كثيرة غير ثابتة مما ينسب إليها كالأحاديث الضعيفة والموضوعة وغيرها، وتختلط على الناس؟ ف A أنها لا تختلط إلا على الجاهل الذي ليس هذا فهمه، وليس هذا تخصصه، لكن هل تختلط على العلماء الراسخين؟ لا تختلط عليهم، إنما تختلط على من هو قاصر في العلم. وقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فالذكر الذي هو يبين هو السنة، يقول ابن حزم: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة، في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكلما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه، وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه، انتهى كلام ابن حزم. وقال ابن القيم في تفسير الآيات التي قرن فيها الكتاب بالحكمة قال: والكتاب والقرآن والحكمة هي سنة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فهو في وجوب تطبيقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، ولا ينكره إلا من ليس منهم. وإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن، والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فنجد من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة؛ لأن هذه الأدلة تدل على أن السنة وحي منزل كالقرآن. يقول الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:142 - 143] إلى آخر الآيات الكريمة أين الشاهد في هذه الآيات على أن السنة وحي؟ قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] فإذا تأملنا الآية، يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] القبلة التي كان عليها هي: استقبال بيت المقدس، هل توجد آية في القرآن الكريم تجعل بيت المقدس قبلة للمسلمين كما كان الأمر في السابق؟ جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ الصلاة في استقبال بيت المقدس، فصلى مدة إلى بيت المقدس قبل نزول هذه الآيات، والله عز وجل هنا يقول في القرآن: {وَمَا جَعَلْنَا} [البقرة:143] يعني: ما كان تشريعنا القبلة إلى بيت المقدس من قبل إلا لحكمة وهي: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]. هل ورد أن بيت المقدس قبلة عن طريق القرآن أم أنه ورد عن طريق السنة؟ عن طريق السنة؛ لأننا لا نجد آية في القرآن تأمرنا باستقبال بيت المقدس، وفي لفظ هذه الآية يدل على أن هذا التشريع كان بفعل الله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} [البقرة:143] (مَا) هي الفاعل تعود إلى الله سبحانه وتعالى. فهذه الآيات نزلت عن

الأدلة من السنة على حجية السنة

الأدلة من السنة على حجية السنة

حديث: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)

حديث: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) من أدلة السنة الشريفة على أن السنة وحي حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من الحلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من الحرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه). فهذا واضح الدلالة على أن السنة وحي، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني قد أمرت ووعظت، ونهيت عن أشياء إنها مثل القرآن أو أكثر). وعن طلحة بن نضيلة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (سعر لنا يا رسول الله! قال: لا يسألني الله عن سنة أحدثها فيكم لم يأمرني بها، ولكن اسألوا الله تعالى من فضله). فهذا يدل على أن ما سنه لهم لم يكن من قبل نفسه، وإنما هو وحي من الله، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنناً، وبين أحكاماً ليست في القرآن، فدل هذا الحديث على أنها بوحي الله وأمره.

حديث: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله)

حديث: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله) من هذه الأحاديث أيضاً حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله). يعني: بحكم الله (وقال الرجل الآخر وهو أفقه منه: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: قال: إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا)، (عسيفاً)، يعني: أجيرا (فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة)، يعني: بذل له من المال فداء لولده. قال: (فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام)، هل في القرآن تغريب عام؟ ليس في القرآن تغريب عام، إذاً: هذا دليل على أن حكم رسول الله وحي، ومع ذلك أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بينهم بكتاب الله قال: (فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت)، متفق عليه. هذا واضح جداً في أن السنة وحي؛ لأنه حلف أن يحكم بينهما بكتاب الله، وقد حكم بأشياء ليست في القرآن الكريم.

حديث يعلى بن أمية في الرجل الذي تلطخ بالطيب وهو محرم

حديث يعلى بن أمية في الرجل الذي تلطخ بالطيب وهو محرم عن يعلى بن أمية قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل عليه جبة بها أثر من خلوق فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بعمرة فكيف أفعل؟ فسكت عنه فلم يرجع إليه، وكان عمر يستره إذا أنزل عليه الوحي يظله، فقلت لـ عمر رضي الله عنه: إني أحب إذا أنزل عليه الوحي أن أدخل رأسي معه في الثوب، فلما نزل عليه خمره عمر رضي الله عنه بالثوب، فجئته فأدخلت رأسي معه في الثوب فنظرت إليه فلما سري عنه قال: أين السائل آنفاً عن العمرة؟ فقام إليه الرجل فقال: انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك، وافعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حجك) رواه مسلم. فقوله: (أين السائل آنفاً عن العمرة؟) يدل على أنه وحي، حيث إنه أوحي إليه قبل ذلك.

حديث عائشة في موافقة الوحي لعمر في الحجاب

حديث عائشة في موافقة الوحي لعمر في الحجاب تذكر عائشة أن عمر رضي الله تعالى عنه ظل يحدث النبي عليه الصلاة والسلام في أمر الحجاب، وكان يتمنى أن يأمر نساءه أن يحتجبن احتجاباً كاملاً، يغطي جميع البدن، فوافقه الوحي، ونزلت آية الحجاب، فطمع عمر في أكثر من ذلك، طمع أن تستتر نساء رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى لو كن مغطيات، فظن أن الوحي سيوافقه هذه المرة. تقول عائشة رضي الله عنها: (خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة -يعني: عظيمة الجسم- تفرع النساء جسماً) يعني: أنها إذا وقفت مع النساء تكون أطول منهن، (فرآها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خارجة فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين)، هو لم ير وجهها، لكن من هيئتها يظهر أنها سودة، فربما كان يأمل أن الحجاب يوافقه في حجبها تماماً (قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا، قالت عائشة: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن)، قال هشام -يعني: البراز- متفق عليه. هذا دليل صريح جداً على حجية السنة.

حديث عبد الله بن مسعود: (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به)

حديث عبد الله بن مسعود: (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي: إن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه، فلا يطلبه بمعصية، فإن الله لا ينال فضله بمعصيته). فهذا الحديث رواه الحاكم وسكت عنه هو والذهبي، وأخرجه من حديث جابر، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي وقوله هنا: (إن جبريل ألقى في روعي). هذا نوع آخر من الوحي الذي هو الإلهام.

حديث أبي هريرة (غفار غفر الله لها)

حديث أبي هريرة (غفار غفر الله لها) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفار الله غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، أما إني لم أقله، ولكن الله قاله). أين قاله الله وليس في القرآن آية تدل على ذلك؟ وفي حديث آخر: (من الله تعالى لا من رسوله: لعن الله قاطع السدر)، يعني: قاطع شجرة السدر. وبين أنه ليس من عنده، وإنما هو من عند الله. وعن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما كان يعلمه القرآن.

حديث: (أمني جبريل عند البيت مرتين)

حديث: (أمني جبريل عند البيت مرتين) وفي حديث: (أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، والعصر حين كان ظله مثله، والمغرب حين أفطر الصائم، والعشاء حين غاب الشفق) إلى آخر الحديث، وفي النهاية قال: (الوقت ما بين هذين الوقتين). فهذا وحي بالفعل عن طريق جبريل.

حديث: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)

حديث: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: ما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت حتى ظننت أنه سينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه)، يعني: العرق الذي يتصبب إذا نزل عليه الوحي. وفي رواية لـ مسلم: (فأفاق يمسح عنه الرحض قال: أين السائل؟ قال: هأنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الخير لا يأتي إلا بالخير)، متفق عليه.

أقسام السنة بالنسبة للقرآن

أقسام السنة بالنسبة للقرآن

أن تكون السنة موافقة للقرآن

أن تكون السنة موافقة للقرآن السنة وعلاقتها بالقرآن تكون على ثلاثة أقسام: القسم الأول: سنة موافقة ومؤكدة لما في القرآن الكريم، كقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله). هذا يوافق قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]. كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً)، هذا يوافق قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. كذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت إلى الناس كافة)، يوافق قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]. وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة)، يوافق قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه)، يوافق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، إذاً: هذه الأحاديث لا شك أنها تتوارد مع القرآن على نفس الدلالات.

أن تكون السنة مفصلة لمجمل أو مخصصة لعام أو مقيدة لمطلق

أن تكون السنة مفصلة لمجمل أو مخصصة لعامٍ أو مقيدة لمطلق القسم الثاني: سنة تفصل مجمل القرآن، وسنة تخصص عموم القرآن، وسنة تقيد مطلق القرآن، وسنة توضح مشكل القرآن. السنة المفصلة لمجمل القرآن مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، بينه في قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] مجمل فصله قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم). السنة المخصصة لعموم القرآن، مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] إلى آخر الآية فظاهرها أنه كلما قمتم إلى الصلاة فلابد أن تفعلوا هذا، لكن جاء في السنة ما يخصص هذا العموم كالمسح للمريض، والتيمم، ومواقيت المسح للمسافر والمقيم، هذه كلها أتت بها السنة. كذلك قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] هذا النفي عام، فخصص عموم هذا النفي بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، والحديث معروف، فدل على أن الإنسان المؤمن لا ينقطع عمله. كذلك قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] هذا عام خصه قوله عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)، وخصه قوله: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)، وخصه قوله: (لا ميراث لقاتل). كذلك مطلق القرآن تقيده السنة كما في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فإنه مطلق، فقيده قوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة) فالطواف يشترط فيه الطهارة. وقوله تبارك وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]، هذا مطلق، قيده قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث). إجمال القرآن مثل الظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] بينت السنة أن الظلم يقصد به الشرك للآية: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. كذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] لما سألته عائشة: (أهم الذين يشربون الخمر ويزنون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يتقبل منهم).

أن تكون السنة مستقلة بحكم لم يأت به القرآن

أن تكون السنة مستقلة بحكم لم يأت به القرآن القسم الثالث: أن تكون السنة مستقلة بإثبات حكم لم يأت به القرآن. وهذا هو الغصة في حلوق أعداء السنة؛ لأنهم على درجات، منهم من ينكر السنة مطلقاً، ومنهم من ينكر السنة على استحياء، لكن حتى يسد عليك الباب يقول: نأخذ من السنة العملية المتواترة. وقد رأيت بنفسي من منكري السنة أنهم غارقون في الجهل بطريقة غير عادية! فمنهم شخص من الإسكندرية، وله كتب مؤلمة وموجعة، منها كتاب: الدين الصواب للمحاورة بين السؤال والجواب، وكتاب آخر أسماه: الأضواء القرآنية لاكتساح الأحاديث الإسرائيلية، وتطهير البخاري منها. إلى غير ذلك. وهذا موجود في كلام محمد عبده، فإنه يرى أن السنة العملية المتواترة يعمل بها. فبعضهم ينكر كل السنة كما ذكرنا، ومنهم من ينكر الأحاديث المتواترة العملية، فمن أين نعرف الصلاة؟ ومن أين نعرف الزكاة؟ ومن أين نعرف كذا؟ ومنهم من يقبل السنة التي تشرح القرآن، لكن لا يقبل السنة التي تستقل بإثبات حكم غير موجود في القرآن، ولذلك كان هذا القسم من أخطر أقسام السنة في علاقتها بالقرآن، وهو أن تأتي السنة بحكم غير موجود في القرآن على الإطلاق. فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألتها قالت: (أتقضي الحائض الصلاة؟ فقالت لها عائشة: أحرورية أنت؟ قد كنا نحيض عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم نطهر، ولم يأمرنا بقضاء الصلاة). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها)، فهذا النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها غير موجود في القرآن. وعن المغيرة: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة)، هذا غير موجود في القرآن. وحديث: (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام)، هذا في مسلم، وهو غير موجود في القرآن. كذلك جاء القرآن بجلد الزاني غير المحصن، وزاد في السنة تغريبه، وأوجبت السنة الكفارة على من جامع في نهار رمضان. كذلك جاء في السنة المسح على الخفين، وليس في القرآن. كذلك القرآن ينص على أن العين بالعين، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقئوا عينه). كذلك حديث ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر إلى قوله: وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) متفق عليه. يقول ابن القيم: بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها، فلو كان لنا رد كل سنة زائدة على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، إلا سنة دل عليها القرآن، وهذا الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع، ولابد من وقوع خبره. وكما قال الشافعي: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.

انحرافات في العمل بالسنة

انحرافات في العمل بالسنة وهناك بعض العوائق تعيق العمل بالسنة كعدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقيدة، أو تقديم القياس على أحاديث الآحاد الصحيحة، أو تقديم عمل أهل المدينة على حديث الآحاد الصحيح، أو التعبد بالتقييد واتخاذه ديناً، أو تحكيم العقل وتقديمه على النقل، أو الاقتصار على الصحيحين، وهناك أيضاً مظهر من مظاهر الانحراف في هذه القضية، وهو ما حصل من بعض الشيوخ الأفاضل، وهو الشيخ عبد العزيز بن راتب النجدي رحمه الله تعالى، وله فضل كبير جداً على علماء أنصار السنة، فهو أستاذهم وشيخهم، وهو من الذين رحلوا إلى مصر خصيصاً من أجل نشر دعوة التوحيد والاتباع، لكن كان في هذه الجزئية بالذات له كتاب: تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين، وانتصر لهذه المسألة، والكلام فيه نظر شديد، لأن فيه قصر العمل على ما في الصحيحين من السنة، وهذا الكلام غير صحيح. كذلك من هذه البدع والضلالات: بدعة التصحيح على الصحيحين، يأتي شخص فقير في طلب العلم فيقول في آخر هذا الزمان العجيب: رواه البخاري وهو صحيح، وكأن هذه الأجيال من الأمة تنتظره حتى يأتي ليصحح على البخاري، ونحن لا نقول: البخاري معصوم، ولكن نقول: الأمة معصومة من أن تجتمع على ضلالة، فالأمة أجمعت على تلقي أحاديث الصحيحين بالقبول، فهذه هي الحجة في هذه المسألة، وتوجد بعض أحاديث انتقدت، والعلماء الذين انتقدوها كـ الدارقطني وغيره ما أرادوا للبخاري ولـ مسلم إلا الكمال، لكن الآن فتح باب النقد في البخاري وفي مسلم لأجل الطعن في السنة كلها، فشتان بين النيات والمقاصد، فيمكن أن يقبل قول بعض المحققين مثلاً، لكن شرطه أن يتقن علم الحديث ثم يحقق، لكن أن يأتي شخص ويقول: رواه البخاري وهو صحيح، فهذا من التطاول الذي لا ينبغي أن يفتح بابه. فنحن نثق ثقة مطلقة فيما اتفقت عليه كلمة علماء الأمة، وأن ما رواه الشيخان أو رواه أحدهما قد تجاوز القنطرة، فلا يسأل عنه ولا يبحث عن سنده ولا عن رجاله، فإما أن يقول: صحيح متفق عليه أو يقول: رواه الشيخان فحسب. أما أن يقول: رواه الشيخان وهو صحيح، فهذا من العدوان، فالعدوان ناشئ عن سدور صاحبه وغفلته عن أهل العلم، وإعراضه عن إجماع الأمة، وكأن نفسه تتوق إلى أن تكون فوق البخاري ومسلم وأن يحكم على البخاري ومسلم وأمثالهما.

موقف الخوارج من السنة

موقف الخوارج من السنة كذلك ممن يهملون العمل ببعض السنن: الخوارج، فإنهم يكفرون بعض الصحابة، وبالتالي يردون أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة؛ لرضاهم بالتحكيم، واتباعهم أئمة الجور بزعمهم. لكن الخوارج لهم خصيصة، وهي أنهم لم ينغمسوا في رذيلة الكذب كما انغمس الشيعة، فإن أكذب خلق الله، وأكذب الفرق الإسلامية الشيعة، بل الكذب عندهم عبادة، لأنهم يتعبدون بالكذب الذي يسمونه التقية، فالشيعة من أخبث الفرق الضالة وأشدهم كذباً.

موقف الشيعة من السنة

موقف الشيعة من السنة والشيعة أيضاً يجمعون على عدم الاحتجاج بالسنة إلا إذا صحت لهم عن طريق أهل البيت في أسانيدهم المزعومة. فيقول أحد أئمتهم بعد ذكر مرويات بعض الصحابة وخاصة روايات أبي هريرة: ما يرويه الصحابة ليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة. وحدثني أحد المشايخ عن والده رحمه الله تعالى أنه ناظر بعض الشيعة، فوصل في المناقشة معه إلى أن أخرج له كتب تراجم معتمدة عند الشيعة، فترجم لبعض الصحابة وقال مثلاً: سعد بن أبي وقاص مجهول، أبو هريرة كذاب. والعياذ بالله! فنحن نختلف مع الشيعة في الأصول لا في الفروع كما يتوهم بعض الناس، ولهم شيخ يدعى حسين بن عبد الصمد العاملي يقول: فصحاح العامة كلها وجميع ما يروونه غير صحيح. ويقصد بالعامة أهل السنة. أما تطاول زعيمهم وإمامهم الهالك الخميني عليه من الله ما يستحقه فقد أوصله إلى تكفير أبي بكر وعمر ورميهما بالزندقة، وهو يكفر عامة الصحابة ويتطاول على مقاماتهم الشريفة، فهذا شيء مشهور ومعروف، ولم يكن يحتج أيضاً في كتبه إلا بمرويات الشيعة. فالشيعة مع هدمهم للأصل الثاني من الإسلام وهو السنة إلا أنهم أيضاً غرقوا في الرواية عن أئمة الكذب والوضع كما فعل الكليني. أما موقفنا نحن فلا نقبل على الإطلاق مرويات الشيعة؛ لأنهم أكذب الفرق على الإطلاق. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضائل يوم عرفة

فضائل يوم عرفة خص الله عز وجل يوم عرفة بفضائل عديدة، ومزايا حميدة، منها أنه يوم الحج الأكبر الذي يباهي الله فيه ملائكته بعباده، ويعتق الله عز وجل فيه جماً غفيراً من النيران، وقد بين الشيخ فضائل هذا اليوم وما يكون فيه، وتجد في هذه المادة قصيدة العلامة الصنعاني في الحج.

قصيدة ابن الأمير في وصف رحلته إلى الحج

قصيدة ابن الأمير في وصف رحلته إلى الحج الحمد لله الذي أمر خليله أن {أذن في الناس بالحج إلى البيت العتيق يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج:27]، والصلاة والسلام على من أنزل عليه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وعلى آله وصحبه وذرية خليله الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع فطابوا مقيلاً، ولم تزل أفئدة الناس تهوي إليهم وتطير بأجنحة الشوق بكرة وأصيلاً. أما بعد: فإن ذكريات رحلة الحج وزيارة المدينة النبوية المباركة من أشرف معالم العمر، وأعز وقائع الدهر؛ لأنها تنذر ذا القلب الساكن، فترحل به إلى أشرف البقاع وأطهر الأماكن، وتحلق به في آفاق السمو الروحي الذي يضع عن نفس المسلم آصار التراب وأثقال الرغام، وأغلال الحطام، فتسمو به بعيداً وراء حدود الزمان، لتسترجع ذكريات شروق شمس الإسلام في تلك الأرض المباركة، وتستعيد فصول جهاد الرعيل الأول وصبرهم الشديد الذي قهر اليأس، وإيمانهم العميق الذي أذل الكفر، وهجرتهم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالقلوب والأبدان، حين أخرجوا من البلد الحرام إلى حرم المصطفى عليه الصلاة والسلام، حيث أسست الدولة الإسلامية الأولى على تقوى من الله ورضوان. ومن قلب هذا الحرم الأطهر بدأت كتائب الإسلام زحفها لاستئصال الجاهلية، ومن قلب طيبة الطيبة بدأت الانطلاقة الأولى لمشعل الإسلام إلى خارج حدود الجزيرة تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ما أعظم الدروس التي يتلقاها المؤمنون في رحلتهم إلى مهبط الوحي! فيتعلمون منها كيف يربطون وجودهم بأهداب الرسالة التي ألفت في ربع قرن من الأميين الضائعين في صحراء المجهول خير أمة أخرجت للناس، ثم قذفت بهم إلى الدنيا كما تقذف الشمس بأشعتها حياة للأرض الميتة، وضياء للأعين الزائغة، ودفئاً للأكباد المقروحة، لتعود بجهادهم إلى الحياة بهجتها، وتشرق الأرض بعد ظلمة بنور ربها، وتحلق الذكريات بنفس المؤمن بعيداً وراء حدود المكان، تطوف بها في أرجاء تلك المشاعر المقدسة، والربوع الطاهرة، وكيف لا تنجذب الأفئدة إليها بخطاطيف الأشواق، وترحل نحوها قلوب أهل النواحي والآفاق، وفيها بيت الله الحرام الذي جعله مثابة يثوب إليه أهل الإسلام من أقطار الأرض على تعاقب الأعوام، فلا تشبع من زيارته القلوب، ولا ترتحل الأنفس إلا وهي بذكره طروب: لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا ومن الناس من بلغهم الله بيته الحرام فذاقوا وارتزقوا، وعرفوا واغترفوا، فمهما يترددون إليه لا يبغون عنه حولا، ولا يرون أنهم قضوا منه وطراً، إذا ذكروا بيت الله حنوا، وإذا تذكروا بعدهم عنه أنوا، ثم لا يزالون يجأرون إلى مولاهم بقلوب محترقة، ودموع مستبقة، أن يعيدهم إليه مرة، بعد مرة وكرة بعد كرة، ومنهم من فاته منه الدنو فهو يضمه بقلبه في كل حين وآن، ويولي إليه وجهه حيثما كان، قد حرم الوصول إلى البيت، وقلبه موصول برب البيت، عاقته المعاذير، ولم تساعده المقادير، فإذا أذن مؤذن الحج حي على الرحيل تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، فأقاموا مأتماً لها، وأراقوا دموع الأسف، ما أصنع هكذا جرى المقدور الجبر لغيري وأنا المكسور أسير ذنبٍ مقيد مأسور، هل يمكن أن يبدل المذكور؟! ثم أما بعد: فهذه الليلة المباركة هي ليلة عرفات التي يجتمع فيها عيد الجمعة وعيد الحج وموقف الحج الأعظم، نستثمر هذه الفرصة بتلاوة قصيدة عصماء رائعة البيان، خطها بقلمه السيال، وسحره الحلال، الإمام العلامة أبو إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني رحمه الله تعالى، حيث سطر فيها ذكريات رحلته إلى حج البيت الحرام، وزيارة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبر تجربته الشعورية الصادقة أنشأ هذه الأبيات التي تبوح بالشجون، وتكشف الوجد المكنون، وتستنفر الدمع الهتون، وتستمد مدادها من شعلة الأشواق التي اتقدت في أحشائه، واضطرمت في ضلوعه وبين جوانحه، ثم فاضت منها المآقي كالسواقي: عجباً لنار ضرمت في أحشائه فتفيض من أجفانه ينبوعا لهب يكون إذا تلبس بالحشى قيظاً ويظهر في الجفون ربيعا فنشرع بإذن الله تعالى في قراءة هذه القصيدة، والمفترض أن نشرح غريب القصيدة، ولكن في الحقيقة لو توقفنا عند كل كلمة لنشرحها فستذهب حلاوة القصيدة، ومتابعة ما عليها، فنعتذر عن ذكر ألفاظ الغريب، وإن كان المعنى في الجملة واضح تستطيعون إن شاء الله تعالى متابعته، وليتسنى ذكر الحج وبركاته. يقول رحمه الله تعالى بادئاً بما كان اعتاد عليه أهل الجاهلية من الوقوف على الأطلال في أول الكلام ثم يدخل في الموضوع: أيا عذبات البان من أيمن الحمى رعى الله عيشا في رباك قطعناه سرقناه من شرخ الشباب وروْقه فلما سرقنا الصفو منه سُرقناه وجاءت جيوش البين يقدمها القضا فبدد شملاً بالحجاز نظمناه حرام بذي الدنيا زوال اجتماعنا فكم صرمت للشمل حبلاً وصلناه فيا أين أيام تولت على الحمى وليل مع العشاق فيه سمرناه ونحن لجيران المحصب جيرة نوفي لهم حسن الوداد ونرعاه ونخلو بمن نهوى إذا رقد الورى ويبدوعلينا من نحب محياه أقرب ولا بعد وشمل مجمع وكأس وصال بيننا قد أدرناه فهاتيك أيام الحياة وغيرها ممات فياليت النوى ما شهدناه فيا ما أمر البين ما أقتل الهوى أما يا الهوى إن الهنا قد سلبناه فو الله لم يبق الفراق لذاذة فلو من سبيل للفراق فرقناه فكم من قتيل بيننا بسهامه فلو أننا نعطى الخطاق قتلناه فأحبابنا بالشوق بالحب بالجوى لحرمة عقد عندنا ما حللناه لحق هوانا فيكم وودادنا لميثاق عهد صادق ما نقضناه أعيدوا لنا أعيادنا بربوعكم ووقت سرور في حماكم قضيناه فما العيش إلا ما قضينا على الحمى فذاك الذي من عمرنا قد عددناه فياليت عنا أغمض البين طرفه ويا ليت وقتاً للفراق فقدناه وترجع أيام المحصب للمنى ويبدو ثراه للعيون وحصباه وتسرح فيه العيس بين ثمامة وتستنشق الأرواح نشر خزاماه ونشكو إلى أحبابنا طول شوقنا إليهم وماذا بالفراق لقيناه فلا كانت الدنيا إذا لم يعاينوا هم القصد في أولى المشوق وأخراه عليكم سلام الله يا ساكني الحمى بكم طاب رياه بكم طاب سكناه وربكم لولاكم ما نوده ولا القلب من شوق إليه أذبناه أسكان وادي المنحنى زاد وجدنا بمغنى حماكم ذاك مغنى شغفناه نحنّ إلى تلك الربوع تشوقاً ففيها لنا عهد وعقد عقدناه ورب برانا ما سلونا ربوعكم وما كان من ربع سواه سلوناه فيا هل إلى ربع الأعاريب عودة فذاك وحق الله ربع حببناه قضينا مع الأحباب فيه مآربا إلى الحشر لا تنسى سقى الله مرعاه فشدّوا مطايانا إلى الربع ثانياً فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه

ذكر البيت والطواف

ذكر البيت والطواف ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه فكم لذة كم فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه نطوف كأنا في الجنان نطوفها ولا هم لا غم فذاك نفيناه فياشوقنا نحو الطواف وطيبه فذلك شوق لا يحاط بمعناه فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا هناك تركناها فيا كيف ننساه ترى رجعة هل عودة لطوافنا وذاك الحمى قبل المنية نغشاه ووالله ما ننسى زمان مسيرنا إليه وكل الركب قد لذ مسراه وقد نسيت أولادنا ونساؤنا وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه تراءت لنا أعلام وصل على اللوى فمن أجلها فالقلب عنهم لويناه جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومَنْ دونه خلف الظهور نبذناه وسرنا نشق البيد للبلد الذي بجهد وشق للنفوس بلغناه رجالاً وركبانا على كل ضامر ومن كل ذي فج عميق أتيناه نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلا وعنه قطعناه ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا فتمسي الفلا تحكي سجلاً قطعناه ولا صدنا عن قصدنا بعد أهلنا ولا هجر جار أو حبيب ألفناه وأموالنا مبذولة ونفوسنا ولم نبق شيئاً منهما ما بذلناه عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كل شيء بذلناه فمن عرف المطلوب هانت شدائد عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة حيارى سكارى نحو مكة وُلاه فلله كم ليل قطعناه بالسرى وبر بسير اليعملات بريناه وكم من طريق مفزع في مسيرنا سلكنا وواد بالمخوفات جزناه ولو قيل إن النار دون مزاركم دفعنا إليها والعذول دفعناه فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله ترادفت الأشواق واضطرم الحشا فمن ذا له صبر وفي النار أحشاه وأسرى بنا الحادي فأمعن في السرى وولى الكرى نوم الجفون نفينا

الإحرام من الميقات

الإحرام من الميقات ولما بدا ميقات إحرام حجنا نزلنا به والعيس فيه أنخناه ليغتسل الحجاج فيه ويحرموا فمنه نلبي ربنا لا حرمناه ونادى مناد للحجيج ليحرموا فلم يبق إلا من أجاب ولباه وجردت القمصان والكل أحرموا ولا لبس لا طيب جميعاً هجرناه ولا لهو لا صيد ولا نقرب النسا ولا رفث لا فسق كُلاً رفضناه وصرنا كأموات لففنا جسومنا بأكفاننا كل ذليل لمولاه لعل يرى ذل العباد وكسرهم فيرحمهم رب يرجّون رحماه ينادونه: لبيك لبيك ذا العلا وسعديك كل الشرك عنك نفيناه فلو كنت يا هذا تشاهد حالهم لأبكاك ذاك الحال في حال مرآه وجوههم غبر وشعث رءوسهم فلا رأس إلا للإله كشفناه لبسنا دروعاً من خضوع لربنا وما كان من درع المعاصي خلعناه وذاك قليل في كثير ذنوبنا فيا طالما رب العباد عصيناه إلى زمزم زُمَّت ركاب مطينا ونحو الصفا عيس الوفود صففناه نؤم مقاماً للخليل معظماً إليه استبقنا والركاب حثثناه ونحن نلبي في صعود ومهبط كذا حالنا في كل مرقى رقيناه وكم نشزٍ عالٍ علته وفودنا وتعلو به الأصوات حين علوناه نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وعدناه دعانا إليه الله قبل بنائه فقلنا له لبيك داع أجبناه أتيناك لبيناك جئناك ربنا إليك هربنا والأنام تركناه ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة إذا ما حججنا أنت للحج رمناه فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا وما زمزم أنت الذي قد قصدناه وأنت منانا أنت غاية سؤلنا وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه إليك شددنا الرحل نخترق الفلا فكم سدَّ سَدٌّ في سواد خرقناه كذلك ما زلنا نحاول سيرنا نهارا وليلاً عيسنا ما أرحناه إلى أن بدت إحدى المعالم من منى وهبّ نسيم بالوصول نشقناه ونادى بنا حادي البشارة والهنا فهذا الحمى هذا ثراه غشيناه

رؤية البيت

رؤية البيت وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن بدا البيت العتيق وركناه فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا وكبرت الحجاج حين رأيناه وقد كادت الأرواح تزهق فرحة لما نحن من عظم السرور وجدناه تصافحنا الأملاك من كان راكبا وتعتنق الماشي إذا ثم تلقاه

طواف القدوم

طواف القدوم فطفنا به سبعاً رملنا ثلاثة وأربعة مشينا كما قد أمرناه كذلك طاف الهاشمي محمد طواف قدوم مثلما طاف طفناه وسالت دموع من غمام جفوننا على ما مضى من إثم ذنب كسبناه ونحن ضيوف الله جئنا لبيته نريد القرى نبغي من الله حسناه فنادى بنا أهلاً ضيوفي تباشروا وقروا عيونا فالحجيج قبلناه غداً تنظروني في جنان خلودكم وذاك قراكم معْ نعيم ذخرناه فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا وأي ثواب مثل ما قد أثبناه وكل مسيء قد أقلنا عثاره ولا وزر إلا عنكم قد وضعناه ولا نصب إلا وعندي جزاؤه وكل الذي أنفقتموه حسبناه سأعطيكم أضعاف أضعاف مثله فطيبوا نفوساً فضلنا قد منحناه فيا مرحباً بالقادمين لبيتنا إليّ حججتم لا لبيت بنيناه علي الجزا مني المثوبة والرضا ثوابكم يوم الجزاء ضمناه فطيبوا سروراً وافرحوا وتباشروا وتيهوا وهيموا بابنا قد فتحناه ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم وما كان من عيب عليكم سترناه فهذا الذي نلنا بيوم قدومنا وأول ضيق للصدور شرحناه

المبيت بمنى والسير إلى عرفات

المبيت بمنى والسير إلى عرفات وبتنا بأقطار المحصب من منى فيا طيب ليل بالمحصب بتناه وفي يومنا سرنا إلى الجبل الذي من البعد جئناه لما قد وجدناه فلا حج إلا أن نكون بأرضه وقوفاً وهذا في الصحيح رويناه إليه ابتدرنا قاصدين إلهنا فلولاه ما كنا لحج سلكناه وسرنا إليه قاصدين وقوفنا عليه ومن كل الجهات أتيناه على علميه للوقوف جلالة فلا زالتا تحمى وتحرس أرجاه وبينهما جزنا إليه بزحمة فيا طيبها ليت الزحام رجعناه ولما رأيناه تعالى عجيجنا نلبي وبالتهليل منا ملأناه وفيه نزلنا بكرة بذنوبنا وما كان من ثقل المعاصي حملناه

الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة وبعد زوال الشمس كان وقوفنا إلى الليل نبكي والدعاء أطلناه فكم حامد كم ذاكر ومسبح وكم مذنب يشكو لمولاه بلواه فكم خاضع كم خاشع متذلل وكم سائل مدت إلى الله كفاه وساوى عزيز في الوقوف ذليلنا وكم ثوب عز في الوقوف لبسناه ورب دعانا ناظر لخضوعنا خبير عليم بالذي قد أردناه ولما رأى تلك الدموع التي جرت وطول خشوع معْ خضوع خضعناه تجلى علينا بالمتاب وبالرضا وباهى بنا الأملاك حين وقفناه وقال انظروا شعثاً وغبراً جسومهم أجرنا أغثنا يا إلهاً دعوناه وقد هجروا أموالهم وديارهم وأولادهم والكل يرفع شكواه إلي فإني ربهم ومليكهم لمن يشتكي المملوك إلا لمولاه ألا فاشهدوا أني غفرت ذنوبهم ألا فانسخوا ما كان عنهم نسخناه فقد بدلت تلك المساوي محاسنا وذلك وعد من لدنا وعدناه فيا صاحبي من مثلنا في مقامنا ومن ذا الذي قد نال ما نحن نلناه على عرفات قد وقفنا بموقف به الذنب مغفور وفيه محوناه وقد أقبل الباري علينا بفضله وقال ابشروا فالعفو فيكم نشرناه وعنكم ضمنا كل تابعة جرت عليكم وأما حقنا فوهبناه أقلناكم من كل ما قد جنيتم وما كان من عذر لدينا عذرناه فيا من أسا يا من عصى لو رأيتنا وأوزارنا ترمى ويرحمنا الله وددت بأن لو كنت بين رحالنا وترجو رحيماً كلنا يترجاه وقفنا لديه سائلين من الخطا وغفراننا من ربنا قد طلبناه أمرنا بحسن الظن والله حثنا عليه وهذا في الحديث رويناه عليه اتكلنا واطمأنت قلوبنا لما عنده من وسع عفوعرفناه فطوبى لمن ذاك المقام مقامه وبشراه في يوم التغابن بشراه ترى موقفاً فيه الخزائن فتحت ووالى علينا الله منها عطاياه فصالح مهجوراً وقرب مبعداً وذاك مقام الصلح للصلح قمناه ودار علينا الكأس بالفضل والرضا سقينا شراباً مثله ما سقيناه فإن شئت تسقى ما سقينا على الحمى فقلل وما واقصد مقاماً قصدناه وفيه نصبنا للرحيل صفوفنا فقال كفيتم عفونا قد بسطناه وأعتقنا كلاً وأهدر ما مضى وقال لنا كل العتاب طويناه

ذكر خزي إبليس اللعين

ذكر خزي إبليس اللعين فإبليس مغموم لكثرة ما يرى من العتق محقوراً ذليلاً دحرناه على رأسه يحثو التراب مناديا بأعوانه: ويلاه ذا اليوم ويلاه وأظهر منا حسرة وندامة وكل بناء قد بناه هدمناه تركناه يبكي بعدما كان ضاحكاً فكم مذنب من كفه قد سللناه وكم أمل نلناه يوم وقوفنا وكم من أسير للمعاصي فككناه وكم قد رفعنا للإله مطالبا ولا أحداً ممن نحب نسيناه وخصّصت الآباء والأهل بالدعا وكم صاحب دانٍ وناء ذكرناه كذا فعل الحجاج هاتيك عادة وما فعل الحجاج فيه فعلناه وظل إلى وقت الغروب وقوفنا وقيل ادفعوا فالكل منكم قبلناه

الإفاضة والمبيت بمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام

الإفاضة والمبيت بمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه وسيروا إليه واذكروا الله عنده فسرنا وفي وقت العشاء نزلناه وفيه جمعنا مغرباً وعشاءها ترى عائداً جمعاً لجمع جمعناه وبتنا به حتى لقطنا جمارنا ورباً شكرناه على ما هداناه ومنه أفضنا حيثما الناس قبلنا أفاضوا وغفران الإله طلبناه ونحو منى ملنا بها كان عيدنا ونلنا بها ما القلب كان تمناه فمن منكم بالله عيّد عيدنا فعيد منى رب البرية أعلاه وفيه رمينا للعقاب جمارنا ولا جرم إلا مع جمار رميناه وبالجمرة القصوى بدأنا وعندها حلقنا وقصرنا لشعر حضرناه ولما حلقنا حل لبس مخيطنا فيا خلقة منها المخيط لبسناه وفيها نحرنا الهدي طوعاً لربنا وإبليس لما أن نحرنا نحرناه ومن بعدها يومان للرمي عاجلاً ففيها رمينا والإله دعوناه وإياه أرضينا برمي جمارنا وشيطاننا المرجوم ثَم رجمناه وبالخيف أعطانا الإله أماننا وأذهب عنا كل ما نحن نخشاه

النفر من منى وطواف الإفاضة

النفر من منى وطواف الإفاضة وردت إلى البيت الحرام وفودنا نحنُّ له كالطير حنّ لمأواه وطفنا طوافا للإفاضة حوله وفزنا به بعد الجمار وزرناه ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه ونلنا أمان الله عند دخوله كذا أخبر القرآن فيما قرأناه فيا منزلاً قد كان أبرك منزل نزلناه في الدنيا وبيتاً حججناه ترى حجةً أخرى إليه ودخلةً وهذا على رب الورى نتمناه فإخواننا ما كان أحلى دخولنا إليه ولبثا في ذراه لبثناه نطوف به والله يحصي طوافنا ليسقط عنا ما نسينا وأخطاه

ذكر استلام الحجر الأسود والركن اليماني

ذكر استلام الحجر الأسود والركن اليماني وبالحجر الميمون عدنا فإنه برب السما والأرض للخلق يمناه نقبله من حبنا لإلهنا وكم لثمه طي الطواف لثمناه وذاك لنا يوم القيامة شاهد وفيه لنا لله عهد عهدناه ونستلم الركن اليماني طاعة ونستغفر المولى إذا ما لمسناه وملتزم فيه التزمنا لربنا عهوداً وعهد الله فيه لزمناه وكم موقف فيه يجاب لنا الدعا دعونا به والقصد فيه نويناه وصلى بأركان المقام حجيجنا وفي زمزم ماءً طهوراً وردناه وفيه الشفا فيه بلوغ مرادنا لما نحن ننويه إذا ما شربناه

ذكر السعي بين الصفا والمروة والتحلل من الإحرام

ذكر السعي بين الصفا والمروة والتحلل من الإحرام وبين الصفا والمروة الوفد قد سعى فإن تمام الحج تكميل مسعاه فسبعاً سعاها سيد الرسل قبلنا ونحن تبعناه فسبعاً سعيناه نهرول في أثنائها كل مرة فهذاك من فعل الرسول فعلناه وبعد تمام الحج والنسك كلها حللنا وباقي عيسنا قد أنخناه فمن شاء وافى الصيد والطيب والنسا فقد تم حج للإله حججناه ولما اعتمرنا كان أبركَ عمرنا زمان نراه باعتمار عمرناه ولما قضينا للإله مناسكاً ذكرناه والمطلوب منه سألناه فمن طالب حظاً بدنيا فما له خلاق بأخراه إذا الله لاقاه ومن طالب حسنا بدنيا لدينه وحسنا بأخراه وذاك يوفاه وآخر لا يبغي من الله حاجة سوى نظرة في وجهه يوم عقباه

طواف الوداع

طواف الوداع وبات حجيج الله بالبيت محدقاً ورحمة رب العرش إذ ذاك تغشاه تداعى رفاق للرحيل فما ترى سوى دمع عين بالدعاء مددناه لفرقة بيت الله والحجر الذي لأجلهما صعب الأمور سلكناه وودعت الحجاج بيت إلهها وكلهم تجري من الحزن عيناه فللَّه كم باك وصاحب حسرة يود بأن الله كان توفاه فلو تشهد التوديع يوماً لبيته فإن فراق البيت مراً وجدناه فما فرقة الأولاد والله إنه أمرّ وأدهى ذاك شيء خبرناه فمن لم يجرب ليس يعرف قدره فجرب تجد تصديق ما قد ذكرناه لقد صدعت أكبادنا وقلوبنا لما نحن من مُرّ الفراق شربناه ووالله لولا أن نؤمل عودة إليه لذقنا الموت حين فجعناه

ذكر الرحيل إلى طيبة وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر الرحيل إلى طيبة وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا رحلنا لمغنى المصطفى ومصلاه ووالله لو أن الأسنة أشرعت وقامت حروب دونه ما تركناه ولو أننا نسعى على الروس دونه ومن دونه جفن العيون فرشناه وتملك منا بالوصول رقبانا ويسلب منا كل شيء ملكناه لكان يسيراً في محبة أحمد وبالروح لو يشرى الوصال شريناه ورب الورى لولا محمد لم نكن لطيبة نسعى والركاب شددناه ولولاه ما اشتقنا العقيق ولا قبا ولولاه لم نهوى المدينة لولاه هو القصد إن غنت بنجد حداتنا وإلا فما نجد وسلع أردناه وما مكة والخيف قل لي ولا منى وما عرفات قبل شرع أراناه به شرفت تلك الأماكن كلها وربك قد خص الحبيب وأعطاه لمسجده سرنا وشدت رحالنا وبين يديه شوقنا قد كتبناه قطعنا إليه كل بر ومهمه ولا شاغل إلا وعنا قطعناه كذا عزمات السائرين لطيبة رعى الله عزماً للحبيب عزمناه وكم جبل جزنا ورمل وحاجز ولله كم واد وشعب عبرناه تروحنا الأشواق نحو محمد فنسري ولا ندري بما قد سريناه ولما بدا جذع العقيق رأيتنا نشاوى سكارى فارحين برؤياه شممنا نسيماً جاء من نحو طيبة فأهلاً وسهلاً يا نسيما شممناه فقد ملئت منّا القلوب مسرة وأي سرور مثل ما قد سررناه فوا عجباه كيف قرّت عيوننا وقد أيقنت أن الحبيب أتيناه ولقياه منا بَعدَ بُعدٍ تقاربت فو الله لا لقيا تعادل لقياه وصلنا إليه واتصلنا بقربه فلله ما أحلى وصولاً وصلناه وقفنا وسلمنا عليه وإنه ليسمعنا من غير شك فديناه ورد علينا بالسلام سلامنا وقد زادنا فوق الذي قد بدأناه كذا كان خلق المصطفى وصفاته بذلك في الكتب الصحاح عرفناه وثَم دعونا للأحبة كلهم فكم من حبيب بالدعا قد خصصناه وملنا لتسليم الإمامين عنده فإنهما حقاً هناك ضجيعاه وكم قد مشينا في مكان به مشى وكم مدخل للهاشمي دخلناه وآثاره فيها العيون تمتعت وقمنا وصلينا بحيث مصلاه وكم قد نشرنا شوقتنا لحبيبنا وكم من غليل في القلوب شفيناه ومسجده فيه سجدنا لربنا فلله ما أعلى سجوداً سجدناه بروضة قمنا فهاتيك جنة فيا فوز من فيها يصلي وبشراه ومنبره الميمون منه بقية وقفنا عليها والفؤاد كررناه كذلك مثل الجذع حنت قلوبنا إليه كما ود الحبيب وددناه وزرنا قبا حبا لأحمد إذ مشى عسى قدماً يخطو مقاما تخطاه ليبعث يوم البعث تحت لوائه إذا الله من تلك الأماكن ناداه وزرنا مزارات البقيع فليتنا هناك دفنا والممات رزقناه وحمزة زرناه ومن كان حوله شهيداً وأحداً بالعيون شهدناه ولما بلغنا من زيارة أحمد منانا حمدنا ربنا وشكرناه ومن بعد هذا صاح بالبين صائح وقال ارحلوا يا ليتنا ما أطعناه سمعنا له صوتاً بتشتيت شملنا فيا ما أمر الصوت حين سمعناه وقمنا نؤم المصطفى لوداعه ولا دمع إلا للوداع صببناه ولا صبر كيف الصبر عند فراقه؟ وهيهات إن الصبر عنه صرفناه أيصبر ذو عقل لفرقة أحمد فلا والذي من قاب قوسين أدناه فواحسرتاه من وداع محمد وأواه من يوم التفرق أواه سأبكي عليه قدر جهدي بناظر من الشوق لا ترقى من الدمع غرباه فيا وقت توديعي له ما أمره ووقت اللقا والله ما كان أحلاه عسى الله يدنيني لأحمد ثانياً فيا حبذا قرب الحبيب ومدناه فيا رب فارزقني لمغناه عودة تضاعف لنا فيها الثواب وترضاه رحلنا وخلفنا لديه قلوبنا فكم جسد من غير قلب قلبناه ولما تركنا ربعه من ورائنا فلا ناظر إلا إليه رددناه لنغنم منه نظرة بعد نظرة فلما أغبناه السرور أغبناه فلا عيش يهنى مع فراق محمد أأفقد محبوبي وعيشي أهناه دعوني أمت شوقاً إليه وحرقة وخطوا على قبري بأني أهو

الحث على الحج بالمال الحلال

الحث على الحج بالمال الحلال فيا صاحبي هذي التي بي قد جرت وهذا الذي في حجنا قد عملناه فإن كنت مشتاقاً فبادر إلى الحمى لتنظر آثار الحبيب وممشاه وتحظى بيت الله من قبل منعه كأنا به عما قليل منعناه أليس ترى الأشراط كيف تتابعت فبادره واغنمه كما قد غنمناه إلى عرفات عاجل العمر واستبق فثم إله الخلق يسبغ نعماه وعيّد مع الحجاج يا صاح في منى فعيد منى أعلاه عيداً وأسناه وضح بها واحلق وسر متوجهاً إلى البيت واصنع مثل ما قد صنعناه وكن صابراً إنا لقينا مشقة فإن تلقها فاصبر كصبر صبرناه لقد بعدت تلك المعالم والربا فكم من رواح مع غدو غدوناه فبادر إليها لا تكن متوانيا لعلك تحظى بالذي قد حظيناه وحج بمال من حلال عرفته وإياك والمال الحرام وإياه فمن كان بالمال المحرم حجه فمن حجه والله ما كان أغناه إذا هو لبى الله كان جوابه من الله لا لبيك حج رددناه كذلك جانا في الحديث مسطرا ففي الحج أجر وافر قد سمعناه

الحث على زيارة المسجد النبوي

الحث على زيارة المسجد النبوي ومن بعد حج سر لمسجد أحمد ولا تخطه تندم إذا ما تخطاه فوا أسف الساري إذا ذكر الحمى إذا ربع خير المرسلين تخطاه ووالهف الآتي بحج وعمرة إذا لم يكمل بالزيارة ممشاه يعزى على ما فاته من مزاره فقد فاته أجر كثير بأخراه نظرناه حقاً حين بانت ركابنا على طيبة حقاً وصدقاً نظرناه وزادت بنا الأشواق عند دنونا إليها فما أحلى دنواً دنيناه ولما بدت أعلامها وطلولها تحدرت الركبان عما ركبناه وسرنا مشاة رفعة لمحمد حثنا الخطا حتى المصلى دخلناه لنغنم تضعيف الثواب بمسجد صلاة الفتى فيه بألف يوفاه كذلك فاغنم في زيارة طيبة كما قد فعلنا واغتنم ما غنمناه فإذ ما رأيت القبر قبر محمد فلا تدن منه ذاك أولى لعلياه وقف بوقار عنده وسكينة ومثِّل رسول الله حيا بمثواه وسلم عليه والوزيرين عند وزره كم زرنا لنحصد عقباه وبلغه عنا لا عُدمت سلامنا فأنت رسول للرسول بعثناه ومن كان منا مبلغا لسلامنا فإنا بإدلاء السلام سبقناه فيا نعمة لله لسنا بشكرها نقوم ولو ماء البحور مددناه فنحمد رب العرش إذا كان حجنا بزورة من كان الختام ختمناه عليك سلام الله ما دامت السما سلام كما يبغى الإله ويرضاه

فضائل يوم عرفة

فضائل يوم عرفة أما الشق الثاني فيتعلق بيوم عرفة والوقوف بعرفة: لا شك أن يوم عرفة يوم عظم الله سبحانه وتعالى أمره، ورفع على الأيام قدره، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى به، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، فقال عز وجل: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] قال ابن عباس: (الوتر يوم عرفة، والشفع يوم الذبح) وقيل: إنه هو اليوم المشهود الذي أتى ذكره في سورة البروج، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة قال: ولا طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه الله منه). ومن فضائله: أنه هو اليوم الذي أنزل الله فيه سبحانه وتعالى فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وعن طارق بن شهاب قال: (قالت اليهود لـ عمر رضي الله عنه: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناه عيداً فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، يوم عرفة، وإنا والله بعرفة يوم جمعة) وهذا حديث متفق عليه. إذاً: يوم عرفة هو يوم عيد لأهل الموقف، وإنما يكمل الحج بالوقوف بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: استدل بهذا الحديث -أي: حديث عمر - على مزية الوقوف بعرفة يوم الجمعة على غيره من الأيام؛ لأن الله تعالى إنما يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم الأفضل، فاختار له أن يكون عرفة يوم الجمعة، فاجتمع عيد عرفة وعيد الجمعة. فالأعمال تشرف بشرف الأزمنة كالأمكنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع؛ ولأن في يوم الجمعة الساعة المستجاب فيها الدعاء، ولاسيما على قول من قال: إنها بعد العصر، وهو الأرجح والله تعالى أعلم. أما ما روي من حديث: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة وافق يوم الجمعة، وهو من أفضل من سبعين حجة من غيرها) فهو حديث لا أعرف حاله هذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. أيضاً يوم عرفة فيه أخذ الميثاق قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، فأخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم بتوحيده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى)، وهذا الحديث صحيح. ومن فضائل هذا اليوم أن الله سبحانه وتعالى يباهي بأهله الملائكة، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، يقول لهم: انظروا إلى عبادي هؤلاء! جاءوني شعثاً غبراً)، فهذا يقتضي الغفران وعموم التكفير؛ لأنه لا يباهي بالملائكة وهم مطهرون إلا بمطهر، فلا يكون الحجاج مطهرين إلا إذا غفر الله سبحانه وتعالى لهم ذنوبهم مغفرة عامة وشاملة، وينتج من ذلك أن الحج يكفر حق المولى وحق الخلق حتى الكبائر والتبعات، وهذا أشار إليه في قوله: (وعنكم ضمنا كل تابعة جرت)، وهو حق الخلق، فيغفره الله سبحانه وتعالى ويتحمله ويضمنه عن الحجاج. وفيه أفضلية عرفة على يوم النحر، وهو ما عليه الأكثر، وإنما سمي الموقف عرفة لأنه عرف لإبراهيم عليه السلام فلما أبصره عرفه، أو لأن جبريل كان يدور في المشاعر، فلما رآه إبراهيم قال: قد عرفت، أو لأن الناس يتعارفون فيه. عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً أو أمة من الناس من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟). وعن بلال بن رباح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة جمع: يا بلال أسكت أو أنصت الناس، ثم قال: إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له). الذي يخصنا نحن أكثر في هذا المقام هو بيان أن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل المتخلف لعذر شريكاً للسائل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك: (إن في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، خلفهم العذر)، وقال الشاعر في ذلك: يا سائرين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا ومن أقام على عذر كمن راحا وربما سبق بعض من سار بقلبه وعزمه بعض السائرين بأبدانهم فليس الشأن فيمن سار ببدنه، إنما الشأن فيمن قعد بدنه لعذر وسار بقلبه حتى سبق الركب.

أعمال صالحة تقوم مقام الحج والعمرة

أعمال صالحة تقوم مقام الحج والعمرة

ذكر الله سبحانه وتعالى

ذكر الله سبحانه وتعالى وهناك أعمال قد تقوم مقام الحج والعمرة لمن عجز عنهما، فمنها ذكر الله سبحانه وتعالى دبر كل صلاة، فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحدثكم بما لو أخذتم به لحقتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! ذهب الأغنياء بالأجر يحجون ولا نحج، ويجاهدون ولا نجاهد وبكذا وبكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء إن أخذتم به جئتم بأفضل ما يجيء به أحد منهم: تكبروا الله أربعاً وثلاثين، وتسبحوه ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين في دبر كل صلاة) وهذا رواه الإمام أحمد والنسائي. إذاً: هذا مما يعوض من عجز عن الذهاب إلى البيت بعذر، فيستطيع أن يصل إلى رب البيت بالتقرب بهذا العمل، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى دبر الصلوات المكتوبة.

صلاة العشاء والغداة في جماعة

صلاة العشاء والغداة في جماعة من ذلك أيضاً صلاة العشاء والغداة في جماعة، والغداة هي صلاة الفجر، عن أبي ذر رضي الله عنه: (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -يعني: الأغنياء- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوليس قد جعل الله لكم صلاة العشاء في جماعة تعدل حجة، وصلاة الغداة في جماعة تعدل عمرة؟!) وهذا رواه مسلم. قال أبو هريرة رضي الله عنه تعالى عنه لرجل: (بكورك إلى المسجد أحب إلي من غزوتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). ولا شك أن أداء الواجبات كلها أفضل من التنفل بالحج والعمرة وغيرهما، فما تقرب العباد إلى ربهم بمثل أداء ما افترضه الله عليهم، وكثير من النفوس يعسر عليها التنزه عن كسب الحرام والشبهات، ويسهل عليها إنفاق ذلك في الحج والصدقات، قال بعض السلف: ترك فعل الشيء مما يكرهه الله أحب إلي من خمسمائة حجة، يعني: هناك ما هو أولى من مجرد فعل الفرائض، وهو التعفف عن كسب الحرام، والتنزه عن المال الحرام، فهذا من أعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى. قال الفضيل بن عياض مبيناً باباً آخر من أبواب العبادة التي قد تفضل على حج التطوع: ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حفظ اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في همٍّ شديد، وليس الاعتبار بأعمال البر بالجوارح، وإنما الاعتبار بلين القلوب وتقواها وتطهيرها عن الآثام.

صلاة الفجر في جماعة ثم المكوث حتى تطلع الشمس لصلاة ركعتين

صلاة الفجر في جماعة ثم المكوث حتى تطلع الشمس لصلاة ركعتين مما يعوض الحج والعمرة صلاة الفجر في جماعة، والذكر حتى طلوع الشمس، وصلاة الركعتين بعدها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)، وهذا رواه الترمذي وصححه الألباني.

حضور الجماعات والمشي إلى صلاة التطوع

حضور الجماعات والمشي إلى صلاة التطوع من ذلك أيضاً حضور الجماعات والمشي إلى صلاة التطوع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مشى إلى صلاة مكتوبة في الجماعة فهي كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة نافلة)، وهذا حديث حسن. المقصود بالمشي إلى صلاة التطوع: أن يمشي إلى المسجد يصلي صلاة الضحى مثلاً كما في رواية أبي داود، قال المناوي: من مشى إلى أداء صلاة مكتوبة فليسرع. والخصلة كحجة يعني: كثواب حجة، ومن مشى إلى صلاة التطوع فهي كثواب عمرة، لكن لا يلزم التساوي في المقدار.

الصلاة في مسجد قباء

الصلاة في مسجد قباء كذلك الصلاة في مسجد قباء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه، كان له عدل عمرة)، وهذا صحيح رواه أحمد في مسنده والنسائي والحاكم وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في مسجد قباء كعمرة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى مسجد بني عمرو بن عوف -وهو مسجد قباء- لا ينزعه إلا الصلاة كان له أجر عمرة). وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي رضي الله عنه يقول: (لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل)، وهذا بدون سفر أو شد الرحال، فالإنسان يأتي المدينة لزيارة المسجد النبوي ثم من السنة أن يزور مسجد قباء. وهذا المسجد هو الذي نزل فيه وفي دياره قول الله سبحانه وتعالى: {فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد رضي طهوركم يا أهل قباء).

شهود صلاة العيدين

شهود صلاة العيدين كذلك مما يعوض فوات الحج والعمرة شهود العيدين: الفطر والأضحى، قال ابن رجب: قال مخنس بن سليم وهو معدود من الصحابة: (الخروج يوم الفطر يعدل عمرة، والخروج يوم الأضحى يعدل حجة). قال ابن رجب رحمه الله تعالى: رأى بعض الصالحين الحاج في وقت خروجه، فوقف يبكي ويقول: واضعفاه! وينشد: فقلت دعوني واتباعي ركابكم أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد ثم تنفس وقال: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟! يقول الحافظ ابن رجب: إخواني! إن حبستم العام عن الحج، فارجعوا إلى جهاد النفوس، أو أحصرتم عن أداء النسك، فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر، فإن إراقة الدماء لازمة للمحصر، ولا تحلقوا رءوس أديانكم بالذنوب، فإن الذنوب حالقة للدين وليست حالقة للشعر، وقوموا لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر، ومن كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله، فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه واستغفر، ومن عجز عن حج البيت أو البيت منه بعيد فليقصد رب البيت، فإنه ممن دعاه ورجاه أقرب من حبل الوريد. من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة فليبيت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه، ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى، ومن لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد، إن لم نصل إلى ديارهم فلنصل انكسارنا بانكسارهم، إن لم نقدر على عرفات فلنستدرك ما قد فات، إن لم نصل إلى الحجر فلين كل قلب حجر، إن لم نقدر على ليلة جمع ومنى فلنقم بمأتم الأسف ههنا. أين المريد المجد السابق؟! هذا يوم يرحم فيه الصادق، من لم يُنِب في هذا اليوم فمتى ينيب؟! ومن لم يجب في هذا الوقت فمتى يجيب؟! ومن لم يتعرف بالتوبة فهو غريب، أسفاً لعبد لم يغفر له اليوم ما جنى، كلما هم بخير نفض الثوب وما بنى، حضر مواسم الأفراح فما حصل خيراً ولا اقتنى، ودخل بساتين الفلاح فما مد كفاً ولا جنى، ليت شعري من منا خاف ومن منا نال المنى! فيا إخواني! إن فاتنا نزول منى فلننزل دموع الحسرات هاهنا، وكيف لا نبكي ولا ندري ماذا يراد بنا؟! وكيف بالسكون وما نعلم ما عنده لنا؟! فلذا الموقف أعددنا البكاء ولذا اليوم الدموع تقتنى، أخي! لئن سار القوم وقعدنا، وقربوا وبعدنا، فما يؤمننا أن نكون ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين. لله در ركائب سارت بهم تطوي القطار الشافعات على الدجى رحلوا إلى البيت الحرام وقد شدا قلب المتيم منهم ما قد شدا نزلوا بباب لا يخيب نذيره وقلوبهم بين المخافة والرجا يحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبة وهو قاعد أن يحزن: عرض بذكري عندهم لعلهم إن سمعوك سألوك عني قل ذلك المحبوس عن قصدكم معذب القلب لكل فنى إخواني! نفحت في أيام الحج نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كل قلب أجاب إلى ما دعا. يا همم العارفين لغير الله لا تقنعي، يا عزائم الناسكين لدمع أنساك السالكين اجمعي، لحب مولاك اخرجي وبين خوفه ورجائه اقرني، وبذكره تمتعي، يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي واركعي، وبين صفاء الصفا ومروى المروة اسعي وأسرعي، وفي عرفات الغرفات قفي وتضرعي، ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي، ثم إلى منى نيل المنى فارجعي، فإذا قربت القرابين فقربي الأرواح ولا تمنعي، فإنه قد وضح الطريق، ولكن قل السالك على التحقيق وكثر المدعي!

فضل تلقي الحجاج ومصافحتهم

فضل تلقي الحجاج ومصافحتهم أخيراً: ننوه إلى أن تلقي الحجاج مسنون، أي: يستحب أن يتلقى الإنسان الحاج ويسلم عليه، ويطلب الاستغفار منه والدعاء له، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل المدينة)، كانوا يقابلونه بالصبيان وصغار أهل المدينة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبلنا من مكة في حج أو عمرة فتلقانا غلمان من الأنصار كانوا يتلقون أهليهم إذا قدموا)، وقد كان السلف يدعون لمن رجع من حجه، فهذا خالد الحذاء لما رجع، قال له أبو قلابة: بر العمل. يعني: جعله الله مبروراً. وعن ابن أبي ثابت قال: (خرجت مع أبي نتلقى الحجاج ونسلم عليهم قبل أن يتدنسوا) يعني: قبل أن يعودوا فيخالطوا الحياة من جديد، وقد رجعوا أنقياء أطهاراً من الذنوب، فهذا هو السبب، ولعلك تحرص على دعائه لك؛ لأنه لم يخض في الفتن والدنيا. وعن الحسن قال: إذا خرج الحجاج فشيعوهم وزودوهم الدعاء، وإذا قفلوا فالقوهم وصافحوهم قبل أن يخالطوا الذنوب، فإن البركة في أيديهم. وفي مسند البزار وصحيح الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لو يعلم المقيمون ما للحاج عليهم من الحق لأتوهم حين يقدمون حتى يقبلوا رواحلهم؛ لأنهم وفد الله في جميع الناس). ما للمنقطع حيلة سوى التعلق بأذيال الواصلين: هل الدهر يوماً بوصل يجود وأيامنا باللوا هل تعود زمان تقضى وعيش مضى بنفسي والله تلك العهود ألا كل زوار دار الحبيب هنيئاً لكم في الجنان الخلود أفيضوا علينا من الماء فيضاً فنحن عطاش وأنتم ورود أحب شيء إلى المحب سؤال من قدم من ديار الحبيب، فيقول: عرضاني ركب الحجاز أسائله متى عهده بأيام سلع واستمليا حديث من سكن الخيـ ـف ولا تكتباه إلا بدمع فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي من يعد أيام جمع على ما كان منها وأين أيام جمعي فهذا الشاعر يعبر عن مشاعره فيقول: عرضاني ركب الحجاز أسائله لأنه حرم من الحج والسؤال في الموسم فيريد أن يُجْعَلَ في عرض الطريق حين يعود الحجاج من طريق الحجاز. عرضاني ركب الحجاز أسائله متى عهده بأيام سلع أي: أريد أن أسمع منهم الذكريات التي عاشوها هناك في أيام سلع وفي منى وفي هذه المواقع. (واستمليا حديث من سكن الخيف) يعني: من سكن مسجد الخيف في منى، وأقام هناك فيها، (ولا تكتباه إلا بدمعى) أي: عليهم أن يملوا علي حديث من سكن الخيف ولا يكتبوه إلا بأدمعي. فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أن أرى الديار بسمعي من يعد لي أيام جمع على ما كان منها وأين أيام جمعي لقاء الأحباب لقاح الألباب، وأخبار تلك الديار أحلى عند المحبين من الأسمار: إذا قدم الركب يممته أحيي الوجوه صدوراً وورداً وأسألهم عن عقيق الحمى وعن أرض نجدٍ ومن حل نجداً حدثوني عن العقيق حديثاً أنتم بالعقيق أقرب عهداً ألا هل سمعتم ضجيج الحجيج على ساحة الخيف والعيس تحدى فذكر المشاعر والمروتين وذكر الصفا يطرد الهم طرداً والعقيق: هو الوادي المعروف الذي وصفه النبي عليه السلام بأنه واد مبارك. أرواح القبول تفوح من المقبولين، وأنوار الوصول تلوح على الواصلين: تفوح أرواح نجد من ثيابهم عند القدوم لقرب العهد بالدار أهفو إلى الركب تعلو لي ركائبهم من الحمى في أفيحات وأطمار يا راكبان قفا لي واقضيا وطري وحدثاني عن نجد بأخبار ولا يؤهل بالإكثار من التردد إلى تلك الآثار إلا محب مختار، يقول علي بن الموفق: حججت ستين حجة، فلما كان بعد ذلك جلست في الحجر أفكر في حالي وكثرة ترددي إلى ذلك المكان، ولا أدري هل قبل مني حجي أم رد، ثم نمت فرأيت في منامي قائلاً يقول لي: هل تدعو إلى بيتك إلا من تحب؟ قال: فاستيقظت وقد سري عني، أي: أنت لا تستضيف في بيتك إلا شخصاً تحبه. كان بعض السلف يقول في دعائه: اللهم إن لم تقبلني فهبني لمن شئت من خلقك. وقال آخر: اللهم ارحمني فإن رحمتك قريب من المحسنين، فإن لم أكن محسناً فقد قلت: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]؛ فإن لم أكن كذلك فأنا شيء، وقد قلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فإن لم أكن شيئاً فأنا مصاب برد عملي وتعبي ونصبي فلا تحرمني ما وعدت المصاب من الرحمة. قال هلال بن يسار: بلغني أن المسلم إذا دعا الله فلم يستجب له كتب له حسنة. من كان في سخطه محسناً فكيف يكون إذا ما رضي وقدوم الحاج يذكر بالقدوم على الله سبحانه وتعالى، قدم مسافر فيما مضى على أهله فسروا به، وهناك امرأة من الصالحات فبكت وقالت: ذكرني هذا بقدومه القدوم على الله عز وجل. قال بعض الملوك لـ أبي حازم: كيف القدوم على الله تعالى؟ قال: أما قدوم الطائع على الله فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأما قدوم العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده الغضبان: لعلك غضبان وقلبي غافل سلام على الدارين إن كنت راضياً فاللهم اجعلنا ممن تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]. ونكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك!

الإسلام عدو الأصنام [1]

الإسلام عدو الأصنام [1] لقد أخذت قضية هدم حكومة طالبان تمثالي بوذا أكبر موقعها في العالم، حيث قامت منظمات وحكومات تطالب بإيقاف هذه العملية الهمجية بزعمها، وليس غريباً على أهل الكفر والشقاق أن يصدر منهم مثل هذا، لكن الغرابة في بعض الشخصيات المتقمصة لباس الإسلام حين رأت أن مثل هذا يعد تدميراً للتراث، وأنه ليس من الإسلام في شيء، فقامت بالدور نيابة عن الكفار متناسية النصوص المستفيضة في وجوب طمس التماثيل والصور وإزالتها، واتفاق علماء المسلمين على ذلك، فتباً لأقلامها المأجورة.

وقفات مع تدمير تمثالي بوذا

وقفات مع تدمير تمثالي بوذا

الموقف العالمي تجاه تدمير تمثالي بوذا

الموقف العالمي تجاه تدمير تمثالي بوذا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشَّرفا، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فهناك حدث فرض نفسه ينطبق عليه قول القائل مع بعض التعديل: الجنازة حارة والميت صنم. فكثير من الضوضاء حصل في قضية تحطيم الصنمين لبوذا في أفغانستان كما هو معلوم، ولقد انتزعت حركة طالبان الأضواء في الأيام الأخيرة فصوبت عيون العالم كله على أفغانستان حالياً وخراسان سابقاً في التاريخ الإسلامي، واستُنفر علماء الآثار والمؤرخون ومدراء المتاحف العالمية، وجميع الصحف. وهذه اليابان -وهي أكبر مانح للمعونات في تلك المنطقة- طالبت بتدخل دول الخليج، وضغطت على قطر حتى أرسلت وفداً. وطلب مدير عام اليونسكو وهو شيرو متورا، -وهو ياباني بوذي- وساطة سياسية من بعض الدول، ومكث مبعوثه -وفي نفس الوقت- أيضاً -مكث بيير لافرانك مبعوث رئيس فرنسا شيراك أكثر من عشرة أيام يحاول أن يثني عزم طالبان عن قرار هدم أكبر تمثالين لبوذا في العالم، وهما واقعان في وسط أفغانستان، وقد استغرق بناؤهما مائتي سنة، أي قرنين كاملين. وتقدمت دول عديدة مثل الهند واليونان بعروض سخية لإنقاذ التمثالين، ومتحف الميترو كوليتن في نيويورك تقدم -أيضاً- بعروض سخية يتبرع بها لأجل أخذهما، وجمعت اليونسكو خمسةً وأربعين وزير ثقافة ليتحدثوا عن هذين الصنمين، ومحاولة المطالبة والضغط لاستنقاذهما.

الألسن المنتسبة إلى الإسلام ودفاعها عن الأصنام

الألسن المنتسبة إلى الإسلام ودفاعها عن الأصنام والمؤلم -حقيقة- في القضية أن أناساً من بني جلدتنا وصل بهم الحال إلى أنهم طالبوا الدول الغربية بتدخل عسكري سريع وحاسم لإنقاذ هذه الحجارة، وهو تدخل عسكري سيترتب عليه إراقة دماء مسلمة، فالتراث البوذي عندهم لا يمكن التهاون به، لكن دماء المسلمين شيء أرخص ما يكون! وهذه القضية لا ينبغي أن تمر مروراً عابراً، بل هي كمثيلاتها من القضايا تحتاج إلى وقفة وتأمل وتدبر ومدارسة، وعلى الأقل يكون كلامنا وجهة من وجهات النظر، ويسمع الناس صوتاً آخر غير تلك الأبواق التي تأتينا عبر الفضائيات -كما يسمونها- وتشوش على الناس وعلى أحكام الإسلام. فبعض الناس أقاموا أنفسهم وكلاء عن الغرب في الدفاع عن هذا الأمر، وزين بعضهم العبارات، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ولم يكونوا منصفين على الإطلاق. وعامة من سلطت عليه الأضواء في تناول هذه القضية من المنحازين تماماً للثقافة الغربية، وإن كانوا يظهرون بلغة عربية وفي ثوب إسلامي للأسف الشديد! وأقوى دليل على أنهم لم يكونوا منصفين ولم يكونوا ممثلين صادقين لحكم الإسلام في هذه القضية: أنهم تجاهلوا تماماً أدلة الآخرين، وما أوردوا حديث علي بن أبي طالب إلا في معرض الرد عليه أو تأويله، أو إذا كانت الأصنام تعبد فقط، أما أن يكون كأي بحث علمي في العالم لابد له من أن تأتي بأدلة كل طرف، ثم تتكلم عن وجه الدلالة بعد توثيق الأدلة، ثم تحصل المناظرة أو المناقشة ثم يكون الترجيح بين هذه الأدلة والموازنة بينها فذلك أمر ليس مكانه هنا. فهؤلاء المدسوسون على الفقه فرضوا نوعاً من الوصاية على الفتوى الشرعية، وأوهموا الناس أن كلامهم الحق الذي لا يقبل الجدال، وأن من يخالف فهو رجعي متخلف، وأحياناً يستخدمون كلمة (سلفي) للتعبير عن المخالفين في سياق الذم والتحقير للمسلمين.

دلالات الحادثة على حال البشرية أو وضع المسلمين

دلالات الحادثة على حال البشرية أو وضع المسلمين والحادث حدث جلل في الحقيقة يحتاج إلى أن نتأمل فيه الحالة التي وصلت إليها البشرية، فهذه الحادثة في حد ذاتها من الوقائع التاريخية التي تكشف لنا المدى الذي تردت إليه البشرية في انحطاطها، وليس في تحضرها كما يزعمون، فهذا أقوى شاهد على مدى الانحطاط الذي وصلت إليه البشرية، وكيف أنها وقعت في هاوية سحيقة من الجهل والكفران. كان ينبغي للجميع أن يعلموا أن لدينا منظومة قيميَّة خاصة بنا نستمدها من إسلامنا ومن عقيدتنا، ومن ديننا الحنيف الذي نؤمن أنه الدين الوحيد الحق، وكل الأديان باطلة، وإن كان أرباب القانون الدولي والمنظمات العالمية والعولمة لا يقروننا على هذا الكلام. ونحن نقول: من شك لحظة واحدة في أن الإسلام هو الدين الحق، وأن كل ما عداه باطل، وأن الإسلام مهيمن على ما عداه من الأديان فلا يبقى من المسلمين، ولا يبقى عنده ذرة من الإيمان. وأصدق ما يعبر عن الوضع الذي رأيناه والذي حصل أن نقول في جملة واحدة: كيف وقع المسلمون في جحر الضب؟! إلى هذا الحد دخل المسلمون جحر الضب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم. قيل: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا يبين لنا الداء التي وصل إليه المسلمون، والوضع الذي غصوا به بعد أن دخلوا بالفعل جحر الضب، والرسول عليه الصلاة والسلام شبه بجحر الضب لأنه ملتوٍ، ولأنه لا يستوعب الضب ولا يستره، ولا يفي بحاجته، ومع ذلك يصر المسلمون على أن يتبعوهم وأن يحصروا أنفسهم في جحر الضب! وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي على الناس زمان يصدق فيه الكاذب، ويكذب فيه الصادق، ويخون فيه الأمين، ويؤتمن فيه الخائن، وينطق فيه الرويبضة. قيل: ومن الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه الحادثة كشفت أحد أعراض مرض التبعية والانهزامية التي تغلغلت في قلوب كثير من المسلمين، وهي تذكرنا بقول ابن خلدون رحمه الله تعالى حينما تكلم عن أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب، وتكلم عن أمارات تشبه المسلمين في الأندلس في ذلك الوقت بالأسبان أو بالكفار، إلى أن قال: وذلك من أمارات -أو علامات- الاستيلاء. فقد تنبأ بسقوط الأندلس، وكان عمدته في ذلك أنه رأى المسلمين بدءوا يقلدون الكفار، فعد ذلك من أمارات الاستيلاء، وأن هذا سينتهي بهم في النهاية إلى أن يذوبوا في هذه الأمة التي يقلدونها.

الحادثة وما يستفاد منها

الحادثة وما يستفاد منها وموضوع التماثيل في الحقيقة لا نريد أن نقول عنه: رب ضارة نافعة؛ لأنها -إن شاء الله- ليست ضارة، لكن مثل هذه الأحداث قد تكون نعمة من الله سبحانه وتعالى تلفت نظر الناس إلى أمور مهمة جداً؛ لأن حكم الشرع في التماثيل مما ينبغي أن يشاع العلم به بين المسلمين؛ لأننا نرى من المسلمين من يزين بيته بالتماثيل، سواء في مدخل البيت أو الفيلا أو في داخل الحجرات، وهذه شائعة في مجتمعاتنا، فهذا الأمر -أيضاً- يؤكد ضرورة الوقوف على هذا الأمر. وإن الكلام عن موضوع علاقة المسلمين بالغرب أو بالكفار عموماً مهم، فإنه لما استنفر كل العالم الغربي علينا وحصل ما حصل جاء الدور ليستنفر العالم الشرقي الوثني عابد الأوثان على المسلمين أيضاً، وعليه فإننا ما زلنا نؤكد الحقيقة التي ينبغي أن يفقهها كل مسلم، وهي أن التفسير الوحيد الصحيح للتاريخ هو أنه صراع بين الإسلام والكفر، كل التاريخ من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة يدور حول هذا المحور، وصحيح أنه يؤخذ صوراً أخرى، لكن هذا هو جوهر الصراع، فهو صراع بين الإسلام والكفر، بين الإسلام الذي أتى به جميع الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبين الكفر بكل ألوانه واتجاهاته.

أثر العولمة في زعزعة العقائد

أثر العولمة في زعزعة العقائد إننا الآن نعيش في عصر ما يسمى بالعولمة، أو النظام العالمي الجديد الذي رسمت ملامحه أمريكا بكل صلف واستبداد، والذي يهدف إلى توطيد دعائم الود والتفاهم والسلام والأخوة الإنسانية أو الأخوة الحمارية. أريد أن أقول: إن المقصود من هذه الأمور أن توطد دعائم الود والتفاهم بين الحمار وراكبه، فهذه نظرة أمريكا للعالم عموماً وللعالم الإسلامي -للأسف- على وجه الخصوص! فالناس كلهم صاروا يتنفسون هذا الهواء المسمم، ولذلك نحن لا نحس بهذا التسمم إلا إذا فتحنا نافذة للهواء النقي الذي يهب علينا من عصور الإسلام الأولى ومن الكتاب ومن السنة. وقد تواضعوا الآن على جملة من المفاهيم قدسوها تقديساً، وشنوا الحملات الشرسة على كل من يخالف هذه المفاهيم، وهذا بمنتهى البساطة لا يلزم المسلمين؛ لأنه لا يمثل لنا أي مرجعية. وهنا يأتي موضوع المقايضة، ومعناه: أن تتنازل لي عن شيء من عقيدتك وأتنازل لك عن شيء من عقيدتي. وهذا المنطق موجود، لكن وجوده لا بأس به بين الأديان الباطلة بعضها مع بعض، كل واحد يتنازل حتى يلتقي الجميع في منتصف الطريق، أما المسلمون فلا يمكن أبداً أن يقبلوا مبدأ التنازل عن موقف الإسلام من الأصنام، فهذا غير قابل على الإطلاق للتحوير أو المغالطة، وهذا هو ما كشفته بجلاء سورة الكافرون، وقد جاء الرد فيها حاسماً لأطماع هؤلاء الكافرين. فمبدأ (تنازل لي وأتنازل لك) بحجة الأعراف الدولية والقانون الدولي والتراث الإنساني إلى آخر ذلك الكلام؛ هذا موضوع يسري بينهم، وعندهم قابلية للتنازل إلى أبعد مدى، حتى لو خلعوا دينهم بالكلية كما حصل من الغرب مع النصرانية، وإن لم يخلعوا ثوب التعصب والحقد الأعمى على المسلمين. والحاصل أن الدين الحق غير قابل على الإطلاق لأن يدخل في هذه المقايضة. وكما قلت فهذه الحادثة كشفت عن المدى الذي وصلت إليه البشرية من الانحطاط والتدهور، وأثبتت أن المسلمين هم أرقى الأمم على الإطلاق، وأقصد المسلمين الذين هم موحدون؛ لأن كل المسلمين -والحمد لله- موحدون، فنحن المسلمين أرقى الأمم وأعقل الأمم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا توجد أمة على الإطلاق في عقل المسلمين. وصحيح أن هناك تخلفاً في النواحي المادية وغير ذلك، وهذه قضية أخرى، لكن لا يوجد في جوهر الحياة والغاية من الحياة -وهي عبودية الله سبحانه وتعالى- أمة ترتقي إلى مستوى هذه الأمة الإسلامية.

مصطلحات القانون الدولي ومناقضتها لمبادئ الإسلام

مصطلحات القانون الدولي ومناقضتها لمبادئ الإسلام أما موضوع القانون الدولي ونحوه من العبارات التي يطلقونها فنحن لا ننخدع بالقانون الدولي والأعراف الدولية والتقاليد والذم، وقول: هذه وحشية وبربرية، والتماثيل إبداع وفن وتراث إنساني إلى آخر هذا الكلام. ونقول لهؤلاء الناس: ألم يدافعوا عن سلمان رشدي من قبل بحجة الإبداع، وأن سلمان رشدي له حرية الكاتب في أن يعبر عما شاء، في حين أنّه لما رفع المسلمون قضية في القضاء البريطاني تطالب بمحاكمته طبقاً للقانون الإنجليزي قالت بريطانيا والغرب معها: لا؛ فالقانون الإنجليزي يحمي النظام الملكي فقط، فلا أحد يسب الملكة وإلا فإنه يعاقب ويُجرّم، أما ما عدا ذلك فالقانون لا يحميه. فالشاهد أن هذا من تسمية الأشياء بغير مسمياتها، واللعب بالاصطلاحات، وإظهار الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، عن طريق إضفاء أسماء منفرة أو أسماء جذابة، كتسمية هذه الأشياء إبداعاً، أو فناً جميلاً، أو رقياً، أو تحضراً إلى آخر هذه الأسماء. وفي عقيدتنا -باختصار شديد- أن تعظيم التماثيل وعبادتها من دون الله هو قمة انحطاط البشرية، وهل هناك نقاش عند أي عاقل في أن إنساناً يصنع التماثيل بيده ثم يعبدها وهو أكمل منها وأعقل منها، لهو أحمق؟ يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. فموضوع منظومة القيم والمبادئ التي عندنا -نحن المسلمين- تختلف تماماً عما هي عند الغرب وعند الشرق بكل وضوح، فلا نستطيع إطلاق القول بأن الإسلام يعمل نوعاً من الفلترة أو الترشيح للتراث، ليس كل تراث الإسلام يقبله، فالإسلام لما دخل وأشرق نوره في ربوع الأرض كلها في الزمن القديم حصل نوع من الترشيح والفرز لهذا التراث في كل بلاد دخلها، وصبغها بصبغة دين الحق، وألغى ما يتعارض مع عقيدته وشريعته، فما يلهج به بعض الناس كل حين فيتكلمون ويجعلون هذه الجملة قاسماً مشتركاً بين كل المقالات التي نشرت، وهي أن هذه التماثيل موجودة قبل أن يدخل الإسلام هذه البلاد، ولها أقدمية فينبغي أن تحترم؛ كل هذا غير صحيح؛ فدين الإسلام ناسخ لكل ما عداه من الأديان السماوية، فما بالك بالأديان الوثنية الأرضية؟! أتدري ما الإسلام؟ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] وتأمل قوله تعالى: (ولو كره المشركون)، فالموقف الطبيعي أنهم يكرهون ذلك. فموضوع التراث البشري واحترام عقائد الآخرين ليس بصحيح على إطلاقه، فلو عثر على صليب عمره ألف وثلاثمائة سنة -مثلاً- فهل نقول: هذا تراث بشري ينبغي أن نحافظ عليه، أم أن هذا رمز من رموز الكفر والتكذيب بالله ولرسل الله؟ فإن قيل: هذا تراث بشري يحافظ عليه قلنا: إذا كنتم تحترمون عقائد الآخرين فلا تذبحوا البقر؛ لأن الهندوس سيغضبون وسيغارون على آلهتهم ويمنعون ذبح البقر؛ لأنها آلهتهم، وهي عندهم أفضل من أمهاتهم، كما كان غاندي يدافع عن البقر، وينشد في ذلك كثيراً من الكلام، فالمفروض أن لا تذبح البقر من أجل التراث البشري، بل إن هذا أهم عندهم من التراث، وهو الإله نفسه! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وسنقول كذلك: لا تقتلوا الفئران؛ فهناك في شرق آسيا من يعبدون الفئران، وروى أحد الإخوة أنهم وهم جالسون في مكان عام يأكلون الأرز كان الفأر يصعد على الطبق ويصعد على رأس أحدهم ولا يمس بسوء؛ لأن هذا إله عنده! ويقيمون معابد من الرخام الأبيض حتى تعبد فيها الفئران، فلا داعي لقتل الفئران، من باب احترام تراث الآخرين.

موقف الإسلام من الأديان وأهلها

موقف الإسلام من الأديان وأهلها وهناك موضوع مهم جداً في هذه المسألة، وهو كلمة: (الإسلام يحترم الأديان الأخرى). فالإسلام لا يمكن أن يحترم الأديان الأخرى أبداً، الإسلام يحفظ لأهل الأديان حقوقهم التي شرعها الله سبحانه وتعالى، أما الاحترام فلو احترم الإسلام الأديان الأخرى لكان المعنى أن الإسلام يهدم نفسه حين يحترم الأديان التي تصفه بأنه باطل، والتي تدعو إلى الشرك، وهذا من التجاوز في التعبير، فالإسلام يحترم حقوق أهل الأديان الأخرى التي شرعها لهم الله سبحانه وتعالى. يقول بعض الكاتبين -وهي مقالة في مجلة العصر-: أخبرني أحد العلماء قال: قرأت في سيرة صلاح الدين الأيوبي لـ ابن شداد أن ملك الإنجليز كتب رسالة لـ صلاح الدين فيها طلب الصليب، الذي يزعمون أن المسيح -والعياذ بالله- صلب عليه، وكان قد غنمه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فبعث ملك الإنجليز يخاطب صلاح الدين يقول له: وأما الصليب فهو خشبة عندكم. أي: هو عندكم -معشر المسلمين- قطعة خشب ليس له قيمة. يقول الملك: وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم، فليمن به السلطان علينا. فأجابه صلاح الدين رحمه الله: وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة، لا يجوز لنا أن نفرط فيها إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام هي أوفى منها. فما كان ذا قيمة تاريخية أو روحية أو عقدية عند أهل الشرك ليس بالضرورة أن يكون ذا قيمة لدى أهل التوحيد والإسلام، والعكس بالعكس، فالمسلم الفلسطيني الغارق في دمائه على يد علج يهودي هو في نظر قاتله لا يساوي الرصاصة التي رمي بها، رغم أن هدم بيت الله حجراً حجراً أهون على الله من سفك دم امرئ مسلم كما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. فصنم بوذا لدى المشركين البوذيين أو غيرهم هو أثر تاريخي وقيمة تراثية، لكن عند المسلمين لا يعدو أن يكون صنماً حجرياً عبده من دون الله من لا خلاق لهم في الآخرة، وحقه أن يفعل به ما فعل بإخوانه من قبل، فيضحى به على اسم الله، ويقال ما قاله أكرم البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يهدم الأصنام بيده: ({جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81])، فإن اعترض معترض قلنا له ما قاله الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] فلماذا لم يدفع عن نفسه البارود والمدافع ونحو هذه الأشياء؟!

مواقف دعاة التنوير الخبثاء

مواقف دعاة التنوير الخبثاء ويخرج من يسمون أنفسهم بالمستنيرين -وهم في ضلالهم يعمهون- والعلمانيين -وهم في جهلهم سادرون- يقول أحدهم -للأسف الشديد-: أتى ذات مرة رجل من قوات طالبان فزارني إلى منزلي وصلى فيه، فشك في الصلاة وأعاد الصلاة بعد ذلك لأن منزلي به أصنام! فيحكي أن هذا إنسان متخلف شك في الصلاة، يقول: لما صلى في البيت عندي وعرف أن هناك تماثيل في الحجرة شك وأعاد الصلاة بعد ذلك خارج البيت! فكأنه يتكلم عن مخلوق جاء من كوكب آخر! فما هذا الإنسان الغريب؟! فهو يحكي الكلام لأناس بنبرة استنكار، فلماذا يغضب الطالباني هكذا على الصنم؟!

موقف الإسلام من الشرك وذرائعه

موقف الإسلام من الشرك وذرائعه وإذا تأملنا في حال الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وهي شجرة ذات بعد تاريخي حقيقي، نجد أن عمر رضي الله تعالى عنه عندما خاف من أن تكون ذريعة إلى الشرك، اقتلعها من جذورها، فكيف بـ بوذا المعبود من دون الله؟! فبعد أن: كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا صرنا نرى الأصنام من حجر فنرفعها لنرضي بعدها الكفارا فليعلم بالضرورة أن الإسلام هو دين التوحيد، وأنه عدو الأصنام، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وحينما نقول: (الإسلام) فلا نقصد رسالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام فحسب، وإنما الإسلام الدين الوحيد الذي نزل من السماء على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. جاء خاتم الرسل والنبيين صلى الله عليه وسلم فنشر الله به التوحيد، وأعلى مناره، ودك به حصون الشرك ومحى أثره. ثم إن الإسلام ازداد غربة يوماً بعد يوم إلى أن صارت قطعيات الدين وقطعيات التوحيد محل نقاش وسؤال عند كثير من الجهلة، مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ). ونقول ما قاله بعض العلماء الأفاضل: لا يشك صبيان أهل التوحيد وأطفالهم في أن مثل هذا العمل من أعظم القربات وأجل الطاعات، وهو ما بعثت له الأنبياء وأرسلت الرسل، وما كنا نظن أن يأتي زمان نحتاج فيه إلى أن نثبت بالأدلة أن هدم الأوثان والأصنام وأوكار الشرك من أعظم واجبات الدين، ولكننا في زمن أتى بالعجائب.

الأدلة الشرعية على حرمة صنع تماثيل ذوت الأرواح

الأدلة الشرعية على حرمة صنع تماثيل ذوت الأرواح يقول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، لقد احتاط الإسلام أشد الاحتياط في قضية التوحيد، وتواترت النصوص الصحيحة الصريحة على تحريم عمل التماثيل ذوات الأرواح مطلقاً، وقد حكى الإجماع على تحريم ذلك غير واحد من العلماء. فمن تلك الأدلة: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وكلمة (الصور) تشمل فيما تشمل التماثيل، بل أولى شيء أن يدخل في الصور هو التمثال. وفي الصحيحين -أيضاً- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون). وفيهما -أيضاً- عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها. فقال له: ادنُ مني. فدنا منه، ثم قال: ادن مني. فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم) وقال: إن كنت -ولا بد- فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له -يعني: ما لا روح فيه. وفي الصحيحين أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله). وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصور). وفيهما -أيضاً- عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ). وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة). وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك) رواه الترمذي وصححه. وروى -أيضاً- الترمذي -وصححه- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين). وروى الإمام أحمد من حديث عاصم عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين) و (ممثل) معناه: صانع التماثيل. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير). وفي حديث أبي طلحة: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة). وعن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه خطب الناس فذكر في خطبته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم سبعة أشياء، وذكر منها التصاوير. وهذه الأحاديث دلالتها ظاهرة جداً على تحريم الصور ذوات الأرواح بكافة أشكالها، وعلى أن ذلك من الكبائر، فلعن المصور، وبيان أنه أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأنه من أظلم الناس، وبيان أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تمثال أو صورة يندر أن نجد مثله يتحقق في محرم من المحرمات. يقول الإمام النووي رحمه الله: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم - أي ما فيه روح- وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث. ونلاحظ -أيضاً- من هذه النصوص أن التحريم أتى عاماً لم يستثن فيه شيء، ولم يفرق فيه بين تمثال وآخر، فلم يفرق بين كونه تمثالاً يعبد أو لا يعبد، أو تمثالاً مأخوذاً للزينة، أو تمثالاً لحفظ التراث والسجل البشري الذي يقاس عليه تاريخ الأمم إلخ، أو كان التمثال صغيراً أم كبيراً، حديثاً أم قديماً، فيلاحظ في الأحاديث أن صيغها صيغ عموم؛ ففي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من صور صورة) (من) هذه من صيغ العموم، وقوله: (كل مصور في النار) (كل) صيغة عموم، وقوله: (لا تدع صورة إلا طمستها) لفظ (صورة) نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) (أل) هنا في قوله (المصورون) للاستغراق، فتفيد العموم. فإذاً الشريعة تحرم التماثيل أياً كان نوعهاً، سواء اتخذت للعبادة أو كانت لا تعبد، والأحاديث تتناول كافة أشكال التماثيل والتصاوير بمعناها ومعقولها فتشملها علة التحريم.

علة تحريم صنع التماثيل أو اقتنائها

علة تحريم صنع التماثيل أو اقتنائها

سد ذريعة الشرك بالله جل جلاله

سد ذريعة الشرك بالله جل جلاله أما علة التحريم فلأنّ اتخاذ الأصنام والتماثيل ذريعة لعبادتها من دون الله تبارك وتعالى، وطريق للغلو فيها وتعظيمها، وهذا الذي وقع بالفعل، فقد كانت أول ذريعة لوقوع الشرك في بني آدم ما ذكر في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]. قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كان يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم. ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت هذه التماثيل. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا فليتبع كل أناس ما كانوا يعبدونه، فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون). قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]. يقول الإمام ابن القيم: وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. فهؤلاء القوم -كما يقول بعض العلماء- اجتمع فيهم الفتنتان: فتنة التماثيل وفتنة القبور. والفتنتان جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح -أو الرجل الصالح- بنوا على قبره منزلاً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى). وعن مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قال: كان اللات رجلاً صالحاً يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره. وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج. فتعظيم القبور واتخاذ التماثيل كان -بلا شك- هو الذريعة إلى عبادتها من دون الله. يقول الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى: والذي أوجب النهي عنه في شرعنا -والله أعلم- ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب، فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)، وفي رواية: (الذين يشبهون بخلق الله) فعلل بغير ما زعمتم -يعني: أن العلة علة أخرى، وهي مضاهاة خلق الله-! قلنا: نهى عن الصورة، وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله، فنبه على أن نفس عملها معصية، فما ظنك بعبادتها؟! وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسر، وأنهم كانوا أناساً، ثم صوروا بعد موتهم وعبدوا، يقول الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وكسوه بزته إن كان رجلاً، وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب، فإذا أصاب أحداً منهم كرب، أو تجدد لهم مكروه فتح الباب عليه، وجلس عنده يبكي ويناديه بكان وكان. حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه، ثم يغلق الباب عليه وينصرف عنه. وإن تمادى بهم الزمان عبدوها من جملة الأصنام والأوثان. إذاً العلة الأولى هي سد الذريعة إلى عبادتها من دون الله.

مضاهاة خلق الله تعالى بها

مضاهاة خلق الله تعالى بها العلة الثانية: أن فيها مضاهاة لخلق الله تعالى، فالذين يتكلمون في الفضائيات والمجلات والجرائد إما أنهم جهلة وإما أنهم مدلسون؛ لأنهم يخفون الحقيقة، فهم يدلسون في الكلام، وإنه ليشك في نزاهة هؤلاء الناس أو كثير منهم، فهم يحرصون على دعوى أن الناس قد ترقوا، والعقيدة راسخة لا يضرها وجود التماثيل إلى آخر هذا الكلام. فنقول: هل العلة -فقط- هي سد الذريعة دون عبادتها؟ و A لا، فهناك علة أخرى ما زالت قائمة، وهي علة مضاهاة خلق الله؛ لأنه كما يحرم على المخلوق أن يشبه الله بالمخلوق، فكذلك يحرم عليه أن يتشبه بفعل من أفعال الخالق سبحانه وتعالى، فلا نشبه الله بخلقه ولا نتشبه المخلوق بفعل هو من خصائص الخالق وهو التصوير والخلق، فهناك مضاهاة لخلق الله تبارك وتعالى كما جاء في الحديث: (الذين يضاهون بخلق الله) وقال: (الذين يشبهون بخلق الله)، ويقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، وأيضاً في الحديث: (كلف أن ينفخ فيها الروح)، أي: كلف على سبيل التعجيز له أن ينفخ فيها الروح. إذاً هذه العلة ظاهرة ثابتة ولا تنسخ، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا بتغير حجم التماثيل والتصاوير واختلافها، يقول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان لقرب العهد من الأوثان، وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في هذا التشديد. يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا عندنا باطل قطعاً؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، فإنهم يقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله: (المشبهون بخلق الله)، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة بمعنى خيالي يمكن أن لا يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره، وهو التشبيه بخلق الله تبارك وتعالى. اهـ

التشبه بالمشركين

التشبه بالمشركين وهناك علة أخرى، وهي: أن في اتخاذ التماثيل تشبهاً بالمشركين وعباد الأوثان، وقد ثبت في السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم).

منعها دخول الملائكة البيوت وأماكن وجودها

منعها دخول الملائكة البيوت وأماكن وجودها وهناك علة أخرى، وهي أنها مانعة من دخول الملائكة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير)، وهذا عام، فهذه العلة تدل على أن كافة التماثيل تدخل في هذا الحكم، وإن كانت متخذة للعبادة فإن ذلك يكون من باب أولى مع وجود العلل الأخرى. إذاً هي محرمة على كل حال. وأيضاً: إذا تأملنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن هذا التحريم عام وشامل لجميع أشكال التماثيل، أما ما اتخذ من أجل العبادة من دون الله فلا شك أنه قد تواترت الأحاديث في هدمه ومحوه وإزالته. أما ما لا يتخذ للعبادة فقد روى الترمذي -وصححه وأبو داود - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيت البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال -وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب- فمر برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصر كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتان منتبذتان توطآن، ومر بالكلب فيخرج. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أو كما جاء في الحديث. فهل كان التمثال الذي في البيت يتخذ للعبادة؟! معاذ الله! ومع ذلك أمره جبريل بأن يزيله. وكذلك أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة القرام الذي فيه التصاوير، فهل كان يتخذ للعبادة؟ لا. ومن المعروف أن الإسلام عدو الأوثان وعدو الأصنام، يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] فأدخل الأنصاب، وقال: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه). ومن تأمل يجد كل الأدلة من القرآن أو من السنة بأنواعها القولية أو الفعلية أو التقريرية تنهى عن ذلك، ثم يأتي أيضاً الدليل الآخر وهو واقع المسلمين والتاريخ الذي يحاول أن يزوره هؤلاء المخادعون المدلسون. ومن الغريب أنهم عندما يتكلمون لا يتطرقون إلى أي شيء من هذه الأدلة، فلا يوجد أحد منهم أتى بأحاديث أو آيات إلا لماماً، يأتي بها في سياق التأويل من أجل إخضاعها لأهوائهم وأغراضهم.

موقف الأنبياء عليهم السلام من الأصنام والأوثان

موقف الأنبياء عليهم السلام من الأصنام والأوثان

موقف إبراهيم الخليل عليه السلام

موقف إبراهيم الخليل عليه السلام ولنتأمل قول الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]، {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:91 - 92] فإبراهيم عليه السلام ما كان له أتباع كثيرون، وكان غريباً في قومه، ومع ذلك قام بتحديهم بتكسير هذه الآلهة وهذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله، والله سبحانه وتعالى قال لنا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4]. أي: لكم أسوة حسنة في إبراهيم في هذه الأشياء التي ذكرت من مباينة الكفار ومعاداتهم وترك موالاتهم، إلا في قوله لأبيه: (لأستغفرن لك) فإنه لا أسوة لكم في هذا. فاستثناء هذا الأمر وحده دليل على أنه أسوة فيما عدا ذلك، فيؤخذ منه مشروعية تكسير هذه الأصنام. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]. ويقول الله تبارك وتعالى -أيضاً-: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وفي صحيح البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً -وفي رواية: نصباً- فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]). يقول القرطبي: في هذه الآية دليل على كسر نصب الأوثان إذا غَلب عليهم. فهنا أمر مهم جداً، ونحن نقر به، وهو أن تكسير هذه الأوثان مرتبط بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مشروط بالقدرة، وستلاحظ كلام العلماء فانتبه واستصحب هذا، فالعلماء عندما يتكلمون يشترطون ويقولون: موضوع التمكين والغلبة. بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه في المرحلة المكية كانت الأصنام حول الكعبة فما أزالها، لكن حينما دخلها فاتحاً كسر هذه الأصنام، فعنصر التمكين هنا لابد من أن يؤخذ في الاعتبار.

موقف موسى الكليم عليه السلام

موقف موسى الكليم عليه السلام إن هدم الأصنام أمر جرى عليه فعل الأنبياء، فقد قال الله تبارك وتعالى في قصة موسى عليه السلام في شأن العجل الذي اتخذه قومه إلهاً من دون الله: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97]. فهكذا فعل موسى -أيضاً- مع عجل السامري، مع أن الله سبحانه وتعالى قال عن أنبياء ومنهم موسى عليهم السلام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فمن هنا نستدل بفعل موسى عليه السلام؛ لأنّ قدوتنا أمر بالاقتداء بهم، وأمر القدوة أمر لأتباعه.

هدم النبي صلى الله عليه وسلم أصنام الكعبة وأمره بهدم غيرها

هدم النبي صلى الله عليه وسلم أصنام الكعبة وأمره بهدم غيرها وقد تواتر هدم النبي عليه الصلاة والسلام لأصنام الجاهلية بيده الشريفة، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يشير إلى الأصنام ويطعنها ويكسرها حينما دخل مكة فاتحاً، جاء في صحيح البخاري ومسلم: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49])، فجعلت تخر وتتساقط على وجوهها. وفي الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث جرير بن عبد الله البجلي مع سرية لكسر صنم ذي الخلصة في اليمن. وروى ابن سعد وغيره: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث خالد بن الوليد إلى نخلة لهدم العزى، والقصة في ذلك معروفة. وبعث النبي عليه الصلاة والسلام المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب إلى الطائف لهدم اللات. وروى ابن سعد: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث علي بن أبي طالب إلى الفلس -وهو صنم طيّئ- لهدمه. وروى ابن سعد: أنه أيضاً بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع لكسره، وهو عمرو بن العاص الذي يفتري عليه المفترون، ولا يستحون من الله حيث يدعون أن عمرو بن العاص رأى الأصنام وأقرها! وربما يكون رآها وما استطاع هدمها، لكن أن يرى ما يقدر على كسره من الأصنام والأوثان ولا يفعل، كيف يظن هذا بـ عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ابنا العاص مؤمنان: عمرو، وهشام) رضي الله تعالى عنهما، بل ذهب بعضهم إلى الافتراء على عمرو، حيث يقولون: إن عمرو بن العاص صك عملة على أحد وجهيها الصليب! فالله المستعان! وهل كان في أيامه عولمة؟! كذلك روى ابن سعد أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين -وهو صنم دوس -لتحريقه. وروى ابن سعد أنه عليه الصلاة والسلام بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى المشلل لهدم مناة. فهل كان الرسول وأصحابه يدمرون الآثار، ويهدمون الحضارة والتراث الإنساني، أم كانوا ينظفون العقول ويغسلون القلوب من أوضار الشرك ورجس الوثنية؟!

محاربة النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام

محاربة النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! بأي شيء أرسلك الله؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً). سأله: بم أرسلك؟ فذكر من جملة ما ذكر كسر الأوثان. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يوصي أصحابه بذلك، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته). يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: إن كانت ملونة - أي: إن كانت لوحة ملونة- فَطَمْسُها بوضع لون آخر يزيل معالمها، وإن كانت تمثالاً فإنه يقطع رأسه. ثم قال: وظاهر الحديث عام، سواء أكانت تعبد أم لا. وهناك رواية أخرى لحديث أبي الهياج قال: قال لي علي رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) وعند أحمد بلفظ: (وأن أطمس كل صنم) وفي رواية أخرى -أيضاً- عند أحمد: (وأن تلطخ كل صنم). وجاء الوعيد الشديد لمن نصب الأصنام والأوثان، كما حدث للطاغية عمرو بن لحي الخزاعي إمام الشرك والوثنية في قريش، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في المناقب في باب قصة خزاعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: يجر أمعاءه في النار- وكان أول من سيب السوائب) قال ابن كثير: عمرو بن لحي أحد رءوس خزاعة، وكان أول من غير دين إبراهيم عليه السلام فأدخل الأصنام إلى الحجاز. فالأدلة كثيرة -كما قلنا- من السنة القولية والسنة العملية، وسرايا النبي صلى الله عليه وسلم التي أرسلها لكسر هذه الأصنام تؤكد ذلك، ومعروف أن العزى واللات ومناة الثالثة هي أعظم أصنام العرب، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، ومع أنها كانت معظمة جداً عند العرب إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكترث ولم يخش من أن تجتمع عليه العرب بأجمعها، فجعلها كلها جذاذاً ولم يدع منها شيئاً. وروى البخاري في مغازيه قال: قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة -أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حزيناً من وجود هذا الصنم الذي يعبد من دون الله-؟ قال: فنفرت في مائة وخمسين راكباً فكسرناه) إلى آخر الحديث. وثقيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم صنمهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين، وألحوا على الرسول عليه الصلاة والسلام في أن يؤجل هدم الصنم ثلاث سنين، فأبى، فما برحوا يسألونه ويأبى عليهم، فألحوا على أن يؤجل تحطيمها سنة ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يدعها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما يهدمانها، فهدماها في مشهد عظيم. يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في فقه هذه القصة في زاد المعاد: ومنها هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير. وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله، ويشرك بأربابها مع الله، فإنه لا يحل إبقاؤها في الإسلام، ويجب هدمها. فإذاً رسولنا صلى الله عليه وسلم -أيضاً- هو محطم الأوثان والتماثيل.

موقفه صلى الله عليه وسلم من الصور والصلبان

موقفه صلى الله عليه وسلم من الصور والصلبان وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه فهتكته، ثم قال: إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله). وروى ابن أبي شيبة عن أسامة رضي الله عنه قال: (دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، فرأيت في البيت صورة، فأمرني فأتيته بدلو من الماء، فجعل يضرب تلك الصورة ويقول: قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون)، ولم يصل النبي عليه الصلاة والسلام داخل الكعبة إلا بعد أن أزيلت منها هذه الصور. فأين موقف ذلك الشخص المستنير المثقف الذي يشتكي أن أحد قوات طالبان صلى في بيته، ثم أعاد الصلاة وشك في صحتها؛ لأنه كان هناك تماثيل في الحجرة بعد أن اكتشف الأمر، في صيغة التهكم والتحقير؛ أين هو من فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟! ودائماً يتكلمون معنا باستعلاء، وإذا قالوا كلمة: (سلفية) فبالاحتقار والازدراء، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فكيف إذا كان هذا هو المحق وأنت المبطل المدافع عن الأوثان؟! فهذا يتكلم بنوع من الأنفة والغرور والاستعلاء بأن هؤلاء أناس متخلفون وجهلة! وعن أبي محمد الهذلي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا قبراً إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله. فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع، فقال علي رضي الله عنه: أنا أنطلق يا رسول الله. قال: فانطلق. فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله! لم أدع بها وثناً إلا كسرته، ولا قبراً إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها). وروى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه) وبوب عليه البخاري رحمه الله تعالى: (باب نقض الصور). وروى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ما هذا يا عدي؟! اطرح عنك هذا الوثن) أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن ابن مريم أن ينزل حكماً مقسطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).

بين العقيدة والفتوى في التماثيل والصور

بين العقيدة والفتوى في التماثيل والصور تكسير الأصنام والأوثان حث عليه الشرع أولاً بدلالة السنة، حيث كسر الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه الأصنام كما في فتح مكة، وكذلك بعثه للسرايا لكسر الأصنام الأخرى، والأمر المطلق للصحابة بكسر الأصنام، وبيان أنه بعث لكسر الأصنام، وهتكه للصور التي رآها. أما ما يذكره هؤلاء الناس فنحن نقول لهم باختصار شديد: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وهناك أمر يعبر عنه الأجانب باصطلاحين مهمين جداً في هذه المسألة، وهو الشيء التكتيكي والاستراتيجي، فالتكتيكي هو مثل الفتوى عندنا، الفتوى من حيث مطابقتها وملاءمتها مع الواقع، والاستراتيجي يعني أنه عقيدة وفكر لا يتغير أبداً، ولا يتنازل الإنسان عنه. ففي هذه القضية جانب فقهي نظري -الذي هو الاستراتيجي من ناحية العقيدة والأدلة- فهو الحكم الشرعي، وهناك جانب واقعي تطبيقي -وهو التكتيكي- وهو ربط ذلك الأمر بالواقع، وهذا ما سنوضحه إن شاء الله تعالى فيما بعد. فنحن نقول لهؤلاء: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يليق أن يأتي بعد ذلك من يفرض علينا انهزاميته أمام الغرب بحجة مجاراة العصر والحضارات الكافرة، وينسى أنه قد وافق الكفار ووقف معهم في خندق واحد للأسف الشديد. وهذه الشبه التي يلقونها على المسلمين هي لتخذيل أمة الإسلام عن أن تتم رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص:86]، ويقول تعالى على لسان موسى عليه السلام: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، وقال تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:107]، وقال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

أقوال السلف ومواقفهم تجاه الصور والتماثيل

أقوال السلف ومواقفهم تجاه الصور والتماثيل وهنا نذكر بعض أقوال السلف الصالح رحمهم الله في هذه المسألة: فقد روى ابن أبي شيبة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يصلي إلى تابوت فيه تماثيل، فأمر به فحك. أي أزيلت هذه التماثيل. وروى البيهقي في سننه عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رجلاً صنع له طعاماً فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم. فأبى أن يدخل حتى كسر الصورة ثم دخل. وروى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة أنه دخل على عبد الله بن عباس يعوده، فرأى عليه ثوب إستبرق، فقال: يا ابن عباس! ما هذا الثوب؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: وما هو؟ قال: الإستبرق. قال: إنما كره ذلك لمن يتكبر فيه. قال: ما هذه التصاوير في الكانون؟ فقال: لا جرم، ألم تر كيف أحرقتها بالنار؟ فلما خرج قال: انزعوا هذا الثوب عني، واقطعوا رءوس هذه التصاوير التي في الكانون. وروى ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين أنه كان لا يُترك لأهل فارس صنماً إلا كسر، ولا ناراً إلا أطفئت. وروى أبو الشيخ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عدي بن أرطأة أن يمحو التماثيل المصورة.

المذاهب الفقهية وموقفها من التماثيل والصور

المذاهب الفقهية وموقفها من التماثيل والصور

المذهب الحنفي

المذهب الحنفي ولا بأس -أيضاً- أن نذكر أقوال بعض الفقهاء، وهي كثيرة جداً في المذاهب الأربعة المتبعة: جاء في (مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر) قوله في الشريعة: (قتل الكفار ونحوه إلى قوله: وكسره أصنامهم). والمراد الاجتهاد في تقوية الدين. أما السرخسي فقد قال في شرح السير الكبير: ولو وجدوا في الغنائم صليباً من ذهب أو فضة أو تماثيل أو دراهم أو دنانير فيها التماثيل، فإنه ينبغي للإمام أن يكسر ذلك كله. وقال الملا علي القاري في (مرقاة المفاتيح): قال العلماء: التصوير حرام، والمحو واجب حيث لا يجوز الجلوس في مشاهدته. وفي الفتاوى الهندية: إن وجدوا في الغنيمة قلائد ذهب أو فضة فيها الصليب والتماثيل، فإنها يستحب كسرها قبل القسمة. ونقل الملا علي القاري الحنفي في المرقاة قول العلماء بوجوب محو الصور.

المذهب المالكي

المذهب المالكي وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] في هذه الآيات الدليل على كسر نصب الأوثان إذا غلب عليهم. أي: إذا تمكن المسلمون. وقال أيضاً: ما ذكرنا من تفسير الآية ينظر قوله عليه الصلاة والسلام: (والله لينزلن عيسى بن مريم حكماً عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) والحديث في الصحيحين. يقول القرطبي: ومن هذا الباب هتك النبي صلى الله عليه وسلم الستر الذي فيه الصور، وذلك أيضاً دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا، وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها، ويجب التغيير على صاحبها إلخ. وقال الخرشي في (شرح مختصر خليل) في تكسير الأوثان: ومثله الصليب إذا أظهروه في أعيادهم واستسقائهم.

المذهب الشافعي

المذهب الشافعي والعز بن عبد السلام يقول: محو الكفر وإزالته من قلوب الكافرين ومن ألسنتهم إلى أن قال: وكسر صلبانهم وأوثانهم. وقال أبو يحيى الأنصاري الشافعي في (أسنى المطالب) في كتاب الغصب، باب الضمان: ويلزم المكلف القادر كسر الأصنام. ثم نقل عن صاحب الإحياء أنه قال: ليس لأحد أن يمنع أحداً من كسرها، وإن الصبي غير المكلف مأجور على كسرها. وقال الهيتمي: والأصنام والصلبان وآلات الملاهي والأواني المحرمة لا يجب في إبطالها شيء لوجوبه على القادر عليه. وقال الأنصاري: يلزم المكلف القادر كسر الأصنام.

المذهب الحنبلي

المذهب الحنبلي أما الحنابلة فيقول ابن القيم في الطرق الحكمية: المنكرات من الأغاني والصور يجوز إتلاف محلها تبعاً لها، مثل الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجراً أو خشباً أو نحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها. وذكر حديث أبي الهياج الأسدي، ثم قال: وهذا يدل على طمس الصور في أي شيء كانت، وهدم القبور المشرفة وإن كانت من حجارة أو آجر أو لبن، قال المروذي: قلت لـ أحمد: الرجل يكتري البيت فيرى فيه تصاوير، ترى أن يحكها؟ قال: نعم. وحجته هذا الحديث الصحيح. وذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، وحديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة)، كذلك حديث نقض التصاليب، وحديث نزول المسيح عليه السلام. ثم يقول: فهؤلاء رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -إبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم- كلهم على محق المحرم وإتلافه بالكلية، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، فلا التفات إلى من خالف ذلك. وقال في روضة المحبين: وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له. وقال الإمام ابن القيم -أيضاً- في زاد المعاد: لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً؛ فإنها شعار الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها ألبتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركاً عندهم، والله المستعان.

المذهب الظاهري

المذهب الظاهري يقول ابن حزم في (المحلى): ومن كسر إناء فضة أو إناء ذهب فلا شيء عليه، وقد أحسن؛ لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وكذلك من كسر صليباً. وقال: وإنما الواجب في الآنية المذكورة والصلبان والأوثان الكسر.

الإسلام عدو الأصنام [2]

الإسلام عدو الأصنام [2] جرت أقلام بعض المنتسبين إلى الإسلام تبيح وتحلل وتفتري وتكذب زوراً باسم الإسلام في قضية هدم تمثالي بوذا. ولقد اتكأ أصحابها في أقاويلهم الباطلة على جملة من الشبه، وظنوا أن باطلهم سينفق، فافتروا على الصحابة الفاتحين، بل وافتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يأت لهدم التماثيل قصداً كما فعلت حركة طالبان حين هدمت التمثالين. ولكن أنى لهم الوصول إلى أغراضهم وألسن العلماء لهم بالمرصاد؟! فلا يصح القول بأن الهدم كان للأصنام المعبودة في مكة أو المدينة أو الجزيرة العربية، وأبقيت التماثيل التي لم تعبد من دون الله.

شبهات المخالفين في هدم الأصنام

شبهات المخالفين في هدم الأصنام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فننتقل إلى الكلام عن شبه القوم في هذه المسألة. وفي الحقيقة أنّ هؤلاء أشبه بالحرباء، فالأسلوب المتبع عندهم ليس أسلوب العالم أو الباحث النزيه، بل هو الكلام الحاوي نوعاً من الحيل في طمس الحقيقة، وكنا نود أن يكون هناك محامون غير هؤلاء الناس عن التماثيل.

دعوى ترك الصحابة الفاتحين مصر هدم الأصنام

دعوى ترك الصحابة الفاتحين مصر هدم الأصنام يقول أحدهم: وهو يتكلم بمنتهى الجزم والقطع والحث: المسلمون عندما دخلوا مصر مع عمرو بن العاص لم يطمسوا التماثيل -وانظر إلى الكلام المحرف-، كان منهم عشرات من الصحابة، كان فيهم البدريون والأنصار وحفاظ القرآن، ومنهم الرجل الذي بثلاثة آلاف ولم يطمسوا تمثالاً قط. وسنجيب بالدليل عليه، ونقول له: بل العكس، فمتى رأوا تمثالاً أو وثناً استطاعوا هدمه هدموه، فأثبت أنت العكس! فعندنا نحن الأسانيد وقد ذكرناها، أما هو فلم يأت بدليل. وهذا الدكتور قال كلاماً، فمن ضمن الكلام أنه بعدما قال إن الصحابة دخلوا مصر ولم يطمسوا تمثالاً قط قال: لم يطمسوا تمثالاً قط، إنما كان الذي طمس التماثيل هم النصارى الذين دخلوا مصر، فوجدوا الفراعنة قد صنعوا تماثيل، ومن زار منطقة الصعيد والأقصر -خاصة- فهناك معابد مصرية قديمة فيها التمثال بصورته الأصلية، وفيها التمثال مطموساً وجهه ومرسوماً عليه الصليب؛ لأن النصارى لما دخلوا رأوا أن هذه التماثيل تناقض عقيدتهم فطمسوها. وهذا شيء يخجل، فهو الذي قال هذا الكلام بالحرف، ويقول: لأن النصارى لما دخلوا رأوا أن هذه التماثيل تناقض عقيدتهم فطمسوها. مع أنه واضح أن هؤلاء النصارى لم يكونوا على الدين الحق؛ لأن النصارى عباد صلبان، ومع ذلك كيف يقال: رأوا التماثيل تناقض عقيدتهم فطمسوها؟! يقول: وبعض التماثيل مطموس منها الوجه الفرعوني ومركب عليه وجه الإسكندر الأكبر؛ لأن هؤلاء من أتباع الإسكندر فصنعوا هذا، ففكرة تدمير ما كان سابقاً فكرة غير إسلامية، أي: فكرة صنعها غير المسلمين. ونقول: بل أمر بها الله، وصنعها رسوله عليه الصلاة والسلام، وصنعها إبراهيم ونوح وأنبياء الله أجمعين. وإذا أردتم التدليس فهاتوا القضية مجتمعة لنناقش، فالقضية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

دعوى هدم المسلمين الأصنام المعبودة وتركهم تماثيل الآثار

دعوى هدم المسلمين الأصنام المعبودة وتركهم تماثيل الآثار ومن مغالطات هؤلاء الكلمة التي يكررونها دائماً وكل حين، حيث يتكلمون عما عليه الناس باعتباره حجة، فيقولون: المسلمون دخلوا وما فعلوا، وكان المسلمون وما زالت هناك تماثيل إلخ. وكان هناك مسجد بين تمثالين كبيرين في الأقصر، وأن ذلك المسجد هدم كان فيها فتن. ونحن نقول: الذي هدم المسجد إنما هدمه لأنه قال: لا يجوز أن يقام مسجد أمام التمثالين. ثم أعيد بعد ذلك تحديثه. فهم يدندنون على أن المسلمين لم يمسوا الأصنام بسوء، وقد علم بالاستقراء أنّ هذا الكلام مزيف، وهذه دعوى زائفة وكذب وتضليل وخداع، فإذا كان العلماء لم يوافقوا الإمام مالكاً رحمه الله تعالى -وهو إمام دار الهجرة- في اعتبار أن عمل أهل المدينة حجة كحجة الإجماع، فكيف بغير أهل المدينة؟! فالمغالطة هنا أنهم يضحكون على الناس، والناس معظمهم عوام لا يفهمون، لكن المتخصصين لا ينطلي عليهم هذا الدجل؛ لأن الأدلة الشرعية لها ترتيب في القرآن، فهناك أدلة متفق عليها، وهناك أدلة مختلف في حجيتها، فالأدلة المتفق عليها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم الأدلة المختلف عليها معروفة، وهي أدلة كثيرة. وعمل الناس في الواقع ليس من ضمن الأدلة المختلف عليها، فلا أحد يستطيع أن يدعي أن الناس معصومون، والبدع كانت قد حصلت في أواخر عهد الصحابة، ونشأت بعد ذلك حركات كثيرة في الإسلام، فالناس غير معصومين. ولقد عرضت أمام بعض الفقهاء الكبار في المدينة -أعني علماء التابعين- قضية معينة، فقال أحد الحاضرين: ليس على هذا عمل الناس. فرد عليه أحد الأئمة فقال: أرأيت إن كثر الجهال حتى كانوا هم الحكام، أهم الحجة على السنة؟ فالحجة إنما هي في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فإذا أردت أن تقيم دليلاً فاحصر نفسك في داخل الأدلة الشرعية، أو على الأقل هات الأدلة المختلف في حجيتها، ولكن لا تأت بدليل ليس هو من الأدلة الشرعية، فينبغي أن ننتبه إلى هذا، فالقول بأن الناس عملوا، وإن المسلمين أقروا هذه الأشياء وهي موجودة في بلادهم ولم يمسوها بسوء، لا يصح هنا؛ لأن المسلمين ليسوا معصومين كأفراد من الناس؟! فالحجة في إجماع المجتهدين. وبعض أولئك وصل به الدجل إلى أن قال: حتى الإمام محمد عبده عندما زار صقلية ورأى هذه التماثيل النصرانية أشاد بها وقال: إنها ليست للعبادة. فأنت تأتي برجل متأخر تقدمه على كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام وكلام السلف الصالح والصحابة! فهذا نوع من الدجل فيه قصد تلبيس بالدليل الشرعي، والدليل الشرعي ليس كلام أي أحد كما يريدون أن يفعلوا، بل الدليل الشرعي إما الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، أما أن تتشبث بكلام الناس وأفعال الناس فهذا من الدجل في الحقيقة.

موقف الإسلام من التراث

موقف الإسلام من التراث وهنا أمر مهم جداً ينبغي أن ننتبه له، وهو كلمة قالها وزير خارجية طالبان -وهو وكيل أحمد المتوكلي - بمنتهى الدقة، قال: نحن نقر أن التماثيل جزء من تراث أفغانستان، ولكننا سنتخلص من ذلك الجزء من تراثنا الذي يتعارض مع عقيدتنا. كلمة حكيمة في الحقيقة، فصحيح أن ذلك تراث، لكن ذلك التراث سنعمل له تصفية بحيث نبقي ما لا يتعارض مع العقيدة، بل يتوافق معها. فوجود هذه الآثار فيه عظة لمن يعتبر، ولذلك أمر الله بالنظر في آثار السابقين لأنها عبرة؛ لأنهم كانوا أشد منا قوة، فلما عتوا عن أمر ربهم نزل بهم العذاب واستأصلهم، فتلك ديارهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً. فالتعميم كذلك فيه نوع من الظلم، والموقف واضح للغاية، فالتراث عندنا يفرز، فما يتعارض مع العقيدة يزال، وما لم يتعارض مع العقيدة فلا بأس به، لذلك ترك الصحابة أشياء غير التماثيل، وإلا فلن يعجزوا عن تحطيمها كما سنبين إن شاء الله تعالى. ولذلك أعلنت طالبان نفسها أنها لن تدمر الآثار القديمة التي ليست على شكل تماثيل، وأعيد عبارة وزير خارجية طالبان، يقول: نحن نقر أن التماثيل جزء من تراث أفغانستان، ولكننا سنتخلص من ذلك الجزء من تراثنا الذي يتعارض مع عقيدتنا. ومن الأشياء التي لا يعلمها كثير من الناس أن الجزيرة العربية مليئة بالآثار، فنحن نتكلم عن أماكن الآثار كالأقصر وأماكن الفراعنة الكبيرة، بينما في الجزيرة العربية في منطقة ديار ثمود عجائب وعجائب، فديار ثمود -قوم صالح- نفسها موجودة، والذي يذهب من مصر أو الشام إلى الحجاز عن طريق البر يمر وهو على طريق المدينة فيجد السهم يؤدي إلى هذه الأشياء. ولقد رأيت بنفسي صوراً لديار ثمود، فالجبال نفسها منحوتة من الداخل -البيوت والسلالم والنوافذ- نحتاً عجيباً يدل على مدى قوة هؤلاء القوم الذين أهلكهم الله سبحانه وتعالى. فهذه آية من آيات الله، ولن نتكلم الآن في التفصيل في حكم زيارة هذه الأماكن؛ لأن هناك تفصيلاً فيها، لكننا ننبه على أن هذه الأشياء ما دمرها الصحابة، وهي موجودة، والرسول عليه الصلاة والسلام مر بها، وأمر الصحابة أن لا يمروا بهؤلاء المعذبين إلا أن يكونوا باكين. فهي موجودة وهي آثار، والرسول عليه الصلاة والسلام رآها، ولكن مر عليها بسرعة؛ لأنها ديار أولئك المعذبين، فهي لا تزال شاخصة موجودة في الجزيرة العربية. وكذلك بيوت اليهود في خيبر، ولقد دخلتها، فبيوت اليهود في خيبر على أطم عالٍ، وكان هناك ثقب في الأسلاك الشائكة فدفعني الفضول إلى أن أصعد إلى أن وصلت، وهي موجودة حتى الآن في خيبر، ولكن علماء السعودية -جزاهم الله خيراً- يقومون بواجبهم في الاحتياط الشديد من هذه الأشياء، ولذلك هي مهجورة. ومما يدل على حرصهم وانتباههم للوسائل التي قد تؤدي إلى محذور أنه حصل في يوم من الأيام أن بعض الناس من أصحاب النوايا الحسنة أتوا إلى بيت الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأعادوا بناءه من جديد بنفس اللبن الطيني الذي كان بني به، وأرادوا بذلك الاهتمام بتراث شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ونشر هذا الخبر في إحدى الصحف، فالعلماء بمجرد أن سمعوا ذلك أصدروا أمراً بهدم هذا البيت؛ لكي لا يفتح باب الغلو في شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وأمروا بأن يتخذ مكانه توسعة للشارع حتى ينسى تماماً موضوع بيت شيخ الإسلام، وممن أفتى بذلك الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ ابن باز رحمهما الله، وهناك أيضاً فتوى في موضوع دار الأرقم بن أبي الأرقم. ومما احتاطوا فيه كذلك موضوع المكان الذي ولد فيه النبي عليه السلام، وهو الآن المكتبة التي هي قريبة من الحرم، فهناك احتياط شديد لعقيدة الناس، والعلماء رأيهم أنه مهما أخذت من احتياطات فالجهال لا يقتنعون، ولعلك ترى بعينيك ما يفعلون أمام المقصورة النبوية، فالسياج من النحاس يتمسحون به، ويغافلون الحارس لكي يأخذوا قبلة، ويتمسحون بثيابهم. إلى آخر هذه الأشياء! فالغلو أصلاً موجود، والجهل شائع بين الناس، فلابد من الاحتياط في أمر العقيدة ما أمكن. وقد كتب فهمي هويدي للأسف الشديد، وأنا لا أعرف دراية فهمي هويدي بالفقه! ودعك من السياسة والتحليلات والكلام كله، فما له وللفقه يتكلم فيه! فهو يضع نفسه في مواضع نسأل الله أن يسامحه فيها، ومن ذلك كلامه على الشيعة، والكلام كله غير صحيح، وكذلك كلامه في موضوع الأصنام حيث يقول كلاماً غريباً، يقول: وبعض الصحابة الذين دخلوا إلى مصر ذهبوا إلى الأهرامات وكتبوا أسماءهم عليها، وكأنه يرى أنهم أصحاب ذكريات، ولم يبق لهم إلا أن يرسموا عليها قلوباً تخترقها أسهم كما يصنع الشباب اليوم!

دعوى العلمانية بطروء الإسلام بعد وجود الأصنام ودحضها

دعوى العلمانية بطروء الإسلام بعد وجود الأصنام ودحضها من الملاحظ في سياق كثير من الكاتبين -وخاصة العلمانيين- أنهم دائماً يكررون عبارة موهمة، كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، يقولون: هذه كانت موجودة قبل دخول الإسلام. أي أنها قبل أن يأتي الإسلام كانت موجودة، فهذا الأصل وأنتم أناس طارئون ودينكم كذلك. ونقول: إن الإسلام الذي نزل إلى الأرض ليس هو دين محمد عليه الصلاة والسلام فقط، بل الإسلام هو دين البشرية كلها منذ أن أنزل الله آدم إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالإسلام دين شامل، وليس رسالة خاصة بدئت برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام. ثم أين روح الغيرة وروح الانتماء للإسلام؟! فالقائل: هذه موجودة قبل أن يأتي إسلامكم إلى بلادنا أو إلى هذه البلاد له روح ليس فيها انتماء للإسلام ولا غيرة ولا حمية، والله المستعان! ولو انقلب الأمر وصار المسلمون أهل التمكين وأهل الغلبة على وجه الأرض، فماذا سيفعل هؤلاء الناس؟! إنهم سيقلدون الأغلب والأقوى. مضطر أيضاً للإطالة هنا في هذه الجزئية قليلاً، وأبتدئها بترديد قول الشاعر: اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ظل قوم ليس يدرون الخبر فقضية التوحيد كانت لها أولوية مطلقة عند سلف الأمة، فلذلك عندما فتحوا البلاد كان أول أمر عملوه هو تطهير تلك البلاد المفتوحة من درن الوثنية، فهذا هدف واضح في القرآن، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] والفتنة هنا هي الشرك. والذين يدعون قائلين: لماذا لا تأتون بأدلة من التاريخ على ما صنع الفاتحون؟ نقول لهم: الكلام الحقيقي كلام العلماء الذين هم بحق وحقيقة علماء وليسوا كذبة غاشين. إن الصحابة والسلف لما فتحوا بلاد الدنيا كانوا يهتمون بتطهير البلاد من هذه الأوثان، فالإتيان بشواهد تؤيد هذا المعنى -أيضاً- مما يرد ويبطل كلام بعض الناس بأن تحريم الصور - التماثيل- كان في أول الإسلام لقرب العهد بالوثنية، فلما اشتهر الإسلام وتمكنت العقيدة نسخت هذه العلة.

الهوية الوطنية لدى الصحابة وموقفهم بعد الإسلام منها

الهوية الوطنية لدى الصحابة وموقفهم بعد الإسلام منها وهنا أمر مهم جداً -أيضاً- نحب أن ننبه إليه، وهو متعلق بموضوع الهوية، فالمسلمون الفاتحون الأوائل، سواء أوائل المسلمين الذين دخلوا في الإسلام مثل الصحابة رضي الله تعالى عنهم من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعد ذلك في الدخول إلى الإسلام، أو التابعين، كيف كانوا قبل الدخول في الإسلام؟ كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، وكانوا كفاراً مشركين إلا القليل، فهؤلاء كانت لهم هوية وطنية، وهوية قومية، وتراث حضاري، وكانوا معتزين جداً باللات والعزى، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها لما كان القرآن ينزل بشتم وتسفيه آلهتهم، فكان لهم وطنية وقومية ووثنية وأصنام خاصة بهم، وكانوا يقدسون الأوثان ويعبدونها من دون الله، فهم لهم هوية أيضاً، وهو نفس القاسم المشترك الموجود الآن، لكن لما أتى الإسلام عرفوا أن الإسلام أتى لينسخ ويقضي على ما خالفه. ونحن ندخل مع جميع العلمانيين، ونعيش معهم نفس دورهم، وننسى أن الذي يسمونه حضارة إنما ينفخون فيه قائلين: (هذه هي الحضارة). وهذه الدنيا كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فهي كلها إلى زوال، فأي حضارة يقصدون؟! إنهم يقولون: الحضارة والإنسانية مجرد نفخ في أشياء؛ لأن هؤلاء أناس غربيون أفئدتهم خواء وعقولهم فارغة، فهم أحياناً يعظمون أشياء بطريقة تدل على تخلفهم عقلياً، كموضوع الكلاب مثلاً، أي: تعظيم الكلاب. وقد كنت مرة في أمريكا في الطريق العام في الليل تقريباً، ففوجئت بقوات الإطفاء والشرطة والزحام، وكان المرور متوقفاً، وكان الأمر كبيراً جداً، ثم ظهر في آخر الأمر أن ذلك بسبب قط أو كلب صدمته سيارة، ليظل المرور قرابة ساعتين متوقفاً. والناس الذين عاشوا في تلك البلاد يعرفون هذا الأمر، يعرفون اهتمامهم الشديد بموضوع الحيوانات والرفق بالحيوان، ويراد منهم أن يعملوا شيئاً اسمه الرفق بالإنسان، أي: الإنسان المسلم الذي يعذبونه في شتى بقاع الأرض. فعندهم أشياء سخيفة يبالغون فيها، ومن ذلك أنهم يورثون الملايين للكلاب، فالكلب يرث، ويحرم المورث أولاده، فهؤلاء أناس انتكسوا في العقول والقلوب، ولا يصلحون أن يكونوا قدوة على الإطلاق، فالوجه الحقيقي للغرب -الوجه القبيح- ينبغي أن يكشف لهؤلاء المخدوعين بالغرب بالصورة التي هم عليها. وإذا كان الإسلام قد أبطل الشرائع السماوية السابقة فكيف لا يبطل الأديان الباطلة والوثنية، فالإسلام يأتي بكل خط فاصل في حياة كل من ينتمي إليه، بحيث يفترق المستقبل عن الماضي تماماً، بخط فاصل، ومحطة فاصلة بين الماضي وبين الحاضر، فهكذا كل المسلمين الصادقين كانوا يفصلون بين الماضي والحاضر إذا دخلوا في الإسلام.

مواقف الفاتحين المسلمين من الأصنام

مواقف الفاتحين المسلمين من الأصنام جاء في (معجم البلدان) أنه لما غلب عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب على ناحية سجستان في أيام عثمان رضي الله عنه سار إلى الدوار، فحاصرهم في جبل الزون، وكان على الزون صنم من ذهب، فقطع يديه، وقطعه المسلمون وكسروه. والقائد الفاتح محمد بن القاسم رحمه الله تعالى لما فتح بلاد السند حصل أنه في أثناء فتح إحدى مدن تلك البلاد علم أن في المدينة معبداً يقدسه الهندوس، وأن أهل المدينة يعتقدون أن مدينتهم ستفتح على يد جنود يسقطون العلم المثبت فوق المعبد، فقرر ابن القاسم الاستفادة من هذا الاعتقاد، فوجه المنجنيق الضخم إلى ذلك المعبد، وأمر قائد المنجنيق جعوبة السلمي بضرب ذلك العلم، ووعده بعشرة آلاف درهم جائزة له إذا أصاب الهدف، ونجح القائد، وتم ضرب العلم ودك المعبد، فهاج الكفار وخرجوا، فناهضهم المسلمون حتى هزموهم وردوهم. فهذا -أيضاً- بلغة العولمة عدوان على التراث الإنساني. والقائد محمود الغزنوي الذي عاش في نهاية القرن الرابع، وقال عنه ابن كثير رحمه الله: الملك الكبير المجاهد الغازي. وكان يحب العلماء والمحدثين، ويحب أهل الخير والدين- حينما غزا الهند كسر صنمهم الأكبر سنة أربعمائة وست عشرة من الهجرة، رغم أن عابدي هذا الصنم دفعوا له وبذلوا له وزنه ذهباً من أجل أن لا يهدم هذا الوثن، ومع ذلك هدمه رحمه الله تعالى. وذكر ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس: أن أهل بلخ كان لهم صنم بناه بنو شهر، فلما ظهر الإسلام خربه أهل بلخ. وكذلك ما فعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من تحطيم الأصنام والأوثان في عصره، وهو أمر معروف مشهور. ويروي ابن كثير قصة فتح سمرقند بقيادة قتيبة بن مسلم فيقول: واقترب من المدينة العظمى التي بالصغد -وهي سمرقند- فنصب عليها المجانيق فرماها بها، وهو مع ذلك يقاتلهم لا يقلع عنهم، وناصحه من معه عليها من بخارى وخوارزم فقاتلوا أهل الصغد قتالاً شديداً، فأرسل إليه غورك ملك الصغد: إنما تقاتلني بإخواني وأهل بيتي -يعني المسلمين الذين انضموا إليه- فاخرج إلي في العرب. فغضب عند ذلك قتيبة، وميز العرب من العجم، وأمر العجم باعتزالهم، وقدم الشجعان من العرب، وأعطاهم جيد السلاح، وانتزعه من أيدي الجبناء، وزحف بالأبطال على المدينة، ورماها بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة -أي: فتحة- فسدها الترك بغرار الدخن، وقام رجل منهم فوقها. فجعل يشتم قتيبة، فرماه رجل من المسلمين فقلع عينه حتى خرجت من قفاه، فلم يلبث أن مات قبحه الله، فأعطى قتيبة للذي رماه عشرة آلاف، ثم دخل الليل، فلما أصبحوا رماهم بالمجانيق فثلم -أيضاً- ثلمة، وصعد المسلمون فوقها، وتراموا هم وأهل البلد بالنشاب، فقالت الترك لـ قتيبة: ارجع عنا يومك هذا، ونحن نصالحك غداً. فرجع عنهم، فصالحوه من الغد على ألفي ألف ومائة ألف يحملونها إليه كل عام، وعلى أن يعطوه في هذه السنة ثلاثين ألف رأس من الرقيق ليس فيهم صغير ولا شيخ ولا عيب -وفي رواية: مائة ألف من الرقيق، وعلى أن يأخذ حلية الأصنام وما في بيوت النيران، وعلى أن يخلوا المدينة من المقاتلة حتى يبني فيها قتيبة مسجداً ويوضع له فيه منبر يخطب عليه ويتغدى ويخرج، فأجابوه إلى ذلك. فلما دخلها قتيبة دخلها ومعه أربعة آلاف من الأبطال، وذلك بعد أن بنى المسجد، ووضع فيه المنبر، فصلى في المسجد وخطب وتغدى، وأُتي بالأصنام التي لهم فسلبت بين يديه، وألقيت بعضها فوق بعض حتى صارت كالقصر العظيم، ثم أمر بتحريقها، فتصارخوا وتباكوا، وقال المجوس: إن فيها أصناماً قديمة من أحرقها هلك. أي أن هذه الآلهة قادرة على ضر من يؤذيها، فلو حرقتها ستموت وستمسك آلهتنا بسوء. قال: فتصارخوا وتباكوا، وقال المجوس: إن فيها أصناماً قديمة من أحرقها هلك. وجاء الملك غورك فنهى عن ذلك، وقال لـ قتيبة: إني لك ناصح -يعني: إني خائف عليك-. فقام قتيبة، وأخذ في يده شعلة نار وقال: أنا أحرقها بيدي، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون. ثم قام إليها وهو يكبر الله عز وجل وألقى فيها النار فاحترقت، فوجد من بقايا ما كان بها من الذهب خمسين ألف مثقال من ذهب. فالشاهد أن قتيبة بن مسلم القائد الفاتح أحرق أصنامهم، فأين هذا من الذين يقولون: هذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك؟! ونحن نرى كيف كانت عزة المسلم في ذلك الزمان، وننظر اليوم إلى التمسح والتزلف على أعتاب الغرب والشرق! قال ابن خلدون رحمه الله تعالى في مقدمته: ولما فتحت أرض فارس وجدوا فيها كتباً كثيرة، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها ونقلها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن: اطرحوها في الماء؛ فإن يكن ما فيها هدىً فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفاناه الله. فطرحوها في الماء أو في النار، وذهبت علوم الفرس فيه دون أن تصل إلينا. فإذا كان هذا في شأن الكتب فكيف بالأصنام والمعبودات؟!

ردود على شبهات المخالفين في هدم الأصنام

ردود على شبهات المخالفين في هدم الأصنام

الرد على دعوى عدم عبادة التماثيل في عصرنا

الرد على دعوى عدم عبادة التماثيل في عصرنا وقولهم: إنها ليست ذريعة للشرك ولا أحد يعبدها، غير صحيح؛ إذ إنه معروف جداً أن بوذا يعبد، والصنم يعبد، ولقد سمعت من أحد الإخوة من حلوان أن حديقة حلوان -التي أقامتها اليابان- فيها تماثيل بوذا، وإنه تأتي مجموعات من اليابانيين لتعبد هذه التماثيل، فهم يعبدون الأصنام والتماثيل حقيقة، فهي معبودة بالفعل، فهي مثل اللات والعزى ومناة بالنسبة للعرب.

الرد على دعوى ما ترك المسلمون هدمه من التماثيل

الرد على دعوى ما ترك المسلمون هدمه من التماثيل أما الأشياء التي تركها المسلمون ولم يهدموها فهي -كما يقول بعض العلماء- على أقسام: الأول: ما كان من هذه التماثيل داخلاً في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، أي: حصل صلح واتفاق بين المسلمين وبين أهل هذه البلاد من الكفار فتركوا لهم تماثيلهم وأوثانهم وصلبانهم بشرط عدم إظهارها. فالإسلام يصبغ المجتمع بصبغة الله {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]، والإسلام يحرص على الظاهر العام، فالظاهر لا يكون فيه ما يناقض شريعة الإسلام. فأقروا على ما كان داخل معابدهم بشرط أن يكون عن صلح وعهد، فالمسلمون يحترمون عهودهم ولا يحترمون الأوثان، فهم يحترمون شرع الله الذي يلزمهم باحترام العهود والمواثيق، فما كان في الداخل وغير ظاهر لا ينكر عليهم، ولا يمس بسوء. ففي الشروط العمرية -المعروفة- على أهل الذمة: وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، وأن لا نخرج صليباً ولا كتاباً في أسواق المسلمين إلى آخره. القسم الثاني: أن تكون هذه التماثيل من القوة والإحكام بحيث يعجز المسلمون عن هدمها وإزالتها، فهناك تماثيل هائلة منحوتة في الصخور وفي الجبال لا يستطاع إزالتها أو تغييرها، ولذلك يقول ابن خلدون في مقدمته: إن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان. يعني التي تستغرق قروناً أحياناً لكي تبنى، مثل الصنمين في باميان في أفغانستان، فقد بنيا في قرنين، يتعاقبون على نحتها مائتي سنة. وفي مدينة ميلانو في إيطاليا توجد كنيسة هناك مشهورة بنيت في خمسمائة سنة! وكان على قمتها صنم من الذهب وضعوه فطمس، لكن ليس المسلمون الذين طمسوه، وإنما جاءت عصابة المافيا بالطيارة فسرقته. وهذه الأشياء المنحوتة العظيمة تجعل بعض الناس يفترض أن الجن هي التي صنعت لهم هذه التماثيل من صعوبة نحت الجرانيت، فالجرانيت ينحتونه كتلة واحدة كما هو معروف، فـ ابن خلدون يشير إلى هذا، يقول: إن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان. قال: لذلك نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها، مع أن الهدم أيسر من البناء؛ هذا كلام ابن خلدون في مقدمته. وذكر مثالاً أن الرشيد عزم على هدم إيوان كسرى، فشرع في ذلك، وجمع الأيدي، واتخذ الفئوس، وأصلاه بالنار، وصب عليه الخل حتى أدركه العجز. وذكر أيضاً أن المأمون أراد أن يهدم الأهرام في مصر فجمع الفعلة ولم يقدر. وما يقال من أن عمرو بن العاص رضي الله عنه ترك أصنام مصر كأبي الهول وغيره فذلك غير صحيح، إذ لم يثبت أنها لم تكن مطمورة بالأتربة، وهذا شيء معروف جداً، يدل عليه موضوع النشاط المحموم في استخراج التماثيل منذ قرن أو قرن ونصف في مصر لما نشأت عملية البحث عن هذه الآثار. ففي مصر قامت الحملة الفرنسية في الأهرامات، وحين ترى صورة أبي الهول ترى أن أبا الهول ليس كاملاً، والصور الموجودة مرسومة بخط اليد منذ زمن، فأبو الهول كان لا تزال أجزاء منه مخفية تحت الرمل، فإما أن الصحابة لم يروا هذه التماثيل، وإما أنهم رأوا هذه الأصنام ولم يقدروا على تحطيمها، وهذا عذر يعذرون به؛ لأن طالبان لما حاولت تحطيم هذه الأصنام كيف حطمتها؟ أعدت الديناميت والمتفجرات والمدافع وأشياء حديثة جداً، فكيف بعصر كان السلاح هو القوس والسيف والرمح ونحو هذه الأشياء؟ فهل سيقدرون على أن يحطموا هذه الأشياء؟ وهل كل بلاد يفتحونها يظلون فيها لكي يشتغلوا بهذا ويتركوا امتداد النور لآفاق الأرض؟! إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر عمرو بن العاص رضي الله عنه على سرية لكسر بعض أصنام العرب، فكيف يدعي هؤلاء الناس أن عمراً أقر الأصنام اعتقاداً منه بجواز تركها؟! و A لا؛ إذ يمكن أن يكون تركها عجزاً عن ذلك، لكن اعتقاد هذا افتراء شديد على عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، ولو قيل: إن هذا رأي لـ عمرو بن العاص فأسوتنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعروف التفصيل في قول الصحابي، فقول الصحابي الذي يحتج به هو ما لم يخالف قول النبي عليه الصلاة والسلام. وكذلك يحتمل أنها كانت مطمورة تحت الأرض، أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات، فمعمل أبي سنبل ألم يكن مطموراً بالرمال مع التماثيل والأصنام إلى ما قبل قرن أو نصف قرن تقريباً؟! وهذا المقريزي المتوفى سنة (745هـ) يقول في الخطب في الجزء الأول: إن أبا الهول مغمور تحت الرمال -أي: في وقت المقريزي - لم يظهر منه إلا الرأس والعنق فقط دون الباقي. وهذا بخلاف الحال اليوم. والزركلي سئل عن الأهرام وأبي الهول ونحوهما: هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال: كان أكثرها مغموراً بالرمال، ولاسيما أبا الهول. وهذا في كتاب عن شبه جزيرة العرب. فمن التطاول على خير القرون أن يفترى عليهم ويزعم ذلك الزعم على هذا النطاق.

الرد على دعوى هدم ما يعبد من التماثيل دون ما سواه

الرد على دعوى هدم ما يعبد من التماثيل دون ما سواه وشبهة أن التماثيل التي تحطم هي ما عبد من دون الله يرد عليها بأن سد الذرائع من أصول الشريعة أو من أدلة الشريعة، خاصة في باب التوحيد، فتحريمها من باب سد الذرائع. كذلك حديث جبريل عليه السلام لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقطع التمثال الذي في بيته، وما كان للعبادة بلا شك. ثم إن هذه التماثيل -كما قلنا- معبودة بالفعل، فهي تعبد بالفعل وتقدس، وكذلك تعظيم التمثال بطريقة عجيبة عندما يكون ارتفاعه يساوي سبعة عشر طابقاً، فتخيل تمثالاً بهذه الضخامة! أليس هذا نوعاً من التعظيم لما ينبغي أن يحقر؟! فاتخاذ صنم بهذا الحجم الضخم أليس فيه نوع من التعظيم له؟ بل هو تعظيم بلا شك، فلا شك أن هذا جاء استفزازاً لأي موحد. والدليل على تقديسهم وعبادتهم لها غضب هؤلاء البوذيين، حتى إنهم أحرقوا المصاحف -لعنهم الله- ثأراً لإلههم ولمعبودهم. أما قول البعض: إن هذه الأشياء لا تشكل خطراً على المسلمين فإننا نقول: فلماذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتحطيم الأصنام وكل ما يعبد؟! ونقول: هذا خطر على التوحيد، والمسلمون لا يخاطبون بالتوحيد أهل ملتهم فقط، وإنما كل البشرية. وبعضهم يقول: إن التمثال الحرام هو الذي صنعه المسلمون. ونقول: وهل هناك مسلم يصنع أصناماً؟! والأصنام التي حطمها الرسول عليه الصلاة والسلام هل كان واحد منها من صنع المسلمين؟! فهي من وضع الجاهليين.

الرد على دعوى تحطيم الأصنام لحداثة عهد الناس بالشرك

الرد على دعوى تحطيم الأصنام لحداثة عهد الناس بالشرك أما القول بأن التحطيم كان أولاً لحدوث عهد الناس بالشرك فقائلوه لا يعرفون أن يتصرفوا في الأحاديث، فيقولون: هذا كان في الأول سداً للذريعة؛ لأن الناس كانوا لا يزالون حديثي عهد بالتوحيد، فلما استقر التوحيد وقويت عقيدة الناس أبيح حدوث هذه الأشياء. ونقول: أين الناسخ؟ هاتوا دليلاً واحداً فقط على النسخ، ولا يوجد.

كلام العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في التماثيل

كلام العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في التماثيل وهنا أسوق كلام فخر الديار المصرية العلامة أبي الأشبال أحمد شاكر رحمه الله تعالى، فله كلام كأنه يعيش معنا في هذه الأيام، وله كلام في تعليقه على مسند الإمام أحمد. وانظر إلى روح الكلام والحمية والغيرة من عالم جليل، هو من أعظم علماء مصر، وهو من أعظم علماء الأزهر، وعالم جليل في مستوى الشيخ أحمد شاكر رحمه الله نفاخر به الدنيا. يقول: وفي عصرنا هذا كنا نسمع عن أناس كبار ينسبون إلى العلم ممن لم ندرك أن نسمع منهم أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله -بما فيه التماثيل الملعونة- تقرباً إلى السادة الذين يريدون أن يقيموا التماثيل تذكاراً لآبائهم المفسدين، وأنصارهم العتاة أو المنافقين، ثم تقرباً إلى العقائد الوثنية الأوروبية التي ضُربت على مصر وعلى بلاد الإسلام من أعداء الإسلام الغاصبين، وتبعهم في ذلك المقلدون والدهماء أتباع كل ناعق، حتى امتلأت بلاد المسلمين بمظاهر الوثنية السافرة من بناء الأوثان والأنصاب وتعظيمها وتبجيلها بوضع الأزاهير والرياحين عليها والتقدم بين يديها بمظاهر الوثنية الكاملة، حتى بوضع النيران أحياناً عندها، وكان من حجة أولئك الذين شرعوا لهم هذا المنكر أول الأمر أن تأولوا النصوص بربطها بعلة لم يذكرها الشارع، ولم يجعلها مناط التحريم، هي -فيما بلغنا- أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد الناس بالوثنية، أما الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل فقد ذهبت علة التحريم، ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان. ونسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة بالتقرب إلى القبور وأصحابها، واللجوء إليها عند الكروب والشدائد، وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر أصحابها، بل نسوا نصوص الأحاديث الصريحة في التحريم وعلة التحريم، وكنا نعجب لهذا التفكير العقيم والاجتهاد الملتوي، وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يسبقوا إليه وإن كان باطلاً ظاهراً بطلانه، حتى كشفنا بعد ذلك أنهم كانوا في باطلهم مقلدين، وفي اجتهادهم واستنباطهم سابقين، فرأينا الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد رحمه الله المتوفى سنة (702هـ) يحكي مثل قولهم، ويرده أبلغ رد وبأقوى حجة في كتابه (إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام) الجزء الأول، (ص:959 - 960) بتحقيق الأخ الشيخ حامد الفقي ومراجعتنا. وفي شرح حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله). فقال ابن دقيق العيد: وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان لقرب العهد من الأوثان، وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، وهذا عندنا باطل قطعاً؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، فإنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (المشبهون بخلق الله) وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن لا يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله. ثم قال الشيخ أحمد شاكر معقباً على كلام ابن دقيق العيد: هذا ما قال ابن دقيق العيد منذ أكثر من سبعين وستمائة سنة يرد على قوم تلاعبوا بهذه النصوص في عصره أو قبل عصره، ثم يأتي هؤلاء المفتون المضللون وأتباعهم المقلدون أو الملحدون الهدامون يعيدونها جذعة ويلعبون بنصوص الأحاديث كما لعب أولئكم من قبل، ثم كان من أثر هذه الفتاوى الجاهلية أن ملئت بلادنا بمظاهر الوثنية كاملة، فنصبت التماثيل وملئت بها البلاد تكريماً لذكرى من نسبت إليه وتعظيما، ثم يقولون لنا: إنها لم يقصد بها التعظيم، ثم ازدادوا كفراً ووثنية فصنعوا الأنصاب ورفعوها تكريماً لمن صنعت لذكراهم، وليست الأنصاب مما يدخل في التصوير حتى يصلح لهم تأويلهم، إنما هي وثنية كاملة صرف نهى الله عنها في كتابه بالنص الصريح الذي لا يحتمل التأويل. وكان من أثر هذه الفتاوى الجاهلية أن صنعت الدولة -وهي تزعم أنها دولة إسلامية في أمة إسلامية- ما سمته مدرسة الفنون الجميلة. وهي في العهد الملكي كان اسمها مدرسة الفنون الجميلة أو كلية الفنون الجميلة، صنعت معهداً للفجور الكامل الواضح. ثم بعدما ذكر بعض الأشياء السيئة مما يحدث في التصاوير في هذه الكلية قال: يقولون: إن هذا فن. لعنهم الله ولعن من رضي هذا منهم أو سكت عليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

تشبث المخالفين بالمصالح والمفاسد وموقفنا منه

تشبث المخالفين بالمصالح والمفاسد وموقفنا منه ومن الشبهات كلامهم على قضية المصالح والمفاسد، وهذه المسألة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقبل الكلام فيه، أما القول بأن الإسلام لا يحرم التماثيل وأن المسلمين أقروا ذلك فكل هذا دجل في دجل، لكن كون الدعوة تقتضي أن نتمهل وأن ننتظر، ويستدلون بقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فهذه عملية اجتهاد في المصالح والمفاسد، هذه وهي المنطقة المباحة فقط. أما أنهم يحاولون أن يغيروا عقيدة المسلمين تجاه الأصنام فهذا عدوان سافر على الشريعة، ونحن لا نريد الموضوع أن يتحول من تحطيم الأصنام إلى تحطيم الشيوخ والعلماء؛ لأن أعداء الإسلام حين يستدرجون العلماء أو يخدعونهم في مثل هذه المواقف إنما هم في كل حالة يكسبون الموقف، فهم يعرفون أن هذه المسائل يمكن أن تهبط هبوطاً حاداً بشعبية الداعية أو العالم المؤثر، فهم في الحالتين كاسبون، فلو حطموا العالم كسبوا، ولو أن العالم ساعد على الحفاظ على الأصنام لكسبوا أيضاً. فنحن لابد لنا من حسن الظن بالشيوخ، وحسن الظن يقتضي اعتبار الإعلان وسيلة غير آمنة في نقل وجهات نظر الشيوخ، وكم دلس الإعلام على الشيوخ، فالأصل هو حرمة الشيوخ والدعاة واحترامهم، إلا الذي نسمعه بأنفسنا يتكلم دون أن يكون هناك أحد يهدده أو يضغط عليه ويتبرع بتلوين الكلام، وهؤلاء غالباً ليسوا شخصيات رسمية، وإنما هم متطفلون على العلم. فالشاهد أن العلماء يجب حسن الظن بهم، والتأكد من صحة نسبة الكلام إلى أحدهم. وهنا أمثل بمثال: فـ القرضاوي تكلم ووضح موقفه وقال: لماذا تفترون علي؟ وقال: لقد ذهبت وكان وكان. أعلن أن تسعين في المائة حطمت فعلاً من حجم التمثالين، فقال: أنا سأذهب لكي أتناصح مع الإخوة لحل مشاكل إخواننا الأفغان ومعاناة الفقر وكذا وكذا. إلى آخر هذه الأشياء. فهذا ما قاله، وهو أنه يعرف أنه غير معقول أن يذهب ليدافع عن أصنام. فلسنا مع بعض الشباب الذين أطلقوا ألسنتهم بكلام بشع جداً ما كان ينبغي أن يقال. وعلى أي الأحوال فنحن نفرق بين الحكم والفتوى، فالحكم حكم الشرع الذي يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، والفتوى تطبيق الحكم على الواقع. مثلاً: عندما نسأل عن أكل الميتة نقول: ما حكم أكل الميتة؟ و A حرام. لكن عندما نسأل عن حالات معينة، كما لو أن الجائع لم يأكل من الميتة فسوف يموت فإنا نقول له: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، فهذه حالة ضرورة، فهنا لا نقول له: مباح أن تأكل بل نقول له: واجب عليك أن تأكل من الميتة. فانتقل الأمر من حرام إلى واجب لحفظ حياته. فالشاهد أن هذا من مرونة الشريعة، وأن قاعدة الشريعة أن التكليف منوط بالاستطاعة، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والمسلمون تطرأ عليهم حالات معينة يصعب وضعهم فيها، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يمر بالصحابة وهم يعذبون في مكة فيقول لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، وهو رسول الله المؤيد بالوحي، فما استطاع أن ينقذ هؤلاء المستضعفين، بل هو نفسه صلى الله عليه وسلم بقي في مكة والأصنام حول الكعبة، وبقيت إلى تأريخ مكة. فإذاً هناك فرق بين الحكم الشرعي الذي تكلمنا عنه، والفتوى هي التطبيق لهذا الحكم على الواقع، فالكلام على المصلحة الدينية هو القنطرة الوحيدة التي يمكن أن نلتقي فيها مع هؤلاء القوم. وبعض المتكلمين -وهو غير باحث- قال: إننا بهذا العمل فتحنا باباً لمفسدة عظيمة، فهو نظر إلى المفاسد في زعمه، ونحن نقول: مادام أنه يتكلم على مصالح ومفاسد فلا بد من أن نتأكد من المصالح ونعطي كل شيء حجمه حين نتكلم على المفاسد والمصالح، فهذه المنطقة هي الوحيدة المباح لنا فيها أن نتكلم، ما دام الكلام فيها عن المصلحة الشرعية ودرء المفاسد وسد الذريعة لئلا ينال المسلمين نفس الضرر؛ فليس من مصلحة المسلمين الدخول في أمر يعود بمنكر أكبر، ففي بعض الأماكن أو بعض البلاد لو هدم أحد صنماً فإنه سيبنى أحسن منه وأكبر منه، فالنظر في عواقب الأمور، ووزن الأمور بميزان الشرع، راجع لأهل العلم الذين يحسنون ضبط الأمور.

بيان المصالح والمفاسد الواقعة في الحادثة

بيان المصالح والمفاسد الواقعة في الحادثة والمفاسد التي ذكروها هي أن هذا يثير الاحتكاكات الطائفية بين الهندوس والمسلمين، سواء في سيرلانكا أو الهند أو الصين أو تايلاند أو غيرها، وبعدما تم تأليب الغربيين علينا يبدأ تأليب الشرق كله على المسلمين، وأن ذلك يؤدي لإهانة المصحف الشريف، كما حصل في بعض التظاهرات أن هؤلاء البوذيين أحرقوا المصحف الشريف لعنهم الله. ومن أضراره تحويل الأنظار عن الانتفاضة في الأقصى، أو تشويه سمعة الإسلام عالمياً، أو ترسيخ الحصار الظالم ضد الطالبان من جديد وعزلها عن المحيط الإسلامي والدولي، فهذا الكلام في المفاسد. أما الكلام الآخر الذي هو التراث البشري والإنساني فقد وضحنا الموقف منه. أما المصالح فأعظم مصلحة على الإطلاق هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، والذين يقولون: إن هذه الأفعال يمكن أن يكون فيها تشويه لسمعة الإسلام فذلك في حق المغفلين أو الجهلة، أما إنسان عنده بصيص من النور أو الفطرة فشأنه هو العكس، إذ هذه الأمور يمكن أن تكون بوابة يدخل منها إلى الإسلام ليسمع، فمن الممكن أن يكون هناك نوع من المصلحة، خاصة في حق الذين يعبدون هذه الأصنام؛ إذ يرد السؤال حينها: لماذا لم يدافع بوذا عن نفسه؟ فيمكن أن يثوب بعض هؤلاء البوذيين إلى رشدهم عندما يرون معبودهم تحول إلى أنقاض، فيعلمون أنه حجارة لا تضر ولا تنفع، بدليل أنه بقي صامتاً جامداً لا يدافع عن نفسه، فيبحثون عن الإله الحق النافع الضار الحي الذي لا يموت. يمكن أن يكون ذلك فعلاً؛ لأن البشرية الآن مسوقة كالقطيع، فكل الذي تريده أمريكا هو الذي يؤمل فيه، فكأن البشرية كانت بحاجة إلى منبه يوقظها من غفلتها، وذلك أشبه ما يكون بالعلاج بالصدمات الكهربائية، لكي يفيق الناس قليلاً، فالناس الغارقون في هذه الوثنية الماشون وراء الغرب ينظرون إلى كل شيء بعين أمريكا وبميزان أمريكا وبميزان الغرب، فيعلمون بذلك أن الغرب ليس قدوة ولا يصلح أن يكون قدوة، والغرب ما عرف الإنصاف أو العدل. وأعتقد أن الطالبان قد رأوا أنهم ممكنون، والله سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فما داموا ممكنين في بلادهم -إذ عندهم تسعون في المائة من مساحة أفغانستان- فما الذي يمنعهم من أن يهدموا الصنم، خاصة أنهم في كل الحالات ليسوا مرضياً عنهم، فأمريكا لو كانت تقدر على أذيتهم بأكثر مما فعلت آذتهم، ولكن قد بلغت الغاية التي تستطيعها. فهذه البلد حطمت أولاً -أو أريد تدميرها- خلال الحكم الشيوعي، ثم بعد ذلك العالم الغربي الذي كان يعدهم أيام الحرب مع الاتحاد السوفياتي الشيوعي قلب الكفة عليهم، فليست هناك خسارة أكثر مما حصل، فيمكن أن تكون وجهة نظرهم أنهم ممكنون وفي بلدهم، وهذه أمور داخلية، وليس لأحد حق في أن يتدخل في الشئون الداخلية، فربما كانت هذه بعض الأشياء التي استندوا إليها، والله تعالى أعلم. فالمسلمون إذا كانوا في حالة ضعف لا يستطيعون إزالة هذه الأصنام، أو كان يترتب على إزالتها سب لله وسب للرسول عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك من الشركيات، فإنه يدخل هذا في باب المصلحة. فقاعدة المصالح والمفاسد معروفة في الشريعة فلا نطيل في تفصيلها.

دعوى أولوية الانتفاع بثمن الأصنام

دعوى أولوية الانتفاع بثمن الأصنام أما القول بأنهم ما داموا قد غلبوا عليها فكان الأولى أن يبيعوها ويأخذوا قيمتها فذلك باطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم (نهى عن ثمن الأصنام)، وحرم ثمن الأصنام. أما الخسائر وفقدان ما يترتب على ذلك من مصالح فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] يقول ابن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتنقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها. إلخ، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28]. فالتوكل على الله سبحانه وتعالى والاجتهاد في فتح أبواب الرزق سبب في إغناء الله تعالى للمسلمين، وقد يقوم جماعة من الخبراء والمختصين فيبتكرون أشياء تعود بأموال كثيرة في مثل هذا الأمر، ولا نقول: اعملوا مثل اليهود. فاليهود لأنهم يهود قامت دولتهم اللقيطة ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا، باعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس، يفكر أحدهم كيف يقدر على أن يصل لأعمال بديلة.

دعوى تذكير بقاء الأصنام بنعمة الهداية

دعوى تذكير بقاء الأصنام بنعمة الهداية ومن التأويلات الغريبة لبعض هؤلاء الفضائيين قول أحدهم: المفترض أن نترك هذه التماثيل؛ لأنها تذكر المسلمين بنعمة الإسلام، لنرى كيف كنا سنعبد هذه الأصنام! تأويل عجيب جداً، وإذا كان كذلك فقد كان أولى بالرسول عليه الصلاة والسلام أن لا يكسر اللات والعزى ومن غيرهما الأصنام لكي تبقى عبرة يتذكر بها الناس نعمة الإسلام، ونرى كيف كنا سنعبد هذه الأصنام. ونقول لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].

دعوى قياس التماثيل على الدمى

دعوى قياس التماثيل على الدمى وهناك أقاويل أخرى، كقياس بعضهم التماثيل على دمى البنات، ولعب الأطفال، وهذا كلام لا أعتقد أنه يستحق أن نتوقف معه لنبطله. ومثله أن يقال: كما يجوز الكفر في حالة الإكراه يجوز الكفر في حالة الاختيار، وهذا نوع من الدجل أيضاً، فهم قاسوا نفس التماثيل التي ورد النهي الشديد عنها بالدمى التي خصها الشارع من المنهي عنه كما خص حالة الإكراه بجواز الكفر.

وقفات مع التداعي العالمي تجاه الحادثة وقضايا المسلمين

وقفات مع التداعي العالمي تجاه الحادثة وقضايا المسلمين ومن الشبهات كلامهم على قضية المصالح والمفاسد، وهذه المسألة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقبل الكلام فيه، أما القول بأن الإسلام لا يحرم التماثيل وأن المسلمين أقروا ذلك فكل هذا دجل في دجل، لكن كون الدعوة تقتضي أن نتمهل وأن ننتظر، ويستدلون بقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فهذه عملية اجتهاد في المصالح والمفاسد، هذه وهي المنطقة المباحة فقط. أما أنهم يحاولون أن يغيروا عقيدة المسلمين تجاه الأصنام فهذا عدوان سافر على الشريعة، ونحن لا نريد الموضوع أن يتحول من تحطيم الأصنام إلى تحطيم الشيوخ والعلماء؛ لأن أعداء الإسلام حين يستدرجون العلماء أو يخدعونهم في مثل هذه المواقف إنما هم في كل حالة يكسبون الموقف، فهم يعرفون أن هذه المسائل يمكن أن تهبط هبوطاً حاداً بشعبية الداعية أو العالم المؤثر، فهم في الحالتين كاسبون، فلو حطموا العالم كسبوا، ولو أن العالم ساعد على الحفاظ على الأصنام لكسبوا أيضاً. فنحن لابد لنا من حسن الظن بالشيوخ، وحسن الظن يقتضي اعتبار الإعلان وسيلة غير آمنة في نقل وجهات نظر الشيوخ، وكم دلس الإعلام على الشيوخ، فالأصل هو حرمة الشيوخ والدعاة واحترامهم، إلا الذي نسمعه بأنفسنا يتكلم دون أن يكون هناك أحد يهدده أو يضغط عليه ويتبرع بتلوين الكلام، وهؤلاء غالباً ليسوا شخصيات رسمية، وإنما هم متطفلون على العلم. فالشاهد أن العلماء يجب حسن الظن بهم، والتأكد من صحة نسبة الكلام إلى أحدهم. وهنا أمثل بمثال: فـ القرضاوي تكلم ووضح موقفه وقال: لماذا تفترون علي؟ وقال: لقد ذهبت وكان وكان. أعلن أن تسعين في المائة حطمت فعلاً من حجم التمثالين، فقال: أنا سأذهب لكي أتناصح مع الإخوة لحل مشاكل إخواننا الأفغان ومعاناة الفقر وكذا وكذا. إلى آخر هذه الأشياء. فهذا ما قاله، وهو أنه يعرف أنه غير معقول أن يذهب ليدافع عن أصنام. فلسنا مع بعض الشباب الذين أطلقوا ألسنتهم بكلام بشع جداً ما كان ينبغي أن يقال. وعلى أي الأحوال فنحن نفرق بين الحكم والفتوى، فالحكم حكم الشرع الذي يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، والفتوى تطبيق الحكم على الواقع. مثلاً: عندما نسأل عن أكل الميتة نقول: ما حكم أكل الميتة؟ و A حرام. لكن عندما نسأل عن حالات معينة، كما لو أن الجائع لم يأكل من الميتة فسوف يموت فإنا نقول له: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، فهذه حالة ضرورة، فهنا لا نقول له: مباح أن تأكل بل نقول له: واجب عليك أن تأكل من الميتة. فانتقل الأمر من حرام إلى واجب لحفظ حياته. فالشاهد أن هذا من مرونة الشريعة، وأن قاعدة الشريعة أن التكليف منوط بالاستطاعة، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والمسلمون تطرأ عليهم حالات معينة يصعب وضعهم فيها، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يمر بالصحابة وهم يعذبون في مكة فيقول لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، وهو رسول الله المؤيد بالوحي، فما استطاع أن ينقذ هؤلاء المستضعفين، بل هو نفسه صلى الله عليه وسلم بقي في مكة والأصنام حول الكعبة، وبقيت إلى تأريخ مكة. فإذاً هناك فرق بين الحكم الشرعي الذي تكلمنا عنه، والفتوى هي التطبيق لهذا الحكم على الواقع، فالكلام على المصلحة الدينية هو القنطرة الوحيدة التي يمكن أن نلتقي فيها مع هؤلاء القوم. وبعض المتكلمين -وهو غير باحث- قال: إننا بهذا العمل فتحنا باباً لمفسدة عظيمة، فهو نظر إلى المفاسد في زعمه، ونحن نقول: مادام أنه يتكلم على مصالح ومفاسد فلا بد من أن نتأكد من المصالح ونعطي كل شيء حجمه حين نتكلم على المفاسد والمصالح، فهذه المنطقة هي الوحيدة المباح لنا فيها أن نتكلم، ما دام الكلام فيها عن المصلحة الشرعية ودرء المفاسد وسد الذريعة لئلا ينال المسلمين نفس الضرر؛ فليس من مصلحة المسلمين الدخول في أمر يعود بمنكر أكبر، ففي بعض الأماكن أو بعض البلاد لو هدم أحد صنماً فإنه سيبنى أحسن منه وأكبر منه، فالنظر في عواقب الأمور، ووزن الأمور بميزان الشرع، راجع لأهل العلم الذين يحسنون ضبط الأمور.

الصمت العالمي وتدمير مسجد البابري

الصمت العالمي وتدمير مسجد البابري أخيراً نقف قليلاً مع طالبان، وإن كان عندنا مشكلة، وهي أن الاستيثاق صعب جداً؛ لأن المصادر الموثقة التي يمكن أن نتلقى منها معلومات موثقة أمرها صعب جداً، خاصة أن طالبان معزولة، ويبدو أنهم عزلوا أنفسهم عن العالم أكثر، فوسائل التعرف على حقيقة موقفهم في الحقيقة أمر صعب جداً، ولذلك فالإنسان دائماً يشك في الكلام الكثير والدندنة على موضوع تعليم النساء وأنه حرام عند طالبان، ومن الصعب أن يصدق؛ لأن المتكلمين يدعون أن الإسلام يحرم تعليم المرأة، وهذا غير صحيح، ومن المؤكد أنهم وضعوا للأمر ضوابط، وفيها كلام كثير، والقرضاوي قد ناقش هذه المسألة بالتفصيل، وليس هنا مكانها، ونحن ليست قضيتنا أن ندافع عن طالبان؛ لأن معلوماتنا غير ميسرة، وعلى أقل تقدير فمن الأمور الواضحة أنهم في ذلك ينطلقون من منطلق شرعي. وفي نفس الوقت نقول: إن موضوع العدوان على التراث البشري وغير ذلك من الكلام الذي لا يساوي شيئاً ليس المعني فيه الطالبان وحدها، وليس هناك داع للكيل بمائة مكيال بالنسبة للمسلمين، لكن أين كانت الأمم المتحدة وأين كانت الوفود، وأين كان هذا الاستنصار الذي حصل من أجل صنمين، ذلك الاستنصار الذي استفز قسيساً حتى قال: لماذا تقدسون الحجر ولا تقدسون البشر؟ كان يقول لهم: أنتم تقدسون الحجر وتقدسون البقر ولا تقدسون البشر! فهذا كلام قسيس، يعني: والبشر لا يقدس. وأقول: كل هذه الحمية والغيرة والوفود والبركان الجاهلي الثائر أين كانت عندما هدم الهندوس المسجد البابري في الهند بحجة أنه بني على أنقاض مسقط رأس إلهي مرام؟ وقالوا: هذا إلهنا ولد في المكان الذي بني فيه المسجد؟! فانظر إلى الوثنية والعقول التافهة؟! علماً أن زعيم الهندوس الذي تزعم حركة تدمير المسجد أسلم، وأعلن أنه راغب في أن يكفر عن كل ما مضى منه في حق الإسلام أو في حق بيت الله سبحانه وتعالى، فهذه آية من آيات الله عز وجل، والإسلام دائماً يأتي بالبشائر.

الموقف العالمي من صنيع اليهود

الموقف العالمي من صنيع اليهود والمسجد الأقصى لما أحرقه اليهود في سنة تسعة وستين كان مما أحرق تماماً منبر صلاح الدين الأيوبي، الذي أنشأه حين فتح القدس رحمه الله. واليهود في فلسطين هدموا عشرات المساجد، وحولوا بعض المساجد إلى حانات وإلى متاحف وإلى أماكن فساد وإلى مجامع للقمامة، فأين كانت هذه الوفود وهذه الثورة؟! وفي فلسطين محيت أربعمائة قرية من الخريطة تماماً وتناساها الجميع، وغيرت الدولة اللقيطة -ولا تزال- الطابع التأريخي والديمغرافي لمدينة القدس عن طريق الحفريات والأنفاق وكأن ذلك شيء لا قيمة له! ثم بعد ذلك يأتي أحد من المسلمين ليحث العالم الغربي على التدخل العسكري ضد طالبان لكي ينقذ هذين الصنمين، فانظر إلى المأساة التي وصلنا إليها!

ذكر مواقف أخرى من تهديم التراث

ذكر مواقف أخرى من تهديم التراث وفي أثناء الثورة الثقافية في الصين دمر الشيوعيون (90%) من التراث الكونفشيوسي؛ لأن الشيوعيين كانوا ملاحدة ضد الدين، ومن المعلوم أن الدين الكونفشيوسي شركي، فدمر الشيوعيون -انطلاقاً من أن هذا يتعارض مع عقيدتهم الشيوعية- (90%) من التراث الكونفشيوسي. وفي كمبوديا حصل نفس الشيء، وعمل هتلر أشياء قريبة من ذلك، ونابليون هو الذي كسر أنف أبي الهول، وقصف الجامع الأزهر وحوله إلى اصطبل للخيول، أليس نابليون اتبع الحرية والإخاء والمساواة والرقي والحضارة؟!

الموقف العالمي من تهديم مساجد أفغانستان والبوسنة

الموقف العالمي من تهديم مساجد أفغانستان والبوسنة والبريطانيون أنفسهم في أفغانستان هدموا مسجد (مصلى حسن) سنة (1886م)، وهو مسجد يعود إلى القرن الخامس عشر، ولم يعد هذا عدواناً على التراث! وقد هدم الصرب في البوسنة كثيراً من المساجد، فقد تم قصف ثمانمائة أثر إسلامي في البوسنة لطمس الهوية الإسلامية في البوسنة على يد الصرب. والروس عندما تمردوا أخيراً على الشيوعية حطموا تمثال لينين وتماثيل ضخمة ل لينين، فقد كان الروس الشيوعيون في كثير من بلاد العالم يعبرون عن تحررهم وانعتاقهم من الشيوعية عن طريق تحطيم تماثيل لينين؛ لأنها رمز لشيء معين. الإيرانيون لماذا حطموا تماثيل الشاه؟ لأنه هدم لرموز الماضي.

الموقف العالمي من سفك دماء مسلمي العراق

الموقف العالمي من سفك دماء مسلمي العراق وهذا كولن باول الذي حطم العراق وقتل الأطفال والنساء يدعي أن تحطيم التمثالين وحشية وهمجية وجريمة في حق البشرية، فكيف بالذي عمله في العراق؟ أليس ذلك وحشية وهمجية وبربرية؟! وكذلك تدمير مساجد السنة في إيران، فأين أصحاب الحمية وأين هذه المنظمات؟! واليهود تحت أعين الأمم المتحدة قصفوا الآثار الرومانية والإسلامية في بعلبك والقرى الجنوبية في لبنان، وأين القتل البطيء المستمر لمسلمي العراق والغارات المتتابعة على العراق إلى الآن لإزالتها من الخارطة؟ والصنم حين يضرب بالبارود هل يحس؟! إن الصنم ثابت في حاله لا يشعر بالبرد ولا يجوع ولا يمرض ولا يموت؛ لأنه جماد. لكن المسلمين في العراق وفي البلاد المحاصرة يحسون ويشعرون، فلماذا القتل البطيء لهم ومحاصرتهم في كل مكان؟! إنه جزاء من يأبى الركوع لأمريكا وللغرب.

القانون الدولي شريعة الغاب

القانون الدولي شريعة الغاب والقانون الدولي حينما يتعارض مع الشرع الإلهي فهو المقدم، وكل هذا أكاذيب يتستر الغرب وراءها لإهلاك الشعوب، والمنطق الذي يمشي عليه الغرب هو: (الحق هو القوة)، فما دمت قادراً على أن تعمل أي شيء فهذا هو الحق! في حين أن الإسلام يعتمد على منطق قوة الحق، ولذلك فإن المسلمين يثبتون على الحق، ويعلنون الحق ويتمسكون بالحق، حتى ولو كانوا ضعفاء مادياً، أما الغرب فعندهم حق القوة، فما دمت قوياً فلك أن تقهر الضعيف، فهي شريعة الغاب كما هو معلوم. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. ولا ننتظر من الغرب غير هذا العداء، والذي يتوقع أنهم سيرضون عنا يوماً من الأيام فهو واهم؛ لأن القرآن قد قطع فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. فالكلام الذي يتردد الآن تسميم خطير جداً لعقائد الناس بمعاني العولمة والتراث البشري ومهادنة الشركيات واحترام الأديان. وإننا نحترم حقوق أهل الأديان التي شرعها الإسلام، لكن كيف نحترم من يعبد الأصنام أو يعبد المسيح عليه الصلاة والسلام؟! كيف نحترمه وهو مطالب أصلاً برسالة محمد والإيمان به عليه الصلاة والسلام. فإذا كان الالتزام بالقانون الدولي والأعراف الدولية يقودك إلى الخروج من ملة الإسلام فأيهما تختار؟! إن من المناقضات أن كل شعوب العالم -تقريباً- تأكل اللحوم، فلما جاء عيد الأضحى قامت قيامة ممثلة أوروبية فاجرة، فقادت حملة ضد الوحشية والقسوة ضد الحيوان -كما تزعم- فأصبحت الوحشية والقسوة من سمات المسلمين لأنهم يذبحون الأضاحي! لكن أين هي من المذابح التي تقام للمسلمين في كل مكان؟! لقد أصبحت أفغانستان دولة منسية إلا في العقوبات الدولية، بهذا السجع: (أفغانستان الدولة المنسية إلا في العقوبات الدولية) فنصف شعب الأفغان يتضور جوعاً، وإحصائيات الأمم المتحدة تقول: كل يوم يموت أربعمائة طفل من البرد. وهم يعانون أيضاً من الجفاف، فمنذ ثلاث أو أربع سنوات لم تنزل قطرة ماء واحدة على أفغانستان، والحصار مشدد عليها، فنقول لهؤلاء: الإنسان الحي الذي يحس ويجوع ويمرض ويعاني أليس هو نفسه داخلاً في التراث؟! أليس له قيمة بحيث تخفف عنه هذه الضغوط. فاليونسكو كانت مستعدة أن تنفق أموالاً كثيرة لكي تحفر الجبل وتنقل التمثالين إلى مكان آخر لحفظهما. أليس الواجب هو أن تنفق هذه الأموال على الجياع والمساكين في أفغانستان؟!

مرد الأحكام في القضايا الدولية

مرد الأحكام في القضايا الدولية إن من الكلمات التي قالها أحد الدعاة الأفاضل قوله: يجب أن تحاكم كل دولة من خلال مرجعيتها التي تؤمن بها. يعني: أنا مسلم فحاكمني إلى الإسلام؛ لأن هذه الوسيلة الوحيدة لإقناعي، وليس بقهري، إذ يمكن تحت القهر أن أقول كلاماً غير هذا، لكن أنا مسلم ملتزم بمقتضى الكتاب والسنة، وبفهم السلف. فيجب أن تحاكم كل دولة من خلال مرجعيتها التي تؤمن بها لا حسب مرجعيات أخرى مخالفة، أما الاستناد إلى آراء قلة من العلماء المعاصرين الذين سلط الإعلام المنحاز ضد الإسلام الأضواء عليهم، فهذا غير ملزم، فالعلمانيون يقولون: لقد قال فلان وفلان. والرد عندنا في الإسلام واضح جداً، فليس عندنا فاتيكان، ولا كهنوت، ولا صكوك غفران، ولا أناس معهم مفاتيح الجنة، ولا بابا يحل ويحرم ما يشاء، بل عندنا الكتاب والسنة حكم على الجميع، وعندنا كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام مالك.

الأدب مع العلماء والدعاة إلى الله تعالى

الأدب مع العلماء والدعاة إلى الله تعالى وهنا أذكر إخواني بأنه لا يحق لأحد أن يطيل لسانه على العلماء أو الدعاة؛ لأننا لم نسمع منهم مباشرة، بل العكس، فنحن أحسنا الظن، وقلنا: إنه ليس معقولاً أن عالماً يشد الرحال لكي يدافع ويشفع لتنجو الأصنام، ولا أظن هذا، وحسن الظن واجب، إلا إذا أتى شيء يقيني، ونحن جربنا على الإعلام التدليس على الشيوخ والعلماء كثيراً. فالكلام بأن العلماء يذهبون لكي يقولوا كذا وكذا صعب جداً أن نصدقه، خاصة مفتي الجمهورية، فصعب جداً أن نصدق أنه ذهب لكي يقول ذلك، ومن المؤكد أنه ذهب لكي يقول: إن الوقت غير مناسب لمصلحة المسلمين، وإن هذا من باب سد الذرائع حتى لا تحصل أذية للمسلمين واضطهاد لهم مثلاً. أو: أنتم ما زلتم في مرحلة ضعف. وهذا مقتضى حسن الظن. وقد اطلعت على كلام يقول: إن المفتي قال إنه ذهب إلى أفغانستان لإقناع حركة طالبان بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. إلى آخره. وحين نحسن الظن لن نخسر شيئا، بل نحافظ على علمائنا، فمن الضروري أن لا نساهم في تحطيم العلماء، فالعلماء يحطمون بذلك كقدوة، فصعب جداً أن نصدق أن عالماً أو فقيهاً يخالف كل هذه الأدلة التي ذكرناها.

اتهامات بحق حكومة طالبان وردها

اتهامات بحق حكومة طالبان وردها في القضايا الإسلامية كل واحد يعطي نفسه الحق في الكلام. فبعضهم قال: إن الذي عملته طالبان صح شرعاً، لكن هم لهم هدف سياسي، فلأنهم معزولون الآن عالمياً، أرادوا أن يلفتوا الأنظار لأجل أن يعترف بهم العالم. إلى آخر هذا الكلام. وبعضهم أساء الظن وقال: إن هذا صرف للأنظار عن قضايا المسلمين، أو إعطاء اليهود مبرراً لأجل أن يهدموا المسجد الأقصى في المقابل. إلى آخر هذا الكلام، فكل هذا سوء ظن في الحقيقة. وبعضهم قال: هذا حق يراد به باطل. فتدخلوا في النيات. وقائل: هذه عبارة عن رسالة سياسية من أفغانستان. ونقول: ليكن الافتراض الأول، فليكن أن لها هدفاً سياسياً أو تكتيكاً سياسياً، فمن المعروف أن من حق كل دولة أن تمارس ممارسة ذات مصلحة خاصة بها من أجل قضاياها، فإذا أرادوا بالفعل شد أنظار العالم لتسليط الأضواء على بلادهم المنسية التي قتلها سابقاً الروس والشيوعيون ويخلفهم الآن الحصار؛ فماذا يعيبهم؟! ومع ذلك نقول: هذه هي الطريقة الغربية في التفكير؛ لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بالرسل، فالغرب ومن تبعهم -فضلاً عن وثنيي الشرق- في أي ظاهرة دينية يأخذون منها البعد الإيماني أو البعد الديني، فلا يقرون بالبعد الديني في أي عمل يقوم به المسلم، بل يفسرونها تفسيراً مادياً، فيفسرون حركة دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة بأنها كانت لأجل الأوضاع الاقتصادية والطبقية في مكة، فهو تفسير مادي. وكل العالم يقاطع طالبان، ولا يزال يعترف بالحكومة التي لا تكاد تسيطر على أي شيء في أفغانستان، حتى منظمة المؤتمر الإسلامي لا تعترف بطالبان، وإنما تعترف بها - كما أظن- باكستان والإمارات فحسب. وكان هذا لأن رئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي كانت بيد إيران، ومعروف العداء الشديد بين طالبان وبين إيران، فلم يفكر أحد في أن يتعامل معهم إلا من خلال هذا الضغط. والمسألة كتكتيك سياسي ما المانع منها؟ أهي حلال لغيرهم وحرام عليهم؟! فلو كان هناك بعد سياسي لهذه القضية، فما الذي ينكر عليهم في هذا الأمر؟! وهناك موضوع آخر في قضية أفغانستان هو موضوع المخدرات، إذ يقول بعض الناس: إن أولئك أهل مخدرات، فأولى بطالبان أن يحرموا المخدرات قبل الإقدام على هدم التماثيل! ونقول: أي دولة في العالم ليس فيها مخدرات؟ فأمريكا نفسها أم المخدرات، والعالم مليء بالمخدرات في كل مكان، ولا يوجد بلد -تقربياً- يخلو من هذا الأمر؛ لكن هنا إشارة عابرة، فالأمم المتحدة نفسها أعلنت مؤخراً أن مسئوليها في مجال مكافحة المخدرات في أفغانستان فوجئوا بنتائج دراسة حول وضع المخدرات في أفغانستان، حيث حصل انخفاض هائل في زراعة المخدرات بعد المرسوم الذي أصدره الملا محمد عمر زعيم طالبان بتحريم زراعة المخدرات والاتجار بها ومعاقبة من تثبت مخالفته. فبعد أن كان هناك سبعون ألف هكتار مزروعة بالمخدرات بقي منها سبعة وعشرون هكتاراً مزروعة بالمخدرات في إحدى وخمسين مديرية، فهذه الإحصائية والمسح الذي عملته الأمم المتحدة نفسها بخبراء يتبعونها. فهذه الإحصائيات أعتقد أنها تكشف الكلام عن هذا الموضوع.

وجوب توحيد الله تعالى والكفر بالطاغوت لسلامة الإسلام

وجوب توحيد الله تعالى والكفر بالطاغوت لسلامة الإسلام وأخيراً نقول: إن أصل الأصول هو توحيد الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يسلم إلا من سلم توحيده لله عز وجل، فكل مسلم كي يسلم له إسلامه وتوحيده لابد له من أمرين: أن يؤمن بالله وحده لا شريك له، ثانياً: أن يكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] التي هي (لا إله إلا الله). ومن الكفر بالطاغوت تكفير المشركين كالبوذيين والهندوس واليهود والنصارى وغيرهم وخلع معبوداتهم، وإزالتها عند القدرة عليها، والبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فجمعت البراءة بين أمرين: (إنا برآء منكم) براءة من نفس الكفار (ومما تعبدون من دون الله) أي: البراءة من أصنامهم ومعبوداتهم. فهذا ما تيسر من الكلام في هذه القضية.

الرد على الكاتب فهمي هويدي

الرد على الكاتب فهمي هويدي ومن المؤسف أن هناك مقالة لـ فهمي هويدي -هداه الله- في الثالث عشر من مارس عام (2001م) في (قضايا وآراء) في صحيفة الأهرام تقريباً، ففي الفقرة الثالثة يقول: يكاد المرء يجد تشابهاً بين مشهد جموع الوهابيين وهم يوارون الأضرحة والقبور والأشجار التي كان يتبرك بها المسلمون في نجد وبين محاولة تحطيم التماثيل البوذية في أفغانستان الآن، فالأولون اعتبروا الأضرحة والأشجار من أمور الشرك باعتبار أن المسلمين كانوا يتوسلون بها إلى الله، والآخرون اعتبروا التماثيل أصناماً من رموز الشرك أيضاً. فهو يتكلم بغضب بأن ما يجري في أفغانستان هو حلقة في مسلسل بدأ في الجزيرة العربية قبل أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، وليس هذا فحسب، بل يقول: إن هناك تشابهاً بين الفكر الطالباني وبين الفكر السلفي الشائع. وللأسف هذا كلام غير صحيح. وأقول: السلفية ليست فكراً، بل هي منهج ملزم لكل مسلم، فالسلفية ليست جماعة ولا تنظيماً ولا حزباً، السلفية هي منهج لفهم الإسلام -القرآن والسنة- بفهم السلف، فما يزعمه هذا الصحفي من أن هناك تشابهاً بين السلفيين والطالبان غير صحيح، بل أوجه الاختلاف كبيرة جداً، ولأول مرة يتفق -تقريباً- السلفيون مع الطالبان في هذه القضية، وقد رحب بها السلفيون وعلماؤهم في كل مكان، ففي هذه الجزئية فكر مركب، لكن ما عدا ذلك فالمؤاخذات كثيرة جداً، وليس الموضوع مناسباً لأن نتكلم بالتفصيل. والذي ذهبوا إلى أفغانستان أيام الحرب والجهاد يعرفون الفرق الشاسع بين الأفغان جملة والاتجاه السلفي، فالفروق شديدة جداً في موضوع المذهبية والتعصب للمذهب الحنفي، وموضوع الأضرحة ونحو ذلك، فهم هدوا التمثالين لكن هناك أضرحة تعبد من دون الله، وهناك شركيات معروفة؛ فهذا نوع من الدجل الصحفي أن هناك نوعاً من التوافق بين الاتجاهين، فهذا من مجازفاته، ولن ننشغل بالرد عليه، ولكن نسأل الله سبحانه وتعالى الهداية لنا ولسائر المسلمين، ونكتفي بهذا القدر.

السيرة البازية

السيرة البازية إن الله سبحانه قد جعل لهذه الأمة في كل فترة من الزمن من يجدد لها إيمانها، ويقوِّم اعوجاجها، وينافح عن عقيدتها ومبادئها، ألا إنهم العلماء الأبرار، ورثة الأنبياء، وحجج الله على خلقه، ومن أبرز هؤلاء الأئمة في هذا العصر الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله، فقد كان أعبد الناس، وأزهدهم في الدنيا، وأشجعهم في قول الحق، وأخوفهم من الله تعالى، وألطفهم عبارة، وأرأفهم قلباً، فكان حرياً أن يُمدح ويثنى عليه من كل علماء الإسلام من مختلف الأمصار، فرحمه الله رحمة واسعة.

حياة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى

حياة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى

موت العالم مصيبة على الأمة

موت العالم مصيبة على الأمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد. كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أيما عبد من أمتي أصيب بمصيبة من بعدي فليتعز بمصيبته التي يصاب بها من بعدي) فلما كان فقد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم قاصمة حلت بأهل الإسلام بحيث لا ترقى إلى مستواها قاصمة أخرى، فندبنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -إن كنا له حقاً صلى الله عليه وسلم محبين الحب اللائق به- أن نتذكر هذه المصيبة، فكل مصيبة بعده تكون أهون وأخف، وقد نظم الشاعر معنى هذا الحديث بقوله: اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولا شك أن التاريخ مليء بتراجم عظماء الرجال، وسوف نتوقف كثيراً هذا اليوم؛ لينضم شيخ الإسلام وإمام المسلمين العلامة الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى إلى هذه القائمة المباركة التي ضمت أعلام الإسلام من السلف الصالح رحمه الله تعالى، وليذكر إلى جنب الأئمة الأربعة، وإلى جنب الإمام البخاري ومسلم وابن تيمية وابن القيم وسائر أئمة الإسلام، فاليوم حكم القضاء الإلهي -ونحن بحكم الله سبحانه وتعالى راضون- باليتم على السلفيين، فقد قضى إمامهم وشيخهم الأكبر في هذا العصر رحمه الله تعالى. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار). وقال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة، فكأني أفقد بعض أعضائي. وكان أيوب السختياني رحمه الله تعالى يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث، فيرى ذلك فيه، فيبلغه موت الرجل يذكر بعبادته، فما يرى ذلك فيه. وقال أيضاً رحمه الله تعالى: إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله، وقد قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] فلا شك أن موت أمثال هؤلاء الأئمة من أعظم المصائب التي تحل بالمسلمين، حتى كان بعض الأئمة يتمنى أن يؤخذ من عمره ليضيف في عمر هؤلاء الأعلام. يقول يحيى بن جعفر: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل البخاري من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم. ويقول الشاعر: لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير ويقول آخر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدم فالمصيبة في أمثال هؤلاء الناس تعم جميع المسلمين، ولو فقه المسلمون لأدركوا قيمة الخسارة التي حلت بهم، والمصيبة التي نزلت بهم، ولرأيناهم على الأقل صنعوا كما صنعوا حينما ماتت الأميرة ويلز، فقالوا: هي التي كانت وكانت، فعم الحزن والبلاء، ودخلت الشعائر الكنيسية كل بيت، فلا شك أن هذه من أمارات غفلة المسلمين وضعف إحساسهم بمطالبهم. عمت طلائعه فعم هلاكه فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد في كل دار رنة وزفير يثني عليك لسان من لم توله خيراً لأنك بالثناء جدير ردت صنائعه عليه حياته فكأنه من نثرها منشور

ولادة الشيخ ابن باز وطلبه للعلم

ولادة الشيخ ابن باز وطلبه للعلم لا شك أن هذا المصاب الجلل الذي ابتلي به المسلمون حدث عظيم وخطير، ومن أقل حقوق الشيخ رحمه الله تعالى على المسلمين وعلى أهل الإسلام أن يذكر بخير، فإن المؤمنين شهداء الله في الأرض، فلعل في ذكر مآثره ومناقبه رحمه الله تعالى ما يستوجب الدعاء الصالح له، والترضي عنه رحمه الله تعالى. هو الشيخ الجليل أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز أحد أئمة السنة المطهرة في علوم الشريعة الإسلامية، ومرجع المستفتين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وهذه الترجمة مذكورة في كتاب: علماء ومفكرون عرفتهم، شرع الأستاذ محمد المزوكي تسطيرها منذ أكثر من (25) سنة. يقول: ولد في الرياض عاصمة نجد يوم (12/ ذي الحجة/ 1330هـ)، فيكون الشيخ توفي عن تسعين سنة تقريباً رحمه الله تعالى. يقول: في أسرة يغلب على بعضها العناية بالزراعة، وعلى بعضها عمل التجارة، وعلى كثير من كبرائها طلب العلم، ومن أعيان هذه الأسرة الشيخ عبد المحسن بن أحمد آل باز، تولى القضاء في الحوطة، والإرشاد في الهجرة، ومنهم كذلك الشيخ المبارك بن عبد المحسن تولى القضاء في بلدان كثيرة كالطائف وبيشة والحلوة. فالطابع الغالب على أسرته كان طابع الجد في ممارسة الخير؛ سعياً في كسب الحلال، ومذاكرة مسائل الدين، والتزاماً بفضائله، فهي بيئة إسلامية تذكر الناسي، وتعلم الجاهل، وتنبه الغافل. شاء سبحانه وتعالى أن يحجب عن العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى البصر وهو في مطالع الصبا، وكان الشيخ رحمه الله تعالى يقرأ عليه كتاب: الأدب العربي في السنة الثانية من الجامعة، ففسر بعض الناس قول امرئ القيس: (له ساقا نعامة) فقال: (ساقا نعامة) يعني: أنه قصير الساقين طويل الفخذين، وهو ما ذهب إليه الأصمعي، فاعترض الشيخ ما في الكتاب بأن العكس هو الصواب، والشيخ رحمه الله تعالى قال يومئذ: إنه قد رأى في حداثته النعامة بالرياض، وفي ظنه أن ساقها أطول من فخذها، فهذا يشير إلى أنه بعد أن أصيب بفقدان البصر كان يتثبت من أشكال الأشياء، وبعض الناس يذكرون أن الشيخ لم يفقد البصر إلا في التاسعة عشرة من عمره رحمه الله تعالى. ولا شك أن هذا الابتلاء بفقد البصر ضاعف من أثر هذه البيئة المنزلية في نشأته العلمية إذ طالت ملابسته إياها فكثرت صفاته من فضائلها، وانطباعه من سلوكها، ثم تم الله عليه نعمته، فوصله بطائفة من صفوة أهل الصلاح، عنهم أخذ العلم، وبهم تخرج، فجمع بين الحسنيين، مما جعله أنموذجاً حياً بما تصنعه التربية الكريمة إذا التقت بالتثقيف السليم. كان القرآن العظيم ولا زال إلى آخر حياة الشيخ رحمه الله تعالى هو النور الذي يضيء له حياته، فبدأ دراسته وطلب العلم بالقرآن الكريم، فحفظه عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، ومع اجتهاده أيضاً في تحصيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واتباعه في كل ما يصدر عنه وما يأتيه وما يذر، وبعد أن حفظ كتاب الله باشر انطلاقه في طلب العلم وجهاده فيه، فما ينفك عالماً ومتعلماً وواعظاً ومذكراً لا يجد في غير هذه السبيل متعة ولا فائدة، ولم يحبس الشيخ وقته على أستاذ واحد، بل اتصل بالعديد من المشايخ يتلقى عنهم العلم كلاً في حدود تخصصه، وكان أكثرهم من الأسرة التي لا تزال قائمة على رعاية الأمانة، هذه الأسرة المباركة التي تداولت راية العلم منذ حاملها الأول مجدد القرن الثالث عشر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فقد تتلمذ الشيخ على الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن وهو من أحفاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم تتلمذ على الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن، ثم الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وهو حفيد شيخ الإسلام، وكان المفتي الأكبر في السعودية إلى عهد الملك فيصل. فأثر هؤلاء المشايخ في عقله وتوجهه، وكانوا يشجعونه على المثابرة في تحقيق الخير والعلم والتبحر في عقيدة السلف. أما مشايخه من غير آل الشيخ فمنهم الشيخ سعد بن حمد بن آل عتيق وكان قاضي الرياض في ذلك الوقت، ثم الشيخ حمد بن فارس وكان وصي بيت المال فيها، ثم الشيخ سعد البخاري بمكة المباركة والمكرمة، حيث أخذ عنه علم التجويد، إلا أن أطول فترة دراسية قضاها في التتلمذ هي على العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، حيث لازمه في دروسه ما بين سنة: (1347 إلى 1357هـ)، حيث رشحه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى لتولي القضاء.

تولية ابن باز للقضاء

تولية ابن باز للقضاء ولي الشيخ القضاء في منطقة الخرج ما بين عامي: (1357 إلى 1371هـ) حيث قضى في عمله أربع عشرة سنة ونيفاً، كان خلالها كشأنه في كل مكان مصدر خير وبركة وإصلاح لكل ما حوله ومن حوله، وقد ساعده على ذلك طيب قلوب الناس، وتقديرهم لأهل الفضل، وميلهم الفطري إلى العدل. فكان ينظر في القضايا المعروضة عليه في المحكمة، بقسطاس العدالة بين المتقاضين، ويولي اهتمامه مصالح الناس في كل ما يهمهم، ويكتب إلى المسئولين في كل ما يراه ضرورياً لإصلاح حال الناس. ولأن الشيخ لا يحب الانقطاع عن طلب العلم فلم يستطع أن يصبر على الانقطاع عن إشاعة العلم ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وكان محفوفاً بطلبة العلم حتى أثناء قيامه بتجربة القضاء، ويبين الشيخ حاله في تلك الفترة بقوله: إن من الصعوبة بمكان محاولة الجمع بين القضاء والتدريس، يعني: كان يهتم اهتماماً كبيراً بالتحري في قضائه بين الناس، لكن كان في نفس الوقت يؤدي مادة التدريس لطلبة العلم، فمن أراد أن يتقن التدريس فإنه لا يسمح لنفسه بإطلاق الآراء دون أن يتثبت، ولا يتقاعس عن الاستزادة من ضياء العلم، وأيضاً كان يعاني من موضوع القضاء؛ لأن القضاء قد يعزل صحبته عن الناس وخاصة عامتهم؛ لأن القضاء حاجز بين القاضي وبين عموم الناس؛ حتى لا يطمع أصحاب المصالح بالتلصص والاحتكاك بالقاضي لتحصيل بعض فوائده من ذلك، فلذلك وجد الشيخ صعوبة في الجمع بين القضاء والتعليم والتدريس؛ لأن كلاً منهما يتطلب من صاحبه التفرغ التام، فكل تساهل في أحدهما إنما يتم من حيث الاهتمام في حق الأخرى.

ابن باز وتوليه رئاسة الجامعة الإسلامية

ابن باز وتوليه رئاسة الجامعة الإسلامية تخلى الشيخ رحمه الله تعالى عن عمله في القضاء عام: (1371هـ) ليتفرغ للتدريس في المعاهد والكليات حينما بدأ عهد افتتاح هذه الكليات والمدارس في الرياض، وبقي هناك إلى سنة: (1380هـ)، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدينة النبوية نائباً عن أستاذه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رئاسة الجامعة الإسلامية سنة افتتاحها، ثم تولى رئاسة الجامعة إلى عام: (1395 هـ) حيث عهد إليه برئاسة إدارتها فاستقر في الرياض، فكان لا يغادرها إلا لحضور المؤتمرات التي يكلف بها أو لأداء العمرة أو الحج الذي يكاد الشيخ لم ينقطع عنه على الإطلاق، فكل من صحب الشيخ رحمه الله تعالى في عمره المبارك الطويل يقولون: ما انقطع الشيخ عن الحج حتى هذا العام رحمه الله تعالى. وكان يكره أن يسمي مرضه الشديد بالسرطان رحمه الله تعالى. ولما زار الملك فيصل رحمه الله الجامعة الإسلامية للمرة الأولى عام: (1384هـ) كان الشيخ رحمه الله تعالى موجوداً في هذه المناسبة، وعرض فيها المقدم -وهو الشيخ محمد المجذوب - انطباعاته عن الجامعة الإسلامية ورسالتها في العالم، وهو يعني بذلك المدح والثناء على جهود الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في إدارته، فيقول: هذه الحديقة من أغراس بيتكم وقد بدا ينعها واخلولق الثمر ردت إلى طيبة العظمى قيادتها فكل صدع به من نفحها أثر فانظر إلى أمم الدنيا بساحتها في وحدة لم يكن في لهفها شجر جاءت طلاب الهدى من كل ناحية ظمأى إلى النور تحدوها المنى الكبر فيومها دأب في الدرس متصل ومعظم الليل في تحصيصه السفر لا ترتضي الرأي إلا أن تغيبه طريقة المصطفى والآي والسور جيل الهداة الذي كفوا لمطلعه روح الكفاح ويرنو نحوه القدر فصدق هذا التوقع والأمل حتى استعاد مهبط الوحي مركزه المشع على عالم الإسلام، وانتشر خريجو هذه الجامعة المباركة في مختلف القارات لاسيما الأفريقية، وكان من ذلك خير كثير. ولا شك أن للشيخ رحمه الله تعالى أثره العميق في كل قدر أحرزته الجامعة تحت إشرافه أولاً نائباً لرئيسها، ثم رئيساً مستقلاً لها بعد وفاة رئيسها الأول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ تغمده الله بعفوه، فقد كان الشيخ رحمه الله تعالى يتفقد الفصول بين الحين والآخر، فيستمع إلى دروس المشايخ، ويلقي توجيهاته الحكيمة هنا وهناك، وأحياناً كان يعرض في بعض الدروس ما يختلف مع طريقته في اتباع الدليل وتحريه، فيعقب على ما سمع بما يؤدي الغرض في منتهى الكياسة والتقدير، وكان يتردد على قاعات المدرسين فيسألهم عن صحتهم وراحتهم، ويحاورهم في شئون التعليم، ويشجعهم على المزيد من الجهد في خدمة الطلبة ابتغاء ما عند الله، ويدعو المدرسين في مطلع كل عام دراسي لاجتماع عام، يضم أساتذة المعاهد مرة، وأساتذة الكليات الأخرى مرة؛ ليتابع أمور الجامعة، مؤكداً على وجوب الاهتمام بأصول العقيدة التي كان الشيخ يعتبرها المنطلق العملي لتكوين شخصية الطالب. وكان اهتمامه كثيراً بلغة القرآن الكريم التي يتوقف عليها مذاق هذا الطالب في الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة أن في الجامعة طلاباً من غير الناطقين بالعربية، فلذلك كان يهتم بأن يعطي المدرسون الاهتمام الكبير بعدم اللحن، وأن يكونوا قدوة في نطقهم وسلوكهم، وكان يحرضهم على التزام اللغة الفصحى في كل حوار مع الطلاب. وفي نهاية العام الدراسي يعقد مع المدرسين اجتماعاً عاماً آخر، فيتدارس شئون المقررات وملاحظاتهم، ويرى آراءهم وما يتعلق بسلوك الطلاب، والانطباعات التي حصلت من خلال هذا العام المنصرم، ويعرض على مجلس الجامعة فوائد ونتائج ذلك. وكان الشيخ يشرف على أنشطة دار الحديث طوال السنة، ويلقي محاضراته فيها.

اهتمام الشيخ بأحوال المسلمين والأقطار الإسلامية

اهتمام الشيخ بأحوال المسلمين والأقطار الإسلامية يقول أحد الأساتذة في مقدمة محاضرة ألقاها الشيخ عن سيرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: وفي العقائد كان الشيخ ابن باز مثالنا في ذلك، لا هو من أولئك المتطرفين الذين يطلقون عبارات الشرك على كل صغيرة وكبيرة، ولا هو من المتساهلين الذين يغضون النظر عن صغار الأمور، بل إنه لينبه عن الصغيرة والكبيرة، ويضع كل شيء في موضعه، والذين يعرفون الشيخ مثلنا عن كثب يدركون هذه الخاصة في أسلوبه، ومرد ذلك فيما نرى إلى سجيته السمحة التي تعامل حتى المخالفين بروح الطبيب الذي يعلم أن ثقة المريض به أول أسباب الشفاء. وكان نشاط الشيخ يمتد إلى الأقاصي البعيدة من وطن الإسلام ومهاجر المسلمين، فمن خصائص شخصيته موضوع الاهتمام بأحوال المسلمين اهتماماً غير عادي، حتى إنه ما يسلم عليه أحد إلا ويسأله عن أهله وأولاده، وعن بيته وجيرانه، ويحمل معه إليهم السلام، ولذلك بعض له العاجزين كان يفرح جداً إذا أتاه الأخ من الحج وقد لقي الشيخ ابن باز، فيقول له: الشيخ ابن باز يسلم عليك، فهو يسأل، فيقول للناس: من الذي يقوم بالدعوة والسنة عندكم؟! أتبعث إليه السلام؟! فيظن الرجل أن الشيخ شخصياً يسأل عنه ويبعث له بالسلام، لكن هذه عادته مع كل الناس، حتى عندما يجلس الشيخ ابن باز للأكل لا يأكل وحده أبداً، فدائماً بيته مفتوح، سواء إذا كان في الرياض، أو في مكة، أو في غيرهما، فمعروف عن الشيخ أنه لا يمكن أن يطعم وحده أبداً، وإنما موائده دائماً منصوبة للأغنياء والفقراء، والوزراء والأمراء، والمساكين، كل يأتي يجلس، ويجلس الشيخ على الأرض فيأكل معه الناس، ويعود الشخص المسكين أو الفقير من أمثالنا إلى بلده فيقول: أنا كنت آكل عند ابن باز، وقال لي: كذا وقلت له: كذا بحيث يظهر أنه كان مع ابن باز في دعوة شخصية، لكن هذا لأن الشيخ كان يعامل كل شخص على أنه أكرم إنسان عليه من الجالسين. كان الشيخ يهتم بالمدرسين الذين تم تدريبهم في الجامعة الإسلامية للتدريس في شتى بقاع الأرض، في الهند والباكستان، فكان يهتم بالمتفوقين من متخرجي الجامعة لينتدبهم إلى الدعوة في بلادهم وغير بلادهم، وهؤلاء هم المنبثون في كافة أقطار الأرض، يعلمون الناس دينهم ليل نهار، ويحصنونهم من التيارات الهدامة مثل الطرق الصوفية الضالة أو القاديانية المرتدة أو التكفيرية الضالة. كذلك كان للشيخ جهد عظيم جداً في إمداد المسلمين في كافة أقطار الأرض بالكتب التي هم بحاجة إليها في مصيرهم بقصد التدريس والمطالعة. فبفضل جهود الشيخ -بعد فضل الله سبحانه تعالى- صارت الجامعة مركز إشعاع على مستوى العالم الإسلامي كله. وقد ذكر الشيخ المجذوب كثيراً من الإنجازات فيما يتعلق بأمور الجامعة كأنواع الكليات التي أسسها الشيخ من أجل أن تؤدي رسالتها كما ينبغي، كإنشاء كلية القرآن والدراسات الإسلامية وغيرها من الكليات.

أخلاق الشيخ ابن باز رحمه الله

أخلاق الشيخ ابن باز رحمه الله الحديث عن المترجم لا يكون مستوفى إذا لم يوف الجانب الخلقي عنه حقه يقول المترجم للشيخ: لقد أشرت قبل قليل إلى سجيته السمحة التي يعامل بها حتى المخالفين، وكانت إشارة عابرة لابد من الوقوف عندها ولو لحظات؛ وذلك أن الرجل بسماحته وحلمه وكرمه وأناته يكاد يكون صورة أنموذجية للتوجيه النبوي القائل: (تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلماء) فالسكينة والوقار أبرز صفات الشيخ، وهما أول ما يواجه به الناس القرباء منه والبعداء من جلسائه أو زواره العابرين. يقول أحد الشعراء في ممدوح له: يا من له ألف خل من عاشق وصديق أراك خليت للناس منزلاً في طريق يقول: ما أعلم أحداً أحق بهذا الوصف من الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، إن الناس ليتكوكبون حوله أينما وجد في المسجد في المنزل في الجامعة وإنه ليصغي لكل منهم في إقبال يخيل إليه أنه مختص برعايته، فلا ينصرفوا عنه حتى ينصرف هو، ومراجعوه من مختلف الطبقات، ومن مختلف الأرجاء، ولكل حاجته، هذا يقصده من أطراف المملكة يسأله الفتيا في أمر ضاق به العلماء، وذلك يفضي إليه بحاجة لا يجد فيها سوى الحلماء الكرماء، وربما كان بين هذا وذاك من لا يستحق اهتماماً ولا إصغاء، ولكنه لا يعدم منه الرعاية التي تجبر قلبه، وقد يكون بين المراجعين من يغلب عليه الحق فيسخط ويغلو لغير ضرورة، فلا يغير ذلك من حلم الشيخ، ولا يزد على الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الأمان. حصل موقف من أحد تلامذة الشيخ المعروفين له، فكان يحكي أنه خالف الشيخ في المسألة الفلانية، قال: ورددت عليه وقلت له: كذا وكذا فقال: كذا فرددت عليه بكلام فيه شيء من الشدة، فقال له أحد إخواننا الجالسين معه: أما تخشى أن تكلم ابن باز بهذا الأسلوب؟ فالأخ قال له: لا، فهذا الشيء لا نبالي به على الإطلاق؛ لأن الشيخ رجل يريد وجه الله، فلا تبال إذا اختلفت معه ما دام قصدك الحق، فهو لا يتغير قلبه. فكان إذا حصل مثل هذا كمراجعة في الكلام لا يغير ذلك من حلمه، ولا يزيده إلا الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الأمان، وليس بالنادر أن يزدحم عليه هؤلاء حتى لا يدعون له متسعاً لراحة، ومع ذلك لا يحاول التخلص من مقامه الصعب، بل تراه يصغي لحاجة كل منهم بهدوئه المعهود، ويجيب كلاً بما يرى أنه الحق. يقول الشيخ المجذوب: لقد دخلت سرادقه في منى ذات يوم، فإذا هو محاصر بهجمة من الناس قد أحاطت به من كل صوب، بعضهم مكب عليه، وبعضهم قائم ينتظر دوره، وهو راض يسمع ويجيب دون أن يبدو عليه أي تذمر؛ لأن الشيخ من صفاته الغريبة والفذة التواضع الشديد. رأيته مرة في منى وقت رمي الجمرات، فكان يمشي في نعل رطب جداًً، ويلبس ثوباً قصيراً في غاية التواضع، ولولا نور العلم الذي كان يضفيه الله سبحانه وتعالى عليه لقلت: هذا رجل من الفقراء والمساكين ماشٍ بالعصا، والجندي يدله على مكان رمي الجمرات، فيرمي الجمرات وحده، فهل ينكر أحد أن هذا هو الملك الحقيقي، وأن هذا هو الزعيم من زعماء الحق، ومع هذا لا يحتاج إلى الشرطة ولا كذا وكذا، فهذا هو الملك الذي ليس بعده ملك في الدنيا. يقول: ومع أن الشيخ يعطي كل زائر ومراجع حقه المناسب عند مجلسه وإسناده، فالملاحظ أن له عناية خاصة بالفقراء والضعفاء، حتى لقد رأيت منهم من تأخذه نشوة الاعتزاز مما يجده من انبساطه إليه، واهتمامه بشئونه الخاصة، كأنه واحد من أقرب الناس إليه. فالشيخ كان منحازاً جداً للفقراء والضعفاء والمساكين، وكان كل الناس في السعودية وإلى اليوم لا يعبرون عن الشيخ إلا بالوالد، فهو كالأب لهم جميعاً كباراً وصغاراً، ما من أحد إلا ويحس أنه والده وأبوه، حتى الفقراء والضعفاء يفخرون بالاعتزاز أن الشيخ يعطيهم هذا القدر من الاهتمام، وهذا يذكر بمجلس سفيان الثوري رحمه الله تعالى، فقد قيل في وصف مجلسه: ما رأيت الفقراء والضعفاء والمساكين في مجلس أعز منهم من مجلس سفيان، فقد كان يكرمهم جداً، ويعلي شأنهم، وهكذا الشيخ رحمه الله تعالى كان ينحاز جداً للفقراء والمساكين والضعفاء، ويعطف عليهم، ويحسن إليهم. وفي الحقيقة أن سيرة الشيخ ابن باز هي ظاهرة غيرت مجرى التاريخ الإسلامي، خاصة في هذا العصر الذي أجدب بأمثال هذه النماذج الفذة، فلذلك نتوقع إن شاء الله تعالى أن تصدر تراجم كثيرة توفي الشيخ بعض حقه. وقد وصف الشيخ ابن باز بأنه حاتم الطائي في هذا العصر من كرمه وجوده وإحسانه إلى الفقراء. يقول الشيخ المجذوب حفظه الله تعالى: ولا أذيع سراً إذا قلت: إن نصيب هؤلاء من الشيخ لا يقتصر على حنانه وتلطفه، بل كثيراً ما يتجاوز ذلك إلى العون الذي يسد الحاجة، ولو كلفه ذلك الحيف على ميزانيته والذين يعرفون الشيخ عن قرب يقولون: إن الشيخ ما تمر أيام قليلة من الشهر بعدما يتقاضى مرتبه إلا ويكون قد استدان إلى أن يأتي الشهر الجديد، ويسدد الدين من مرتبه؛ لأن الشيخ كان لا يرد سائلاً أبداً. يقول الشيخ: وإذا سمحت لنفسي برواية ما يتناقله عارفوه قلت: إن ذلك كثيراً ما يرهق الشيخ بتحميله ما لا يطيق. بعض الناس يتصور الشيخ ابن باز شخصية سياسية، والحقيقة أن الموقع المتميز الذي كان فيه، هو أعظم من ذلك بكثير، وهذا نتيجة سر أودعه الله سبحانه وتعالى في قلوب خلقه، ويشير إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إن الله يحب فلاناً فأحبه، ثم ينادي جبريل في الملائكة بذلك، ثم يوضع له القبول في الأرض) إلى آخر الحديث المعروف، فهذا هو السر في الحقيقة، والشيخ ابن باز ليس شخصية سياسية، وإلا فالشيخ ما أعطي حقه الذي يستحق، الشيخ ابن باز كانت سيارته تقف أمام الحرم ليدخل يصلي في الحرم المكي، فقد كانت له هذه المكانة المتميزة التي يتربع بها في قلوب جميع أئمة أهل السنة وأنصار السنة في كل بقاع الأرض؛ وذلك لأن هذه المحبة التي أوجدها الله في قلوب العباد للشيخ رحمه الله ما كانت تستمد من موقعه ولا من وظيفته ولا غيرها؛ لأن أي وظيفة ستكون أقل مما ينبغي لإمام الدنيا، ولرجل الأمة، ولشيخ الإسلام في هذا الزمان. يقول: ومما يندرج في هذا النطاق من أخلاق الشيخ طبيعة الكرم التي لا يملك لها تغييراً ولا تعديلاً، فعلى مائدته يلتقي بالصغير والكبير، والغريب والقريب، وما أحسب طعاماً له خلا من عديد الضيفان، حتى لكأنه هو القائل: إذا ما اصطنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي أخا سفر أو جار بيت فإنني أخاف مذمات الحوادث من بعدي بهذه الأخلاق الرضية كان الشيخ رحمه الله يستجيب لدعوات الآخرين، فلا يستمسك عن حضورها إلا لرجل قام، وقد يكون الداعي له تلميذاً له أو واحداً من عامة الناس، يقول: وأذكر أني حللت في ضيافته أياماً بمدينة الرياض فلم يتناول غداءه إلا على مائدة غيره من الداعين له. يعني: طوال الفترة التي مكث فيها الشيخ المجذوب معه كان الشيخ دائماً مدعواً عند أحد، فكانت الدعوات تتوالى عليه من كل صوب، فيأمر بتحديد ما يمكن إجابته منها في جدول خاص، فلا ينفك يعتذر به كلما زادت الدعوات عن عدد الأيام، وهذه من المسائل الكثيرة التي أرتني مدى حب الناس لهذا الرجل. وقد كان وما يزال رحمه الله تعالى وقته مباحاً للمراجعين، يأخذون منه ما يشاءون كما يشاءون، ولكل منهم حاجته الخاصة، مما قد يحيط على أعماله الرسمية، فكان لابد من تنظيم أفضل لهذه الجوانب، فقسم الشيخ وقته حسب الإمكان، جزء للعمل الرسمي، وآخر للمستفتين والمراجعين، وثالث للمراسلات والاتصالات، يتناوب على الكتابة للشيخ عدد من المساعدين يقرءون له ما يريد من نصوص المراجع، وما يرد إليه من الرسائل، ثم يتلقون منه الفوائد التي لا يكاد يخلو منها يوم، وإذا كان كتّابه هؤلاء يستحقون الإشفاق لكثرة ما يتحملون من هذه المتاعب، فهو أحق منهم بإشفاق المحبين؛ لأن الجهد الذي كان يعانيه رحمه الله تعالى تنوء به العصبة أولو القوة. والحق أن أحدنا ليتساءل في دهشة كيف يستطيع هذا الرجل النهوض بكل هذه الأعباء؟ ثم يتذكر أنها البركة التي يختص بها الله من يشاء من عباده، فتحقق لأحدهم من أعمال اليوم الواحد ما تضيق به الأسابيع، بل الأشهر من أعمال الآخرين، وعلى ضوء هذا الواقع الملموس من حماس حياة الشيخ لزم التفسير المعقول لذلك الإنتاج الضخم الذي خلفه للأجيال أولئك السابقون من أمثال ابن تيمية وابن الجوزي والنووي والكثيرين من صالحي المؤمنين.

جدول الشيخ ابن باز وأعماله اليومية

جدول الشيخ ابن باز وأعماله اليومية يقول: ولكي تتوفر للقارئ الصورة المقربة لأعباء الشيخ أضع بين يديه هذه القائمة التي تكاد تستوعب عمل اليوم والليلة من واقعه الذي يوشك ألا يتغير. يبدأ دوام الشيخ الرسمي قرابة الساعة التاسعة من ضحى كل يوم، فإذا ما وافى مقر الرئاسة وجد المراجعين يملئون الأمكنة المعدة لهم بانتظاره، فيحييهم، ويستقبل مصافحيه ومعانقيه منهم، ثم يأخذ مكانه، وإلى جانبيه كاتبان مع كل منهما كدس من الأوراق المقدمة من هؤلاء، وكثير من يجتزئ عن الكتابة بالعرض الشفهي، فيبدأ بالاستماع إلى مضمون كل معروض على حدة، حتى إذا ما فرغ الكاتب من التلاوة المهموسة أملى عليه التعليق الذي يراه الشيخ، فإذا ما استوفى الكاتب بعض أوراقه تركه يستريح، والتفت إلى الآخر الذي يشرع في عرض ما لديه، وتلقي ما يملي عليه، وهكذا حتى تنفذ العرائض أو يحين وقت صلاة الظهر. وقد تكون هناك اجتماعات لبعض اللجان تستدعي حضوره فينهض إليها، ثم يعود ليستقبل بقية المراجعين المشافهين، وكثيراً ما يمتد دوامه هذا إلى ما بعد انصراف الموظفين، فيظل هو ومن لابد من بقائه من مساعديه حتى ينطلق إلى البيت مع ضيوفه الذين لا يخلو غداء له ولا عشاء من بعضهم، وبعد الطعام يدعو بالقهوة والطيب، ويتحدث إلى جلسائه المرافقين والمنتظرين في مصالحهم، حتى إذا وافى موعد صلاة العصر أخذ سبيله إلى المسجد فصلى وراء الإمام في المدينة أو صلى بالناس في مسجد الرياض الكبير، وكثيراً ما رأيته يعقب الصلاة بموعظة قصيرة، ثم يعود إلى المنزل لمواصلة ما انقطع من حديث أو استقبال مراجعين جدد، وقل ما يخلو ذلك الوقت للقراءة في بعض الكتب القديمة، يتلوها عليه بعض المشايخ من خاصة طلبته، إلى ميعاد المغرب فيمضي معهم إلى المسجد، ثم يعود معهم إلى المنزل من قراءة والنظر في شئون الناس حتى وقت العشاء، وبعد أداء الصلاة يتناول مع الحضور طعام الليل، ثم يقبل عليه أحد مساعديه في المعاملات الخاصة بالمساجد ونحوها فيستمع ويملي، ولا يزال بين قراءة وإملاء وحديث في المكان حتى وقت متأخر، وقلما يتاح له الإخلاد إلى النوم قبل منتصف الليل! ويحين موعد صلاة الفجر في اليوم التالي فيتهيأ لها، ثم يأخذ كنفه إلى المسجد مع مرافقه، فإذا ما عاد إلى المسكن جلس يجيب في الاستفتاءات الواردة إلى مكتب البيت من مختلف الأرجاء والأقطار، فإذا فرغ منها نظر في طلبات المستشفعين من أصحاب الحاجات، فأوردها مواردها اللازمة، وهنا يوافيه موعد الدوام الرسمي فينهض إليه على عادته التي وصفناها. هذه هي الصورة المقاربة ليوميات الشيخ، نقلنا بعضها من مشاهدتنا، ومعظمها عن أخ كريم طويل الصحبة له، ومن حق القائل أن يستشعر العجب بإزاء هذه الوقائع التي تكاد لا تصدق، ولكنها مع ذلك حقيقة يعرفها عن الشيخ كل من خالطه عن كثب.

مفهوم الشورى عند الشيخ ابن باز رحمه الله

مفهوم الشورى عند الشيخ ابن باز رحمه الله ثم يقول: وصف الله المؤمنين بقوله الحق: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وألزم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو المؤيد بوحيه ألا يفارق الشورى في كل شأن هام فقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وقد استمرت مسيرة المجتمع المسلم في صعود حتى أسقطوا هذا المبدأ من حياتهم، فباتوا عرضة لتقلبات الأهواء، يتخذهم المستفزون مطايا لشهواتهم، حتى انتهوا إلى التخبط في الظلمات، والشيخ الذي أخذ نفسه بأدب الإسلام عزائمه ورخصه ما كان أبداً يتخلى عن مبدأ الشورى في أي شأن يقتضيه، وقد شاء الله أن أصحبه في مجلس الجامعة عدداً من الاجتماعات، فقيض لي أن أشهد من فضائله -وبخاصة في هذا الجانب من خلقه- ما لا يصح إغفاله من أي ترجمة تكتب عنه، أول ما نواجهه من فعل الشيخ في هذه المجالس ذلك الأنس الذي يشيعه في نفوس الأعضاء، لسؤاله كلاً منهم عن حاله وصحته، ووقوفه على ما سمع من الأنباء العالمية وأحوال المسلمين، فإذا ما بدأ النظر في جدول الأعمال أخذ بكل منها على حدة، فعرضت المناقشة وأعطى كل عضو رأيه فيها، فإذا انعقد على وجه منها بالإجماع أثبت ذلك في المحضر، وإلا طرح كلاً من الوجوه المختلفة للتصويت، وتقرر في شأنها الوجه الأجمع للأصوات، وكثيراً ما يكون هذا الترجيح مخالفاً لرأي الشيخ، ولكن ثقته بأعضاء المجلس، والتزامه بمبدأ الشورى، ينتهيان به إلى الرضا التام بكل ما تم. وذات ليلة احتدم النقاش حول إحدى القضايا المطروحة، وتباينت الآراء فيها، وكأني بالشيخ خشي أن يكون في إبدائه وجهة نظره إحراجاً للآخرين فقال بلهجة ملؤها الود: أرى -يا إخوان- أن يأتي رأيي ورأي نائبي آخر الآراء؛ لئلا يكون في ذلك حرج لكم! وهذا مسلكه أيضاً في كل شأن يتسع للتساؤل، حتى القضية التي يسأل بها في الفقه -وهي من صميم اختصاصه- فيناقشونه الرأي فيها على ضوء النصوص الواردة في شأنها، حتى يطمئن قلبه إلى الوجه الأمثل، وقد يعترضه الأمر فيه الإبهام فيطرق ملياً يتأمله في صمت، ثم يدلي برأيه أو يقول لمن حوله ممن يثق به: أشيروا علي. وهذا الرجل السهل السمح الحليم، محب الفقراء، سرعان ما ينقلب أسداً لا يرده عن إقدامه شيء إذا علم بظلم يقع على المسلمين، أو عدوان على شريعة الله عز وجل، إن مسلك الشيخ في هذه الناحية هو مسلك العالم الإسلامي الذي يوقن أنه مسئول عن حماية محارم الله، والدفاع عن حقوق أهل الإسلام بكل ما يملك من طاقة، وبدافع من الشعور الكامل بهذه المسئولية يتتبع أحوال العالم الإسلامي، فلا ينال المسلمين خير إلا فرح به، ولا يمسهم سوء إلا اضطرب له، ويرتفع غضبه إلى القمة حين يتعلق الأمر بدين الله، لذلك تراه أسرع العلماء إلى إنكار البدع؛ لأنها بنظره عدوان على حقائق الوحي، وتغيير لدين الله، وفي النهاية هي إبعاد للمسلمين عن جادة الإسلام.

مراسلات الشيخ ابن باز للحكام والطغاة

مراسلات الشيخ ابن باز للحكام والطغاة عندما أصدرت محكمة البغي قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه رحمهم الله اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم من مثل هذه النازلة التي لا تستهدف حياة البرآء المحكومين بقدر ما تستهدف منزلة الإسلام نفسه والمعتصمين. يقول الشيخ المجذوب حفظه الله: وكلفني الشيخ يومئذ بصياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف، فكتبتها بقلم يقطر ناراً وكرهاً وغيرة وأدخلتها عليه وكلي يقين بأنه سيدخل عليها من التعبير ما يجعلها أقرب إلى لغة المسئولين الدبلوماسيين منها إلى لغة المنذرين، ولكنه حطم كل التوقعات حين أقرها جميعاً، ولم يكتف حتى أضاف إليها قول الله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، ووصلت يومئذ البرقية التي كانت -فيما أظن- الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي بهذه المناسبة لما تحمله من عبارات أشد على الطغاة من نزع السياط. وينفخ الشيطان في نفس أحد الحكام فيعلن شبهاته بالطعن على كتاب الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الطاغية طعن في القرآن والسنة بتوجيهاته التي تقيأها في مؤتمر للمعلمين عام (1994م) وكان المجلس الاستشاري يضم ثلة من كبار علماء العالم الإسلامي يواصل اجتماعاته بالجامعة الإسلامية لدراسة المناهج وتطويرها، وإصدار توصياته بشأن الإحداثات التي تتطلبها المرحلة الجديدة، فوجه المجلس عدداً من برقيات الاحتجاج والاستنكار بمزاعم الطاغية حملت توقيعات الأعضاء جميعاً ما عدا واحداً اكتفى بالدعاء عليه، على أن الشيخ لم يستطع الاكتفاء بذلك فقال إلى كاتبه يملي عليه مقالاً في تفنيد تلك الأباطيل، وفضح مزاعم الطاغية التي تلم عن منتهى الجهل بالإسلام ولغة العرب، وقد نقلت الصحف والمجلات ذلك البيان الذي كان قطعة بارعة من فقه الشيخ وأدبه وغيرته اللاهبة على دين الله، يتلو تلك الهجمة الطائشة عدوان طواغيت الصومال من الشيوعيين على شريعة الإسلام. فمعروف أن عدو الله سياد بري، ألغى أحكام الإسلام في الميراث، وأعلن التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث، فثار ضده علماء المسلمين، فجمعهم في الميادين العامة وأحرقهم أحياء -عليه من الله ما يستحق- اعتداء منه على الإسلام، ثم تلته هذه الهجمة من طواغيت الصومال الشيوعيين على شريعة الإسلام، إذ ألغوا أحكامها العادلة في موضوع الإرث والحياة الأسرية، ليحلوا مكانها أحكام جاهلية ماركسية، ولما أعلن علماء مقديشو حكم الله في عدوانهم هذا أخذت الظالمين العزة بالإثم، فأحرقوا عشرة منهم وهم أحياء، وزجوا بالعشرات الآخرين في السجون، فكان لهذا الطغيان الرهيب أثره العميق في قلب الشيخ، لم يلمس إزاءه سوى القلم الذي حمل إلى البغاة ما يجب أن يتلقوه من مثله رحمه الله، وقبل ذلك كان للشيخ صولة في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، خرج منها بالقرار التاريخي الذي يدين ثلة الشيوعيين الذين يفرضون وجودهم بقوة الحديد والنار، وطواغيت موسكو على مسلمي الجنوب العربي الذي لم تقف فيه حمامات الدم منذ استيلاء هذه العصابة الحاقدة على زمام السلطة في عدن وحضرموت، وعلى هذا الغرار يمضي الشيخ في مواجهة الأحداث التي تهم بالإسلام وأهله على مستوى العالم الإسلامي كله.

تمكن الشيخ من الخطابة وتميزه فيها

تمكن الشيخ من الخطابة وتميزه فيها يحكي الشيخ حفظه الله كيف استقبلت الجامعة الإسلامية (عام 1393هـ) الملك فيصل، ثم وقف الشيخ يلقي كلمة يوجز فيها تاريخ الجامعة وأطوارها، ويذكر زيادة طلابها، وعدد خريجيها، ومطالبهم بعد التخرج، حيث انطلقوا يحققون رسالتها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى وقف يذكّر -في حضور الملك فيصل رحمه الله- بأهمية الإعلام في تبليغ الدعوة، وإبراز محاسن الإسلام للسامعين والناظرين والقارئين، ويذكر الملوك والأمراء بمسئوليتهم في هذا الصدد، ويهيب بالإعلام بعدم الانجراف في المزالق التي سبقه إليها الآخرون، وكان يتكلم بحرارة توحي للسامعين أنه يؤدي أمانته، ويبرئ ذمة، كأنما يستحضر مشهد الحشر حيث يسأل كل إنسان عما علم، وتكون مسئولية العلماء أضخم المسئوليات، ثم علق الشيخ المجذوب في هذه اللحظات بقوله: لم أتمالك نفسي أن قلت: الحمد الله الذي حفظ للإسلام من يقول مثل هذا الكلام. ثم تكلم عن الشيخ ابن باز خطيباً رحمه الله تعالى فيقول: من الأمور الهامة أن يلمس القارئ ثقافة الشيخ في اللغة والأدب؛ لأنهما من الأسس الرئيسية لنظام التعليم الإسلامي، فإن كل جهد يبذل لفهم الآية أو الحديث أو استنباط الحكم الفقهي ذاهب سدى إذا لم يدعم بتعمق في قواعد العربية وآدابها وغريبها، وما يتبع ذلك من علوم البلاغة والنثر والشعر، وقد كان للشيخ أدواته الكافية الوافرة لإجابة الأشياء البديعة، فأهل العلم أكثر ما تنمو قدرتهم الأدبية في نطاق الخطابة؛ لأن معظم اعتمادهم عليها في الدرس والوعظ والدعوة، وهذا ما يتجلى واضحاً في مواهب الشيخ ابن باز، إنه لخطيب مبدع سواء في محاضراته الكثيرة أو تعقيباته على محاضرات غيره أو في توجيهاته الحكيمة التي تشرئب إليها الأسماع. ومن خصائصه الخطابية قدرته على ترتيب أفكاره حتى لا تتشتت، وضبطه لعواطفه حتى لا تغلب عقله، ثم سلامة أسلوبه الذي لا يكاد يعتريه اللحن في صغير من القول أو كبير. وأخيراً: تحرره من كل تكلف. إن هذا الرجل من أشد الناس غيرة على حقائق الوحي واستمرارها سليمة من كل شائبة، وفي طبعه النفور عمن شذ عن هذا، فإذا ما سمع أي شيء من ذلك لم يلبث أن ينهض للتعقيب عليه بما يبين وجه الحق، فرحمة الله عليه رحمة واسعة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فوائد من السنة النبوية

فوائد من السنة النبوية جُبلت النفس البشرية على التطلع إلى مافي أيدي الآخرين، وهذا قد يفظي بها إلى العدوان عليهم، فيعتدي المرء على غيره قاصداً أخْذ ماله، أو إزهاق روحه، أو هتك عرضه، ومن ثَم فقد شُرع في الإسلام دفع هذا المجرم المعتدي بما يسميه الفقهاء (أحكام دفع الصائل)، وفيما يلي بيان لهذا الحكم الشرعي.

شرح حديث: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي)

شرح حديث: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي) الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى). هذا الحديث رواه محمد بن نصر في كتابه (تعظيم قدر الصلاة)، والبيهقي في الدلائل من حديث أنس، وفيه الحارث بن سعد الإيادي ضعفه الجمهور، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. ورواه -أيضاً- الطبراني في الأوسط، وابن أبي عاصم في السنة، ورمز السيوطي له بالصحة، وحسنه الألباني. فالحديث هو عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى). أما الحلس فهو كساء يبسط ويفرش في أرض البيت، وهو قماش رقيق يوضع على ظهر البعير تحت قتبه، فشبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل عليه السلام بالحلس برؤيته لاصقاً بما تلبس به من هيبة الله تعالى، وشدة فرقه منه، فالسر في هذا التشبيه هو أن الحلس يلصق بالأرض، أو يلصق بظهر البعير، وكذلك هذا الخوف وهذه الخشية من الله سبحانه وتعالى لصيقة بجبريل عليه السلام تماماً كلصوق الحلس بالأرض، أو بظهر البعير. وتلك الخشية التي تلبس بها جبريل عليه السلام هي التي ترقيه في مدارج التبجيل والتعظيم، حتى دعي في التنزيل بأنه الرسول الكريم، وعلى قدر خوف العبد من ربه سبحانه وتعالى يكون قربه، فلأن جبريل عليه السلام شديد الخوف والخشية والهيبة لله سبحانه وتعالى فلذلك كان قريباً معظماً عند الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث أن الملائكة بين الخوف والرجاء كسائر المكلفين، مع أن الملائكة لم يخلقوا من نفس طبيعة البشر من حيث وجود الشر أو العصيان، وإنما هم لا وظيفة لهم سوى عبادة الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتحميده والسجود له، ومع ذلك فهم دائماً بين الخوف والرجاء يخافون الله سبحانه وتعالى، فأولى لهم أن يكونوا كالملائكة الذين لا يفعلون المعاصي وهم معصومون منها، فما بالك بمن ليله ونهاره في معصية الله سبحانه وتعالى، فلاشك في أنه لو فقه وعلم حق العلم لكان أشد خشية لله سبحانه وتعالى، فهذا حال جبريل -وهو أفضل الملائكة- يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى). فيفهم من ذلك أن الملائكة يكونون بين الخوف من الله سبحانه وتعالى ورجائه كسائر المكلفين. قال الحكيم الترمذي: (وأوفر الخلق حظاً من معرفة الله سبحانه وتعالى أعلمهم به) فكلما زاد علم الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعرف الله أكثر كلما ازداد خوفه من الله عز وجل، وأعظمهم عنده منزلة هو -أيضاً- أخوفهم من الله، وأرفعهم عنده درجة وأقربهم منه وسيلة. فالأنبياء إنما فضلوا على الخلق بالمعرفة لا بالأعمال، وما ثبت من تفضيل الأنبياء عليهم السلام على سائر البشر ليس بكثرة العمل، بل بكثرة العلم والمعرفة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يعرفون الله عز وجل أكثر، فلو كان تفاضلهم بالأعمال لكان المعمرون من الأنبياء وقومهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته، أي لكانت تلك الأمم التي عاشت أكثر منا أفضل عند الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقع، ولكان أنبياؤهم كذلك الذين عمروا وطالت أعمارهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر ليس بذلك، وإنما العبرة بمعرفة الله سبحانه وتعالى وليس بالأعمال، فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والرسول صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثاً وستين سنة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هو أفضل من نوح، بل أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فدل على أن العبرة في المفاضلة خشية الله، وعظم المعرفة به، وليس بمجرد الأعمال. فهذا نموذج من الغيب الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة رحلة الإسراء. وهذا الملك العظيم جبريل عليه السلام لو تخيلنا عظم خلقه لرأينا أمراً يفوق الوصف، فجبريل رآه النبي عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح قد سدَّ الأفق، هذا هو جبريل وعظيم خلقه، ومع ذلك فانظر إلى خوفه وخشيته لله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الملائكة، فالملائكة قد وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]؛ فالملائكة يتصفون بكل صفات العبودية لله سبحانه وتعالى، وهم قائمون بالخدمة بين يديه، ومنقادون لأوامره، وعلم الله سبحانه وتعالى بهم محيط، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا هذه الأوامر، بل هم خائفون وجلون منه سبحانه، ومن تمام عبوديتهم له سبحانه وتعالى أنهم لا يقترحون شيئاً على الله عز وجل، كما قال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]. وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا) وذلك لأن النبي عليه السلام كان شديد المحبة لجبريل عليه السلام، فكان يشتاق إلى نزوله عليه بالوحي وإلى ملاقاته، فلما قال له ذلك نزلت هذه الآية الكريمة في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]. وفي القرآن الكريم نماذج من اجتهاد الملائكة في عبادة الله سبحانه وتعالى، فأعظم ذكر يلزمه الملائكة هو التسبيح وتنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق، فهؤلاء حملة العرش قال الله عز وجل عنهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5] وهذا التسبيح دائم لا ينقطع أبداً في ليل ولا نهار، يقول عز وجل: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] لا يصيبهم السأم ولا الملل، ولذلك حق لهم أن يفتخروا بأنهم هم المسبحون لله سبحانه وتعالى على الحقيقة؛ لأنهم ملازمون للتسبيح لا ينقطعون عنه أبداً، فحق لهم أن يفتخروا بذلك، كما حكى الله عز وجل عنهم في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:165 - 166]؛ أي: نحن المسبحون لله على الحقيقة. لأنهم لا يغفلون أبداً عن تسبيح الله سبحانه وتعالى، ولا شك في أننا حين نتصور هذا الأمر لابد لنا من أن نحتقر الأعمال التي نعملها، فليست شيئاً يذكر في جانب عبادة الملائكة، فنحن لن ننجو إلا برحمة الله لا بالأعمال، ولكن مهما كانت فهل ستصل إلى عبادة الملائكة؟! وما كثرة تسبيحهم إلا لأن التسبيح أفضل الذكر، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده. سبحان الله وبحمده). أما صلاتهم: فالملائكة يصطفون عند الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقيل: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟! فقال عليه الصلاة والسلام: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري. وقال سبحانه وتعالى في القرآن: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] فهم يقومون ويركعون ويسجدون، كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء. قال: إني لأسمع أطيط السماء) والأطيط هو صوت الأحمال على ظهر البعير، فعندما يكون مثقلاً بالأحمال على ظهره فإنه يئط من شدة الثقل، فهذا إشارة إلى شدة ازدحام الملائكة عليهم السلام في السماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأسمع أطيط السماء، وحق لها أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم). والملائكة لهم كعبة في السماء يحجون إليها، وهذه الكعبة هي التي أسماها الله سبحانه وتعالى: البيت المعمور، وأقسم به في سورة الطور لما تأتيه الملائكة، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعدما جاوز السماء السابعة. (ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، يعني: أن الذين يدخلون كل يوم

أحكام دفع الصائل

أحكام دفع الصائل روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه عن سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)، وهذا الحديث رمز له السيوطي بالحسن، وقال -أيضاً- في حقه: هو حديث متواتر. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله) فمعناه: عند ماله. وكلمة (دون) في الأصل هي ظرف مكان، تقول: جلست دونه. أي: في مكان أقل منه. فـ (دون) أصلها ظرف مكان بمعنى (أسفل) أو (تحت)، واستعملت هنا بمعنى: (لأجل)، (من قتل دون ماله) يعني: لأجل ماله، فهي للسببية؛ لأن الذي يقاتل دون ماله كأنه يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عنه، وهذا ذكره جمع من العلماء. والمقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (فهو شهيد) أي: في حكم الآخرة لا في أحكام الدنيا، فلا تطبق عليه في الدنيا أحكام الشهيد الدنيوية من أنه لا يغسل، ولا يصلى عليه ويدفن بدمائه، وغير ذلك من الأحكام الخاصة بالشهيد. أما هذا فله حكم الشهادة في الآخرة لا في الدنيا، والمقصود من الحديث أن له ثواباً كثواب شهيد مع ما بين الثوابين من التفاوت، فهناك تفاوت -بلا شك- عظيم بين من يجاهد في سبيل الله ويقتل في ساحة القتال، وبين هذا الذي يقتل دون ماله أو عرضه أو دينه، فهو له ثواب كثواب الشهيد مع ثبوت التفاوت بين الدرجتين، والحكم له بالشهادة لأنه محق في القتال والدفاع عن هذه الأمور، كما أنه مظلوم بطلب هذه الأشياء منه، سواء أكان المطلوب غصب ماله، أم انتهاك عرضه، أم إراقة دمه، أم غير ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون دمه) يعني: في حالة الدفع عن نفسه. كشخص يريد أن يقتله ويصول عليه بالقتل، فهو يدافع عن نفسه، فمن قتل دون دمه في الدفع عن نفسه فهو شهيد. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون دينه)، المقصود به: من قتل في نصرة دين الله تبارك وتعالى والذب عنه وقتال المرتدين؛ لأن المرتدين خارجين على الدين، فهو شهيد. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون أهله) أي: في الدفع عن بضع حليلته أو قريبته. يعني العرض أو الشرف، فقوله: (ومن قتل دون أهله) أي: مدافعاً عن أعراضهن (فهو شهيد) بحكم الآخرة لا بحكم الدنيا؛ لأن المؤمن بإسلامه له حرمة ذاتاً ودماً ومالاً وأهلاً. إن كل ما سبق من الأمور ينبغي أن تحترم ولا تنتهك، فإذا ورد شيء من ذلك جاز له الذب عنه أو وجب على الاختلاف المعروف، وهذه مسألة أخرى، وهي: هل الدفاع الشرعي في هذه الحالة واجب أم أنه جائز فقط؟ ويحسن بنا في أثناء تناول هذه المسألة أن تتناول كل مسألة منها على حدة؛ فإن للعلماء خلافاً في ذلك وتفصيلاً. وضابط أمر الدفع أنه يدفعه دفع الصائل، فلا يصعد إلى رتبة وهو يرى ما دونها كافياً، فإذا أدى هذا الدفاع المتدرج الذي يحتمل الشروط الموجودة في فقه دفع الصائل إلى قتله فهو هدر، أي: لا قصاص على القاتل. لأنه كان في حالة الدفاع عن النفس. وهذا الحديث هو العمدة والأساس في باب معروف من أبواب الفقه هو باب الدفاع الشرعي، أو ما يعبر عنه في الفقه بـ (دفع الصائل).

ضوابط دفع الصائل

ضوابط دفع الصائل ما هي الضوابط التي تحكم الإنسان إذا صال أو اعتدى معتد على شيء من هذه الأشياء المحترمة؟ لقد خصص لهذا الدكتور وهبة الزحيلي فصلاً مستقلاً في رسالته: (نظرية الضرورة الشرعية مقارنة مع القوانين الوضعية) وهو أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الشريعة والحقوق، ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق سابقاً. يقول -حفظه الله تعالى- في هذا الفصل الذي وضح فيه شروط وضوابط قضية دفع الصائل: إذا اعتدى إنسان على غيره في نفس أو مال أو عرض، أو صالت عليه بهيمة -لأن العدوان لا يشترط فيه أن يكون من إنسان، فقد يكون من بهيمة- فللمعتدى عليه أو لغيره أن يرد العدوان بالقدر اللازم لدفع الاعتداء حسب تقديره في غالب ظنه، مبتدئاً بالأخف فالأخف إن أمكن، فإن أمكن دفع المعتدي بكلام، واستغاثة بالناس، حرم عليه الضرب. يعني: إذا كنت تستطيع أن تدفعه برفع الصوت وطلب المعونة من الناس والاستغاثة بهم فيما يقدرون عليه من معاونتك على ذلك فيحرم عليك أن تتدرج إلى مرحلة أشد وهي الضرب والقتل، ويجب عليك أن تفعل ذلك فقط، فإذا كان يندفع بضرب اليد فيحرم عليك استعمال السوط، وإن أمكن الدفع بالسوط حرم استعمال العصا، وإن أمكن الدفع بقطع عضو حرم القتل؛ لأن ذلك جوز للضرورة استثناءً من قاعدة: (الضرر لا يزال بالضرر)، وأصل هذه القاعدة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) أي: نهى عن أن يضر الإنسان الآخرين ابتداءً، ونهى عن أن يقابل إضرارهم بإضرار، فأخذ من هذا الحديث قاعدة أن الضرر يزال، ثم صرح العلماء بأن الضرر يزال لكن بدون أن توقع ضرراً، ولنفرض أنه لابد من وقوع ضرر واضح، ففي حالة وقوع ضرر ومنفعة فالضرر يقدم على جلب المنفعة، وإذا كان هناك احتمال أن يحصل ضرران لكن أحدهما أشد من الآخر، فيرتكب الضرر الأخف دفعاً للأشد. إذاً: الضرر يزال لكن لا بضرر، فإن كان لابد من ضرر فيختار أخف الضررين. وليس هناك ضرورة تلجئك إلى أن تستعمل الأخطر والأشد مثل قطع العضو وأنت تستطيع أن تدفعه بالضرب، ولا ضرورة في اللجوء إلى الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، فمادام أنه يمكنك أن تدفع عن نفسك أو مالك أو عرضك بالشيء الأسهل فلا تنتقل إلى ما هو أشد منه وأثقل، فالدمع بالأشد إنما يصبح في حال الضرورة، وليس ضرورة كونك تستطيع دفعه بما هو أخف. يقول: ومن المعلوم أن الضرورة تقدر بقدرها، حتى إنه إن تمكن المعتدى عليه أو المصول عليه من الهرب أو الالتجاء بحصن أو جماعة فيجب عليه ذلك عند الشافعي، وفي وجه عند الحنابلة، ويحرم قتال المعتدي أو الصائل بحيث إذا كان يحرز نفسه أو أهله أو ماله في مكان فلا يناله هذا الصائل، والشافعية يوجبون عليه أن يلتجئ إلى هذا المكان، ولا يدفعه بالقتل أو غيره، وهو وجه عند الحنابلة؛ لأن المعتدى عليه مأمور بتخليص نفسه بالأهون فالأهون، وبما أن الهرب ونحوه أسهل من غيره فلا يلجأ إلى الأشد. قال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: (إذا انكف الصُوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم) والصيال: مأخوذ من قولهم صال الفحل صولاً وصيالاً: إذا وثب البعير عل الإبل يقاتلها، فمن يعدو على الناس ويقتلهم يقال له صائل، يقول العز رحمه الله: (إذا انكف الصوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم) فمادام أنهم توقفوا عن العدوان على الدم أو النفس أو المال أو الأرض فإنه يحرم قتلهم وقتالهم.

أدلة دفع الصائل

أدلة دفع الصائل الدليل على مشروعية هذا المبدأ قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة التزام مبدأ المماثلة أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف، فهذا دليل من القرآن على وجوب احترام هذه القاعدة، وهي قضية التدرج وعدم الأخذ بالأثقل مع إمكان الدفع بالأسهل، يقول تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194] يعني: ولا تزيدوا عن المثلية، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194]. فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة أخذ مبدأ المماثلة، أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف، أما السنة فقد ذكرنا حديث سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة الذي صدرنا به الكلام، وهناك جملة أخرى من الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه). فلما كانت هذه العين خائنة أصبحت هدراً، وإنما شرع هذا أساساً لأجل البصر، وحتى لا تقع عيون الناس على عورات البيوت، فإذا كان هذا يدخل بعينه عن طريق النظر من خلال الثقوب أو غير ذلك فكأنه دخل؛ لأن العبرة بوضع الأبواب والستائر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، فإذا كان قد انتهك حرمة البيت وامتدت عينه الخائنة إلى عورات الناس في بيتهم فإنهم إذا فقئوا عينه بأي آلة وهو ينظر من هذا الثقب فإن عينه هدر ولا قصاص هنا في هذه الحالة؛ لأنه معتد بانتهاكه حرمة بيوت الآخرين، وهذا نوع من الصيال والعدوان على الناس. ومن هذه الأحاديث -أيضاً- أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فيه بشدة فوقعت ثنيتاه، أي أن الثاني عض يد صاحبه بشدة لدرجة أن الثنيتان انكسرتا ووقعتا، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (يعض أحدكم يد أخيه عض الفحل! لا دية لك) أي: أنت الذي تسببت في ذلك وعضضته وهو يدفع عن نفسه ويحاول أن يخلص يده. فلذلك أهدر هاتين الثنيتين ولم يوجب عليه الدية. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن عدى على مالي؟! قال: انشد الله) يعني: انشده بالله، واستحلفه بالله أن يتركك ومالك ولا يعتدي عليك، قال: (فإن أبو علي) أي: فعلت ثم أصروا على أن يعتدوا على مالي، قال: (قاتل، فإن قُتلت ففي الجنة، وإن قَتلت ففي النار) أي: الذي قتلته يكون في النار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فيه من الفقه: أنه يدفع بالأسهل فالأسهل. وروى يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (كان لي أجير، فقاتل إنساناً فعض أحدهما صاحبه، فانتزع أصبعه فأنزل ثنيته -يعني: أزال ثنيته التي هي أسنان مقدم الفم- فسقطت، فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته، وقال: أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟!) أي: أتريد أن يتركك تقضم يده وتقطعها كما يفعل الفحل؟! فهو يدافع عن نفسه وينتزع يده حتى ينجيها وينقذها. فهذا فيما يتعلق بمبدأ الدفاع عن النفس الدفاع الشرعي أو دفع الصائل. ويدخل في دفع الصائل وفي الدفاع الشرعي -أيضاً- الدفاع عن الأخرين، والدليل على جوازه وأساس هذا المبدأ هو الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، والحرمة في المجتمع الإسلامي تشمل اثنين: المسلم والذمي؛ لأن عهد الذمة الذي يعهده الإمام لأهل الذمة ينبغي أن يحترم ولا ينتهكه أحد، فيعتبر محترماً أو معصوماً، بمعنى أنه لا يجوز الصيال ولا الاعتداء على ماله أو عرضه ونحو ذلك. فأساس هذا المبدأ أو جواز الدفاع عن الآخرين هو: الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، ولولا التعاون لذهبت أموال الناس وأنفسهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة). فهذا شيء مما يتعلق بالأدلة على مشروعية مبدأ الدفاع سواء عن النفس أو عن الآخرين، فتعتبر أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء، فلا مسئولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية إلا إذا تجاوز حدود الدفاع المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً، ويحاكم من أجلها، ويعاقب ويتحمل المسئولية.

شروط دفع الصائل

شروط دفع الصائل أما شروط جواز دفع الصائل والأخذ بهذا المبدأ فهي أربعة شروط. أولاً: أن يكون هناك اعتداء في رأي أكثر العلماء، فلابد من أن يكون هناك اعتداء وصيال، وعند الحنفية: أن يكون الاعتداء جريمة معاقباً عليها. فالأحناف يقولون: يكون هذا الاعتداء عبارة عن جريمة يعاقب عليها. وجمهور العلماء يقولون: يشترط أن يكون اعتداءً يدخل تحت مسمى الاعتداء، وعلى هذا فممارسة حق التأديب من الأب أو الزوج أو المعلم وفعل الجلاد لا يوصف بكونه اعتداءً، وهذه الأشياء لا تدخل في مصطلح الاعتداء، فالأب له حق التأديب، والذي يؤدب ابنه عن طريق الضرب هل معناه أن لهذا الولد أن يقول: أبي يصول علي؟ لا. وكذلك المدرس إذا كان يؤدب تلميذه، ففعله لا يسمى اعتداءً، فهو يمارس حق التأديب، وكذلك المرأة الناشز جواز ضربها معروف بشروطه، فهذا -أيضاً- لا يعني صيالاً ولا عدواناً، وكذلك فعل الجلاد الذي هو موظف في الدولة الإسلامية يقوم بإقامة الحدود، فالحاكم أو الخليفة يأتيه بالشخص الذي يستحق الجلد حداً أو تعزيراً فيقيم عليه أمر الخليفة أو القاضي، فمثل هذا لا يطلق عليه أنه اعتداء، وكذلك فعل الصبي والمجنون وصيال الحيوان لا يوصف بكونه جريمة عند الحنفية؛ لأن الاعتداء لابد من أن يكون جريمة معاقباً عليها، قالوا: والصبي والمجنون والحيوان إذا صالوا على الإنسان فهذه ليست جريمة يعاقب عليها ولا يوصف الفعل فيها بكونه جريمة. الشرط الثاني: أن يكون الاعتداء في الحال واقعاً بالفعل لا مؤجلاً ومهدداً به فقط. أي: أن يكون الاعتداء في الحال، ويريد الصائل أن يعتدي بالفعل ليقتلك أو ليسرق مالك أو ينتهك عرضك، أو غير ذلك من الفعل الواقع في الحال، وليس مجرد تهديد غير مهم، كمن يقول لك سآخذ مالك، سأقتلك. فهذا مجرد تهديد لا يدخل في هذا الباب، فلابد من أن يكون الاعتداء واقعاً بالفعل لا مؤجلاً ولا مهدداً به فقط. الشرط الثالث: أن لا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، فإذا وجدت وسيلة أخرى ممكنة لدفع الصائل وجب استعمالها، فإذا أمكن دفعه -مثلاً- بالصراخ والاستغاثة فليس للمصول عليه أن يضربه أو يقتله، فإن فعل كان فعله جريمة، وإذا أمكن الاحتماء برجال السلطة أو استطاع المصول عليه أن يمنع نفسه أو يمتنع بغيره دون استعمال العنف فليس له أن يستعمله. الشرط الرابع: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لرده، فإن زاد على ذلك فهو اعتداء لا دفاع، فليس للمصول عليه أن يدفع الصائل بالكثير إذا كان يندفع بالقليل، وليس له أن يضربه إذا كان يندفع بالتهديد، وليس له أن يضربه بآلة قتل كالحديد إذا كان يندفع بضربه بالعصا، والله أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

حكم المرابحة [1]

حكم المرابحة [1] بيع المرابحة له صورتان: صورة قديمة جائزة، وصورة حديثة محرمة، وقد أجاز بعض الناس الصورة الحديثة بسبب عدم تمييزه بين الصورتين، ومعرفة صور بيع المرابحة وحكمها مع أدلتها من المهمات لاسيما في الآونة الأخيرة؛ حيث إن البنوك الإسلامية نشطت في هذه المعاملة، مع أنها في الحقيقة تقوم مقام الإقراض الربوي والعياذ بالله من لعنة الله.

أنواع البيوع التجارية

أنواع البيوع التجارية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فسنتكلم عن موضوع متعلق بمسألة فقهية ظاهرة، شاعت بين الناس في المعاملات العامة، والمعارض والنقابات، وشاع القول بإباحتها مطلقاً، وهي مسألة حكم بيع المرابحة وهناك حاجة ماسة إلى تحقيق القول في حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء. العلماء المعاصرون الذين صنفوا في هذا الموضوع يضطرون إلى ذكر هذا العنوان الطويل: (حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء) كما تجريه البنوك الإسلامية في هذا العصر، ولماذا احتاجوا إلى هذا؟ لأن هناك اشتراكاً في لفظ المرابحة بين المرابحة التي عرفها الفقهاء الأقدمون، وتداولوا هذا المصطلح في كتبهم، وبين المرابحة في الوضع الحالي، فلأجل هذا التمييز ولإزالة هذا الاشتراك اللفظي اضطر كل من كتب في هذا الموضوع إلى ذكر هذا العنوان الطويل حتى تتميز المرابحة التي ذكرها العلماء فيما مضى واصطلحوا عليها عما يجري الآن، فيقولون: (بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه البنوك الإسلامية المعاصرة). نبدأ أولاً بتحقيق الاسم نفسه؛ لأن الأسماء هي قوالب المعاني، فالتساهل في الأسماء قد يترتب عليه تطبيق أحكام على غير حقيقتها، فاسم المرابحة قد يختلط على بعض الناس مع بيع المرابحة المحرر عند متقدمي الفقهاء في باب بيوع الأمان، فمن أجل هذا الاشتراك اللفظي لابد أن نبين معناه عند الأقدمين، وقبل ذلك نمهد للموضوع، بأن نجري عملية استقرائية لأنواع البيوع، وهي على ثلاثة أنواع: بيع المساومة، وبيع الأمانة أو الأمان، وبيع المزايدة.

النوع الأول: بيع المساومة

النوع الأول: بيع المساومة هو بيع عن طريق مساومة تحدث بين الطرفين، فيحصل نوع من المساومة في هذا النوع من البيع، ثم يتفق المتبايعان على ثمن البيع، بغض النظر عن الثمن الأول الذي كلف البائع لشراء السلعة أو إنتاجها. بغض النظر عن كثرة الربح أو قلته أو خسارة البائع.

النوع الثاني: بيع المزايدة

النوع الثاني: بيع المزايدة وهو بيع من يزيد، وهذا جائز في المزاد، لكن شرطه: ألا يكون هناك نجش، فللبائع أن يقول: من يزيد؟ فهذا يقول: أشتريها بعشرة، وآخر يقول: باثني عشر، وآخر يقول: بخمسة عشر، فيعطيها لمن يعرض أكثر ثمن، فهذا لا حرج فيه من الناحية الشرعية إلا إذا اتفق صاحب المزاد أن يأتي بمن يمارس النجش -بتسكين الجيم- فيحضر المجلس أو المزاد، ثم يرفع الأسعار بالتشاور المسبق والتواصل مع البائع حتى يرفع السعر على الناس وهو لا يريد الشراء.

النوع الثالث: بيع الأمانة

النوع الثالث: بيع الأمانة بيع الأمانة أو بيع الأمان: وسمي بيع الأمان لوجود الائتمان بين الطرفين على صحة خبر رفع السلعة بمقدار ما عن رأس المال، فهذا النوع من البيع مبني على الائتمان والثقة؛ فإن البائع إذا قال لك: هذه السلعة اشتريتها بمائة وأربحني فيها خمسين مثلاً أو عشرين مثلاً، فهذا النوع من البيع مبني على أنه صادق فيما يخبر به من أنه فعلاً اشترى السلعة بمائة. وبيوع الأمانة كلها جائزة ما دامت بين متبايعين، وما دامت السلعة في ملك البائع، ويصرح البائع تصريحاً ويقول: اشتريتها بكذا، وقد يأتي بفواتير تبين أنه بالفعل اشترى هذه السلعة بمقدار الثمن الأول على وجه الأمانة، فيقول: أنا اشتريتها بكذا، ويحدد له مكسباً يربحه إياه؛ فيقول مثلاً: أنا اشتريتها بأربعمائة، وأبيعها لك بزيادة خمسين، والثاني قبل، فلا توجد حينها مشكلة؛ لأنه حدد له المبلغ الذي سيربحه إياه، فمجموع الربح خمسون، ولا يوجد غرر ولا جهالة، لأن الزيادة على رأس المال كانت مبلغاً مقطوعاً أو نسبة مئوية من الثمن الأول، فالمشتري يأتمن البائع على كلفة سلعته، ويصدقه فيما يخبره من الكلفة ومقدار ربحه؛ لأنه قد يخشى الغبن في المساومة لجهله بالسلع وأثمانها. فالمشتري الذي ليس لديه خبرة يخدع بسهولة ويغبن، فلذلك جعل الشرع له هذا الباب؛ لأنه لو اشترى ببيع المساومة فالتاجر قد يخدعه، ويبيع له بسعر فيه غبن فاحش ويظلمه، فهذا له سعة في بيع المرابحة؛ حتى نحمي مثل هذا الرجل من أن يظلم بسبب جهله بمقدار الربح، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. وهذا البيع مبني على أن البائع صادق فيما يخبر به من ثمن الأصل، فمثال المرابحة أن يقول البائع: أنا اشتريت هذه الدار بألف، وبعتكها بما اشتريتها به وزيادة مائتين، فيقول المشتري: قبلتها بذلك. فهذا من بيوع الأمانة؛ لأن ما اشترى به البائع لم يعلم إلا من جهته، فإن تبين أنه كذب في الإخبار بالثمن، وأنه إنما اشتراها بتسعمائة فقط؛ وجب حط المائة عن المشتري، ولابد أنه إذا ظلمه أن يعطى حقه، ويخفض من ثمن السلعة.

أنواع بيوع الأمانة

أنواع بيوع الأمانة بيع الأمان أو الأمانة على أنواع ثلاثة: الأول: بيع المرابحة، وهذا هو الذي يحصل اشتباه بينه وبين موضوعنا. الثاني: بيع الوضيعة. الثالث: بيع التولية.

البيع الأول: بيع المرابحة

البيع الأول: بيع المرابحة هو البيع بأزيد من رأس المال، يقول: أنا اشتريت الدار بألف، وأبيعها لك على أن أكسب فيها مائتين. إذاً: بيع المرابحة هو: البيع بأزيد من رأس المال بمثل الثمن الأول مع ربح مبلغ معلوم ومحدد.

البيع الثاني: بيع الوضيعة أو المحاطة

البيع الثاني: بيع الوضيعة أو المحاطة هو البيع بأنقص من رأس المال، يقول: أنا اشتريت هذه الدار بألف وأبيعها لك بتسعمائة، وهذا داخل في بيوع الأمان؛ لأنه مبني على تصديقه، وأنه أمين فيما يخبر به من الثمن الأصلي، فهو يحط عن رأس المال الأصلي.

البيع الثالث: بيع التولية

البيع الثالث: بيع التولية هو البيع برأس المال سواء بسواء، يعني يبيع بمثل الثمن الأول بلا ربح ولا خسارة. إذاً: بيع المرابحة عند المتقدمين من العلماء هو بيع السلعة بربح معلوم بين المتعاقدين، وهو الذي يسمونه السلم الحال. فيقول صاحب السلعة: رأس مالي مائة، وأبيعك إياها بمائة وعشرة، فهذا هو معنى قولهم: اشتريت السلعة مرابحة أو بعتها مرابحةً. وما هو ركن هذا العقد؟ ركن عقد المرابحة الأساسي: العلم بين المتعاقدين، فيكون كلاهما سواء في العلم بمقدار الثمن، وبمقدار الربح، فحيث توافر العلم بالثمن وبالربح فالبيع صحيح وإلا فباطل.

حكم بيع المرابحة المعاصر والقديم

حكم بيع المرابحة المعاصر والقديم بيع المرابحة بصورته القديمة جائز بلا خلاف عند أهل العلم، كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني، وحكى الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى الإجماع على إباحتها، وكذا الكاساني، وما زال الناس يتوارثون العمل بهذه المرابحة بأسواقهم من غير نكير، والقاعدة في المعاملات الشرعية هي: أن الأصل في المعاملات الجواز والحل حتى يقوم على المنع دليل، عكس القاعدة في العبادات. وقد قال بعض العلماء: بيع المرابحة مكروه كراهة تنزيه؛ لأن فيه جهالة، ما سر هذه الجهالة؟ قالوا: إذا قال له مثلاً: بعته لك برأس المال مائة جنيه وربح جنيه زيادة في كل عشرة، فهذه جهالة تؤثر في العقد، والصواب أن هذه ليست جهالة، والمشتري يحتاج إلى الحساب ليعلم مقدار الربح، والجهالة هنا مرتفعة؛ لأنه يمكنه معرفة الحساب بسهولة، ومثل هذا لا يوصف بأنه جهالة، وهذا ليس فيه تغرير ولا مخاطرة. إذاً: هناك اشتراك لفظي بين بيع المرابحة عند السابقين وبين بيع المرابحة للآمر بالشراء في صورته الحادثة التي تتعامل بها المصارف المسماة بالإسلامية، فإذا اشتركا باسم المرابحة فهل يشتركان في حكم الجواز؟ بيع المرابحة القديم هو بيع من أنواع بيوع الأمان أو الأمانة، وهو البيع بأزيد من رأس المال، وركن هذا العقد هو علم المتعاقدين بالثمن وبرأس المال، هذا هو بيع المرابحة عند السلف، ومن الغش والخيانة أن بعض الناس تكلم عن بيع المرابحة المعاصر ونقل نصوص العلماء السابقين عن بيع المرابحة على أنه المصطلح المتعامل به في البنوك الآن، ونقل الأدلة على إباحته بنصوص العلماء السابقين في بيع المرابحة الذي هو أحد بيوع الأمان أو الأمانة! فإن كان عامداً فهي خيانة، وإن كان جاهلاً فيغفر الله سبحانه وتعالى لمن قال بذلك. إذاً: الاشتراك في اللفظ لا يلزم منه الاشتراك في الحكم.

المحاذير الشرعية في التعامل ببيع المرابحة المعاصر

المحاذير الشرعية في التعامل ببيع المرابحة المعاصر صورة بيع المرابحة التي تجريها المصارف الإسلامية تدخل تحت اسم السلم الحال، وهذا السلم الحال منهي عنه في حديث حكيم بن حزام رضي الله تبارك وتعالى عنه، وعمدة الكلام فيه هو حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه. وحتى ينتهي باب الخلط بين بيع المرابحة القديم وبيع المرابحة المعاصر اختار له بعض العلماء اسماً متميزاً حتى يتميز به عن بيع المرابحة عند الأقدمين، فسماه: بيع المواعدة، وليس بيع الوعد؛ لأن الوعد إنما يكون من طرف واحد، لكن بيع المواعدة فيه تفاعل بين الطرفين: هذا يعد بكذا، وهذا بالمقابل يعد بكذا، فسمي بيع المواعدة؛ لأن هذه المعاملة في جميع صورها مبنية على الوعد سواء كان ملتزماً به أو غير ملتزم. ومما يزيد خطورة الكلام في هذا الموضوع: ما ذكره بعض العلماء الخبراء في هذا الباب أنه قد قامت طريقة بيع المرابحة في بعض البنوك الإسلامية في السنوات القليلة الماضية مقام الإقراض الربوي في البنوك الربوية، يعني: نشط هذا النوع من التعامل في البنوك الإسلامية بصورة غير عادية في الفترات الأخيرة؛ بحيث إنه بالفعل حل محل الإقراض الربوي، قال: ووصل التعامل على أساسها في البنوك الإسلامية إلى (90%) من عمليات الاستثمار! يقول: وهذا يبين ضرورة التأني والبحث العميق والمحايد عن حكمها شرعاً قبل الانطلاق في العمل بها أكثر، مما يجعل الرجوع عنها عندما يتبين عدم شرعيتها عسيراً. فقد فتح هذا الباب، وهجم عليه الناس بهذه الصورة بدون بصيرة، وبدون جزم بحكم الشرع فيها، أو تأكد وأناة وتمهل في الحكم عليه، فإن قيل لهم: اتضح لنا أنه حرام، فهذا فيه نوع من هز الثقة والتردد والشك والبلبلة، وهذا مما يؤكد أن هذا الموضوع كان من المفروض أن يأخذ حقه من البداية من البحث العلمي والتمحيص الدقيق المحايد. فلو فتحنا هذا الباب وأجزناه ثم قلنا: إنها معاملة غير مشروعة، فهذا سيجعل الأمة والعلماء والقراء الاقتصاديين يتوقفون عن الاجتهاد في إيجاد بدائل شرعية لمثل هذه النظم؛ لأن المرابحة عملية فيها نوع من اليسر والسهولة بالنسبة للطرفين: البنك والمشتري سواء. فالبنك يفرح جداً بنظام المرابحة؛ لأنه يعتبر كبديل لمن لا يتقي الله سبحانه وتعالى ولا يتعامل إلا بالقرض الربوي، وكذلك البنك يضمن الربح، وليس فيه مخاطرة، بل يقطع البنك بعدم الخسارة، خاصة إذا بني هذا التعامل على أساس أن المواعدة ملزمة، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى.

الوفاء بالوعد

الوفاء بالوعد وحتى نفقه الموضوع فقهاً دقيقاً نحتاج إلى ذكر بعض المقدمات أيضاً، وإلا فالموضوع نفسه أسهل من ذلك، وهذا تمهيد يبين حكم الوفاء بالوعد.

حكم الوفاء بالوعد

حكم الوفاء بالوعد ما من شك أن الوفاء بالعهد محمود ومرغب فيه في الشريعة، فقد أجمع المسلمون على أن الوفاء بالعهد وبالوعد محمود، وأن إخلاف الوعد أو العهد وعدم الوفاء به مذموم، فإن الله سبحانه وتعالى امتدح نبيه إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، فيفهم من هذه الآية: أن إخلاف الوعد مذموم، وهذا استدلال بالمفهوم على ذم إخلاف الوعد؛ لأن الآية وردت في سياق المدح والثناء عليه، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بذم إخلاف الوعد في آيات أخرى، مثل قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وقال: تبارك وتعالى {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77]، وقال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف) إلى آخر الحديث. والوفاء بالوعد محمود بالإجماع، وإخلاف الوعد مذموم بالإجماع، ويدخل في ذلك الوعد المالي بعقد تحدثه في المستقبل، وهذا متعلق بالمعاملات المالية.

الوفاء بالوعد يجب ديانة لا قضاء

الوفاء بالوعد يجب ديانة لا قضاء هناك اختلاف بين العلماء في حكم الوفاء بالوعد المالي. فلو وعدت شخصاً لك عليه دين، فقلت له: أعدك إن شاء الله أني سأحط عنك -أي: سأضع- النصف، فهذا وعد مالي، أو تقول: اهدم بيتك وابنيه من جديد وأنا سأعطيك المبلغ الفلاني، أو تقول: سأقرضك في الشهر القادم كذا، والوعد دائماً يكون في المستقبل. ونحتاج لبيان الاصطلاح المستعمل هنا وفي مواضع أخرى من القضايا الفقهية، وهو: الواجب ديانةً والواجب قضاءً؛ فلو أن واحداً تخاصم مع واحد على مال مثلاً، وتحاكموا إلى القاضي، فالقاضي بعد اطلاعه على الوثائق والشهود وغير ذلك من الأمور يحكم بما يظهر له، لكن إن كان أحدهما ألحن بقوله، وأدلى بحجج قوية، والآخر كانت عنده حجة لكن ما عنده خبرة، فحكم القاضي وقال: إن هذا المال من حق فلان، وهو ظالم في الحقيقة، لكن القاضي حكم بما يظهر له، فنقول: إن تنفيذ حكم القاضي الشرعي واجب قضاءً في أحكام الدنيا، لكنه لا يعني أنه مقبول ديانةً، وأما صاحب هذا الدين فالأمر بينه وبين الله فمن يعلم أن هذا المال لا يحق له فهو حرام عليه حتى لو حكم له القاضي به، فينبغي أن يتدين في إعطائه هذا المال لصاحبه، حتى لو حكم له القاضي بالظاهر، وهل القاضي هنا يوصف بالظلم؟ لا؛ لأنه يتعامل مع ما يظهر له، فهذا يحلف وهذا يحلف، وهذا معه شهود وهذا معه شهود، لكن انتهت القضية بأنه حكم بما يظهر. فالواجب عليك ديانةً بينك وبين الله، خشية الحساب في اليوم الآخر؛ أن تفي بوعدك. أما الواجب قضاءً فيكون من حق القاضي أن يتدخل فيه ويلزم به، وينفذه ويلزم الناس به؛ فهذا الواجب قضاءً. مثلاً: شخص شهدت له البينة وكان كاذباً، أو شهد له ظاهر الحال وكان الواقع خلافه، مثل بعض قضايا الطلاق، فأحياناً تختلف النية المكنونة عن الظاهر المشهود، وهذه نقطة خطيرة جداً، فقد يطلق الرجل زوجته وهو ينوي الطلاق فعلاً، ثم يذهب إلى المفتي ويخدعه، فيسأله المفتي عن نيته، فيقول له: ما كنت أنوي الطلاق، وهو يعلم أن هذه المعلومة إذا تغيرت سيتغير الحكم؛ فيبيحها المفتي له، وهذا ليس في الطلاق الصريح إنما في طلاق الكناية، والناس يقعون في تخليط عجيب، يقول مثلاً لزوجته: هي طالق، ثم يقول: ما كنت ناوياً الطلاق! لماذا؟ لأن هناك من يلقنه هذا الكلام، وتعود الذين لا يحققون هذه المسائل أن يسألوه: ماذا كانت نيتك؟ حتى لو كان طلاقاً صريحاً، وهو لا يسأل عن النية، ولو رفعت القضية للقاضي وقد قال: هي طالق، فلن يسأل عن النية، لأن النية إنما تكون في طلاق الكناية، كأن تقول لها مثلاً: اذهبي عند أهلك، أو غير ذلك من العبارات غير الصريحة، لكن يحتمل أنه أراد الطلاق، فإذا كان الطلاق بطريق الكناية فنسأله: هل كنت تنوي الطلاق أم لا؟ فإذا كان ينويه فبالفعل يقع طلاقاً، أما إذا كان لم ينو فهذا لا يقع طلاقاً، ففي هذه الحالة لو أن الرجل كذب وقال: ما كنت أنوي الطلاق، وهو بالفعل كان ينويه، فالقاضي سيلزم هذه الزوجة قضاءً أنها ترجع إليه، حتى لو كان طلقها مرتين من قبل، وكانت هذه هي الثالثة، لكنه لا يجوز للزوج ديانة أن يعود إلى هذه الزوجة إذا كانت هذه هي الثالثة، وهو إنما كذب من أجل ألا يوقعها. هذه مجرد أمثلة لتقريب المعنى، وكلها تدل على أن هناك فرقاً بين الواجب ديانة والواجب قضاءً.

حكم الوفاء بالوعد المالي

حكم الوفاء بالوعد المالي اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد المالي، وهم يجرون الخلاف في حكم الوفاء به قضاءً على أساس حقيقته الاصطلاحية التي تُواضِع عليها. فمن الناحية الاصطلاحية هناك كتاب معروف بالحدود لـ ابن عرفة المالكي، وهو إمام من أئمة المالكية، وهو تعريفات اصطلاحية دقيقة للألفاظ الفقهية؛ فمن ضمن هذه المصطلحات عرف ابن عرفة كلمة العِدَة بأنها: (إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل)؛ فالشخص يخبر عن نيته في المستقبل أنه سيعمل معروفاً، وباختصار هو: الوعد بالمعروف، وكلمة وعد معناها أنها تكون في المستقبل.

الفرق بين الوعد بالمعروف وبين بيع المرابحة المعاصر

الفرق بين الوعد بالمعروف وبين بيع المرابحة المعاصر هناك فرق بين الوعد بالمعروف وبين بيع المواعدة -بيع المرابحة- الذي تجريه المصارف الإسلامية، فالوعد بالمعروف مثاله: من يعد شخصاً بقرض، فيقول له: بعد شهرين أقرضك المبلغ الفلاني، أو وعده بالعتق فيقول له: بعد شهرين أعدك بأني أعتقك أو يقول: بعد شهر أتصدق عليك أو أعيرك وهكذا. هذا هو الوعد بالمعروف، فهو عقود المعاوضات التي يقصد بها تحصيل المنافع، وإدرار الربح لا تدخل في المواعدة، فالوعد بالمعروف عقد من عقود الارتفاق والإحسان إلى الناس، وليس من باب الكسب التجاري المتعلق بالمعاوضات، وسنزيد هذا إيضاحاً إن شاء الله تعالى فيما بعد. ومن أمثلة الوعد بالمعروف أن تعد شخصاً أن تخصم له ثلث الدين الذي عليه، أو تقول: أعدك أني سأقرضك أعدك أني أهبك أعدك أن أعيرك عارية، فهذا وعد بإنشاء معروف في المستقبل، وهو يختلف تماماً عن بيع المواعدة الذي نتكلم فيه؛ لأن كل هذه الصور التي ذكرناها ليس فيها كسب تجاري، وليست معاوضة تجارية، وليس لها مقابل، فلو كان لك عنده من الدين مائة، فقلت: سأخصم منها خمسين فقط، فهل هذه تعود عليك بربح مادي؟ لا، بل هذا نوع من الارتفاق بين الناس والرحمة والتراحم والإحسان إليهم، فالأمثلة التي ذكرناها التي فيها الوعد بالمعروف لا علاقة لها بقضيتنا التي هي الكسب التجاري. لماذا نذكر هذا التفريق؟ لأن بعض من يبيح بيع المرابحة المعاصر يقول: هذا من باب الوعد بالمعروف، ويجب على الإنسان أن يلتزم بالمعروف إذا وعد به، فلابد أن نميز الوعد بالمعروف من باب الارتفاق عن بيع المواعدة أو المرابحة التي تجريه المصارف المعاصرة، فهذا وعد تجاري مع المصرف، وليس وعداً بالمعروف. فالوعد التجاري هو تداول سلعة بالثمن والربح، ولما تحصل ملكيتها بعد، وصورتها: معرض ثلاجات وأجهزة منزلية، يذهب صاحبه إلى نقابة أو نادي أو نحو هذا، ويعرض عليهم السلع، فرجل من هذه النقابة أو النادي يرى ثلاجة ويريد أن يشتريها، ولكن سعرها مرتفع ولا يستطيع أن يدفعه مباشرة، وهو محتاج إلى مال حتى يشتريها، فيذهب إلى البنك ويقول له: أنا رأيت ثلاجة بالصفة الفلانية، وأنا أريد أن أقتنيها، وليس معي مال، فاشترها لي أنت، وأنا أشتريها منك فيما بعد، فالبنك يشتري الثلاجة حسب المواصفات المتفق عليها سلفاً، ويدفع ثمنها نقداً لصاحب المعرض، ويبيعها هو بعد ذلك إلى العميل بأقساط على أمد بعيد، والمبلغ أعلى حتى يربح، فما هو الإشكال هنا؟ الإشكال أنك عندما تذهب إلى البنك من أجل أن تشتري هذه السلعة، فهذه السلعة غير موجودة أصلاً في حوزته، ولم يمتلكها، فماذا يعمل البنك؟ يأخذ منك الضمانات على ألا ترجع في كلامك، وأنك لابد أن تلتزم بأخذها منه، وهذه هي صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء الجارية في البنوك المعاصرة. فهي وعد تجاري مع المصرف، بمعنى: تداول سلعة بالثمن والربح ولما تحصل ملكيتها بعد، يبيعها لك قبل الحصول عليها، فهذا يتنزل على حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه: (لا تبع ما ليس عندك). وباختصار شديد: هذا بيع من بيوع المعاوضات المحرمة، مثل بيع العينة، وبيع الغرر، وتعليق العقود بالشروط ونحوها من الحيل المحرمة. إذاً: هناك فرق بين الوعد بالمعروف وبين بيع المواعدة التي هي المرابحة المعاصرة؛ فالوعد بالمعروف عملية ارتفاق وليس فيها شبهة الكسب التجاري، أما بيع المواعدة أو المرابحة التي تجريه المصارف المعاصرة فهو من بيوع المعاوضات المحرمة؛ لأنه يبيع ما ليس عنده، فالخلاف القديم في حكم الوفاء بالوعد لا ينسحب على هذا؛ ولذا سنذكر الآن خلاف العلماء في الوعد المالي، هل يجب الوفاء به أم لا؟

حكم إخلاف الوعد المالي

حكم إخلاف الوعد المالي ذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى قضية الوعد بالمعروف: هل يلزم الوفاء بالوعد المالي؟ وهل يجب عليك فعلاً أن تفي به؟ يقول: الذي يظهر لي في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- أن إخلاف الوعد لا يجوز؛ لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]، وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد، ولكن الواعد إذا امتنع عن إنجاز الوعد لا يحكم عليه به، ولا يلزم به قهراً يعني: يجب عليه أن يفي بالوعد ديانة لا قضاءً، أي: يؤمر به لكن لا يلزم به، ولا يجبر عليه. قال: بل يؤمر به ولا يجبر عليه؛ لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به، لأنه وعد بمعروف محض، والعلم عند الله تعالى. يعني: لو قال لك: أنا سأهبك مالاً بعد شهرين، ثم مر الشهران ولم يف لك بهذا، فإذا ذهبت به إلى القاضي الشرعي وتحاكمت إليه، فماذا يملك القاضي؟ مذهب جمهور العلماء وعامة العلماء أن للقاضي أن يحرضه على الوفاء، ويقول له: قال الله كذا، وقال الرسول كذا، والمسلم عليه أن يفي بالوعد، لكن لا يلزمه قهراً؛ لأن هذا الوعد معروف محض، أراد أن يفعله ثم رجع عنه، فيؤمر به ولا يجبر عليه، ولا يلزم به من حيث القضاء الشرعي؛ لأنه وعد بمعروف محض، وقد اختلف العلماء في حكم الوعد بالمعروف، وهل يلزم به الشخص قضاءً وحكماً أم لا؟ ونحن قلنا: إنه يلزم به ديانة، وسنناقش هل يلزم به قضاءً؟ بمعنى: هل يلزم به من حيث الحكم، ويجبر عليه أم لا؟

ذكر اختلاف العلماء في الوفاء بالوعد المالي

ذكر اختلاف العلماء في الوفاء بالوعد المالي اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد على المال على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يلزم ولا يؤمر وجوباً أن يفي بالمعروف مطلقاً، وهذا مذهب جمهور العلماء. وأدلة هذا القول: أنه وعد بمعروف محض، ولا دليل على الإلزام بالمعروف، وأيضاً هو في معنى الهبة، والهبة لا تتم عند الجمهور إلا بالقبض خلافاً للمالكية، فإذا وهبت شخصاً لا يتم عقد الهبة إلا إذا قبضها، وذلك يقتضي عدم الحكم بها قضاءً فيما لو رجع الواهب عنها قبل قبض الموهوب إياها، فإذا كانت الهبة لا تلزم ولا تجب إلا بالقبض فكيف تلزم الهبة لو وعده بها مجرد وعد؟! يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: واستدل من لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض. وذكر نحوه ابن قدامة حيث استدل بهذا الفرع على عدم وجوب الوفاء بالوعد قضاءً وحكماً. القول الثاني: الإلزام بالوفاء بالوعد مطلقاً: وهذا محكي عن عمر بن عبد العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة. وأدلتهم هي النصوص الواردة في وجوب الوفاء بالوعد، وذكرنا بعضاً منها، مثل قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77]، وقوله تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]، وغير ذلك من الأدلة، وكذلك استدلوا بحديث ابن مسعود: (العدة دين)، وهذا الحديث ضعيف. وهذا المذهب ضعيف؛ أولاً: لعدم ثبوته صراحة عن هؤلاء الذين حكي عنهم. ثانياً: من حيث الأدلة. القول الثالث: وهو رواية عن الإمام مالك، وهو التفصيل في المسألة: فيقولون: إن أدخل الواعد في وعده الشخص الآخر الذي وعده في ورطة لزمه الوفاء به، وإلا فلا يلزم الوفاء به. مثال: رجل قال لرجل: تزوج، فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة، وما أملك مهراً، فقال له: تزوج والتزم لها الصداق في ذمتك، وأنا أدفع عنك، فتزوج على هذا الأساس، فقد احتمل هذا الوعد ورطة، فيلزم الواعد الوفاء به. واستدل من قال بذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار). ونقول في الرد على هذا الاستدلال: نعم (لا ضرر ولا ضرار)، ولا يجوز لإنسان أن يبدأ بالإضرار بالغير، ولا أن يقابل الإضرار بالإضرار بالمثل، وهذا غاية ما يدل عليه الحديث، ولا يدل الحديث على إلزامه بأن يغرم له مالاً حتى لو أضر به، ولا يلزم أن يغرم هذا المال الذي التزمه. مثال آخر: لو قال له: اهدم دارك، وأنا أسلفك ما تبني به، فهدم الدار، هل يلزمه أن يسلفه لأنه يترتب على إخلاف الوعد إيقاعه في ورطة؟ ففي رواية عن الإمام مالك أن إخلاف الوعد إذا كان يترتب عليه ورطة فيلزم به، والقول الآخر لا يلزم. وقول قال له: اشتر كذا وأنا أعطيك ألفاً أعينك به، فلا يقضى على الواعد في المال إلا إذا دخل الموعود في الأمر، فتزوج في المثال الأول، أو هدم داره في المثال الثاني، أو اشترى سلعة في المثال الثالث. هذا هو الخلاف في هذا الموضوع، والوعد الذي يتحدث عنه المالكية في هذا القسم ليس هو الوعد التجاري، فالوعد هنا ليس وعداً تجارياً فيه شبهة مرابحة، فلما يقول لك: تزوج وسأدفع لك المهر، أو اهدم البيت وأنا أسلفك لتبنيه من جديد، فهل هذا فيه وعد تجاري فيه ربح؟ لا، حتى الخلاف في قضية الوفاء بالوعد ليس له علاقة بالموضوع، بل هو موضوع بيع المواعدة، فالوعد الذي يتحدث عنه المالكية ليس هو الوعد التجاري، وإنما هو الوعد بإنشاء المعروف كما عرفه ابن عرفة في قوله: (الوعد إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل)، وعلى هذا الصنف من الوعد يدور جميع كلام المالكية من قرض أو كفالة أو عارية أو إبراء أو نحو ذلك. أما الوعد التجاري أو الوعد في المعاوضات مقابل السلع التي سيأخذ عليها ربحاً أحد الطرفين من الطرف الآخر فهو شيء آخر لم يدر بخلد المالكية، فبعض المعاصرين الذين يبيحون بيع المواعدة المتبع في المصارف، يجعلون الخلاف المذكور بين العلماء هنا على مسألة الوفاء بالوعود المالية المعاصرة، ولم يدر بخاطر العلماء أبداً أن يستدل بكلامهم على مثل هذا الفعل المعاصر الآن، بدليل أن علماء المالكية ذكروا في كتبهم هذه الصورة الموجودة الآن، وقطعوا بتحريمها كما سنبين ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى. والقول بأن عملية المرابحة التي تديرها المصارف الإسلامية الآن عملية مستحدثة وتحتاج إلى اجتهاد، كلام غير صحيح؛ لأن كثيراً من الفقهاء نصوا على هذه المسألة بعينها من المالكية والشافعية والحنيفية والحنابلة، وكل من نص عليها حرمها، وبعض الفقهاء المعاصرين الذين أباحوها ليس لهم سوى أنهم قاموا بعملية تلفيق وترقيع، فما صار بيع المواعدة المعاصر حلالاً عند هذا الفريق من العلماء إلا بالتلفيق بين مناهج ليست المسألة حلالاً في منهج من هذه المناهج، لكن أجروا عملية التلفيق كما أشرنا، فنحتاج إلى أن نتتبع صور بيع المواعدة الذي هو بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تجريه المصارف الإسلامية.

صور بيع المواعدة

صور بيع المواعدة

صورة التواعد غير الملزم مع جهالة مقدار الربح

صورة التواعد غير الملزم مع جهالة مقدار الربح أول صورة من صور بيع المواعدة تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع عدم ذكر مسبق بمقدار الربح؛ فهي مبنية على تواعد وتفاعل، هذا يقول له: اشتر لي الثلاجة، وأعدك أني سأشتريها منك عندما تتملكها، والبنك يقول له: أنا أعدك أني أسلمها لك بعد أن أشتريها، فهنا يجوز هذا البيع، وهو غير بيع التواعد الذي فيه تفاعل بين الاثنين؛ فهذا وعد أنه يشتريها منه، والثاني وعد أنه يبيعه إياها. هذه الصورة الأولى تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، بمعنى: أن البنك يشتري الجهاز أو الماكينة أو أي سلعة بناءً على الوعد ثم يأتي رجل آخر فيقول له: بكم تبيع هذه الثلاجة، فإذا كان سيبيعها للأول بخمسمائة مثلاً فيقول له: أبيعها لك بسبعمائة، فيقول: موافق، فإذا ظهر للبنك مصلحة جديدة فله أن يرجع في كلامه. إذاً الوعد هنا غير ملزم للبنك، ويمكن أن يبيع السلعة للمشتري نفسه الذي جاءه في البداية، أو شخص آخر فيبيع له، وكذا المشتري له ألا يشتريها، ويقول له: أنا جاءني عرض أقل من هذا العرض، وأنا قبلته ولن أشتري منك. هذه الصورة الأولى وفيها الوعد غير ملزم، ولا أحد يعاتب الثاني إذا رجع في كلامه؛ لأن العقد لم يتم، وهذه الصورة من بيع المرابحة هي الصورة الصحيحة إن شاء الله كما سنبين. وهذه الصورة تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع عدم ذكر مسبق لمقدار الربح، وهذا هو سر حلها، وهو أنه لا يعرف مقدار الربح؛ فيرغب العميل في شراء سلعة بعينها فيذهب إلى المصرف، ويقول: اشتروا هذه البضاعة لأنفسكم، ولي رغبة في شرائها بثمن مؤجل أو بربح، أو: وأنا سأربحكم فيها، فما حكم هذا النوع؟ الظاهر جواز هذه المعاملة عند الحنفية والمالكية والشافعية كما ذكر ابن رشد في المقدمات، فهذا البيع جائز، وليس فيه أي مشكلة؛ لأنه ليس في هذه الصورة التزام بإتمام الوعد بالعقد، أو بالتعويض عن ضرر لو هلكت السلعة. وفي هذه الحالة لو هلكت السلعة عند البنك، فمن الذي سيتحمل هلاكها؟ البنك هو الذي سيضمنها، إذاً: الشبهة تزول، أما إذا شرط البنك عليك أنها لو هلكت عنده فأنت المسئول عنها، فهذا منكر آخر. فليس في هذه الصورة التزام بإتمام الوعد بالعقد أو بالتعويض عن الضرر لو هلكت السلعة، وليس الضمان على العميل وإنما على البنك، وليس فيها التزام ولا تحديد قاطع بالربح مسبقاً، فالبنك في هذه الحالة يخاطر بشراء السلعة لنفسه، وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، فلو عدل أحدهما عن رغبته فلا إلزام، ولا يترتب عليه أي أثر، فهذه الدرجة من المخاطرة هي التي جعلتها في حيز الجواز، ووجود هذه المخاطرة هي التي جعلت هذا التعامل جائزاً والله تعالى أعلم.

صورة التواعد غير الملزم مع معرفة مقدار الربح

صورة التواعد غير الملزم مع معرفة مقدار الربح هذه الصورة تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع ذكر مقدار ما سيبذله من ربح. الصورة: أن يرغب العميل في شراء سلعة معينة بذاتها أو جنسها، يعني لا يقول له: الثلاجة هذه بالذات، لكن ثلاجة من هذا الجنس. فيقول الرجل للبنك: اشتروا هذه السلعة لأنفسكم -وهذا قيد مهم-، ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل، وسأربحكم زيادة عن رأس المال ألفاً. وهذه المسألة نص ابن رشد في المقدمات أنها محظورة، وهي من بيع العينة المحظور؛ لأنه ازداد الرجل في سلفه، يعني: وهذا النوع من التحايل على الربا؛ لأنه إذا كان هذا المشتري ليس معه مال يشتري به هذا الجهاز فهناك صورتان: الأولى: أن يذهب للبنك مباشرة ويقول له: أقرضني خمسة آلاف مقابل فائدة ربوية مقدارها خمسمائة، أي: أنه يقول له: أقرضني -مباشرة- خمسة آلاف لأشتري بها الجهاز وأسددها لك بعد أجل بخمسة آلاف وخمسمائة، وهذه الصورة ربا صريح. الثانية: أنه لا يستلف من البنك، ولكن يقول له: اشتر لي هذا الجهاز أنت بثمن عاجل وأنا سأسددها لك بهذا الثمن مقابل الزيادة المقررة بخمسمائة، فالعلماء قالوا: إنها عبارة عن حيلة من حيل الربا، فبدل التعامل مباشرة مع البنك بالطريقة الربوية، يحول الموضوع ويتحايل بما صورته حلال، وهو في الحقيقة حرام. قالوا: هذه من صور العينة، فالرجل يريد أن يتعامل بالربا، فيقول للآخر: أبيعك الساعة التي معي بمائة في الحال، فيعطيه الساعة في الحال بمائة، ثم يقول صاحب الساعة الأول: أنا أشتريها منك بمائة وخمسين ديناً لمدة ستة أشهر، فيقول له: نعم ويرجعها له مرة ثانية ويلبسها من جديد، والحقيقة أنه يريد أن يقترض بربا. وهذه الحيلة الظاهر منها أنها حلال، ولكن المقصود بها التوصل للحرام، فبعض العلماء من المالكية اعتبروا هذه الصورة -بالذات- من صور العينة. يقول ابن رشد: (والمحظورة - أي: العينة المحظورة- أن يراوضه على الربح، فيقول له: اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة دراهم نقداً، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقداً -يعني: بعدما يتملكها-، والثانية: أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقداً وأنا اشتريها منك باثني عشر إلى أجل). يقول الدردير في الشرح الصغير: (العينة وهي بيع من طلبت منه سلعة للشراء وليست عنده لطالبها) يعني: بيعها لطالبها بعد شرائها جائز، (إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر إلى أجل، فيمنع لما فيه من تهمة سلف جر نفعاً)؛ لأنه كأنه سلفه ثمن السلعة على أن يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشر. وهذه الصورة الثانية تنبني على المواعدة الغير الملزمة للطرفين مع ذكر مقدار ما يبذله من ربح، وهي أن يرغب العميل في شراء سلعة معينة بذاتها أو جنسها، فيذهب إلى المصرف فيقول: اشتروا هذه السلعة لأنفسكم ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل، وسأربحكم زيادة عن رأس المال ألفاً، قال ابن قدامة: إنها من العينة المحظورة؛ لأنه رجل ازداد في سلفه.

المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين

المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين هذه هي غالباً الصورة التي فيها الإشكال، وهي التي تتعامل بها المصارف الإسلامية -كما تسمى- وتنبني على المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين مع ذكر مقدار الربح، فما معنى ملزمة؟ أي: أن البنك يأخذ ضمانات كافية جداً على أن هذا الرجل لا يرجع عن كلامه أبداً، فيبيع له السلعة قبل أن يمتلكها. فليس العقد عبارة عن اتفاق إرادتين على إنشاء حق، بل اتفاق إرادتين على إنشاء حق بحيث يصير ملزماً، فهذه المواعدة ملزمة بالاتفاق بين الطرفين مع ذكر مقدار الربح، وهي: أن يرغب العميل بشراء سلعة معينة ذاتها أو جنسها المنضبطة عينها بالوصف، فيذهب إلى المصرف، ويتفقان على أن يقوم المصرف ملتزماً بشراء البضاعة من عقار أو آلات أو نحو ذلك، ويلتزم العميل بشرائها من المصرف بعد ذلك، ويلتزم المصرف ببيعها للعميل بثمن اتفقا عليه من قبل. إذاً: هذه المعاملة تتركب من الآتي: أولاً: المواعدة بين الطرفين: هذا وعد بأن يشتري وهذا وعد بأن يبيع، على ألا يرجع أحدهما في كلامه. ثانياً: الالتزام بالمواعدة: أي: أن هناك مواعدة والتزاماً بالاتفاق بين الطرفين قبل حيازة المصرف للسلعة، وقبل أن تستقر في ملكية المصرف، مع ذكر مقدار الربح مسبقاً، واشتراط أنها إن هلكت فهي من ضمان أحدهما بالتعيين، بينما في المعاملة الشرعية لا يحتاج الأمر أصلاً لذكر من الذي يضمن؛ لأن البنك هو الذي يضمن إذا تلفت السلعة أو احترقت أو أصابها أي شيء، فالذي يشتري السلعة هو المسئول عن ضمانها، لكن في المواعدة يوجد بند في الاتفاق: إذا أصاب السلعة أي تلف فالذي يضمن هو المشتري نفسه، أما من الناحية الشرعية فهذا الشرط لا ينبغي أن يكون له وجود أصلاً؛ لأنه لا محل له في هذا التعاقد حتى لو اتفق الطرفان على أن البنك هو الذي يضمن؛ لأن الآمر بالشراء ما دخلت السلعة في ذمته. إذاً: الصورة تتركب من المواعدة والالتزام بها بالاتفاق بين الطرفين قبل حوزة المصرف للسلعة، وقبل استقرارها في ملكه مع ذكر مقدار الربح مسبقاً، واشتراط أنها إن هلكت فهي من ضمان أحدهما بالتعيين، وهذا الاشتراط لا يجوز شرعاً، والمفروض أن البنك هو الذي يضمن، لكن هذه مسألة مبدأ، لا ينبغي أن يقال فيها: هذا البنك ضامن، وطبيعي أن البنك هو الذي يضمن، وهذا مما لا يحتاج إلى ذكر. وهذه الصورة حكمها كما يقول الفقهاء المحققون: البطلان والتحريم؛ لأن حقيقتها القرض بفائدة، وسنذكر الأدلة على هذا. فالمرابحة المصرفية إذا أطلقت الآن في عصرنا فهي: أن يتقدم الراغب في شراء سلعة من المصرف؛ لأنه لا يملك المال الكافي لسداد ثمنها نقداً، ولأن البائع لا يبيعه إلى أجل، ولو أن البائع قال: أنا أبيعها لك إلى أجل انتهى الأمر، فيختار الأجل، لكنه يريد حالاً، والمشتري ليس معه نقود، فيذهب إلى المصرف فيشتريها المصرف بثمن نقدي ليبيعها على طالبها بثمن مؤجل أغلى، فإذا اشترى المصرف السلعة ولم يلتزم ببيعها على العميل أو لم يلتزم العميل بشرائها، وكان كل واحد منهما بالخيار، فالبيع جائز، لكن الواقع الذي يحصل في بعض البنوك أن البنك يأخذ ضمانات مثل الشيكات من أجل ألا يرجع المشتري في كلامه، ويشترط أن يؤمن المشتري على هذه السلعة، فإذا هلكت ولم يؤمن فهي من ضمان المشتري، وإذا هلكت وهو مؤمن فتتحمل الخسارة شركة التأمين، والتأمين من الظلم الذي شاع في هذا الزمان، ولعلنا نتكلم في فرصة أخرى عن التأمين بالتفصيل إن شاء الله.

حكم المرابحة [2]

حكم المرابحة [2] بيع المرابحة انتشاراً كبيراً في البنوك الإسلامية، مع أنه لا يخلو من محاذير شرعية، بل لقد انتشر إن فيه أحياناً حيلة على الربا المحرم في جميع الشرائع السماوية، فكيف يستحله كثير ممن ينتمون إلى الملة الإسلامية؟! وهناك ضوابط شرعية إذا عملت بها البنوك الإسلامية كان هذا البيع جائزاً.

أدلة تحريم بيع المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين

أدلة تحريم بيع المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين

فقدان شرط الملكية والقدرة على التسليم

فقدان شرط الملكية والقدرة على التسليم الدليل الأول: أن حقيقة بيع المواعدة هو: عقد بيع على سلعة مقدرة التملك للمصرف بثمن مربح قبل أن يملك المصرف السلعة ملكاً حقيقياً وتستقر في ملكه، هذا أول سبب في التحريم، ويظهر ذلك جلياً بمعرفة شروط المبيع وهي: أن يكون مباحاً، مقدوراً على تسليمه، مملوكاً لبائعه، منتفعاً به. فأحد شروط المبيع: أن يكون مملوكاً لبائعه، ولا يصح بيع شيء غير مملوك لبائعه، كمن يبيع بيت جاره وهو لا يملكه! فالبنك يبيع لك الثلاجة أو الجهاز قبل أن يمتلكه، فهنا فقد شرط من شروط المبيع؛ لأن الملكية مقدرة وليست حقيقية. فهو باع بيعاً معلقاً، وليس بيعاً حقيقياً؛ فهو يقول للبنك: إن اشتريتموها اشتريتها منكم. وقد صرح بإبطال هذا العقد بسبب هذه العلة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وكذلك ابن رشد؛ لأنه كان على مواطئة بيعها قبل أن يمتلكها البائع.

النصوص الكثيرة الناهية عن بيع ما لا يملك

النصوص الكثيرة الناهية عن بيع ما لا يملك الدليل الثاني: عموم الأحاديث النبوية التي نصت على النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، والبنك باع للعميل ما لا يملك، فعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! يأتيني الرجل فيسألني عن البيع لما ليس عندي فأبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك)، رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي. وبعض الناس يفعلون هذا بدون أن يشعروا، قد تذهب إلى الصيدلية لتشتري دواء، ولأنه حريص على الزبون يأخذ منك الثمن، ثم يرسل من يشتريه من صيدلية ثانية، وهو بهذا سيبيع لك ما ليس عنده، ولابد أن يملك السلعة أولاً ثم يبيعها، والصحيح أنه يقعده عنده، ويبعث من يجلب له الدواء من صيدلية أخرى، حتى يمتلكه، ثم يبيعه للزبون. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: وعلته الغرر في القدرة على التسليم وقت العقد. والحديث ينص على النهى عن الغرر، مثل أن يبيع السمك في الماء، أو الطيور في الهواء، أو الأجنة في بطون أمهاتها، وهذا كله يسري فيه الغرر والجهالة فيبطل. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)، رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فاتفق لفظ الحديثين على نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظ من لفظه صلى الله عليه وسلم، وهو يتضمن نوعاً من الغرر؛ فإنه إذا باعه شيئاً معيناً وليس في ملكه ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان متردداً بين الحصول وعدمه، فكان غرراً يشبه القمار المنهي عنه، وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهي عنه لكونه معدوماً، فقال: لا يصح بيع المعدوم، وروى في ذلك حديثاً: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعدوم)، وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا له أصل. اهـ من زاد المعاد. وقال الخطابي رحمه الله تعالى: (قوله: (لا تبع ما ليس عندك) يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جمله الشارد، ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه، مثل أن يشتري سلعة قبل أن يقبضها. وهذا يوافق كلام ابن القيم في بيان العلة، وهذا الحكم ثابت: لا يبع ما ليس عنده، والاختلاف في العلة، فبعضهم قال: لإن هذا بيع لشيء معدوم، فيحتمل أنه لا يجد السلعة التي باعها له، فلا يقدر على تسليمها، لكن لو قبضها وحازها فإنه يقدر على تسليمها، فنهي عن بيع مالا يملك من أجل الغرر، كمن يبيع الجمل الشارد، وهو لا يقدر على تسليمه، والصحيح أن هذا النهي ليس من باب بيع المعدوم، ولكن لوجود الغرر، وهو عدم القدرة على التسليم، وأياً كان الأمر فالحديث ثابت.

النهي عن بيع ما لم يقبض

النهي عن بيع ما لم يقبض الدليل الثالث: عموم الأحاديث النبوية التي نصت على نهي الإنسان أن يبيع ما اشتراه ما لم يقبضه، فإذا اشتريت شيئاً ولم تقبضه فلا يجوز لك أن تبيعه حتى تحوزه إلى رحلك. ففي الحديث: (نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يأويها التجار إلى رحالهم) وقد صحت الأحاديث في هذا، ومنها حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) أي: حتى يكتاله، رواه الترمذي. والذي عليه المحققون: أنه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضها، سواء الطعام أو غيره، وذكر الطعام هنا خرج مخرج الغالب، أي: أن الغالب بيع الطعام. وقد حرر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في علة المنع من بيع ما لم يقبض فقال: فالمأخذ الصحيح في المسألة: أن ما هو معلل بعدم تمام الاستيلاء يجب عنده قدرته على التسليم، وعدم انقطاع علاقة بيعه عنه؛ فإنه يطمع في الفسخ والامتناع عن الإقراض إذا رأى المشتري قد ربح فيه. الشاهد من هذا: أن النصوص إذا كانت صريحة وصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأنه على عمومه، وأن العلة هي عدم تمام الاستيلاء، وعدم الاستقرار في ملكية المشتري؛ فكيف يجوز للمصرف أن يبيع ما لم يملك أصلاً؟ وهذا من باب قياس الأولى وهو قياس جلي، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض، وأنت ذهبت لتشتري السلعة من الرجل، واتفقتما على البيع، ولكن لم يسلمك السلعة، فلا يجوز لك في هذه الحالة بيعها مع أنك اشتريتها ودفعت الثمن، لكنك لم تقبضها، ففي هذه الحالة لو جاء من يشتريها منك قبل أن تستلمها يحرم عليك هذا، فإذا كان البيع في هذه الصورة لا يحل، فكيف يحل والبنك أصلاً لا يملك السلعة، ويأخذ كل الضمانات قبل أن يشتريها؟! فملك البنك تقديري لا حقيقي، وقبضه له تقديري لا حقيقي، فالمنع من هذا أولى.

وجود التحايل على الربا

وجود التحايل على الربا الدليل الرابع: أن حقيقة عقد بيع المواعدة بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل. وهذه المسألة خلاصتها: أن هذا الرجل محتاج إلى خمسمائة حتى يشتري السلعة نقداً، لكنه عاجز أن يشتريها مباشرة، فماذا يفعل؟ يذهب للمصرف ويقول له: أعطني الخمسمائة لأشتري بها السلعة نقداً؛ لأن البائع مصر على بيعها نقداً، وسأسددها لك فيما بعد بخمسمائة وخمسين أو ستمائة مثلاً، فالصورة آلت إلى الربا أو تكاد! فخلاصة هذا العقد وحقيقته أنه بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل؛ لأنه أعطاك الخمسمائة مقابل أن تردها إلى أجل بزيادة، وبينهما سلعة محللة، وهذه حيلة من أجل أن تحلل فقط، مثل المحلل في الطلاق تماماً، فهو يعتبر حيلة على الإقراض بفائدة. يقول ابن عبد البر رحمه الله تعالى: معناه أنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، وبينهما سلعة محللة، مثال ذلك: أن يطلب رجل من رجل آخر سلعة يبيعها منه بنسيئة لأجل، وهو يعلم أنها ليست عنده، فيقول له: اشترها من مالكها بعشرة، وهو علي باثني عشر إلى أجل كذا، فهذا لا يجوز لما ذكرنا. هذا كلام الإمام ابن عبد البر المالكي. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في بيع ما لم يقبض: إنه يكون قد باع دراهم بدراهم والطعام مرجى، وهذا الأثر متفق عليه. وقال الخطابي: وهو غير جائز؛ لأنه بتقدير بيع ذهب بذهب، والطعام مؤجل، غائب غير حاضر.

اشتمال البيع على الغرر

اشتمال البيع على الغرر الدليل الخامس: أن البيوعات المنهي عنها ترجع إلى قواعد ثلاث، وأي تعامل شرعي يحرم وينهى عنه يرجع سبب ذلك النهي إلى ثلاثة قواعد هي: الربا، الغرر، أكل أموال الناس بالباطل. روى الجماعة إلا البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)، وهذا ليس من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أي: ليس المعنى: نهى عن البيع الذي هو غرر، وإنما معناه نهى عن بيع المبيع الغرر كالثمار قبل بدو صلاحها، وبيع ما لا يملكه، والعلماء قسموا بيع المعدوم إلى أنواع: النوع الأول: السلم، وهو: بيع موصوف في الذمة، فهو يتعجل أخذ المبلغ كله، وهذا استثناء من بيع ما ليس عنده، وله أسماء أخرى هي: السلم والسلف وبيع المحاويج؛ لأن الرجل الذي سيزرع التمر أو يأتي بالسلعة المسلم فيها محتاج إلى المال حتى يصرفه على الزراعة مثلاً، والمشتري محتاج إلى السلعة في الوقت الآجل فيما بعد، فلابد في السلم أن يعجل الثمن ويؤجل استلام السلعة، لكن لابد أن تكون السلعة موصوفة بصفات منضبطة تماماً، ويسمونه بيع المحاويج؛ لأن هذا محتاج وهذا محتاج، ففيه تيسير على الأمة، وقد رخص النبي عليه الصلاة والسلام فيه. النوع الثاني: بيع الموجود: مثل بيع الثمار بعد بدو صلاحها، وهو يجوز أيضاً. النوع الثالث: بيع المعدوم الذي لا يدرى أيحصل أم لا يحصل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكون المشتري منه على خطر، فهذا منع الشارع من بيعه؛ لا لكونه معدوماً بل لكونه غرراً، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه، بل يذهب يحصله ثم يسلمه إلى المشتري، يعتبر شبيهاً بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد، ولا تتوقف مصلحتهما عليه.

النهي عن بيعتين في بيعة

النهي عن بيعتين في بيعة الدليل السادس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)، فالمواعدة إذا لم تكن ملزمة للطرفين لم يكن ثمة بيعتين في بيعة، لكنها إذا صارت ملزمة كانت عقداً بعد أن كانت وعداً، وكأن هناك بيعتين في بيعة واحدة، فالأولى: بين المصرف وعميله المشتري، والثانية: بين المصرف والبائع، فصارت بيعتين في بيعة.

وجود صورة بيع دين بدين المنهي عنها

وجود صورة بيع دين بدين المنهي عنها الدليل السابع: بيع المرابحة مع الإلزام يفضي إلى بيع مؤجل البدلين، الذي يسمى: بيع الدين بالدين، أو الكالئ بالكالئ، لماذا؟ لأنه لا المصرف سوف يسلم السلعة في الحال، ولا العميل سيسلم الثمن، يعني: هذا العقد الذي يحصل مع المرابحة فيه بيع معاوضة لكن البدلين مؤجلان، السلعة دين والثمن دين؛ فهل تقول للمصرف بعد العقد: أنا أريد الجهاز الفلاني، فيحضره لك في الحال، لا، فعند التعاقد مع البنك هو لن يسلمك السلعة في الحال، ولا أنت تسلم الثمن؛ لأن السلعة ستكون ديناً في ذمة المصرف، والثمن سيكون ديناً في ذمتك، وهذا هو بيع الدين بالدين أو الكالئ بالكالئ الذي أجمع الفقهاء على النهي عنه رغم ضعف الحديث الوارد فيه، لكن الحكم ثابت بالإجماع. وإذا حاولنا أن نتحاشى هذه الصورة حتى لا يكون هناك بيع دين بدين، فنجمع المشتري والمصرف والبائع أو وكيلاً عن كل منهم في مجلس واحد، فيدفع المصرف الثمن النقدي إلى البائع، ويسجل المصرف في الحال اسم المشتري، ويكون الثمن مؤجلاً بذمة المشتري الخمسة آلاف -مثلاً- بزيادة خمسمائة؛ فهذا رباً واضح بتواطؤ الثلاثة، ونكون قد تجنبنا الرمضاء فوقعنا في النار! وما الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا قال الرجل للمصرف: أقرضني خمسة آلاف وأسددها لك خمسة آلاف وخمسمائة؟!

شبهات المبيحين لبيع المرابحة الجاري في المصارف

شبهات المبيحين لبيع المرابحة الجاري في المصارف شبهات المخالفين في هذه المسألة ركيكة وضعيفة، كقولهم: إن الوعد المالي ملزم، وما الجواب عن هذا؟ نقول: أولاً: هذا فيه خلاف، هل الوعد ملزم أو غير ملزم؟ ففي وجوب الإلزام به ثلاثة مذاهب: وجوب الوفاء به مطلقاً. عدم وجوب الوفاء به مطلقاً. إذا كان يترتب عليه ورطة فيكون ملزماً. ثانياً: أن الخلاف إنما هو في الوعد بالمعروف -العدة-، وليس له علاقة بموضوع بيع المرابحة؛ لأن بيع المرابحة هو تبادل تجاري، ومعاوضة تجارية فيها كسب وربح، وهذا أول فرق. ويقولون: الأصل في المعاملات الإباحة إلا ما جاء به نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده. فنقول: نعم الأصل في المعاملات الإباحة، لكن إذا أتى دليل شرعي يتعرض لهذه الإباحة ويزيلها فلا شك أنه لا يصح الاستدلال بهذه القاعدة، فقد أتى ما يمنع هذا، مثل حديث حكيم بن حزام وغيره من الأدلة التي نقلت هذه الإباحة إلى الحرمة. قالوا: إذا كان تحريم الحلال خطيراً فأخطر منه أن تحل حراماً، والله سبحانه تعالى يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، والبيع يشمل المقايضة التي هي عين بعين، أو الصرف الذي هو ثمن بثمن مثل ذهب بذهب، وفضة بفضة، أو السلم الذي هو عين بثمن، والبيع المطلق سواء حالاً أو مؤجلاً، قالوا: إن هذا يشمل المرابحة، فالمرابحة تدخل في أنواع البيوع، مثل: بيع المساومة، وبيع المزايدة، وبيع الأمان، فبيع الأمان يدخل فيه المرابحة، فدخلت كلمة أحل الله في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]. A أقسام البيوع هي: بيع المساومة، وبيع المزايدة، وبيع الأمانة، وبيع الأمان ثلاثة أنواع: بيع المرابحة، وبيع التولية، وبيع الوضيعة أو المحاطة، فبيع المرابحة الداخل في البيوع التي أحلها الله هو على اصطلاح الفقهاء الأقدمين في المرابحة، وليس هو الذي نتكلم عنه الآن، وهي صورة مختلفة تماماً عن المرابحة، ولا يجوز أن نستغل تشابه الأسماء بل لابد من تحقيق المعنى المراد بهذا الاسم. يقولون أيضاً: إن الحاجة ماسة وداعية إليه في التعامل، كما دعت الحاجة إلى السلم والاستصناع. و A أن السلم يختلف عما يدعون أنه مشروع، والأحاديث معروفة في ذلك، ويغتفر ما فيه من غرر، لكن السلم أذن به الشرع، أما الغرر في هذه المعاملة؛ فأين الدليل على أن الشرع أذن فيه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تبع ما ليس عندك)؟! يقولون: واغتفر ما يعتريها من الغرر تقديراً للحاجة الداعية، ولاتساع رقعة التعامل، وتضخم رءوس الأموال، فإذا لم تتم هذه المعاملة وقع المسلم في حرج، وشق عليه فوات مصالح كان يريد تحقيقها، وإذا فتحنا هذا الباب فسيضطر الناس إلى القرض بفائدة، وهذا هو الربا، لكن دينه يعصمه من الربا المحرم، فيلجأ إلى هذا التعامل تحت وطأة الحاجة أو الضرورة، فحتى لا يلجأ الناس إلى الربا لزمنا أن نفتح لهم هذا الباب، ونسهل عليهم؛ حتى ننتشلهم من المحرم، ونحقق مصالح المسلمين. فالجواب: نحن نوافقهم على أن القول بإباحة بيع المواعدة بهذه الصورة أيسر على الناس، ولكن هل كل ما اختلف فيه العلماء يجوز الأخذ فيه بالأيسر؟ وهل اليسر مسلك من مسالك الترجيح عند التعارض؟ الترجيح عند التعارض يكون باعتبارات أخرى لا محض اليسر، وفي الحديث: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً). إذاً: الترجيح يكون بالنظر إلى الأيسر للناس في مجالات التطوع الاختيارية، أما في أشياء مقطوع بحرمتها فلا يوجد شيء اسمه تيسير، وما كان إثماً فقد كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس منه. إذاً: ليس كل ما اختلف العلماء فيه يجوز الأخذ فيه بالأيسر؛ إذ الواجب عند اختلافهم هو الأخذ بما هو أرجح دليلاً؛ لأن ذلك أقرب إلى امتثال أمر الله تبارك وتعالى، وليس اختلافهم دليلاً على جواز كل الوجوه التي اختلفوا عليها؛ لأن التعبد ليس بالخلاف، وهذه هي الضلالة التي تحاول بعض الجماعات أن تغرسها الآن في الناس في زمن الغربة، يقولون: ضعها في رقبة عالم واطلع سالم! وهناك دعاة يقلدون الجهلة هذا الكلام ويقولون: من قلد عالماً لقي الله سالماً! وهم لا يستدلون بالحديث، ولكن يقول: ما دام أن عالماً قال به فأنا آخذ بكلام العالم، فيستترون وراء المسألة، ثم ننتهي إلى اتباع الهوى لا اتباع الشرع، والانقياد لداعية الهوى، بحجة أن عالماً قال بها، ولو تتبعت زلات العلماء اجتمع فيك الشر كله. إذاً: لا ينبغي إعمال نظرية التعبد بالخلاف، وهذه من البدع المعاصرة؛ لأن معنى ذلك أنه يجوز للمكلف أن يفعل الواجب أو يتركه، وأن يفعل الحرام وأن يتركه، ولا يلتزم إلا بالحكم المجمع عليه، والمسائل المجمع عليها قليله جداً بالنسبة لآلاف المسائل المختلف فيها، فهل مجرد وقوع الخلاف في مسألة يبيح لك أن تأخذ بأي قول؟! إذاً: ستأخذ من مذهب إباحة النبيذ، ومن مذهب إباحة نكاح المتعة، ومن مذهب ربا النسيئة، فلا يبقى واجب ولا محرم، ولا يفقه شيء إلا المجمع عليه، وهذا فساد عريض، فهذا نقد وتحطيم لقاعدة التكليف كما بينه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات، فكيف يجوز الأخذ في مثل هذه المسألة الخطيرة بقول شاذ، بل بقول غير محدد ولا مثقف، وكل كلامه منسوب إلى ابن شبرمة، وقد سبق أن بينا أنه غير راجح، وليس له علاقة بموضوعنا، علاوة على أنه قول شاذ من بين أقوال الفقهاء.

الضوابط الشرعية لبيع المرابحة الآمر بالشراء

الضوابط الشرعية لبيع المرابحة الآمر بالشراء نذكر هنا الضوابط الكلية التي تجعل بيع المواعدة أو بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تجريه المصارف الإسلامية في دائرة الجواز. أولاً: خلوها من الالتزام بإتمام البيع كتابة أو مشافهة قبل الحصول على العين بالتملك والقبض، فليس من حق البنك بعد الإتيان بالسلعة إلزام العميل، وله الحق في أن يرجع في كلامه، وكذلك من حق المشتري عدم الالتزام بإتمام البيع كتابة أو مشافهة قبل الحصول على العين بالتملك أو القبض. ثانياً: خلوها من الالتزام بضمان هلاك السلعة أو تضررها من أحد الطرفين العميل أو المصرف، بل هي على الأصل، والأصل أنها في ضمان المصرف، بل لا ينبغي أن يذكر هذا الشرط أصلاً، فلا يذكر البنك أنه ملتزم بها إذا هلكت، بل الأصل أن يبقى الشيء على ما كان عليه، فلا ينبغي النص في العقد على أن الالتزام بالضمان سواء على هذا أو ذاك، حتى لو قال: البنك أنا الذي أضمنها، فيكون موافقاً للكلام الذي نقوله، لكن هذا هو الأصل، ولا يحتاج إلى التنصيص عليه. ثالثاً: ألا يقع العقد على المبيع بينهما إلا بعد قبض المصرف للسلعة واستقرارها في ملكه، يعني: لا يحصل عقد التبايع إلا بعد أن يمتلكها البنك بالفعل ويحوزها، وحينئذ يعقد العقد بين البنك والمشترى منه. ونلخص الكلام في هذا الموضوع من رسالة للدكتور محمد سليمان أشقر حفظه الله اسمها: بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية، يقول في نهاية هذا البحث القيم: الذي يظهر لي -والله أعلم- أن التواعد على بيع المرابحة، وذكر السعر الذي سيشتري به الواعد في المرابحة، لا يجعلها إذا أتمت بعد ذلك حراماً خلافاً للمالكية، ولما فهمناه عن مذهب الحنابلة، ووفاقاً للمذهب الشافعي، ولما فهمناه عن مذهب الحنفية، ولما أفتى به فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز؛ لأن البنك يشتري لنفسه وهو يعلم أن العميل ربما لا يرجع إليه، وربما رجع فاشترى أو لم يشتر، فله مطلق الحرية في ذلك، ولأن البنك يستطيع أن يبيع لغير العميل؛ فلكل منهما أن يعدل عن وعده إذا وجد فرصة أنسب، ولأن السلعة إن هلكت تهلك على ملك البنك، وهذه الدرجة من المخاطرة، وهي: أن يكون البنك يشتري البضاعة وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، وهذه الدرجة هي التي تبيح هذه المعاملة وتخرجها عن حيز التحريم إلى حيز الحل، وتفصل بين كون هذه المعاملة بيعاً وتجارة وبين كونها قرضاً، أما العمل على أساس الإلزام بالوعد السابق؛ فإنه يربط الواعد ويوثقه ويعدمه الرضا حال عقد الشراء اللاحق من البنك. وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأنه عند كتابة العقد هل عنصر الرضا والاختيار من المشتري موجود؟ لا؛ لأنه قد أخذ عليه ضمانات قبل العقد، ثم يعقد بعد أن يحوز السلعة ويبيعها له ويكتب العقد، فما فائدة هذا العقد؟ هل هو مسلوب الإرادة أم غير مسلوب؟ مسلوب الإرادة؛ لأخذه ضمانات كافية من قبل. قال الأشقر: (فيكون المشتري مسلوب الرضا عند إجراء عقد شراء اللاحق من البنك، فيكون العقد صورياً، ويخرج عن كونه {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، إلى كونه قرضاً بفائدة؛ لأن الوعد الملزم يكون قد ربط ربطاً محكماً بين دفع البنك الثمن عند شرائه البضاعة، وبين أخذ العميل لها بثمن زائد، فتحققت صورة القرض، ولا ينفعهم أن يسموه: وعداً ببيع المرابحة؛ لأنه قد علم أن شرط العقود الرضا التام حين التعاقد، وبذلك التراضي يحل لكل من الطرفين ما يأخذه من مال الآخر، ومع ذلك، فلما في هذا التعامل من شبهة الإقراض بالفائدة فهو مكروه). وربما قال البعض: إن وعد المرابحة مع مراعاة هذه الضوابط يعرض أموال البنك الإسلامي إلى المخاطر؛ فإن كثيراً من العملاء سيتراجعون عن الوفاء بوعودهم في كثير من الأحوال لعدم التزامهم، ولعدم لزوم شيء من الغرامة لهم في حال النكول؛ فيضطر لبيع البضائع في كثير من الأحيان بثمن بخس، فنقول: الرجل ممكن أن يرجع، والبنك ممكن أن يرجع، ولو جاء للبنك عميل سيربحه أكثر باع له، فعنصر احتمال الرجوع متوافر للطرفين، وهذا العقد الشرعي للصورة الشرعية سيجعل للطرفين مطلق الحرية، وإذا أتى عرض من البنك أفضل سيكسب أكثر قبل إتمام العقد، وكذلك العميل، لكن بلا شك أن البنك فعلاً هو المعرض للخسارة أكثر؛ لأن بعض السلع النادرة لا يشتريها كل الناس، يقول الدكتور الأشقر: وجوابي عن ذلك: أن هذا لا يعرض البنك للخطر بل يضيق دائرة تحركه نسبياً في مجال العمل بالمرابحة، فلا يتعامل إلا بالعمليات التي يطمئن فيها إلى العميل، والعمليات التي للبضائع المطلوبة فيها سوق رائجة، والعمليات التي تتم في برهة قريبة بعد الوعد، كشراء العقار في الداخل، وتبقى سائر العمليات التي فيها خطورة، فتحال على أنواع أخرى للتعامل. يعني: أن البنك سيترك السلع التي فيها نوع من المخاطرة فلا يتعامل فيها بالمواعدة، ويتعامل فيها بالمضاربة أو المشاركة. إذاً: يجب أن يصاغ الوعد بهذه الطريقة ليكون ظاهراً في عدم الإلزام والالتزام، ولئلا يؤخذ المؤمن بالحياء، بل يكون عقد البيع اللاحق عن تراض، لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، وأرجو أن يكون الأمر قد فهم على وجهه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الحذر من الشيعة

الحذر من الشيعة لقد حذر العلماء من خطر الشيعة الإثني عشرية وبينوا أنهم أكذب خلق الله على الإطلاق، فينبغي على المسلم أن يحذر من عقائدهم الباطلة، وطعنهم في القرآن والسنة والصحابة، وأن يحذر من عقيدة التقية التي بها يخفون ما هم عليه من الباطل.

الحذر من خطر الشيعة

الحذر من خطر الشيعة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين. أما بعد: فهنا أخ أتى بهذه القصاصة بعنوان: حديث في الطائرة، وهي عبارة عن مقالة منشورة في إحدى الجرائد، يقول كاتب هذه المقالة: في أثناء رحلتي إلى أسوان بالطائرة جلست في المقعد المجاور لي سيدة غير مصرية تقرأ في كتاب ديني، استنتجت من أسلوبه واسم مؤلفه أنه من كتب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، وقد كانت لي قراءات عدة في المذهب الشيعي، بمذاهبه المتعددة، ولكنها كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بأحد الشيعة على الطبيعة، وهي فرصة بالنسبة لما سبق؛ لذلك استجمعت شجاعتي وبدأت أتبادل معها الحديث، وتأكدت من صحة استنتاجي من أنها على المذهب الشيعي، فقررت أن أغتنم هذه الفرصة الذهبية؛ لأستوضح بعض النقاط الخاصة بمذهبهم، وقررت في داخلي أن أنصت فقط لما تقوله ولا أناقش أو أنتقد شيئاً مما يدور حوله الحديث؛ لأن هدفي هو المعرفة المجردة وليس المناظرة في اختلاف المذهب، وكان حصيلة ما عرفته كذا وكذا وكذا وأقول: هنا كلمة قالها السادات في خطبة له قال فيها: يا جماعة! الشيعي أول حاجة تخاف منه بدل ما تتكلم معه. فالشيعة أخطر شيء؛ لأنهم أكذب خلق الله، كما قال بعض العلماء: خلق الله الكذب عشرة أجزاء جعل تسعة منها في الشيعة، فالكذب عندهم عبادة. ومن عقيدتهم التقية، وهي: إبطان خلاف ما يظهر، فأحدهم قد يوافقك، لكن ذلك تقية، وليس مثل ما نلقب نحن واحداً تقي الدين، فهذه من التقوى، وأما هم فعندهم تقي الدين من كان ماهراً جداً في التقية، ويزعمون أن التقية تسعة أعشار الدين أو نحوه، فمعروف عند علماء الحديث والجرح والتعديل أن الشيعة أكذب خلق الله، وأن أكذب الفرق الإسلامية على الإطلاق هم الشيعة. كذلك لا تثق على الإطلاق بكلام يظهره لك الشيعي، فأنت ستقول له: أنتم تكفرون الصحابة، فيقول لك: من يكفر الصحابة؟! رضي الله عن المهاجرين والأنصار! فتقول له: أنتم تقولون كذا في عمر؟ فيقول: نحن لا نقول كذا في عمر!! بل عمر رضي الله عنه، وكذا، إلى آخره. فهم يتقنون التقية جداً، ولهذا فإن النقاش مع الشيعة في الحقيقة لا جدوى من ورائه، ولا أمل في هدايتهم؛ ولذلك كثير من العلماء يشبهونهم باليهود؛ لأن الأمل في هدايتهم صعب جداً، لكن قد يشاء الله هداية بعض الضالين منهم، وهذا وارد، لكن كما يشاء في هداية بعض اليهود في دخول الإسلام؛ فإن المهتدين من اليهود قلة جداً؛ فهم لا يريدون أن يدخلوا في الإسلام. فهؤلاء الشيعة يحذر من التحاور معهم، وهذه المرأة التي جلست بجوار ذلك الشخص أكيد أنها كانت تفتح الكتاب أمامه لكي تصطاده؛ لأن الشيعة خبراء في دعوة الناس وتصدير منهجهم الفاسد المتعفن. وأما قوله: أنا قرأت عن الشيعة فواضح أنه لم يقرأ كلاماً كافياً كما سيتضح فيما يأتي.

حقيقة الاتفاق بين السنة والشيعة

حقيقة الاتفاق بين السنة والشيعة يقول الكاتب: إن هدفي كان المعرفة المجردة، وليس المناظرة في اختلاف المذاهب، وكان حصيلة ما عرفته هو أن الشيعة متفقون مع السنة في أغلب الأحكام الفقهية خاصة الفرائض. أقول: هذا كلام غير صحيح؛ فهناك خلافات كثيرة جداً بيننا وبينهم في الفرائض وفي الفروع، ولكن ما دام أنهم متفقون معنا في الفرائض فلماذا أهملت القسم الأعظم من الدين، وهو العقيدة وأمور الإيمان وأصول الدين؟ ولكن بالعكس هناك اختلاف كبير جداً بيننا وبين هؤلاء الطوائف في الفرائض وفي الأصول.

سبب تعلق الشيعة بمصر

سبب تعلق الشيعة بمصر يقول الكاتب: إن مصر لها مكانة خاصة في قلوب الشيعة، وكذلك للمصريين مكانة كبيرة؛ لحبهم الشديد لآل البيت. أقول: صحيح أن مصر لها معزة عندهم، وهم يموتون حسرة على مصر؛ لأن مصر احتلت من قبل الدولة الفاطمية العبيدية التي جاءت من المغرب؛ ولذلك مصر أعظم البلاد الإسلامية حظاً في البدع والخرافات والموالد والقبور والأضرحة والمآتم، وكل هذه الأشياء من آثار العبيديين، فهذه البلايا والمصائب والبدع أوجدها الفاطميون العبيديون هنا في مصر، هذا هو السبب الذي جعل الشيعة يحبون مصر، حتى إن واحداً منهم صرح في بعض المؤتمرات مخاطباً أحد العلماء المصريين بقوله: نحن هنا نعدكم في مصر نصف شيعة؛ لأن النساء والعوام -بالذات في الأرياف- مازالوا يتعلقون جداً بآل البيت. نقول: هل نحن أهل السنة لا نحب أهل البيت؟!! فكما نقول للنصارى: نحن أولى بالمسيح منكم، وكما نقول لليهود نحن أولى بموسى عليه السلام منكم، فكذلك نقول للشيعة: نحن أولى بآل البيت منكم سواء بـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو بـ فاطمة رضي الله عنها، أو بآل البيت بالمعنى الواسع، فنحن أشد الناس حباً لهم ونحن أنصارهم ونحن شيعتهم في الحقيقة، لكننا لا نعبدهم من دون الله، هذا هو الفرق بيننا وبين الشيعة، فهم يعبدون الأئمة من دون الله أو مع الله، ويخلعون عليهم صفات الألوهية والعياذ بالله، وعندهم أن الإمام معصوم من الخطأ والسهو والنسيان، وأنه إذا أراد شيئاً يقع في يديه بدون الأخذ بالأسباب، وأنه يعلم كذا وكذا، حتى إن الخميني أشعل الله قبره عليه ناراً كان يقول: إن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً معلوماً ومنزلة سامية لا يدانيها أو لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل. فعندهم أن درجة الإمام فوق الأنبياء، ولكن للأسف الشديد أن الأخ المتكلم هنا يقول: إن مصر لها مكانة خاصة في قلوبهم. أقول: إنهم يهدفون إلى إعادة احتلال مصر من جديد؛ فهم يعتبرونها احتلت على يد صلاح الدين الأيوبي وصلاح الدين الأيوبي هو الذي أعاد مصر إلى ما هو أقرب إلى مذهب أهل السنة وهو المذهب الأشعري، لكن هو أخف من مذهب الشيعة. وأحد الشيعة عرض على رجل أمريكي أن يدخل في دين الشيعة، والشيعة مشهورون جداً في الغرب، والرجل كان نصرانياً، وكان هذا الشيعي يدعوه إلى الإسلام، فظل يشرح له صفات الأئمة، وأنه لابد أن تعتقد في الأئمة أنهم كذا وكذا وكذا، فالرجل الأمريكي الكافر النصراني رد عليه رداً منطقياً، فقال له: أنا فررت من عبادة ثلاثة آلهة، وأنت تريدني أن أعبد اثني عشر إلهاً مع الله!!

وجه سجود الشيعة على حجر أو تربة من كربلاء

وجه سجود الشيعة على حجر أو تربة من كربلاء إن الشيعة يقومون بالسجود على حجر أو تربة من كربلاء؛ لأنهم يرددون حديثاً منسوباً إلى الرسول عليه السلام، وفيه: (صلوا على ما لا يؤكل ولا يشرب ولا يلبس)، وبالتالي لا يجوز عندهم السجود على السجاد؛ لأنه مصنوع من الخيط الذي يستخدم في صناعة الملابس؛ ولذلك هم يسجدون على التربة التي يأتون بها من كربلاء، وتربة كربلاء في زعمهم تربة مطهرة، وكون الواحد منهم يحمل تربة من كربلاء معه ليضعها ويسجد عليها هذا شيء معروف عنهم. والخميني يقول: السجود للحوائج وطلب قضاء الحاجات للحجر أو الشجر ليس شركاً، وإن كان عملاً باطلاً!

موقف الشيعة الحقيقي من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

موقف الشيعة الحقيقي من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم يقول الكاتب: ويؤمنون تماماً برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمنون بإمامة الإمام علي. أقول: هل يكفي الإيمان برسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أم لابد من سنة وشرع؟! فما موقفكم أيها الشيعة من القرآن؟ أليس في كتبكم المقدسة كالكافي وغيره من الكتب التي هي طافحة بالنصوص التي تزعم تحريف القرآن الكريم، وأن القرآن الحقيقي ثلاثة أضعاف القرآن الموجود بين أيدينا؟! وإذا ناقشت أحدهم في هذا يقول لك: من جحد القرآن فهو كافر، ويظهر لك الكلام الذي توافقه عليه تماماً، الذين يناظرونهم في عصور شتى يقولون لهم: أعلنوا التبرؤ من هذه الكتب، ففي ساعة الجد لا يعلنون البراءة من هذه الكتب التي تصرح بهذه العقائد. والخميني نفسه كان يترحم على النوري الطبرسي، ويزعم أنه قدم خدمات جليلة للإسلام!! والنوري الطبرسي هو مؤلف كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، هذا هو النوري الطبرسي الذي يمدحه الخميني على ما قدمه من خدمات جليلة للإسلام. فالشيعة يؤمنون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من غير قرآن؛ لأن القرآن محرف عندهم، وأيضاً لا يحتجون بالسنة لا بصحيح البخاري ولا صحيح مسلم ولا سنن الترمذي ولا غيرها، فهذه الكتب كلها مرفوضة؛ لأن الحديث لابد أن عندهم يأتي عن طريق سند من أهل البيت فقط، فلهم مصطلح مستقل في هذا الجانب.

موقف الشيعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

موقف الشيعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الأخ الكاتب الله يهديه أتى بكل الكلام الذي أتى به ونسي موضوع الصحابة، وقال: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. أقول: فهل نعذرهم في سب الصحابة وفي تكفير الصحابة؟! وقوله: ويؤمنون بإمامة الإمام علي أقول: نحن أيضاً نؤمن، لكننا أيضاً لا نعبد علياً رضي الله تعالى عنه، ولا نغالي في حبه، ونؤمن بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فلماذا سكت الأخ هنا؟ ولماذا أتى بالقاسم المشترك في إمامة علي؟ وأين إمامة أبي بكر وعمر وعثمان التي أجمع عليها المسلمون والصحابة؟! هل هذا شيء هين؟ وهم يقولون بالمسح على الأرجل في الوضوء، وليس الغسل إلى آخره.

حقيقة دعوة التقريب بين السنة والشيعة

حقيقة دعوة التقريب بين السنة والشيعة يقول الكاتب: وفي نهاية الرحلة قررتُ أن أقرأ أكثر في مذهب الشيعة، وجعلتها تقرأ في فقه السنة هي أيضاً، فهذه قراءات تمهد لمحو الفوارق الطفيفة، وتؤدي إلى توحيد الكلمة والصف. أقول: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، فلابد أولاً من الدخول في الدين الصحيح الذي أنزله الله، وتحقيق كلمة التوحيد، وبعد ذلك نسعى لتوحيد الكلمة، أما توحيد الكلمة على أساس عاطفي، وعلى كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، فهذا لا ينفع، ودائماً التقريب عند الشيعة له معنى واحد فقط هو أن يقترب أهل السنة من الشيعة، لكنهم لا يقتربون منا، ولا يمكن أن يتنازلوا على الإطلاق عن أي شيء من عقيدتهم. والأخ جزاه الله خيراً على أنه سلط الضوء على هذه القصاصة، وأرجو أن تأتي فرصة فيما بعد لنتكلم في الموضوع بالتفصيل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك الله ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.

فضل الذكر

فضل الذكر ذكر الله تعالى هو زاد الروح وغذاؤها، وهو سلوة النفس وجلاؤها، به تسمو الروح إلى العلياء، وبه تتصل برب الأرض والسماء، وهو لذة لها لا تعادلها لذة، وسلوة لها لا تعادلها سلوة، وأنيس لها في السر والخلوة، يفيض على النفس من الروحانية ما لا تدركه إشارة، ولا تحيط به عبارة.

النهي عن الدعاء بالبلاء واستجلابه

النهي عن الدعاء بالبلاء واستجلابه الحمد لله الذي جعل ذكره لذة للمتقين، يتوصلون به إلى خيرَي الدنيا والدين، وجُنة واقية للمؤمنين من سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين، من طوائف الخلق أجمعين. وصلى الله على خير البشر الذي أُنزل عليه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، فبيّن للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار، ما ملأ الأسفار، وتناقلته ألسن الرواة في جميع الأعصار، وعلى من صاحبه ووالاه، وسلّم تسليماً كثيراً لا يدرك منتهاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. عن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له، فشفاه) رواه الإمام مسلم في صحيحه. قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين) هذا فيه استحباب عيادة المريض. (قد خفت) أي: سكن وسكت، والمقصود أنه ضَعُف وسكن وسكت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء) أي: هل كنت تدعو الله بشيء (أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا) أي: أنه تمنى أن تعجل له العقوبة، فنفس هذا اللسان ونفس هذا الفم الذي خرجت منه هذه الدعوة فاستجيبت كان يمكن أن يخرج منه سؤال الله العافية فتستجاب أيضاً؛ لأنا نهينا عن تمني البلاء، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا)، لكن ليس للإنسان أن يسعى إلى استجلاب البلاء، ولا أن يتمناه، فربما صدر منه الضجر أو الشكوى أو التسخط على قدر الله عز وجل، فإن للبلاء أهلاً في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك -أي: مريض-، وعليه قطيفة، يقول: فوضعت يدي على جبهته فقلت: ما أشد حماك يا رسول الله! قال: نعم، إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. فللبلاء أهل ذكروا في هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، فمن لم يكن من أهل البلاء لم يطقه فربما صدر منه السخط، لكن إذا ازداد يقين العبد وابتلي فإن الله يعينه على الصبر على ذلك. لذلك كان السلف والصالحون -كما جاء في الحديث- يفرحون بالبلاء أشد من فرح أحدكم بالعطاء؛ لقوة يقينهم فيما عند الله عز وجل من الثواب، أو لأنهم أمثل الناس وأشدهم تمسكاً بطريق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. (يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالعبد إذا ابتلي رغماً عنه بعد أخذه بالأسباب وسعيه حسب الإمكان، فإن الله تعالى يعينه حينئذ، وأما إذا استجلب لنفسه البلاء بتقصير أو تراخ في الأخذ بالأسباب فإنه يوكل إلى نفسه ولا يعان إلا أن يشاء الله عز وجل. ففي هذا الحديث كان هذا الصحابي يدعو الله عز وجل يقول: (اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا) أي: حتى يأتي يوم القيامة وليس عليه شيء يستحق العقوبة من أجله، ويصفو له الثواب بدون كدر، فنفس هذا اللسان الذي دعا هذه الدعوة في وقت الإجابة فاستجيبت له كان بإمكانه أن يدعو بالعافية كما جاء في الحديث الضعيف: (إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي) فهذا حديث ضعيف معروف، لكن المقصود أن العافية أوسع، والذي يستجيب لك في الدعاء بالبلاء يستجيب في الدعاء بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة.

أهمية فقه الدعاء وأحكامه

أهمية فقه الدعاء وأحكامه وهذا الحديث من الأحاديث التي تبين خطورة عدم فقه الدعاء، فلابد أن يكون الإنسان محيطاً ومتعلماً فقه الدعاء وغيره من العبادات، فهناك بعض الأمور التي تعين الإنسان على اغتنام أوقات الإجابة، وتحري الأمور التي تجعله مجاب الدعوة، وهناك بعض الأمور التي لابد أن يزيلها قبل أن يدعو، وهناك شروط في نفس الدعاء حتى يستجاب، فهذا الرجل لما لم يكن عنده فقه دقيق بآداب الدعاء وأحكامه وقع في هذا الخطأ، فدعا الله عز وجل وتمنى البلاء، فاستجاب الله له وآتاه هذا البلاء، وهذا كما قال عز وجل: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]. (فقال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله!) أي: أنه تعجب، وهذا دليل على جواز أن يقول الإنسان إذا تعجب من شيء: سبحان الله. (سبحان الله! لا تطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم! آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، وأشهر الأقوال في تفسير حسنة الدنيا أنها العبادة والعافية، وحسنة الآخرة هي الجنة والمغفرة، (قال: فدعا له صلى الله عليه وسلم فشفاه الله عز وجل).

النهي عن تمني تعجيل العقوبة والبلاء، واستحباب زيارة المريض

النهي عن تمني تعجيل العقوبة والبلاء، واستحباب زيارة المريض وفي هذا الحديث النهي عن تمني تعجيل العقوبة، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فكان المفروض أن يقولوا: اللهم! إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، أو فارزقنا اتباعه، أما أن يتمنى الإنسان البلاء، ويطلب العقوبة فهذا من عدم الفقه في عبادة الدعاء. وهذا الحديث فيه فضل هذا الدعاء: (اللهم! آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) وهذا الدعاء يقال أيضاً عند الكرب. وفيه استحباب عيادة المريض والدعاء له. وفيه كراهية تمني البلاء؛ لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكى. وعدم الاهتمام بفقه الدعاء قد يحول دون استجابة هذا الدعاء، وإذا استجيب له فقد يقع الإنسان في بلاء وكرب، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر بعض أدعيته الطويلة: (وأعوذ بك من دعوة لا يستجاب لها)، فالدعوة التي لا يستجاب لها دعوة شريرة، وقد بلغ شرها وشؤمها أن النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها. وقال في حديث آخر: (وأعوذ بك من دعاء لا يسمع) أي: لا يستجاب، فقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: أجاب الله من حمده.

الحث على الذكر

الحث على الذكر ثبت في كثير من الآيات والأحاديث فضل الذكر ودعاء الله عز وجل، فمن هذه الآيات قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]. ومنها أيضاً: قوله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، فالشكر يتعدى باللام تقول: قد شكر الله لك، أو شكرت له، وهذا أبلغ من أن تقول: شكرته {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]. وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]. وقال جل ذكره: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]. وقال عز وجل مخاطباً نبيه زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما سأل الله أن يجعل له آية قال: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كثيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]، فقد عطل لسانه عليه السلام عن كل كلام إلا ما كان فيه ذكر، ((آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ))، فكان إذا أراد أن يتكلم عطل لسانه، وامتنع عن النطق إلا إذا كان هذا الكلام بذكر الله عز وجل. وسأل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ربه أن يجعل له وزيراً: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32] لماذا كل هذا؟ {كَيْ نُسَبِّحَكَ كثيراً * وَنَذْكُرَكَ كثيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:33 - 35]. وقال أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً بعد ما أخبره أنه يحبه، فقال له: (لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، فدل هذا على أن الذكر ليس بالسهل، بل يحتاج إلى معونة من الله عز وجل؛ حتى يصرف عن الإنسان الصوارف الشاغلة التي تحوَّل همته من هذه الكنوز العظيمة التي يفوز بها إذا اشتغل بذكر الله عز وجل. وقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كثيراً} [الأحزاب:21]، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، وقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29].

الإكثار من ذكر الله

الإكثار من ذكر الله الآن نقف عند إحدى هذه الآيات، وهي آية سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]. إذا تأملنا القرآن الكريم والسنة الشريفة فإنا نجد أن كل عبادة من العبادات لها وصف محدد أو عدد محدد لا يجوز عنه، فالحج مثلاً يكون مرة واحدة في السنة، والصيام الواجب هو صيام شهر رمضان، والزكاة يشترط فيها مثلاً حولان الحول، وهناك شروط أخرى، فكل عبادة لها وقت، ولها عدد، ولها هيئة مخصوصة وأوقات مخصوصة، فهناك أوقات ينهى عن الصلاة فيها، والعبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار منها بلا حدود هي ذكر الله عز وجل، فكل أمر أتى فيه الترغيب في الذكر فغالباً ما يقترن بالإكثار والاجتهاد في مضاعفة هذا الذكر كما في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً} [الأحزاب:41]، وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً} [الأحزاب:41]: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، فقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: ((وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته. وقال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:35] إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المفردون. قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، فالمفردون: هم الذين عاشوا في قرن معين من الزمان، ثم ذهب هذا الزمان وبقوا وحدهم متفردين يذكرون الله عز وجل. قال ابن الأعرابي: فَرُد الرجل إذا تفقه، واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرت)، فهذه أيضاً من الأعمال التي يستحق صاحبها أن يوصف بأنه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. وهناك رواية أخرى لهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتبا ليلتئذ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

من يوصف بأنه من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات

من يوصف بأنه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات واختلف العلماء فيمن يستحق وصف الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال الإمام أبو الحسن الواحدي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات: أنهم يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً -وهي أذكار الصباح والمساء-، وفي المضاجع إذا أرادوا النوم، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى. وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقال عطاء: من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]. وسئل الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عن القدر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال -وهو من أجمع الأجوبة في هذا الباب-: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساء، في الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، وهي مبينة في عمل اليوم والليلة؛ كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، والله أعلم. وبنحوه قال الإمام محمد الجزري رحمه الله تعالى في العدة، وقال شارح (العدة): لا شك أن صدق هذا الوصف أعني كونه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات -على من واظب على ذكر الله تعالى وإن كان قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر الله كثيراً من غير مواظبة. وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه). وورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أذكار وأدعية عند الأحوال المختلفة، وفي الأوقات المتنوعة كالنوم واليقظة، والأكل والشرب واللباس ونحوها، ووردت بكل حال من هذه الأحوال، وفي كل وقت من هذه الأوقات أذكار متعددة، وكذلك أدعية فوق الواحد والاثنين، فمن أخذ بذكر أو دعاء من الأذكار والأدعية المذكورة وأتى به في ذلك الحال والوقت فقد صدق عليه وصف الإكثار من ذكر الله عز وجل إذا داوم عليه في اليوم والليلة، ولم يُخلّ به في ساعاته من النوم واليقظة. وأما من واظب على جميعها، وأتى بها ليلاً ونهاراً، وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه؛ فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى هو به إلا من صنع مثل صنيعه زاد عليه، فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف؛ لتصدق عليك هذه الأوصاف، وإلّا فلا تكن يعني: إما أن تكون مقلاً وإما مكثراً ومداوماً، وإلا فلا تكن، أي: لا تعيش أصلاً، فالإنسان بدون ذكر هو في الحقيقة من الأموات. وعن عطاء بن يسار قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط -أي: العادل-)، فجعل أولهم الذاكر الله كثيراً، فمن أكثر من ذكر الله فلا يرد الله عز وجل دعاءه؛ بل يستجيب له. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إعطاء الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله). وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثَل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثَل الحي والميت)، وفي رواية: (مَثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثل الحي والميت) أي: أن الفرق بينهما كالفرق بين الحي والميت. وعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات، ومنها: ذكر الله عز وجل). وقد جاء في هذا الحديث أن يحيى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل ممتثلاً ما أمره الله به فقال: (وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى). وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه أمر بعض الصحابة رضي الله عنه فقال له: (اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله تعالى عند كل حجر وكل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)، وهذه هي المعية الخاصة، وهي غير معية الله عز وجل العامة لكل الخلق بالسمع والبصر والاطلاع على كل أحوالهم، فالمعية الخاصة هي التي جاءت في مثل قوله عز وجل: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، فهذه المعية الخاصة تكون بالنصرة والتأييد والحفظ والكلاءة. يقول الإمام ابن بطّال: معنى الحديث: أنا مع عبدي زمان ذكره لي، أي: أنا معه بالحفظ والكلاءة، لا أنه سبحانه معه بذاته حيث حل العبد. وعن عبد الله بن بسر المازني رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، -وطوبى شجرة في الجنة-، قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)، فذكر الله تعالى أفضل الأعمال.

خطأ الاشتغال بالمفضول وترك الفاضل

خطأ الاشتغال بالمفضول وترك الفاضل عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى)، وفي رواية: (إن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا قد كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، فهذا من فقه التجارة مع الله سبحانه وتعالى، فالإنسان قد يشتغل بالعمل المفضول ويترك الفاضل، مع أن المفضول قد يكون أيسر وأسهل، ويعود عليه بربح كثير، وقد يشتغل بهذا الموجود فيضيع فيه عمره، وهذا من مكائد الشيطان أن يشغل الإنسان عن التجارة التي تعطي ربحاً أكثر بما يحصل ثواباً أقل، فينبغي أن يتفطن الإنسان لهذه المسائل الدقيقة، ولا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، فضلاً عن ألّا يشتغل بهذا ولا ذاك، فهذا حظ الشيطان وسلطانه عليه أقوى وأكثر، فكثير من الناس وخصوصاً من ينتسبون إلى السنة نجدهم يكثرون الذم والتنفير عن أحوال الصوفية وبدعهم التي يبتدعون في أمور الذكر والدعاء وغيرها حتى ينطبع في نفس بعض الناس -بدون قصد- بغض الذكر، وبعض الناس يفتنون بمظاهر الدنيا وزخرفها، فيصل بهم الأمر إلى أن يقولوا: العمل عبادة، والفعل هذا أفضل من الصلاة، وأفضل من التسبيح، حتى ينشأ في قلوب الناس احتقار الذكر، حتى أن بعض الناس يقول: أنا لا أعترف بشيء اسمه تسبيح أو تهليل، فهذه الأشياء من كلام الصوفية، فينسد هذا الباب العظيم من أبواب الخير، وقد عدّه النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال؛ بسبب عدم الفقه في هذا الأمر.

معرفة ثواب الذكر من جهة الشرع

معرفة ثواب الذكر من جهة الشرع نحن لا نملك الميزان الذي نوزن به الأعمال، بل يخبرنا به الوحي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث البطاقة الذي رواه ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء). فمعرفة مقادير هذه الأعمال العظيمة ليس إلينا، وإنما نعرفه عن طريق الوحي، فالوحي يخبر أن هذه الأذكار ثوابها عظيم جداً، والناس في غفلة عن هذا، فهذه تجارة رابحة، فمن استطاع أن يستثمر أرباحه فيها فليستثمر، فهذا إبراهيم عليه السلام لما قابل الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج قال له: (يا محمد! أقرأ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأخبرهم أن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فهذه نصيحة من أبينا إبراهيم عليه السلام ينصحنا نحن المسلمين بها، ويخبرنا بها نبي سبق المؤمنين إلى الجنة، ويخبرنا عن شيء يقع في الجنة، فلا يحتقر هذا الأمر العظيم أو يزدريه أو يزهد فيه إلا أحمق ناقص العقل. وجاء في الحديث الصحيح: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن) فهي لا تكلفك شيئاً، ويخبرنا الوحي أنها ثقيلة جداً في الميزان، (ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وجاء في الحديث الآخر: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بها قصراً في الجنة)، فهذا شيء يسير على ألسنتنا لكنه عند الله عظيم، فالذكر من أشرف العبادات، وإذا تأملنا في المعاني التي تندرج تحت هذه التسبيحات والأذكار لوجدنا معاني عظيمة جداً من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص، وإثبات الكمالات له عز وجل، واعتراف العبد بالنقص والخطأ والزلل، وهذه المعاني العظيمة الجليلة تستوجب هذا الأجر العظيم وإن رغمت أنوف الذين تقصر عقولهم وهممهم عن فهم هذه الأشياء.

الترهيب من الغفلة عن ذكر الله

الترهيب من الغفلة عن ذكر الله وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة) والترة هي النقص، قال الله عز وجل في القرآن: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] أي: لن ينقصكم، ومعنى التره في هذا الحديث: التبعة، وترت الرجل ترة أي: أنقصته نقصاً، ففي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) أي: تَبِعة ونقص وحسرة يوم القيامة. وقد أوجب بعض العلماء على الإنسان ألّا يجلس مجلساً إلا ويذكر الله تعالى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وبعض الذين غرتهم الحياة الدنيا من الذين يقومون بالتدريس أو يجلسون في بعض المجالس التي يعقدونها في الجامعات، أو المحاضرات، أو غيرها يستكبرون عن هذا، أو يزدرون مثل هذه الأعمال العظيمة، فهذا عميد أدب الغرب دخل مرة من المرات محاضرته وهو يريد أن يستهزئ بهذه السنة الشريفة فقال لطلابه: أكثركم قد يضحك مني إذا بدأت محاضرتي كما يبدأ الشيوخ: بالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أنا لا أفعل هذا، وما ذلك إلّا لأنه متمجن ومتحجر، وهو أيضاً محروم من هذا الأجر العظيم، ومستحق لهذه الحسرة التي توعده بها رسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. فمن السنة أن الإنسان إذا كان في مجلس ضيافة، أو يوجد ضيوف عنده في البيت، أو كان في مجلس مذاكرة، أو في محاضرة، أو في أي مجلس يجلسه؛ ألّا يخلو هذا المجلس من ذكر الله عز وجل، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء في بعض الأحاديث الوعيد على ترك ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) ومعنى ذلك أنه يستحب أن تذكر الله في الطريق وأنت تمشي. وفي رواية: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة -أي: تبعة-، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم)، وخاتمة هذا الحديث تدل على وجوب ذلك؛ لأن الوعيد لا يقع إلا على ترك الواجب أو ارتكاب المحرم، فهنا ينذر النبي صلى الله عليه وسلم من جلس مجلساً ولم يذكر الله فيه، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه يكون يوم القيامة تحت المشيئة: إن شاء الله أن يعذبه عذبه، وإن شاء أن يغفر له غفر له، فهذا يدل على وجوب تعطير المجلس بذكر الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)، أي: كأنهم كانوا مجتمعين على جيفة حمار منتنة، ويكون عليهم ذلك المجلس حسرة يوم القيامة. وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يَتحسر عليه أهل الجنة؛ أنهم بعد أن يدخلوا الجنة يتحسرون على أي ساعة أو لحظة مرت بهم في الدنيا ولم يعمروها بذكر الله عز وجل. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة).

من فضائل الذاكرين الله كثيرا

من فضائل الذاكرين الله كثيراً عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن نفراً من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يكفنيهم؟ -أي: من يقوم بضيافتهم؟ - فقال طلحة: أنا، فكانوا عند طلحة -أي: باتوا عند طلحة واستضافهم في بيته رضي الله عنه-، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدهم فاستشهد، ثم بعث بعثاً فخرج فيه آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالث على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة -أي: رآهم في منامه في الجنة-، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، -أي: أنه تقدمهم في المنزلة في الجنة مع أنه لم يستشهد، وإنما مات على فراشه- ورأيت الذي استشهد أخيراً يليه -أي: أن الثاني كان يلي ذلك الذي مات على فراشه في المنزلة- ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم -أي: في المرتبة- قال: فدخلني من ذلك! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟! ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله). فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من فعل طلحة كيف يتعجب لهذا مع أنه أمر طبيعي، فالمؤمن إذا مد له في أجله بعد أخيه فعمر أوقاته بالتسبيح والذكر والتكبير والتهليل، فهذه ترفع درجاته حتى ربما ارتفع فوق مقام من سبقه بالشهادة. ومما ثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ذكر الله عز وجل في الخلوة ما جاء في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، فهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل في الخلوة حيث لا يراه الناس، فإذا اجتمع له ذكر الله في الخلوة مع البكاء من خشية الله عز وجل حتى تفيض عيناه فإنه يكون يوم القيامة في ظل الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله.

فضائل مجالس الذكر

فضائل مجالس الذكر جاءت أحاديث كثيرة في فضيلة مجالس الذكر، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) أي: لأنهم جلسوا يذكرون الله عز وجل. وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل). وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: (ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له من حين يخرج من بيته كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم) يعني: أن الله عز وجل يفرح به، يتبشبش له.

الحث على حضور مجالس الذكر

الحث على حضور مجالس الذكر لقد حث الشارع على حضور مجالس الذكر، وحينما نذكر كلمة الذكر فلا يتبادر إلى الذهن التسبيح والتكبير والتهليل فقط، بل إن كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر له، وأشرف مجالس الذكر هي مجالس العلم، وقد كان بعض أئمة السلف في مجلس علم يعلم الحلال والحرام، فلما أطالوا المجلس قال أحد الطلاب: نجلس الآن نذكر الله تعالى، فغضب هذا العالم وقال: فيم كنا إذاً؟! يعني: أن مجالس الحلال والحرام هي من أعظم مجالس الذكر، وهي أغيظ للشيطان من غيرها؛ لأنها تبصر الناس بمعالم دينهم وطاعة ربهم سبحانه وتعالى، فمجالس الذكر أعم من أن تكون مجالس التسبيح والتهليل والتكبير، بل إن أشرف مجالس الذكر هي مجالس العلم كما ذكرنا، بل إن مجلس العلم أفضل من صلاة النافلة، فالإنسان الذي يترك مجلس العلم ويشتغل بالنافلة قليل الفقه، ولو علم لما أعرض عن مجلس العلم؛ لأن مجلس العلم أفضل عند الله عز وجل من الاشتغال بصلاة النافلة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة يتبعون مجالس الذكر)، ونحن نعلم أن الملائكة لهم وظائف شتى، فهناك ملائكة للريح، وملائكة لكذا، ملائكة لكذا، فهذه الملائكة ليست لها وظيفة سوى أنهم يدورون في الأرض يبحثون عن مجالس الذكر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجت هذه الملائكة إلى الله عز وجل وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله عز وجل -وهو أعلم بهم- من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب! قال: فكيف لو رأوا جنتي؟! قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يارب! قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟! قالوا: ويستغفرونك، فيقول: قد غفرت لهم، أعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، فيقولون: رب! فيهم فلان عبد خطاء -أي: كثير الخطايا والذنوب- إنما مر فجلس معهم -أي: كأن له حاجة عند أحدهم، أو هو عابر سبيل، ولم يقصد التواجد في مجلس الذكر لأجل الذكر- فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). وهذا الحديث دليل قوي على أن بركة الصالحين تعم من يجلس في مجالسهم حتى ولو لم يكن منهم، ومن كثّر سواد قوم حشر معهم.

التحذير من حضور مجالس الشر

التحذير من حضور مجالس الشر كما حث الشارع على حضور مجالس الذكر فقد نفّر عن مجالسة الكذابين، وحذر من مجالسة الخطائين، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] أي: كأن الإنسان إذا جلس في مجالس اللغو فإن هذه إهانة له تنافي الكرامة التي كرمه الله عز وجل بها، سواء كانت تلك مجالس اللعب واللهو، أو مجالس للأغاني، أو مجالس للأفلام، فكل هذا اللهو الفارغ ملعون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها)، فكل هذه الأشياء ملعونة ومطرودة ومبعدة من رحمة الله عز وجل، ومبعدة لمن اشتغل بها عن ذكر الله تبارك وتعالى، فلا ينبغي حضور مجالس الزور كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ))، وسواء كان الزور أعياد المشركين، أو كان مجالس اللهو والكذب والمسرحيات والأفلام والفيديو وغير ذلك من مجالس الشياطين. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، والإعراض: هو تجافي القلب وكراهيته لهذه المجالس، ومجانبته لأهلها، فلا ينبغي حضور هذه المجالس ولا قربها؛ تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله، {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وصيانة لدينه عما يشينه؛ لأن مشاهدة الباطل فيه شركة، ولهذا قال عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، وقال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]، وقال عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، وقال عز وجل في المنافقين: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قليلا} [النساء:142]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]. فينبغي الاشتغال بمجالس الذكر، ومن لازم ذلك الإعراض عن مجالس اللهو، وهذا على نقيض ما يذهب إليه أتباع الشياطين ممن يقولون: ساعة لقلبك وساعة لربك، وفي الحقيقة هي ساعة لربك، ولا تكون خالصة لله، وساعة لشيطانك، وهذه شركة في تقسيم الوقت، بل إنّ المسلم يمتثل ما قاله النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وهذه التقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان، وبعض الناس يأتون بأشياء تخالف ما قد أحكمه الله عز وجل، فبدلاً من أن يتحاكموا إلى شرع الله عز وجل فإنهم يقسمون أعمارهم إلى قسمين: حظ للشيطان، ويزعمون أن الحظ الآخر لله عز وجل، وما أمرهم إلا كما قال الله عز وجل: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136]. فتقسيم مُلك السموات والأرض إنما هو لله تعالى، وليس كما يقول الملاحدة الكفار: الدين لله والوطن للجميع، فيقسمون وكأنهم يملكون هذا الكون، وتلك القسمة تنافي قول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189]، وهؤلاء عباد الله عز وجل يملكهم ويملك نواصيهم. فالمقصود أن هذا التقسيم: ساعة لربك، وساعة لقلبك، مما ينافي مقاصد الشريعة، ويمكن أن يضاف إليها: لقلبك المريض، فلا يقول مثل هذا الكلام إلّا مريض القلب، وأما المسلم فإنه يطيع الله عز وجل في كل أحواله، {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فهذه المجالس نحن مأمورون بالإعراض عنها كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، وهذه صفة: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11] أي: أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقال عز وجل: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]. وقد عدد العلماء أسماء مجالس اللهو والفساد؛ ليدلونا على كثرة مفاسدها، فمن ذلك أنهم سموا مجالس المسرحيات والغناء والأفلام ومجالس الفجور المعروفة باسم اللهو، والغناء والموسيقى سموها أحياناً لهو الحديث، وسموها بالزور، واللغو، والباطل، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، ومنبت النفاق، وقرآن الشيطان، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود كما جاء في بعض الآيات.

من فوائد الذكر أنه يكسب الأعضاء قوة

من فوائد الذكر أنه يكسب الأعضاء قوة نذكر بعض الفوائد المهمة التي تنشط القلب على المواظبة على الذكر، يقول العلماء: إن العبادة -وخصوصاً ذكر الله عز وجل- تنشط البدن وتقويه، وتذهب النوم والفتور اللذين يكسلان البدن، ويقسيان القلب، فيقول هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فيما أخبر الله عنه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] فثمرة الاستغفار والتوبة أن يرسل الله الرزق الوفير، والمطر الكثير، ((وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ))، وهذه القوة -كما يقول المفسرون- تشمل جميع القوى، فيزيد الله عابديه قوة في إيمانهم ويقينهم ودينهم وتوكلهم وغير ذلك مما هو من جنس ذلك، ويزيدهم قوة في أسماعهم وأبصارهم وأجسادهم وأموالهم وأولادهم وغير ذلك، ولقد (علّم النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة وعلياً رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين، وذلك لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من العمل والسعي والخدمة، فعلمهما ذلك وقال: إنه خير لكما من خادم)، فدل هذا على أن الذكر يعطي العبد قوة تعينه على أداء هذه الوظائف، ويكون ذلك أفضل للعبد من الخادم الذي يتحمل عنه أداء هذه الوظائف. وهذا الذكر بالذات وهو: التكبير أربعاً وثلاثين، ثم التسبيح ثلاثاً وثلاثين، ثم الحمد ثلاثاً مما يكيد الشيطان فيه للإنسان، فإذا أراد الإنسان النوم صرفه الشيطان عن هذا الربح الوفير، وقد نبّه على هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فالشيطان يأتي إلى العبد إذا أراد النوم فيكسله، ويذهب بهمته، في أن يصبر عليه ويأتي به؛ فانتبهوا لذلك. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم: (أسمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟)، يقصد مدينة القسطنطينية التي تسمى اليوم استانبول، (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وقالوا: لا إله إلا الله والله أكبر)، وكما هو معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم تنبأ أن مدينة القسطنطينية ستفتح مرتين، وقد حصل الفتح الأول على يد السلطان محمد الفاتح العثماني، وسيكون الفتح الثاني قبيل خروج الدجال، فهي الآن لم تعد دار إسلام، فقد ارتدت على يدي أتاتورك، فيخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان إذا أتاها المسلمون المؤمنون ليفتحوها فإنهم لا يفتحونها بسلاح ولا بسهام ولا بقتال، وإنما يكون ذلك بالتسبيح وبالذكر، فالذكر أحياناً قد يبلغ من القوة بحيث إنه يأتي بهذه الأشياء، (فإذا أتوا هذه المدينة قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر فيفتح لهم، فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم صريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعو)، فالقسطنطينية في المرة الثانية ستفتح بالتهليل والتكبير، فهذا من الأدلة على أن الذكر يجعل قوة في الذاكر حسب إيمانه ويقينه. وقد كان حبيب بن سلمة يستحب إذا لقي عدواً، أو ناهض حصناً أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنه ناهض يوماً حصناً للروم فانهزم، فقالها المسلمون وكبروا فانهدم الحصن. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الذكر يعطي للذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر! وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً. وقد اقتدى الإمام ابن القيم نفسه رحمه الله تعالى بشيخه، فكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار، ويقول: هذه غدوتي، لو لم أفعلها سقطت قواي. وقال وهب بن منبه: من يتعبد يزدد قوة، ومن يتكسل يزدد فترة. كان مع صلة بن أشيم رجل، فنام هذا الرجل تلك الليلة، وأما صلة فبقي كل الليل قائماً يصلي، يقول الرجل: فأصبح كأنه بات على الحشايا -أي: أصبح صلة وفيه من القوة والنشاط مع أنه كان ساهراً في قيام الليل- وأصبحت ولي من الكسل والفتور ما لا يعلمه إلا الله عز وجل! وقال عطاء الخراساني: قيام الليل حياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والأعضاء كلها، إن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحاً مسروراً، وإذا نام عن حزبه أصبح حزيناً مكسور القلب كأنه فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعاً. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق. ويكفي في هذا الباب كله ما رواه أصحاب المسانيد والصحاح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) فكل إنسان إذا أراد أن ينام فإن الشيطان يأتيه ويعقد على قافيته ثلاث عقد- (ويضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الذكر من أعظم التجارات مع الله تعالى

الذكر من أعظم التجارات مع الله تعالى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: عباد الله! دنا رحيلكم، وقد بان سبيلكم، وقد نصحكم دليلكم، ودلكم على تجارة هي من أعظم التجارات مع الله عز وجل، فإن الله عز وجل قد أخبر بتجارة فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). ويقول القائل: أخي! إنما الدنيا كسوق تزينت وكل امرئ لابد يدخل سوقها سواء بهذا كارهاً أم راضيا ولابد من بيع ولابد من شرا ولابد يمشي رائحاً أو غاديا وسلعته الكبرى التي سيبيعها هي النفس لكن من يكون الشاريا فإن باعها لله أعتقها إذاً وكان له من جمرة النار واقيا وجنة ربي كانت الثمن الذي سيقبضه الإنسان فرحان راضيا وقد ربح البيع الذي تم عقده وجل الإله المشتري جل ربيا فنحن في هذه الدنيا في تجارة، وهذه التجارة إما أن تكون مع الله عز وجل وإما أن تكون مع الشيطان، والتاجر الناصح هو الذي ينظر في السلع، فيأخذ أخف هذه السلع مئونة وأعظمها ربحاً، ولاشك أن ذكر الله عز وجل من أعظم التجارات، وهو الباب المفتوح بين العبد وبين ربه، إلا أن يغلقه العبد بغفلته. قال الحسن البصري: التمس الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي تلاوة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق، فخبروني بالله عليكم: أي عمل أيسر من ذكر الله عز وجل يترتب عليه من الأجر ما يترتب على ذكر الله عز وجل؟!

ذكر الله تعالى من أعظم نعيم أهل الجنة

ذكر الله تعالى من أعظم نعيم أهل الجنة ذكر الله عز وجل من نعيم الدنيا لو يعلم الناس، وهو أيضاً من نعيم أهل الجنة، فقد ورد في (صحيح مسلم) (أن أهل الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، طعامهم ذلك جشاء يخرج على جلودهم أطيب من ريح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس). وقال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، فالعبد لو جلس مثلاً نصف ساعة أو ساعة يذكر الله عز وجل فلاشك أنه يجد حلاوة في قلبه، ويجد أن قلبه يتمتع بذكر الله عز وجل، فهو من أعظم نعيم الدنيا، والجنة ليست دار تكليف ولكنها دار نعيم، ومع ذلك فقد جعل الله عز وجل من نعيم الجنة ذكره عز وجل. وقد جاء في بعض الآثار: (أنّ لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا)، فأهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهم النفس، فنحن لا نبذل جهداً في النفس، بل حتى إنك تجد المغمى عليه يتنفس فلا يبذل جهداً في أخذ النفس، فأهل الجنة كذلك يسبحون، ويحمدون الله عز وجل على هذا النعيم، والجنة دار النعيم. وهذه المجالس -كما جاء في بعض الآثار- هي رياض الجنة، ولاشك أن العبد المؤمن يجد فيها متعته، وهي نزهة لقلوب المؤمنين، فتتمتع فيها القلوب بسماع الحكمة وذكر الله عز وجل، فالعبد العاقل هو الذي يريد أن يربح أعظم الأرباح مع الله عز وجل، فنحن مثلاً لو جمعنا أوقات الصلوات سنجدها مثلاً ساعة في اليوم، وإذا كان أحد يقوم الليل فتصير ساعتين مثلاً، فتستطيع أن تضم إلى هذه الساعات القليلة ساعات كثيرة من العبادة وتكون مع الله عز وجل، وإذا كنت مع الله عز وجل كان الله عز وجل معك بالتأييد والنصرة، وتستطيع وأنت واقف تنتظر السيارة مثلاً أن تحرك لسانك بذكر الله عز وجل، وتستطيع وأنت راكب السيارة أن تحرك لسانك بذكر الله عز وجل، ولاشك أن العبد يجد فرصاً كثيرة جداً لكثرة الذكر، بحيث إنه يكثر ساعات عبادته، فبدلاً من أن تكون ساعتين يجعلها أربع أو خمس أو ست ساعات، والله عز وجل هو المعين على ذلك، ونسأل الله عز وجل الإعانة على الذكر كما في الحديث المسلسل بقول كل شيخ لتلميذه: (والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) فهذه علامة على المحبة، وهي وصية غالية من حبيب لحبيبه، وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، ووصى بها معاذ من خلفه؛ حتى دوَّن الحديثَ أئمةُ السنة في كتبهم، فهذه الوصية وصية غالية، ونسأل الله عز وجل أن يعيننا عليها، وأن تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله عز وجل. وكذلك وصى الله عز وجل هارون وموسى لما أرسلهما إلى فرعون فقال: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، فيستعان بالذكر على الشدائد، وكثرة الذكر في الشدة علامة على المحبة كما في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، فأمر الله عز وجل بكثرة الذكر عند لقاء العدو، فهو قوة للقلب، وقوة للبدن، والذكر في الشدة علامة على المحبة كما قال عنترة: ولقد ذكرتك والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم فذكر العبد ربّه عز وجل عند الشدة علامة على محبته لله عز وجل، وهو من أعظم الأسباب الموصلة إلى محبة الله عز وجل، فنسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياكم على العمل بهذه الوصية الغالية، وأن يدرب ألسنتنا على ذلك، فإذا تدّرب اللسان على ذلك تحرك بذكر الله عز وجل دون مشقة أو تكلف من العبد. اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأبصارنا، وأسماعنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الحسد الوقاية والعلاج [1]

الحسد الوقاية والعلاج [1] الحسد هو أول معصية وقعت في الأرض، وهو مرض خطير، وشر مستطير، فكم من نعم أودى بها! وكم من نقم أبداها، ولكن المعتصم بالله المتوكل عليه يجد علاج ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد استنبط العلماء من الكتاب والسنة علاج الحسد قبل وقوعه وبعد وقوعه، مما يدل على أن الله قد جعل علاج هذه الأمراض في الالتزام بشرعه، والاستهداء بهداه، وطلب الشفاء منه سبحانه وتعالى.

وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه

وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. يقول الله تعالى سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]. وتكلمنا على تفاصيل ما يتعلق بأمر الحسد، وذمه وأنواعه، وبقي ما يحترز به من الحسد، وهذا يكون قبل وقوعه، أو بعد وقوعه، فقبل وقوعه يحترز عنه بما يمكن أن نسميه الوقاية أو الحرز أما ما بعد ذلك فيكون العلاج، فالعلاج يتعلق بالحاسد نفسه، أي: كيف يعالج نفسه من هذا الداء الخبيث؟ ثم بالمحسود الذي وقع به هذا الشر، أي: كيف يعالج من هذا الشر؟!

من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه كتمان الأمور عن الحاسد

من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه كتمان الأمور عن الحاسد مما يتوقى به شر الحاسد: كتمان الأمور عنه قبل إنجازها، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود). وفي لفظ الطبراني: (استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان إلخ). وهذه الفاء هي السببية وفاء العلة، والمقصود بإنجاح الحوائج: جلب نفع، أو دفع ضرر. وقد سبق الكلام في معنى هذا الحديث، والجمع بينه وبين ما ثبت في القرآن من قوله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. وقد ذكرنا أن التحدث بالنعمة واجب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومستحب في حق من خشي على نفسه العزة والتكبر على عباد الله، فمن أمن من ذلك جاز له هذا الأمر. والتحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى لا يتعارض مع هذا الحديث؛ لأن هذا فيه إرشاد إلى إنجاح الحوائج والكتمان قبل إتمامها، فأي مجموعة من الناس أو فئة من الناس تتعاون على مصلحة من المصالح ينبغي أن تتكتم في أمرها حتى يتم لها أمرها، وبعد ذلك يتحدث الإنسان بهذه النعمة. أو يكون المقصود الكتمان إذا خشي الحسد، فإذا أمن فلا بأس بإظهار نعمة الله عليه، وأما إذا خشيه أو خافه فليكتم؛ أخذاً بهذا الحديث. فموضع القدر الوارد في التحدث بالنعمة ما بعد وقوعها، أو إذا أمن الحسد. وقيل: (إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك) أي: إذا عرفت أن هذا الإنسان متصف بهذا الشر الخبيث فغم عليه أمرك واكتمه عنه اتقاء شره.

من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه اجتناب الحاسد والبعد عنه

من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه اجتناب الحاسد والبعد عنه كذلك من وسائل الوقاية من هذا الشر والاحتراز منه: اجتناب الحاسد، والبعد عنه؛ لأنه لا يوجد أمان من الحسود أحرز من البعد عنه؛ لأنه مادام مشرفاً على ما خصصت به دونه لم يزده ذلك إلا وحشة، وسوء ظن بالله، ونماءً للحسد فيه. فالعاقل يقوم على إماتة الحسد بما قدر عليه، فإماتته تكون باجتناب الحسود، والبعد عنه، أما ملازمته فإن فيها تربية لحسده ونماء لسوء ظنه بالله، واعتراضه على قضائه، ولا يوجد لإماتة الحسد دواء أحسن من البعاد، فإن الحاسد ليس يحسدك على عيب فيك، ولا على خيانة ظهرت منك، ولكن يحسدك بما رزقت من نعمة، وبما ركب فيه هو من رد الرضا بالقضاء، كما قال العتبي: أفكر ما ذنبي إليك فلا أرى لنفسي جرماً غير أنك حاسد أي: أنه لم يرتكب جرماً في حقه سوى أنه خبيث الطبع. وقال غيره: ليس للحاسد إلا ما حسد وله البغضاء من كل أحد وأرى الوحدة خيراً للفتى من جليس السوء فانهض إن قعد

من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه حبس العائن ومنعه من مخالطة الناس

من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه حبس العائن ومنعه من مخالطة الناس ومن وسائل الوقاية والاحتراز من شر الحاسد الخبيث: أن على الإمام المسلم أن يمنع العائن من مخالطة الناس، فإذا عرف الإنسان بتمكن هذه الخاصية القبيحة فيه، وهذه الصفة الرديئة، فللإمام أن يمنعه من مخالطة الناس، فقد نقل الإمام ابن بطال عن بعضهم أنه أفتى بمنع العائن من مداخلة الناس، وأمره بلزوم بيته؛ لأنه كالمجذوم، بل هو أولى، فإذا كان للحاكم أن يمنع الشخص الذي يصاب بداء الجذام من الاختلاط بالناس، فالحاسد أولى أن يمنعه الإمام من مخالطة الناس. فإن كان هذا الحاسد أو المجذوم فقيراً فإن الإمام يجري عليه النفقة من بيت المال مقابل حبسه في بيته. قال الإمام النووي معلقاً على هذا: وهو صحيح متعين لا يعرف عن غيره التصريح بخلافه. وقال الحافظ ابن حجر معلقاً أيضاً: فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر بمنعه من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور صلاة الجماعة. فإذا كان يمنع الشخص الذي يتعاطى الثوم -وربما يدخل في هذا الزمان ذلك الدخان الخبيث، كالسجائر التي يتعاطاها بعض الناس، ويأتون المساجد فيؤذون المصلين ويؤذون الملائكة بتلك الريح المنتنة- فالحاسد منعه أولى وأولى.

وسائل علاج الحاسد لنفسه

وسائل علاج الحاسد لنفسه

من وسائل علاج الحاسد لنفسه قمع الحاسد أسباب الحسد من داخله

من وسائل علاج الحاسد لنفسه قمع الحاسد أسباب الحسد من داخله وعلاج الحسد كما ذكرنا ينقسم إلى قسمين: علاج الحاسد نفسه، وعلاج المحسود، أما علاج الحاسد فقل أن ينفع الحاسد دواء، ولا نقول: إنه ميئوس من شفائه؛ لأنه لا يأس من رحمة الله، ولكن من الصعب جداً أن هذا الشخص الذي يدمن على هذه الخاصية الخبيثة أن يوجد له دواء؛ لأنه مترسخ فيه داء الجهل والظلم، وليس يشكو علة سوى زوال النعمة من العباد، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فإن كان الحاسد ذا فهم وذا عقل فدواؤه أن يقمع أسباب الحسد من داخله، سواء الكبر، أو عزة النفس، أو غيرها من الأسباب التي ذكرناها. يقول الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى: كل العداوة قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسدِ فإن في القلب منها عقدة عقدت وليس يفتحها راقٍ إلى الأبدِ إلا الإله فإن يرحم فحل به وإن أباه فلا ترجوه من أحد فلا يرفع هذا الداء إلا برحمة الله سبحانه وتعالى. سئل بعضهم: أي أعدائك لا تحب أن يعود إليك صديقاً؟ أي: أن يتحول بعد ذلك صديقاً؟ فقال: الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلا زوال نعمتي.

من وسائل علاج الحاسد لنفسه المداواة لنفسه بأدوية نافعة

من وسائل علاج الحاسد لنفسه المداواة لنفسه بأدوية نافعة كذلك الحاسد يداوي نفسه بأدوية نافعة، وإن كانت مرة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا) المقصود هنا: أمور الدنيا، في الأرزاق والحظوظ وهذه الأشياء، ولذا قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم) لكن في الدين تنظر إلى من هو أعلى منك، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. فأما في الدنيا فقال: (فانظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا -أي: ألا تحتقروا- نعمة الله عليكم).

من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يعلم أن الإمساك عن الشر صدقة

من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يعلم أن الإمساك عن الشر صدقة كذلك على الحاسد أن يعلم أن الإمساك عن الشر صدقة، فمجرد أن يكف شره عن أخيه المسلم هذا في حد ذاته صدقة وفعل حسن، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة) متفق عليه. فمجرد إمساكه عن الشر ومنعه الحسد يكون صدقة على نفسه. وفي حديث آخر: (قال: فإن لم أفعل؟ قال: فدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك)، وفي رواية: (تتصدق بها عن نفسك)، وهذا أيضاً متفق عليه.

من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يعلم أن الحسد يضره في الدين والدنيا

من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يعلم أن الحسد يضره في الدين والدنيا كذلك من علاج الحاسد لنفسه: أن يعلم أن الحاسد الحسد يضره في الدين والدنيا، فيعلم أنه يضر نفسه هو في الدين، وفي الدنيا، ولا يتضرر بذلك المحسود؛ لأن هذه المعصية القبيحة -كما ذكرنا- من أقبح المعاصي، كما قال بعض العلماء: أي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟! أي: أن الإنسان يكره راحة أخيه المؤمن، دون أن يعود عليه هذا الأمر بمضره. كذلك المحسود ينتفع في الدين ولا ينضر؛ لأنه مظلوم من جهة هذا الحاسد، لاسيما إذا انضاف إلى حسده الغيبة، وهتك الستر، فهذه كلها تكون هدايا يهديها الحاسد إلى المحسود؛ حيث يأتي يوم القيامة مفلساً محروماً، فيؤخذ من حسناته، وتعطى لهذا المظلوم، فإن فنيت حسناته ولم يبق منها شيء أخذت من سيئات المظلوم، وطرحت عليه، ثم طرح في النار. أيضاً المحسود نفسه لا ينضر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وقال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. وقال عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، فالحاسد لا يغير من قضاء الله سبحانه وتعالى شيئاً، ولا ينفع، ولا يضر. أما ضرر الحسد على الحاسد نفسه فإنه سخط قضاء الله وقدره، فكره نعمته على عباده، وهذا عمى في بصر الإيمان، ويكفيه أنه شارك إبليس في الحسد، فالحاسد عدو نفسه، وصديق عدوه؛ لأن إبليس يحب زوال النعم عن العباد، ويحب وقوع البلايا فيهم، يقول بعض العلماء: دع الحسود وما يلقاه من كمدٍ يكفيك منه لهيب النار في جسده إن لمت ذا حسد نفست كربته وإن سكت فقد عذبته بيده

من وسائل علاج الحاسد لنفسه الزهد في الدنيا

من وسائل علاج الحاسد لنفسه الزهد في الدنيا كذلك مما يعالج به الحاسد نفسه: الزهد في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). فالدنيا هموم متراكمة، وغموم متلاطمة، حلالها حساب، وحرامها عذاب، وهي خرق وتراب، وصور وخراب، فلا وجه للمنافسة فيها عند العقلاء، بل الذي ينافس ينافس في المقاصد العلية، فإن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها، فهذا الشخص يحسد على حطام الدنيا وزينتها، أما قوام الليل وصوام النهار فلا يلتفت إليه، ولا يعيره انتباهاً، ولا يحسده على هذه النعمة، لكن يحسد على ما يزول ويفنى.

من وسائل علاج الحاسد لنفسه الرضا بالقضاء

من وسائل علاج الحاسد لنفسه الرضا بالقضاء كذلك مما يداوي به الحاسد نفسه: الرضا بالقضاء، فمن لم يرض بقضاء الله لم يحصل إلا على الندم؛ وسواء رضي أم لم يرض فإن قضاء الله نافذ، فإذا لم يرض لم يحصل إلا على الندم، وفوات الثواب، وغضب رب الأرباب، فهي مصيبتان أو أكثر، وليس للعبد حيلة على دفع القضاء، فعليه بالرضا، قال عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]. وقال عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32]. أيضاً: عليه أن يعلم أن الحسد قدح في التوحيد؛ لأن الحسد والإيمان كما ذكرنا لا يجتمعان، يقول بعض العلماء: ما لي على مر القضا من حيلة غير الرضا أنا في الهوى عبد وما للعبد أن يعترضا

من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يصنف نفسه نقيض ما يقتضيه الحسد

من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يصنف نفسه نقيض ما يقتضيه الحسد كذلك من أشق الأدوية التي يعالج بها الحاسد نفسه: أن يصنف نفسه نقيض ما يقتضيه الحسد، فإن كان الحسد يقتضي تمنيه زوال النعمة، وسعيه في ذلك لهتك الأستار، والغيبة والاحتيال بشتى الحيل حتى يزيل النعمة عن عباد الله، فأنفع الأدوية في ذلك أن يتطلب أو أن يكلف نفسه نقيض ما يقتضيه الحسد، وذلك بأن يتكلف مدح المحسود، ويتكلف أن يتواضع له، وأيضاً يحاول بأن يهدي إليه هدية، ويظهر السرور ما استطاع بنعمة الله على هذا العبد؛ وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35] وحكى الله عن بلقيس أنها قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35]. وليس المقصود أن هذا هو علاج المحسود لنفسه، وإنما المقصود الإشارة إلى أن الهدية مما يظهر التواءم؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (تهادوا تحابوا) فالهدية من الأساليب التي تذهب عنه هذا الداء.

من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يبرك إذا رأى في أخيه ما يعجبه

من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يبرك إذا رأى في أخيه ما يعجبه كذلك من أهم ما ينبغي أن يراعيه من يرى من أخيه شيئاً أو من نفسه، أو من ماله أو من ولده شيئاً فيعجبه: أن يبرك إذا رآه، فيقول مثلاً: (اللهم بارك فيه ولا تضره) كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا الذكر ليس فقط خاصاً بالحاسد الذي يتيقن من نفسه أنه حاسد، بل من العائن الذي لا يقصد أن يحسد، وقد ذكرنا أن العائن قد يحسد من لا يتمنى له الضرر، فبمجرد إعجابه بشيء قد يصيبه بضرر، سواء في نفسه، أو ماله، أو ولده، أو إخوانه، أو أحبائه، فإذا رأى الإنسان ما يعجبه فعليه أن يقول: اللهم بارك فيه ولا تضره.

وسائل علاج المحسود

وسائل علاج المحسود أما علاج المحسود فهناك أسباب كثيرة يستعان بها على هذا العلاج.

من وسائل علاج المحسود طلب الاستغسال من العائن والرقية على المصاب

من وسائل علاج المحسود طلب الاستغسال من العائن والرقية على المصاب مما يذكره العلماء في هذا الباب: مسألة الاستغسال، وقد ذكرنا فيما مضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن شيئاً يسبق القدر، لسبقته العين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن العين حق). وبوب البخاري في صحيحه: باب رقية العين، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسترقى من العين). وعقد الإمام مالك في الموطأ باباً بعنوان: الوضوء من العين، وباباً آخر بعده بعنوان: الرقية من العين، وساق حديث سهل بن حنيف بتمامه فقال: عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: (اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه) يعني: أراد أن يغتسل في شعب من الشعاب، فنزع جبة كانت عليه (وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد؛ فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، وفي لفظ آخر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة -يعني: التي تخبأ في الخدر- قال: فوعك سهل مكانه واشتد وعكه) وفي بعض الروايات: (فلبط) أي: صرع وزناً ومعنى، أي: لبط سهل مكانه في الحال، واشتد وعكه، (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلاً وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله! فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر بن ربيعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت؟! إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس). الحديث مرة ثانية: عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: (اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد، قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء)، وفي بعض الروايات: (ولا جلدة مخبأة قال: فوعك)، وفي رواية: (فلبط سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله فأخبر أن سهلاً وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله! فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟!)، وهذا فيه دليل على أن العين قد تقتل، فمصداقاً للحديث الآخر: (إن العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر). قال: (علامَ يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت؟!) أي: هلا قلت: بارك الله فيك، أو: اللهم بارك فيه ولا تضره، (إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس). وفي رواية: لما بلغه أنه وعك سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تتهمون له أحداً؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً فتغيض عليه، وقال: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت؟!) وفي رواية: (علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت؟! اغتسل له، فغسل عامر وجهه ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح سهل مع الناس ليس به بأس)، وهذا هو ما يسمى بالاستغسال، وفي الحديث: (وإن استغسلتم فاغسلوا) فهذه توصية بهذا الاستغسال، فيطلب ممن عرف بأنه عائن، واشتهر عنه ذلك، وإذا اعتقد أنه تعين هذا علاجاً له فعليه أن يفعل ذلك، فيغسل الوجه والكفين، ثم يغسل المرفقين فقط، يعني: نفس المرفق، ولا يدخل فيه الساعد، ويغسل أطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب على من أصابته العين، فيفرغ هذا الماء على المصاب من الخلف. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: فيه: أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال. أي: إذا عرف الشخص الذي وقع منه هذا يقضى ويحكم عليه بالاغتسال، لكن ليس الأمر متروك لكل إنسان عقله فيه خفة أن يقابل الناس ويطلب منهم هذا، لكن إذا عرف العائن الذي صدر منه هذا الشر فهو الذي يُطلب منه الاستغسال. وفيه أيضاً: أن الاستغسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد؛ لأن هذا لما مدح أخاه بهذا لم يتمن زوال النعمة عنه، ولكنه أعجب، ولم يبرك حين رآه. يقول الحافظ: وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه. أيضاً قوله: (وإذا استغسلتم فاغسلوا) فيه إشارة إلى أن الاغتسال لهذا الأمر كان معلوماً وشائعاً بينهم، فأمرهم ألا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، فمتى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به، فإنه يتعين، وقاسوه على أنه يجبر الإنسان على بذل الطعام للمضطر، قالوا: وهذا أولى من بذل الطعام للمضطر، يعني: إذا تعين هلاكه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سخر منها، ولا من شك فيها، ولا من فعلها مجرباً غير معتقد فيها. وهذا كما يؤخذ ترياق سم الحية من لحمها، فهناك بعض الأدوية تؤخذ من الداء نفسه، وكأن هذا الاغتسال بهذا الماء فيه إطفاء لشعلة نار الحسد في نفس هذا الحاسد الخبيث. قال المازري رحمه الله: هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه، ربما لا يستطيع أن يدرك ما هو المعنى. يعني: ما هو سر العلاج بمثل هذا الاستغسال، فهذا لا يستطيع العقل أن يدركه، ولا ينبغي أن يرد لمجرد أن العقل لا يدرك أو لا يعقل معناه. قال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: إن توقف فيه متسرع -إن توقف في هذا النوع من العلاج وهو الاستغسال- قلنا له: الله ورسوله أعلم، فقد عبرته التجربة، وصدقته المعاينة، وإن توقف فيه المتفلسف فالرد عليه أظهر؛ أن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون هذا بخواص الأدوية. فهذا أولى أن يثبت من علم الوحي الشريف.

من وسائل علاج المحسود ذكر الله سبحانه وتعالى

من وسائل علاج المحسود ذكر الله سبحانه وتعالى كذلك من الأدوية التي يعالج بها المحسود: ذكر الله سبحانه وتعالى، فعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات، ومنها قال: وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى)، فذكر الله هو الحصن الحصين، وهو من أعظم الأدعية. وكذلك هناك بعض الأذكار التي إذا حافظ الإنسان عليها -خاصة أذكار الصباح والمساء- كان في حصن حصين من هذه الشرور، فمنها -مثلاً- الحديث الذي رواه أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (إنه كان معه جرين تمر فكان يجده ينقص، فحرسه ليلة، فإذا مثل الغلام المحتلم، فسلم فرد عليه السلام، فقال: أجني أم إنسي؟ قال: بل جني، فقال: أرني يدك، قال: فأراه فإذا يد كلب، وشعر كلب، فقال: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد علمت الجن أنه ليس فيهم رجل أشد مني، قال: ما جاء بك؟ قال أنبئنا أنك تحب الصدقة فجئنا نصيب من طعامك، قال: ما يجيرنا منكم؟ قال: تقرأ آية الكرسي من سورة البقرة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] إلى آخر الآية]). وتقرأ هنا المقصود بها: تحفظ ثم قال: (هل أنت تحفظها؟ قال: نعم. قال: إذا قرأتها غدوة أجرت منا حتى تمسي، وإذا قرأتها حين تمسي أجرت منا حتى تصبح، قال: أبي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فقال: صدق الخبيث) هذا الحديث أخرجه الحاكم في فضائل القرآن، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: أخرجه الطبراني ورجاله ثقات. وقال المنذري: رواه النسائي والطبراني بإسناد جيد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، ويشهد له حديث أبي هريرة المعروف في قراءة آية الكرسي قبل النوم في قصة مماثلة لهذه القصة في زكاة الفطر. والمقصود: أن آية الكرسي ينبغي أن تضاف إلى أذكار الصباح والمساء لهذا الحديث. كذلك من هذه الأحاديث النافعة، والأحراز التي تنجع في دفع هذه الشرور: حديث أبي عياش الزرقي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كان له عدل عتق رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام، وكتب له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح). قال حماد: (فرأى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا رسول الله! إن ابن عياش يحدثنا عنك بكذا وكذا، قال: صدق أبو عياش) رواه أبو داود، وصححه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. وذكر موضوع الرؤيا هنا هذا نوع من الاستظهار، وليس استدلالاً بها، فإن الإجماع قائم على أن رؤيا المنام لا يعمل بها، لكن المقصود الاستظهار والاستئناس بها، وإلا فالحديث صحيح. فعليك أن تقول في الصباح والمساء: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، زاد ابن السني: (يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) فإن من قالها كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام، وكتب له بها عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، فإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح. كذلك من هذه الأذكار: حديث أبان بن عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات لا يضره شيء). في لفظ في السنن: (من قال: حين يصبح هذا الدعاء لم تصبه في يومه فجاءة بلاء، ومن قالها حين يمسي لم تصبه فجاءة بلاء في ليلته، ثم ابتلي أبان بالفالج -الشلل النصفي- فرأى رجلاً حدثه بهذا الحديث ينظر إليه، فقال له: ما لك تنظر إلي؟ فوالله! ما كذبت على عثمان، ولا كذب عثمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن نسيت في اليوم الذي أصابني هذا، فلم أقله؛ ليمضي الله قدره) فهذا حديث عثمان في فضيلة قول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات، فإنها تقال أيضاً في الصباح وفي المساء. من هذه الأحاديث أيضاً: حديث عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال (خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا، فأدركناه، فقال: أصليتم؟ فلم أقل شيئاً، فقال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فقلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: قل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء). إذاً: هذا أيضاً من أذكار الصباح والمساء، وهذه كلها أحاديث صحيحة، فتقرأ المعوذات الثلاث، فكما روينا في فضيلة قراءة المعوذات ثلاث مرات حين تصبح وحين تمسي أنها تكفيك من كل شيء. كذلك من هذه الأذكار: حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال وهو في أرض الروم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال غدوة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات؛ كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، وكن له قدر عشر رقاب، وأجاره الله من الشيطان، ومن قالها عشية فمثل ذلك) يعني: من الأجر. إذاً: من أذكار الصباح والمساء قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، لم يضره في ذلك المنزل شيء حتى يرتحل منه) رواه مسلم.

من وسائل علاج المحسود الصبر على الحاسد

من وسائل علاج المحسود الصبر على الحاسد كذلك من الأدوية التي يعالج بها المحسود: الصبر على عدوه، فلا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً. يقول الله عز وجل: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] فإذا كان هذا في حق من انتصر، فكيف بحق من لم ينتصر؟! وأسرع الذنوب عقوبة البغي وقطيعة الرحم، وهذا الحسد من البغي ومن الظلم الذي يعجل الله عز وجل عقوبة من خالفه.

من وسائل علاج المحسود التوكل على الله

من وسائل علاج المحسود التوكل على الله كذلك من هذه الأدوية: التوكل على الله سبحانه وتعالى، فإن لكل عمل جزاءً من جنسه، وجزاء التوكل على الله أن يكون الله عز وجل حسيب الإنسان وكافيه، قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:3].

من وسائل علاج المحسود فراغ القلب من الاشتغال بالحاسد

من وسائل علاج المحسود فراغ القلب من الاشتغال بالحاسد كذلك من الأدوية: فراغ القلب من الاشتغال بالحاسد وإعمال الفكر فيه، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.

من وسائل علاج المحسود الإقبال على الله سبحانه

من وسائل علاج المحسود الإقبال على الله سبحانه كذلك من العلاج أيضاً: الإقبال على الله سبحانه وتعالى، والإخلاص له، ولزوم ذكره، قال تعالى حاكياً عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]. وقال سبحانه وتعالى في حق يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، فصرف عنه السوء بإخلاصه لله عز وجل.

من وسائل علاج المحسود التوبة من الذنوب

من وسائل علاج المحسود التوبة من الذنوب كذلك من هذه الأسباب أيضاً: التوبة من الذنوب، فقد قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وفي الحديث: (وأستغفرك لما لا أعلم). ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك، فدخل، فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه، ثم خرج إليه، فقال له: ما صنعت؟ قال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي!

من وسائل علاج المحسود الصدقة والإحسان

من وسائل علاج المحسود الصدقة والإحسان كذلك من هذه الأسباب أيضاً: الصدقة والإحسان، فإن الشكر حارس للنعمة من كل ما فيه سبب لزوالها، سواءً كان سبب زوال النعمة كفرانها، أو الحسد والعين. ومنها أيضاً: الإحسان إلى الحاكم والنصح له، والشفقة عليه، حكى النبي صلى الله عليه وسلم نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وقال عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، وقال عز وجل في مدح المؤمنين: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22]. وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35] وحينما أتى رجل يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرابة له يصلهم ويقطعونه، ويحسن إليهم، ويسيئون إليه، فواساه صلى الله عليه وسلم بقوله: (كأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك)، فالله سبحانه وتعالى مع من يحسن إلى من أساء إليه.

بعض الأذكار والأحراز الواردة في حفظ الإنسان

بعض الأذكار والأحراز الواردة في حفظ الإنسان وأخيراً: فهذا قول جامع في بعض الأذكار والأحراز التي يقولها الإنسان إذا رأى من نفسه أو ولده، أو ماله، أو غير ذلك شيئاً فأعجبه، وخاف أن يصيبه بالعين، أو يتضرر بذلك، فعليه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وفي الحديث: (من رأى شيئاً فأعجبه، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره)، وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن العبد الصالح: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]. الذكر الثاني: أن يقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ففي الحديث: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئاً فأعجبه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى شيئاً يكرهه قال: الحمد لله على كل حال). كذلك أن يقرأالمعوذتين: سورتي الفلق والناس. كذلك أن يقول -وهو من أهم هذه الأدعية-: (اللهم بارك فيه ولا تضره). ومنها أن يقول: (أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة). وإذا رأى الإنسان من أخيه ما يعجبه قال: (اللهم بارك فيه). وأخيراً: إذا رأى الشخص رجلاً آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، أو آتاه الله عز وجل المال الذي ينفق منه في سبيل الله، ويسلطه على هلكته في الحق، فيجوز له حينئذٍ أن يحسده حسداً شرعياً، وهو حسد بمعنى المنافسة المحمودة التي تقدم بيانها، ويشرع له حينئذٍ أن يقول: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما عمل.

أقسام الحسد في الشرع

أقسام الحسد في الشرع

بيان الحسد المذموم

بيان الحسد المذموم والحسد نوعان: مذموم ومكروه. أما الحسد المذموم فهو حرام بكل حال، فحرام أن يحسد الإنسان غيره بمعنى: أن يتمني زوال نعمة الله عن الغير، إلا إذا كانت هذه النعمة قد وقعت في يد فاجر أو فاسد يستعين بها على محرم، ويستعين بها على تهييج الفتن، أو الصد عن سبيل الله عز وجل، فلا يضر المؤمن محبته زوالها عنه؛ لأنه لا يبغضها من حيث هي نعمة الله سبحانه وتعالى، ولكنه يبغضها من حيث هي آلة للفساد والشر لا غير، ولو أمن المؤمن فساد هذه العطية لم يتمن زوالها عنه، فهذه هي الحالة المستثناه من تمني زوال النعمة. والحسد المذموم نوعان: النوع الأول: حسد على شيء محقق، أو نعمة موجودة، وذلك كما قال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، فحسدوا المسلمين على نعمة الإسلام كما قال عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]، ولذلك حسد المشركون محمداً صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي. فالحسد المذموم: أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تزول عنه وتعود إليه أم تمنيت أن تزول عنه ولا تعود إليه. وقد ذم الله سبحانه وتعالى هذا النوع في كتابه بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]. وإنما كان مذموماً لأن فيه ظن أن الله سبحانه وتعالى أنعم على من لا يستحق، وفيه اعتراض على فضل الله سبحانه وتعالى الذي قال: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]. فقوله: (ما كان لهم الخيرة) أي: الاختيار والتقدير، والإنعام على هذا، حرمان هذا، بل هذا من فعل الله سبحانه وتعالى، فهذا فيه اعتراض ونسبة العبث إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الحكمة في أفعاله، وفيه ظن أن الله أنعم حيث لا يستحق صاحبها الخيرة، وكأنه أنعم على من لا يستحق، كما قال المشركون: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32] وقال عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32]. فهذا بالنسبة للحسد على نعمة محققة بالفعل. أما النوع الثاني من الحسد المذموم: فهو حسد على شيء مقدر، يعني: حسد على نعمة متوقعة، فيحسد الشخص من أن يلبسه الله نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من الجهد أو الفقر أو الضعف، أو فساد قلبه عن الله، أو قلة دينه. فهو يتمنى عدم زوال ما هو فيه من نقص وعيب. فهذا فيما يتعلق بالحسد على نعمة مقدرة، أو نعمة متوقعة، وكلا الأمرين -الحسد على نعمة محققة، أو على نعمة متوقعة- مذموم، والحاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، ممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبداً، ولذلك اشتهر بين الناس أن (الحقود لا يسود) فالناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه أبداً إلا قهراً، فلا يمكن أن يمكنوه من رقابهم، ولا أن يسودوه عليهم إلا قهراً، فإذا غلب عليهم قهراً وغصباً فإنهم يعدونه من البلايا والمصائب التي ابتلاهم الله بها، فهم يبغضونه وهو يبغضهم.

بيان الحسد الممدوح

بيان الحسد الممدوح القسم الثاني من أنواع الحسد: الحسد الشرعي المحمود، وكما قلنا: إن الحسد مذموم ومحمود، فالمذموم: حسد على نعمة حاصلة، أو على نعمة متوقعة، والحسد الشرعي المحمود هو ما يسمى أحياناً بالمنافسة في الخيرات أو ما يسمى بالغبطة، وهي: أن تتمنى أن يكون لك مثل حال هذا الشخص الذي تحسده من غير أن تزول النعمة عنه. فمن رأى الخير في أخيه، وتمنى التوفيق لمثله، أو الظفر بحاله، وهو غير مريد لزوال ما فيه أخوه من النعمة، فليس هذا بالحسد الذي ذُم ونهي عنه، وإنما هذا يسمى حسد الغبطة، وهذا قريب من المنافسة، وقد قال الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين) يعني: لا حسد مشروع أو لا حسد مباح إلا في اثنتين (رجل أعطاه الله المال فسلطه على هلكته في الحق) أي: أنه ينفق ويتصدق بماله في أبواب الخير. ثم قال: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس). وترجم عليه الإمام البخاري رحمه الله تعالى بقوله: باب الاغتباط في العلم والحكمة. فهذا حسد غبطة، والحامل لصاحبه عليه أن له نفساً كبيرة، وهمة عالية، وعنده حب اكتساب الخير، وحرصاً على التشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأن يكون من سباقهم وعليتهم، فتحدث له من هذه الهمة العالية المنافسة والمصادقة، والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، فيحب هذا الرجل الغني المتصدق، ويحب ذلك الرجل العالم الذي يعلِّم الخير، فيتمنى له أيضاً دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل بوجه من الوجوه في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] لأن فعله هذا لا تعلق له بالشر بوجه من الوجوه، فقد تسمى المنافسة حسداً، والحسد منافسة، فيدعى أحد اللفظين نيابة عن الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني. عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه الله علماً، ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً، ولم يؤته علماً، فهو ينفقه في معاصي الله، ورجل لم يؤته علماً، ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي مثل مال فلان، لكنت أنفقه في مثل ما أنفقه فيه من المعاصي، فهما في الوزر سواء). رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. فهذه المنافسة التي هي الغبطة أو الحسد الممدوح أو المشروع هي كما ذكرنا: إرادة مساواة المنعم عليه، واللحوق به في هذه النعمة بدون تمني زوالها عنه، فهي على ثلاثة أنحاء: واجبة، ومستحبة، ومباحة، أما المنافسة الواجبة فهي فيما إذا كانت النعمة ذات نية واجبة، كالإيمان، والصلاة، والزكاة، أو كان هناك رجل فقير رأى رجلاً قد أنعم الله عليه وأعانه مثلاً على فريضة الحج، فهو يغبطه على هذه الفريضة، أو أن يحرص الشخص على أن يحصل مالاً يستطيع به أداء هذه الفريضة، فهذه غبطة ومنافسة في فعل واجب، فيزيد هذا الشعور محبة المؤمن أن يبلغ هذا العمل؛ وما أعان على واجب فهو واجب، فعلى كل مسلم أن ينوي بقلبه أنه إن توفرت له هذه الاستطاعة أن يعمل بها، فهذه النعمة إذا كانت دينية واجبة -كالإيمان والصلاة والزكاة وغير ذلك- فالمنافسة فيها واجبة. وقد تكون الغبطة مستحبة إذا كانت النعمة من القربات، كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات. وقد تكون الغبطة مباحة إذا كانت النعمة يتنعم بها على وجه مباح، فأي نعمة من المباحات تتمنى مثلها بدون أن تتمنى زوالها هذه أيضاً منافسة مباحة. وإذا أنعم الله سبحانه وتعالى على عبد بنعمة فإن تحت هذه النعمة أمران: الأمر الأول: راحة المنعم عليه، أي: أن المنعم عليه يستريح بهذه النعمة. الأمر الثاني: ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه، فالمنافس هنا في هذه الحالة يكره أحد هذين الوجهين، وهو تخلف نفسه، ويحب مساواته له، لكن إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة، وهو يكره أن يتخلف عنها ويكره نقصانه فلا محالة أنه يحب زوال هذا النقصان. فالنعمة إذا حضرت فإنه يستريح بها المنعم عليه، ويظهر نقصان أو حرمان الذي لم ينعم عليه، فالمنافس هنا يكره راحة أخيه المؤمن، لكن يكره أن يكون متخلفاً منافساً في هذه النعمة، لكن إذا أيس من حصول مثل تلك النعمة مادام يكره نقصانه وتخلفه فلا محالة أنه يحب زوال هذا النقصان، فإذا رأى هذا النقصان وتمنى زوال نعمة المحسود، حتى يحصل التساوي بينهما، وحتى ينزل أخوه إلى مساواته، إلى أن يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة فهذا الشعور أو هذا التصرف أو هذا التمني لا رخصة فيه أصلاً، فهذه هي المنافسة المحرمة، بل هذا حرام في مقاصد الدين، أو في مقاصد الدنيا. لكن صاحبه إذا لم يعمل بذلك تكون كرامته كونه يكره حصول هذه الصفة منه، ومجاهدته نفسه في دفع ذلك الشعور يكون هذا كفارة له، وأفضل الجهاد مجاهدة العبد نفسه وهواه.

أقسام الحاسدين

أقسام الحاسدين

حساد يحبون زوال النعم عن المحسود وتحولها إليهم

حساد يحبون زوال النعم عن المحسود وتحولها إليهم لا زلنا نتكلم في أنواع الحسد وأقسام الحاسدين، وأقسام الحاسدين ثلاثة أقسام: قسم من الحساد يحب زوال النعم عن المحسود وتحولها إليه، أي: يتمنى أن تتحول النعمة عن الشخص المحسود إليه هو، وهذا قبيح، وهو نوع من الأنانية في ظل الاعتراض على فعل الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32]، وقال عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:32]. وقال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، فهذا فعل الله سبحانه وتعالى، وهذا تصرف فيه الإيثار لنفس الحاسد على أخيه، وفيه اعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى.

حساد يحبون زوال النعمة عن المحسود وتحولها إلى غيرهم

حساد يحبون زوال النعمة عن المحسود وتحولها إلى غيرهم القسم الثاني: أن يطلب الحاسد زوال النعمة عن المحسود وأن تتحول إلى غيره، هذا أقبح من الأول، وأقبح من الاثنين أن يطلب زوال النعم عن المحسود مطلقاً، فيكره النعمة ذاتها، ليس لأنها في يد فلان، ولكن يكرهها ولا يريد أن تكون في يد فلان، ولا في يد نفسه، ولا في يد غيره، فهو يكره نعم الله مطلقاً، فهذا عدو نعم الله سبحانه وتعالى.

أسباب الحسد المذموم

أسباب الحسد المذموم الحسد المذموم له مداخل كثيرة، وأسباب عديدة:

من أسباب الحسد المذموم العداوة والبغضاء

من أسباب الحسد المذموم العداوة والبغضاء أول هذه الأسباب وأخطرها: العداوة والبغضاء، فإن آذاه شخص بسبب من الأسباب أو خالفه بوجه من الوجوه أبغضه قلبه، وغضب عليه, ورسخ في نفسه الحسد، والحسد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، وذلك بأن تقع مصائب لأخيه، وذلك إذا اشتد الحقد، فإذا حصلت بأخيه مصيبة كأنه يموت له ولد أو قريب فإنه يستدل على أن ذلك لكرامته هو على الله، وأن الله أصاب عدوه ببلية، فيفرح بهذه البلية، ويظنها مكافأة له من جهة الله على أخيه، وأنها لأجله. وإذا أصابت أخاه نعمة ساءه ذلك، وظن أن الله سبحانه وتعالى إذا أنعم على أخيه، أو إذا أنعم على عدوه بتعبير آخر، فهذا لأن ذلك الحاسد لا منزلة له عند الله، حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه، بل أنعم عليه. فالحسد يلزم منه البغض والعداوة، وإنما غاية التقي ألا يبغي، وأن يكره ذلك من نفسه، فالصالح المؤمن التقي إذا بادره قلبه إلى ذلك فإنه يمسك بلجام نفسه ولا يتعدى إلى الأذى، قال عز وجل: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران:119 - 120] وقال عز وجل: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. إذاً: الحسد يؤثر البغض، والبغض يسبب التنازع والتخاصم، والتنازع والتخاصم يؤدي إلى استغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والدعاية وهتك الستر.

من أسباب الحسد المذموم التعزز

من أسباب الحسد المذموم التعزز من أسباب الحسد أيضاً: التعزز، والتعزز: هو أن يثقل عليه أن يرتفع عليه غيره بنعمة تحدث له، وذلك بأن يكون الحاسد شخصاً متكبراً -مثلاً- فلا يضره غيره في شيء، لكن هذا الشخص يكون أقل منه، فيخشى أنه إذا حصلت له نعمة لا يستطيع أن يتكبرعليه كما كان من ذي قبل، فهذا أيضاً من أسباب الحسد التي ذكرها العلماء.

من أسباب الحسد المذموم حب الرئاسة والجاه

من أسباب الحسد المذموم حب الرئاسة والجاه كذلك من أسباب الحسد: حب الرئاسة والجاه، فيتمنى أن يكون منفرداً عديم النظير في هذا الشأن، غير مشارك في المنزلة، يضره وجود مضاه له في المنزلة، فهذا أيضاً من الأسباب.

من أسباب الحسد المذموم خبث النفس

من أسباب الحسد المذموم خبث النفس كذلك من أسباب الحسد: خبث النفس، فتكون نفس الحاسد خبيثة يشق عليها وجود الخير لعباد الله، فالحاسد يشق عليه ولا يتحمل قلبه أن يكون عنده حب حال عبد أنعم الله عليه، ويفرح بذكر فوات مقاصده، واضطراب وجوده، وتنغص عيشه، فهو أبداً يحب الكدر لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، وكأنهم يأخذون ذلك من ملكه! وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس، ورذالة في الطباع، وهذا معالجته شديدة وصعبة؛ لأنه خبث في الجبلة لا عن عارض حتى يتصور زواله، يعني: ليس حسده بسبب حصول النعمة لغيره، وإنما هو يكره وقوع النعمة بذاتها، ولا يريدها لنفسه، ولا لغيره، لكن يكرهها من حيث هي نعمة، فهذا معالجته شديدة؛ لأن هذا ليس رد فعل، لكنه أصل متأصل في نفسيته. فهذه الأسباب قد يجتمع بعضها مع بعض، فيقوى الحسد إذا اجتمعت الأسباب وتكاثرت، ويضعف إذا تفرقت، وبالطبع تقوى قوة الحسد بحيث لا يقدر هذا الحاسد على المجاملة، بل ينتهك حجاب المجاملة، ويظهر المعاداة بالمكاشفة، أعاذنا الله من ذلك.

بيان متى يكثر الحسد ومتى ينعدم

بيان متى يكثر الحسد ومتى ينعدم هنا تنبيه يتعلق بأسباب الحسد، وهو أن الحسد يكثر بين قوم تكثر بينهم هذه الأسباب من العداوة، أو التعزز أو خبث النفس، أو حب الرئاسة وطلب الجاه. وإذا كان شخص واحد يحسد شخصاً واحداً أو أكثر فهذا قد يكون يسيراً، لكن قوم تكثر بينهم الروابط ويجتمعون في المجالس ويتواردون على أغراضهم فهذا أقوى ما يكون، ولابد من مهنة رابطة بين الناس الذين يحسد بعضهم بعضاً، فإذا تجاور الناس في مكتب، أو في سوق، أو في عمل، فإنهم تتناقض أغراضهم، ويحصل تعارض بين الأغراض، فيقع التنافر الذي يورث الحسد؛ لأن الغرض الواحد لا يجمع متباعدين، بل يجمع متناسبين، فلذلك يكثر الحسد بينهما. كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري فقال: (مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا). أي: لأنهم لو تجاوروا ربما وقع من ذوي القرابات حسد أشد من الشخص البعيد؛ لأنهم في الغالب يتواردون على غرض واحد فتقع المنافسة والمنازعة. كما يقع أيضاً من أصحاب الحرفة الواحدة، فتجد صاحب حرفة معينة يكره الذي ينافسه على الزبائن -مثلاً- في نفس الحرفة، لكن لو كانت حرفة أخرى لا ينازعه فيها أحد ففي الغالب أنه لا يقع الحسد من هذا الجانب. فالتاجر يحسد التاجر، والمرأة تحسد ضرتها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته؛ لأن الضرتين يتنازعان على غرض واحد وهو الزوج، فتحسد المرأة ضرتها أكثر مما تحسد ابنة زوجها، والشجاع يحسد الشجاع، لكن الشجاع لا يحسد العالم؛ لأنه ليس هناك تنافس بينهما في صفة واحدة؛ لأن هذا الشجاع مقصده أن يذكر بالشجاعة، ويمتلك هذه الصفة، ويشتهر بها، والعالم لا يزاحمه على هذا الغرض. ومنشأ الحسد والسبب الحقيقي للحسد هو حب الدنيا؛ لأن الدنيا تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، إنما مثال الآخرة نعمة العلم ومعرفة الله سبحانه وتعالى، فلا جرم أن من يحب معرفة الله ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سماواته وأرضه لن يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً؛ لأن هذا كله يتسع للجميع، فلو ذهب شخص إلى البحر أو أي مكان في الأرض ليتمتع بالنظر إلى السماء وما فيها من سحاب أو نجوم أو أي شيء من هذه المناظر، فهل يحسده الناس على ذلك؟ وهل سمعتم من يحسد آخر بأنه يتمتع بالنظر إلى النجوم في السماء؟ لكن يقع الحسد إذا كان الشخص له بستان جميل يتمتع وينتفع به، فيقع الحسد هنا؛ لأن الدنيا ضيقة، أما الآخرة فواسعة وفسيحة، فالمعرفة لا تضيق عن العارفين، لذلك المعلومة الواحدة يعلمها مليون شخص ويهتمون بها، ويفرحون بمشاركة غيرهم فيها، بل ربما يحصل بكثرة العارفين لهذه المعلومة زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة، فالإنسان إذا كان يدعو إلى الله سبحانه وتعالى ويدعو العباد إلى التوبة، أليس يحب كثرة السائلين وكثرة المستغفرين؟! فمن أجل ذلك لا يتصور أن يقع بين علماء الدين محاسدة؛ لأنهم يعملون لوجه الله سبحانه وتعالى، ومقصدهم معرفة الله، وهذا بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق فيها أيضاً؛ لأن هذه المنزلة عند الله واسعة فسيحة جنة عرضها السماوات والأرض، لكن إذا قصد العالم بعلمه أو بدعوته الجاه أو المال أو أي شيء من أغراض الدنيا فقد خرج من كونه عالماً بالدين إلى صائد يصطاد الدنيا بالدين. فمن أجل ذلك طهر الله سبحانه وتعالى قلوب أهل الجنة من المحاسدة فلا يقع بين أهل الجنة محاسدة، كما قال عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] لأن نعمة الجنة نعمة واسعة لا زحمة فيها، ولذة لا كدر فيها، أما الحسد فهو من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى ضيق سجين ولذلك وسم به الشيطان اللعين.

الفرق بين الحاسد والعائن

الفرق بين الحاسد والعائن في الحديث الذي ذكرناه من قبل (العين حق) فما هو الفرق بين الحاسد وبين العائن؟ A يشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذيته، لكن يوجد فرق في بعض الأمور، فالحاسد قد يحسد ما لم ير، فقد يحسد شيئاً يوصف له ولم يره، فيحسد الحاسد المحسود عند غيبته وعند حضوره أيضاً، ويحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه. أما العائن فلا يعين إلا ما يراه، ولا يحسد إلا ما يراه بعينه؛ لذلك سمي العائن، إذ تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، وإذا كان الحاسد يحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه فإن العائن يحسد في الأمر الموجود بالفعل، هذا أول فرق. الحاسد مصدر حسده تحرك قلبه، واستكثار النعمة على المحسود، أما العائن فمصدر فعله انقداح نظرة العين، وقد يعين ما يكره أن يصاب بأذى منه، فالعائن قد يعين شخصاً لا يحب أذيته كابنه مثلاً أو ماله أو نفسه أحياناً، فالعائن يصيب بعينه نعمة موجودة، وقد يعين من يكره أن يصاب بأذى منه كولده وماله، وقد يصيب من لا يقصده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، يعني: أنه يحسد صاحب المال، لكن أيضاً يمكن أن يحسد نفس هذا المال، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين، وسوف نأتي بالحديث الذي يدل على ذلك إن شاء الله تعالى. وكما ذكرنا بالنسبة للحاسد مصدر حسده تحرك القلب واستكثار النعمة على المحسود، فهو يتمنى زوالها عنه، أو عدم حصولها له، وهذا غاية في حطة النفس. والمقصود: أن العائن حاسد خاص، فالحاسد أعم من العائن، فكل عائن حاسد ولابد، وليس كل حاسد عائناً، فإذا استعاذ الإنسان من شر الحاسد دخل فيه العائن؛ لأن هذه الكلمة أعم؛ فهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته. قال غير واحد من المفسرين في قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51]: المقصود بهذه الآية الإصابة بالعين، فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجته، وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبكرة السمينة، فيعينها بمجرد أن ينظر إليها، يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم وائتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر. والدليل على ذلك من السنة حديث: (العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر). قال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه -أي: جانب الخيمة أو الخباء- فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه! فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها طائفة. وحكى المفسرون: أنه طلب الكفار من هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به كفعله في غيره؛ فعصم الله رسوله وحفظه وأنزل عليه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51] وفي الآية كلام آخر كثير.

الأدلة الواردة في ذم الحسد والتحذير منه

الأدلة الواردة في ذم الحسد والتحذير منه

ذم الحسد في القرآن الكريم

ذم الحسد في القرآن الكريم ذكرنا أن الحسد ذكر في القرآن في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وفي قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وقال عز وجل حاكياً عن المنافقين: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15]، وقال عز وجل: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]. وورد ذكر الحسد بالمعنى وليس باللفظ، وذلك مثل قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال عز وجل: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، وقال سبحانه وتعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:8 - 9]، وقال: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] ومما قيل في الآية: إنه خشي عليهم العين وقال عز وجل: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51]، وقال عز وجل: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120]؛ وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213] قيل: حسداً بينهم. {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [البقرة:89 - 90] (بغياً) يعني: حسداً. وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] قيل في تفسير (اللذين أضلانا): يعني: إبليس من الجن وقابيل من الإنس، حيث هذا حسد آدم وذاك حسد أخاه هابيل. وأثنى الله على المؤمنين بعدم الحسد في قوله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9].

ذم الحسد في السنة النبوية

ذم الحسد في السنة النبوية وأما الأدلة من السنة فمنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيصيب أمتي داء الأمم فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي) وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على ما تتحابون به أفشوا السلام بينكم). وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق) أي: الضرر الحاصل عنها لا ينكره إلا معاند مكابر. وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق تستنزل الحالق) والحالق هو: الجبل العالي. وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) وقال صلى الله عليه وسلم: (العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر) (تدخل الرجل القبر) يعني: تقتله فيدفن في القبر. (والجمل القدر) يعني: إذا أصابته مات أو أشرف على الموت؛ فيذبحه مالكه ويطبخه في القدر. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتولع الرجل بإذن الله حتى يصعد حالقاً ثم يتردى منه). وعن أسماء بنت عميس قالت: (يا رسول الله! إن ولد جعفر تسرع إليهم العين، أفأسترقي لهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من العين؛ فإن العين حق). وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة -يعني: أثر سواد وتغير- فقال: استرقوا لها، فإن بها النظرة) أي: إصابة العين. (ودخل النبي صلى الله عليه وسلم -كما تحكي عائشة - فسمع صوت صبي يبكي فقال: ما لصبيكم هذا يبكي؟ فهلا استرقيتم له من العين؟). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود). والجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]: أن النهي عن التحديث بالنعمة في الحديث قبل إتمام النعمة وقبل إنجازها، لكن إذا تمت يحدث إذا أمن العين، أو يكتم عند خوف الحسد، فإن أمن ذلك فلا يكتم. فقوله: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان) هذا قبل الحوائج وقبل قضائها، أما بعد قضائها فلا بأس بالإخبار. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين). وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق) فهذا دليل على أن الإنسان العائن قد يعين الشيء بدون قصد سواء في نفسه أو ماله أو ولده أو غيره. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم دواء ذلك والاحتماء منه بأن تبرك وتقول: بارك الله فيك، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق) (ورقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك).

ذم الحسد في كلام السلف

ذم الحسد في كلام السلف ثم إن الحسد من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام، ولكل حريق مطفئ لكن نار الحسد لا تطفأ. وآفات الحسد قذائف في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب. والحسد أول معصية وقعت من الخلق، فقد حسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، ويكفي الحاسد أنه شارك إبليس في الحسد، وفارق الأنبياء في حبهم الخير لكل أحد. والحاسد أيضاً قد سخط قضاء الله وقدره، فكره نعمته على عباده، لذلك الحسد سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، وهذا قذى في بصر الإيمان، ولا يحصل صاحبه إلا الندم، وفوات الثواب، وغضب رب الأرباب. والحاسد ساخط على قضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، وذلك لا عذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟! فالحاسد يكره نعمة الله على أخيه، وهذه النعمة لا تؤذيه هو، فيقول بعض العلماء: أي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟! ولذلك قال منصور الفقيه: ألا قل لمن ظل لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه لأنك أنت لم ترض لي ما وهب فجازاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب والحسد تنافس في الدنيا، وهي لا تعدل عند الله جناح بعوضة. قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) لكن لأنها أحقر عند الله من جناح بعوضة لم يأخذوا فقط شربة الماء، وإنما أعطاهم من الدنيا ما تعلمون، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة:212] فلا وجه فيها للمنافسة عند العقلاء، والحاسد إنما يحسد الناس على الدنيا وحطامها. وأما قوَّام الليل وصوَّام النهار فلا يحسد، وهذه الدنيا ما هي إلا هموم وغموم متلاطمة، وحساب وعذاب، وهي ترة وتراب، وبوار وخراب. قال ابن سيرين رحمه الله تعالى: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ يعني: أن الإنسان أحد رجلين: إما مؤمن صائر إلى الجنة، وإما كافر صائر إلى النار، فإن كانت النعمة مع مؤمن وهذا المؤمن صائر إلى الجنة فكيف أحسده؟! وكيف أتمنى زوال هذه النعمة عنه؟! وهو سوف يحصل أعظم نعمة، وهي الجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى، فكيف يحسده وهو صائر إلى الجنة أعظم نعيم ولا يقدر أن يزيله عنه؟! وإن كان كافراً أعطي هذه النعمة فكيف يحسده على نعمة وهو صائر في النهاية إلى النار؟! فلا يستحق أصلاً أن يحسد. أيضاً: الحسد قد يحمل صاحبه على إطلاق لسانه في المحسود بالشتم والتحيل على أذاه. قال الحسن رحمه الله: يا ابن آدم! لمَ تحسد أخاك؟! فإن كان الله أعطاه لكرامته عليه فلمَ تحسد من أكرمه الله؟! وإن كان غير ذلك فلمَ تحسد من مصيره النار؟! قال بعض العلماء: منافسة الفتى فيما يزول على نقصان همته دليل ومختار القليل أقل منه وكل فوائد الدنيا قليل أيضاً: الحاسد لا يزال في غم وألم ونكد؛ لأن الحسد داعية النكد. قال بعض العلماء: الحسد جرح لا يبرأ، وحسب الحسود ما يلقى. أي: حسبه من العذاب ما يعذب هو به نفسه. قال بعض العلماء: دع الحسود وما يلقاه من كمده كفاك منه لهيب النار في جسده إن لمت ذا حسد نفست كربته وإن سكت فقد عذبته بيده وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك). وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم، وتعس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي. وقال بعضهم: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد؛ فإنه يرى النعمة عليك نقمة عليه. قل للحسود إذا تنفّس طعنة يا ظالماً وكأنه مظلوم أيضاً: الحاسد يسميه العلماء عدو نعمة الله عز وجل، فهو جهول ظلوم، ليس يشفي غلة صدره ويزيل حرارة الحسد من قلبه إلا زوال النعمة، فحينئذٍ يتعذر الدواء أو يعز. وكل أداويه على قدر دائه سوى حاسدي فهي التي لا أنالها وكيف يداوي المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها وقال معاوية رضي الله عنه: (كل الناس أقدر على رضاهم إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها). كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لا تعادوا نعم الله. قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله). وفي بعض الكتب: الحقود عدو نعمتي، متسخط لقضائي، غير راضٍ بقسمتي. كذلك يقولون: الحسد عدو عادل منصف، وهذا كما قال بعض الشعراء: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله وهذا مثال يقول: (من حفر حفرة لأخيه وقع فيها). قيل لبعضهم: ما بال الحسود أشد غماً؟ قال: لأنه أخذ بنصيبه من هموم الدنيا يضاف إلى ذلك غمه لسرور الناس. وهنا قصة نشير إليها تجسد مبدأ من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، وهي محكية في بعض الكتب: قال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر، يعني: أنه تصدر من فمه رائحة كريهة، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعوه إليك فإن دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فقام الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك على عادته، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فقال له الملك: ادن مني، فدنا منه، فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم. فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا قد صدق. قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتاباً إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً، وابعث به إلي، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل، فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، فقال: إن الكتاب ليس هو لي فالله الله في أمري حتى تراجع الملك. فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه، وحشا جلده تبناً وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال: لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له، فقال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلت ذلك. قال: فلمَ وضعت يدك على فيك؟ قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحسد الوقاية والعلاج [2]

الحسد الوقاية والعلاج [2] وجود تأثير الحسد في بني آدم ثابت بالأدلة الواردة من القرآن والسنة والواقع، وقد أنكره أناس ممن لا يفقهون نصوص الكتاب والسنة، ولم ينظروا إلى وقوعه وتأثيره في المحسود عقلاً وشرعاً وتجربة، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى كيفية التحصن من شر الحسدة ومكرهم بالتعوذ بآيات الله منهم، وملازمة الذكر، والتوكل والاعتماد على الله سبحانه وتعالى.

ذم الحسد والتحذير منه

ذم الحسد والتحذير منه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في النار: مسلم قتل كافراً ثم سدد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمن: غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد) رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه، والحاكم في المستدرك، وصححه الألباني. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في النار) هذا خبر لمحذوف، والمقصود: شيئان لا يجتمعان، أو يكون على لغة من يقول: أكلوني البراغيث، فتقدم الضمير أولاً، ولم يسبقه الاسم الظاهر، فتقول: أكلوني البراغيث، فتقدم الفعل متصلاً بالضمير وبعده الاسم الظاهر، وكذلك هنا: (لا يجتمعان) قدم ضمير المثنى قبل ذكر هذين الأمرين: (لا يجتمعان في النار: مسلم قتل كافراً ثم سدد وقارب) فهنا لم يذكر سوى شيء واحد، ولم يذكر شيئين. فيكون المقصود: شيئان لا يجتمعان معاً في النار: مسلم قتل كافراً مع الكافر الذي قتله، فهذان لا يجتمعان في مكان واحد من العذاب وهو النار. وقوله: (ثم سدد وقارب) يعني أن المسلم الذي قتل كافراً لا يجتمع مع الكافر الذي قتله في النار، لكن هذا بشرط أن يثبت المسلم إلى الممات على الإسلام والاستقامة. وقوله: (ولا يجتمعان في جوف مؤمن: غبار في سبيل الله وفيح جهنم) أي: لا يجتمع غبار الخيل إذا خرج المجاهد في سبيل الله وفيح جهنم، في أنف المؤمن. ومعنى: (فيح جهنم) انتشارها، فالمقصود هنا في الحديث: (غبار في سبيل الله وفيح جهنم) أي: الأثر الذي يحدثه فيح جهنم من الحرارة، فهذان لا يجتمعان في جوف مؤمن. وقوله: (ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد) والإيمان والحسد نقيضان لا يتواجدان معاً في مكان واحد، فإذا وجد الإيمان لا يقارنه الحسد، وإذا وجد الحسد لا يقارنه الإيمان. وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالحسد، وبيَّن أنهما لا يجتمعان في قلب المؤمن، وهذا فيه تقبيح للحسد، وبيان أنه لا ينبغي للمؤمن أن يحسد، فإنه ليس من خلق المؤمن ولا من خصاله أن يحسد غيره، ويتمنى زوال نعمته، فالمقصود: أنه يحرم على المؤمن أن يحسد غيره. ويحتمل أن يقصد بالإيمان هنا: الإيمان الكامل، فإن الحسد ينقص الإيمان.

الحسد من أخلاق الكفار واليهود

الحسد من أخلاق الكفار واليهود وقد بين الله سبحانه وتعالى التناقض بين خلق الحسد وبين صفة الإيمان في كثير من آيات القرآن، وذكر أن الحسد من أخلاق الكفار، فقال سبحانه وتعالى في شأن المشركين من أهل الكتاب: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، إذاً: الحسد خلق من أخلاق الكفار من أهل الكتاب، حيث حسدوا المؤمنين على أعظم نعمة، وهي نعمة الإيمان. أيضاً: الحسد من أخلاق المشركين، قال الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] قال المفسرون: هذا عام أريد به خصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] فالمقصود بالناس في قوله: (الذين قال لهم الناس) نعيم بن مسعود فهنا كذلك قوله: ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)) أي: بل أيحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله؟ أي: من نعمة الوحي والرسالة، وفي الحديث: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين) رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها. إذاً: الحسد من أخلاق اليهود، والحسد كذلك من أخلاق المنافقين، فقد قال الله عز وجل في شأنهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال عز وجل: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة:50]. فهذا كله يؤيد هذا المعنى الذي ورد في آخر الحديث: (ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد)، فيوجد الحسد لكن مع الكفر، سواء كفر المشركين أو كفر أهل الكتاب أو كفر المنافقين والعياذ بالله! أما المؤمن فليس من خلقه أن يحسد عباد الله سبحانه وتعالى، وبتعبير آخر نستطيع أن نقول: إن المؤمن الكامل الإيمان لا يحسد، فمن وقع منه الحسد فقد وقع في محرم حرمه الله سبحانه وتعالى عليه. قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد! هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب لا أبا لك! حيث حسدوا يوسف، ولكن غم الحسد في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم يعدو لسانك، وتعمل به يدك. يعني: إذا وجد الإنسان شيئاً من هذا فليجاهد نفسه، فإنه ليس محرماً عليه في هذه الحالة، وهذا من جهاد النفس، فإذا راودته نفسه على الحسد، وتمني زوال النعمة عن أخيه المؤمن، فعليه ألا يستسلم لذلك، ولا يسترسل معه، بل يجاهد نفسه، حتى يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه). قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]. قال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5] هذا الأخير هو المستعاذ منه في هذه السورة. فقيد الله سبحانه وتعالى شر الحاسد بقوله: ((إِذَا حَسَدَ))؛ لأن الحاسد قبل توجهه إلى المحسود بالحسد لا يتأتى منه شر، فلا محل للاستعاذة منه، لكن يستعاذ منه ((إِذَا حَسَدَ))؛ لأنه ربما يكون هناك إنسان متصفاً بهذه الصفة، لكنها كامنة فيه فلا تخرج، ولا يصدر منه هذا الحسد إلا إذا توجه نحو المحسود، فيقع حينئذٍ الحسد، ومن ثمَّ قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] يعني: حال حسده لغيره. ولهذا أيضاً: نفس العقد لم يقل الله سبحانه وتعالى: (ومن شر ساحر إذا سحر)، لكن قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]؛ لأن النفث في العقد هو عين السحر، ونفس ممارسة السحر يكون بالنفث في العقد، فتكون الاستعاذة من الساحر واقعة موقعها عند سحره الواقع منه بنفثه في العقد. فالرجل قد يكون عنده حسد، ولكنه يخفيه، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك، فقد يجد في قلبه تمني زوال نعمة الغير، لكنه لا يسترسل مع هذا التمني، ولا يعامل أخاه المسلم بما لا يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى، فالقوة الكامنة في قلبه قد تنبعث إذا نشطها واسترسل معها. لكن إذا وجدت هذه القوة بأي نوع من الشرور في قلب الإنسان فإنها تمنيه لأي شيء من الحرام، لكنه لا يسترسل معها، وإنما يجاهد نفسه ويحبسها، ولا يطيعها ولا يأتمر لها، بل يعصي هواه طاعة لله، وخوفاً وحياءً من الله، وإجلالاً له سبحانه وتعالى أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله، أي: يرى أنه إذا وقع في حسد أخيه فهذه معصية ومخالفة لله، وبغض لما يحبه الله، ومحبة لما يبغضه الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها بالدعاء للمحسود، وتمني زيادة الخير له، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد، فرتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا هو الحسد المذموم، وهذا كله هو تمني زوال النعمة عن الغير. قال الألوسي: الحسد الغريزي الجبلي إذا لم يعمل بمقتضاه من الأذى مطلقاً، بل عامل المتصف به أخاه بما يحب الله تعالى مجاهداً نفسه، لا إثم فيه، بل يثاب صاحبه على جهاد نفسه، وحب معاملته أخاه ثواباً عظيماً؛ لما في ذلك من مشقة مخالفة الطبع كما لا يخفى. فإذا وجد الإنسان شيئاً من ذلك فلا يطيع هواه، ولكن يجاهد نفسه. هذا هو الحد الذي يمكن أن يقع من المؤمن، لكن عليه أن يطرده من قلبه، ويحب لأخيه الخير، ولا يقع في تمني زوال نعمة الله سبحانه وتعالى عليه. إذاً: الحسد حرام على المؤمن، وستأتي الأدلة أيضاً مفصلة في ذلك، بل من العلماء من عده من كبائر القلب، وكبائر القلب أشد وأخطر وأعظم من كبائر الجوارح، فيحرم الحسد على المؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان الكامل عن الذي يحسد، فقال: (ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد). فهذا مما يدل على وجوب تنقية المؤمن قلبه من أن يجامع إيمانه الحسد.

ذكر الأدلة الواردة في ذم الحسد

ذكر الأدلة الواردة في ذم الحسد وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة، قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه، قد علق نعليه في يده الشمال فسلم، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث، فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال له: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت). فأوهمه ربما بنوع من التعريض أنه وقع شيء بينه وبين أبيه عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأنه لأجل ذلك لا يريد أن يبيت في البيت ثلاث ليالٍ، ويريد أن يستأذنه أن يبيت عند هذا الرجل الأنصاري الذي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه من أهل الجنة، فقال: (إني لا حيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، فقال: نعم، فبات عنده ثلاث ليالٍ، فلم يره يقوم من الليل شيئاً). انظر حرص الصحابة رضي الله عنهم على التأسي والتسابق في الخيرات، فأراد أن يعرف بما استحق هذا الرجل أن يكون من أهل الجنة، وأراد أن يراقبه ربما يجتهد في العبادة اجتهاداً منقطع النظير. (فبات عنده ثلاث ليالٍ، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم حتى يقوم لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك، فلم أرك تعمل عملاً كثيراً، فما الذي بلغ بك ذلك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت -يعني: ليس لي عمل إلا ما رأيت- فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فقلت له: هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق). إذاً: هنا لم يحتقر عمله في هذه اللحظة، لأنه طهر قلبه من الغل والغش والحسد لإخوانه المؤمنين، ولذا قال: (فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: فقلت له: هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق) رواه الإمام أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين ورواه البزار.

حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كذلك من النصوص التي تبين تنافي خلق الإيمان مع خلق الحسد: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). فإذاً: نفى الإيمان عن الشخص الذي لا يحب لأخيه مثلما يحب لنفسه من الخير، فما بالك بمن يحب أن يزول الخير عن أخيه المؤمن؟ هل هذا يكون فيه إيمان؟ إذاً: هذا ينافي صفة الإيمان المذكور في هذه الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). وبعض الناس ربما يفهم أنه لا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه، أي شيء يحبه، يعني: أنه يحب لنفسه أن يكون عنده مثلاً جهاز خبيث مثل الفيديو، فيحمل الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) على هذا، وهذا غير صحيح، ولذلك جاءت رواية أخرى تبين المقصود وهي: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير).

حديث: (لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا)

حديث: (لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا) وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا) يعني: ولا تتحاسدوا، وهذا نهي عن التحاسد (وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام). رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود.

حديث: (أهل الجنة ثلاثة)

حديث: (أهل الجنة ثلاثة) وعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه مرفوعاً: (وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال) رواه مسلم. والشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، فالحسد لا يمكن أن يجتمع مع الرحمة، ورقة القلب على ذوي القربى والمسلمين، وهذا أيضاً يؤكد أن الإيمان لا يجامع الحسد.

حديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)

حديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) متفق عليه.

حديث: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم)

حديث: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم) وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه. فهل يمكن أن يتصور أن هؤلاء المؤمنين الذين هم مثلهم كمثل البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً أن من أخلاقهم أن يتحاسدوا أو يتمنى أحدهم زوال نعمة الله عن أخيه؟ هذا لا يتصور أبداً بالمؤمن.

حديث: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا)

حديث: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا) وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل) يعني: من مشى في داخل المساجد، أو في الأسواق التي فيها زحام المؤمنين، والنبل: هي السهام، والسهم يطلق على السهم كله، والنبل يطلق على الحديدة المدببة التي تكون في رأس السهم، قال: (من مر في شيء من مساجدنا، أو أسواقنا، ومعه نبل - أي: سهام - فليمسك أو يقبض على نصالها بكفه أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء) متفق عليه. فانظر إلى كلام الله العظيم حين قال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. فيأمرنا بالحرص على مصلحة المسلم، وحمايته من كل سوء، لا بتمني زوال النعمة عنه؛ لأن هذا ينافي الإيمان، وانظر إلى شدة احتياط النبي صلى الله عليه وسلم في حماية المسلمين من الأذى، وقد جاء أيضاً في الحديث الآخر: (نح الأذى عن طريق المسلمين) فهذا النصح لمجرد السهم إذا مشى الإنسان به مكشوفاً، فربما أصاب أحداً من المسلمين في الزحام في المسجد أو في السوق، ولذلك أمره أن يضع يده على نصالها حتى لا يصيب أحداً من المسلمين، فمن أراد أذية المسلمين فليس من أخلاق الإسلام في شيء، ولا من الولاء للمؤمنين في شيء، وآية ذلك ما فعله هؤلاء الروافض عليهم من الله ما يستحقون من أذية المؤمنين والمسلمين في الحرم، وتحطيم وحدة المسلمين بدعوى مظاهرة من أجل الوحدة، وهم أبغض الناس لأهل السنة، يبغضون صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وطاماتهم وضلالاتهم معروفة. وطالما حذرنا من خطر هؤلاء الذين يحملون أحقاداً متراكمة عبر قرون على أهل الإسلام، ولا يصبرون عن إظهار هذا الحقد بأي صورة من الصور. والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتاط لحرمة المسلمين احتياطات عظيمة منها هذا الأدب الذي علمنا إياه في هذا الحديث: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه؛ أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء).

حديث: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله)

حديث: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم. فهو يبين حرمة المسلم، ووجوب حماية المسلم من أي أذى، خاصة المسلم الذي يستقيم، ويذكر الله غدواً وعشياً كما جاء في هذا الحديث: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله) أي: في أمان الله وعهده، وصلاة الصبح تستلزم المحافظة على سائر الصلوات. فالمقصود: أن الذي يحافظ على الصلوات الخمس يكون في حماية الله، وفي أمان الله، وفي عهد الله، فحذارِ من أذية من هو في جوار الله، واحذروا أن تؤذوا الشخص الذي يصلي صلاة الصبح وما عداها من الصلوات؛ فإنه في ضمان الله، وفي رعاية الله وحمايته. وقوله: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء) يعني: لا يؤذي أحد منكم أحداً من هؤلاء الذين هم في جوار الله وحمايته. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) إلى آخر الحديث المتفق عليه.

سورة الفلق وما اشتملت عليه من الاستعاذة من كل شر موجود في العالم

سورة الفلق وما اشتملت عليه من الاستعاذة من كل شر موجود في العالم وقول الله عز وجل: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] حاسد هنا يعم الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما حسد إبليس أبانا آدم عليه السلام، وهو عدو لذريته كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، فكلمة (الحاسد) تعم الجن والإنس كما ذكرنا، يعني: الحاسد من الجن أو الحاسد من الإنس؛ لأن إبليس يحسد بني آدم أو المسلمين على نعمة الإيمان، ولذلك يحرص على أن يضلهم، وعندما يسجد المؤمن سجدة التلاوة يعتزل الشيطان يبكي، ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد، وأمرت بالسجود فلم أسجد، فيحقد الشيطان ويحسد ابن آدم، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]. إذاً: الشيطان حقود على آدم وذريته، حسود لهم يتمنى زوال نعمة الإيمان عنهم، ليكونوا شركاءه في النار، لكن الحاسد يعم الجن والإنس، فالحاسد قد يكون من الجن أو من الإنس كما بينا، أما الوسواس فهو أخص بالجن، فالذي يقدر على الوسوسة هم شياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس، أما الوسواس فيعمهما، كما قال الله عز وجل في آخر السورة: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] إلى {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6]. يعني: أن الوسواس يكون من الجن ومن الناس، لكن الجن أخص بصفة الوسوسة، وكذلك الحسد يكون من الجن والإنس، لكن الإنس أخص بالحسد، فكلا الشيطانين حاسد موسوس، والاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعاً، وهذه السورة اشتملت على الاستعاذة من كل شر موجود في العالم، فتضمنت شروراً أربعة يستعاذ منها: شراً عاماً، وهو قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، أي: من شر خلق الله سبحانه وتعالى. ثم شراً خاصاً، وهو قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] فهذان نوعان.

أنواع الحاسد في سورة الفلق

أنواع الحاسد في سورة الفلق ثم ذكر شر الساحر والحاسد، وهما نوعان؛ لأنهما يصدران من النفس الشريرة: النوع الأول: الساحر، وهو يستعين بالشيطان ويعبده، وقلما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرب إليه، فالساحر لابد أن يقع في شرك يتقرب به إلى الشيطان، إما بأن يذبح للشيطان أو يذبح ويذكر اسم الشيطان فيكون ذبحه لغير الله، وغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق، والساحر لا يسمي هذا الفعل عبادة للشيطان، لكنه في الحقيقة عبادة للشيطان، وإن سماه بما سماه به، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه. فلو أن هناك شخصاً سجد لمخلوق، وقال: هذا ليس بسجود للمخلوق، ولكنه خضوع وتقبيل للأرض بالجبهة، فنقول: سمه ما شئت، سمه إكراماً، سمه محبة للصالحين، فهو عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فمهما سمى واستعمل من الألفاظ، فإنه لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه عابداً لغير الله سبحانه وتعالى، فمن سجد لغير الله، فليسم سجوده هذا ما شاء، فهو عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، وكذلك من ذبح للشيطان أو دعا الشيطان، أو استعاذ به، أو تقرب إليه بما يحب فقد عبد الشيطان مع الله سبحانه وتعالى، حتى ولو لم يسم ذلك عبادة. وقد يسميه استخداماً للجن أو غيره، لكن الشيطان في الحقيقة هو الذي يستخدمه ويوقعه في الكفر المبين. وكما بينا أن هذا الشيطان في الحقيقة هو الذي يستخدمه، وليس هو الذي يستخدم الشيطان؛ لأن الشيطان لا يفعل به كما يفعل هو بالشيطان، فالشيطان لا يسجد له، ولا يعبده كما يفعل الساحر للشيطان، فالمقصود أن هذا الفعل عبادة للشيطان، وإن سماه استخداماً، قال الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60]. وقال عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]، فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين، وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة، ولبئس المولى ولبئس العشير. النوع الثاني: من يعينه الشيطان، وإن لم يستعن به، وهو الحاسد؛ لأنه نائبه وخليفته، فالحاسد نائب وخليفة الشيطان، والمتخلق بخلق الشيطان؛ وكل منهما عدو نعم الله، ومنغصها على عباده. وقد اقترن السحر بالحسد، كما في هذه السورة: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:4 - 5]. فهذا يشير إلى وجود علاقة بين كل من السحر والحسد، وأقل ما يكون من هذه العلاقة هو أن لكليهما تأثيراً خفياً، فتأثير الساحر بالسحر يكون تأثيراً خفياً، وكذلك الحسد، مع الاشتراك في عموم الضرر، فهذا ضار، وهذا ضار، وهذا خفي، وهذا خفي، فكلاهما إيقاع ضرر في خفاء، وكلاهما منهي عنه.

حكمة اقتران السحر بالحسد

حكمة اقتران السحر بالحسد قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في معرض بيان حكمة اقتران السحر بالحسد: الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس، والوسواس يعمهما كما يأتي في سورة الناس، والحسد يعمهما أيضاً، فكلا الشيطانين من الجن والإنس حاسد موسوس، فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعاً. ويقول: أصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود، وتمني زوالها، فالحاسد عدو نعم الله، هذا الشر هو من نفسه وطبعها، ليس شيئاً اكتسبه من غيرها، يعني: أن الحاسد لا يزاول أعمالاً معينة خارجة كالساحر مثلاً، وإنما يكون خبيث النفس، ولو نلاحظ عنوان الكلام الآن لرأينا بعض الفروق بين الحسد وبين السحر، وبعض أوجه الاتفاق أيضاً بينهما. يقول: شر الحاسد يكون أصلاً خلقاً راسخاً في نفسه، ومن طبعه، لم يكتسبه من غيره، بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر فإنه يكون باصطفاء أمور أخرى، واستعانة بالأرواح الشيطانية، فلهذا -والله أعلم- قرنت السورة بين شر الحاسد وشر الساحر، فالحسد والسحر يأتيان من شياطين الإنس والجن، وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن، وهو الوسوسة في القلب، ولذلك ذكرها في السورة الأخيرة وهي سورة: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ). فالحاسد والساحر يؤذيان المسحور والمحسود بلا عمل منه، بل هو أذى من أمر خارج عنه، بخلاف الوسوسة، فالإنسان مكلف بمجاهدة الوسوسة، ولذلك أفردها بصورة مستقلة، لكن السحر والحسد يكون الإنسان فيهما مظلوماً. يقول: والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل، بواسطة مساكنته له، وقبوله منه؛ لهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم؛ لأن ذلك بسعيه، وإرادته، بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه. يقول: كثيراً ما يجتمع في القرآن السحر والحسد -هو يريد المناسبة بين الأمرين- فاليهود أسحر الناس وأحسدهم، فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم، قال الله عز وجل في وصف اليهود: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، وهذه كلها من الشرور التي خلقها الله. ولابد -ونحن نتكلم على هذه الشرور- أن نستصحب هذا المعنى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] بل نستصحب أيضاً وصية الرسول صلى الله عليه وسلم ل ابن عباس رضي الله عنهما، وإلا وقعنا في الشرك، فإذا ظننا أن الإنسان يقدر على الضرر الحقيقي بنفسه، فهذا شرك، فإن الضرر لا يكون إلا بإذن الله مثل ضرر المرض، وهكذا أي نوع من الشرور التي تؤذي الإنسان، فهذا من البلاء الذي يبتلى العبد به ما لم يكن تفريطاً منه، قال عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). إذاً: لابد أن نكون على حذر -حتى لا نقع في شرك- أن نظن أن الغير أو العباد يملكون ضراً أو نفعاً بأنفسهم، وإنما يكون بإذن الله الكوني القدري، فالله لا يحب هذه الشرور، لكنها تكون بمشيئته، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]. فهذا وصف اليهود بأنهم كانوا سحرة، أما وصفهم بالحسد فمثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقوله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]. لهذا كلما كان الساحر أكثر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كان سحره أقوى وأنفذ؛ ومن ذلك سحر عباد الأصنام، وطبعاً أول ما نتذكر عباد الأصنام نتذكر خيلاء المصريين، فمعروف أنهم كانوا بارعين في هذا النوع من الكفر؛ لأنهم كانوا مغرقين في عبادة الأصنام، والشرك بالله سبحانه وتعالى، ومعاداة رسله، فلهذا كان لهم من السحر ما ليس لغيرهم أيضاً. فكلما قويت عبادة الشيطان والوثنية في قوم قوي فيهم تأثير سحرهم. فالمقصود: أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر، لكن الحاسد بطبعه ونفسه، وبغضه للمحسود، والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده، ويأمره بموجبه، أما الساحر فبعلمه وكسبه، وشركه واستعانته بالشيطان.

الفروق بين الحسد والسحر

الفروق بين الحسد والسحر نستطيع أن نجمل خلاصة الفروق بين الحسد والسحر في الآتي: الفرق الأول: الحسد شر كامن في نفس الحاسد وطبعه، فهو ليس شيئاً اتخذه من غيره، بل هو من خبث نفسه وشرها. أما السحر فيكون باكتساب أمور أخرى، كالنفث في العقد وهذه الأشياء، والاستعانة بأرواح الشياطين. الفرق الثاني: الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه لهم؛ لأن الحاسد شبيه بإبليس، فهو حسد آدم عليه السلام لشرفه وفضله، والحاسد في الحقيقة من أتباع الشيطان؛ لأنه يخدم ما يحبه الشيطان، والشيطان يحب فساد الناس، ويحب زوال النعم عنهم، والحاسد نائب الشيطان وخليفته. الفرق الثالث: الساحر يطلب من الشيطان أن يعينه، والحاسد يعينه الشيطان بدون طلب واستدعاء، أما الساحر فيطلب من الشيطان أن يعينه، فيستعين به وربما يعبده من دون الله وربما يسجد له! ليقضي له حاجته.

تعريف الحسد وبيان حقيقته

تعريف الحسد وبيان حقيقته ما هو تعريف الحسد؟ الحسد كالسحر يتعذر تعريفه منطقياً لخفائه؛ لأنه شيء خفي، بل الحسد أشد خفاءً من السحر؛ لأن الحسد عمل نفسي، وأثر قلبي، وقد قيل في محاولة تعريف حقيقته: إنه إشعاع غير مرئي، ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود عند تحركه بقلبه على المحسود، وقد شبه حسد الحاسد بالنار. ومعروف أن الحسد هو: تمني زوال نعمة الغير، هذا تعريفه من ناحية الواقع. أما من حيث حقيقة تأثير الحسد كيف تتم؟ فيقول بعض العلماء: إنه إشعاع كأي نوع من الإشعاعات التي لا تراها، لكن في الحقيقة هي موجودة لا ينكر وجودها، فمثلاً: أشعة إكس -التي تفعل للعظام- تنفذ من الأجسام، فيستعينون بها في تشخيص بعض الأمراض، فهذه الأشعة نحن لا نراها، لكن نؤمن بوجودها، والذي ينكر الحسد لأنه لا يرى بالحواس الخمس، نقول له: لماذا يؤمن بأمور الغيب كأمور الآخرة وهذه الأشياء؟ فأين الإيمان بالغيب في هذه أيضاً؟ لكن من حيث الحقيقة نحن ندرك شيئاً اسمه حسد واقع في الحقيقة، ويثبته الشرع، وهو موجود واقعاً وتجربة، وهذا أمر مستفيض في الناس، أعني وقوع أثر هذه النفوس الخبيثة كما سيأتي إن شاء الله. فقالوا: إنه إشعاع غير مرئي، لكن لا نجزم ما هي كيفيته بالضبط، وقد حاول بعض العلماء تعريف الحسد فقالوا: إنه إشعاع غير مرئي ينتقل من عين الحاسد، أو يأتي من روح الحاسد، ونفسه الخبيثة التي تحسد إلى المحسود، وننسب الحسد إلى العين لأن العين هي الوسيلة التي يرى بها نعم الله على العباد، فينتقل هذا الشعور من قلب الحاسد إلى المحسود في حالة معينة عند تحرق قلبه على المحسود، وعند اشتعال نار الحقد والغضب على نعمة الله سبحانه وتعالى على هذا المحسود، فيؤثر بإذن الله في هذا المحسود، ولذلك شبهوه بالنار، كما قال بعضهم: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله وقال بعض الحاسدين بعدما تاب من الحسد: كنت إذا حسدت رجلاً أجد حرارة في عيني. يعني: كأن عينه تشتعل فيها حرارة من شدة تغيظه على نعمة الله على خلقه. وقالوا: الحسد هو: اسم يقع على إرادة زوال النعم عن الغير، وحلولها فيه، أو إرادة عدم حصول النعمة للغير شحاً عليه بها.

أنواع الحسد

أنواع الحسد والحسد نوعان: إما حسد على نعمة موجودة، أو على نعمة مفقودة، فيحسد الحاسد على نعمة موجودة، وذلك بأنه إذا رأى نعمة الله على بعض عباده يتمنى أن تزول، ثم يشترط الحاسد: إما أن يتمنى أن تزول عنه لتتحول إليه هو، أو يتمنى أن تزول عنه وتتحول إلى غيره، أو يتمنى زوالها فقط غير أن يتمناها لنفسه ولا لغيره، فهذه بعض أقسام الحسد. كذلك الحسد يطلق على إرادة عدم حصول النعمة، كاستصحاب البلاء، والمرض، والفقر لغيره، فيشفق أن تصيبه نعمة، وكأنه يملك خزائن الله سبحانه وتعالى! كما قال عز وجل: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100]. لهذا يقولون: البخيل هو: الذي يبخل بمال نفسه، والشحيح هو: الذي يبخل بمال غيره، قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]. فيشفق على خزائن الناس، وكأنه تؤخذ هذه النعم من خزائنه هو، فيشح بها على الناس، وهذه النفس من أخبث النفوس، كما سنبين إن شاء الله تعالى. فالغضب يثمر الحقد، والحقد يثمر الحسد، والحسد يثمر غضب الله سبحانه وتعالى على الحاسد. يقول بعض العلماء: الغضب شعلة نار مستكنة في طي الفؤاد، استكانت استكانة الجمر تحت الرماد، فالنار عندما تكون ساكنه تحت الرماد يكون الظاهر رماداً لكن في داخله نار، فكذلك الغضب هو شعلة نار لديها استعداد أن تتوهج إذا زاد الغضب عند الإنسان، وهذه الشعلة يستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد، كاستخراج الحجر النار من الحديد. فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان، أي: من اشتعلت فيه نار الغضب، وخرجت من تحت الرماد أصبح عنده نسق قوي بينه وبين الشيطان، وصلة قرابة؛ لأنه خلق من نار، كما قال عز وجل حاكياً عن الشيطان: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. ومن نتائج الغضب: الحقد والحسد، وبهما هلك من هلك، وفسد من فسد، والذي يعلن فيضان الغضب أو الحقد أو الحسد هو القلب، فالقلب مضغة إذا صلحت صلح معها سائر الجسد. إذاً: ينبع الحقد والحسد من القلب، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26] وحمية الجاهلية تصدر عن الغضب للباطل، وقال صلى الله عليه وسلم لمن استنصحه وكرر عليه النصيحة، قال له كل مرة: (لا تغضب! لا تغضب! لا تغضب!) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الناس ويغلبهم- ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه مسلم. فالغضب يثمر الحقد، والحقد يثمر الحسد؛ لأن الإنسان إذا امتلأ قلبه حقداً على غيره، فهذا الامتلاء يدعو إلى التشفي والانتقام، والتشفي والانتقام يكون عن طريق الحسد، وبعض الناس لا يكفيه الحسد، فإذا عجز عن أن يتشفى بنفسه ولم يؤثر حسده في المحسود أحب أن يتشفى منه الزمان، وأن تأتيه المصائب، وهذه هي عين الشماتة. فالغضب يلزمه عادة قصد من الإنسان، فإن عجز فإنه يرجع إلى نفسه ويشتد في الاحتقان، فيصير حقداً، والحقد فيه أن يستلزم قلبه استثقاله، والبغض له، والنفار منه، وأن يدوم ذلك، ومن ثمرات الحقد أنه يحمل صاحبه على تمني زوال النعمة عن الشخص، فيغتم بنعمة إن أصابها، ويسر بمصيبة إن نزلت به، فهذا هو الحسد.

الحسد كالروح لا تعرف ماهيته

الحسد كالروح لا تعرف ماهيته وأما بالنسبة لحقيقة الحسد فهو كالروح نفسها لا تعرف ماهيتها، وكذلك الحسد لا تعرف ماهيته. يعني: أن الإنسان الذي ينكر الغيبيات التي لا يراها بحواسه نقول له: ما سر حياته؟ وما الفرق بين جثة الإنسان وهو حي، وبين نفس الجثة فيها نفس الحواس وصاحبها ميت بعد لحظات؟ ليس إلا الروح. وهناك فرق بين الإنسان العاقل وبين الحيوان غير العاقل، فأين العقل؟ وهل نرى العقل؟ ونحن نؤمن بوجوده، فهناك فرق بين الإنسان والحيوان، وهو العقل، وفرق بين الميت والحي وهو الروح، فهذه لا ننكر وجودها، لكن ما هي؟ لا ندري، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وقد ذكرنا الأمثلة بهذه الأشعة، فهي غير مرئية، لكن نؤمن بها لأننا نرى آثارها، فلا معنى لإنكار شيء بحجة عدم رؤيته.

كيفية انتقال الضرر من الحاسد إلى المحسود

كيفية انتقال الضرر من الحاسد إلى المحسود من أقوى الأدلة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] كلمة: ((إِذَا حَسَدَ)) إثبات أن هناك حقيقة لهذا الشر. فبعض الكتاب يذهب إلى أن الحسد: أن تتمنى زوال النعمة، ويجب أن يترتب عليها أذية باليد، وباللسان، وبالجوارح، لكن مذهب أهل السنة في هذه المسألة: أن يؤمن الإنسان بوجود الحسد حتى ولو لم يتعد إلى الأذية باليد أو البدن أو الجوارح، وإنما يؤمن بوجوده في القلب وفي النفس الخبيثة، كما بين ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند كلامه على قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:4 - 5] وذكر أن تحقق الشر منه يكون عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة، واللفظة المهملة هي: التي لا معنى وراءها، ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسداً إلا إذا قام به الحسد، كما تقول: هذا رجل ضارب، لمن قام به الضرب، وشاتم، لمن قام به الشتم، وكذلك حاسد تقال لمن قام به فعل الحسد، ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، فوجهت إليه سهام الحسد من قلبه، فتأذى المحسود بمجرد ذلك، وهذا شيء لا يقع تحت الحواس، لكن الواقع يشهد له. فإن لم يستعذ الإنسان بالله ويتحصن به، وتكون له أوراد من الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله، والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد. إذاً: الحسد سبب في وقوع الشر، وربما لا يقع تأثيره إذا وجدت موانع في الشخص، والمناعة تكون بالذكر بالتحصن بالأدعية والأذكار، وقوة الإيمان، فمن فعل ذلك فلا يناله هذا الشر، وإلا وقع فريسة له ولابد. وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، هذا بيان لمعنى شر الحاسد؛ لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل. وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (أن جبريل كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك)، فهذه استعاذة من شر عين الحاسد، ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها، يعني: عينه كجارحة لا تؤثر، بل الذي يؤثر هو نفسه وروحه الخبيثة، إذ لو نظر الحاسد إلى المحسود نظر لاهٍ ساهٍ غافل عنه، ولم يقصده، ولم يوجه نفسه الخبيثة إليه كما ينظر إلى الأرض أو إلى الجبل وغيره، فإنه لن يؤثر فيه شيئاً. وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة، كأن يحصل نوع من التفاعل في نفسه الخبيثة، واتسمت واحتدت واشتعلت فيها نار الحسد، فصارت نفساً غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة، فأثرت في المحسود تأثيراً بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد، والغلبة تكون حسب قوة هذا وضعف ذاك، فربما أعطبه وأهلكه كما سنرى في الأحاديث، وهذا بمنزلة من صوب سهماً -يعني: وجه سهماً- نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلاً، لكن لو أن هذا الرجل كان قد ارتدى درعاً سابغاً فلن يخترقه السهم، فهذا الدرع يحميه من هذا السهم، وهذا الدرع في قضيتنا هو الذكر والقرب من الله سبحانه وتعالى. وربما صرعه وأمرضه، والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر، فهذه العين إنما يكون تأثيرها بواسطة النفس والروح الخبيثة، وليس العين نفسها، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية من السم، فتؤثر في الملسوع إلى آخره. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نوعين من الحيات فقال: (اقتلوهما، فإنهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل). يعني: تأثير هاتين الحيتين بمجرد رؤية الإنسان إليهما فقط، فقد يطمسان بصره، ويسقطان الحبل، فالحمل يسقط بالرؤية فقط، وليس بممارسة مادية. إذاً: هذا تأثير النفس الخبيثة لهذه الحية، فإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها؟! يقول ابن القيم: فلله كم من قتيل! وكم من سليب! وكم من معافى عاد مضنىً على فراشه يقول طبيبه: لا أعلم داءه ما هو! فصدق. يعني: أن هذا الطبيب صادق؛ لأن هذا داء ليس من علم الطبائع، ولا يدخل في يد الطب هنا؛ لأنه شيء حسي واضح، وهذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها، ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع، وانفعال الأجسام عنها، وهذا علم لا يعرفه إلا الخواص من الناس، والمحجوبون ينكرونه. يقول: وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى. يعني: أن الجسد نفسه عبارة عن إنسان بروح وجسد، في قوانين تحكم الجسد، وهذه متروكة للأطباء، وأهل العلوم المادية، وهناك أشياء تحكمها المعرفة بالأرواح وبهذه الأمور الغيبية. يقول: هل الانفعال والتأثير -حدوث ما يحدث عنها -من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلا من الأرواح؟ يعني: هل الجسد نفسه يؤثر بشيء؟ فتخيل نفس الجسد وهو ميت ماذا يكون تأثيره؟ والأجسام عبارة عن آلة بمنزلة آلة الصانع، لكن المؤثر يكون الروح. فالصنعة في الحقيقة له، والآلات وسائط لوصول أثره إلى الصنع. يقول: ومن له أدنى فطنة وتأمل أحوال العالم، ولطفت روحه، وشاهد أحوال الأرواح وتأثيرها، وتحريكها الأجسام، وانفعالها عنها يرى من ذلك آيات عظيمة على ربوبية الله، ووحدانيته سبحانه وتعالى، ويوقن أن ثمَّ عالماً آخر تجري عليه أحكام أخر، تشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع، وأحسن كل شيء خلقه. ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر، وآياته أعجب. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: تأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح، كيف يصير بمنزلة الخشبة، أو القطعة من اللحم، فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل، وتلك الصنائع الغريبة، وتلك الأفعال العجيبة، وتلك الأفكار والتدبيرات؟ ذهبت كلها مع الروح، وبقي الهيكل سواء هو والتراب، هذه حقيقة ندركها جميعاً. فهل يخاطبك الإنسان أو يراك، أو يحبك أو يواليك، أو يعاديك، ويخف عليك ويثقل إلا بالروح؟ فإنك تجد بعض الناس فتشعر أنه خفيف، وتجد بعض الناس كأنه جبل فوق رأسك وهذا بتأثير الروح، فهذا شيء لا يخضع للقوانين المادية الحسية، لكن هذا عالم آخر له قوانين أخر، فالإنسان يؤنسك ويوحشك، وذلك بالأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر، فرب رجل عظيم الهيولى، كبير الجثة، خفيف على قلبك، حلو عندك، وآخر لطيف الخلقة، صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل؛ وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها، وكثافة هذا وغلظ روحه، ومرارتها. وبالجملة فالعلق -العلائق- والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي للأرواح أصلاً، وللأشباح -للأجسام- تبعاً. هذا كلام ابن القيم في إثبات تأثير الأرواح الخبيثة بالخير أو بالشر. وقال أيضاً في موضع آخر: لا يمكن لعاقل أن ينكر تأثير الأرواح في الأجسام فإنه أمر مشاهد محسوس، لو تثائب رجل بحضرتك ربما تثاءبت أنت، وربما تثاءب جميع الجالسين. يعني: هل هناك وصلة مادية معينة بين هذه الأجسام جعلتها تنقل إليها التثاؤب بهذه الطريقة؟ ليس إلا من تأثير نفس الكسلان، فحين تجالس الكسول ينتقل إليك هذا الكسل، فإذا تثاءب تجد نفسك ترغب أيضاً في أن تتثاءب، فهل هناك سلك نراه يوصل، أو أي وصلة مادية حسية أثرت هذا التأثير؟ هذا هو تأثير الأرواح على بعضها البعض. ويقول أيضاً: أنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه. يعني: فهل توجد وصلات مادية هي التي أثرت ذلك، أم أنه تأثير الروح؟ والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، بل التأثير قد يكون بالاتصال بفعل مباشر، فمثلاً: شخص خنق شخصاً هذا يؤثر باتصال مباشر بمباشرة الأذية، وتارة بالمقابلة، فيتأثر بمجرد أن يقابله وجهاً لوجه، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح بنحو تؤثر فيه، وتارة يأتي التأثير بالرقى، والتعويذ، والأدعية. فالعائن الحاسد لا يتوقف تأثير عينه على أن يرى الشيء الذي يحسده، فرب أعمى يوصف له الشيء فيحسده ويؤثر فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤيا. انتهى كلام الإمام ابن القيم في إثبات حقيقة الحسد بمعناه. يقول القرطبي: لا شبهة في تأثيره -أي: الحسد- في النفوس والأموال، وهذا قول عامة الأمة، ومذهب أهل السنة، وأنكره قوم مبتدعة، وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود. فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله سبحانه وتعالى.

الآيات التي ورد فيها ذكر الحسد لفظا أو معنى

الآيات التي ورد فيها ذكر الحسد لفظاً أو معنى والحسد ورد في القرآن وفي السنة، أما القرآن فوردت مادة حسد خمس مرات، فالموضع الأول: قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]، والمقصود من قوله: ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)) يعني: بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، أي: من نعمة الوحي، كما ذكرنا أن قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران:173] عام أريد به خاص، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي. الموضع الثاني: قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]. الموضع الثالث: قوله تعالى حاكياً عن المنافقين: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15]. الموضع الرابع: قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} [الفلق:5]. الموضوع الخامس: قوله تعالى: {إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]. فهذا من حيث اللفظ، أما من حيث المعنى فورد في آيات اختلف في تفسيرها، لكنها على بعض الأوجه تفيد إثبات الحسد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، فهذا حسد أيضاً على نعمة الإسلام. وقوله تعالى: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ))، هذا أيضاً تمني زوال النعمة عن المؤمنين. وفي قصة يوسف قال عز وجل: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:8 - 9] إلى آخر الآية. ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51]، أي: يحسدونك، ويعينوك بأبصارهم {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51]. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120]، فهذه شماتة، والحسد والشماتة يتلازمان. وكذلك من الآيات التي لها تعلق بالحسد: الآيات التي تنهى عن الحسد، مثل قوله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32]. وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، قالوا في تفسير قوله: ((بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) يعني: حسداً. وقال عز وجل: ((وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)) إلى قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا} [البقرة:90] أي: حسداً {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:90] ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32]. ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] قال بعض أهل التفسير: أراد من الجن إبليس، والإنس قابيل؛ لأن إبليس هو أول من سن الكفر، وقابيل أول من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد، فإبليس حسد آدم، وقابيل حسد أخاه هابيل، ولهذا يقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، يعني: معصية إبليس، وأول ذنب عصي الله به في الأرض، وهو حسد قابيل لـ هابيل. وأثنى الله على المؤمنين بترك الحسد فقال عز وجل: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] أي: لا تغيض صدورهم من نعمة الله على إخوانهم، ولا يغتمون، فأثنى عليهم لعدم اتصافهم بالحسد.

الأحاديث الواردة في إثبات الحسد

الأحاديث الواردة في إثبات الحسد ونختم بالأحاديث التي تثبت الحسد وكلها أحاديث صحيحة، ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيصيب أمتي داء الأمم، فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد؛ حتى يكون البغي). وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، يعني: أن الضرر الحاصل عن العين وجودي أكثري لا ينكره إلا معاند، فأمر العين مجرب محسوس، وهذا هو المقصود بقوله: (العين حق). وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق تستنزل الحالق) حديث حسن. والمقصود: أن الإصابة بالعين من جملة ما تحقق كونه ووجوده، وقوله: (تستنزل الحالق) أي: الجبل العالي. وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) فهذا ضرب المثل بما لا يقع؛ لأنه لا يسبق القدر شيء، فقوله: (ولو كان شيء سابق القدر) هذا مبالغة في التمثيل في تحقيق إصابة العين، يعني: كان شيء سابق القدر في إفناء شيء وزواله قبل أجله وأوانه المقدر، لسبقته العين، لكن العين لا تسبق القدر، وهذا مجرد مثل؛ حتى يبين حقيقة هذه الإصابة، وهذا الشر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) هذا الخطاب لمن يتهم بالعين، وسيأتي ذلك -إن شاء الله- في علاج الحسد والكلام فيه. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر). أي: يبلغ من تأثيرها أحياناً أنها قد تقتل الرجل فيدفن في القبر، بسبب هذا الحسد، يعني: إذا أصابت العين الجمل مات، أو أشرف على الموت فيذبحه مالكه، ليدركه قبل أن يموت، فيطبخ في القدر، فالمقصود: أنه يكون مصيره القدر في الحالة التي يطبخ فيها بسبب العين. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتولع الرجل بإذن الله)، وكما قلنا: هذا شر كسائر الشرور في الدنيا، مثل المرض، والسحر، ومثل أي نوع من أنواع الشرور التي تقع بإذن الله بأسباب تؤدي إليها وموانع تمنعها. يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتولع الرجل بإذن الله حتى يصعد حالقاً ثم يتردى منه) والحالق هو: الجبل العالي، ويتردى منه بفعل العين. وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إن ولد جعفر تسرع إليهم العين، أفأسترقي لهم؟ -يعني: أرقيهم؟ - فقال: نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من العين، فإن العين حق). وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة-يعني: تغير وسواد- فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة) يعني: أصابتها عين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت صبي يبكي فقال: ما لصبيكم هذا يبكي؟! فهلا استرقيتم له من العين؟). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على إنجاح الحوائج -يعني: الفوائد من جلب نفع أو دفع ضرر- بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود). فإن قيل: ما هي العلاقة بين هذا وبين قول الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]؟ ف A العلاقة أن الأمر بالكتمان هذا قبل حدوث النعمة، أو يتحدث بها إذا أمن الحسد. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين) حسنه الحافظ. وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق). وهذا الحديث فيه فائدة وهي: أن الإنسان ربما يحسد نفسه، وربما يحسد من لا يقصد أذيته من ماله أو ولده أو أخيه، فإذا رأى الإنسان ما يعجبه من نفسه أو ماله أو ولده أو إخوانه فليدع بالبركة (فإن العين حق) كما قال صلى الله عليه وسلم، فتقول إذا أعجبك شيء سواءً النفس أو المال أو الأولاد أو الإخوان: اللهم بارك فيه ولا تضره، فهذه رقية تمنع تأثير هذه العين، وكان في رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك). فهذه بعض الأحاديث التي وردت في إثبات الحسد من القرآن والسنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمتي لا تنحرف [1]

أمتي لا تنحرف [1] جاء الشرع الحنيف بالحث على الاستكثار من الذرية، والحث على تربيتها التربية الصالحة، فرغب في الزواج بالودود الولود؛ لما في ذلك من تحقيق هذا المطلب العظيم، وقد أدرك أعداء الإسلام أن كثرة المسلمين فيها عز للإسلام وأهله، فسعوا بكل الوسائل إلى تقليل نسل المسلمين؛ لإضعافهم والسيطرة عليهم بسهولة، في الوقت الذي يدعون فيه أبناء جنسهم إلى الإكثار من الإنجاب. ومن المؤسف اغترار كثير من المسلمين بهذه الدعاوى المضللة، فيجب الحذر من هذه الدعاوى والتحذير منها.

دعوى تحديد النسل والترويج لها في بلاد المسلمين

دعوى تحديد النسل والترويج لها في بلاد المسلمين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عند افتتاح الكلام -كما علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- بعبارة: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الكلمة نقولها أحياناً ونحن نفقد معناها! فينبغي عند دراسة أي قضية أو أي موضوع أن نستحضر هذه العبارة العظيمة: (خير الهُدى) أو (خير الهَدي) هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نحسن الرجوع إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وينبغي أن نتخلص ابتداءً من كل ما وصل إلى قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا من آثار دعاية الذين لا يبالون بحكم الشرع، ولا يرفعون به رأساً، اللهم إلا إذا وافق أهوائهم! وكذلك -حتى يكون البحث منصفاً وعلمياً- يجب أن نتحرر من الضغوط الواقعة التي نعيشها، والتي تلحّ على عقولنا كي تنحصر في مجرىً معين أُريدَ لها أن تنحصر فيه، فينبغي أن نفكر بحرية مطلقة عن قيود هذه الأزمات الطاحنة التي نعيشها جميعاً، ونبحث أولاً عن حكم الشرع، ثم ننظر بعد ذلك في الاستثناءات، أو ما يتغير حسب الأحوال، مثل: تنظيم الأسرة، أو تنظيم النسل، أو ضبط النسل، أو تحديد النسل، وكلها ألفاظ شبه مترادفة، ومؤداها كلها: (تقليل النسل) كما يقصد الذين يكتبون فيها، والذين يقومون بالعمل في تنفيذها والدعاية لها وترويجها؛ حيث يرددون أن النسل يتزايد ويتكاثر، وقد ضاقت الموارد الطبيعية، وأصبح ما تنتجه تلك الموارد لا يتكافأ مع الزيادة المستمرة في السكان بنسبة عالية! فالحل هو وقف ذلك النمو المتزايد في نظر القوم، وذلك بجعل النسل على قدر ما يجيء من الموارد الطبيعية، ذلك قولهم بأفواههم، وتلك مقالاتهم بأقلامهم، وتشارك في هذه الحملة للترويج لهذه الدعوى الكنسية جمعيات أُنشئت أصلاً لأغراض خيرية وبعض الرعايات الاجتماعية، وأصبحت توزع حبوب منع الحمل. ووسائل تقليل النسل تلاقي اهتماماً ودعاية صحفية على كل الأصعدة، سواء على منبر الإذاعة، أو التلفاز، أو الصحف؛ بدعوى قلة الموارد وتزايد السكان، وباسم جواز ذلك شرعاً، ولو أنهم تكلموا في هذه القضية بغير اسم الشرع لكان الأمر أهون، أما أن يتحكموا في الشرع بدل أن يتحاكموا إليه فهذا ما لا ينبغي. ففي إطار الكتاب والسنة نبحث هذه القضية، ونبحث عن حكم الشرع فيها، ونتأمل سوياً هذه الحقيقة وهذا المعنى القرآني الذي جعله الله عز وجل أحد مقاصد البعثة المحمدية بقوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]. فهذه هي سبيل المجرمين الذين يريدون بنا الشرّ، ويريدون أن يحطموا مقومات القوة في الأمة الإسلامية، فهل لهذا الموضوع صلة بقضية كشف سبيل المجرمين؟ نحن لا نستطيع أن ننكر أن هذا العصر هو عصر الدعاية وعصر الإعلام، حيث إن حفنة قليلة من الإعلاميين تتلون عقائدهم وأفكارهم بألوان شتى، لكنهم من خلال هذه المواقع الحساسة يستطيعون أن يصبغوا الأمور بالصبغة التي يريدون، وأن يلبسوا الحق بالباطل، ولهم في ذلك أساليب كثيرة لا نستطيع أن نتوسع الآن في ذكرها، لكن نشير إشارة عابرة إلى أنهم يدندنون دائماً حول أن الحل الوحيد لقلة الموارد هو (تحديد النسل). وهذا ليس هو الحل الوحيد، بل هناك حلول كثيرة واقعية، وهناك ثروات كامنة وعظيمة جداً سواء في بلادنا أو غيرها من بلاد المسلمين، ثم هم يتحكمون بطريقة التأثير على الناس عن طريق الأفلام أو التمثيليات أو القصص، وهذا يرجع إلى الخلفية الفكرية للشخص الذي يكتب هذه القصة، ويقوم على أمرها؛ لأنه يريد أن يخدم هدفاً معيناً، فهو يؤلف ويخترع، ويكذب ويختلق قصة معينة، مؤداها أن يصل إلى نتيجة معينة، وهي أن يبغّض الناس في الأولاد، وأن يفسد فيهم هذه الفطرة التي فطرهم الله عليها من حب الذرية، وحب الأبناء، وحب الكثرة العددية للذرية. وسنفصل في كثير من القضايا، سواء قضية تعدد الزوجات، أو قضية تحديد النسل، أو التشنيع على أحكام الإسلام في الطلاق، فهو يؤلف قصة معينة، ويستطيع أن يكذب كيفما يشاء؛ لأنه ليس عنده خوف من الله، فمثلاً: يؤلف قصة رجل كأنه صاحب لحية، ويصلي في المساجد -بحيث يربطه بالدين بصورة أو بأخرى- ثم يبين أن هذا الرجل فظ غليظ، وربما يظهر أن هذا الرجل في الحقيقة رجل فاجر! ليس كما يظهر، وهو يعامل نساءه وبناته بغلظة، وجفاء وجهل، إلى آخر هذه الأشياء المكذوبة! فهو الذي يرسم هذه الصورة من مخيلته، لكن المشاهد أو المستمع أو القارئ يكون -غالباً- مستسلماً للجهاز أو لهذه المشاهد فلا يفكر في المقاومة، ويأخذ الأمر بدون مبالاة، وكأنه نوع من التسلية، وما أُخذ بدون مبالاة يكون تأثيره أشد مما يؤخذ بمبالاة! ومع التراكم تستقر العقيدة الجديدة في قلوب الناس. وفي بعض الحالات تجد امرأة -مثلاً- تسأل عن نتيجة التحليل الذي قامت بإجرائه من أجل أن تعرف هل هي حامل أم لا؟ فتجد أن هذه المرأة إذا علمت أنها حملت فكأن مصيبة كبرى وقعت بها؛ نتيجة لما حصل من الفساد في الفطرة والانحراف فيها تجاه هذه المسلَّمة الفطرية. ومما يعتمدون عليه أيضاً: التهويل، فيذكرون أن سنة كذا سيحصل كذا، وبعد ثلاثين سنة لن يبقى كذا، وهذا كله تهويل. وجاءتهم هذه الساعة التي أهدتها إليهم الجهات الاستعمارية حتى ترن فوق رءوسهم، وتنبههم أن كل دقيقة أو كل ساعة ولد كذا مولود في مصر! حتى تخفف هذه الرهبة من قوة المسلمين العددية؛ لذا جاءوا بمسألة التهويل بالإحصائيات والتوقعات الكاذبة، وماذا يقوله الباحثون المغرضون منهم، كل هذه من الأساليب الخبيثة التي كثيراً ما خيبتها وقائع التاريخ في أمثلة كثيرة.

المنظم الحقيقي للنسل البشري

المنظم الحقيقي للنسل البشري وقبل أن نستمر في الموضوع نسأل: من هو المنظم الحقيقي للنسل البشري؟! A أمر النسل البشري متعلق بفعل من أفعال الربوبية، فالله تبارك وتعالى هو المنظم الحقيقي لأمور هذا الكون، وهو المدبر ولا مدبر غيره تبارك وتعالى، فكما أنه هو الذي خلق فهو الذي يرزق، سواء الأكل والطعام والشراب، أو رزق الذرية وما إلى ذلك. والله سبحانه وتعالى أوحى إلى عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] وقوله تبارك وتعالى في سورة الشورى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:5049 - ]. ولو فرضنا أن هذا الأمر وُكِل إلى الناس لصار الفساد العريض في هذه الأرض. إذاً: فالأمر لا يأتي بطريقة عشوائية، بل وراءه إرادة مدبرة، وقوة قاهرة، هي قوة الله تبارك وتعالى، فمن ذا الذي يستطيع أن ينظم هذا النسل في كل بقاع الأرض بتلك الطريقة المحكمة التي يقضي بها الله تبارك وتعالى؟! وقد زين لبعض الناس سوء عمله، فاقترح في يوم من الأيام أنه يجب معاقبة من يزيد على ثلاثة أولاد بحرمان الرابع ومن بعده من الرعاية الصحية والاجتماعية! وحرمانه من التعليم! إلى غير ذلك من هذا التهويل. فنقول لهم: هوّنوا على أنفسكم، فلستم أنتم الذين تقومون بأمر هذا العالم، فإن الذي خلق هو الذي رزق، وكما نؤمن أنه لا خالق إلا الله، فنؤمن أيضاً أنه لا رازق إلا الله تبارك وتعالى.

حقائق يغفلها من يدعو إلى تحديد النسل

حقائق يغفلها من يدعو إلى تحديد النسل وهؤلاء الذين يتحمسون لقضية تحديد النسل يغفلون أو يخبئون على الناس حقائق كثيرة، مثل: أنه بجانب معدل المواليد هناك معدل وفيات، فالناس لا يؤبدون على هذه الأرض، وإنما هناك في المقابل نقص من الجهة الأخرى يتم بطريقة لا ينظمها إلا الله تبارك وتعالى، وهي وجود معدل وفيات مقابل معدل المواليد، فالأرحام تدفع من جهة، والأرض تبلع من جهة أخرى، ففي الأمر صادر ووارد، وليس كما يصورون للناس. أيضاً من الحقائق العلمية: أن أمر النسل والإنجاب مهما ترك طليقاً على وجه الأرض، ومهما تهيأت له الحوافز والمرغبات في تكثيره، فإنه يظل واقفاً دون مرحلة الخطر الذي يهولون به، فالذين ينجبون من مجموع أي جيل، وتنمو ذريتهم، لا يزيدون في أحسن الأحوال الطبيعية على نصف هذا الجيل، فلو اعتبرنا الجيل خمسة وعشرين سنة، فلو افترضنا أن في خلال خمسة وعشرين سنة تكون جيل من الأجيال، فسنجد أن هذا الجيل ليس كله يتناسل أو يتوالد؛ لأن هناك عوامل مختلفة ترجع في جملتها إلى تقدير العزيز الحكيم الذي ينسق أمر هذه الخليقة، ويخضع لسننه دفعات الواصلين والواردين فوق هذا الكوكب الأرضي، لحساب متناسق دقيق لا يعلم سره العظيم إلا هو. ولو أن الإنسان أمعن النظر في سير الأجيال المتعاقبة، فسيجد أن كل جيل إنما يتكون من ذرية جزء ضئيل من الجيل الذي قبله؛ لأن جزءاً من الجيل الحالي يقدر -حسب ما قاله العلماء- بين الُخمسين والثلثين يهلك قبل الزواج، والباقون -وهم الذين قدّر لهم البقاء- ومقدارهم بين ثلاثة أخماس وثُلث يتزوجون، ثم من هؤلاء الذين يتزوجون سُبع أو ثُلث يهلك دون أن ينجب أولاداً، فالذين ينجبون لا يزيد مقدارهم في أحسن الأحوال على النصف من هذا الجيل، ثم هذه الذرية تخرج إلى الدنيا بقدرات متفاوتة، وملكات مختلفة، وأعمار محجوبة في علم الله عز وجل. وإذا نظرنا إلى هذا الأمر نظرة سطحية فسنجد أنه ربما يخضع لعوامل عشوائية لا تستهدف غاية، ولا تستند إلى حساب، لكن الأمر في حقيقته يدل على أن هذا مظهر دقيق من مظاهر التنسيق الظلي الذي أقامه الله تبارك وتعالى بين دفعات الوافدين والراحلين عن هذه الأرض، بل ومظهر دقيق لتوزيع الخبرات والملكات في المجتمعات الإنسانية. ووقائع التاريخ والأمم تبين أن هناك نتيجة معاكسة لما يهول به دائماً دعاة تحريف النهج. فمن ذلك مثلاً: اليابان التي لا تصل مساحتها ربع مساحة باكستان، ومع ذلك فإن 83% من مجموع مساحة اليابان لا يمكن استغلالها؛ لأن فيها سلاسل جبال النار، والمساحة الصالحة للاستغلال 8% فقط من مجموع مساحة اليابان!! ومع ذلك فقد حافظت اليابان على عدد سكانها الذين يزيدون على عدد سكان باكستان زيادة كبيرة! وارتفعت بنهضتها الاقتصادية إلى حيث تمكنت من منافسة الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى في عقر دارها! ولم يعقها عن ذلك تكاثف سكانها، وضيق رقعتها، بل عكس ذلك هو الصحيح، فمن المعلوم أن طوكيو من أشد مدن العالم ازدحاماً. ونفس الشيء حصل بالنسبة لألمانيا وإنجلترا أيضاً، حتى إنه في يوم من الأيام لما ازداد عدد سكان إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر انشغل المفكرون، وخافوا خوفاً شديداً، فقالوا: أيّ أرض يمكن أن تتسع لهذا العدد الضخم من السكان؟! فلم تلبث الدنيا إلا يسيراً حتى رأت بأم عينها أن السرعة التي ازدادت بها وسائل إنجلترا للرزق والعيش والإزدهار أكبر بعدّة أمثال من السرعة التي زاد بها عدد السكان! وتفسحت سبل العيش بصورة كبيرة جداً أمام الشعب البريطاني. وهذا رجل يدعى: (استير وليم كركس) رئيس الجمعية البريطانية، أنذر الناس بالويل والثبور سنة (1898م) حيث قال متحدياً: إن إنجلترا وسائر البلاد المتحضرة في الدنيا تواجه خطر الجدب وقلة القمح، وإن وسائل البقاء لن تسير مع حاجاتها أكثر من ثلاثين سنة! غير أن الذين رزقوا البقاء إلى مدة ثلاثين سنة بعد ذلك رأوا أن الدنيا ما نزلت بها نازلة كالتي كان قد أنذر بها رئيس الجمعية البريطانية، رغم التزايد الشديد للسكان، بل زادت محاصيل القمح خلال هذه السنين زيادة هددت السوق بالكساد حتى إن الأرجنتين وأمريكا أحرقتا لأجل ذلك كميات وافرة من قمحهما. وتعتبر سويسرا بلدة فقيرة من حيث الموارد الطبيعية، فالمفروض أنها بمقاييس هؤلاء لا تستوعب عدداً كبيراً من السكان، فليس فيها فحم ولا مناجم حديد، ولا أي معادن، وليست على البحر، وقسم كبير جداً من أراضيها جبلي، ولا جدوى منه في الإنتاج، ومع ذلك بلغت كثافة سكانها (136) نسمة في الكيلو المتر المربع. وبالنسبة لمصر، فإن معدل التوزيع السكاني على مساحة مصر: لكل كيلو متر مربع شخص واحد من الشعب المصري، أي: كل فرد له كيلو متر مربع!! ولو أجرينا هذا التوزيع السكاني على جميع أنحاء البلاد الإسلامية، فستتغير المقاييس بصورة أقوى؛ بسبب وجود المصادر الوفيرة لهذا الرزق.

تحديد النسل بين مقاصد الشريعة وآراء العقلانيين

تحديد النسل بين مقاصد الشريعة وآراء العقلانيين هناك أمر مهم جداً نحتاج إليه ونحن ندرس هذه المسألة، وهو أننا كثيراً ما نردد عبارة: المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فإذا تأملنا جميع ما احتوته الشريعة الإسلامية من أحكام، وافترضنا أن هذه الشريعة عبارة عن نهر عظيم، يصب في هذا النهر عدة ينابيع، وهذه الينابيع تتصرف إلى ستة ينابيع، وهذه الينابيع الستة بعد ذلك تتفرع فروعاً أصغر كما يحصل بالنسبة لشجرة الجزر، فهذه هي الفروع أو المصالح الخمسة الضرورية لبقاء أي أمة، والأمة الإسلامية مأمورة بحفظ ستة أشياء أساسية ضرورية: حفظ الدين، والنسل، والنفس، والعرض، والمال، والعقل. فإذا تأملت أي حكم من أحكام الشريعة الإسلامية فستجد أنه لن يخرج عن حفظ أحد هذه المقاصد الستة، ولو تأملنا كل أحكام الشريعة لوجدنا أنها تصب في حفظ الدين، فمثلاً: قتل المرتد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتحريض على الدعوة إلى الله عز وجل، كل هذه الأحكام تصب في المحافظة على دين المسلمين، وكذلك النسل، فإن كثيراً من الأحكام إنما شرعت لأجل حفظ النسل والعرض. وأحياناً نجد بعض الأحكام قد تبدو لأول وهلة في نظر الناس أنها أشياء يسيرة، لكنا نجدها باجتماعها إلى أسباب أخرى تؤدي في النهاية إلى حفظ عرض المسلمين، فمثلاً: مسألة تحريم كل ما يؤدي إلى الفاحشة، كتحريم الخلوة، وتحريم الاختلاط، وتحريم سفر المرأة بدون محرم، وغير ذلك تجد أن هذه الأحكام كلها تصب في قضية مهمة، وهي المحافظة على العرض. وكذلك المحافظة على العقل، فتحريم المسكرات، وتحريم كل ما يذهب عقل الإنسان، هذه كلها تصب في هذا الجانب. وكذلك الحفاظ على المال. ومما يلحق بذلك ما نحن بصدده الآن من هذه المقاصد الستة: المحافظة على النسل، فإنه من المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية. وفي بعض الدول إذا حاولت بعض الحركات أو الأحزاب عمل انقلابات على الحكومة، أو الطعن في نظمها، فإن فاعل ذلك يحاكم؛ لأنه يتآمر من أجل تغيير النواة الأساسية للمجتمع، أو الأهداف الأساسية للأمة، وهي عندهم جريمة كبرى، وهذا كذلك بالنسبة للمسلمين الذين دينهم هو جنسيتهم وعقيدتهم ووطنيتهم، فإن الحفاظ على هذه الأشياء الستة عندهم أمر مقدس، ولا يسمح أبداً أن تسير أي دعوة في اتجاه مضاد لها؛ لضرورة المحافظة على هذه الأصول أو هذه المصالح الست، فلا يمكن أن يسمح أبداً بأي دعوة أو نظام داخل الدولة الإسلامية من شأنه أن يزين ما قبحه الشرع، أو يقبح وينفر مما حرض عليه الشرع، ففي قضية الحفاظ على النسل نجد أن كل أحكام الشريعة الإسلامية وكل نصوص الشرع تحرض على زيادة النسل، وترغب فيه بشتى الوسائل، وتتنوع أساليبها في ذلك تنوعاً كبيراً. وحينما نتكلم عن النسل فلن نقتصر فقط على الكثرة العددية والتوالد، لكن كلمة (النسل) أو (المحافظة على النسل) في الإسلام لها معان أبعد من ذلك، فإنها لا تقتصر فقط على الزيادة العددية، وإنما تشمل أيضاً الحفاظ على علاقات الترابط، وصلات القربى والأرحام، كالأبوّة، والبنوّة، والأخوّة، والأمومة، والخئولة، والعمومة، فهذه الروابط توجد نوعاً من المصالح والتعاطف والتراحم بين هذه المجموعات التي تنتهي بعائلة صغيرة، ثم العائلة الكبيرة، ثم القبيلة، ثم الشعب، ثم الأمة. أيضاً: مما شرع من أجل خدمة هذه الأهداف: الترغيب في الزواج، والترغيب في الإكثار من النسل، وقد شرع الله عز وجل عقوبة الزاني وعقوبة القاذف أيضاً من أجل المحافظة على النسل، وتنوعت أساليب القرآن الكريم من أجل الترغيب في زيادة النسل، وكما ذكرنا أن (المحافظة على النسل) أحد المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية، والتي لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يقدح فيها أحد، أو يعارضها، أو ينفر منها، أو يسير في اتجاه يضادها، فإذا أردنا أن نحتكم مع المخالفين فسنقول: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه مسألة يختلف فيها كثير من الناس، والله عز وجل يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59].

أساليب القرآن في الترغيب في كثرة النسل

أساليب القرآن في الترغيب في كثرة النسل نقول لكل مسلم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، ونحن نعلم بأن المنافقين سوف يصدون عن هذه الدعوة صدوداً، فمن أساليب القرآن الذي أنزله الله عز وجل في الترغيب في كثرة النسل:

بيان القرآن أن الأولاد نعمة من الله على عباده

بيان القرآن أن الأولاد نعمة من الله على عباده من أساليب القرآن في ذلك أيضاً: بيان أن الأولاد هم هبة الله عز وجل وإحسانه إلى عباده، وهبة الله لاشك أنها تكون خيراً ونعمة، يقول تبارك وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام:84]، ويقول عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]؛ لأنه كان يدعو من قبل: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، وقال الله عز وجل: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]. وقال عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء:90]، أي: لزكريا، وقال في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، وقال تبارك وتعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} [ص:30]، وقال عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49] فالذرية هبة وإحسان، وليست نقمة، كما أشيع الآن عند كثير من الناس، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ}، أي: ينوّعهم {ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:50]. قال البيضاوي في علّة تقديم النساء هنا: لعل تقديم الإناث لأنها أكثر لتكثير الناس. أي: من الممكن أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة، وليس العكس، وبالتالي يكثر النسل.

بيان القرآن أن كثرة النسل سبب البقاء وقلة النسل سبب الفناء

بيان القرآن أن كثرة النسل سبب البقاء وقلة النسل سبب الفناء بيّن الله عز وجل في القرآن أن كثرة النسل سبيل للبقاء، وأن تقليل النسل سبب للفناء، وأن الأول نعمة، والثاني نقمة ومحنة، يقول تبارك وتعالى في سياق الامتنان على بني إسرائيل: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49]. ثم فصّل وبيّن ما هو سوء العذاب: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49]. يقول رشيد رضا رحمه الله: اصطف المصريون -يعني: الفراعنة- على استغلال الإسرائيليين، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء نسائهم، فأمر فرعون القوابل بأن يقتلن كل ذكر لبني إسرائيل عند ولادته؛ لأن من سنة الله في الخلق أن قوام الشعوب والقبائل وحفظ الأجناس إنما يكون بالذكور، فلم تأت هذه بنتيجة، فحينئذٍ أمر بأن يذبح الأبناء الذكور؛ حتى ينقرضوا ويفنوا، ويستحيا النساء؛ حتى يتخذ منهن إماءً يذلهن بالاسترقاق، ويتخذ منهن خادمات. ثم قال تبارك وتعالى: ((وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)). وهذه الآية لها تفسيران: التفسير الأول: قد تكون الإشارة إلى (البلاء) بمعنى: الإنجاء، أي: من البلاء الحسن الذي أعطاه الله إياك، فأبلى الله لكم هذا البلاء الحسن، ونجاكم من آل فرعون ومن هذا العذاب، فالمقصود بكلمة: (بلاء) على هذا التفسير: أي: أنه اختبار بالنعمة التي تستوجب الشكر. التفسير الثاني: أي: في ذلكم التذبيح للذكور والإبقاء على النساء بلاء، أي: محنة واختبار لكم من ربكم عظيم. ويقول تبارك وتعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]. هذا كلام قاله فرعون لأنه يعتقد أن موسى إنما يمكنه من الإفساد هم الرهط والشيعة وتكاثر بني إسرائيل، فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته، وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل، ونستحيي نسائهم، قال: (سنقّتل أبنائهم)، و (نقّتل) بصيغة التشديد فيها مبالغة؛ حيث تشير إلى الاستمرار، فكلما تناسلوا كلّما سارع بقتلهم؛ حتى يؤدي ذلك إلى نقصهم وضعفهم وهلاكهم وفنائهم. وقوله: (ونستحيي نسائهم) أي: لخدمتنا، ونذلهن بالاسترقاق، وقال عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]. أي: علا في مصر، (وجعل أهلها شيعاً) حيث قسم أهل مصر إلى طبقتين: سادة، وعبيد، فكان الأقباط هم السادة، وبنو إسرائيل كانوا هم العبيد، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4] وهم بني إسرائيل، {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، هذا هو الأسلوب الأول الذي سلكه القرآن في بيان نعمة النسل، ونقمة تقليل النسل.

بيان القرآن أن الإنجاب أعظم مقصد من مقاصد النكاح

بيان القرآن أن الإنجاب أعظم مقصد من مقاصد النكاح من الأساليب التي ذكرها القرآن: بيان أن الإنجاب وحفظ النوع هو مقصد أعظم من مقاصد النكاح، كما قال تبارك وتعالى: ((فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ))، أي: بعدما منع الرجال أن يقربوا نسائهم في الصيام، ثم نسخ ذلك بالليل فقال تبارك وتعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187]، وهذه كناية عن الوقت، واقصدوا مع ذلك تحصيل الذرية لا محض الشهوة التي تشارككم فيها البهائم، فلا بد أن يستحضر الرجل نية أن يحصل بالنكاح ذرية طيبة وصالحة، فهذا هو المقصود بقوله: (وابتغوا ما كتب الله لكم) أي: من الذرية، فاسلكوا الأسباب حتى تحصلوا بها الذرية. ويقول تبارك وتعالى في شأن النساء: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ} [البقرة:222 - 223]. فقوله تعالى: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله)، في الآية دلالة على اجتناب النساء في المحيض؛ لأن هذا ليس وقت الحرث والحمل، إضافة إلى ما يكون في ذلك من الأذى، فهذه الآية تتضمن إشارة إلى أن المحيض لا يكون وقتاً لطلب الولد وطلب الحرث، ولا يتأتى الحمل في أثنائه، وهناك مَثَل في الطب يقول: إن دم الحيض هو الدموع التي يبكيها الرحم بسبب عدم الحمل! وهذا التعبير قريب جداً إلى الفطرة، فهو تشبيه للحيض بأنه دموع الرحم وهو يبكي؛ لعدم حصول الحمل، فكأن هذه هي الفطرة. يقول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، ثم قال عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223] إرشاد إلى ازدراع الذرية فيهن. والحقيقة أن هذا تعبير دقيق جداً؛ لأن الذي يحصل في نمو الجنين داخل الرحم هو بالضبط مثل الذي يحصل من الزرع في الأرض، فكما أن البذرة تتجه بجذورها إلى داخل التربة، وتتشعب فيها، وتضرب أعماقها! كذلك يحصل لهذا الزرع في جدار الرحم، فهو حرث وزرع كما وصفه الله بمنتهى الدقة بقوله: (نساؤكم حرث لكم) فشبه النطف بالبذور، وشبه الأرحام بالأرض، والثمرة في هذه الحالة تكون هي الولد. وقوله: (فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم)، يقول مفتي مصر الدكتور سيّد طنطاوي في التفسير الوسيط: وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل، ويشير إلى ذلك قوله: (نساؤكم حرث لكم) إذ من شأن الحرث الصلاح للإنتاج، وقوله تعالى: (وقدموا لأنفسكم) أي: أقصدوا بالزواج ما تقدمونه لمستقبلكم مما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وأنفع شيء هو الولد الصالح.

أساليب السنة النبوية في الترغيب في كثرة النسل

أساليب السنة النبوية في الترغيب في كثرة النسل كذلك سلكت السنة المطهرة نفس المسلك القرآني في الترغيب في زيادة النسل والمحافظة عليه، والتنفير عما يضاده.

التنبيه إلى أن طلب الولد من أعظم مقاصد النكاح

التنبيه إلى أن طلب الولد من أعظم مقاصد النكاح ذكرنا آنفاً في القضاء والقدر أن الله يعلم كل شيء، فهو يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال عليه السلام: (والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) وقال صلى الله عليه وآله وسلم لـ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لمّا تزوج: (إذا قدمت فالكيس الكيس) أي: يرشده إلى طلب الولد، وقد حثّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تزوج الولود، كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة). فيا ليت أصحاب مكاتب أسرة المستقبل المظلم إذا استمروا على هذا الحال يعلقون هذا الحديث بدل أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جاهدوا البلاء)، فكيف تعتبرون مثل هذه الأحاديث المكذوبة التي لا أصل لها وتخفون مثل هذه النصوص المشرقة التي تنطق بكذبكم في دعواكم؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) فهذا الحديث لا يحتمل التأويل، ويُعرف متى تكون المرأة ولوداً إذا كانت بكراً بالنظر في أقاربها، مثل أمها وقرابتها، وإذا كانت ثيباً فتعرف إذا كانت أنجبت من قبل أم لا. أيضاً: بيّن صلى الله عليه وآله وسلم أن الولد قرة عين والديه، وأنه نعمة كبرى يجب شكرها، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم للنساء: (إياكن وكفران المنعمين! قالت إحداهن: أعوذ بالله يا نبي الله من كفران الله. قال: بلى، إن إحداكن تطول أيمتها). أي: تطول فترة مكثها عند أبيها؛ لتأخرها في الزواج، قال: (إن إحداكن تطول أيمتها، ويطول تعنيسها، ثم يزوجها الله البعل ويفيدها الولد وقرة العين، ثم تغضب الغضبة -أي: من زوجها- فتقسم بالله ما رأت منه ساعة خير قط! فذلك كفران نعم الله عز وجل، وذلك من كفران المنعمين). الشاهد هنا قوله: (ويفيدها الولد وقرة العين) في سياق الامتنان عليها بهذه النعمة. وقد رغّب السلف في كثرة الولد والإنجاب بنيّة أخرى قد يعجب لها الذين لا يفقهون التجارة مع الله عز وجل والعمل الصالح، قال عليه الصلاة والسلام: (صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه على باب الجنة، فيأخذ بصنفة إزاره كما آخذُ بصنفة إزارك هذا فلا ينتهي حتى يدخل الجنة). {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، فصغار المسلمين دعاميص الجنة، والدعموص: الحيوان الصغير أبو ذنيبة يكون في الماء، وهي الزوارب الصغيرة التي تتحرك كثيراً في الماء، وتملأ أحواض الماء أحياناً. فيأتي أحدهم يوم القيامة، ويقف على باب الجنة، حتى إذا جاء أبوه يأخذ بصنفة إزاره، أي: طرف ثوبه، ويمسك به فيجرّه، فلا ينتهي حتى يدخله الجنة، فكان بعض السلف يستدلون بهذا على استحباب الزواج لتحصيل الأولاد عسى أن ينال أحدهم هذا الثواب؛ ففي ذلك خير عظيم. والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلّم النساء، فقال: (ما من امرأة قدمت من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجاباً من النار) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فقالت امرأة: (واثنين؟ قال: واثنين). فالشاهد: أن المرأة إذا مات في حياتها ثلاثة من ولدها وصبرت على ذلك فهؤلاء الثلاثة يكونون حجاباً لها من النار، ويكونون حجاباً للوالد أيضاً، فهذا كله مما يتفطن إليه الذين يفقهون كيف يتاجرون مع الله عز وجل بالعمل الصالح، ومن ينوي أن يأتي بأولاد لعل بعضهم يموت في حياته، فإنه سينال هذا الأجر العظيم في الآخرة إن شاء الله.

الحث على التزوج والإنجاب

الحث على التزوج والإنجاب قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وأهل النار خمسة)، فذكر منهم: (الضعيف الذي لا زبر له -أي: لا عقل له- الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلاً ولا مالاً) فهو ضعيف ليس له همة، ولا يريد أن يتحمل المسئولية، فكونهم لا يبغون أهلاً ولا مالا هذا ضعف منهم، كما جاء عن بعض السلف -ولعلّه عمر رضي الله عنه- أنه قال لبعض من لم يتزوج: (ما يمنعك من الزواج إلا عجز أو فجور). فهو من أجل أن يحض الرجل على التزوج خاطبه بهذا الكلام. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق للأجل إلا عشرة أيام أعلم أني أموت بعدها ولي طَول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة). وجاء عن أنس رضي الله عنه في حديث الرهط الثلاثة الذين أتوا بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالّوها، وقالوا: (وأينّا مثل رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فغضب لهذه المقالات، وقال كلمته المشهورة: (إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). فانظر إلى الشدة مع غير أهل المعاصي، فإنه كان يعامل أهل المعاصي بلطف ورحمة وترفق، أما أهل البدع الذين يسنون طرقاً محدثة فكان ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام أشد الإنكار. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء). وعن سعيد بن جبير رحمه الله قال: قالي لي ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن يخرج وجهي -أي: قبل أن تنبت لحيته-: (هل تزوجت؟ فقلت: لا. قال: تزوج؛ فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء). رواه البخاري. فهذه المحاورة كانت في مقتبل عمره، وفي قول ابن عباس: (خير هذه الأمة) يحتمل أمرين: الأول: أنه يقصد خير إنسان في هذه الأمة، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج وأكثر من النساء، وكأنما قيّد بكلمة: (هذه الأمة) إشارة إلى أن هذا الظل يشمل سائر الأمة، حيث أبيح له عليه الصلاة والسلام أن يزيد على أربع، وقيد بهذا القيد: (خير هذه الأمة) لأن من الأمم السابقة من الأنبياء من تزوج أكثر من ذلك، كداود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما جاء عن سليمان عليه السلام أنه قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله) فانظر إلى النية؛ وهذه الأمة أمة مجاهدة، خلقت لتطلب الموت كما يطلب أعداؤها الحياة، فهي أمة ينبغي أن تكون دائماً في حالة استنفار وفي حالة خروج إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فقال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو على تسع وتسعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) رواه البخاري.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل والاختصاء

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل والاختصاء نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التبتل والاختصاء، فعن سعد رضي الله عنه قال: (أراد عثمان بن مظعون رضي الله عنه أن يتبتّل -أي: يمتنع من الزواج ويتفرغ للعبادة- فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا). رواه مسلم. قال ابن مظعون أيضاً في رواية أخرى: (يا رسول الله! ائذن لي في الاختصاء. فقال: إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحاء). وعن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا شيء) أي: ليس لنا ما نتزوج به (فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك) رواه البخاري. فبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن العلاج بأن يبادر كل إنسان إلى النكاح، فإن عجز عن الباءة فليبادر إلى الصيام والأخذ بأسباب تقليل الشهوة، أما الجنوح في مثل هذا العناء الذي نلقاه إلى الاختصاء وتغيير خلق الله، فهذا مجرد انفعال بظروف مؤقتة سرعان ما تزول، فلنلتزم بقول الله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]. والاختصاء فيه تعذيب للنفس، وفيه إبطال لمعنى الرجولية، وفيه تغيير لخلق الله، وفيه الكفر بنعمة الرجولة، وفيه اختيار النقص على الكمال، وفيه أيضاً قطع النسل، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ودخل سعد بن هشام على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال: إني أريد أن أسألك عن التبتل، فما ترين فيه؟ قالت: فلا تفعل، أما سمعت الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]؟ وفي رواية أنها قالت له: لا تفعل، أما تقرأ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]؟ فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ولد له. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا صرورة في الإسلام). قيل: الصرورة: هو الشخص الذي وجد سعة وقدرة على الحج ولم يحج. فلا يحتمل أن يكون في المسلمين رجل يقدر على الحج ثم يقصّر في ذلك، فهذا الفعل لا ينبغي أن يكون من المسلمين. الاحتمال الثاني: أن المقصود بالصرورة: الرجل القادر على مؤن النكاح ولم يتزوج، لا لعذر ولكن كرهبانية النصارى، فيكون معناه: لا تبتّل في الإسلام.

حال الصحابة في الاستكثار من الأولاد

حال الصحابة في الاستكثار من الأولاد الدعوة الصريحة إلى كثرة النسل معروفة في السنة المطهرة، وكذلك في سير الصحابة رضي الله عنهم، فعن أنس رضي الله عنه قال: (قالت أمي: يا رسول الله! خادمك أنس، ادع الله له؟ فقال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته)، رواه البخاري. فبورك لـ أنس رضي الله عنه في ولده حتى رأى مائة ولد من صلبه قبل أن يموت. وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أيضاً رأى مائة من صلبه قبل أن يموت، وكما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ أبي طلحة لما مات ابنه، فقال له: (لعل الله يبارك لكما في ليلتكما، فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن)، رواه البخاري ومسلم. وعن أسماء رضي الله عنها: (أنها حملت بـ عبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متمّ -أي: على وشك الولادة- فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته، ثم دعا بتمرة، فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام -أي: بعد الهجرة- ففرحوا به فرحاً شديداً) أي: فرح جميع المسلمين في المدينة به فرحاً شديداً؛ لأن عدد الموحدين زاد واحداً، وعدد جنود الله زاد جندياً، ولو أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أرادت التحديد في النسل، ولم تنجب عبد الله بن الزبير، فكم كان سيفقد التاريخ الإسلامي تلك الأمجاد التي أسسها عبد الله بن الزبير؟ وكم كنا سنحرم معشر المسلمين من هذه البركات التي قدّمها ابن الزبير؟ وانظر إلى صلاح الدين الأيوبي أو ابن سامية أو محمد بن عبد الوهاب أو الأئمة الأربعة أو غيرهم من هؤلاء الأعلام والعباقرة الذين تصدروا مجالات الجهاد والعلم والعمل والعبادة وغير ذلك، ولو اتخذت أمهاتهم هذه السبيل الشيطانية الكنسية فكم كانت ستحرم الأمة؟! ونحن نحرم الآن -بسبب هذه السياسة الشيطانية الكنسية- من كثير من العباقرة، لعله يكون في أحدهم مخرج للأمة مما هي فيه من الضياع. فانظر كيف فرح المسلمون بمولد ابن الزبير وهم لا يعلمون الغيب؟ وإنما كان فرحهم لمولد مسلم موحد، وهو أول مولود ولد بعد الهجرة، فلماذا فرحوا به فرحاً شديداً؟ وما سرّ هذا الفرح؟ لأنه قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم! رواه البخاري ولأنهم كانوا يعلمون حرص اليهود على تقليل نسل المسلمين، كما يحصل الآن، فالدول الأوروبية والغربية -وبالذات الشيطان أمريكا- تضغط بكل ثقلها حتى تضعف وتنقص عدد المسلمين، وتقلل عدد الموحدين، في نفس الوقت تجد التكثير الهائل لعدد اليهود لعنهم الله، ففي فلسطين المسروقة تجد أنهم يجتمعون من كل أنحاء الأرض: من روسيا من الهند من شتى بقاع الأرض، يجتمعون إلى ما يسمونه (أرض الميعاد) ويسلكون كل وسيلة من أجل تكثير نسلهم، أما عند المسلمين فيكون الأمر بالعكس، كما ترون. وفي رواية ابن سعد قال: (فلما ولد عبد الله بن الزبير كبر المسلمون تكبيرة واحدة حتى ارتجت المدينة تكبيراً) يعني: لميلاد ابن الزبير رضي الله عنهما. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم زدنا ولا تنقصنا). وطلب الزيادة يشمل أي زيادة عددية أو نوعية؛ لأن الكثرة التي هي كغثاء السيل لا شأن لها، ولا قيمة لها، وإنما المقصود: أن يكثر النسل ويحصل اهتمام بتربيته وتوعيته وإعداده ليكون جندياً في سبيل الله تبارك وتعالى، فقوله: (اللهم زدنا) أي: زدنا من كل خير، ومن أعظم الخير: الذرية. وقد بين القرآن أن نقصان الأنفس مصيبة وبلاء، يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]. وفسّر بعض العلماء الأنفس: بأنها هي أنفس المقاتلين والمجاهدين، والثمرات فسّروها بأنها: الذرية والأولاد. والصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم تفاعلوا مع هذه التوجيهات الإلهية والنبوية أعظم التفاعل، وعملوا بها، فكان منهم أولاد كثيرون رضي الله عنهم، فمثلاً: خالد بن الوليد رضي الله عنه كان له عدة زوجات، وأنجب أكثر من أربعين ولداً، منهم: سليمان، وعبد الرحمن، والمهاجر، وهؤلاء هم الذين بقوا من أولاده بعد أن مات من أولاده نحو أربعين في سنة الطاعون بمدينة حمص بالشام. وكان للأقرع بن حابس عشرة من الولد، بلغوا مبلغ الرجال في حياته، واشتركوا معه في جهاد الروم تحت راية خالد بن الوليد، واستشهدوا جميعاً معه في موقعة اليرموك. وكان للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عشرة من الولد أيضاً، أصغرهم: تمام، وكان العباس رضي الله عنه يقول: تموا بـ تمام فصاروا عشرة وكان لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدة أولاد، منهم: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وعاصم، وزيد، ورقية من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، فإن علياً رضي الله عنه زوّج ابنته أم كلثوم من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فتباً للشيعة الذين يُكفّرون أمير المؤمنين عمر، ويزعمون أن العداوة قائمة بين هؤلاء الأصحاب! وكذلك عبد الله بن عمر كان له عدة أولاد بلغوا مبلغ العلم والرواية، منهم: عبد الله، وعبيد الله، وسالم، وبلال، وزيد، وحمزة سوى ما له من الإناث.

العزل وحكمه في الشريعة الإسلامية

العزل وحكمه في الشريعة الإسلامية ونقترب أكثر من الموضوع، ونناقش حكم وسيلة من وسائل منع الحمل كانت معروفة عند الرعيل الأول، والأدلة التي وردت في هذه الوسيلة، ومن المعروف أن الجاهليين في الأصل كانوا يسلكون هذا المسلك في التخلص من الأولاد خوف الفقر بعدّة أساليب، منها: قتل الأولاد بوأدهم، سواء الذكور أو الإناث، فكانوا أحياناً يقتلون الذكور والإناث خوف الفقر. وأيضاً من الوسائل الأولى التي كانت عندهم ما وصل إليه العصر الحديث من أساليب تحديد النسل، وأغلب من يتكلم في قضية حكم تحديد النسل يتكلم في حكم العزل، على اعتبار أنه كان الوسيلة المتاحة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الحمل. وعند الكلام عن حكم العزل لا بد أن ننتبه إلى أننا نناقش حكمه بالنسبة للأفراد، ولا نناقش حكمه بالنسبة للأمة في مجموعها، وإلا فالأمة في مجموعها لا يجوز لها الترغيب في تقليل النسل بصورة كلّية، كما تبث لها الأجهزة الإعلامية الآن، حتى تضاد المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والتي منها: تكثير النسل. إذاً: فكلامنا عن حكم العزل بالنسبة لآحاد الناس عند حصول ظروف خاصة، فنبين حكم هذه الرخصة على التفصيل الذي نذكره إن شاء الله تعالى، وما عدا ذلك من الوسائل فيقاس على وسيلة العزل، وإن كان العزل في الحقيقة فيه كثير من الأضرار، فإذا وجدت وسيلة ليست فيها هذه الأضرار فتكون أفضل من العزل من باب أولى، ولكن في الواقع أن كل الوسائل تقريباً لها أضرارها ومخاطرها، ولا توجد -بإقرار الأطباء- وسيلة مثالية لتحديد أو منع الحمل مطلقاً؛ لأنه ضد الفطرة. أما أهم الأحاديث التي وردت في العزل فحديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل). متفق عليه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصبنا سبياً فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوَإنكم لتفعلون؟ قالها ثلاثاً، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة). رواه البخاري ومسلم. وروى مسلم عن أبي سعيد أيضاً قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فأطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نفعل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا لا نسأله؟! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نَسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون). وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: (لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر). وفي الحديث أيضاً: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لكان منه الولد، وليخلقن الله نفساً هو خالقها). وروى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟! -ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها). وروى مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا -أي: التي تسقي لنا- وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل)، لأنهم كانوا يكرهون حمل الإماء؛ لأنها إذا صارت أم ولد فلا بد أن تبقى معه بقاءً دائماً، وأحياناً ربما فعل الصحابة ذلك خشية أن يقع ضرر بالرضيع إذا حدث الحمل أثناء الرضاعة. يقول هذا الرجل: (إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: أعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل، ثم أتاه، فقال: إن الجارية قد حملت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها). وروى مسلم وغيره عن جذامة بنت وهب -أخت عكاشة - حديثاً طويلاً، جاء فيه: أنهم سألوه صلى الله عليه وآله وسلم عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذلك الوأد الخفي، ذلك الوأد الخفي). وعن جابر رضي الله عنه قال: كانت لنا جوارٍ وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: (كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده). فعموم هذه الأحاديث ما عدا حديث جذامة بنت وهب يفيد جواز العزل عن المرأة؛ اتقاء الحمل، وإن كانت لا تخلو من الدلالة على كراهة هذا الفعل، فقول جابر في الحديث الأول: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنهم يعزلون، وأنه كان يقرهم على ذلك، وإلا فما معنى قوله: (ونحن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ فلو كان حراماً لم يسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا التعبير يعتبره العلماء في حكم الحديث المرفوع حتى ولو لم يضف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنه هنا قد أضيف. وأما الحديث الثاني الذي فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أو إنكم لتفعلون؟)، فهذا يحتمل أنه استنكار على وجه كراهة العزل، ويحتمل أن الاستنكار على وجه التحريم. كذلك قوله في الحديث الثالث والرابع: (لا عليكم ألا تفعلوا) يحتمل أنه إذن، ويحتمل أنه نهي، فيحتمل أن يكون معنى الجملة: ليس عليكم أن تتركوا ذلك، ويحتمل أن يكون: لا تعزلوا، وعليكم ألا تفعلوا ذلك، إلا أن الحديث الثالث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (اعزل عنها إن شئت) قد رفع أحد الاحتمالات، فبقيت الجملة الأولى دالة على الكراهة، وأما الجملة الثانية فدلت على الإذن وعدم الحرج. فهذه سبعة أحاديث من المجموع الذي سردناه تدل على جواز العزل من حيث المبدأ، بقطع النظر عن الإباحة أو الكراهة، والحديث الذي يدل بظاهره على المنع هو حديث جذامة بنت وهب فقط، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سألوه عن العزل: (ذلك الوأد الخفي)، فكيف نوفق بين حديث جذامة هذا وبين الأحاديث الأخرى؟ لقد سلك العلماء في ذلك عدة مسالك، أرجحها ما ذكره الإمام النووي في شرح مسلم حيث قال: ويفهم من كلام الطحاوي في شرح معاني الآثار أن حديث جذامة هذا يحمل النهي فيه على كراهة التنزيه، ويحمل الإذن الوارد في الأحاديث الأخرى على عدم الحرمة، فيكون القدر المشترك في دلالة الأحاديث المختلفة كلها هو كراهة التنزيه. فهذا هو الترجيح الذي اعتمده النووي والطحاوي كما حكى ذلك عنه وابن حجر، وجماهير الفقهاء والمحدثين. وقد ضعف بعض العلماء حديث جذامة؛ بسبب كثرة الأحاديث الصحيحة المعارضة له، وبعض العلماء قالوا: إن حديث جذامة مضمونه المنع، وهذا المنع كان معمولاً به، ثم نسخ فيما بعد بالأحاديث الدالة على الجواز. وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: إن حديث جذامة هو الذي يجب العمل به؛ لثبوته في الصحيح، ولاضطراب طرق الأحاديث الواردة في مقابلته، ولأن حديث جذامة دال على المنع، والأحاديث الأخرى دالة على الإباحة، وعند التعارض يقدم الحاظر على المبيح، وسواء جاء كلام الإمام ابن حزم أو من قبله بدعوى النسخ أولم يجئ؛ فإن ادعاء حصول النسخ بدون توفر شروط النسخ غير مقبول، والله أعلم. فخلاصة الكلام: أن في هذا الأمر كراهة تنزيه، وأن الأولى عدم فعل العزل، وقد ذهب الأئمة الأربعة بناءً على هذه الأحاديث إلى جواز عزل الرجل ماءه عن زوجته، مع الكراهة التنزيهية، واتفق الإمام مالك وأحمد وأبو حنيفة على أن ذلك مشروط برضا الزوجة، واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من وافق الجمهور في هذا الشرط، ومنهم من خالفه فأجازه بدون ذلك. وخلاصة الكلام في هذا: أن الأئمة الأربعة متفقون على جواز العزل مع الكراهة التنزيهية عن الزوجة إذا كان ذلك برضاها، فإن لم يكن برضا منها فالأئمة الثلاثة متفقون على التحريم، وللشافعية في ذلك وجهان، رجح الإمام النووي منهما عدم التحريم، وفي الحديث: (نهى أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها) وهذا يقوّي ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط رضا الزوجة، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) فللزوجة حق في الولد كما للزوج حق في ذلك، فلا ينبغي له تفويت حقها بدون إذنها، بجانب أن العزل إذا لم يكن بإذنها فإن فيه مضار طبية وصحية، فلا ينبغي أن يكرهها على ذلك. وأيضاً حتى يباح العزل يشترط ألا يكون فيه ضرر للزوج أو الزوجة، فإذا نشأ عن العزل ضرر بهما أو بأحدهما وعلم ذلك بشهادة طبيب موثوق حرم العزل، سواء توفر رضا الزوجة أم لا؛ إذ الشرع لا يملّك الإنسان اختياراً بصدد الإقدام على ما قد يضره. أيضاً يدخل في حكم العزل هذا ويقاس عليه كل ما قد يشبهه من الوسائل التي يتخذها الزوجان أو أحدهما لمنع الحمل، كالحبوب التي تستعملها النساء -وغير ذلك مما سنذكره- فإذا اتفق الزوجان على شيء من ذلك ولم يسبب ضرراً بالجسم والنفس بناءً على مشورة طبيب موثوق جاز استعماله مع كراهة التنزيه.

الأضرار المترتبة على تناول حبوب منع الحمل

الأضرار المترتبة على تناول حبوب منع الحمل اتضح طبياً أن أضرار حبوب منع الحمل على مختلف أجهزة الجسم كبيرة، ولذلك فهي ليست كالعزل في حصول الضرر، ويمكن التأكد من ذلك بالرجوع لأي مرجع في علم الصيدلة؛ فهناك مراجع حافلة في هذا المجال بكل لغات العالم، وفيها بيان أضرار هذه الوسيلة الخطيرة من وسائل منع الحمل، وأكثر أصابع الاتهام في حالات السرطان عند النساء تشير إلى أن سببها استعمال هذه الأقراص، ومن أراد أن يتاكد فليسأل أي متخصص في أمراض النساء أو الأدوية عن الخطر الكامن وراء هذه الحبوب. فأول هذه الأشياء: وجود سرطان للمرأة، أو حدوث التهابات أو أمراض الكبد، أو أمراض القلب والكلى والسكر، وأمراض تصلب الشرايين، وحدوث حالات الغثيان والصداع وزيادة الوزن، وذلك بسبب احتجاز نسبة كبيرة من الماء داخل الجسم، حيث تحبس في الجسم نسبة كبيرة من الماء، ولأجل هذا فإن بعض الناس ممن لا يوجد عندهم إيمان ولا خوف من الله ممن يتاجرون بالدواجن يضعون حبوب منع الحمل في طعام وعلف الدواجن؛ لأنها تسبب زيادة الوزن نتيجة انحباس الماء فيها في الخلايا، يفعلون ذلك حتى يزداد وزنها فترد عليهم دريهمات قليلة وهم قد آذوا المسلمين وخانوهم بهذه الخيانة العظمى، فبالتالي هذه الفراخ أو الدواجن يأكلها الرجال، وهذا فيه خطر شديد جداً بالنسبة للرجال، حيث إن أحد الأستاذة المتخصصين في الأمراض التناسلية أعد بحثاً، فقد كانت عنده مزرعة، فلاحظ أن العلف يضيفون إليه حبوب منع الحمل لهذا الغرض المادي، وقد اقترن في بداية انتشار هذه الظاهرة ونزول هذه الفراخ التي تعلف بهذا العلف أنه بدأ يستقبل الحالات كثيرة من الرجال الذين آذتهم أذىً شديداً، فعمل إحصائيات وبحثاً وقدمه إلى منظمة الصحة العالمية، وبين أن هذا شيء خطر على الناس، فرد عليه الموظف بقوله: إنها سياسة دولتكم ولا شأن لنا بها!! الشاهد: أن من أخطار هذه الحبوب أن الرجال أيضاً يتعاطونها، فينبغي أن يتنبه المسلمون من خطر وضع هذه الحبوب في علف الدواجن. ومن أخطار ومضاعفات هذه الحبوب: تزايد نسبة تجلط الدم في المخ أو في القلب، كما أنها تؤثر أيضاً على وظائف الكبد، وتزيد احتمال حدوث سرطان الرحم، وتؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، وظهور مرض السكر في الحالات التي عندها استعداد لهذا المرض، وتؤثر على الرضاعة بتقليل كمية اللبن، ويمكن أن تحدث تساقطاً في الشعر وتغييراً في لون الجلد عند بعض النساء، أو حساسية أيضاً عند بعضهن. ونحتاج أيضاً أن نذكر نصوصاً لبعض أهل الاختصاص في هذه الحبوب، فإننا نلاحظ أنهم يُجمعون على أن لهذه الحبوب آثاراً ضارة مع تفاوت بين بعضها البعض، لكن أخطرها بصفة خاصة: الهرمونات؛ لأن لها أكبر الأثر على صحة المرأة؛ فهي تؤدي إلى اضطراب عام في صحة الجسم، بل تؤثر على نفسية المرأة، حيث تصبح عصبية أو تصيبها بعض الأعراض النفسية. فهذا الدكتور محمد المنية الأستاذ المساعد بجامعة القاهرة تحدث عن أقراص منع الحمل بين المنفعة والضرر، ثم نصح المريضة التي تتعاطى تلك الأقراص لمدة أكثر من ثلاثة أشهر، وقد حذر من استعمالها كمانع للحمل؛ لما لها من مضاعفات وأضرار على صحة المرأة، وقد أورد بعض الحالات المرضية المعقدة لبعض النساء التي أشرف على علاجهن؛ نتيجة تعاطيهن أقراص منع الحمل. يقول: وبالرغم من الفوائد الاستثنائية لأقراص منع الحمل، فإنني لا أسمح لواحدة من أسرتي باستعمال هذه الأقراص. ومن التغرير ما يكتب على الورقة التي تصاحب أقراص منع الحمل، فإنها تكتب بخط صغير جداً؛ حتى لا ينتبه أكثر الناس إلى الأضرار المترتبة على تناول أقراص منع الحمل. يقول ميك كارمك: رغم الجهود التي تبذل للإشادة بذكر هذه الحبوب والدفاع عن سمعتها فلا يخفى على أهل البصيرة ما فيها من عوامل مضرة بصحة المرأة، وتعطيل الكثير من قواها العقلية والتناسلية، فمن الخيانة الشنيعة القول بأنها غير ضارة بصحة المرأة. وأثبتت البحوث والدراسات التي أجريت: أن أمراض سرطان الرحم، وتسممات الحمل ونحوها تنتشر بصورة أكبر وأسرع في البيئات التي تأخذ بتنظيم الأسرة، أما البيئات التي لا تأخذ بتنظيم الأسرة، ولا تستعمل الوسائل الصناعية لمنع الحمل، فإن نسبة هذه الأمراض تقلّ فيها، وهذه الحقيقة تعكسها المؤتمرات الطبية لتسممات الحمل وسرطان الرحم والثدي التي عُقدت وما زالت، وقد أثبتت الدراسة والبحث أن تلك الحبوب تزيد من تسممات الحمل، وتؤثر على المرأة، وتعرضها لاضطرابات عصبية ونفسية.

اختلاف الحكم الشرعي على تحديد النسل في الحالات الفردية عنه في الحالات العامة

اختلاف الحكم الشرعي على تحديد النسل في الحالات الفردية عنه في الحالات العامة كل الكلام الذي مضى فيما يتعلق بتحديد النسل أو العزل أو غيره من الوسائل، إذا قلنا بجوازه مع الكراهة، وبشرط عدم وجود الضرر، كل ذلك إنما هو رخصة يتمتع بها آحاد الناس، أما تحديد النسل بمعنى تبني نظام عام، يلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حد معين، بلا فرق بين من تحتاج إلى ذلك بسبب مرض أو رضاعة، ولا بين ضعيف ولا قوي، بل حتى ولا بين غني وفقير! فلا؛ فهم يشوشون على الناس ويقولون: الفقير لا بد له من تحديد النسل، فنقول: فما بالكم بدعوتكم أيضاً الموجهة إلى الأغنياء والقادرين على النفقة! فكون الأمة كلها برمتها تتجه إلى هذا الاتجاه، فإن هذا سيكون له شأن آخر. فكل ما سبق ليس له علاقة بالمجتمع كله، من حيث هو هيئة تركيبية يمثلها الحاكم، أو الدولة، فالدولة لا تستطيع أن تفيد شيئاً من أحكام الجواز في هذه المسألة، ولا يحق لها أن تعتمد على هذه الأحكام في أي إجراء تتخذه؛ فإن هذه أحكام خاصة بآحاد الناس، فالدولة ليست هي صاحب العلاقة المباشرة في الموضوع، وليست لها أي سلطة أو ولاية على شيء من أركانه؛ لأن هذه العلاقة خاصة. فمثلاً: موضوع العزل أو تحديد النسل، هذا شيء خاص بالزوج والزوجة فقط، بالشروط التي أشرنا إليها، لكن الدولة ليس لها أن تتدخل في هذه العلاقة الخاصة، بحيث تحمل أحداً على شيء معين. ومثال ذلك: الطلاق، فإنه حق أعطاه الشارع للرجل أو لصاحب العلاقة الذي يملك عقد الزواج بشروط وقيود معروفة، وليس للدولة أن تفرض لنفسها صلاحية -مثل حق تطليق المرأة من زوجها- على من تشاء من الناس، أو تجبر أحداً على الطلاق، أو توقع هي الطلاق عندما تجد مصلحة تقتضي ذلك، وحال هذه القضية كقضية تحديد النسل، فهي تعود إلى الشخصين اللذين يمثلان أركان القضية، فليس للحاكم أن يحتج بحالة يريد الشارع فيها للزوجين العمل على تحديد النسل، فيبني عليها دعوة عامة إلى ذلك، ويثير الدوافع والمرغبات، بل يشرع الالزامات الأدبية بالوسائل المختلفة. ونحتاج إلى تمهيد يسير قبل أن نتم هذه النقطة، وهو: أن المباح في الشريعة نوعان: نوع يتفق مع حكم الأصل، مما ينطوي على فائدة ومصلحة عامة. مثل: التمتع بالطيبات وتناول المباحات التي لا ضرر فيها، فالإباحة هنا ليست خاصة، وليس خاصاً بالفرد أن يقضي شيء بنفسه، بل يقضي به الحاكم لمجتمعه إذا شاء دون إلزام، إلا في حدود المصلحة العامة. ونوع آخر من المباحات لا يتفق مع حكم الأصل، بل يشذ عن حكم الأصل والقاعدة والإباحة الأصلية العامة، لكن يدخله حكم الأصل أو الترخيص أو الإباحة، من أجل عارض يتعلق بأشخاص بأعيانهم، فالعزل والإباحة يبقى خطاً في نطاق هؤلاء الأشخاص الذين تعلقت بهم أحوال اقتضت التخفيف في أمر كان في أصله غير مباح، دون أن يتجاوز إلى غيرهم. فالنكاح -كما سبق- شُرع أصلاً من أجل النسل، فالحكمة: بقاء النوع الإنساني، قال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا، تناسلوا، تكاثروا؛ فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة). فالسعي إلى إيقاف النسل أو تقليصه مُنافٍ لأصل ما شرع النكاح من أجله، ولكن الشارع الحكيم رخص للزوجين في محاولة جزئية وفردية الحد من النسل؛ نظراً لظهور المصالح الشخصية التي قد تكتنفهما أو تكتنف أحدهما. أما الحكم العام فقد بقي على أصله، وهو المنع، والحاكم العام هو الأمين على ذلك. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: اعلم أن المباح ضربان: أحدهما: أن يكون خادماً لأصل ضروري أحادي أو تكميلي. والثاني: ألا يكون كذلك. فالأول: قد يراعى من جهة ما هو قابل له، فيكون مطلوباً ومحبوباً فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء، وهو خادم لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب، فالأمر به راجع إلى حلقات الكلية، لا إلى اعتبار جزئي. والثاني: إما أن يكون خادماً لما ينقض أصلاً من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادماً لشيء كالطلاق، فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكل إقامة النسل في الوجود. يعني: أن الطلاق ترك للزواج، والزواج هو وسيلة من أجل تكثير النسل، فالطلاق في حد ذاته بالنسبة للمجموع هو مضاف في مصلحة المجموع، لكن هو بالنسبة للشخص الذي أبيح له الطلاق قد يكون ضرورياً؛ فقد لا يستطيع الإنسان أن يعيش مع زوجته، فلمصلحة فردية يباح له الطلاق، لكن لا يباح للمجتمع كله، فلا يصح أن نعمل دعوة قومية إلى الطلاق، ونعمل إعلانات ودعايات في كل مكان، وأن نبشر الناس بهذا وندعوهم ونحرضهم عليه. وقد يعبر عن هذا المعنى الذي ذكرناه بقول العلماء في بعض القواعد الفقهية: (ليس كل ما هو مشروع للفرد مشروع للجماعة) وهذه القاعدة تتفرع عن قاعدة أهم، وهي: (تصرف الحاكم منوط بالمصلحة) أي: أن الحاكم وكيل عن الأمة في رعاية مصالحها، فعليه ألا يغامر بمصالحها، بل يحتاط في الأمر بالنسبة لها، فالناس كآحاد ممكن أن يغامر الواحد منهم لمصلحته، لكن الحاكم من حيث هو حاكم لابد أن يراعي مصلحة المجموع؛ فما يشرع للفرد قد لا يشرع للجماعة. مثال ذلك: أن لأي فردٍ من الناس أن يقتدي في صلاته بفاسق إذا شاء ذلك، غير أن الحاكم لا يجوز له أن يعتمد على هذا الحكم بحجة أن الفقهاء قالوا بأنه يجوز أن يُصلى خلف الفاسق. فيقوم الحاكم بتعيين إمام فاسق للناس، ليس له ذلك لأن الحاكم يقدر على أن يغير، فهو لا يباح له ما يباح لآحاد الناس. أيضاً: ولي المقتول يملك أن يعدل عن القصاص إلى الدية، لكن الحاكم لا يملك مثل هذا الحق، ولا يستطيع أن يلزم ولي المقتول بمثل هذا. وحينما يعطي الشرع الزوجين الحق بإيقاف النسل أو يمنعهما منه فإنما ذلك لمصلحة تتعلق بهما، ولأمر عائد إليهما، وقد يكون المجتمع شريكاً لهما في المصلحة بعض الأحيان، فتعميم الدولة حكم الإباحة أو الحظر هجر لمصلحة الأفراد، وتجاوز لواجب الحيطة في رعاية أمر العامة، ولو أن هؤلاء الذين يفتون الحكام بالدعوة إلى تحديد النسل تنبهوا إلى هذه القاعدة لعلموا أنهم مبطلون فيما يفعلون، وأنهم أخذوا حقاً أعطاه الله للأفراد أصحاب العلاقة فملكوه من لا حق له في امتلاكه أو التصرف به.

الأسئلة

الأسئلة

إدراك الركوع إدراك للركعة

إدراك الركوع إدراك للركعة Q إذا أدرك المأموم الركوع فهل تحسب له ركعة؟ A نعم، إذا أدرك المأموم الركوع تحسب له ركعة، فقد صحّ الحديث بذلك في سنن أبي داود من فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم حينما دخل مسبوقاً مع آخر فأدركا الناس ركوعاً، فلما سلم الإمام قام الذي مع الصحابي ليتم، فأجلسه وقال: (اجلس فإنك قد أدركت). وهذا مذهب جمهور العلماء، خلافاً لبعض أهل الحديث الذين تمسكوا بعموم الأحاديث التي فيها اشتراط قراءة فاتحة الكتاب وإيجاب ذلك، ولا تعارض؛ فهذه حالة خاصة فيها نص خاص من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأحاديث حديث أبي بكرة رضي الله عنه حينما دخل المسجد، وركع دون الصف، ودب مسرعاً حتى دخل في الصف، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة، وسأل: (من الذي فعل هذا آنفاً؟) فقال أبو بكرة: أنا. فقال: (زادك الله حرصاً ولا تعد)، (لا تعد) قيل في معناها: لا تعد إلى العدو؛ لأنه كان يجري وهو يدب إلى الصف، وهذا أقرب التفسيرات، والشاهد: أنه لم يأمره بإعادة هذه الركعة وقد أدرك الناس الركوع، فدل ذلك على احتسابها والله تعالى أعلم.

منهج أهل السنة في الأحاديث التي تخبر عن أحداث آخر الزمان

منهج أهل السنة في الأحاديث التي تخبر عن أحداث آخر الزمان Q هناك بعض الأحاديث التي فيها خروج المهدي وفتح المسلمين للقسطنطينية ورومية، وهكذا بعض أحاديث فيها أنه يكون في آخر الزمان استعمال السيوف والخيل ونحو هذه الأشياء، فهل يعني ذلك أن هناك مصيراً آخر للحضارة المادية الموجودة الآن؟ A على أي الأحوال منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الأحاديث التي تخبر عن أحداث سوف تقع في آخر الزمان هو التصديق بها، والإمساك عن تأويلها وتفسيرها، ولنترك الواقع نفسه هو الذي يفسرها، فنحن لن نسأل عن مثل هذا، والخوض فيه خوض فيما لا يعني؛ لأن هذا غيب، والمطلوب منا أن نصدق به فقط، وأما كيف يقع؟ فنحن غير مسئولين عن تكلف إيجاده وإيقاعه، ولن نسأل عن أكثر من التصديق به، والتسليم له، ثم العمل بما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقع شيء من هذه الأحاديث، فإذا كان هناك نص على أن هناك سلوكاً معيناً نلتزمه في هذه الأحداث فلنلتزم، كما أمرنا، مثل: أن نعتصم بالعشر الآيات الأول من سورة الكهف إذا أدركنا الدجال. كذلك المهدي إذا توفرت الشروط أو العلامات التي تنبأ بها النبي صلى الله عليه وسلم في حق المهدي، ووقعت هذه الأحداث التي تنبأ بها، حينئذٍ نقطع أنه هو المهدي عليه السلام، ثم إن من المناسب في هذا المقام التحذير من مفهوم نلاحظه أحياناً عند كثير من الناس، وهو أنهم حينما يدهشون بمستوى القوة المادية التي بلغها الكفار في هذا الزمان، يصل بهم الأمر إلى حالة من اليأس، فيترجم هذا اليأس مثل هذا التفكير الذي نسمعه، فحينما تتلى على الناس آيات التبشير بالنصر والإعزاز للإسلام فأمام هذا الانهزام أمام هذه الحضارة المادية فإنهم ييأسون ويعبرون عن هذه الأشياء بطريقة غير مباشرة، فيذهبون إلى أن انتصار الإسلام لن يكون إلا بطريق معين، وهو إمّا نزول خوارق من السماء تخرق السنن، وتؤيد المؤمنين بمجرد أنهم مؤمنون، أو أنه لا بد أن تحصل حرب عالمية تدمر كل هذه القوى الموجودة على الأرض، ليسلم من ذلك فقط المسلمون، وتعود البشرية سيرتها الأولى بالأخشاب والسيوف، والحجارة والخيول، والوسائل القديمة، فهذا في الحقيقة هروب من مواجهة الواقع، فينبغي أن نفكر في الواقع الذي نعيشه، وهؤلاء الكفار ليسوا معجزين في الأرض، فإنهم لم يسلكوا مسلك الخوارق، بل سخروا السنن التي خلقها الله عز وجل، واحترموا السنن الكونية، فالأرض إذا زرعها وحرثها ورعاها الكافر -يهودي أو نصراني أو حتى ملحد- لا تقول له الأرض: أنت كافر ولن أزرع لك. وإذا كان صاحبها مسلماً فلن تزرع بدون تنقيتها من الحشائش وتغذيتها وري الزرع وتعاهده، فلن تميل إلى المسلم لأنه مسلم فتجامله، أو تقول للكافر: أنت كافر، لن أخرج لك ما فيّ من خيرات، كلا! فسنة الله أن من احترم السنن طاوعته هذه السنن، وهذه السنن الكونية لابد من احترامها، وأيضاً هناك سنن شرعية لابد من احترامها، فليس من احترام هذه السنن التعلق بأن تنزل معجزات تخرق العالم، فسنة الله جاءت في نصرة هذا الدين بالأسباب، مع أن الله قادر على أن يكون هو الذي يقول للشيء: كن فيكون، لكن لم يحصل هذا حتى مع الأنبياء، فالأنبياء عليهم السلام شُرّدوا طردوا أخرجوا عذبوا منهم من قتل جاهدوا في سبيل الله بذلوا هم وأتباعهم النفس والنفيس، وأخذوا بكل أسباب القوة، ولم يعوّلوا فقط على نزول الملائكة من السماء كمدد، ولم يعولوا على أن تنزل صاعقة على جيوش الروم والفرس فينتصر المسلمون!! فهذا التفكير ينبغي أن نزيله من عقولنا، وأن نواجه الحقيقة والواقع، ونحترم هذه السنن. هذا خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدع لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل) الحديث. إذاً: هذه سنة ماضية، ولابد من البلاء، كما قال الإمام الشافعي لما سُئل: يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن يُمكّن أو يُبتلى؟ قال: لا تمكن حتى تبتلى. فهذه سنة وقانون من قوانين الدعوة: أنه لابد من البلاء. هذا أمر. الأمر الثاني: لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم ويستنصر لهم عدل عن الدعاء لهم بتسليتهم بسنة الله في الذين خلو من قبل، فقال: (لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له حفرة في الأرض، ثم يوضع فيها، ثم يوضع المنشار على رأسه، ثم يشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يرده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده! ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) أي: تستعجلون السنن الكونية التي لابد من احترامها. فحرص النية وحده لا يكفي، مثلاً: أن يختم الإنسان القرآن كله هذا من أعظم الأعمال الصالحة، لكن جرت السنة أن الإنسان لا يستطيع أن يختم القرآن إلا في عدد معين من الساعات، فإذا أردت أن تختم القرآن كله فلا يمكن أن تختمه في ساعة واحدة -ستين دقيقة- مهما أسرعت في القراءة؛ فقد جرت السنة أنه بمعدل وقت معين من الساعات يختم فيه القرآن الكريم. ومثلاً: جرت سنة الله عز وجل أن الجنين لا يصلح لأن يواجه الحياة إذا لم يمكث -على الأقل- سبعة أشهر أو تسعة أشهر في بطن أمه؛ فالأصل أنه إذا خرج مبكراً إلى الحياة فإنه لا يصمد أمام الحياة الخارجية؛ لأنه لم يكن قد تم اكتماله بعد، فبالتالي لا يعيش ولا يبقى. فهذه سنن الله عز وجل، ولابد للإنسان أن يحترم هذه السنن.

استخدام الشعر في خدمة الإسلام

استخدام الشعر في خدمة الإسلام Q هل ثبت حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرض حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يقول الشعر في هجاء المشركين. A نعم، هذا الحديث صحيح، وقد كان حسان رضي الله عنه يسخّر هذه الموهبة التي وهبه الله إياها للانتصار للإسلام والذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي مرة من هذه المرات، وفي محفل من هذه المحافل، قال صلى الله عليه وسلم له: (أهجهم وروح القدس معك)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وروح القدس هو جبريل، يعني: أن جبريل عليه السلام يؤيدك الله تبارك وتعالى به، ويفتح عليك فيما تقوله انتصاراً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (اهجهم بالشعر، فو الذي نفسي بيده! لهو أشد عليهم من وقع النبال أو السهام). فينبغي للإنسان ألا يترك أي فرصة أو قدرة من قدراته أو موهبة من مواهبه إلا ويسخرها لخدمة الإسلام والدفاع عنه وعن حرماته. والله أعلم.

أمتي لا تنحرف [2]

أمتي لا تنحرف [2] إن من أصول عقيدة الإسلام: الإيمان بأن الله الذي خلق الخلق هو الذي تكفل بالأرزاق، وأن الأرزاق مقدرة كما أن الآجال مقدرة، فلا خوف من الفقر بعد هذا؛ لأن الله جل وعلا لن يترك خلقه هملاً. أما يدعو إليه الغرب وأذياله من دعوى تحديد النسل فما هي إلا حيلة لتقليل عدد المسلمين، فيزخرفون القول، ويزينون الباطل بحجة ضيق الأرزاق، فلا صحة لما يدّعونه، ولا قبول لما يقولونه، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين.

استمراء كثير من المسلمين لدعوى تحديد النسل ورضاهم بها بعد إنكارهم لها

استمراء كثير من المسلمين لدعوى تحديد النسل ورضاهم بها بعد إنكارهم لها الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، فمن أعظم مقاصد النكاح تكثير النسل المسلم، وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما. وفي لفظ: (فإني مكاثر بكم الأنبياء). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً -أي: كان الرجل عقيماً- فقال له عمر: أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلِمْها، ثم خيِّرها. يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: إن غريزة الامتداد في الذرية والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتةًَ كريمة تتعاهدها بالتربية والتهذيب، فتحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلِّك. يقول الدكتور الصباغ حفظة الله: ويكفي للممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم وتنتهي به! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وبعض العلماء يجعل هذا الحديث في سياق المدح، لكن على القول بأن المقصود بالسحر هنا الذم فهو مأخوذ من البيان والبلاغة في تزيين الباطل، وتضييع الحق، فلا شك أن هذا من أخطر أنواع السحر، وقد يسلط في هذا الزمان على المسلمين، وبعض الناس إذا حاورته في هذا الموضوع فأول ما يتبادر إلى ذهنه أنك إنسان مخبول؛ إذ كيف تتكلم في قضية مقررة ومسلمة، فكل الناس ينادون بتحديد النسل، وكل الناس يعانون من الفقر والضيق و، ويوجد بيننا الآن من يقول بخلاف ما عليه الناس!! وهذا كله من تأثير هذا السحر المحرم الذي هو: تزييف الحق وإظهاره في صورة الباطل، فسحر البيان هو الذي تسلطه أجهزة الإعلام على عقولنا وقلوبنا؛ لتصوغ منه مفاهيم جديدة، وأموراً تتضاد مع ديننا وشريعتنا وعقولنا، بل ومع فطرتنا، ومما يدل على ذلك أن تأثير هذه الدعاية بلغ إلى حدٍّ جعل الناس يظنون أن من يتكلم في مثل هذه الأمور مخبول أو جاهل! ولو رجعنا إلى المجلات الإسلامية التي كانت تصدر في بدايات ظهور هذه الدعوة، حيث كان في الأمة بقية من الوعي وعدم التخدير بالإعلام، تجد هجوماً عنيفاً جداً بمنتهى القوة والصراحة من كافة علماء المسلمين، ابتداءً من شيخ الأزهر إلى الدعاة والعلماء والباحثين، فلو رجعنا إلى أعداد قديمة من مجلة الإسلام سوف نجد مثل هذه المقالات، حيث كان العلماء يواجهون هذه الدعوة بمنتهى العنف، ويكشفون أنها دعوة خبيثة يرعاها أعداء الإسلام لأمر يريدونه بهذه الأمة، ثم مر الوقت رويداً رويداً حتى استقرت في الأمة هذه السموم، وهضمتها وامتصّتها، وصارت تجري في جسدها مجرى الدم في العروق. وصار كثير من المسلمين ينظرون إلى الأمور بمنظار الغرب، وبمنظار الكفار الخبيثين، ولم نكتفِ في (عقدة الأجنبي) بأن استوردنا إنتاج الزراعة والصناعة منهم، وإنما أخذنا أيضاً نتاج أفكارهم ومقاصدهم الخبيثة بنا، وكثير من الناس مولعون بتقديس كل ما يأتي من جهة الغرب، فصاروا يحبون الغرب وكل ما يأتي به الغرب، كما قيل في الخمر: مضى بها ما مضى من عَقْل شاربها وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي فإرضاء الغرب لم يقف عند حد، لكنه يضل خطوة وراء خطوة، ويستدرج الناس شيئاً فشيئاً، حتى ينخلعوا عن دينهم مصداق قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فقوله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. وقد بلغ تأثير الإعلام في نفوس الناس وفي فطرتهم إلى حد تنكس المشاعر الفطرية لدى الآباء والأمهات -كما أشرنا من قبل- حتى إن الأم إذا بان حملها جزعت جزعاً قد يوازي جزع الأم الحنونة التي ثكلت ولدها ليس لها ولد غيره، وربما سعت للتخلص من هذا القادم الجديد الذي يريد أن يحتل له مقعداً على مائدة الحياة. لقد تمكن الإعلام الذي يسمونه: الموجه -وهو موجه في الحقيقة- من تأصيل الشعور بالرعب والهلع ومن تأصيل الخوف من الانفجار السكاني وأنه شبح مخيف يهدد الحياة على وجه الأرض، ويوشك أن يقوض الأمة ويبقيها خراباً يباباً، سخرت كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لاستنفار الناس كافة إلى الاقتناع والتسليم بحسمية تحديد النسل على أعلى المستويات، حتى أن كثيراً من الناس لا يكادون يتكلمون في موضوع ما إلا وقفزوا منه إلى الحديث عن موضوع تحديد النسل وأنه الوحش والغول الذي يهدد الأمة، وكأن هذه القضية درس لا بد أن يلقن للأمة، ولا بد لها أن تنفذ هذه التوجيهات. لقد سخرت جميع الجمعيات والهيئات الخيرية والمراقص من أجل خدمة هذا المبدأ! فلا يستغرب هذا المسلك العلماني من إعلام لا دين له، لكن الغريب أن يحاول توظيف الدين وتسخير علمائه من أجل أداء هذه المهمة، والأغرب أنه نجح في توظيف كثير من هؤلاء في خدمة هذه السياسات التي تنافي سياسات الإسلام والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، بينما فشل فشلاً ذريعاً في ذات الوقت في أن يستدرج واحداً من عُبّاد الصليب كي يؤلف مقالة أو يكتب كتاباً، أو يقوم بأي نوع من الدعاية لهذا المبدأ الكنسي الخطير، بل على العكس نجد الأنشطة في داخل الكنائس تحظر وتحرم وتجرم وتهدد من يقوم بتحديد النسل من هؤلاء النصارى، وتعليمات الأطباء النصارى ألا يشرعوا في تعقيم أي امرأة نصرانية. فهو نجح في استدراج بعض هؤلاء الشيوخ الذين ساروا في ركابه، وصاروا يباركون جهوده باسم الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطر أن كل هذا يتم باسم الإسلام! فلو تكلموا بغير اسم الشريعة لكان الخطب أهون، ولو أنهم سكتوا وما نطقوا لكان أسهل وأحسن، بل لو أنهم سطعوا بالحق إيماناً واحتساباً لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً!

المنظم الحقيقي للنسل البشري

المنظم الحقيقي للنسل البشري الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، فمن أعظم مقاصد النكاح تكثير النسل المسلم، وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما. وفي لفظ: (فإني مكاثر بكم الأنبياء). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً -أي: كان الرجل عقيماً- فقال له عمر: أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلِمْها، ثم خيِّرها. يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: إن غريزة الامتداد في الذرية والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتةًَ كريمة تتعاهدها بالتربية والتهذيب، فتحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلِّك. يقول الدكتور الصباغ حفظة الله: ويكفي للممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم وتنتهي به! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وبعض العلماء يجعل هذا الحديث في سياق المدح، لكن على القول بأن المقصود بالسحر هنا الذم فهو مأخوذ من البيان والبلاغة في تزيين الباطل، وتضييع الحق، فلا شك أن هذا من أخطر أنواع السحر، وقد يسلط في هذا الزمان على المسلمين، وبعض الناس إذا حاورته في هذا الموضوع فأول ما يتبادر إلى ذهنه أنك إنسان مخبول؛ إذ كيف تتكلم في قضية مقررة ومسلمة، فكل الناس ينادون بتحديد النسل، وكل الناس يعانون من الفقر والضيق و، ويوجد بيننا الآن من يقول بخلاف ما عليه الناس!! وهذا كله من تأثير هذا السحر المحرم الذي هو: تزييف الحق وإظهاره في صورة الباطل، فسحر البيان هو الذي تسلطه أجهزة الإعلام على عقولنا وقلوبنا؛ لتصوغ منه مفاهيم جديدة، وأموراً تتضاد مع ديننا وشريعتنا وعقولنا، بل ومع فطرتنا، ومما يدل على ذلك أن تأثير هذه الدعاية بلغ إلى حدٍّ جعل الناس يظنون أن من يتكلم في مثل هذه الأمور مخبول أو جاهل! ولو رجعنا إلى المجلات الإسلامية التي كانت تصدر في بدايات ظهور هذه الدعوة، حيث كان في الأمة بقية من الوعي وعدم التخدير بالإعلام، تجد هجوماً عنيفاً جداً بمنتهى القوة والصراحة من كافة علماء المسلمين، ابتداءً من شيخ الأزهر إلى الدعاة والعلماء والباحثين، فلو رجعنا إلى أعداد قديمة من مجلة الإسلام سوف نجد مثل هذه المقالات، حيث كان العلماء يواجهون هذه الدعوة بمنتهى العنف، ويكشفون أنها دعوة خبيثة يرعاها أعداء الإسلام لأمر يريدونه بهذه الأمة، ثم مر الوقت رويداً رويداً حتى استقرت في الأمة هذه السموم، وهضمتها وامتصّتها، وصارت تجري في جسدها مجرى الدم في العروق. وصار كثير من المسلمين ينظرون إلى الأمور بمنظار الغرب، وبمنظار الكفار الخبيثين، ولم نكتفِ في (عقدة الأجنبي) بأن استوردنا إنتاج الزراعة والصناعة منهم، وإنما أخذنا أيضاً نتاج أفكارهم ومقاصدهم الخبيثة بنا، وكثير من الناس مولعون بتقديس كل ما يأتي من جهة الغرب، فصاروا يحبون الغرب وكل ما يأتي به الغرب، كما قيل في الخمر: مضى بها ما مضى من عَقْل شاربها وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي فإرضاء الغرب لم يقف عند حد، لكنه يضل خطوة وراء خطوة، ويستدرج الناس شيئاً فشيئاً، حتى ينخلعوا عن دينهم مصداق قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فقوله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. وقد بلغ تأثير الإعلام في نفوس الناس وفي فطرتهم إلى حد تنكس المشاعر الفطرية لدى الآباء والأمهات -كما أشرنا من قبل- حتى إن الأم إذا بان حملها جزعت جزعاً قد يوازي جزع الأم الحنونة التي ثكلت ولدها ليس لها ولد غيره، وربما سعت للتخلص من هذا القادم الجديد الذي يريد أن يحتل له مقعداً على مائدة الحياة. لقد تمكن الإعلام الذي يسمونه: الموجه -وهو موجه في الحقيقة- من تأصيل الشعور بالرعب والهلع ومن تأصيل الخوف من الانفجار السكاني وأنه شبح مخيف يهدد الحياة على وجه الأرض، ويوشك أن يقوض الأمة ويبقيها خراباً يباباً، سخرت كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لاستنفار الناس كافة إلى الاقتناع والتسليم بحسمية تحديد النسل على أعلى المستويات، حتى أن كثيراً من الناس لا يكادون يتكلمون في موضوع ما إلا وقفزوا منه إلى الحديث عن موضوع تحديد النسل وأنه الوحش والغول الذي يهدد الأمة، وكأن هذه القضية درس لا بد أن يلقن للأمة، ولا بد لها أن تنفذ هذه التوجيهات. لقد سخرت جميع الجمعيات والهيئات الخيرية والمراقص من أجل خدمة هذا المبدأ! فلا يستغرب هذا المسلك العلماني من إعلام لا دين له، لكن الغريب أن يحاول توظيف الدين وتسخير علمائه من أجل أداء هذه المهمة، والأغرب أنه نجح في توظيف كثير من هؤلاء في خدمة هذه السياسات التي تنافي سياسات الإسلام والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، بينما فشل فشلاً ذريعاً في ذات الوقت في أن يستدرج واحداً من عُبّاد الصليب كي يؤلف مقالة أو يكتب كتاباً، أو يقوم بأي نوع من الدعاية لهذا المبدأ الكنسي الخطير، بل على العكس نجد الأنشطة في داخل الكنائس تحظر وتحرم وتجرم وتهدد من يقوم بتحديد النسل من هؤلاء النصارى، وتعليمات الأطباء النصارى ألا يشرعوا في تعقيم أي امرأة نصرانية. فهو نجح في استدراج بعض هؤلاء الشيوخ الذين ساروا في ركابه، وصاروا يباركون جهوده باسم الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطر أن كل هذا يتم باسم الإسلام! فلو تكلموا بغير اسم الشريعة لكان الخطب أهون، ولو أنهم سكتوا وما نطقوا لكان أسهل وأحسن، بل لو أنهم سطعوا بالحق إيماناً واحتساباً لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً!

الاحتجاج بالخوف من قلة الأرزاق لتسويغ الدعوة إلى تحديد النسل

الاحتجاج بالخوف من قلة الأرزاق لتسويغ الدعوة إلى تحديد النسل إن أول ما يتبادر إلى أذهان الناس إذا أثيرت قضية تحديد النسل هو موضوع الواقع الذي نعيشه الآن، وكيفية توفير الغذاء للناس مع ضيق الموارد وكثرة الزحام، والعجز عن الزواج، ومشكلات المواصلات، وقلة المال، إلى آخر هذه الأشياء التي يخوّف الناس بها، ومن ثم نقول: إن هذه القضية لها ارتباط وثيق بالعقيدة، سواء في الألوهية أو في الربوبية على حدٍ سواء. وهم يحاولون أن يبرزوا الناس الذين يفتون لهم بما يريدون، والحق أن هؤلاء أناس سفهاء، ليس عندهم عقل، ولا يحسنون الأمور، وهذا نوع من الهوس حيث ينتقدون كلام من يعارضهم، ويأتون به في صور مضحكة تثير سخرية الناس، بحيث لا يبالون بمثل هذا الكلام، لكن ينبغي ألا نتأثر أبداً بمثل هذه الأساليب التي يصدّ بها الجهال عن دين الله عز وجل. إذا تدبرنا القرآن الكريم نجد أن كثيراً من السور تهتم بقضية الرزق، وتربط بينه وبين السلوك البشري، حيث يزيد عدد الآيات التي تتناول قضية الرزق في القرآن المجيد على مائتي آية، وكلّها تؤكد حقائق ثابتة مؤدّاها: أن الرزق من عند الله تعالى وحده، وهو مالك أسبابه لا شريك له في ذلك، وأن هذا الرزق مضمون عند الله عز وجل، لا يحتاج إلى شركات تأمين كاذبة مرابية ظالمة! ولا يحتاج لأي شيءٍ سوى أن يستجلب هذا الرزق من عند الله بطاعة الله تبارك وتعالى، والإنسان عليه فقط أن يكتسب، أما الرزق فأمره إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وقضية الرزق هي قضية الصراع الطويل بين الأحياء، غير أن الله عز وجل لم يترك الإنسان ليهلك في هذا الصراع المرير، بل أنزل تبارك وتعالى تعاليم تقوّم سلوك الإنسان في مسألة الرزق، فمن مظاهر ذلك أن الله عز وجل أوجب على المسلمين الإنفاق، وفرض عليهم الزكاة، وأمرهم بالتعاون والتراحم والتكافل، مبيناً لهم أن المال مال الله، وأنهم مستخلفون فيه، وكذلك حرم الله تبارك وتعالى على الناس السلوك المالي المنحرف، كالربا، والكسب الحرام، والغّش، والاستغلال إلخ. وبين الله عز وجل -مع هذا- أن الأولاد مصدر إضافي منفصل للرزق، فيجب على الإنسان أن يكون عنده يقين، فربما أن الرزق الذي يأتيك لا يأتيك لأجلك أنت؛ لأن ذنوبك ربما تحول دون وصول الرزق إليك، لكن الرزق يأتي لأولادك الضعفاء كما قال عليه الصلاة والسلام: (أبغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)، فالرزق يأتي لهؤلاء، وربما تكون ذنوبك قد حالت دون إتيان رزقك إليك، كما جاء في الأثر: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه). يقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، ((خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)) هذا في الفقر المتوقع، ((وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)) وهذا ما كان يفعله أهل الجاهلية، حيث كانوا يقتلون الأولاد خوف الفقر في المستقبل، ولما كان الفقر متوقعاً في المستقبل قال تعالى: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) فبدء برزق الغائبين قبل رزق الحاضرين؛ لأن رزقهم مضمون، وأما في الفقر الحاضر فقال تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] فهذا الفقر واقع وليس متوقعاً، ((نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)) فالسياق واضح تماماً في أن الإنسان لا يقتل ولده أبداً خشية أن ينفق ما معه، وإن من كبائر الذنوب: منع الحمل أو تقليل النسل بسبب الخوف من الفقر، أو الخوف من نقصان الرزق، فقد بطلت هذه المزاعم بهذه الآية: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) وبطلت دعوى أصحاب فكرة تقليل النسل الذين يزعمون أنّ إنجاب الأولاد يضيف عبئاً اقتصادياً على العائلة، وقد تصح دعواهم إذا كان الأبوان هما اللذان يخلقان الرزق! أو كان الأب هو الذي يخلق الرزق بحكم أنه هو عائل الأسرة! فإنه إذا كثر عليه الأولاد الذين يخلق لهم الرزق سوف يكون ذلك عبئاً شديداً عليه؛ لأنه بشر وطاقته محدودة!! لكن إذا كان الأب والأم والأولاد وكل من في الأرض فقراء إلى الله عز وجل، والله هو الذي يرزقهم، وهو الذي يضمن لهم ذلك بقوله: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) فكما انفرد بالخلق انفرد بالرزق، وكما أنه لا يخلق إلا الله فإنه لا يرزق إلا الله تبارك وتعالى، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3] فهذا وجه ارتباط قضية الرزق بالعقيدة، أي: كما تعتقد أنه لا يخلق إلا الله فتعتقد أن الرزق بيد الله وحده لا شريك له في ذلك أبداً. وضمن الله تبارك وتعالى الرزق لكل المخلوقات، يقول تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] من الذي يعطينا المطر؟ من الذي ينبت لنا من الأرض؟ من الذي يرزقنا الماء؟ يقولون: مصر هبة النيل! هذا شرك، وهل النيل يهب؟ بل النيل نفسه هبة من الله تبارك وتعالى، وهو في نفسه نعمة، فكيف نعبد النعمة ونترك وهّابها وهو الله عز وجل؟! فأمر الرزق مضمون بلا ريب، وأي شك في هذا فهو خلل في العقيدة، يقول عز وجل: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] ولو ذهبنا نستقصي ما استطعنا عليه من أنواع الأحياء وتفاصيل ضمان الرزق لها فسوف نعجب عجباً شديداً جداً، أنت نفسك أيها الإنسان! من ضمن لك رزقك وأنت في بطن أمك؟! وكذلك من الذي يرزق النملة في جحرها؟! ومن الذي جعل طريقة التعايش أو التطفل أو التكافل بين الحيوانات والكائنات الحية؟! هناك قصص كثيرة جداً إذا أردنا أن نذكرها بالتفصيل فإننا سنخرج عن الموضوع، لكن نكتفي بقول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] فإذا كان يرزق الدابة فكيف بمن كرّمه؟! {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، ويقول عز وجل {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52] أي: أنت غير مسئول عن رزقهم ولا عن عملهم، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]. ويقول عز وجل: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27]، ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، فكل إنسان له رزق ونصيب مقدر من الله تبارك وتعالى، لكن الغربيين ونظراءهم من الكفار لا يوقنون بهذه المعاني ولن يستمعوا لها، ولن يحسّوا بمعناها، فلذلك تنحصر أفكارهم في الجوانب المادية المحسوسة، ومثل هذه العقائد لا ينعم بها إلا من نوّر الله قلبه بنور الوحي والتوكل عليه عز وجل، فحتى الأنفاس التي تتنفسها قد كتب الله لك عددها، فلا تنزل إلى الدنيا إلا ولك عدد محدد من الأنفاس سواء كان شهيقاً أم زفيراً، وسواء كان جزءاً أو جزيئاً من الأوكسجين أو الذرات التي سوف تدخل جسمك وتخرج منه: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، فالحقيقة أن الإنسان أول ما ينزل الأرض يبدأ العد التنازلي في هذا العدد الذي سطّره القلم منذ الأزل. وفي الحديث: (ثم يأتيه الملك، ويؤمر بكتب أربع كلمات)، ومن هذه الكلمات التي تُكتب قبل أن تُخلق أنت: الرزق. وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن روح القُدُس نفث في رَوْعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) يعني: هونوا على أنفسكم، ولا تشتطوا في طلب الرزق، وقوله: (فإن روح القدس نفث في روعي): وهذه طريقة من طُرق الوحي، (أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) أي: لا يمكن أن يموت الإنسان قبل أن يأخذ رزقه الذي كتب الله له تبارك وتعالى، بل يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله) فتخيل هذين الأمرين: كما أن عندك يقين أن ملك الموت إذا جاء لا يؤخر ولا يُطرد ولا يؤجل، فكذلك إذا حضر رزقك فلا يمكن أبداً أن يحول أحد بينك وبين هذا الرزق، وفي الحديث: (المعونة تأتي على قدر المئونة)، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، ألا هلك المرتابون الذين يُشكّكون في رزق الله تبارك وتعالى، (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي: تخرج في الصباح فارغة المعدة، (وتروح بطاناً) أي: حينما تعود قد امتلأت بالطعام والرزق، فمن الذي رزق هذه الطيور الضعيفة الهزيلة التي ليس لها عقل ولا إمكانية؟! من ذا الذي يرزقها إلا الله تبارك وتعالى.

تحديد النسل وقتل الأولاد في الجاهلية يشتركان في الباعث عليهما

تحديد النسل وقتل الأولاد في الجاهلية يشتركان في الباعث عليهما نعى الله عز وجل وشدد النكير على من يقتلون أولادهم خشية الإملاق، يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ} [الأنعام:137] أي: من التردّي والهلاك، {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:137] وقال تبارك وتعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام:140]، قال بعض العلماء في تفسير قوله عز وجل: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:140]: إن الرزق يشمل الطعام والشراب، كما يشمل الذرية، فيقول في هذه الآية: الذين حرّموا على أنفسهم نعمة التناسل وإنجاب الذرية، ويقول عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، وقال عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] وقال أيضاً: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]. قد يقول بعض الناس: إن تحديد النسل ليس قتلاً للنسل. فنقول: لكنه يتفق مع القتل في الباعث عليه، والذي أنكره الله على هؤلاء المشركين في الجاهلية هو أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الإملاق، وهذا واضح، فاتّحد الباعث عند هؤلاء وعند أولئك، قال عليه الصلاة والسلام حينما ذكر بعض الكبائر: (وأن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) فالعلة هنا: خشية أن يجلس معه ابنه على المائدة ويشاركه في الطعام!

تحديد النسل لا يعتبر هو الحل لمشكلة الفقر بل يزيدها تفاقما

تحديد النسل لا يعتبر هو الحل لمشكلة الفقر بل يزيدها تفاقماً إننا إذا رجعنا إلى أولي العلم وأولي الخبرة في المجالات الدنيوية أو الاقتصادية أو الشرعية في هذا الأمر فسوف ندرك أننا في الحقيقة كنا ضحية لكثير من التضليل السحري الذي تأثرنا به، وهو السحر الإعلامي، والمشكلة هي عدم التوازن بين الموارد والطاقات، وبين عدد السكان والاحتياجات، نعم هي مشكلة، لكنهم أفهمونا وأوقعوا في شعورنا أنه لا حل إلا هذا الحل، في حين أن الحلول كثيرة جداً، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، كما سنبين إن شاء الله تعالى. بل إن المعروف في علم الاقتصاد أن عوامل الإنتاج ثلاثة: الأرض، والإنسان، ورأس المال. وأعظم هذه العوامل هو الإنسان، فالنسل هو في حد ذاته ثروة من أعظم الثروات، ويكفي أن كثرة النسل هو أحد العوامل التي تحسب بها الأمة في عداد الأمم الكبرى أو القوى الكبرى. فيصبح حالنا ونحن نهرب من مواجهة هذه المشاكل كمثل من بيده كنز من ذهب، وهو لا يستطيع أن يصنع من هذا الكنز نقداً ولا حُلياً ولا شيئاً مما ينفع الناس فيلقي هذا الكنز في البحر ليتخلص من أعباء تصنيعه أو الانتفاع به! إن المقدار المستغل من الأراضي في مصر يبلغ 7%، مع أن مصر عبارة عن واحة في وسط صحراء كبرى، ولو تم توزيع أرض مصر على سكانها لبلغ نصيب كل فرد كيلو متراً مربعاً، وهذا معدل غير موجود في أغلب بلاد العالم. ونحن الآن نتكلم عن النسل، في حين أنك تجد التصريحات الرسمية تعلن عن اهتزاز اقتصاد البلد عند حصول خلل في تحويلات المصريين العاملين في الخارج، أليس هذا نسلاً؟! أم أن هؤلاء خشب وجمادات؟! فهؤلاء هم بشر، وهذه ثروة من أعظم الثروات التي تخدم الاقتصاد، وهي تحويلات المصريين الذين هاجروا وعملوا في الخارج، فلو تأملنا الحقيقة فإننا سنجد أن أرض الله ليست ضيقة، بل ما زالت واسعة كما قال الله: {أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} [النساء:97]، ولكن العقول هي الضيقة، كما قال الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيقُ فلو أن إنساناً عنده ثوب قصير لا يستر كل أعضاء بدنه، فهل من العقل أن يهذب هذا الجسد ويقطعه كما تُقطَّع أغصان الشجر؟! أم أن من العقل أن يفكر في زيادة حجم الثوب إلى أن يتناسب مع هذا البدن؟! هذا هو الحل المنطقي. فدعاة تحديد النسل لم يدفعهم إلى ذلك الخوف على الأمهات، ولا فعلوا ذلك من أجل الحرص على سلامة الأم، بل هم يحاولون أن يأتوا إلى الناس من الباب الذي يقنعهم، فيقولون: صحتك وسلامتك وكذا وكذا، ويبالغون في وصف هذه الأشياء، فهم لا يريدون الحفاظ على حياة الأم أو صحتها، ولا دفع الضرر عنها، بل كل الجهود والأموال مبذولة من أجل الناحية الاقتصادية، زاعمين أن كثرة الإنجاب تورثهم الفقر، وجعلوا من أنفسهم قوامين على الفقر والغنى والكسب والارتزاق، ولا هَمّ لهم إلا عمل الإحصاءات وتقسيم الأرزاق، وليس هذا في الحاضر فقط، بل على مدى المستقبل البعيد، فيحسبون بطريقة تلك الساعة التي أهدتها لهم أمريكا: كم يكون عدد سكان مصر في عام (2000م) مثلاً؟ ثم يقسمون ما يكون من الرزق على كل فرد فيكون نصيب الفرد كذا وكذا!! أفلا يتذكرون قوله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] فهذا فعل من أفعال الربوبية، ويقول الله عز وجل: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100]، فخزائن الله ليست بأيدينا ولا بيد أحد من البشر، إنما هي بيد العزيز الوهاب ذي الطَّول والإنعام، فجهدهم هذا جهد موزور لا أجر فيه؛ لأنه جهد ينافي مقاصد الشريعة، ويزيّن للناس ما منعه الشرع، وهذا من الإثم ومن الوزر.

آثار من الكتاب والسنة وسير الصالحين في الإيمان بالرزق

آثار من الكتاب والسنة وسير الصالحين في الإيمان بالرزق يقول تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، فقوله: ((إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) يعني: رزقها قد تكفل الله به وضمنه لها. يقول الرازي في تفسير هذه الآية: ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال، والله يحصيها دون غيره، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها، وما يوافقها وما يخالفها، فالإله المدبر لأطباق السماوات والأرضين، وطبائع الحيوان والنبات، كيف لا يكون عالماً بأحوالها؟! روي أن موسى عليه السلام -عند نزول الوحي عليه- تعلّق قلبه بأحوال أهله، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة، فانشقت وخرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت، فخرجت منها دودة كالذرة، وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها! فهذه القصة من الإسرائيليات التي قد تصح أو لا تصح، لكن ما كان منها لا يصادم شريعتنا فلا بأس من حكايته، فتأمل كيف وجد هذه الدودة التي هي كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني. وقد يكون هذا من كلام القصاصين وهو مذكور في التفسير الكبير للرازي، لكن معناه طيب وجميل، حتى لو لم يحصل، فإن الله عز وجل يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ويسمع كلامها ويرزقها تبارك وتعالى، وهي تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني، سبحانه وتعالى. وقال القرطبي رحمه الله: قيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرحى يأتي بالطحين، والذي شدق الأشداق -يعني جوانب الفم- هو خالق الأرزاق. وقيل لـ أبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحان الله والله أكبر، إن الله يرزق الكلب، أفلا يرزق أبا أسيد؟ وقيل لـ حاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله، فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأنما له إلا السماء؟ يا هذا الأرض له، والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض، وأنشد: وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسرِ تكفّلَ بالأرزاق للخلق كلهمْ وللضّبّ في البيداء والحوت في البحرِ يقول: ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب، مع العلم أنه سبحانه المسبب لها، ففي الخبر: (أعقلها وتوكل)، ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة السبب، فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة لسبب أصلاً، يقول ابن أذينة: لقد علمت وما الإسراف من خُلُقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطّلبه ولو أقمت أتاني لا يعنّيني وأنشد أيضاً: مَثَل الرزق الذي تطلبه مَثَل الظلّ الذي يمشي معكْ أنت لا تدركه متّبعاً وإذا ولّيتَ عنه تبعكْ مثل الظل أي: خيال الإنسان على الأرض. يقول الله تبارك وتعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] يخاطب الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأهله هم أهل بيته، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية يذهب عند الفجر إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما وينادي: (الصلاة). فهنا يأمره تعالى وأمته أن يوجهوا هممهم إلى خدمة آخرتهم بالالتزام بطاعة الله تعالى، فلا تشغلهم دنياهم عن آخرتهم، فإذا شُغلوا بطاعة الله أتتهم الدنيا راغمة: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132] يعني: لنفسك ولمن تلزمك نفقتهم، فالكل قد تكفل الله برزقه، فلا تشغل نفسك لأمر الرزق، وأقبل على طاعة الله تعالى. وقال أبو السعود: أُمر صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أُمّته بالصلاة بعد ما أُمر هو به، ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة. ((وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) يعني: وثابر عليها غير مشتغل بأمر المعاش، ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا)) يعني: لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أن ترزق أهلك ((نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)). وقال ابن كثير: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا)) يعني: إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك)، وفي الحديث الآخر: (من أصبح والآخرة همّه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له) ويقول عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ويقول عز وجل: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ} [الشورى:19] فقوله: ((لَطِيفٌ)) أي: حفيّ بهم، أو بارّ بهم، أو لطيف بالبر والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] وقال عز وجل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]. قوله: ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)): قد يقصد بالسماء هنا: المطر؛ لأنه ينزل من جهة العلو، ويكون المعنى: وفي المطر رزقكم؛ لأنه سبب للإنبات في الأرض، يرتزق منه الإنسان والحيوان في الغالب، أو يكون المقصود بالسماء: حقيقة السماء، ويكون المعنى عند ذلك: وعند الله تعالى في السماء تقدير أرزاقكم حسب ما كتبه الله عز وجل في اللوح المحفوظ. قوله: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) معطوف على: رزقكم، فيكون المعنى: في اللوح المحفوظ -الذي هو في السماء- تقدير أرزاقكم وكل ما توعدون به من خير أو شر في دنياكم وأخراكم. وقوله تعالى: ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)): هذا قَسَم يؤكد أن الرزق وما وعد الله به عباده مضمون عند الله في كتاب، وهو في أم الكتاب لا يتغير ولا يتبدل، ولا يزيد ولا ينقص، بل لا بد أن يصيب كل مخلوق ما كتب له من الرزق. وإذا تأملت التوكيد في هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] فالقَسَم في حد ذاته توكيد، ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ)) حلف وقسم، ثم أتى بالمقسم عليه، وهو جملة أسمية مُصدّره بحرف التوكيد: ((إِنَّهُ لَحَقٌّ)) يعني: هو حق، واللام أيضاً هنا للتوكيد. وقوله: ((مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ))، واختار النطق على توكيد الرزق وضمانه لدى الخالق جل وعلا لأنه سالم مما يشبهه، يقول بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره. يقول بعض العلماء: إن وجود هذه التوكيدات الكثيرة في موضوعٍ تكفّل الله تعالى به لا بد وأن يكون لسرٍّ من الأسرار، وذلك السر هو ما في النفس البشرية من جحود ونكران وتخوف وتشكك في هذه المسألة بالذات، والله تعالى عليم بخبايا النفوس، فلما علم ما في نفوس البشر من التخوف والتشكك أكد لهم ذلك بكل هذه التأكيدات ليذهب من نفوسهم ذلك الخوف والشك، فسبحان الذي يعلم مَن خَلَق وهو اللطيف الخبير. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: قال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه، قال الله تعالى: ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [الذاريات:23]). وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة، إذ طلع أعرابي جلف جافٍ على قعود له، متقلداً سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلّم، وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن -فانظر ذكاء الأصمعي كيف فتح له باب العلم حتى يستوضح ويستزيد ويستفيض- فقال الأعرابي: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتلُ علي منه شيئاً، فقرأت: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:1 - 4] إلى قوله تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22] فقال: يا أصمعي

المنظم الحقيقي للنسل البشري هو الذي خلقه

المنظم الحقيقي للنسل البشري هو الذي خلقه نعود فنسأل أنفسنا سؤالاً آخر يحسم هذه القضية: من هو المنظم الحقيقي للنسل البشري؟ ومن هو المنظم الحقيقي لهذه الكُتَل الهائلة من البشر؟ A ابتداءً نقول: لا أحد يأتي أبداً إلى هذه الدنيا باختياره وإرادته، بل ولا حتى باختيار أبيه وأمه، فمن الذي ينظم كل هذا؟ بل وأضعاف أضعافه؟! إنه الله الواحد الأحد، ليس الأب، ولا الأم، ولا الطبيب ولا الحكومة، وليس لأحد أبداً أن يتدخل في هذا النظام الذي لا يدبره إلا الله عز وجل: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، فالقدرة الإلهية وحدها هي التي تقوم بالتنظيم الحقيقي للنسل الإنساني. وأما الدلائل والبراهين التي يقدمها أنصار دعوة تحديد النسل على أساس علم الاقتصاد، فهي في الحقيقة لا تتطلب تنظيم أفراد الأسرة، بل تتطلب تنظيم سكان الدولة، بمعنى: أن هذه البراهين قد تقتضي أن تقدر بكل دقة ما في الدولة من وسائل المعيشة ومن موارد الرزق، ومن جانب آخر: أن نرى ماذا يمكن أن يبلغه عدد السكان ونسبته بالنسبة للوفاة؟ فهذا التوازن لا يمكن أن يتم إلا بأحد طريقين: الأول القضاء على دائرة الزوج والأسرة، وتحويل الرجال والنساء رسميين للدولة، ينتجون وفق تخطيط مرسوم لهذا الغرض، ثم يفصل بينهما إذا تحقق هذا الهدف المنشود. الثاني: أن يتم التناسل كما يتم في تربية الجواميس والبقر، بوجود مصارف معينه مثل مصارف الدم التي يتم فيها هذا التعاون مع بني البشر. وكلا الطريقتين مرفوضة عند ذوي الفطرة السليمة، ولذلك فهم مضطرون في الحقيقة إلى أن يلوّنوا الكلام وينوعوا الأساليب التي يسلكونها، فيظهرون الفرار من خطة تنظيم سكان الدولة إلى خطة مقنعة هي: تنظيم أفراد الأسرة. فبدل أن ينشئوا هذه المعامل التي يريدون جعل الناس فيها كالجواميس والأبقار لتحديد العدد الذي يريدونه، يأتون فيقنعون الناس أن يحولوا كل بيت إلى معمل لتحديد النسل، وتبقى البيوت هي المعامل التي يولّد فيها الأطفال، لكنهم يبذلون كل الجهد من أجل استرضاء هذه المعامل الصغيرة؛ كي تحد من إنتاجها من تلقاء نفسها، وهذا الاسترضاء يتم بإحدى وسيلتين: الوسيلة الأولى: مناشدة الأفراد باسم مصلحتهم الشخصية، بأن يحافظوا على مستوى معيشتهم بخفض عدد الأطفال لكي يتحسن مستقبلهم، ويوهمون الناس أن شبح الفقر سوف ينتشر لكثرة إنجاب الأطفال. نقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى خلق الأولاد بأفواه ليأكلوا بها، ولكنه خلقهم أيضاً بأيدٍ وعقول وإمكانات يمكن أن تكون طاقات عظيمة في هذا الوجود، لكن التركيز عندهم يكون على الاستهلاك في فترة الحضانة بالنسبة للصغار، ولكن هذه حضانة اقتصادية، ولا ننسى أبداً أن العامل الأساسي في عوامل الإنتاج هو الإنسان، وهو ثروة عظيمة جداً كما يقول العقلاء من كل الأمم، حتى أن أيزنهاور وقد كان رئيساً لأمريكا سنة (59) تقريباً، كان يقول: لن أسمح بدخول خطة تحديد النسل ما دمت على قيد الحياة، أو ما دمت في البيت الأبيض!! لماذا يقول هذا الكلام؟! لأنهم يعرفون أن كثرة النسل من أسباب القوة بالنسبة لأي أمة تنظر للمستقبل، فهم يدخلون للناس من مدخل المصلحة الشخصية؛ لأنهم لو خاطبوا الناس بالقومية والوطنية والدعاوى العامة فلن يستجيب الناس لها، فأغلب الناس قلّما يفرضون الحظر على أنفسهم بأنفسهم باسم المصلحة الاجتماعية، لكنهم يناشدونهم باسم مصلحتهم الشخصية كي يحافظوا على مستوى المعيشة بخفض عدد الأطفال حتى يتحسن مستقبلهم، ويحافظوا على الرفاهية الذاتية، وتكون النتيجة: أن الناس يستجيبون لهذا، ويسترسلون في الحد من الإنجاب لهذا الغرض الشخصي، دون اعتبار المعدل المطلوب للإنجاب.

التناسب الطردي بين زيادة السكان وزيادة مصادر الرزق

التناسب الطردي بين زيادة السكان وزيادة مصادر الرزق إن رواد دعوة تحديد النسل يزعمون أن سياستهم هذه تهدف إلى إيجاد التوازن بين الموارد وبين عدد السكان، فهم يحاولون إقناع الناس عن طريق المصلحة الشخصية، مع أن المصلحة الشخصية قد تستمر ثم يحصل التصادم مع المصلحة الكلية، وتظهر مع الوقت مشكلة عكسية، وهي قلّة النسل، فيختل التوازن بصورة عكسية، وهذا بالضبط ما حصل في فرنسا، وهي أول دولة شجعت وتبنّت حركة تحديد النسل، فهبط عدد المواليد بالنسبة للوفيات، فذاقت وبال هذه الخطة الخرقاء في الحربين العالميتين الأولى والثانية في صورة هزائم متوالية ومنكرة قصمت ظهرها، وقضت على عظمتها السياسية قضاء ملموساً، فصارت فرنسا عبرة لمن أعتبر. والآن في الغرب يحرضون الشعوب بكل الوسائل على أن ينجبوا أولاداً، حتى في ألمانيا يعطون مكافآت وإغراءات بالمال تفوق الوصف للمواطنين لكي ينجبوا، فيقول الشعب الألماني: الحكومة تغرينا حتى ننجب! فيعاندون الحكومة، ويكرهون أن ينجبوا أطفالاً. أما فيما يتعلق بالمسلمين فعلى خلاف ذلك، فتأمل! الوسيلة الأخرى التي يتم بها استرضاء الناس هي: نشر المعلومات عن وسائل منع الحمل على أوسع نطاق، بحيث تكون في متناول الجمهور رجالاً ونساء. الأهداف التي على أساسها انتشرت دعوة تحديد النسل في أوربا هي المشاكل الاجتماعية والمدنية؛ لأن الحضارة الغربية قامت على أساس المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وعلى أساس الاختلاط المطلق بينهما، والرغبة في التخلص والتملص من تبعية هذه الإباحية التي يعيشونه، فهذا من مقتضيات نظامهم! أنهم يريدون التمتع بالدنيا والراحة وعدم تحمل تبعة الزواج من الأولاد وغير ذلك. أما في بلاد المسلمين فالأهداف التي يرمي إليها الغرب من وراء نشر هذه الحركة هي أهداف سياسية بحتة، لا علاقة لها بالاقتصاد، وإن كانت مستترة تحت هذا الثوب، فقد كان الناس في القديم حينما يساورهم القلق من مشكلة زيادة الأولاد يعالجون هذه الأمر بطريقة الوأد كما كان يحدث في الجاهلية، أو بقتل الأولاد أو الإجهاض ونحو ذلك، لكن الإنسان في هذا الزمان فلسف الأمر، واستطاع أن يعبر عنه تعبيراً يتواءم مع القواعد الحسابية والهندسية. فزعم الإنسان المعاصر وهو مالتوس صاحب النظرية التي على أساسها قامت الدعوة إلى تحديد النسل، قال: إن زيادة السكان تتم على صورة متوالية هندسية، يعني: 2، 4، 8، 16، 32، 64، 128، 256، إلخ. هذا بالنسبة لزيادة عدد السكان، لكن لا تزيد وسائل الرزق مهما اخترعوا لزيادة هذه الوسائل إلا على صورة متوالية حسابية، يعني: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9. فإذا ظل عدد السكان يتضاعف دونما حاجز، فسيصل إلى ضعفيه بعد كل خمسة وعشرين سنة، أو يصل من واحد إلى مائتين وستة وخمسين بعد قرنين، بينما لا تزيد وسائل الرزق خلال هذه المدة إلا إلى تسعة، وخلال ثلاثة قرون يكون عدد السكان بالنسبة لموارد الرزق (4096: 13)، وكأن الله وكّل إليهم رزق من في السماوات ومن في الأرض! سبحان الله عمّا يصفون. فيحاول الإنسان في هذا العصر قتل الأولاد أحياناً والإجهاض أحياناً، لكن الوسيلة المتوفرة في ظل التقدم العلمي هي: منع الحمل، وأحياناً: التعقيم الدائم! تحت مُسمّيات: التحديد، أو التنظيم، أو غير ذلك، فهل هذا الخوف في محله؟! وهل زيادة السكان تقتصر على عدد موارد الرزق؟! في الحقيقة والواقع أنه لم يحصل زيادة في النسل السكاني في أي مرحلة من مراحل التاريخ بتلك النسبة التي هي متوالية هندسية، ولا أتى على الإنسانية حين من الدهر كانت النسبة فيه بين عدد السكان وموارد الرزق كما يدّعون، ولو حصل ذلك لكان النسل الإنساني قد انقرض والله أعلم، ولَما كنا وجدنا أنفسنا اليوم على وجه الأرض.

زيادة مصادر الرزق بتقدم الإنسان وتطوره

زيادة مصادر الرزق بتقدم الإنسان وتطوره كانت الكرة الأرضية موجودة قبل هذا الإنسان، وكان عليها كل الأسباب التي تحفظ حياته، والإنسان ما خلق فيها شيئاً بنفسه، بل كل ما فعل أنه اكتشف ما كان مخبوءاً في بطنها، أو مبثوثاً على وجهها بجهده وذكائه بعد هداية الله وتوفيقه، يقول الله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10] فالله قد قدّر فيها أقواتها، وهيأها الله لنا قبل أن نخلق، فالرزق مخبوء في الأرض، وما هذه القفرة التي قَفَزتها دول الخليج البترولية عنا ببعيد. فالأرض ما زالت ثرواتها كامنة، فيها من الطاقات والأرزاق ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وكل من يطالع تاريخ الخليج قبل اكتشاف البترول يعلم أنهم كانوا على حالة من الضنك والفقر الشديد جداً، فهذا الرزق المخبوء الذي خبأه الله لهم في الأرض، ثم أخرجه لهم هو نعمة من فضله تبارك وتعالى، وهذا الرزق ما كان يخطر ببال مالتوس ولا غيره عندما أخبر عن المتوالية الهندسية! والمتوالية الحسابية! لكن الله يعلمه، فهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض سبحانه وتعالى. فالإنسان ليس له أي دور في خلق هذه الأسباب، ولا تعيين مواضعها، ومعرفة مقدارها، وساعات ظهورها، كما يقول عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] ينزل الله الرزق بحكمة، وكل ما يصلح الناس ينزله الله عز وجل، فالذي خلق الإنسان وأخرجه من العدم إلى عالم الوجود هو الذي قدر تقديراً محكماً ما سيحتاج إليه لحفظ حياته فوق هذه الأرض، وأودعها وسائل الرزق قبل أن يدب عليها الإنسان نفسه، يعني: الكون خُلق قبل أن نأتي نحن، وعلى قدر ما زاد من أفراد النسل البشري وما زاد من جهوده لحفظ حياته كانت تتكشف له خزائن لا تعد ولا تحصى من موارد الرزق، فالحقيقة على عكس كلام مالتوس وغيره، حيث كان التناسب بين عدد السكان ومصادر الرزق تناسباً طردياً، يعني: كلما زاد عدد السكان كلما زادت مصادر الرزق، وهذه هي الحقيقة، حتى أننا نلاحظها على نطاق بعض الأفراد، حيث تجد بعض الناس عنده من الأولاد عدد كبير، فتجد رزقه -سبحان الله! - يأتيه على قدر هذا العدد، فالبركة تكفي هذا العدد، فإذا تزوج أولاده أو سافر بعضهم أو نقص العدد بصورة أو بأخرى أو ماتوا مثلاً فربما تلاحظ أن الرزق يمكن أن يقل على قدر العدد الموجود، فهذا يحسه الإنسان ويراه، فكلما توهم الإنسان أنه وضع يده على كل أسباب الرزق إذا بالله عز وجل يكشف له من الأسباب ما لم يخطر له على بال. فالإنسان منذ آلاف السنين كان يرى البخار يرتفع من القدر التي تغلي، لكنه لم يخطر بباله أن هذا البخار سيفتح أمامه في النصف الأخير من القرن الثامن عشر ميداناً واسعاً جداً للرزق في الطاقة البخارية، وكان يرى النفط ويرى فيه خاصية الاحتراق لكنه لم يتوقع يوماً أن عيوناً لا حصر لها من آبار البترول يوشك أن تتفجر على هذه الأرض وتبرز إلى الوجود، حتى خرجت بعد ذلك صناعة السيارات والطائرات، وحصل الانقلاب الهائل في عالم الاقتصاد وموارد الرزق، وكذلك الطاقة الكهربائية قلبت الموازين وزادت في مصادر الرزق، والذرّة التي كانوا منذ قرون يناقشون إمكانية تفتتها من عدمه، وإذا بنا في هذا القرن نجد الذرة تتفتت لتخرج من خزانتها طاقة هائلة جداً لم يكن يتخيلها الإنسان. أيضاً مما ينبغي أن نتذكره دائماً: أن زيادة عدد السكان لا يعني فقط -كما يشوّش هؤلاء المرجفون- زيادة الأفواه الآكلة، بل هو في نفس الوقت يعني زيادة عدد الأيدي العاملة والمنتجة، وكما أشرنا بموجب علم الاقتصاد فإن عوامل الإنتاج ثلاثة: الأرض، ورأس المال، والإنسان، والإنسان أهم وأكبر هذه العوامل، لكن المتعصبين لدعوة تحديد النسل والمتطرفين يصرّون على أنهم لا يرون في الإنسان إلا عاملاً استهلاكياً فقط!! نقول لهم: حتى الإنسان الضعيف الذي يكون عنده أولاد كُثُر فإنه بمرور فترة الحضانة الاقتصادية هذه سوف يصبح هؤلاء الأولاد منتجين، وهم الذين يرعون آباءهم في الكبر، وينفقون عليهم، ويرعون أشقاءهم الصغار. فهي في الحقيقة ليست أنفساً استهلاكية فقط كما يصور القوم، لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، وكما يقولون: الحاجة أم الاختراع، فإذا زاد السكان حصل البحث والسعي وراء مصادر الرزق، فيحصل تعمير أكثر لهذه الأرض، وسوف يبحث الإنسان عن رزق في الأراضي البكر، ويستصلح الأراضي البور، ويبحث عنه في أعماق البحار وفي المناجم، وإلا لو قنع الإنسان بالموجود لتبلد وكسل. يقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] فلا بد أن نكون على يقين من هذه الحقائق، فالارتباط بين النسل والرزق هي قضية عقائدية أولاً قبل أن تكون مخططاً لإبادة المسلمين، وذلك لتعلقه بالربوبية والألوهية. فالله عز وجل يضمن لعباده -برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم- مقومات الحياة دون تفريق، وأما أنت فلست تعرف روحك الذي في بدنك، ولا تفهم سرها، وكذلك قلبك الذي يدق وينبض بطريقة لا إرادية وأنت مستيقظ أو نائم، أين المولد الذي يولّد فيه الحركة؟! من الذي يحفظ لك هذا القلب وكل وظائف الجسم التي تعمل فتبقى مقومات الحياة إلى أجل يعلم الله مداه؟! أما من ناحية أعمال الربوبية: فمعنى الربوبية التربية وتوفير مقومات الحياة، فمن الذي يؤمن لنا الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والشمس التي هي عامل مهم جداً في استقامة حياتنا؟! ومن الذي يحفظ استقرار الأرض التي إذا خرج منها الإنسان إلى الفضاء فإنه يراها معلّقة مثل الكرة في الفضاء؟! من الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا؟! {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، ليس إلا الله عز وجل، فلا تقلقوا على أرزاق الناس، وليس بأيديكم مفاتيح الرزق، بل هي بيد الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] فظاهرة التوازن -كما سنبين إن شاء الله- من الضوابط التي ضبط الله بها هذا الخلق، فهناك توازن بين المخلوقات به تستقيم الأمور، تأمل مثلاً: ظاهرة العلامة بين الأنهار والبحار، فمنذ أن خلق الله عز وجل الأنهار ووصلها بالبحار والظاهرة مستمرة، وهي: أن الأنهار تصب في البحار، لا الأنهار جفّت ولا البحار امتلأت!! من الذي يزن ذلك؟! هو الله تبارك وتعالى. من الذي ينظم نسل الأسماك في الماء، والطيور في الهواء، والحيوانات على الأرض؟! لو أن الوحوش تكاثرت بحيث صارت أضعافاً مضاعفة أكثر من بني الآدميين لأهلكتهم، فمن نظم نسلها؟! هل هناك هيئة تنظيم أسرة المستقبل عند الأسود والوحوش والنمور؟! لا، إنما يدبّرها الله، هذا ليس إلينا نحن، ولا إلى أسرة المستقبل المظلم، والله أعلم. فالذي يحتاج إليه الإنسان هو الخبز وليس أقراص منع الحمل، هذا تصرف سلبي في مواجهة المشاكل، والمفروض أن الإنسان يخرج ما عنده من الطاقة، ويستفرغ وسعه في البحث عن مصادر الرزق، لكنهم يقلقون أنفسهم، ويفكرون فيما سيحدث بعد خمسين سنة بعد ألف سنة كيف سيكون شكل مصر ومستقبلها ومستواها!! لكن الذي نعلمه جيداً أننا بعد مائة سنة سنموت جميعاً، وأما قضية الأرزاق هذه فليست إلينا.

أوجه الخلاف بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد المادي

أوجه الخلاف بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد المادي يذكر علماء الاقتصاد الإسلاميون أن هناك خلافاً جوهرياً بين الاقتصاد الإسلامي وطريقة التعامل مع هذا الوجود، باعتبار أنه ينبثق وينطلق من منطلق إيماني بالغيب والرزق، وبين الاقتصاد المادي أو الاقتصاد السياسي، فعلماء الاقتصاد الغربي يقررون أن الندرة أصل من أصول الخلق، أما الإسلاميون فيقولون: الندرة ليست أصلاً من أصول الخلق، لكن الندرة -وهي قلة موارد الرزق- مجرد ظاهرة يكون لها أسباب وعوامل، كأن يعزف الإنسان عن أن يستفيد مما في الأرض من خير، أو أنه قاصر عن الإحاطة والتنظيم إلى مستويات كافية بحيث لا يستطيع أن يستوعب ما خلقه الله للجنس البشري من رزق، فالأشجار كثيرة في الأرض، لكن الإنسان عاجز عن أن يقطع هذه الأشجار ويهذبها كي يستفيد منها، كذلك عند الإنسان ميل إلى التقليل من التضحية والشقاء في سبيل كسب العيش، فإذا استطاع الإنسان أن يقعد عن طلب الرزق نهائياً، وفي نفس الوقت يتنعم بكل ما يرى، فهو لا يتردد في ذلك، فهذا أيضاً من عوامل الندرة. يتلف الناس أيضاً كثيراً مما ينتجونه بأسلحة الدمار، وأدوات التخريب المعروفة، والحروب الباغية الظالمة، هذه كلها من أسباب وعوامل حصول هذه الندرة، فهي تتلف جانباً كبيراً من المنتج، ويأتي إلى جانب ذلك التظالم الذي يكون بين الناس في قسمة الأرزاق وعدم العدل في ذلك، حتى يصل الأمر إلى حد الإتلاف. وبعض عوامل الندرة تحصل مثلاً في بلاد متقدمة مثل أمريكا، فعندما يزيد محصول القمح ويكون الناتج والمحصول كبيراً جداً، يعمد الرأسماليون إلى أخذ الكمية الزائدة ويلقونها في البحر ليقل المعروض فيزداد الطلب عليه ولا يحصل كساد في السوق، يلقونه في المحيط لأجل هذا!!. فالاقتصاد الإسلامي يقرر أن الأصل في الخلق هو الوفرة وليس الندرة؛ إيماناً ويقيناً بأن تقدير العزيز الحكيم القاهر فوق عباده يقتضي ذلك، فتقدير الله عز وجل لما يحتاج إليه الناس لا يمكن أن يجيء مقصراً عما يلزم، بل هو كافٍ ويزيد. يقول عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10]، هناك في هذا الخلق ضوابط ومقاييس دقيقة، والموضوع لا يمشي سبهللاً، بل هناك ضوابط وقوانين وسنن تحكم هذا الوجود، ونحن نعرف تصور الغربيين لقضية الألوهية، فإنهم إذا تكرموا وأقرّوا أن هناك إلهاً، فهم يزعمون أن هذا الإله خلق العالم فحركه ثم تركه وانتهى كل شيء!! أما نحن فإيماننا بالله عز وجل ومعرفتنا بصفات الله هي على النقيض تماماً من كلامهم، فالله عز وجل لا يترك خلقه هملاً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، فكل شيء في هذه الدنيا وفي هذا الوجود يجري ويسري حسب قوانين تحكم كل شيء فيه، فالكوكب الذي نعيش فيه لم يخلق دون هذه القوانين المحكمة، وقد ثبت بالمشاهدة وبالبحوث العلمية جيلاً بعد جيل أن هذه الضوابط شاملة وثابتة، ومن أهم هذه الضوابط: التوازن، والوفرة، وغير ذلك.

مبدأ التوازن والوفرة

مبدأ التوازن والوفرة التوازن: هو حالة من النسبية يتحقق به الوضع الأمثل. وقد يكون في التوازن تكافؤ تام مثل كّفتي الميزان، والتوازن في كفتي الميزان يعني: أن ما في هذه الكفة يساوي ما في الكفة الأخرى، فهذا تكافؤ تام، وفي غير التكافؤ التام يكون هناك تناسب، وبوجود هذه النسب والمحافظة عليها يصلح شأن الخلق. فمثلاً: عدد الرجال والنساء ينشأ بينهما نسبة فيها نوع من التوازن، بحيث يكاد يكون عدد الرجال موازياً ومساوياً لعدد النساء، وقد تُكسر هذه القاعدة نادراً. وأيضاً: نسبة السكر في الدم، مثلاً: النسبة بين كريات الدم البيضاء والحمراء، فقد تكون البيضاء مثلاً: 6000 في المللي جرام، والحمراء مثلاً تكون 8000000، فهذه النسبة بينهما ليس فيها تكافؤ تام، وبمثل هذا التوازن يكون السائل الحيوي في حالته المثلى، فكل شيء في العالم مقدّر بقدر وبميزان مضبوط ومحكم بما في ذلك النسل، سواء الذكور أو الإناث. أيضاً في حالة الاقتصاد هناك توازن بين الموارد والطاقات، وهناك توازن بين المواد الغذائية وكمية الماء وبين البشر، أما مصدر هذا التوازن فهو أن الله لا يغفل -تعالى الله عن ذلك- عن تدبير أمر عباده وضمان الرزق لهم، وفي القرآن الكريم آية صريحة وواضحة في سورة الحجر، قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] فهذا هو معنى التوازن الموجود، ثم إن المشاهدة العلمية المستمرة أيضاً تؤكد ذلك. ومن ضوابط هذا الخلق: الوفرة، ومعناها: أن ما في الأرض من الأمور الطيبة والموارد الجافة أو السائلة أو الطاقات يتواجد بكثرة تزيد على حاجة الإنسان. فقانون الوفرة عندنا يعارض قانون الندرة عند الغربيين، فيجب التفريق بين الاتجاهين، فالندرة قد تقع، لكن يكون لها أسباب وتكون عبارة عن ظاهرة طارئة وليست هي الأصل، فمثلاً: الأحياء المائية في البحار والمحيطات هل يشك أحد أنها تفوق حاجة الإنسان في أي وقت؟! لا، فهي تفوق حاجة الإنسان في أي وقت، ومع ذلك تقل الأسماك في بعض الأوقات وتختفي، فتتذبذب الأسعار وترتفع حتى ترهق الناس، فالندرة تقع، لكن بأسباب، وإلا فالأصل أن الأرزاق موجودة بحيث تكفي احتياجات الخلق. هذا ما تيسر من تناول بعض ما يتعلق بالرزق، وارتباط موضوع تحديد النسل بقضية الرزق، والإنسان لا بد أن يكون عنده يقين أن الذي خلق هو الذي يرزق، وأنه لا أحد يرزق سوى الله تبارك وتعالى، وأن الله كما يخلق فلا يمكن أبداً أن يترك خلقه هملاً، إذ إن الذي خلق الأفواه هو الذي يخلق لها الطعام، وليس على الإنسان إلا أن يسعى ويأخذ بالأسباب، فييسر الله له الرزق، ومع ذلك نؤمن إيماناً جازماً أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص ولا يردّه كراهية كاره، فكل ما كُتب للإنسان فإنه سوف يناله، وإنما التوكل يكون مع الأخذ بالأسباب، لكن الرازق الحقيقي هو الله كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

مفهوم الفرقة الناجية

مفهوم الفرقة الناجية Q هل أنت من الفرقة الناجية؟ A بالنسبة لكلام الإنسان عن نفسه، فالأعمال بالخواتيم، ولا يستطيع أحد أن يضمن لنفسه النجاة، والفرقة الناجية لا يقتصر مفهومها فقط على الجانب العلمي أو الاعتقادي، وإنما يدخل فيه أيضاً الجانب العملي والسلوكي، فمن ناحية العمل والسلوك أخشى ألّا أكون منها، وأسأل الله أن يتوب علي، وأجتهد في السير في أهل الفرقة الناجية. أما من جهة العقيدة والعلم: فنحن نتطفل على علم السلف المشهود لهم بالخيرية، والذين اجتمعوا على هذه العقيدة السلفية، وهي عقيدة الفرقة الناجية التي تبرأ من أهل البدع بكافة أصنافهم، كالخوارج والشيعة والقدرية وغير هؤلاء، فالحمد لله أن عافنا من هذه البدع، ونسأله أن يتم علينا العافية، ويحسن خواتيمنا أجمعين.

الموقف الحق مما حدث في الجزائر

الموقف الحق مما حدث في الجزائر Q ما هو موقفنا مما يحدث الآن في الجزائر، وجزاكم الله خيراً؟ A أما ما يحدث في الجزائر فهو في الحقيقة ليس جديداً، بل هو شيء متوقع، ولعل هذا من الخطأ الذي يكون قد وقع فيه إخواننا والله أعلم، فإن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، والله أعلم بأعذارهم، لكن الظاهر عموماً يُفهم منه أن إخواننا كانوا يحتاجون إلى الإلمام أكثر بتأريخ الدعوات الإسلامية، وأسلوب الحكام الطغاة في التعامل مع الدعوة الإسلامية، وأيضاً مدارسة التاريخ، وبالذات التاريخ المعاصر، والذي سبقت فيه كثير من التجارب التي تحاول الإصلاح والتغيير عن طريق ما يسمى بالحل البرلماني، عن طريق القنوات الشرعية! فهذه القنوات الشرعية لا يسمح للمسلمين الشرب منها، ولا العبور فيها ولا الاستحمام فيها! فالمسلمون يُمنعون من أي شيء، ودائماً هم يُستثنون من هذه القنوات، مع أنها مسماة باسم الشرعية، وهذه طبيعة الكفر وأتباعه، والشاذلي بن جديد -الله أعلم- سواء فعل ذلك آجلاً أم عاجلاً أو لم يفعل، فالمتوقع أن يستغيث حتى تتدخل هذه الدول الكافرة لمواجهة الإسلاميين، وبالذات فرنسا، وقد وقع بالفعل أنهم أمدّوا هذا الطاغية بكل المدد المادي والمعنوي في الفترة الأخيرة من أجل مساندته؛ حتى لا تنجح الدعوة الإسلامية في الجزائر وتحقق مأربها. والذي نستطيع أن نعمله هو أن نكون معهم بقلوبنا، وأن ندعو الله عز وجل لهم أن يمكّن لهم، وينجيهم من هذا الظالم الطاغية، وأن يأخذه وإخوانه من الظالمين أخذ عزيز مقتدر، فهذا أقل ما ينبغي فعله، وهو أن نجتهد في الدعاء لإخواننا.

حكم اقتناء أو مشاهدة التلفاز بحجة الاقتصار على ما فيه خير ومنفعة

حكم اقتناء أو مشاهدة التلفاز بحجة الاقتصار على ما فيه خير ومنفعة Q ما حكم سماع برنامج ثقافي أو ديني في التلفزيون إن تحكمت في تشغيله؟ A بعض الناس يتخذون هذا ذريعة لإحضار هذا الجهاز واستعماله، ويظنون أنه يمكن أن يهذبوا هذا الذئب، ومن قبل قلنا: من التعذيب تهذيب الذيب، وحسن الظن بمثل هذا الجهاز هو نوع من الوهم، والواضح والمقطوع به في مثل ظروفنا هذه أنه جهاز حافل بالمفاسد بكل أنواعها، وأنه لا مسوغ على الإطلاق أن يجلس إليه من يخاف الله تبارك وتعالى والدار الآخرة، لغلبة الفساد جداً على أنشطته وبرامجه، والله تعالى أعلم.

حكم تشغيل التلفاز بحجة طاعة للوالدين

حكم تشغيل التلفاز بحجة طاعة للوالدين Q هل يجوز أن أشغل التلفزيون لوالدي أو لوالدتي إن أمرني بهذا؟ A إن كان أمرك بأن تشغله من أجل سماع القرآن الكريم أو ما ليس فيه شيء من المحرمات -وهذا نادر جداً- فلا بأس في ذلك، أما الغالب فهو أنه لا يخلو من معاص أقلّها رؤية الفاسقات المتبرجات، وسماع الموسيقى، وربما رؤية مشاهد سيئة أو خليعة أو غير ذلك، فإن كان هذا الأمر يؤدي إلى محرم فلا ينبغي أن تتسبب في ذلك، وينبغي عليك أن تبين لوالديك أنك مستعد لطاعتهما والامتثال لأمرهما في كل ما يرضي الله عز وجل، فإن كان في ذلك معصية فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فلا تطعهما فيما فيه معصية لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

حكم افتتاح المحافل والمناسبات بقراءة القرآن

حكم افتتاح المحافل والمناسبات بقراءة القرآن Q ما حكم بدء المحافل والمناسبات بقراءة القرآن؟ A أما قراءة القرآن بحدّ ذاته فلا شك أنه أفضل الذكر على الإطلاق، فإننا لن نتقرب إلى الله عز وجل بشيء أفضل مما جاء من عنده تبارك وتعالى وهو الكلام المجيد، وكان الصحابة ربما اجتمعوا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم واحداً منهم أن يقرأ، والباقون يستمعون، فلا بأس في قراءة القرآن في المحافل بل هذا مستحب، لكن لا يتخذ عادة ثابتة وسنة راتبة حتى يتوهم الناس أن ذلك من الدين، فتقطع بعض الوقت ولا يداوم عليها، والله تعالى أعلم.

عدم صحة حديث: (من صلى علي مائة مرة في ليلة الجمعة)

عدم صحة حديث: (من صلى علي مائة مرة في ليلة الجمعة) Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي مائة مرة في ليلة الجمعة -أو يوم الجمعة- غُفر له ذنوب ثلاث وثمانين سنة)، فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ A لا أعتقد أنه صحيح، والله أعلم.

حكم من سب النبي صلى الله عليه وسلم

حكم من سب النبي صلى الله عليه وسلم Q ما حكم من سب الرسول صلى الله عليه وسلم. A من سبّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يقتل وإن تاب؛ لأنه إن تاب فإنه تنفعه التوبة في الآخرة، ولا تنفعه في رفع العقوبة عنه في الدنيا؛ لأن الأمة نائبة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الانتصار لعرضه عليه الصلاة والسلام، وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم ربما وقع السبّ له فعفا هو؛ لأنه صاحب الحق، أما الأمة فلا تملك أن تتنازل عن هذا الحق؛ لأنها نائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن لم يتب الذي سبه فسحقاً سحقاً، وإن تاب فهي قد تنفعه في الآخرة، والله أعلم.

حكم من سب الإسلام

حكم من سبّ الإسلام Q السابّ لدين الله ماذا عليه إذا أراد التوبة إلى الله عز وجل؟ A إذا سب دين الإسلام فإنه يصبح مرتداً عن دين الله عز وجل، ولا يُعذر بالجهل، فإنه لا يجهل أحد وجوب تعظيم الله عز وجل، حتى اليهودي والنصراني! فلا أحد يجهل أن الله عز وجل يجب أن يُعظّم، فالسب والاستهزاء -والعياذ بالله- ردّة وخروج عن دين الإسلام، ويترتب على ذلك مباشرة أن ينفسخ عقد النكاح، ويجب التفريق بينه وبين زوجته، ثم يطبق عليه كثير من الأحكام مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) يعني: أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل رِدّةً. وكما أنه ينفسخ عقد نكاحه ويجب مفارقة زوجته له، فإنه أيضاً يفقد ولايته على أولاده، فلا يصلح أن يكون ولياً لابنته مثلاً في الزواج، ولا يرث أقاربه المسلمين، ولا يرثه أقاربه المسلمون، ولا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وتحبط أعماله في الدنيا والآخرة، ويكون من أهل جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، والعياذ بالله. فإذا استتيب قبل موته وتاب توبة نصوحاً فإن الله يتوب عليه، وإلا فيُقتل؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من بدّل دينه فاقتلوه)، وهذا الكلام على وجه العموم. أما في الحالة الخاصة فينبغي التثبت؛ لأن بعض الناس قد يسبّ الدين لبذاءة عنده في اللسان، ولا يقصد به سب دين الإسلام، بل حسب الصياغة وحسب استعمال الكلمة في العرف، فإن الدين أحياناً يطلق على الطريقة أو المنهج أو الأسلوب لدى الإنسان، لكن ينبغي حينما يحذر الناس من هذا الأمر أن يكون الكلام عاماً؛ لترهيبهم من هذه المعصية الخطيرة، فعلى الأقل حتى لو كان الإنسان لا يقصد دين الإسلام، أو هو بذيء اللسان أو لم يقصد ذلك فيجب أن يعزره الإمام إذا لم يحكم بردته، وأمر هذا التمييز يكون إلى القاضي الشرعي، والله تعالى أعلم. وحد الجلد لا يقيمه إلا الخليفة أو الحاكم المسلم، أو القاضي الشرعي، وليس لأحد من الرعية أن يقيم الحد؛ لأنه لو نُقلت إقامة الحدود إلى آحاد الرعية فسيحصل كثير من الهرج والفتن، وكل إنسان سينصّب من نفسه حاكماً، لكن إن وقع أن أحداً أقام حداً من الحدود في الدولة الإسلامية بدون إذن من الخليفة، فإنه إذا أصاب الحد موقعه ومن يستحقه بالفعل، وتم استيفاء الشروط فإنه يعزر لأنه افتأت على الإمام، يعني: لتجاوزه حده، وقيامه بسلطة غيره بدون إذنه، أما في حال غياب الدولة الإسلامية فإنه لا يوجد إمام حتى يفتئت عليه، كما يقوله بعض العلماء المعاصرين. وعموماً فهذه أمور تخضع لقاعدة المصالح والمفاسد، فينبغي أن يرجع فيها إلى أهل الحل والعقد، أو أهل العلم والدعوة ووجهاء الناس ممن عندهم فقه وبصيرة بالأمور؛ لأن هذه الأشياء إذا حصل التهاون فيها فقد تحصل كثير من العواقب غير الحميدة، والله تعالى أعلم.

أمتي لا تنحرف [3]

أمتي لا تنحرف [3] إن الدعوة التي تزعّمها الكفار، وتبعهم عليها أذنابهم من أبناء المسلمين، فأخذوا يؤيدون ويؤكدون عليها من أهمية تنظيم وتحديد النسل، دعوة سخيفة، وما دفع الكفار إلى ذلك إلا خشيتهم من زيادة عدد المسلمين وتكاثرهم، فهم يحاولون إقناعهم بهذه الفكرة بينما يشجعون كثرة النسل في بلادهم، ويكافئون من ينجب الأولاد، ثم يزعمون أنهم يخافون على المسلمين من المجاعة الناتجة عن كثرة السكان!

العلاقة بين تقليص الجهاد والدعوة إلى تحديد النسل

العلاقة بين تقليص الجهاد والدعوة إلى تحديد النسل

خوف الكفار من عقيدة الجهاد عند المسلمين وتنفيرهم عنها

خوف الكفار من عقيدة الجهاد عند المسلمين وتنفيرهم عنها فانظر كيف صنع الشاذلي بن جديد كما يصنع الفأر الذي احتار كيف يخرج من المصيدة، فقام يستعمل قوانين الطوارئ، ثم يخرج الجيوش، ويطلق النيران، ويلجأ للبطش والتعسف مع بني جلدته، ثم تسارع الدول الغربية كإيطاليا بإعانة الجزائر، وتعطي الحكومة الجزائرية وتفيض عليها بالأموال، وتزعم أن نظام الحكومة الجزائرية هو أصلح نظام يمكن أن يتعامل مع هؤلاء الذين يسمونهم: بالإسلاميين، أو الأصوليين. وقامت فرنسا بالضغط من جانبها، وتقول أمريكا: لا يمكن أن نسمح بقيام حكومة إسلامية في الجزائر! فأين الديمقراطية؟! وأين الحرية؟! وأين هذه المبادئ الكاذبة؟! وهم من الممكن أن يتسامحوا مع أي نظام في العالم إلا النظام الإسلامي والدولة الإسلامية، فإذا أقيمت نواة دولة إسلامية في أي بقعة من بقاع الأرض فهم يعرفون جيداً ما يعنيه ذلك من تهديد لمصالحهم، وتهديد لوجودهم. ولا شك أنهم قد تلقوا درساً لن ينسوه في أفغانستان، وما زالوا يتلقون شيئاً منه أيضاً في فلسطين، وهم يعرفون طبيعة هذه الأمة، وطبيعة هذه العقيدة، ومن أجل أنهم يعرفون ذلك، فهم يخافون من الإسلام ويحاربونه بكل هذه الوسائل، ويخافون من عقيدة الجهاد في هذا الدين. أثناء الاحتلال الفرنسي -وبالذات في الجزائر حسب ما قرأنا- كان الفقهاء يُمنعون من تدريس كتاب الجهاد في دروس أئمة المساجد، فحينما تقرأ في صحيح البخاري أو غيره وتصل إلى كتاب الجهاد يمنعك الحكام الفرنسيين أن تقرأ أحاديث الجهاد أو نصوص الجهاد؛ لأنهم يعرفون أن من اعتقد هذه العقيدة وآمن بهذا القرآن، فسوف يكون أعظم أمل له في الحياة أن يعقد صفقة بينه وبين الله تبارك وتعالى مؤداها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. شيء طبعي أن يخاف اليهود والنصارى من دين أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وقد كانوا ولا يزالون أعظم حرصاً على الدنيا، ويحبون البقاء في الدنيا، {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، إن كانوا هم كذلك، فأين هم من المسلمين الذين يقول الله تبارك وتعالى لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]. فالخوف من الموت والخوف من قلة الزرق -كل هذا- لا مكان له في هذه الأمة، إذا رُبّيت على عقيدة الإسلام فلن تخاف الموت؛ لأنها تعلم أن: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38]، ولن تخاف على الرزق؛ لأنها تعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يبسط الرزق، وأن الرزق في السماء: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]. أيضاً: كيف لا يخافون ديناً يعلم أتباعه أن التولي يوم الزحف من أكبر الكبائر ومن الموبقات؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16]. كيف لا يخافون هذا الدين الذي ينفخ في أتباعه روح الاعتزاز والانتصار بالله عز وجل؟! قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، ويقول تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. أيضاً: كيف لا يخافون من دين يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه؛ مات على شعبة من النفاق)؟! إذاً: روح الجهاد تسري في دم هذه الأمة إذا عادت إلى دينها، وإذا فهمت دينها، فلذلك تجد الغزو يعمل بكل الأساليب لكي تموت هذه الروح في الناس، إما بتثبيط الشهوات، أو بتثبيط الشبهات، وإما بتثبيط أجهزة الإعلام، وإما بالبطش، وهكذا تتلون الأساليب، وكلها تهدف إلى هذا الهدف وهو عزل الولاء لهذا الدين، وعزل هذه الأمة عن التربية الإسلامية الحقيقية. إذا تأملت طريقة تدريس التاريخ في المدارس، وتصفحت كل مراحل التاريخ الإسلامي التي درسناها في المدارس في الإعدادية والثانوية -مثلاً- تجد أن التاريخ الإسلامي يوضع بطريقة أن هذه أمة منهزمة! من خلال التركيز على مراحل وفصول انهيار أمة؛ لغرس مفهوم أن الأمة الإسلامية تنهار، ثم في تدريس تاريخ أوروبا والغرب يأتيك بانطباع أمة تبنى وتنمو وتقوى حتى تصير مثل العملاق العظيم! فهذه الروح الإنهزامية الخبيثة مبثوثة في التاريخ، فلا يذكرون سوءات الحضارة الأوروبية، ويزعمون -بل يفترون الكذب- على الحضارة الإسلامية وعلى التاريخ الإسلامي. مثلاً: قصة سليمان الحلبي لا تجد أبداً أي كتاب من كتب التاريخ ذكر كيفية قتل الفرنسيين سليمان الحلبي؛ عندما قتل كليبر، وليس من الممكن أن تجدها في كتاب تاريخ، حتى يدفنوا سوءات السادة الفرنسيين الذين يزعمون حرية الإنسان، واحترام حقوق الإنسان، فإنهم عذبوا سليمان الحلبي حتى أقر، ثم إنهم قطعوا يده أمامه وشووها، وفعلوا به الأفاعيل من التعذيب الوحشي قبل أن يقتلوه ويريقوا دمه، فهذه سوءة تستر مع أنه كناحية وطنية وقومية المفروض أن يقولوا: هذا بطل، لكنهم يفرضون التاريخ في المدارس بدون ما يشرب الجيل كراهية هؤلاء الكفار، ووصفهم بالوصف الذي يستحقونه بصفتهم أعداء لله، وأعداء لهذا الدين. ولو أردنا استقصاء النماذج على ذلك لطال الوقت بنا جداً، ولخرجنا عن الموضوع الذي لم ندخل فيه حتى الآن، لكن نذكر الأسباب التي من أجلها يخافون من هذا الدين.

نموذج للتربية الإسلامية على حب الجهاد

نموذج للتربية الإسلامية على حب الجهاد روى البخاري والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أم الربيع بنت البراء -وهي أم حارثة بن سراقة - أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا نبي الله! ألا تحدثني عن حارثة؟ -وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: يا أم حارثة! إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى). قوله: سهم غرب، يمكن أن تقول: سهمُ غربٍ، أو سهمٌ غربٌ، وقد تحرك الراء، وهذا إذا لم يدر من أين أتاه هذا السهم، ومن الذي ضربه به، فيطلق عليه هذا الوصف. وفي رواية: قال أنس: (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول! لقد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع)، وفي بعض الروايات: (وإن تكن الأخرى اجتهدت عليه في البكاء، فقال: ويحك أوَهَبِلْتِ؟! أجنة واحدة هي؟! إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس الأعلى)، وزاد رزين: (إنه في الفردوس الأعلى، وسقفه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة، وإن غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، لَقَاب قوس أحدكم أو موضع قدّه -القاب: هو القَدْر، والقدّ: هو السوط- من الجنة خير من الدنيا وما فيها)، فمجرد الموضع الذي يوضع فيه السوط أو القوس خير من الدنيا وما فيها. ويقول عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها، ولنصيفها -يعني: خمارها- خير من الدنيا وما فيها). فالشاهد من هذا الحديث السابق: قولها رضي الله عنها: (ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت)، وفي رواية: (فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب)، فهذه الأم مع تعلقها الشديد بابنها فإنها تصبر وتحتسب وترجو الأجر من الله تبارك وتعالى. تقول: (وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء) وفي الروايات الأخرى: (وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع) أي: من البكاء والحزن الشديد عليه وذلك إذا علمت أن ابنها لم يفز بالجنة، فإن كان قد فاز بالشهادة وانتقل إلى ما هو خير من الدنيا فإنها تصبر وتحتسب، ولا تجزع ولا تحزن. فهذه هي التربية النبوية، وهذه هي تربية الإسلام للنساء فضلاً عن الرجال، فإن هذه الأمة -كما ذكرنا- أمة ولود، تلد لأن لها رسالة في الحياة لا تنفك عنها أبداً، ألا وهي ذروة سنام هذا الدين، وهو الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. فهذا الفعل من هذه الأم -ونظائرها كثيرات جداً في التاريخ الإسلامي- لعله هو السبب الذي جعل أعداء الإسلام يخافون من هذا الدين، وهم يفقهون جيداً طبيعة هذه الرسالة وطبيعة هذا الدين، وأنه إذا عادت روح الإسلام من جديد في هؤلاء المسلمين فلن تقف أمامهم قوة في الأرض، فهم يعلمون جيداً ما الذي يمكن أن تثمره التربية الإسلامية، والفهم الإسلامي الصحيح لرسالة هذه الأمة في الوجود من مصاعب تزلزل وتهدد كيانهم. وإذا قلبنا صفحات التاريخ الإسلامي فإنا نجد نماذج كثيرة جداً، سواء من النساء أو حتى من أطفال المسلمين، فهناك علاقة وثيقة بين ما شرعنا في دراسته من قضية تحديد النسل، والترغيب في أن تكون الأمة كلها ولوداً لا امرأة واحدة، وبين رسالة هذه الأمة وهي الجهاد والبذل في سبيل الله تبارك وتعالى، وما صوّر لنا من الترغيب فيما يضاد المقاصد العليا للشريعة الإسلامية إنما هو مظهر من مظاهر المؤامرة المحكمة على عقائدنا، وعلى ديننا، وعلى أمتنا.

نموذج عصري للطفل المسلم المجاهد

نموذج عصري للطفل المسلم المجاهد نذكر أنموذجاً يحضرنا من العصر الحديث، وقد حدث حينما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، وتصدى لها المسلمون من منطلق الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فقد قام فتىً صغير من الصعيد بالتسلل والرحيل إلى الشمال؛ للجهاد في القاهرة، ثم كان هذا الفتى يتسلّل بمفرده كل ليلة إلى معسكر الفرنسيين، فيدخل مخزن الأسلحة ويستولي على بنادق الفرنسيين، ثم يعود سابحاً في الترعة إلى أهله، فيتسلح بهذه الأسلحة في مقاومة الفرنسيين، وعندما اكتشف الفرنسيون النقص في الأسلحة صدرت الأوامر من القادة الفرنسيين إلى الحراس بالترصّد للمتسللين، فلقد ظن الفرنسيون أن الذي يقوم بعملية السطو على الأسلحة من مخازنهم عصابة هائلة، فإذا بهم يفاجئون بهذا الصبي وحده يصنع هذه العملية، فانقضّوا يحاولون القبض عليه، فما كان من هذا البطل الصغير إلا أنه ظل يقاومهم حتى انكسرت ذراعه ولم يستطع الحركة، فقبضوا عليه وحملوه إلى قائد الحملة وكان يُدعى: ديزي، فلما رآه القائد دُهش بشجاعته وبطولته، فعرض عليه أن يتبنّاه -أي: يتخذه ابناً له- فرفض وقال له: إنك كافر! فانظر إلى وضوح القضية في حس هذا الصبي الصغير! فمع أنه فتىً صغير لكنه يعرف طبيعة العلاقة بيننا وبين هؤلاء الكفار، فرفض التبني؛ لأن ذلك القائد كافر، وقد أُدهش وأُذهل القائد الفرنسي بشجاعته وبسالته، فعرض عليه أن يطلقه على أن يعده بألا يعود إلى سرقة السلاح، فرفض أن يعده بذلك ما دام الكفار باقين في بلاد المسلمين، وكان يمكن أن يكذب عليه ويعده، ثم يعاود أخذ الأسلحة، لكن مبدأ الصدق قد ترسّخ في نفسه منذ الصغر، وترسخت فيه الشجاعة في مواجهة الباطل، فما كان من القائد الفرنسي إلا أن أطلق سراحه، وأمر بتشديد الحراسة على السلاح!!

خوف الكفار من انتشار الإسلام جعلهم يدعون المسلمين إلى تحديد النسل

خوف الكفار من انتشار الإسلام جعلهم يدعون المسلمين إلى تحديد النسل إنّ أعداء الإسلام لا زالوا يخططون، ومن مخططاتهم الترويج لهذه الفكرة الخبيثة وهي: فكرة تقليل النسل المسلم، فهذا مظهر من مظاهر هذه المؤامرة؛ لأنهم يدركون كثيراً من الحقائق، لكن -وللأسف- أن كثيراً من المسلمين لا يعونها ولا يعرفونها، فهم يعرفون جيداً أن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي مهما ظهر الأمر بخلاف ذلك، فهذه حقيقة العلاقة بيننا وبين الغرب، وهذه الحقيقة لا يتفطن لها كثير من المغفلين والسُذّج والبسطاء، لكن هي الحقيقة شاءوا أم أبوا. وفي أثناء الحرب الأخيرة التي حصلت في الخليج كانت تصدر بعض التصريحات أحياناً، وربما كانوا يمارسون هذه الأمور بحرية في الخارج أكثر من هنا، وقامت بعض أجهزة الإعلام الغربية في بريطانيا مثلاً بتصوير أجزاء من الصواريخ التي كانت تقع على العراق، وبعض هذه الصواريخ كان الجنود النصارى الذين أتوا لينقذوا المسلمين من أيدي المسلمين في الظاهر! قد كتبوا عليها بعض العبارات، مثل: إلى صدام: ادع الله، فإن لم يستجب لك الله فالجأ إلى يسوع!! وكتبوا على صاروخ آخر: من أبناء موسى، وإلى أبناء محمد! فهذه الروح الصليبية الحاقدة لا زالت، ولا ننسى قول بابا روما -بابا الكاثوليك- حينما خرج عن وداعته التي يتكلفها، ولم يستطع أن يكتم هذه العبارة فقال: هذه حرب مقدسة، وهذه حرب عادلة، فانحاز إلى هذا الأمر، وتبشبش لما حصل في هذه المحنة. فالشاهد: أن هذه حقيقة نواياهم، فمثلاً هذا: نورنت برون المعروف بنشاطه الجاسوسي لبريطانيا في وسط العرب هنا يقول: إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي. والحاكم الفرنسي في الجزائر يقول في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرءون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم، ونقتلع اللغة العربية من ألسنتهم. وهذا جلادستون -رئيس وزراء بريطانيا الأسبق- كان يقول بصراحة شديدة: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، أو أن تكون هي في أمان!! وحتى قوى الشرق العالمية كالدول الشيوعية فإنها تصرح بذلك، ففي أوزباكستان يقول بعضهم بالحرف الواحد: من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائياً. والحمد لله، فقد سحقهم الله، وأذاق بعضهم بأس بعض. ويقول أحد المنصرين أيضاً: إن القوة الكامنة في الإسلام هي التي وقفت سدّاً منيعاً في وجه انتشار المسيحية، وهي التي أخضعت البلاد التي كانت خاضعة للنصرانية. وقال آخر من هؤلاء المبشرين بالنار: لم يتفق قط أن شعباً مسيحياً دخل في الإسلام ثم عاد نصرانياً! وهذا مصداق لما قاله هرقل حين كان يستعلم عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أتباعه: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقال أبو سفيان: بل يزيدون، قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. فهذا اعتراف من هرقل بالإسلام. وهذا: بن جوريون -رئيس وزراء إسرائيل السابق- يقول: إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم الإسلامي محمد جديد! فالقوم في حالة رعب وفزع شديد من الإسلام، حتى الأمهات إلى اليوم في أوروبا -وبالذات في إيطاليا- حين تريد الأم أن تخيف ابنها فإنها لا تقول: الغول! ولا تقول ما يقوله الناس، بل تقول: سآتيك بـ صلاح الدين، وهذا من شدة الرعب والفزع من صلاح الدين رحمه الله. وهم أيضاً -كما ذكرنا- يعلمون أن مصدر الخطر الحقيقي عليهم هو الإسلام، فتؤخذ كل الوسائل، فصحيح أن الاستعمار قد تلوّن، لكنه لم يظهر في الحقيقة، بل ما زال بنفس العقلية ونفس الموقف الخبيث نحو المسلمين، كما قال عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، فلا زال هذا الموقف هو الحقيقة الكامنة في قلوبهم رغم أنهم يزعمون ويظهرون خلاف ذلك. يقول رائد الجاسوسة نورنت برون أيضاً: كان قادتنا يخوفوننا بشعوب مختلفة، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبرِّراً لمثل تلك المخاوف، فكانوا يخوفوننا بالخطر اليهودي، والخطر الياباني، والخطر البلشفي، لكنه تبين لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيين حلفاؤنا، وأما اليابانيون فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة ستتكفل بمقاومتهم، لكننا وجدنا الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته المدهشة! ويقول دازنوت -وهو أيضاً مستشرق من المستشرقين-: إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا! ويقول هاموتوا -وزير خارجية فرنسا سابقاً-: لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام سوره، وانتشر فيه، فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر. والعجيب أن هذه التصريحات تأتي على ألسنة أعداء الإسلام أنفسهم، مع أنهم حريصون على كتمان هذه الحقائق، لكنهم لم يستطيعوا كتمانها، ويعرفون أنهم لو كتموها فسيكونون كمنكري الشمس في رابعة النهار. ذكرت الإحصائيات الرسمية أنه في أقل من ثلاثين سنة سيزداد عدد المسلمين في أمريكا زيادة كبيرة، بحيث سيشكلون الدين الثاني فيها مع أديان الكاثوليك، وإن شئتَ قلت: الدين الأول؛ لأن الكاثوليك في الحقيقة ليس لديهم دين على الإطلاق! ولذلك بعد ثلاثين سنة -كما يقدرون- فإن الدين الإسلامي هناك سيكون أمراً ملفتاً للنظر؛ بسبب زيادة معدل التناسل للمسلمين، فيكونون هم الفئة الثانية في أمريكا، والله أعلم. وكذلك ينتشر الإسلام في فرنسا بصورة كبيرة، حتى أن زعماءهم في الانتخابات يحاولون مداعبة عواطف الفرنسيين عن طريق التلميح إلى فكرة طرد أو تقليل وجود المسلمين غير الفرنسيين في داخل فرنسا، وبعض الناس يذكرون من مناقب ديغول رئيس فرنسا: أنه حرر الجزائر وأعطاها استقلالها، وكثير من الناس لا يفطنون إلى أسباب هذا التصرف من ديغول، فقد قال لهم في الجمعية الوطنية الفرنسية حين كان هناك أناس يعارضون فكرة استقلال الجزائر؛ لأن فرنسا كانت تنادي بأن لها حقاً تاريخياً في الجزائر، وأنها جزء لا يتجزأ من فرنسا، فشجع ديغول استقلال الجزائر، واضطر إلى أن يصارح أعضاء الجمعية الوطنية بالسبب في ذلك، فقال: تعرفون أن الجزائر فيها كذا مليون مسلم، وإبقاء هؤلاء كمواطنين فرنسيين فيه خطر على فرنسا، أتقبلون في يوم من الأيام أن يصبح مثلاً ثلث هذا الجمعية الوطنية من المسلمين؟! فاجتمعت كلمتهم على الموافقة على استقلال الجزائر. إن من آيات الله، ومن علامات أن هذا دين الله الحق: أنه لا توجد دولة واحدة على وجه الأرض تتبنى قضية الإسلام، ولا توجد دولة واحدة على وجه الأرض تطبق الإسلام كما أنزله الله، أو تتحمس له، أو تقيم نشاطاً جدياً لنشر هذه الدعوة، والدفاع عنها، وبثها في الآفاق، بل كله نشاط رمزي خاضع لفئات قليلة، فالأصل أن كل هذه الأنشطة هي أنشطة آحاد من الدعاة المسلمين، أو الشباب الإسلامي في شتى بقاع الأرض؛ في داخل بلاد المسلمين وخارجها، ثم إن أصحاب هذا الدين يجاربون في بلادهم، ويُنكَّل بهم أشد التنكيل، حتى جاء اليوم الذي يقسَّم الناس فيه إلى إسلاميين وغير إسلاميين، وهذا اصطلاح غريب جداً نسمعه من كثير من الناس، فيقولون: فعل الإسلاميون في الجزائر كذا، وهم ينادون بكذا، فلماذا لا تقولون: فعل مسلم من المسلمين؟! ولماذا تقولون: إسلاميون؟! فمعنى هذا أن المسلمين ينقسمون إلى فئتين: فئة لا تريد إعزاز الدين، ولا شأن لها بالدين، وهؤلاء هم عموم المسلمين، وفئة أخرى اسمهم: الإسلاميون، وهم الذين اتجهوا إلى نصرة الدين، والجهاد في سبيله، والدعوة إليه، والبذل في سبيله، وهكذا. فهذه فكرة خبيثة، فقُل: مسلمون، وقُل: كفار، ولا تقل: إسلاميون وغير إسلاميين، ثم يقرن بهم التشدد والتطرف، ويحصل الطعن الصريح في دين الله تبارك وتعالى ليل نهار، وصباح ومساء، في وسائل الإعلام وغيرها. الحقيقة أننا الآن أصبحنا غرقى في بحر من المؤامرات على هذا الدين من داخل بلاد المسلمين قبل أن يكون من خارجها، وهذا مصداق لقول بعض الناس: خرج الإنجليز الحمر، وبقي الإنجليز السمر! فهي في الحقيقة لغات الاستعمار بين العساكر والحضارة، فهم الذين يحكمون ويقهرون بلاد المسلمين اليوم؛ ليكونوا خدّاماً ومخلصين لأغراض هذا العدو الكافر. يقول البنشاذور وهو يتكلم بموقف خاص عن الإسلام: من يدري! ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين، يهبطون إلينا من السماء مرة أخرى، وفي الوقت المناسب! ويقول أيضاً: لست متنبئاً، لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، ولن تقوى الذرة والصواريخ على وقف تيارهم، إن المسلم قد استيقظ، وأخذ يصرخ: هأنذا، إنني لم أمت، ولن أقبل بعد اليوم أن أكون أداة تسيرها العواصم الكبرى ومخابراتها. وهناك تصريح على لسان أحد قوى الشر، حيث يقول: إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيّرون نظام العالم، فلما سأل أحد الصحفيين هذا الرجل: لكن المسلمين مشغولون بخلافهم ونزاعاتهم؟! فأجابه: أخشى أن يخرج منهم من يوجّه خلافاتهم إلينا. ويقول مسئول في وزارة الخارجية الفرنسية سنة (1952م): ليست الشيوعية خطراً على أوربا فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي؛ فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم من جديد دون حاجة إلى إذابة شخصياتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية، ويقذفون برسالتها إلى مزابل التاريخ، وقد حاولن

نماذج من أبطال المسلمين

نماذج من أبطال المسلمين ما هي النوعيات التي يربيها هذا الدين إذا أعيد من جديد لتوجيه هذه الأمة؟ كان عبد الله بن جحش رضي الله عنه يقسم على ربه ويقول: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني، ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: لم ذاك؟ فأقول: فيك يا رب. فبر الله قسمه، وشوهد في آخر المعركة وأنفه وأذنه معلقتان في خيط رضي الله تبارك وتعالى عنه. كيف لا يخافون من هذا الدين إذا عاد لتربية الأمة من جديد وهو الذي أخرج سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة؟! فقد تنازعا على الخروج للقتال في سبيل الله، وكان لا بد أن يقيم أحدهما ليرعى النساء والأولاد، والآخر يخرج للجهاد، فيقول الابن لأبيه: والله لو كان غير الجنة لآثرتك به، فيقترعان وتخرج القرعة للابن، فيذهب إلى المعركة ويُقتل شهيداً في سبيل الله. كيف لا يخافون من دين يصنع رجالاً لا يعرفون البكاء إلا من خشية الله، أو البكاء أسفاً على فوات فرصة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى؟! يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: عُرضتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغرني ولم يقبلني، فما أتت علي ليلة قطّ مثلها من السهر والحزن والبكاء، إذ لم يقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام المقبل عُرضت عليه فقبِلني، فحمدتُ الله على ذلك. وكيف لا يخافون من دين يربي نساءه على أنهن لا يرين غايةً للحمل والولادة والتربية أقرب من تقديم فلذات الأكباد إلى ساحات الجهاد؟! هذه هي تربية الإسلام، وليست تربية الذي قال: أسرة المستقبل المظلم! هذه تربية الإسلام للنساء المسلمات: أن المرأة لها رسالة خالدة، وهي أن تخرج رجالاً يجاهدون في سبيل الله، وتخرج رجلاً لخدمة هذا الدين، والجهاد في سبيله، كـ أم حارثة التي ذكرنا قصتها آنفاً. وكيف لا يخافون من دين يصنع الفداء والفدائيين الذين لم يعرف لهم التاريخ نظيراً؟! مثل البراء بن مالك الذي كان يقود مجموعة من الجند في إحدى المعارك، فاستعصت عليه قلعة من قلاع العدو، فقال لجنده: ضعوا أتراسكم بعضها إلى جانب بعض، واجعلوني فوقها، وادفعوا بي دفعة رجل واحد، أفتح لكم الحصن بعون الله تعالى، فيفعلون ما أمرهم، ويحملونه على الترس ويدفعون به إلى داخل سور القلعة، فيقفز وحده في الداخل على رءوس الأعداء كالصاعقة، ويقتل منهم أكثر من عشرين رجلاً، ويفر الباقون فزعاً مما رأوا، ويفتح البراء القلعة، وينتصر المؤمنون! وهذا معاذ بن عمرو بن الجموح في معركة بدر، يقول: سمعت القوم يقولون: أبو الحكم لا يُخلَص إليه. أي: أن هناك قائداً من قيادات المشركين وهو أبو جهل شديد البأس لا يستطيع أحد أن يصل إليه، يقول: فلما سمعته جعلته من شأني -يعني: كأنه قال: أنا له- فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي -أي: قطع يده- فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهدت، ولقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت عليها حتى طرحتها! ظلت يده معلقة وهو يجرّها وراءه، حتى آذته، وما استطاع أن يتحرك، فداس عليها وقطعها! كيف لا يخاف الكفار من دين يصنع رجالاً مسلّطين على الكفار، هوايتهم ملاحقة الظالمين، ونزال الطغاة المستكبرين؟! مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه، سيف الله المسلول، فالكفار يخافون من مثل هذا، وهناك الكثير مما لا يتسع المقام لبسطه.

الإسلام يهدد جميع كفار الأرض

الإسلام يهدد جميع كفار الأرض الحقيقة التي تخفى علينا، وتعمى عنها أعيننا حتى لا ندركها واضحة ناصعة، أن الكفار يخافون من الإسلام؛ لأنه يهدد ما هم عليه. وقف رئيس وزراء بريطانيا في أواخر القرن الماضي في مجلس العموم البريطاني، وأمسك بيمينه القرآن المجيد، وصاح في أعضاء البرلمان قائلاً: إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولا بد من القضاء عليهما مهما كلّفنا الأمر، أولهما: هذا الكتاب. وسكت قليلاً، ثم أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال: وهذه الكعبة. ثم قال: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، أو تكون هي نفسها في أمان!! أيضاً هناك مستشرق فرنسي يدعى كيمون مصنف كتاب (بثالوجيا الإسلام) يعني: علم الأمراض، فهو يتكلم عن أمراض الإسلام، وخطر الإسلام على الكفار، يقول: أعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين! والآن البديل للإبادة: أنهم يبيدون أنفسهم بأنفسهم، وينتحرون انتحاراً جماعياً عن طريق تحديد النسل، يقول: أعتقد أن من الواجب إبادة خمس المسلمين، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وهدم الكعبة، ووضع جثة محمد -صلى الله عليه وسلم- في متحف اللوفر الفرنسي!! والإبادة موجودة ومعروفة، فالشيوعيون مثلاً أبادوا خلال ربع قرن من الزمان ستة وعشرين مليون مسلم في الصين، أي: بمعدل مليون كل سنة! وكذلك حصل مثل هذا في روسيا، حينما أبادت الثورة الشيوعية أيضاً ملايين المسلمين تحت جنازير الدبابات. وحتى العالم الغربي لا يستحي من هذا المنطق الذي تكلم به هذا الرجل، ففي حادثة سلمان رشدي لما ألف كتابه (آيات شيطانية) حصلت مظاهرات في داخل بريطانيا، فصاح بعض البريطانيين وقالوا: الذي لا يعجبه نظام هذه البلد فليغادرها، ولا يمكث فيها. وقالوا: في بعض الجرائد: يبدو أن الجهة الوحيدة التي استطاعت أن تفهم اللغة التي يفهمها المسلمون، هي الاتحاد السوفيتي حينما سحقت الملايين منهم بعد الثورة الشيوعية، فهؤلاء هم الذين عرفوا اللغة التي يفهمها المسلمون!! وحينما اجتمع عدد كبير من المسلمين البريطانيين، ورفعوا قضية سلمان، وطلبوا مصادرة الكتاب، حكم القاضي البريطاني في نهاية القضية وقال: إن المادة التي سيطالب هؤلاء المسلمون البريطانيون بتطبيقها على كتاب (آيات شيطانية)، هي بشأن حماية الأديان، وهي: إنما تعني حماية الديانة الكاثوليكية واليهودية، والإسلام لا يدخل في هذه المادة!! هذه ملامح من هذه المؤامرة ومن الموقف الحقيقي الذي يتخذونه من الإسلام، يقول إسحاق رابين -وهو من المسئولين اليهود-: إننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة، ويجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خططنا في منع يقظة الروح الإسلامية بأي شكل، وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا في استعمال العنف في إخماد أي ظاهرة ليقظة الروح الإسلامية، وإذا فشلنا في إقناع أصدقائنا في توجيه ضربة قاضية في الوقت المناسب، فعلى إسرائيل أن تواجه الإسلام حينذاك وهو عدو حرصنا أن يبقى بعيداً عن المعركة، وستجد إسرائيل نفسها في وضع حرج إذا نجح المتعصبون المسلمون في تحويل معركتنا ضد البلدان العربية إلى معركة المجاهدين المتعصبين، وهم الذين يعتقدون أن أحدهم يدخل الجنة إذا قتل يهودياً أو قتله يهودي، وستقوم إسرائيل بالدور الذي قام به المشرفون من عملائهم، فيقومون بدورهم في تغيير عقلية المسلمين وتفكيرهم، فينشئون حركة تجديد الدين تحت اسم العلمانية إلى آخره. إذاً: نستطيع أن نقول: إن إسرائيل دولة تشجع العلمانية في بلاد المسلمين، وهي دولة دينية، فإن دستورها هو التوراة، واسمها: إسرائيل، ويقصدون بهذا الاسم: نبي الله يعقوب عليه السلام، وهو بريء منهم بدون شك.

خطورة الدعوة إلى تحديد النسل

خطورة الدعوة إلى تحديد النسل لماذا نقبل الدعوة إلى تحديد النسل في بلاد المسلمين، وفي نفس الوقت تتجه الهجرات اليهودية من كل مكان صوب أرض الميعاد كما يزعمون بكل وسيلة وبكل طريقة، حتى يكثر عدد اليهود، حتى يستطيعوا أن يواجهوا ويحققوا أطماعهم في بلاد وديار المسلمين؟! هذه بعض فصول المعركة أو موقف هؤلاء الكفار من المسلمين، فمن خلال هذه النفسية تتخذ خطواتهم ومواقفهم من المسلمين، فالهدف من بدعة الترويج لتحديد النسل بهذه الطريقة التي ذكرنا أنها تنافي مقاصد الشريعة الإسلامية العليا، وهذه المقاصد العليا للشريعة الإسلامية مقدسة، ولا يصح أبداً أن تُمسّ من قريب أو بعيد، فالمحافظة على الدين والعقل والعرض والنفس والمال والنسل، هذه هي مقاصد الشريعة الإسلامية، وكل مفرداتها جاءت لتحافظ على هذه الضروريات الست، فالهدف من بدعة وضلالة تحديد النسل هو تقليل أمة المسلمين، والحد من تناسلها وتوالدها قدر ما يمكن، أو إيقاف ذلك بالكلية لو كانوا يستطيعون. على ضوء الكلام الذي ذكرناه ليس الذي يخاف من كثرة النسل هم المؤمنون، وليسوا حتى الاقتصاديين، لكن الذي يخاف منه في الدرجة الأولى هم أعداء الإسلام الذين يتمنون أن يغمضوا أعينهم ثم يفتحوها فلا يجدوا على الأرض من المسلمين دَيّاراً، فهم لا يخافون الأفواه التي سوف تأكل وتلتهم الطعام، ولكنهم يخافون الأيدي التي يمكن أن تحمل السلاح، وتجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى. وهنا نستشهد بكلمة قالها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى -وهو من علماء منتصف القرن التاسع الهجري- في شرحه لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) يقول الحافظ: والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل؛ ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية، وهي تكثير هذه الأمة. فهم يهدون إلينا الألبان والجبن بكل أنواعه، ويهدون إلى إسرائيل الطائرات والمدافع والقنابل لحصد أُمّتنا، يهدون إلينا ساعة تدق فوق رءوسنا منذرة بأن هناك مولوداً موحداً ولد في مصر مع كل لحطة؛ حتى نأخذ حذرنا ونوقف هذا الخطر فنحد من الإنجاب، أو نقطعه نهائياً!! في مقابل ذلك تهدى إلى إسرائيل أجهزة الإنذار المبكر لربط حركتنا في حالة الحرب؛ حتى تضرب إسرائيل رجالنا قبل أن يتحركوا ويعدوا أنفسهم، ومن البدهيات التي يقر بها كثير من الخبراء في مصر، أن إسرائيل من الآن تعد لحرب شاملة مع جميع البلاد العربية وفي أولها مصر، وهذا ليس سراً، بل هذا شيء معروف ومشهور جداً!! فهذه الدعوة ما هي إلا تدبير مخطط يقصد منه المحافظة على الوضع الدولي الراهن، بحيث تظل الدول الاستعمارية صاحبة السيادة في كل شيء، وتظل الدول المسماة بـ: الدول النامية فقيره ومتخلفة، ويشتد قلق أمريكا بالذات من تزايد سكان هذه الدول؛ لأن هذا يهدد استغلالها لهذه الشعوب الفقيرة، وينذر بتخفيض النسبة العالية التي تحصل عليها أمريكا من الدخل، أو تحصل عليها هذه الدول من الدخل العالمي. وبسبب تحكم الدول الكبرى في أسعار المنتجات الزراعية في هذه الدول، تخسر الدول النامية في التجارة الدولية ما يقارب من ثلاثة آلاف مليون جنيه سنوياً، وأيضاً ترتفع أسعار المصنوعات المستوردة من هذه الدول، فأمريكا لا تفعل شيئاً بدافع الإنسانية، ولا تقدم مساعدة بدون ثمن وبدون مقابل، بل تأخذ العوض أضعافاً مضاعفة، فأمريكا تحصل على جنيه ونصف جنيه استرلينياً مقابل كل دولار من المعونة التي تقدمها للدول النامية، حيث تشترط على هذه الدول شراء المنتجات الأمريكية بأسعار مرتفعة، وتجبرها على أن تصدر لها منتجاتها بأسعار منخفضة، فهي لعبة من اللعب الاستعمارية في لون جديد! إذا أردنا أن ندرك حقيقة هذه الجريمة التي ترتكب في حق الأمة بالترويج لهذه الضلالة وهذه البدعة، فلننظر كيف أن كُتّاب الغرب يفندون نظرية مالتوس التي كان من جرائها التحذير من المتوالية الحسابية والهندسية، والتي مفادها أن التزايد السكاني سيسبب انفجاراً سكانياً، فهم يلحّون في الغرب على الدعوة إلى الاستكثار من النسل، ورفع نسبة الكثافة السكانية عندهم، لكن إذا نصبوا منابرهم في اتجاه بلاد المسلمين، ونظروا إلى العالم الإسلامي الفسيح؛ تغيرت آراؤهم فجأة، وانعكس حديثهم عن هذه الدعوة، وأخذوا يحذرون العرب والمسلمين من استفحال تكاثر النسل، وما يسمونه بخطر الانفجار السكاني! يقول محمد إقبال -الشاعر الباكستاني المعروف-: وكل ما هو واقع اليوم أو هو على وشك الوقوع في الغد القريب في بلادنا؛ إن هو إلا من آثار دعاية أوروبا، هناك سيل عرم من الكتب والوسائل الأخرى قد انجرف إلى بلادنا لدعوة الناس إلى اتباع خطة منع الحمل، وتشوقيهم إلى قبول حركتها، على حين أن أهل الغرب في بلادهم أنفسهم يتابعون الجهود الفنية لرفع المواليد وزيادة عدد السكان، ومن أهم أسباب هذه الحركة عندي: أن عدد السكان في أوروبا في تدهور شديد، وتناقص مطّرد بناءً على الظروف التي ما خلقتها أوروبا إلا بنفسها، وقد استعصى عليها اليوم أن توجد لها حلاً مرضياً، وأن عدد السكان في بلاد الشرق على العكس من هذا، فهو في زيادة مطردة، فهذا ما ترى فيه أوروبا خطراً مخيفاً على كيانها السياسي. وأيضاً: فالغربيون يبثون هذه الدعوة فيما بيننا حذراً من أن يقود التفوق السكاني في هذه المنطقة إلى تفوق في استخدام التكنولوجيا، والاضطلاع في العلوم، فإذا حصل هذا فسوف يتحررون من سلطان الغرب، ويمتلكون زمام القيادة في إدارة بلاد الاقتصاد والسياسة. فالغربيون يخشون هذا، ويتصورونه ماثلاً أمامهم، وإن كانت أكثرية هذه الأمة ذاتها لا تتمتع من الطموح والآمال بما يضعونه من هذا التصور وإمكان حصوله. تقول جريدة التايمز الأمريكية في عددها الصادر في 11/ 1/1961م: إن هذيان أمريكا وكل ما تبذل من المقترحات والمواعظ عن مشكلة السكان، إنما هو نتيجة إلى حدٍ كبير لشعورها بتلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة على أساس زيادة السكان في هذه المناطق بحيث يصبحون أغلبية في العالم. ويفضح أركر كرنك مقاصد الأوربيين في إلحاحهم على المسلمين بضرورة تحديد النسل، وهذا من باب: وشهد شاهد من أهلها، فتأمل ما يقوله هذا الشاهد، يقول: إن أهل الشرق سوف لا يلبثون إلا قليلاً حتى يطلعوا على حقيقة هذا الدجل، ثم لا يغتفرونه لأهل الغرب؛ لأنه استعمار من نوع جديد يهدف إلى دفع الأمم غير المتقدمة، ولاسيما الأمم السوداء إلى مزيد من الذل والانحطاط؛ حتى تتمكن الأمم البيضاء من الاحتفاظ بسيادتها!! فهم في الغرب لم يضعوا إلى الآن لشعوبهم مثل هذه الخطط الموضوعة لنا للحد من التزايد السكاني، بل على العكس، فهم يشجعون الإكثار من النسل، ومن أجل ذلك لا ينكرون العلاقات غير الشرعية التي تثمر الألوف من أبناء الحرام!! في الوقت الذي تعلن فيه السلطات الرسمية في أمريكا أن الأسرة الأمريكية تواجه أزمة من أشد الأزمات، وهي ارتفاع نسبة المواليد بشكل يهدد الحالة الاقتصادية في البلاد، ومع هذا أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق إيزنهاور في مؤتمره السنوي المنعقد في ديسمبر سنة 59م قائلاً: إن حكومته لن تفكر في تحديد النسل في أمريكا ما دام هو في البيت الأبيض!! ثم جاء نكسون في سنة 72 فأكد موقف إيزنهاور وأعلن أن الإجهاض لا يتفق مع الدين، ولا مع تقاليد الحضارة الغربية، فطالب بإعادة النظر في قانون إباحة الإجهاض التي أخذت بها بعض الولايات. أما روسيا السوفيتية التي وصل تعدادها حالياً إلى 250 مليون فهي ترى أنها في حاجة ماسة إلى مزيد من النسل؛ لأنها في حاجة إلى مزيد من القوى البشرية والأيدي العاملة والمنتجة؛ حتى تستطيع أن تحتفظ بالتوازن بينها وبين الدول المجاورة لها، ومن أجل ذلك أصدر مجلس السوفيت الأعلى في موسكو قراراً بإهداء ميدالية فخر الأمومة إلى الأمهات المنجبات لكثير من الأطفال! أما في أسبانيا فإن الجنرال فرنكو كان أشد ما يكون حرصاً على زيادة تعداد الشعب الأسباني، وقد أهدى جائزة الأب المثالي لفلاح أسباني يبلغ من العمر مائة وسبع سنوات؛ وذلك لأنه أنجب واحداً وعشرين طفلاً وطفلة. أما في إيطاليا -التي تعتبر مركز الكاثوليك- فإن المسمى البابا بولس السادس - وهو الزعيم الديني لأكثر من 500 مليون كاثوليكي- قرن اسمه بالحملة المضادة لتحديد النسل، حيث أعلن أن استخدام وسائل تحديد النسل إثم، وأن مستخدميها آثمون، ومن يدري لو كان يتمتع بالسلطة القديمة التي كانت في القرون الوسطى، لأصدر قرارات حرمان. وذكر كبير النصارى في مصر نفس هذه العبارة، وزاد: أن هؤلاء الذين يحددون النسل خارجون عن شعب الكنيسة. وأيضاً اليونان مع أنها محدودة المساحة والموارد، فإن الحكومة اليونانية حريصة أشد الحرص على تحقيق زيادة السكان؛ لتعويض النقص الحاصل في السكان بسبب الهجرة المستمرة، ولذلك قررت الحكومة اليونانية فرض مكافأة شهرية ثابتة لكل أبوين على إنجاب الطفل الثالث أو أي طفل يلدانه بعد الثالث تبلغ عشرة جنيهات. ومنذ زمن ليس بالبعيد ناشد الرئيس الفرنسي دستانس الشعب الفرنسي العمل على زيادة النسل، وأكد أن عدد سكان فرنسا الذين يزيد عددهم على خمسين مليون غير كافٍ! ويتعين زيادة معدلات السكان؛ لكي تستعيد فرنسا مكانتها على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ووعد بعلاوات مالية مجزية للأسر التي لديها ثلاثة أطفال أو أكثر!! وأما في الصين فمن المعروف أنها مزدحمة بالسكان، ولكن الغريب أن حكومة الصين حتى الآن تستثني المناطق الإسلامية من قوانين الإجبار على تحديد الحمل والنسل؛ لأنهم يخافون من ثورة المسلمين؛ لهذا يعتبرون من صميم سياستهم عدم التدخل في نسل المسلمين في الصين، وتستثنى المناطق الإسلامية م

حرمة تحديد النسل

حرمة تحديد النسل هناك فتوى لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف رحمه الله المفتي السابق لمصر وعضو مجمع البحوث يقول فيها: لقد أصدرت فتوى بهذا الموضوع بالذات مطبوعة في الفتاوى، خلاصتها: أنه لا يجوز تحديد النسل لغير ضرورة شرعية يقدرها الأطباء المسلمون المختصون، أخذاً من قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]، وكانوا في الجاهلية يقتلون الأولاد خشية الفقر وعدم القدرة على القيام بتربيتهم. ولقد تناولت الفتوى أن الإجهاض وأخذ الأدوية لمنع الحمل غير جائز شرعاً إلا للضرورة الصحية التي يقررها الأطباء المسلمون الصادقون، وعلى ذلك فلا يجوز أخذ الحبوب التي تمنع الحمل، مع العلم أنه لا يجوز إسقاط الحمل الذي نفخت فيه الروح؛ لأنه قتل لذي روح فهو لا يجوز، والفتوى بهذا منشورة منذ أكثر من عشرين عاماً في الصحف، والله المستعان. يقول الشيخ مخلوف: وقد سمت الصحف تحديد النسل باسم: تنظيم النسل، والمعنى واحد، والمقصود واحد، وكله اتباع لآراء غير المسلمين الذين يرون في كثرة عدد المسلمين خطراً عليهم وعلى مدى دينهم، فيحاولون بجميع الوسائل تنقيص عدد المسلمين؛ سعياً وراء إضعافهم في بلادهم، وفي الدفاع عن دينهم. يقول الشيخ مخلوف رحمه الله: وقد عثرت على رسالة وجهها أحد الرؤساء المسيحيين إلى الأطباء منهم، يحذرهم من منع الحمل بين طائفتهم، ويدعوهم إلى منع ذلك بينهم منعاً باتاً، بينما يدعوهم إلى مساعدة من يريد التحديد أو يريد التنظيم إذا كان من المسلمين، أملاً في أن يقلّ عدد المسلمين، ويكثر عدد غيرهم من غير المسلمين، وهذا المنشور قرأته بنفسي منذ بضع سنين، وهو منشور سرّي كتبه هذا الزعيم المسيحي، ونشره بين أبناء ملّته سراً؛ ليعمل به أطباؤهم، وينفذه حين يعرض عليهم الأمر، وخلاصته: تقليل عدد المسلمين، وتكثير عدد غير المسلمين، وبعبارة أخرى: إضعاف المسلمين وتقوية غير المسلمين في مجال الحياة، والله لا يهدي كيد الخائنين. وهذا معروف من نشاطهم وخيانتهم، حتى في العمليات الجراحية، فقد ضبط كثير من الأطباء أنهم في أثناء العملية يستأصل بعض الأجزاء من المرأة بحيث لا تستطيع الحمل، ولا تدري بذلك، وتوجد قصص كثيرة في ذلك، قال بعض السلف: الخيانة عشرة أجزاء، تسعة منها في الكافرين. وأحد هؤلاء المجرمين الأطباء النصارى الجزارين كان مشهوراً جداً بنشاطه الخطير في عملية الإجهاض وتقليل النسل والتعقيم وغيرها، وكانت عيادته في شارع محرم قريباً من مسجد أولاد الشيخ، وقد أهلكه الله -ولله الحمد- منذ سنوات، وكان هذا الرجل في عيادته، وفي إحدى المرات ذهبت إليه امرأة، وكان اسمها من الأسماء المائعة التي لا يتميز فيها المسلم عن غير المسلم، فظن أنها كافرة على ملّته، وعرف أنها تريد الإجهاض، فسألها عن اسمها، فظن بغبائه أنها نصرانية مثله، فانقلب تجاه وجهها، وأخذ يقذفها بوابل من الشدة والغلظة والمعاتبة والتقريع والتوبيخ ويقول: كيف تفعلين هذا؟! نحن لا نعمل هذا لأبناء ملّتنا، هذا ليس لنا نحن، فخرجت المرأة المسلمة من عنده وهي تنوي ألا تحدد نسلها أبداً بعدما سمعت هذا الرجل يقول: إنما نفعل هذا لغيرنا، ونحن لا شأن لنا بمثل هذه الأمور!! والدكتور عبد العزيز الدردير حفظه الله له كتاب يسمى: (لمصلحة مَنْ تحديد النسل أو تنظيمه؟!) يقول فيه: وإنني شخصياً لا يعجبني موقف رجال الكنيسة، فلم أر منهم من تكلم في موضوع تحديد النسل، فلم يكتب واحد منهم في هذا الموضوع كتاباً، ولم يلق أحد منهم فيه خطبة، ولم يصدر واحد منهم فيه فتوى، لا بحل ولا بحرمة، ولم يتكلم واحد منهم في هذا الموضوع بخير ولا شر، وقد يكون لهم في ذلك عذر، حيث إن الكلام في هذا الموضوع قد لا يعجب بعض المسئولين، وقد يتهم المتحدث فيه بمخالفة سياسة الدولة، فهم قد وفروا على أنفسهم ذلك كله، وأخذوا في داخل كنائسهم يعملون بكل قوة ونشاط على تكثير عددهم، وذلك عن طريق وصية القسس لرواد الكنائس بالعمل على كثرة التناسل، وإلقاء التعليمات إلى الأطباء المسيحيين بألا يوافقوا أي امرأة مسيحية على إيقاف نسلها، ولقد تكاثرت أعدادهم في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، وإذا كنت في شك مما أقول فاذهب إلى أي تجمع يشترك فيه المسلمون والمسيحيون كالمدارس العامة الأميرية، أو كتائب الجيش، أو غير ذلك؛ فسوف تجد أن نسبة المسيحيين إلى المسلمين قد زادت كثيراً في الآونة الأخيرة عن ذي قبل، وكنت أتمنى من علمائنا إذا لم يستطيعوا أن يقولوا كلمة الحق فلا أقل من الصمت، أسوة بزملائهم من رجال الكنيسة!

سبب حرص الكفار على تقليل نسل المسلمين في مصر خاصة

سبب حرص الكفار على تقليل نسل المسلمين في مصر خاصة آخر ما أشير إليه هو سؤال مهم جداً، ويُلحّ علينا دائماً: ما هو السرّ في تفوق خط مصر من هذه الدعوة إلى تقليل النسل الإسلامي؟! هل هو فقط العامل الاقتصادي كما يظهرون؟! لا؛ لأن مصر في الحقيقة تملك كمّاً هائلاً من الثروات، وهذا الكلام لا أقوله بصفة متطفل على رجال الاقتصاد والخبرة، بل هذا كلام يقوله أهل الخبرة حتى في مجالات الاقتصاد، فقد وهب الله تبارك وتعالى مصر نهراً مبارك الغدوات والروحات، حتى قال المؤرخ اليوناني القديم هريدوس: مصر هبة النيل، ونحن نصحح هذه العبارة ونقول: النيل هبة الله، فنحن نعبد الواهب، ولا نعبد الموهوب، وهناك إشارة في القرآن إلى هذه النعمة العظيمة على أهل مصر بهذا النهر العظيم الذي هو من الجنة، كما جاء في الحديث الصحيح في البخاري، يقول الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27]، قال كثير من المفسرين: المقصود بهذا الماء النيل، والمفسرون الذين قالوا: ليس مقصود به خصوص النيل، قالوا: إن أعظم مثال تتجلى فيه هذه النعمة هو النيل في مصر. لو أنك أخذت صورة لمصر مأخوذة من القمر الصناعي، فستجد أن مصر صحراء، وتجد شريطاً أخضر رفيعاً جداً في وسطها، باستثناء منطقة الدلتا، فهذه هي مصر كلها، أما ما عدا ذلك فهي صحراء واسعة، وقد كانت هذه الصحراء منذ أكثر من ألفي سنة كلها مخزاناً للحبوب بما يكفي الأمبراطورية الرومانية. قال علي بن أبي طالب لـ محمد بن أبي بكر حينما وجهه إلى مصر: إني وجهتك إلى فردوس الدنيا! وقال عمرو بن العاص لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أسير إلى مصر. وقال: إنك إن ضممتها إليك كانت كوة للمسلمين، وعوناً لهم، وهي أكثر الأرض أموالاً. ولعل العيش في ذكريات الماضي يخفف علينا وطأة الحاضر، فما سجله التاريخ: أن مصر كانت على جانبي النيل مُدُناً متقاربة كأنها مدينة واحدة، والبساتين خلف المدن المتصلة كأنها بستان واحد، والمزارع من خلف البساتين متصلة، حتى قيل: إن الكتاب كان يصل من الإسكندرية إلى أسوان في يوم واحد، يتناوله عمال البساتين من واحد إلى واحد! ويحدثنا التاريخ أيضاً: أن المرأة على جانبي النيل كانت تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الأشجار! وأنها كانت تضع على رأسها المكتل فيمتلئ بالثمر من كثرة ما يتساقط من الشجر! والقرآن الكريم قد سمّى مصر مصراً ومدينة كما قال عز وجل: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61]، قال ابن جرير: المقصود بها مصر فرعون. وهي التي يسمونها: (إيجبت)، وإيجبت مأخوذة من القبط، فإيجبت تعني: القبط، وهذه تسمية غير صحيحة؛ لأن المقصود بها: الدولة القبطية، وحتى الآن تسمى مصر في القواميس الغربية بـ: بلاد الأقباط، أو إيجبت، والأصل تسميتها باسمها: مصر. قال تعالى: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99]، وقال عز وجل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص:15]، والمقصود بالمدينة: مصر، وقال أيضاً: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20]، وحين ذكر الشام قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، فكانت مصر هي مصدر الميرة، وملجأ الجائعين عند القحط، لا لأهلها فقط، بل لأهلها ولمن جاورها كالشام وغيرها، والرجوع إلى قصة يوسف عليه السلام يوضح لنا هذا تماماً، يقول تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف:59]، وقال: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} [يوسف:63] يعني: إلى مصر. ومصر حتى عهد قريب كانت في وضع اقتصادي مزدهر جداً، إلى أن أتى الزعيم الأوحد المهزوم دائماً عبد الناصر وبدد ثروة البلاد، مصر تسلمتها الثورة وهي مدينة لبريطانيا بما يعادل ميزانية بريطانيا لمدة سنتين! فالذي حصل أن عبد الناصر بدد ثروة مصر، وبدد رصيدها من الذهب في صندوق النقد الدولي، وبدأ في عهد الديون واستجداء المعونات، وضحّت مصر بصفوة شبابها وثروتها في حروب خاسرة في الكونغو، وفي حرب المسلمين فيما بينهم في اليمن، وفي سيناء في الحروب مع اليهود، وحصل تعطيل قناة السويس، واستيلاء اليهود على سيناء، وغير ذلك. الشاهد من هذه الأحوال أنه بسبب هؤلاء الظالمين وصلنا إلى ما وصلنا إليه، حيث أتقن الإنجليز السُّمر أداء الدور الذي اجتهد فيه الإنجليز الحمر، ولكن الله لهم جميعاً بالمرصاد. فالإنسان هو أهم عوامل الإنتاج في الأرض، فهم يحاولون دوماً أن يظهروا لنا أن الإنسان مجرد عنصر استهلاكي ولا يعتبر إنتاجياً، فكل إنسان يولد على الأرض لن يكون بطناً أو فماً فقط! ولكنه سيكون مزوداً بيدين ورجلين وعقل، فإذا كان هناك تخطيط وإخلاص فلن توجد مشكلة، وفي الحقيقة أن مشكلتنا في مصر بمنتهى الصراحة هي أننا لسنا حتى وطنيين، ولن نقول: إسلاميين مخلصين لدينهم ولإمة المسلمين، إننا لا نكاد نقف على شخص فقط يكون صادقاً فيما يدعيه من الوطنية، وإلا لأخلصوا لهذا البلد، ولما كان حالها كهذا الحال. فمن الأفكار المشوشة أن نُبرز الجيل الجديد أو النسل على أنه استهلاك فقط يأكل ويلتهم، ولا ينتج على الإطلاق، وهذا خلاف الواقع، وبالذات إذا تخيلنا فترة الحضانة الاقتصادية مثلاً في الأرياف، فالطفل يعتبر ثروة مهمة جداً لأبيه في الريف، حتى بعد انتشار التعليم، وما زالت فترة الحضانة الاقتصادية لا تتجاوز عشر سنوات، ثم ينتج ويعاون أباه، ويكون العمود الأساس في حماية الزراعة ورعايتها، ومن الذي يقوم بمحاربة دودة القز ونحو هذه الأشياء سوى هؤلاء الأبناء الصغار. نريد أن نبحث عن جواب سؤال مهم جداً: في حرب 1967م -حرب النكسة الشهيرة- حينما هزمت إسرائيلُ الجيشَ المصري تلك الهزيمة المنكرة بفضل الخيانات، وكادت أن تقضي عليه نهائياً، واحتلت أرض سيناء كلها، ووقف جنود إسرائيل على الشط الشرقي للقناة، بينما كان الطريق إلى القاهرة مفتوحاً براً وجواً وبحراً، وصرّح بذلك جمال عبد الناصر حيث قال: لم يكن بين السويس والقاهرة عسكري واحد، هذا باعتراف رئيس الجمهورية بطل الهزائم! فهو باعترافه يقول: لم يكن هناك أي عائق أمام إسرائيل في أنها تعبر القناة وتتجه إلى القاهرة وتحتل العاصمة!! والقاهرة هي أكبر عاصمة في المنطقة، فما هو السبب الذي منع إسرائيل من الوصول إليها؟! هل إسرائيل عندها ورع وخوف من الله وشفقة على الشعب المصري؟!! أليس من أهدافهم غزو مصر وبسط دولتهم من النيل إلى الفرات؟! فلماذا لم تفكر إسرائيل بأن تقفز إلى الشط الغربي للقناة وتتجه إلى مصر حيث لم يوجد عسكري واحد يعيقهم باعتراف عبد الناصر نفسه؟! A بسبب ما تتمتع به مصر من الكثافة السكانية، بالرغم أن الشعب غير مسلح، ومع كل هذا فقد وقفت إسرائيل عند القناة ولم تتخطَّها! هل كان قادة إسرائيل لا يعرفون الوضع العسكري السيئ في مصر؟! كانوا يعلمون به تماماً، لكن الذي منعهم من دخول القاهرة وأرض الدلتا هي القوة البشرية في هذا الشعب المسلم، الذي لو دخل اليهود في وسط أرضه المعمورة والمأهولة بالسكان؛ لذابوا في وسط هذه الكثافة السكانية الهائلة. أيضاً بين وقت وآخر نسمع من كثير من المسئولين الكلام على تحولات المصريين العاملين في الخارج، والاهتمام الشديد بهم، أليست هذه الأيدي العاملة في الخارج هي من النسل؟! أليست مصدراً من أهم مصادر جلب العملة الصعبة التي تحتاج إليها الأمة؟! فلو تقلصت هذه القوة العددية فلا شك أنه سوف يتقلص أيضاً مصدر عظيم جداً من الرزق والدخل. فما يتشدق به البعض من وجود أزمات اقتصادية في مصر -كما يقول كثير من الخبراء- هو كلام في الحقيقة مختلق وغير صحيح، ونحن نضطر إلى أن نستشهد برجل من رجال الاقتصاد تربع على عرش رئاسة الوزراء في مصر، وهو الدكتور علي لطفي، وقد كان رئيس مجلس الشورى، وأيضاً كان قبل رئاسته لمجلس الشورى رئيس مجلس الوزراء. ففي جريدة أخبار اليوم في القاهرة بتاريخ 14/ 4/1989م في الصفحة السادسة يقول الدكتور علي لطفي في ندوة الشباب: لا أزمة اقتصادية في مصر. وأكّد أن مصر لا تواجه أزمة اقتصادية، بل تواجه بعض المشاكل التي سببتها الحروب العديدة التي خاضتها. وحتى لو فرضنا وجود أزمة، فإن النزول إلى تحقيق أهداف أعداء الإسلام وأعداء الأمة هو نوع من العجز عن مواجهة المشاكل، والمشكلة في الحقيقة هي مسألة سوء توزيع للسكان، والسلوك الغير مستقيم لكثير من أصحاب المناصب، من الخيانات والاختلاسات، وإغفال وإهمال كثير من مصادر الخير الموجودة في مصر، ونحو هذه الأسباب التي تنتج عنها الأزمة. وفي جريدة الأخبار أيضاً صفحة 3 بتاريخ 25/ 4/1989م كتب مقال بعنوان: (البحر الفارغ سلة الغذاء المنفية)، وهذا العنوان يُكّني به صاحبه عن اكتشاف فرع قديم للنيل يمتد من الجيزة إلى الإسكندرية، وهذا أحدث اكتشاف زراعي، حيث يضم (2) مليون فدّان صالح لزراعة القمح والذرة والبرسيم، والتربة من الطين المختلط بالرمال، من خلال عوامل التعرية التي تمت لآلاف السنين. فالمهم أنهم اكتشفوا هذا الفرع من النيل بين الجيزة والإسكندرية، وتوجد بقايا الحيوانات والأسماك وبعض الحفريات التي تثبت أن ذلك المكان كان جنة خضراء. وهناك مقال طويل يقول: إن هذه المساحة إذا زرعت بالإضافة إلى المساحات المزروعة الآن قمحاً لغطّت جميع استهلاكنا. وأيضاً: لعلكم سمعتم عن مشروع (رابح)، فقد جاء في جريدة الأخبار بتاريخ 31/ 4/1989م تحت عنوان: (رجل من مصر يقضي على الجوع في العالم)، الدكتور رضا عزام عالم مصري، وأستاذ الكيمياء الإشع

بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [1]

بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [1] لقد أمر الله المؤمنين بالدخول في السلم كافة؛ لأن الدين كلٌ لا يتجزأ، وليس في الدين ما يسمى قشوراً، بل الدين كلّه لُبّ؛ إذ لا يمكن أن يأمر الشارع بشيء من سفاسف الأمور، وتفاهات الأعمال التي ليس من ورائها نفع للإنسان. ومن هنا يتضح لنا أن ما ينادي به بعض ضعاف العقول من تقسيم الدين إلى قشر ولباب إنما هو ضرب من مكائدهم الهزيلة التي يحاولون بها هدم الدين.

بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب

بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد ثبت عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)، رواه الطبراني في المعجم الكبير وابن عدي وغيرهما، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة. وقد ذكر العلماء أن معالي الأمور هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية، لا الأمور الدنيوية؛ فإن العلو فيها مذموم في شرع الله سبحانه وتعالى. فكل ما له علاقة بالدين فهو من معالي الأمور، أما أمور الدنيا فهي سفسافها ودناياها. قوله: (ويكره سفسافها): السفاسف واحدها السفساف، والسفساف هو الأمر الحقير والرديء من كل شيء، وهو ضد المعالي والمكارم، وأصل السفساف ما يطير من غبار الدقيق إذا نُخل، والتراب إذا أُثير، فهذا هو السفساف. كذلك السفساف من الشعر رديئه. ويقال: أَسفّ إذا تتبع مداقّ الأمور، فهو يتتبع الأمور الدقيقة التافهة وطلب الأمور الدنيئة. فإذا عرفنا معنى السفساف في اللغة، فيجب أن نعلم أن كل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ليس من السفاسف مطلقاً، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، وأن كل ما فَعَله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أمر به أمر إيجاب أو استحباب فهو من معالي الأمور، وكل ما نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام نهي تحريم أو كراهة فهو من السفاسف، وتركه يعتبر من أمور الدين ومن معالي الأمور، وكل ما تكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بحيث صار من الدين فلا يجوز أن يوصف بأي وصف يوهم بالإغراء أو التنقّص، وإلا فقد أعظم على الله الفرية، وعرّض نفسه لغضب الله عز وجل وعقوبته وانتقامه! نعم هناك في قضايا الدين أصول وفروع، وكلّيات وجزئيات، وهناك أهم ومهم، لكن ليس موضوع حديثنا هو مناقشة أولويات الأمور وأهميتها، بل نريد أن نتكلم عموماً عن كل أمور الدين، حيث أن كل ما كان من أمور الدين وإن دقّ فهو من المعالي، ولا يمكن أن يُحتقر أو يوصف بالسفاسف أو بغير ذلك من الأوصاف الرديئة. ولذلك اشتد نكير العلماء على من أطلق مثل هذه العبارات الفجّة في حق مسائل الدين وأمور الشريعة، بل إن منهم من أفتى بزجره وتأديبه، ولاسيما هذا التعبير المحدث، والمصطلح الدخيل، وهو تقسيم أمور الدين إلى قشور ولباب، أو إلى قضايا مهمّة وقضايا حقيرة ودنيئة، إلى غير ذلك من هذه العبارات الدخيلة!! ومن المعروف أن هذا من مصطلحات الصوفية، حيث إنهم يقسّمون الدين إلى شريعة وإلى حقيقة! وقد سُئل سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: هل يجوز أن يقول المكلف: إن الشرع قشر وإن الحقيقة لُبّه، أم لا يجوز؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يجوز التعبير عن الشريعة بأنها قشر؛ من كثرة ما فيها من المنافع والخير، ولا يكون الأمر بالطاعة والإيمان قشراً؛ لأن العلم الملقب بعلم الحقيقة جزء من أجزاء علم الشريعة، ولا يُطلقِ مثل هذه الألقاب إلا غبي شقي قليل الأدب، ولو قيل لأحدهم: إن كلام شيخك قشور، لأنكر ذلك غاية الإنكار، ويطلق لفظ القشور على الشريعة، وليست الشريعة إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيُعزَّر هذا الجاهل تعزيراً يليق بمثل هذا الذنب. وقال الإمام العلامة تقي الدين السبكي في مقام ردّه على من أباح السماع والغناء: وقولهم: "من أهل القشور". إن أرادوا به ما الفقهاء عليه من العلم ومعرفة الأحكام، فليس من القشور، بل من اللبّ، ومن قال عليه إنه من القشور، استحق الأدب، والشريعة كلها لُباب.

دور العلماء في الرد على من يتهاون بالهدي الشرعي الظاهر بدعوى أنه قشور

دور العلماء في الرد على من يتهاون بالهدي الشرعي الظاهر بدعوى أنه قشور لقد كان للعلماء صولات كثيرة في كل عصر من العصور في التصدي لظاهرة التهاون بالهدي الظاهر والسمت النبوي المحمدي وادعاء أن هذا من القشور. من ذلك أن التهاون بالهدي الظاهر لابد أن يقترن به التشبه بالمشركين، فإن جاز التسامح في تقسيم الدين إلى قشر ولبّ، فالقشر لم يخلق عبثاً، وإنما هو الحارس الأمين لما بداخله من اللب؛ لأنه لابد لكل ثمرة من قشرة، وكل إنسان إن لم يتمسك بقشرة المسلمين فإنه سيتمسك بقشرة الكفار؛ لأننا لسنا أرواحاً ولا أفئدة فقط، ولكن لنا أجساداً فلابد لنا من مظهر. إذاً: فكل من تخلى عن المظهر الإسلامي والقشرة الإسلامية على حد تعبيرهم، فإنه لابد أن يتمسك بقشرة غير دين المسلمين من الكافرين؛ ولذلك كثر كلام العلماء واستفاضت مؤلفاتهم في تأصيل هذا الأصل الخطير، وهو الردّ على من يتهاون بالهدي الظاهر بدعوى أنه قشور، وبيان أنه يقترن غالباً بالتمسك بهدي الكفار وسمتهم. ولعل من أعظم وأكبر ما أُلّف في ذلك، ذلك السَّفْر النفيس الذي ألّفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)، ومنها أيضاً رسالة لطيفة تسمى: (تشبه الخسيس بأهل الخميس) للحافظ الذهبي ومنها كتاب: (الاستنكار لهدي التشبه بالكفار) للشيخ أحمد بن الصديق، ومنها كتاب آخر باللغة التركية، وهو يتناول مسألة تحريم تقليد الكفار والتشبه بهم، وقد ألّفه الشيخ عاطف وفي هذا الكتاب أفتى الشيخ عاطف بتحريم ارتداء القُبَّعة؛ لأن أتاتورك -لعنه الله- كان قد أجبر جميع مسلمي تركيا على ارتداء القبعة، وكانت الشرطة في الشوارع تقوم بحملات على الناس كي تقبض على كل من لم يخلع الزي الإسلامي ويلبس القبعة، حتى إنه في إحدى هذه الحملات هجمت الشرطة هجمة واحدة، فرجع الناس إلى المحلات، وأخذوا يختطفون القبعات ويضعونها على رءوسهم كي ينجوا من العقوبة! ودائماً ما يرتبط انحراف المجتمع عن الهدي الإسلامي بتمسك القائمين عليه بهدي الكفار؛ ليسلخونا من هذا الذي أسموه قشراً. ولما قام أتاتورك بانقلابه الآثم في تركيا، وبعد الانقلاب بسنتين تقريباً حوكم الشيخ عاطف، وكانت جريمته الوحيدة هي تأليف هذا الكتاب الذي فيه تحريم التشبه بالكفار. وكان من أبرز ما تعرض له هذا الشيخ في هذا الكتاب قضية ارتداء القبعة، وأنه لا يجوز للمسلم أن يرتدي القبعة؛ باعتبار أن هذه القبعة رمز من رموز الكفار وشعار من شعاراتهم كالصليب أو غيره، والمسلم ينبغي ألا يلبسها خاصة إذا استحسنها وقدمها على شعار المسلمين، ومن المعروف أن هذا من شعار الكفار باعتبار أن الكافر لا يسجد ولا يركع، فهم لا يريدون مجرد ارتداء القبعة، بل يريدون رأساً لا يعرف السجود ولا الركوع؛ لأن الذي يلبس القبعة لا يركع ولا يؤمن بالله تبارك وتعالى! فلما مَثُل الشيخ عاطف أمام رئيس محكمة الاستقلال، خاطبه القاضي قائلاً: إنكم أيها الشيوخ مغرقون في السفسطة؛ حيث تزعمون أن الرجل حين يلبس العمامة على زعمكم يكون بذلك مسلماً، فإذا ما خلعها واستحسن القبعة صار فاسقاً أو كافراً؟! فأجاب هذا الشيخ قائلاً: أيها القاضي! انظر إلى هذا العَلَم المرفوع خلفك -وكان في العادة أن يكون خلفه علم تركياً مرفوعاً- استبدل هذا العَلَم بعلم انجلترا مثلاً أو أي دولة من هذه الدول، فإن قبلت وإلا فهذه سفسطة منك، إذ إن هذا قماش وهذا قماش. لكن ما من شك أن هذا شعار وله دلالة خاصة، فهل يمكن أن يقبل القاضي أو يتنازل ويستبدل علم تركيا المرفوع خلفه بعلم بريطانيا أو فرنسا؟! كلا، لا يمكن، مع أن هذا قماش وهذا قماش! فبُهت القاضي، ولكنه مع ذلك حكم على الشيخ عاطف رحمه الله بالإعدام ظلماً وعدواناً، وأعدم الشيخ بالفعل. حدثني شاب تركي لقيته منذ حوالى خمس عشرة سنة، وكان على علم ودراية، وهو الذي أخبرني بهذه القصة، قال: إن هذا القاضي مرض مرضاً شديداً كان يصيح منه كالكلاب على حدّ قوله، والعهدة عليه. أيضاً من المواقف التي تتناول هذا الموضوع: ما قام به أحد الطلاب في إحدى الجامعات في البلاد الإسلامية، حيث قام بارتداء القبعة، فشذ بذلك عن كل المسلمين، فطلب منه المدرس أن يخلع هذه (البرنيطة) ولكن هذا الشاب أبى أن يخلعها، وقال: لا أخلعها إلا بحجة مقنعة تقنعني. وجاءت الحجة حين قال له أستاذه: يا بني! ليست (البرنيطة) بنفسها شيئاً مذكوراً، ولكنها شعار القوم الذين أذلّوا أمتك وسلبوك حريتك. ومثل هذا الشعور يظهر حينما نرى بعض الناس يضعون على السيارات أعلام أمريكا أو أعلام بريطانيا، أو يضعون في بعض وسائل الإعلام بكل اعتزاز وفخر شيئاً من هذا، وهؤلاء هم أعداء الإسلام الذين يحاربون ديننا وينكّلون بنا في كل مكان، ومع ذلك نجد الغفلة عن هذا الأصل واحتقار مثل هذه الأمور، وهي عظيمة في الحقيقة وليست هينة. ويقول الشيخ عبد الله بن الصديق في نفس هذا الموضوع: و (البرنيطة) شعار خاص بغير المسلمين، حتى إن أتاتورك -لعنه الله- حين انسلخ من الإسلام، وأعلن أن تركيا دولة لا دينية، اتخذ (البرنيطة) شعاراً يعرفون به أنهم غير مسلمين؛ حتى يُسلخ المسلمون من وصف الإسلام. ويقول: وصرّح المالكية بأن اللبس المختص بالكفار كالزنار، وهو حبل يضعه الكافر أو الراهب في وسطه، وهو موجود إلى الآن، و (البرنيطة) يكون لبسه رِدّةً إن فُعِل محبةً أو رغبة فيه. ولما كان الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله شيخاً للأزهر في عهد حكومة الانقلاب الذي قام به جمال -خيّبه الله- ترك (الطربوش) الذي كان غطاء للرأس عند جمهور المصريين، وأراد أن يتخذ (البرنيطة) بدلاً عنه، واستفتى شيخ الأزهر الشيخ: محمد الخضر حسين - في ذلك فلم يوافقه، لكن الشيخ محمد الخضر حسين رأى في مجلة الشئون الاجتماعية فتوى منشورة مزوّرة عليه أنه وافق على لبس (البرنيطة)، فاحتج على رئيس تحرير المجلة قائلاً: كيف تنسب إلي فتوى لم أقلها؟! فقال له: إنه أَمْرٌ بنشر هذا الخبر! فاستقال الشيخ من منصبه، وكانت الحكومة عازمة على تنفيذ المشروع، لكن أعاقتهم عنه عوامل، ومن أهمها استقالة شيخ الأزهر فجأة، وبقي الشعب المصري منذ ذلك الوقت عاري الرأس، حيث طرح الطربوش فلم يرجع إليه، ووقاه الله لبس (البرنيطة) والحمد لله. ونحن نرى مثل هذه العبارات لبعض العلماء؛ لأن هذه الأمور لا ينبغي أن يُنظر إليها هذه النظرة الساذجة على أنها قشور، أو أنها أمور مظهرية أو شكلية، وأن الإسلام لا يهتم بهذه الأمور.

الدين كل لا يتجزأ

الدين كلٌ لا يتجزأ

دلالات واضحة تبين أن الدين كل لا يتجزأ

دلالات واضحة تبين أن الدين كلٌّ لا يتجزأ إن أول دليل نستدل به بصورة واضحة تامة، بحيث ينقشع غبار هذه الفرية أو هذه البدعة أو هذه الضلالة: هو قول الله عز وجل في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]. قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله صلى الله عليه وسلم، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك. فاستدل على كلمة جميع بقوله: (كافة)، والمقصود بقوله: (السَّلْم): الإسلام. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ادخلوا في السلم) أي: الإسلام، (كافة) أي: جميعاً. وقال مجاهد: أي: اعملوا بجميع الأعمال، والزموا الذكر. وقال الألوسي رحمه الله تعالى: والمعنى: (ادخلوا في السلم كافة) أي: ادخلوا في الإسلام بكّل نيتكم، ولا تدعوا شيئاً من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه، بحيث لا يبقى مكاناً لهجره. وقال أيضاً: وقيل: الخطاب للمسلمين الخُلَّص، والمراد من (السلم) شُعَب الإسلام، و (كافة) حال منهم، والمعنى: ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في شعب الإيمان كلها، ولا تخلوا بشيء من أحكامه. وقد ظهر في هذا العصر أقوام تلقوا هدي الإسلام من واقع حياتهم، لا ينشئون نشأة طبيعية، وكان الأصل أن يتعلم الإنسان أولاً الإسلام، ثم يطبق هذا الإسلام ويحكم على الواقع من خلال الإسلام، لكن هؤلاء يقفزون فوق هذه الخطوات الأولى، ويتلقون هدي الإسلام من واقعهم، ويعتقدون أن ما هم عليه من الواقع هو الإسلام، ويتصورون مفاهيم الإسلام من الواقع المحيط بهم؛ لأنهم لم ينشئوا في جو علمي يتأثرون به في حكمهم على الأمة. وبالتالي نراهم كثيراً ما يتخبطون ويحتجون أحياناً ببعض النصوص لإثبات عكس ما وضعت له هذه النصوص، ويسمون الأشياء بغير اسمها، وهذا أوضح وأجلى ما يكون في هؤلاء الذين يقسمون الشريعة إلى شكليات أو قشور ولباب. وصارت هذه المقولة المغرضة شعاراً لهذا الشعار أنصار ودعاة وأقلام وصحف ومناهج وعقول.

تعريف القشر واللباب

تعريف القشر واللُّبَاب بالرغم من الحشد الذي التف حول شعار القشر واللباب فحتى الآن لا نجد ترجمة واضحة، ما هو القشر بالضبط؟ وما هو اللب بالضبط؟ ولم نجد تحديداً واضحاً للقشر واللب أو معناه، ورغم كثرة من ينادون بقضية القشر واللب وإلحاحهم عليها، وتأكيدهم على هذه القسمة، وإكثارهم من الحديث عنها، لكنهم لم يضعوا تعريفاً أو حدّاً لما أسموه قشراً أو لُباباً، بحيث ينتهي إليه الحد ويفهمه من أراد أن يعمل باللب ويهجر القشر، فلو جاء أحد وسألهم: ما هو القشر حتى أهجره وأستفيد من كلامكم؟ وما هو اللب حتى أعلمه وأتمسك به؟ فلن يجد عندهم جواباً ولا تحديداً ولا تعريفاً؛ وما ذاك إلا لأنها بدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم ولا من تبعهم بإحسان، وإنما هي نتاج أفكار المنهزمين المستعبدين للشرق أو للغرب، ونحن نحاول أن نضع حداً تقريبياً أو تعريفاً تقريبياً لهذين القسمين، فنقول: أولاً: تعريف القشر واللباب في جانب المأمورات الشرعية: فاللباب هو كل ما تحت حكم الواجب، والقشر هو ما خرج عن الحكم الواجب. ثانياً: تعريف اللباب والقشر في جانب المنهيات الشرعية، اللباب هو ما يدخل تحت الحرام، والقشر هو ما لم يتناوله الحرام الصريح في المعاصي. وعلى ذلك إذا قبلنا هذا التعريف التقريبي أو حاولنا أن نجتهد ونخترع له تعريفاً تقريبياً، فيكون اللب في الأوامر هو ما يدخل تحت الواجب، واللب في النواهي هو ما يدخل تحت الحرام، والقشر في الأوامر هو ما يدخل تحت المندوب والمباح، والقشر في النواهي هو ما يدخل تحت المكروه. وبناء عليه يجتمع لدينا من القشور ما يزيد على نصف الدين، فيصبح نصف ديننا قشوراً، وهو المكروه والمستحب والمباح، ويبقى من لبابه أقل من النصف، فهل يعقل أن ندع أكثر من نصف الدين بحجة أنه قشور ونأخذ أقل من نصفه بحجة أنه لباب؟! ثم هناك مسائل مختلف فيها، هل هي من الواجبات أو من المستحبات؟ فمثلاً: صلاة الوتر فيها خلاف بين العلماء، بغضّ النظر عن تحقيق الكلام في هذه القضية، لكن هناك مسائل كثيرة جداً مختلف فيها هل تدخل في اللب أم تدخل في القشر؟ وأيضاً ليس هناك شيء من اللباب أو من القشور إلا وهو داخل تحت حكم الله وتحت خطاب الله عز وجل المتعلق بأفعال المكلفين، وهو الخطاب التكليفي، سواء على سبيل التخيير أو الطلب، والطلب إما طلب فعل أو طلب كف، وطلب الفعل إما طلب فعل لازم أو غير لازم، وطلب الكف إما طلب كف لازم وإما غير لازم. فهذا كله يدخل تحت الحكم التكليفي الذي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، وبالتالي لا يصح تسميته قشراً على سبيل الاصطلاح الذي افترضناه، لا على سبيل التهوين من شأنه، فلو قلبت الأمر من هذه الجهة أو تلك الجهة، وحتى لو أردت التهوين من أمره فإنه يبقى تحت حكم الله المتعلق بأفعال المكلفين. كذلك إذا أردت أن تقول: المقصود باللب هو الواجب والحرام، وما عدا ذلك فهو قشر، فهذا أيضاً لا يستقيم مع تعريفنا للأحكام الشرعية التكليفية التي هي خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الطلب أو التخيير تركاً أو فعلاً.

تقسيم الدين إلى قشر ولباب بدعة هدفها هدم الدين

تقسيم الدين إلى قشر ولباب بدعة هدفها هدم الدين إننا نعيش في وقت ارتفعت فيه مثل هذه النعرات، أعني نعرات القشر واللب، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، وغير ذلك من الشعارات التي سنبينها إن شاء الله تبارك وتعالى. وهم يريدون بذلك تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر إلى أن صوّرت لهم شياطينهم وطوّعت لهم أنفسهم أن يسمّوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تطرفاً، والله سبحانه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ويقول تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. وحينما نردد بين الحين والآخر بل في عامة مجالسنا ذلك الشعار المقدس: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ينبغي لكل مسلم حينما يسمع هذه الكلمة أو حينما يقولها أن يستحضر معناها؛ فهو ليس شعاراً يُرفع بدون تطبيق، بل كل موقف وكل محفل وكل أمر من الأمور لابد أن يوزن بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنحن نعلمها ونعتقدها حينما نقولها، وكلما رفعنا أصواتنا بهذا الشعار فإننا نستحضر أنها تعني الاعتزاز بهذا الهدي، والاستعلاء به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه، انظر إلى العسكريين حينما يقفون الوقفة المعروفة احتراماً للعَلَم، مع أنه قطعة قماش، فنحن أشدّ احتراماً لهذا الشعار الذي يرفع فوق رءوسنا في كل حين: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هو إلا عبارة عن مرآة تعكس ما يغمر قلوب مُحبيه صلى الله عليه وآله وسلم من حُب وتعزير وتوقير؛ لأن المحبة تدفع إلى التشبه والاتباع. فالمحبة موافقة وتجانس ومشاكلة، وهذا نلمسه في كثير من الشباب الذين أولعوا حباً بالممثلين وبالرياضيين وغيرهم ممن يهوونهم ويعظمونهم، فتجدهم يقتدون بأحد هؤلاء في طريقة تسريح شعره أو في ملابسه، وربما قامت بعض الشركات بالترويج لبعض الملابس أو الموضات، فتظهرها مع صورة لبعض هؤلاء الممثلين أو الرياضيين أو غير ذلك ممن يسمونهم نجوم المجتمع، لتروج لها؛ لأن الناس سوف يقتدون بهم. فهل يستكثرون علينا أن نهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولو كانت الموضة هي تقصير الثياب وتقصير السراويل لقالوا: سمعنا وأطعنا، وحباً وكرامة، وعلى العين والرأس، أما إذا فعلت هذا من منطلق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك تصير حسب زعمهم متطرفاً ورجعياً ومهووساً ومتخلفاً، فهل هذا من الإنصاف؟! إن ما يتمادى به هؤلاء من زعمهم أن الدين قشر ولب، وحقيقة وشريعة، ونحو ذلك، لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث صادراً من إنسان عابث سفيه لا يتمسك بدينه ولا يعظمه، أو أن يكون عن سوء نية وخبث طوية من أعداء الإسلام، فنحن نحاول الردّ إن شاء الله على الفريقين، ونبين أن مصطلح القشر واللب مصطلح ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، ولما كان ظاهره قد يكون فيه الرحمة عند بعض الناس وباطنه من قبله العذاب، انقاد له الطيبين السذّج الذين اتبعوا هذا الطُّعم فاستحسنوه، وصاروا يروجون له دون أن يدركوا أنه قناع نفاقي قبيح، وأنه من أقوال العلمانيين الذين يتخذون شعار القشر واللباب قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام، دون أن يخدش في انتمائهم إلى الإسلام. صحيح أن هذه القضية تتوقف عند حسن النية من بعض المسلمين الطيبين المخلصين، ويقولون: دعونا من القشور لكي نهتم باللب، فهذا أقصى ما وصل إليه الطيبون المخلصون قليلو العلم من المسلمين، أو ممن ينتسبون إلى الدعوة أحياناً، فمقصودهم إهمال القشر لأجل الاهتمام بالقضية الكلّية للأمة، والتي تتعلق بمصيرها ونحو ذلك. لكن هذه القضية عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها لا تقف عند هذا الحد، بل هذا مجرد مدخل وسُلّم إلى نبذ القشر واللب معاً، وهدم الدين كلّه كما يفعلون حينما ينشرون شعار الاهتمام بروح النصوص، وعدم الجمود عند ظواهرها. لو أن قاعدة الاهتمام بروح الشريعة تقف عند هذا الحد فلا بأس؛ لأن ما يُستقى من القواعد الكلية للشرائع الإسلامية هو مراعاة المصالح الكلية لها، لكن إنما يستقيم هذا إذا تناوله وتعاطاه أناس أسوياء أو علماء مخلصون لهذا الدين، لكنه خطير جداً إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية، والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم من التركيز على روح النصوص هو أن يذهبوا بروح النصوص، وليس ذلك حفاظاً أو حرصاً على الشريعة ولا تمسكاً بها، ولا أنهم يريدون التمسك بروح النص كي يظهروا روح هذا النص، بل لكي يرفضوا منطوقه ومفهومه، أو يوظفوا هذا النص بعد أن يحرفوه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة. فالقوم الذين يوافقونهم لا يفطنون إلى أنهم يقفون معهم في خندق واحد في دعوتهم إلى تقسيم الدين إلى قشر ولب، وغير ذلك من التقاسيم، وبالتالي يقفون دون أن يشعروا في خندق واحد مع أعداء الدين الذين يريدون لنا ديناً ممسوخاً، ويريدونه ديناً كدين الكنيسة المعزول عن الحياة، والذي يسمح لأتباعه بكل شيء، ويبيح لهم كل شيء بلا حدود، حتى وصل الأمر إلى إباحة الفواحش التي تتصادم مع الفطرة، كما هو معلوم من أحوالهم، فالكنيسة تنازلت عن كل شيء في دينها، حتى أباحت للقوم كل شيء مقابل أن يسمحوا لها بالبقاء حية، ولو على هامش الحياة! فكذلك هم يريدون من الإسلام نفس الشيء، وذلك بأن يصل الأمر بالمسلمين إلى أن يُعزل الدين عن الحياة، وأن يبيح كل شيء مقابل أن يسمحوا له أن يبقى حياً على هامش الحياة محبوساً في الأقفاص الشمعية، ولا يتركوا له أي بصمة على واقع الناس ولا على مجتمعاتهم، وحالهم كما بين الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].

كل أمور الدين لباب وليس فيها ما يسمى قشورا

كل أمور الدين لباب وليس فيها ما يسمى قشوراً إن الله سبحانه وتعالى حينما خلق هذا الإنسان، وأنزل هذا الدين كي يبنى به الإنسان بناء متكاملاً، ويسعد به في الدنيا وفي الآخرة، أي إنسان عرف أن كل أمر أو نهي من أوامر هذا الدين ونواهيه هو عبارة عن نوع من الإسهام لكي يزيد في بناء هذا الإنسان، سواء كان هذا من المندوبات أو المباحات أو الواجبات أو المكروهات أو المحرمات؛ لأن كل هذه الأفعال تدخل في شُعَبِ الإيمان التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فنقص شيء من شعب الإيمان هو نقص في الإيمان، ولا أظن إلا أنهم يعتبرون إماطة الأذى عن الطريق ستكون قشراً على حدّ تعبيرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن إماطة الأذى عن الطريق شعبة من الإيمان، وكونها شعبة من شعب الإيمان فإنها إذا تخلفت سوف توجب نقصاً في الإيمان بحسب التفريط في هذه الشعبة، ولذلك فإن أي شعبة يجتنيها الإنسان في دينه ستكون بمثابة الزيادة في إيمانه؛ لأن من أصول أهل السنة قولهم: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وهذا هو مذهب السواد الأعظم من الأمة المحمدية. ويقول عليه الصلاة والسلام: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه). يعني: فأي أَمْر أَمَر به النبي عليه الصلاة والسلام فالأصل التزامه واتباعه والانقياد له. قوله: (إذا أمرتكم بأمر) أي: لا تتفلسفوا وتقولوا: هذا قشر وهذا لب وهذا جوهر وهذا مظهر، إلى آخر هذه المتاريس التي توضع في طريق السنة حتى تعوقها عن السير. فهذا التقسيم كما بيّنا آنفاً هو تقسيم محدث لم يعرفه السلف الصالح، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]، وهذه القسمة لا تقف عند حّد، وليس مقصودهم مجرد تقسيم الدين إلى قشر ولُبّ، لكن يتبع ذلك خطوة أخطر وهي المناداة بإهمال الظاهر بحجة الاهتمام بالباطن، ثم يتعدى الملاحدة والمنافقون والعالم اليوم ذلك إلى إهمال الباطن والظاهر. ولذلك نجد أن هذه الشعارات تلقى رواجاً عند المستهترين والمخدوعين؛ لأنهم يرون القوم يسمون لهم المعاصي بغير اسمها، فمثلاً: إعفاء اللحية باعتبار أنها من الأمور التي أوجبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيقولون: هذه من سنن العادة ولا علاقة لها بالدين! بل يزعمون أن من قال: إنها من الدين، يكون قد ابتدع في هذا الدين ما ليس منه، وغير ذلك من الشعائر الإسلامية يكررون محاولة إبطالها بهذا المعنى. وعلى قولهم: إن هذه عادات لا علاقة لها بالدين، فنحتاج إلى أن نعرف ما هي العادة وما هي العبادة، وما هو الفرق المحدد بينهما. ونحن نقول: إن ما تجري به أعراف الناس وعاداتهم وتقاليدهم قسمان: القسم الأول: ما سكت عنه الشارع ولم يتعرض له بإيجاب ولا بتحريم، فهذا مباح لا لوم على فاعله أو تاركه وصاحبه مخير. القسم الثاني: ما كان في الأصل من العادات، لكن الشرع أوجبه أو أمر به أو حرمه أو نهى عنه. فبمجرد أن يتعرض الشارع لشيء من العادات بأمر أو بنهي أو بإيجاب أو بتحريم فإنه حينئذٍ يدخل في دائرة الدين، ولم يعد داخلاً في العادات بل صار من العبادات، سواء كان من المناهي أم من الأوامر. فما أكثر الأعمال التي كانت تجري مجرى العادات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت من المناهي التي حرمها الشارع، فأصبح اجتنابها من الدين، مثل الوشم، لكن لما نهى عنه الشارع صار تحريمه عبادة، وكذلك وصل الشعر بالشعر، والنياحة على الميت، والميسر، وشرب الخمر وغيرها. كل هذه كانت عادات عند العرب، ولكن لما تعرض لها الشارع بالنهي صار من الدين اجتنابها. يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، وحتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، لستُ أقول ذلك في آدابه فقط؛ لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة فيها، بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يحصل الاتباع المطلق كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. يعني: أفضل أنواع الاتباع هو الاتباع المطلق، وكل ما كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم فعليك أن تتبعه فيه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. يقول: فلا ينبغي التساهل في امتثال ذلك، فتقول: هذا مما يتعلق بالعادات فلا معنى للاتباع فيه، فإن ذلك يغلق عنك باباً عظيماً من أبواب السعادات، بل حتى العادات إذا كانت من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، إذا نويت بفعلها الاقتداء به، فإنك تثاب على ذلك وتصبح عبادة في حقك.

الآثار السيئة المترتبة على تقسيم الدين إلى قشر ولب

الآثار السيئة المترتبة على تقسيم الدين إلى قشر ولب إن من الآثار السيئة لتقسيم أمور الدين إلى أمور شكلية ومظهرية وأمور جوهرية، وقشر ولب، وحقيقة وشريعة، أنها تؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، وتورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة، وينتج عنها الإخلال بهذه الأمور التي أسموها كذباً وزوراً قشوراً، فلا تلتفت قلوبهم إليها، ولما لا تلتفت القلوب لهذه الأشياء فمن الطبيعي أن تخلو من إنكار المخالفة، وبالتالي تخلو من أضعف مراتب الإيمان تجاه هذا المنكر، وهو الإنكار القلبي، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل)، والإيمان يدخل في القلب، فإن لم يستطع الإنكار باليد واللسان فلا سلطان لأحد غير الله على القلب فإنه ينكر بقلبه، أما اليد أو اللسان فيمكن أن يكون له عذر في التخلف عن إنكار المنكر أحياناً بهما. فالتفريط في محقرات هذه الأعمال يؤدي إلى التفريط في عظامها، فإذا بدأ الإنسان في التردي في دينه بسبب التفريط في الصغير، فإن التفريط في الصغير يؤدي إلى التفريط في الكبير؛ لأن استمرار هذا التفريط يتحول مع الوقت إلى عادة تأسر الإنسان، وتنتهي بصاحبها إلى قلة الاكتراث بأمور دينه والتهاون بها. وكما أشرنا من قبل فإننا إذا تسامحنا معهم في تقسيم الدين إلى قشور وإلى لباب، فإننا نلفت أنظارهم إلى أن قياس أمور الدين على الثمار، من حيث كون كل منهما له قشر وله لب، وظاهر وباطن، وهذا لا يعني أن القشرة التي أوجدها الله للثمرة إنما خُلقت عبثاً، حاشا وكلا، وإنما خلقها الله سبحانه وتعالى لحكمة عظيمة، وهي المحافظة على اللب نفسه، فهذا يحملنا على ألا نستهين بالقشر إذا تسامحنا في هذا الاصطلاح؛ لأن القشر حارس أمين على الثمرة، إذ لا يمكن أن تتخيل ثمرة بدون قشر، وإلا فإنه يسرع إليها الفساد، وهذا شيء مجرّب ومعروف. وهكذا الشأن في أمور الدين الظاهرة، حيث تقوم بنفس الدور الذي تقوم به القشرة في حمايتها للب الثمرة. كذلك تقسيم العلماء للدين إلى أصول وإلى فروع، قد استغله بعض الخبثاء الذين يريدون بالدين سوءاً، وأخذوا يذهبون بهذا التقسيم بعيداً عما أراده به العلماء؛ لأن العلماء حينما قسموا الدين إلى أصول وإلى فروع لا يُظن بهم أنهم أرادوا بذلك إيجاب الاتفاق على الأصول مع التسامح مطلقاً في الفروع. فترى بعض الناس يسيئون فهم هذا التقسيم، فيميعون كل قضية شرعية بدعوى أن اختلاف الأمة في دينها رحمة، والاختلاف رحمة، فلذلك يقولون: من قلد عالماً لقي الله سالماً! حتى لو كان هذا الكلام فاسداً في غاية الفساد أو مصادماً للنصوص! فبالتالي يؤدي الأمر إلى الترخص واتباع الهوى، ونقص العبودية عند هؤلاء الناس، ويلزم من قولهم هذا أن الاتفاق يكون سخطاً، وهذا ما لا يقوله مسلم. أما إذا قالوا كما قال ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه: الخلاف شر. إذاً: لو نظرنا إلى الخلاف على أنه شر، لسعينا إلى الاتفاق ورأيت ذلك في كثير من المسائل المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها إلا بردّ بعضها المخالف للدليل وقبول البعض الآخر الموافق له، وإلا إذا صح نسبة قولين متضاربين تماماً إلى الشريعة فهذا من التناقض الذي نزهت عنه الشرعية؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فليس ممكناً أبداً في الشريعة أن يكون في المسألة الواحدة قولان: الأول واجب والآخر حرام، بل قد يكون هناك خلاف في مسألة، بحيث يقول فيها الأول: هذا واجب، ويقول الآخر: هذا مستحب. أو في مسألة أخرى يقول فيها الأول: هذا حرام، ويقول الآخر: هذا مكروه. أما أن يختلف اثنان، فيقول الأول: هذا واجب يأثم تاركه، والآخر يقول: بل حرام يأثم فاعله! فمثل هذا الخلاف تتنزّه عنه الشريعة الإسلامية، وهذا الخلاف ليس من عند الله، ولا يمكن أن يوجد في شرع الله، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فلما كان التشريع من عند الله فليس فيه مثل هذا الخلاف، فلا يصح إذاً جعل الخلاف شريعة مُتّبعة ورحمة منزلة، فالواجب التخلص من الخلاف ما أمكن ذلك، أو تضييق دائرته؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سدّدوا وقاربوا)، أما إذا تحرى الإنسان الدليل وعجز عن التخلص من الخلاف فحينئذٍ يعذر بعضهم بعضاً فيما قد يختلفون فيه.

شبهات باطلة والرد عليها

شبهات باطلة والردّ عليها

التلازم بين صلاح الظاهر وصلاح الباطن

التلازم بين صلاح الظاهر وصلاح الباطن إذا كانت النصوص السابقة قد أسست فكرة الربط بين الظاهر والباطن وردّ مسألة الاعتماد على الباطن وحده أو النية وحدها، فإن هناك جملة أخرى من النصوص قد فصلت العلاقة بين الظاهر والباطن، وأثبتت أن هناك تأثيراً متبادلاً بينهما، كحديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بنا القداح)، والقداح: هي خشب السهام حين تنحت وتُبرى، واحدها قِدح، فكان يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما تقوم بها السهام، لشدة استوائها واعتدالها، ونجد من الناس الآن في هذا الزمان من يسخر من حرص الإمام على تسوية الصفوف! ولعلكم سمعتم من أحد دعاة العقلانية الحديثة للأسف الشديد أنه سئل في إحدى المرات -وهو شيخ معمم-: ما هي آخر نكتة سمعتها؟ فقال: رأيت نكتة في إحدى المجلات: الناس يقفون صفوفاً للصلاة، والإمام يلبس القفازات التي يلبسها الملاكم، وسئل الإمام: ماذا تنوي أن تفعل؟ هل ستلعب الملاكمة؟! قال: لا، أنا سأسوي الصفوف!! يقصد بذلك السخرية من الأئمة الذين يهتمون بتسوية الصفوف، هل يوجد أحد يسوي الصفوف بقفاز الملاكمة ويضرب الناس؟! هذا من الكذب والافتراء على عباد الله. وهؤلاء الناس الذين يسخرون ممن يهتمون بتسوية الصفوف ويقولون: هذه قشور، هم الذين يفعلون معسكرات ترفيهية أو إنشادية، ويقولون: لابد أن يكون فيها نظام، حيث يكون القصير في الأمام والطويل في الخلف، وغير ذلك من قواعد النظام في دقائق الأمور، فإذا قيل لهم: هذه قشور، كيف تهتمون بالطوابير وتهتمون بالنظام وغير ذلك؟! عندها يقول: ديننا دين انضباط ونظام، فهل يكون مهماً في مثل هذه الأمور بينما في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين يُعتبر الترتيب قشوراً! وهذا من أوضح التناقض. نرجع إلى الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوّي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بنا القداح، حتى رأى أنّا قد عقلنا عنه -أي: تعودنا على تسوية الصفوف وحافظنا على ذلك- ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يُكبّر، فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف، -أي: صدره خارج عن الصف- فقال: عباد الله! لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، وفي رواية: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم). وهذه إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن الاختلاف في الظاهر سينعكس على الباطن. إذاً: فالظاهر يؤثر في الباطن كما أن الباطن يؤثر في الظاهر، فالاختلاف في الظاهر مثل تسوية الصف يوصل إلى اختلاف القلوب، فدلّ هذا على أن للظاهر تأثيراً في الباطن، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التفرق حتى في جلوس الجماعة، فيأمرهم أن ينضم بعضهم إلى بعض، كما جاء عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنا حلقاً، فقال: ما لي أراكم عزين؟!) يعني: متفرقين، وعن أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلك من الشيطان. فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمّهم). ومما يقوي اعتبار الظاهر أيضاً ما تقرر في الشريعة من لزوم مخالفة الكفار وتحريم التشبه بهم، والأدلة على ذلك كثيرة معروفة. وكذلك ما تقرر أيضاً من تحريم تشبه الرجال بالنساء، حيث جاء في الحديث: (لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)، وهذا معناه أن هذا الفعل من الكبائر، وهذا ظاهر، فمثلاً: لو لبس أحدهم فستاناً وقال: أنا نيتي سليمة! وكذلك المرأة تلبس ملابس الرجال وتقول: المهم هو النية؟ فالشرع يهتم بالمظاهر حتى لو وافقنا على تسميتها بالقشور، والمخالفة في ذلك قد تُدخل صاحبها في الكبائر المتوعد عليها بالنار. والمقصود بالتشبه بالكفار هو التشبه بهم فيما هو من خصائصهم، لكن لو قال قائل: هم يأكلون ونحن نأكل، فهل هذا تشبه؟ نقول: ليس هذا تشبهاً، بل التشبه يكون فيما هو من خصائصهم، كالاحتفال بأعيادهم ومشاركتهم فيها، وكارتداء الملابس الخاصة بهم والتي يتميزون بها، وهذا مما حرص السلف الصالح على تجنبه، وهو واضح تماماً في سلوك الصحابة والفاتحين مع أهل البلاد التي فتحوها، حتى كانوا يشترطون في عقد الذمة أن لا يتزيّ المشركون بزي المسلمين. فطريق الهدى والصلاح أن نصلح الظاهر والباطن معاً، نصلح ظاهرنا باتباع السنة، وباطننا بدوام مراقبة الله عز وجل، ولا ندع العمل الصالح حذر الرياء ولا نفعله رئاء الناس. فقضية المظهر أو القشور كما يسميها بعضهم هذه قضية مبدأ وليست مجرد قشر أو ظاهر لا معنى وراءه، إذ إن هذه القشرة تحمي اللب وتحمي الهوية الإسلامية المتميزة، والعلماء لم يستعملوا لفظة القشر ولا المظهر، وإنما استعملوا لفظة الهدي النبوي الظاهر، وأفاض العلماء في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها، فما يشيع على ألسنة الناس من أن العبرة بالجوهر لا بالمظهر هذا فيه مغالطة جسيمة وخداع كاذب؛ لأن كلاً من المظهر والجوهر لا ينفكّ أحدهما عن الآخر. فالمظاهر أو الظواهر معبرة عن المضامين، ويمكننا أن نستدل هنا بقول القائل: كل إناء بما فيه ينضح، والإناء لو ملأته بالزيت فسوف ينضح زيتاً، ولو ملأته بالماء فسينضح ماءً، ولو ملأته بالعسل فسينضح عسلاً، فالعبرة بالجوهر لا بالمظهر، والقضية قضية مبدأ وليست مجرد شكل ومظهر، والأمثلة على ذلك كثيرة، وإن شاء الله نرجو أن نفصلها فيما بعد. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

صلاح الأعمال الظاهرة هو الدليل على صلاح القلب

صلاح الأعمال الظاهرة هو الدليل على صلاح القلب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صَلُحَت -يصح بضم اللام وفتحه- صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). نقول: الفهم الصحيح لهذا الحديث: أن فيه إشارة إلى أن صلاح جوارح العبد واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات يكون بحسب صلاح حركة القلب، فالقلب هو الموجّه للجوارح وهو القائد لها، فإن كان سليماً ليس فيه إلا محبة الله عز وجل ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه الله، فهذا قلب تصلح معه حركات الجوارح كلها، وينشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع الهوى، فسدت حركات الجوارح كلها، واندفعت إلى المعاصي والشبهات بحسب اتباع هوى القلب، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنودٌ له طائعون منقادون لطاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء، كما هو مفهوم من الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فالقلب هو الملك الذي يصدر الأوامر، والجوارح جنود منقادة له، هذا هو مفهوم الحديث والمقصود منه. فبالتالي يمكن أن يستدل الإنسان على صلاح القلب بصلاح الظاهر، حيث إنه إذا كانت الجنود في حالة سليمة صالحة فهذا يدل على أن القلب سليم، ولو رأينا مثلاً من يحلق لحيته ويقول: قلبي سليم! نقول له: لا، بل هناك فساد في قلبك يستوجب أن تعصي أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام بحلق لحيتك، ولو رأينا آخر يتشبه بالنساء ويقول: قلبي سليم. نقول: لا، بل هناك مرض في القلب، ويدل عليه تشبهك بالنساء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء) وكذلك الحال في المتشبهات بالرجال. فلو كان القلب سليماً يحب ما يحبه الله ويرضاه، ويكره ما يكرهه الله لظهر ذلك على الجوارح حتى تصلح صورتها وتتوافق مع سلامة القلب، لكن أي انحراف في الظاهر وفي أعمال الجوارح يعكس وجود الفساد في الملك الذي يأمر ويوجه ويقود هذه الجوارح. فيمكن الاستدلال على صلاح القلب أو فساده بقدر ما تظهره جنوده من الانقياد لشرائع الإسلام، فالظاهر عنوان الباطن ودليل صلاحه وفساده. لقد تقرر عندنا أنه لا يستدل مُبطل بآية أو حديث يؤيد الباطل الذي ذهب إليه إلا وكان فيه ما يدل على نقيض ما ذهب إليه، فنحن نهدم هذه البدعة بنفس الأدلة التي يستدلون بها، كما بيّناها من قبل في استدلالهم بحديث النيات، وكذلك الحال في هذا الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فهل اللحية من الجسد أم ليست من الجسد؟ A هي من الجسد، فإذا حلق الإنسان لحيته بدون عذر معاندة للشرع، فإن هذا دليل على فساد في القلب؛ لأنه لو صلح قلبه لصلح جسده ووافق الشريعة، فمن استأصلها بغير عذر محتجاً بصلاح قلبه فهذه كذبة ظاهرة، ومن امتثل أوامر الشرع بإعفائها كانت هذه قرينة ظاهرة على امتثال هذا الرجل لشرع الله في الظاهر، أما الباطن والنية فحسابه على الله في الآخرة بحسب نيته، هل يقصد ترويج تجارته حتى يثق الناس به ويقولون: هذا الرجل طيب، فهذا في الحقيقة منافق كذاب مخادع، أم أنه يريد وجه الله فيثاب في الآخرة.

العبرة في الشرع بصلاح القلوب والأعمال معا

العبرة في الشرع بصلاح القلوب والأعمال معاً يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) هذا الحديث مما يستدل به من لا يهتم بالأعمال الظاهرة، وهو في الحقيقة حجة على هؤلاء القوم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتصر على ذكر القلوب فقط، بل قال: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فالقلوب لا سبيل لنا للاطلاع عليها، لكن الأعمال نستطيع أن نحكم عليها بالظاهر، فلذلك عطف الأعمال على القلوب. فالعمل شيء ظاهر، والله سبحانه ينظر إلى الباطن وهو القلوب، وإلى الظاهر وهو الأعمال. فالمقصود بقوله: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) أي: وينظر إلى الأعمال التي تنبثق عن تلك القلوب، والتي لابد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله، ويكون المراد بها وجه الله عز وجل. فلماذا نحاول أن نضرب الأدلة بعضها ببعض؟! ولماذا لا نفهم النصوص في تناسق وتعاضد؟! فهذا الحديث يؤخذ منه أن المعتبر عند الله سبحانه وتعالى هو التقوى، كما يأتي في باقي الحديث: (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات)، عليه الصلاة والسلام. فمحل التقوى هو القلب، والمعتبر عند الله هو تقوى القلوب وليس الظاهر، كما قال عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم} [الحج:37]، أي: هذا لا يصل إلى الله، ((وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم))، وقال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. ومن هذا نفهم أن الإسلام لا يضع اعتباراً على الإطلاق للمظاهر والأمور الشكلية الجوفاء، وهذه هي القشور في الحقيقة، والتي ينبغي أن نحاربها، قشور في المآتم وقشور في الأفراح وقشور في الحكم على الناس بالمظاهر وبالملابس وبالزينة التي يلبسونها، والإسلام يقضي على هذه القشور ويحاربها، وهذه هي القشور التي ينبغي أن نسميها قشوراً، وندعو إلى هجرها وإحلال القيم والأخلاق الإسلامية مكانها. فلا ينبغي أن تحكم على الناس بالمظهر أو بالزينة أو بالنعيم أو بالترف والجمال، أو غير ذلك من الأمور، كما هو لفظ الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم) فهذه ليس لها اعتبار عند الله، بل: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)). فليس في الإسلام اعتبار للمظاهر الجوفاء والصور الجميلة، وليس لها ثقل عند الله عز وجل، فهذا يوسف عليه السلام الذي أوتي شطر الحسن لما رشح نفسه لإنقاذ الناس من المجاعة قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، ولم يقل: إني قد أوتيت شطر الحسن، بل اعتدّ بمدى علمه وأمانته وتقواه لله تبارك وتعالى. في حين قال سبحانه وتعالى في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4]، فقد يملكون القوة والعضلات والبهاء والمنظر، ولكنهم منافقون، ولذلك قال عز وجل: {كََأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]، وقد جاء تفسيرها في صحيح مسلم: كانوا رجالاً أجمل شيء. يعني: شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون؛ لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام. وقد رسخ الشرع هذا المعنى في نصوص كثيرة كما سنبين إن شاء الله فيما بعد بالتفصيل، ولكن سنذكر الآن هذه القصة التي رواها أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان إذا أتى من البادية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بشيء من طعام أو غيره من الأشياء التي يهديها البدو حسب بيئتهم، كذلك إذا أراد أن ينتقل من الحضر إلى البادية كان يزوده النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من متاع الحضر، وكان يقول: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميم الخلقة. وقد جاء الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم آتاه يوماً وهو في السوق يبيع المتاع الذي يحضره من البادية، فاحتضنه الرسول عليه الصلاة والسلام وضمه إلى صدره وهو لا يبصره، فقال: أرسِلْني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو حتى ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حينما عرفه -أي: حرص على قرب النبي عليه الصلاة والسلام منه ما استطاع- وجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتضنه من خلفه يقول: من يشتري العبد؟ -يعني: كأن هذا عبد والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يبيعه، يصنع ذلك معه مزاحاً- فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسداً، يشير إلى دمامة خلقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال: لكنك عند الله أنت غالٍ)، أخرجه الترمذي في الشمائل، وصححه الحافظ ابن حجر في الإصابة. نفهم من الحديث عدم الالتفات إلى الصور والمظاهر والأشكال؛ فالعبرة بالقلوب والأعمال، فهذا هو المقصود من قوله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم)؛ لأن الغنى والمظهر والبهاء كل هذا لا وزن له عند الله سبحانه وتعالى. يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]. لم يقل: ذوو الحسب، ولم يقل: ذوو الأموال والمظاهر والجمال! إنما الصفات التي تعتبر عند الله هي الإيمان والتقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. هذا الأسلوب في فهم النصوص التي ذكرناها آنفاً هو الأسلوب الوحيد الكفيل بأن يسد الباب في وجه الزنادقة والملاحدة الذين يتحصنون وراء دعوى حسن النية، ويرتكبون المخالفات الشرعية، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12]. ويضربون بالأحكام الظاهرة التي هي شعار الإسلام وأعظم أركانه كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها عرض الحائط، ويريدون ألا ينكر عليهم مُنِكر، وألا يَخدش انتماءهم إلى الإسلام، حتى وإن هجروا هذه الشعائر! إن لم نفهم هذه النصوص بهذا الفهم الذي ذكرناه، فسوف يُنسب إلى الشريعة التناقض الذي تنزه عنه؛ لأن الشرع بنى أحكامه على ما يظهره الناس في دار الدنيا، فإذا أهدرنا كل هذه الشرائع الظاهرة بدعوى أنها من القشور، وزعمنا أن المهم هو النية وصلاح القلب، فهذا بلا شك سيقضي تماماً على أحكام الشريعة الإسلامية. ومثل هذا الخبث لم يفعله حتى المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وآله، فالمنافقون لم يصلوا إلى أن يبتكروا مثل هذه القسمة الخبيثة كما يفعل الملاحدة والعلمانيون اليوم في هذا الزمان؛ لأن المنافقين ما احتجوا لهدم الأصول بهذه الطريقة، وإنما كانوا يُصلّون مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يحجون معه، وكانوا يجاهدون معه، وكانوا يتناكحون مع المسلمين، وكان المسلمون يصلون عليهم ويدفنونهم معهم أخذاً بما يظهرونه. ثم نقول: أليس الذي نطق بحديث: (إنما الأعمال بالنيات) وحديث: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم؟) هو الذي نطق بالنصوص التي تدل على اعتبار الظاهر، كقوله مثلاً: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)، والله عز وجل يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، لم يقل: وما ينطق بالهوى، وإنما نزّه كل ما يصدر في الدين على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى، والله عز وجل يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].

النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد

النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد إن الذين قسموا الدين إلى قشر ولُبّ، ومظهر وجوهر، هؤلاء ركبوا مطايا الخير كي يصلوا بها إلى الشر، فاستدلوا على هذه البدعة ببعض النصوص الشرعية التي أوّلوها وحرفوا معانيها، منها: حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذا مشهور عند عموم الناس، فكثير من الناس إذا خالفته في شيء قال لك: الإيمان في القلب، وأنا قلبي سليم وقلبي أبيض وما أريد شراً بأحد، فيرفعون هذا الحديث في وجه من يخالفهم. ومن النصوص التي استدل بها هؤلاء: ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام). فالحديث الأول دليل على عظم شأن النية وخطرها، ولا يمكن الاستدلال به بحال من الأحوال على إسقاط شعائر الإسلام الظاهرة والاكتفاء بالنوايا الحسنة، بل هذا كلام الزنادقة والملاحدة كما سنبين إن شاء الله. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) تقديره: الأعمال الواقعة بالنيات، أو الأعمال حاصلة بالنيات، فمعناها: أن الأعمال الاختيارية لا تقع إلا عن قصد من العامل الذي هو سبب وجودها وعملها، وهذه إشارة إلى أنه من الصعب جداً أن يعمل الإنسان عملاً بدون نية، حتى إن من العلماء من قال: لو فُرض أن العبد كُلَّف بأن يعمل عملاً بدون نية لكان هذا من التكليف بما لا يستطاع؛ لأنه لا يوجد عمل إلا ويكون معه نية. وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) إخبار عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله يكون بقدر نيته، فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد وعليه وزره. وفي بعض الروايات: (إنما العمل بالنية) ف (ال) هنا للعهد، وإذا قلنا: إن (ال) للاستغراق، فسيكون معناه: إنما كل الأعمال بالنية، وسيكون المقصود إنما كل عمل بالنية، حتى لو كان العمل مخالفاً للشريعة، لكن المقصود هنا ب (ال) أنها للعهد الذهني، يعني إنما العمل الصالح بالنية. ومثل ذلك قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:16]، (ال) هنا للعهد، والمقصود بالرسول هنا هو موسى عليه السلام، كذلك: (إنما العمل بالنية) الحديث يقتصر على الكلام على ما يتم به صحة العمل الصالح، يعني: إنما ينفع العمل الصالح صاحبه إذا انضم صلاح النية إلى صلاح العمل، وهذا هو الصواب؛ لأن العمل الذي تتوقف صحته على صلاح النية هو العمل الصالح. يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، والنية الحسنة لا تجعل الباطل حسناً؛ لأن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، فلابد أن ينضمّ إليها التقيد بالشرع. وقد روى البخاري في كتاب الشهادات عن عمر بن الخطاب -وهو الذي روى حديث: (إنما الأعمال بالنيات) - أنه قال: (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي: كما حصل مع المنافقين أو بعض المسلمين الذين أخطئوا- وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً صدّقناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لن نأمنه ولن نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة). أيضاً في نفس الحديث ما يدل على خطورة النية، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله رسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). إذاً: هذا مَثَل للأعمال التي تكون في الظاهر واحدة، فكل المسلمون هاجروا من مكة إلى المدينة، وهذا فعل اشترك فيه المؤمنون والمنافقون، وكذلك عند الخروج إلى الجهاد، فقد يخرج الإنسان يريد وجه الله وقد يريد شيئاً آخر، لكن العمل في الظاهر واحد، فيختلف صلاحه وفساده بحسب صلاح النية أو فسادها. فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فهل يمكن أن يأتي أحد ويستنبط من الحديث التنفير عن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ويقول: أنا أترك الهجرة ونيتي طيبة، ونيتي حسنة؟! A لا؛ لأن تخاذله في الظاهر عن الهجرة دليل على فساد قلبه وسوء نيته؛ مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب)؟ فالنية المزعومة لا تصلح العمل الفاسد، والنية إذا كانت صالحة ولم ينبثق عنها متابعة للشرع وامتثال للأوامر واجتناب للنواهي فلا قيمة لهذه النية. وهناك نصوص كثيرة جداً تعلق الانتفاع بالعمل على صلاح النية وصلاح العمل، يقول مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية. ونجد أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى). فلماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله)؟! A لأنه لا يملك إلا الظاهر، فالحكم يكون على الظاهر فقط، أما السرائر والبواطن والنيات فهذه علمها عند الله، فلذلك قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم منهم الظاهر، وقال: (عصموا مني دماءهم وأموالهم)، ثم قال: (وحسابهم على الله) فإن كانوا صادقين فسيثيبهم الله في الآخرة على قدر نياتهم، فالشهادتان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أعمال ظاهرة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا، إلا إذا أتى بما يبيح دمه، وهذا هو معنى قوله: (إلا بحق الإسلام) وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، إن كان صادقاً أدخله بذلك الجنة، وإن كان كاذباً فهو مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار! وفي رواية لـ مسلم - بعدما قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله، ثم تلا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:21 - 26])، يعني: كأن قوله: (فحسابهم على الله) منتزع من هذه الآيات التي في سورة الغاشية. ومن ذلك أيضاً ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن خالد بن الوليد رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مُصلًّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم). فالله سبحانه وتعالى هو الذي ينظر إلى القلوب، كما يقولون: ربنا رب القلوب، نعم، الله هو رب القلوب، لكنه شرع لنا في الجملة ما يناسبها وما يقع في مكنتها، والذي نملكه هو أن نتعامل بالظاهر، حتى إنك تجد أن تعاملات الناس فيما بينهم تكون بما يظهرونه. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)، فكم نرى من الناس من إذا حُكِم له بقضية فرح جداً؛ لأنه كسب القضية، وقد يكون هو في الحقيقة ظَلَم خصمه، وأخذ بحكم القاضي ما ليس من حقه، فالقاضي إنما يحكم بما يظهر له، وقد يكون هذا الرجل بليغاً فصيحاً يستطيع أن يُلبّس على سامعه، فيفرح جداً؛ لأنه كسب القضية حسب زعمه، وهو لم يكسب في الحقيقة بل هذا عين الخسران وعين الظلم. فحكم الحاكم لا يغير الحقيقة في نفس الشيء، فإذا كنت تعلم أن هذا ليس حقاً لك فلا يجوز لك أن تأخذه حتى ولو حكم لك القاضي؛ لأن القاضي يحكم بما ظهر له فقط. من ذلك أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى)، وقوله: عليه الصلاة والسلام: (من طلب علماً ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار). فهذه كلها نصوص تنبّه على خطورة الإخلاص وأهميته، وأنه شرط في الأعمال الصالحة. فلا يكون معنى الحديث: إذا كانت نيتك صالحة فافعل ما شئت؛ لأن ذلك سيؤدي إلى استباحة محرمات مقطوع بحرمتها، وترك ما فرض الله كالصلاة، ثم يقول لك أحدهم: هذه شكليات، وربما أسعفه الهوى بأن يستدل بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]. كذلك يقول بعضهم: الالتزام بطلوع الفجر لبداية الصيام من الشكليات! كذلك مثلاً: انتظار مغيب الشمس للصائم هذه أيضاً من الأمور الشكلية التي يكون المهم فيها هو النية! كذلك أيضاً القول بأن شعائر الحج من إحرام، ولبس المخيط من الثياب، والطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ورمي الجمرات ونحو ذلك، كلها من الشكليات التي يسع الإنسان تركها!! فهل يمكن أن يقول بهذا مسلم؟! إذاً: فخطورة هذه البدعة تكمن في أنها ليس لها حد تقف عنده، إذ ليس هناك تعريف للقشر ولا تعريف للّبّ، وبالتالي فإن هذا يفتح باباً للشر لا يُدرك مداه ولا ينتهي، وسوف يقع الخلاف، وكلٌّ يحكم حسب هواه، فيرى البعض أن المسألة الفلانية من القشور، والبعض الآخر يعتبرها من اللب، أو العكس، وبالتالي ينهار الدين

بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [2]

بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [2] لقد ظهر من أعداء الله عز وجل كثير من أنواع المحاربة، وإبعاد الناس عن الدين، وللأسف أنه قد تبعهم أناس من بني جلدتنا على ذلك، فصاروا يهرفون بما لا يعرفون، وقد ظهرت وسيلة جديدة من وسائل إخراج الناس عن الدين بالتدرج، ألا وهي: وسيلة القشور واللباب التي ليس لها حد ولا نهاية، فكل ما لا يعجبهم من السنن والواجبات جعلوها قشوراً لا قيمة لها، مع أنهم يهتمون بقشور الأعداء، وموضة المجرمين في الملبس والمأكل والهيئة.

فضيلة التواضع في الكتاب والسنة وأقوال السلف

فضيلة التواضع في الكتاب والسنة وأقوال السلف إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً -فذكر الحديث إلى أن قال-: إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد) رواه مسلم في صحيحه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً، ولا تواضع عبد لله إلا رفعه الله)، فهذا أيضاً فيه فضيلة التواضع لله عز وجل، فإن التواضع يرفع صاحبه، ولا يظن الرجل أنه إذا تواضع فإن ذلك ينزل مكانته، ولكنه إذا تواضع لله سبحانه وتعالى رفعه الله. والله عز وجل امتدح نبيه في أشرف المقامات بصفة العبودية والتذلل والخضوع والتواضع لله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، وقال في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] فامتدحه الله سبحانه وتعالى بوصف العبودية والتذلل والخضوع لله عز وجل، والتواضع له في أشرف المقامات، فدل على أن الشرف والعلو والرفعة والعزة إنما يكون في التواضع لله تبارك وتعالى. وإن كان هذا الرجل يقول في محبوبته: فلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي فكيف لا يفخر المؤمن بأنه عبد ذليل متواضع لله تبارك وتعالى؟! الشاهد قوله عليه الصلاة والسلام: (وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله). وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه: (شعب الإيمان) جملة من النصوص عن السلف الصالح رضي الله عنهم في قصص التواضع، فقد روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: يغفلون عن أفضل العبادة وهي التواضع. أي: أن الناس في غفلة عن أعظم أنواع العبودية، ألا وهو التواضع لله تبارك وتعالى. وعن عطاء بن السائب أن أبا البختري وأصحابه كانوا إذا أثني على أحد منهم ووجد عجباً في قلبه وتأثر بهذا الثناء حنا ظهره وقال: خشعت لله، خشعت لله. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني منهما شيئاً عذبته) فالكبرياء والعزة لا ينبغي أن تكون إلا لله تبارك وتعالى، وهذه هي الصفات التي لا يليق بالعبد أن يتصف بها؛ لأنها من صفات الله التي لا يجوز منازعته تبارك وتعالى فيها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يتبختر يمشي في بردة قد أعجبته نفسه إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، فعجل الله له العقوبة وخسف به الأرض، فهو منذ أن فعل الله به ذلك ما زال يتجلجل إلى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن، وفي حديث آخر: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل شعره إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)، وعن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلّ جواظ مستكبر) فمدح أهل الجنة بالتواضع، وجعل من صفات أهل النار الاستكبار والفظاظة. كذلك عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتكبرون يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل صغار، ثم يؤمر بهم إلى قصر في جهنم يقال له: بولس فيسحبون فيه، ويسقون من طينة الخبال من عصارة أهل النار)، فكما أنه كان يتكبر في الدنيا يعاقب في الآخرة بنقيض قصده، هو تكبر ليظهر العزة والرفعة، فعاقبه الله تبارك وتعالى بأن يحشر حقيراً ذليلاً في صورة البشر أمثال الذر والهباء الذي يكون في الجو، كما جاء في رواية أخرى: (يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل الذر في صور الرجال يغشاهم أو يأتيهم الذل من كل مكان، يسلكون في نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار).

بعض الآثار الواردة في التواضع

بعض الآثار الواردة في التواضع من علامات التواضع: ما ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رحمه الله دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه. وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فكانوا يتحرجون من ذلك. وقد سئل الإمام مالك: أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا، ولا بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك، وقرأ مالك: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق، فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه. وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم. يعني: هذا من صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً، خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى وبراهين توحيده في خلق الإنسان. وقال ابن الزبير: ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر. وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب، قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين. أي: أن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، وهي الذنوب والتكبر على المؤمنين. وتلا قوله تبارك وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى. وقال إبراهيم بن أدهم: لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره. وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك. يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك. وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه. أي: أن نصف دينك وثلثي مروءتك يذهبان؛ لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى إن العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون ذلك، بغض النظر عن التحقيق في المسألة، وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم الشخص لأجل الدين. بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء. وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك. وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني. وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ. وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل. هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك. وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن: لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع.

نماذج من تواضع السلف وفضل التواضع

نماذج من تواضع السلف وفضل التواضع لقد حفلت سيرة السلف بكثير من النماذج في التواضع فهذا أيوب السختياني رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. يعني: مالي ولهم. وهذا الإمام الشافعي يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة وهذا مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، يعني: أف لي أنا لا أستحق أن أدرج فيهم. وقال بشر غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. يعني: نضيف هذه إلى سابقتها، بحيث إنك لا تنظر إلى أحد من المسلمين إلا وحسبت أنه خير منك؛ لأن المعاصي التي ارتكبتها تعرفها أنت جيداً، فإذا نظرت لأحد من المسلمين لا تنظر له بعين الحقارة فربما يكون أفضل عند الله منك. أيضاً خواتيم الأعمال المغيبة لا تدري كيف تكون العاقبة، فيجب أن تخاف أيضاً على عاقبة نفسك، (فإنما الأعمال بالخواتيم)، وقول بشر: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. فحتى الكافر لا تستطيع أن تقطع وتقول: أنا أحسن عاقبة منه ما لم تقيدها فتقول: إذا أنا مت على الإسلام ومات هو على الكفر؛ لأنه ربما يقلب القلب ويصرف والعياذ بالله عن الإسلام بالردة، وربما يمتن الله سبحانه وتعالى ويتفضل على هذا الكافر فيسلم، فتحسن عاقبته. إذاً: الخواتيم لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وعن مالك بن أنس قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تكنه، فإن السيد لا ينظر إلى قوم على أنه سيدهم وكبيرهم وعظيمهم. على أي الأحوال هذه جملة من الفوائد من شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله تعالى في فضيلة التواضع.

وقفات حول بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب

وقفات حول بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب هذه القضية في الحقيقة لها نوع تعلق بالقضية التي نتناولها، كنا من قبل قد شرعنا في مناقشة قضية الهدي الظاهر وبدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب كما يفعل بعض المعاصرين، وقطعنا شوطاً في هذه القضية، لكن نلخص في مرور عابر ما تكلمنا عليه من قبل.

الوسطية في السنن والمباحات

الوسطية في السنن والمباحات فكما ذكرنا يتأنق في مظهره وملابسه ويغلو في ذلك إلى حد الرعونة، نعم، صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) قوله: (وغمط الناس) يعني: عدم إنزالهم منازلهم بحيث يرى في نفسه أنه أعظم من هذا فيتكبر عليه، ويحاول أن يضع من قدره، ويعامله بأقل مما يستحق من المعاملة. فحد الكبر هو بطر الحق وغمط الناس، يقول الله عز وجل: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]. ونعم صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له شعر فليكرمه)، وصح عنه أنه قال: (من كان له مال فلير عليه أثره)، (ولما رأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره، قال: أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره) (ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه)، لكن ليس الأمر بحيث يكون شغل الإنسان الشاغل هو دهن الشعر والرأس وتسريحه عاكفاً أمام المرآة، حتى يكون هذا المظهر شغله الشاغل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما صح عنه وما مضى صح عنه أيضاً: (أنه كان ينهى عن الإرفاه) والإرفاه: هو كثرة التدهن والتنعم. وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أيضاً في الحديث الآخر: (أنه نهى عن الترجل إلا غباً)، يعني: يوم ويوم لا، بحيث لا يواظب عليه كل فترة حتى يكون شغله الشاغل. وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف ومخيلة. وبين عليه الصلاة والسلام أن من علامات الحياء من الله والرغبة في الآخرة الإعراض عن زينة الدنيا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموتى والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). وندبنا أيضاً إلى التواضع في المظهر، ووعدنا عليه الأجر والكرامة، فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها)، يعني: أن الإنسان لو كان عنده ملابس نفسية وجميلة جداً وغالية جداً وامتنع عن لبسها أحياناً أو دائماً بنية استحضار هذا الحديث وهذا الثواب تواضعاً لله عز وجل، فإن الله يكافئه بأن يدعوه يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.

أوجه التناقض عند أهل القشور واللباب

أوجه التناقض عند أهل القشور واللباب نحن في الحقيقة نحتاج قبل الاستطراد أن نقلب القضية ونعكس القضية على هؤلاء المفترين الكذابين، الذين يدعون إلى تقسيم الدين إلى قشر ولباب، وبالذات الملاحدة الزنادقة، أما أهل الدين فالأمر معهم أسهل وأوضح، لكن هؤلاء الذين يقسمون هذا القسمة بهدف تحطيم الدين كله، بحيث يجعلون الصلاة قشوراً وصيام رمضان قشوراً، حتى إن بعض النساء المتحررات من عبودية الله قالت: إن موضوع العقد والشهود والزواج هذه سخافات؛ لأن هذه المظاهر الجوفاء هي التي تقتل الإنسانية وتهدر كرامة المرأة، إلى آخر ما لهجت به هذه الخبيثة. إذاً: فهذه القسمة الخبيثة كما ذكرنا ينبع خطرها من أنها لا يوجد لها حد محدود، ولا يوجد تعريف معين للقشور، الموضوع عائم، وكل واحد يمكن أن يعتبر أي شيء قشراً والآخر يعتبره لباً، فبالتالي يتحطم الدين كله وينهار. فنقول: إن الدين كله لب لا قشور فيه، كله معالي لا سفاسف فيه، صحيح فيه أصول وفروع، فيه أهم ومهم، لكن ما دامت داخلة في إطار الدين فلا يجوز أبداً أن تسمى سفاسف أو قشوراً أو سخافات إلى غير ذلك. فالقشور ليست سنة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، إنما القشور ما أحدثه الناس من القيم والأعراف والموازين الشكلية الكاذبة التي صارت تتحكم فيهم وتستعبدهم، وصاروا ينقادون لها كأنها شرع منزل، وإن جهد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يوجه ليصطاد هذه القشور وهذه الشكليات وهذه العادات الجوفاء. ومظاهرها كثيرة في مجتمعنا، فهذه هي التي ينبغي أن نسميها قشوراً وأن نركلها. فمنها مثلاً: ظاهرة التطوس، الطاوس معروف بخيلائه وكبره الشديد، فهو مجبول على الكبر والخيلاء، دائماً الطاوس يحب أن ينتفش ويظهر بمظهره، وبعض الطيور الأخرى أظنه الديك الرومي دائماً يحب أن يكون على مكان عالٍ مرتفع؛ لما جعل عليه أيضاً من الكبر، فنسميها ظاهرة التطوس والتشبه بالطاوس في الكبر. فترى بعض الناس ومنهم هؤلاء الذين يقولون بالقشور واللباب وهم من داخل الصف الإسلامي تراه يتأنق ويتزين في مظهره، ويفعل في نفسه أكثر مما تفعله الماشطة بعروسها، (الاستشوار) والزيوت و (الشانبوه) والبلسم والمرآة، وكل هذه الأشياء يتأنق في مظهره، وينسى آلام وجراح ومذابح المسلمين. لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين إلا عندما تذكر بسنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ لماذا لا تتذكرها عندما تكون أمام المرآة وتكوي ملابسك وتشتري الفاكهة وتعمل الرحلات وتتنزه وتتنعم هذا النعيم؟! لماذا تسير حياتك كلها بطريقة رتيبة، بحيث يخرج في الصباح للعمل أو للدراسة ويقضي كل مآربه في الحياة، ولا يتذكر أن المسلمين في حالة نفير عام وأن النساء تذبح، لكن إذا عرض عليه بأن يحضر درس علم قال: المسلمون يقتلون ويذبحون وأنتم تتكلمون في الفقه، نقول لهذا: لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين وآلام المسلمين إلا عند شرع الله وعند سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

التحذير من تهوين المعاصي والاستهزاء بالسنن والواجبات

التحذير من تهوين المعاصي والاستهزاء بالسنن والواجبات لقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تهوين المعاصي واحتقارها، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد يئس الشيطان أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا أيها الناس! إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وقال أنس رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) رواه البخاري. وجاء تفسير الموبقات المهلكات في حديث سهل بن سعد مرفوعاً، يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (إياكم ومحقرات الذنوب! فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود)، وجاء في بعض الروايات: (فحضر صنيع القوم) صنيع: فعيل بمعنى المفعول، يعني: كيف ينضجون الطعام، هذا يأتي بعود وهذا يأتي ببعرة وهذا يأتي بكذا، فيقول: (فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها أهلكته). أخرجه الإمام أحمد بسند حسن كما قال الحافظ. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً) صححه ابن حبان. وعن عبادة بن قرط رضي الله عنه قال: إنكم لتأتون أشياء هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، فذكروا قول عبادة بن قرط لـ محمد بن سيرين فصدقه، قال: صدق. وقال ابن سيرين: أرى جر الإزار منه، يعني: من الموبقات؛ لما جاء فيه من الوعيد الشديد، والناس يعدونه من الصغائر لفرط جهلهم وذنوبهم. فهذا أنموذج من نماذج القضايا التي دائماً يضرب بها المثل إذا أرادوا الاستهزاء بمن يستمسك بالهدي الظاهر، ليس عندهم شيء يتذكرونه غير السواك، والثوب القصير، واللحية، وحمل كتب العلم الشرعي، فأصبحت هذه طرفاً ونكتاً وشيئاً يضحكون بها الناس، حتى إن بعض المستهترين قاموا بتمثيل مسرحية يسمونها إسلامية في إحدى الكليات منذ سنوات، وأتوا بشخص يظهر بصورة تسيء للشخص الملتزم، ومع الأسف هم ممن ينتمون إلى العمل الإسلامي، فأتوا بواحد ولبسوه قميصاً قصيراً ومعه السواك والكتاب واللحية والعمامة إلى آخره، وأتوا به بصورة شبيهة تماماً بما يفعله الجماعة في الأفلام والمسرحيات في السخرية من المشايخ وأهل الدين، حضر هذا الملتزم بالسواك فأتى وقال: (عنتر شايل سيفه) يعني: يسخر من السواك. فهذا يحصل من الناس الذين ينتسبون إلى الدين وإلى الدعوة الإسلامية؛ لعدم تنبيههم إلى خطورة هذا الأمر، وهذا التنقص والاستهزاء من سنة النبي عليه الصلاة والسلام يخشى على فاعله الكفر والردة والعياذ بالله؛ لأن الاستهزاء والسخرية لا عذر فيه بالجهل؛ لأنه لا يوجد مسلم يجهل تعظيم رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا تعظيم سنته، فمن فعل ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية يخشى عليه الردة والعياذ بالله! وقد جاء عن الشريد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف حتى هرول في أثره، حتى أخذ بثوبه فقال: ارفع إزارك قال: فكشف الرجل عن ركبتيه، فقال: يا رسول الله إني أحنف وتصطك ركبتاي) يعني: فيه نوع من الحنف أو الميل في ساقيه، كما يكون عند الأطفال المصابين بالكساح أو لين العظام، فهو يستحي أن يراه الناس على هذا المظهر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله عز وجل حسن، قال: ولم ير ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات). وعن عمرو بن فلان الأنصاري رضي الله عنه قال: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره إذ لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصية نفسه وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك فقال: عمرو فقلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين -يعني: دقيق الساقين- فقال: يا عمرو! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال: يا عمرو! هذا موضع الإزار، ثم رفعها، ثم وضعها تحت الثانية، فقال يا عمرو: هذا موضع الإزار) يعني: إما أربع أصابع أو ثمانية. كذلك من أعجب المواقف في ذلك: موقف أمير المؤمنين عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا الموقف حصل معه في سياق مصيبة هي من أعظم المصائب التي تمر على الجبلة: والموت أعظم حادث فيما يمر على الجبلة كان عمر في أحرج لحظات حياة أي إنسان، وهي لحظة فيضان الروح وخروجها والانتقال إلى الدار الآخرة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: دخل شاب على عمر بعدما طعن عمر رضي الله عنه فجعل الشاب يثني عليه. لأن السنة أنك إذا حضرت من أيس من حياته وأشرف على الموت أن تثني عليه فتذكره بأعماله الصالحة؛ لأن التخويف والزجر للشخص المحتضر يؤدي به إلى القنوط من رحمة الله، وقد يموت وهو سيئ الظن بالله والعياذ بالله، والله تعالى يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء). لكن الآن في هذا الوقت عليك أن تعظم رجاءه، وتذكره بنصوص الرجاء في الكتاب والسنة، وتذكره بأعماله الصالحة، كنت تفعل كذا وكنت تفعل كذا حتى يقبل على الله وهو حسن الظن به، فجعل الشاب يثني على أمير المؤمنين رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما أراد هذا الشاب الانطلاق رآه عمر يجر إزاره، فـ عمر وهو في سياق الموت قال له: يا ابن أخي! ارفع إزارك؛ فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، قال: فكان عبد الله يقول: يا عجباً لـ عمر! إن رأى حق الله عليه فلم يمنعه ما هو فيه أن يتكلم به، وفي رواية: فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا علي الغلام. وفي الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة: (أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية). وعن يحيى بن أبي كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يعني: كسرى- فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي). ولما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث بالكتاب عبد الله بن حذافة رضي الله عنه فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزق كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب إلى باذان واليه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه وكان كاتباً حاسباً مع رجل من الفرس، أرسلهما حتى يقبضا على النبي عليه الصلاة والسلام ويحضراه إلى هذا الخبيث كسرى لعنه الله، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، التفت وكره أن تقع عينه عليهما، وقال: (ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: ربنا أمرنا بهذا -يعني: كسرى- فقال عليه الصلاة والسلام: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قتل ربكما الليلة)، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجعا حتى قدما على باذان. على كل حال فليستحضر هذا الذي يستهين بالهدي الظاهر أنه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بشيء من هذه الأشياء التي يسميها القوم قشوراً، هل كان سيتجاسر أن يتقدم بين يديه أو يرفع صوته معترضاً عليه؟ لا شك أن أي مسلم أو مؤمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً سيقول له: حباً وكرامة وسمعاً وطاعة يا من أفديه بأبي وأمي. فكذلك ينبغي أن يفعل المسلم مع سنته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فهذا واجبنا مع سنته إذا لم ندرك صحبته أن نعظم ما عظم، ونرفع ما رفع صلى الله عليه وآله وسلم.

الرد على من يصنعون الشبهات في احتقار الطاعات

الرد على من يصنعون الشبهات في احتقار الطاعات هناك أناس في هذا الزمان يتقنون صناعة الشبهات وضرب الأمثال، فيحلم الكثير من هؤلاء أن يتصدوا لكل من يدعو أو يشتغل بالقضايا العملية، أو الجانب الذي يسمونه جانب القشور والمظاهر، حتى بلغ الاستخفاف من بعضهم أنه استهزأ بأبواب فقهية، ألا تسمعون بين الحين والآخر بالذين يقلدون الخميني أشعل الله قبره عليه ناراً، الخميني الذي كان يسخر من علماء أهل السنة والجماعة ويقول: علماء الحيض والنفاس. كررها بعض الخطباء ممن ينتسبون زوراً لأهل السنة بنفس العبارة، يرددون كالببغاوات ما لا يعون ولا يفهمون، فيسخرون من إخوانهم طلبة العلم والمشايخ فيقولون: علماء الحيض والنفاس، حيث قال بعض هؤلاء المشايخ، وسمعته بنفسي في القاهرة منذ سنوات، قال: متى تخرجون من فقه دورة المياه وفقه المراحيض؟ سخرية واستهزاءً بفقه الطهارة. فموضوع القشر واللب لا يقف عند حد وليس له ضابط، فيؤدي إلى التحلل تماماً من الدين، وكما ترون الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين في يوم من الأيام قال: هؤلاء الأمريكان صعدوا على القمر ونحن ما زلنا نناقش: هل ربا البنوك حلال أم حرام؟ يعني: هؤلاء يهتمون بالقشور في حين صعد هؤلاء إلى القمر. فهذه عبارة خبيثة المقصود منها التهوين من شأن هذه القضايا، وهناك نماذج كثيرة جداً ولا نقصد حصرها، فهم ينكرون على من يتكلم في القضايا العملية أو التي يسمونها قضايا قشرية، سواء جاء كلام هذا الشخص ابتداء، أو جاء كلامه إجابة لسائل يسأل، فيثيرون الدنيا ويقيمونها: هؤلاء يتكلمون في قضايا والمسلمون يذبحون والمسلمون كذا وكذا وكذا، وسيأتي الجواب على هذا كله إن شاء الله تعالى. يقولون: ينبغي أن تتجه همة المسلمين الآن إلى الأمور الخطيرة والأمور الجليلة التي تهدد كيانهم، أما الاشتغال بالفقه وبالعلم وبالعقيدة وبتصحيح المفاهيم، كل هذا اشتغال بما لا يجدي، وهذا تضييع للوقت، هيا نقيم أولاً دولة الإسلام، ثم بعد ذلك ننشغل بالعلم وغيره. إن لم يكن معك علم فماذا تفعل لابد أن تتخذ موقفاً وإلا سترتكز على أساس من الجهل، كما يقول بعض الناس: أنت سلفي، سلفية علم أم سلفية جهل؟ ما الذي يقابل سلفية العلم؟ سلفية الجهل. فالشاهد أن العلم لا يضلك أبداً، بل يهديك ويبين لك الطريق. فهم يقولون شبهات فارغة ساقطة تلبس على الناس أمر دينها، وكما ذكرنا من قبل إن كان الكلام على قضايا يسيرة من أمور الهدي الظاهر وليس له خطام ولا زمام فسوف ينجر الكلام بعد ذلك إلى كل أحكام الشريعة التي لا توافق أهواء الناس، بحيث إذا تواضعنا على هذه المقولة وقبلناها لا يبقى بعد ذلك مجال للدعوة إلى اجتناب الحرام أو تعظيم شعائر الدين، وتصبح الشريعة ألعوبة في يد المنحرفين عن أحكامها. يعظم أحدهم ما يحتقره الآخر ويحتقر الآخر ما يعظمه الأول، فأخطار هذا المنهج وتداعياته قد يمتد زحفها في الطريق حتى يطال قضايا العقيدة والتوحيد، حتى تصبح هي أيضاً من القشور التي تفرق المسلمين، فماذا يبقى إذاً من الإسلام إذا تهاونا إلى هذا الحد؟!

لكل قوم قشرتهم

لكل قوم قشرتهم نحن بشر لنا أجساد، ومقتضى ذلك أن لنا مظهراً مادياً محسوساً، ولسنا أرواحاً لطيفة ولا أطيافاً عابرة، والمظهر شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الإسلامية الحنيفية تميز الأمة الإسلامية في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها. بل إن كل أهل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم أفكارهم أو ترمز إلى عقيدتهم. فإن كنا نقول للكفار: لكم دينكم ولنا ديننا، فنقول في هذا الاصطلاح الحادث مع شيء من التنزل: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا؛ لأن الإنسان لابد له من قشرة، فإن لم يحمل صبغة الله وقشرة المسلمين فلابد أن يتغطى بقشرة الكافرين، وهذا أوضح ما يكون، هذا الشعار: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا أوضح ما يكون عند عامة اليهود الذين يتميزون بطاقيتهم ولحاهم وأزيائهم الدينية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم، أليس هذا كله تميزاً صادراً عن العقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بها؟! ألا ترى التاجر النصراني -رغم أن الجهر بالصليب أو بالصور التي يعلقونها قد تدفع بعض الزبائن من المسلمين إلى عدم الشراء منهم- يتحدى ويظهر ما يعبر عن عقيدته سواء بالصليب أو الوشم الذي يفعلونه أو الصور التي يعلقونها، أليست هذه كلها تعبيراً عن اعتزازهم بهذه العقيدة وإصرارهم على التمسك بها؟! فإذا كانت هذه المظاهر كالصليب وطاقية اليهود وغير ذلك من شعائر الوثنيين هي صبغة الشيطان التي كسا بها أهل ولايته من أهل الضلال والكفران، فكيف لا نستمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا بها وقال فيها عز وجل: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]؟! إن أهمية هذا الموضوع ليس بالحجم اليسير الذي يتخيله بعض الناس، وإلا فلماذا هم يقولون: لا تشتغلوا بالمظاهر واشتغلوا بالجوهر، ولا تهتموا بالشكليات والقشور واهتموا باللب والمضامين؟! نقول: إذاً لماذا أنتم تشغلون أنفسكم بمظهرنا؟ مع أننا لا ندعوهم ولا نقول لهم: التحوا ولا افعلوا، غاية ما في الأمر مجرد أن يراك بشكلك هذا يثور ويهيج ويقول: المهم الجوهر، وأنت لم تقل له شيئاً ولا دعوته، رغم أنه من حقك أن تدعوه بل ومن واجبك أحياناً، ومع ذلك فهو الذي يهتم بالمظهر في الحقيقة، وهو الذي يعطيه هذا الحجم الكبير، لماذا تشن الحروب الإستراتيجية على المظاهر الإسلامية كاللحية والحجاب وغير ذلك من المظاهر، لماذا تشن عليها هذه الحروب المنظمة؟ حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات وتصدر قرارات وتجيش الجيوش لهذا، ونحن أصحاب البيت كما يقول الشاعر: أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس هذه ديارنا وهذا ديننا فمالكم تجزعون هذا الجزع؟ لماذا تهتمون بالمظاهر؟ افترضوا أننا لم ندعوكم إليها، لماذا تجزعون هكذا؟ فمن الذي يهتم بالمظهر؟! اتقوا الله يا غواة قليلاً واخلعوا العار عنكم والشنارا فهل كل هذا من أجل أنها قشور؟ كلا، بل لأنهم يدركون ما لهذه المظاهر من دلالة عميقة، ويدركون أنها تعبير عن الصمود والثبات على الدين، تصبغ المجتمع بصبغة غير التي ترضي أعداء الله تبارك وتعالى. فمثل هذا التمسك بالشعائر الإسلامية، كالأذان وصلاة العيد وصلاة الجماعة والزي الإسلامي، كل هذه عبارة عن تعبيرات للتحدي لمحاولات التذويب والتمييع، فهذه هي عبارة عن صفعة توجه لمؤامرة استلاب هوية هذه الأمة كمقدمة لإذلالها ولاستعبادها. فمن يتخلى عن القشرة الإسلامية سيتغطى ولابد بقشرة دخيلة مغايرة لها؛ لأن كل لب لابد له من قشر يصونه ويحميه، فالسؤال الآن: إذا كان لابد لنا من قشر لماذا يرفضون قشرة الإسلام ويرحبون بقشرة غيره؟ لماذا يأكلون مثلاً بالشمال ويحلقون اللحى ويلبسون النساء أزياء من لا خلاق لهن، ويلبس بعضهم في بعض البلاد القبعة وغير ذلك من المظاهر التي يقتبسونها عن أعداء الله تبارك وتعالى؟! لأنهم تخلوا عن قشرة الإسلام ولابد من قشرة للب، فاكتسوا بهذه القشرة التي هي صبغة الشيطان. يقول بعض السلف: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي. يعني: لا تعرضوا لها بالآراء والأهواء، اتركوا لها الطريق سهلاً ميسوراً كي تمر، لا تضعوا أمامها المتاريس والعقبات كي تعوقوها عن المضي.

موضوع القشور ليس له حد في مفهوم من ابتدعه

موضوع القشور ليس له حد في مفهوم من ابتدعه لقد لفتنا حال سلفنا الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم إلى ضرورة التميز في الظاهر والباطن عمن خالفنا في الدين، بل تكلمنا من قبل على قضية القشر هذه، وبينا أن القشر كلام عام ما له حد محدود، واجتهدنا في أن نحاول أن نستخرج لهذا المصطلح الدخيل وهذه القسمة الباطلة حداً معيناً فما وجدنا لها حداً محدوداً. فالقشر مثلاً بعض الناس قد يرى أن العمامة أو القميص من القشور، والبعض الآخر يرى أن القشور هي مثلاً في اللحية والحجاب، والبعض الآخر سيرى الصلاة والصيام والحج قشوراً كما فعل مسيلمة الكذاب، لما وضع عنهم الصلاة وقال لهم: ليس هناك داع للسجود والركوع وهذه المظاهر، والله لا يصنع بتعفير وجوهكم شيئاً، اذكروا الله في أي حال. فإذاً: موضوع القشور لم يقف عند حد، ولم يقتصر على مجرد الهدي الظاهر، لكن الزنادقة والملاحدة يريدون أن يجعلوا كلمة القشور هذه قنطرة حتى يقضوا بها على كل أحكام الإسلام، بحيث لا يبقى منه غير الجانب الوجداني الذي يحبس في الصدور وفي حنايا القلوب. ذكرنا من قبل أننا حتى لو قبلنا تقسيم الدين إلى قشر ولب، هل القشرة خلقها الله عبثاً أم أن لها فائدة؟ لو تخيلت مثلاً البطيخ بدون القشرة الخارجية، والبرتقال بدون القشرة، وأي شيء من هذه الثمرات الذي جعل الله لها قشرة، هل القشرة خلقت بلا فائدة؟ حتى لو أعملنا القياس الذي ابتدعوه فلا شك أن الله خلق القشرة لحكمة، وهي المحافظة على المضمون، كذلك نفس الشيء إذا سمى الهدي الظاهر قشرة فليس بعبث، وإنما وراءه حكمة عظيمة، وهي المحافظة على ما بداخل هذا القشر وهو المضمون. ومن أجل ذلك نراهم تزين لهم شياطينهم وتسول لهم أنفسهم أن الحجاب هذا قشور، وأن العفة شيء في نفس المرأة ليس له علاقة بالملابس، فإذا خرجت المرأة متبرجة بالمناظر القبيحة المعروفة على الشواطئ وغيرها من الأماكن فلا بأس عندهم؛ لأنهم يقولون: المهم النية مادام أن قلبي طاهر فلا يضرني هذا في شيء، فالقضية أخطر من أن يقفز إلى أذهاننا أن موضوع القشر واللب يقف عند حد، هو يزحف حتى يشمل أمور الدين كلها وشعائر الإسلام والهدي الظاهر، فهذه القشرة التي تحمل وتعبر عن الهوية الإسلامية المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله تعالى بالهدي الظاهر، وأفاضوا في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها. فما يشيع على ألسنة الناس من قولهم: إن العبرة بالجوهر لا بالمظهر، هذا فيه مغالطة جسيمة وخداع كاذب؛ لأن الجوهر لا ينفك عن المظهر، والظواهر هي المعبرة عن المضامين، وأولى بنا بدل أن نستدل بقولهم: العبرة بالجوهر لا بالمظهر، أن نستدل بقولهم: الإناء بما فيه ينضح. فالقضية قضية مبدأ، ليست قضية أمور شكلية أو مظهرية، وقد أكثر العلماء في مصنفاتهم من الكلام على قضية التشبه بالكفار وخطرها على الإيمان والعقيدة، وفي ذلك كتاب رائع نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم).

أقسام من ينادي بتقسيم الدين إلى قشر ولب

أقسام من ينادي بتقسيم الدين إلى قشر ولب إن بدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب يتنادى بها فريقان من الناس، فريق من الطيبين المسلمين المخلصين الذين يريدون الخير، لكن يخطئون الطريق إليه ويضلون الطريق إليه، فهم يريدون تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب، يعني: جوهر ومظهر، وهدفهم من ذلك أن يهتموا باللب وبالقضايا العظيمة والكبيرة مع إهمال هذا الذي أسموه قشراً، وهذا يقتضيه حسن الظن بهؤلاء. أما الآخرون من الملاحدة وأعداء الدين فهم الذين يقسمون الدين إلى قشر وإلى لب وإلى مظاهر وجواهر ونصوص وأرواح، هؤلاء هدفهم خبيث، هم لا يريدون كما يريد الفريق الأول الاهتمام باللب أو بالقضايا الكبيرة، لكنهم يريدون تحطيم كل شيء، لكنها عملية التدرج واستدراج المسلمين في الانحلال من دينهم رويداً رويداً. إن الهدف من هذه العبارات وأمثالها خاصة في هذا الزمان وفي ظل المحنة التي نعيشها هو كما ذكرنا تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك الهدي الذي سولت لهم شياطينهم وطوعت لهم أنفسهم أن يسموه تطرفاً وتزمتاً ورجعية وتعصباً وإرهاباً إلى آخره، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] وقال عز وجل: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. حينما نردد بين الحين والآخر هذا الشعار المقدس في بداية كلامنا، ليس كلاماً نكرره دون أن نتمعن فيه ونتدبره، بل إننا نقصد المعنى العظيم الذي يرمي إليه هذا الشعار المقدس الذي هو: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. هذه ليست كلمة تحفظ بدون معنى، وتقال في بداية بجهل، وما صدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة إلا كي تكون ميزاناً بين يدي كل كلام نقوله، وبين كل حاجة نريد قضاءها، فنحن نستحضر كلما رفعنا عقيدتنا بهذا الشعار المقدس: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ونعتز بهذا الهدي ونستعلي به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه كائناً من كان ذلك الشخص الذي ينحرف ويحيد عنه. فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون تجزئة سواء كان ظاهراً أو باطناً، أصولاً أو فروعاً أو كما سموها قشراً ولباباً أو غير ذلك، فالتمسك بهذا كله ما هو إلا مرآة تعكس ما يعمر قلوب متبعيه عليه الصلاة والسلام من حبه وتعزيره وتوقيره. فما يتنادى به بعض هؤلاء المرجفين لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث والتحلل من البعض الآخر، أو سوء نية وخبث طوية من هذا البعض الآخر.

هدف أعداء الدين من تقسيم الدين إلى قشر ولباب

هدف أعداء الدين من تقسيم الدين إلى قشر ولباب إن موضوع القشر واللب والنص والروح، والجوهر والمظهر، هذه في الحقيقة تقاسيم مبتدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، بل هو شعار ومبدأ باطنه فيه الرحمة لبعض الناس وظاهره من قبله العذاب، ومن أجل هذا التمويه وهذا التزييف انخدع به بعض الطيبين الذين ابتلعوا هذا الطعم واستحسنوه، بل صاروا يروجون له دون أن يدركوا أن هذا قناع نفاقي قبيح، وأنه من لحن قول العلمانيين من أعداء الدين الذين يتخذونه قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشعائر وشرائع الإسلام، يريدون أن يتحللوا من الدين دون أن يخدش انتماؤهم إلى هذا الدين، فيأتون بمثل هذه الشعارات. تتوقف القضية بالفعل عند حسن النية من المسلمين المخلصين عند إهمال ما أسموه قشراً لأجل التركيز على ما ادعوه لباً، لكن حزب المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها هي عندهم مجرد مدخل لأجل نبذ اللب والقشر معاً تماماً، كما يرفعون شعار الاهتمام بروح النص وعدم الوقوف والجمود عند منطوقه، نقول: هذا كلام طيب وكلام لا بأس به إذا تعاطاه وطبقه الأسوياء، لكنه خطير غاية الخطورة إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم في الحقيقة ليس مسألة روح ونص، وإنما مسألة إزهاق روح النص واطراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بتحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة. هؤلاء يريدون ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة، يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا هم له بالبقاء حياً، حتى ولو على هامش الحياة، بحيث يكون محبوساً في الأقفاص الصدرية، لا يترك أي بصمة على واقع الناس ومجتمعاتهم، إنهم في الحقيقة يريدون هذا الشعار: {أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. ذكرنا من قبل أن تفسير قوله تعالى في صدر الرد على هذه البدعة والضلالة وهو قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، قلنا: إن السلم هنا معناه الإسلام، وليس المقصود السلام كما يذهب إليه بعض الناس. يعني: هذا أمر بالتزام جميع شرائع الإسلام بحيث لا يفرق بين شريعة وشريعة وبين حكم وحكم. والمراد هنا بالسلم شعب الإسلام. (وكافة) حال، يعني: ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في كل شعب الإيمان ولا تخلوا بشيء من أحكام الإسلام والإيمان.

قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم

قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم، ونحن لا نقول هذا الكلام من أجل أن نقول للناس: انفشوا شعركم، والبسوا الثياب القذرة، أو تعمدوا لبس الثياب البالية، أو من كان عنده ثوب جديد فليمزقه وليصنع فيه الرقع، لا نقول هذا، لكن السياق الذي نتكلم فيه أن هؤلاء يشتغلون تماماً بمظاهر قشرية جوفاء ويغلون في ذلك، وينكرون على من يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يزدرون إخوانهم إذا كانوا أولاً فقراء، أو يتزهدون في لباسهم، أو يلبسون ثياب المتواضعين المخبتين إلى ربهم تبارك وتعالى. فقيم الإسلام وهدي النبي عليه الصلاة والسلام ألا نعطي المظاهر هذا الحد من الاهتمام، وهذه القشور هي التي ينبغي التحذير منها لا الأمور التي يقصدون التنفير منها. ومما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم بأعمالهم لا بأجسامهم. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) رواه مسلم. يعني: ما أكثر ما تجد رجلاً أشعث أغبر لا يلبس الثياب النفيسة ولا هو كذا وكذا وكذا، بل شعره متفرق وعليه الغبرة من التراب، والناس يزهدون في لقائه وفي دعوته إلى بيوتهم، بل يدفع عن الأبواب، لكنه في ميزان الله سبحانه وتعالى وعند الله من أعظم أولياء الله، بحيث لو أقسم على الله لأبر الله قسمه؛ وذلك لعظم مكانه عند الله، ولأنه تزين بزينة الدين لا بزينة الدنيا، تزين بالخشوع والإخبات والتقوى والبر لا بالمظهرية الجوفاء. فهذه هي موازين الإسلام ومن حاد عنها فهو المنحرف والمتطرف، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل فقال: ما تقولون في هذا؟ -وكان رجلاً جلداً قوياً مفتول العضلات، حسن الثياب والمظهر- قالوا: حري -أي: جدير- إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) رواه البخاري. يعني: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا الغني الأول.

حقيقة الرجال

حقيقة الرجال هذا الشاعر المخضرم: العباس بن مرداس أمه الخنساء الشاعرة المعروفة، وهذا أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم قبيل فتح مكة، وكان من المؤلفة قلوبهم يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه ويخلف ظنك الرجل الطرير فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلاة نزور ضعاف الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير يصرفه الصبي بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه. أي: أن النحيف مظهره رث. قوله: وفي أثوابه أسد مزير. المزير: هو العاقل الحازم يقال: مزر الرجل مزاره إذا اشتد قلبه وقوي. قوله: ويعجبك الطرير فتبتليه. الطرير: هو الشخص ذو المنظر والرواء والهيئة الحسنة، وترى منظره يعجبك، فتبتليه وتحتاجه تفتش وراء هذه الثياب وهذا المظهر. ويخلف ظنك الرجل الطرير. أي: يكون إنسانا تافهاً. قوله: فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير يعني: هذا هو الذي يفتخر به الرجال الكرام ليس بالهيئة وبالعضلات وبالمظاهر، لكن بالكرم وبالخير والخصال الجميلة. قوله: بغاث الطير أكثرها فراخاً. البغاث: الضعاف من الطير الذي لا يستطيع أن يصطاد. قوله: وأم الصقر مقلاة نزور يعني: هي التي تضع واحداً فقط ثم لا تحمل بعد ذلك فهي نزور بمعنى قليل. قوله: ضعاف الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور البازي والصقر أقوى، قوله: لقد عظم البعير بغير لب. يعني: الجمل يكون حجمه ضخماً جداً وكذلك الفيل. قوله: فلم يستغن بالعظم البعير يعني: هل نفع البعير أن جسمه ضخم، وأن منظره ضخم؟ ماذا يحصل للبعير؟ قال: يصرفه الصبي بكل وجه يعني: الطفل الصغير يتحكم فيه؛ لأنه إنسان عنده عقل يتحكم بهذا الجسم الضخم ويسخره. قوله: ويحبسه على الخسف الجرير. يحبسه على الذل، والجرير: هو الحبل. قوله: وتضربه الوليدة بالهراوى. يعني: بالعصي. فلا غير لديه ولا نكير. فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير وهذا الإمام النووي رحمه الله تعالى وهو شيخ الإسلام كان إذا رآه الرائي ظنه شيخاً من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إلى ذهنه أن الإمام النووي شيء يذكر، فإذا سمعه يدرس أو يقرر أو يحدث فغر فاه من التعجب، أهذا الرجل الذي رأيته من قبل واحتقرته بسبب رثاثة هيئته وتواضعه ومنظره البسيط يتكلم الآن بهذا الكلام؟! فهو عندما يحدث ويناظر ويقيم الحجج تنكشف شخصيته عن جوهر زكي وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى، ولا عجب فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة وجمال الهندام، فإذا رأوا من هذا صفته وقروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضامر، وفكر بائر، وقلب حائر. ترون بلوغ المجد أن ثيابكم يلوح عليكم حسنها وبصيصها وليس العلى دراعة ورداؤها ولا جبة من شية وقميصها ويقول الآخر: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ومحاسن أورثن مجدا

ترفع الشافعي عن القيم التافهة والشكليات الكاذبة

ترفع الشافعي عن القيم التافهة والشكليات الكاذبة هذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: مبيناً أنه يعرف قدر نفسه، ولا يهتز لهذه القيم التافهة والحقيرة والشكليات الكاذبة، فهذه هي القشور أن يحكم على الإنسان من ملابسه بهذه الشكليات. يقول الشافعي رحمه الله تعالى: علي ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بمثلها نفوس الورى كانت أعز وأكبرا وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث وجهته برى يعني: العبرة بالجوهر لا بالمظهر، هذه هي القشور التي ينبغي ألا نهتم بها، يقول: لو جمعتم ثيابي كلها ونظرتم كم تساوي فإنها لا تساوي فلساً، لكن داخل هذه الثياب نفس أبية عظيمة لو قيست بكل نفوس الخلق كانت أعز وأكبر، وهذا ليس كبراً، وإنما هذا من معرفة المرء نفسه، بل هذا قليل جداً في حق الشافعي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: وما ضر نصل السيف إخلاق غمده. يعني: السيف لا يضره أن يكون الغلاف من الجلد خلقاً إذا كان السيف حاداً يقطع ويحصد الرءوس حصداً، فنفس الشيء العبرة بما في داخل هذه الثياب وليس في هذه المظاهر والقشور، هذه هي القشور التي ينبغي أن ننبري لمحاربتها وتصحيح مفاهيم الناس فيها. وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث وجهته برى

نحن قوم أعزنا الله بالإسلام

نحن قوم أعزنا الله بالإسلام عن ابن شهاب قال: (خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فأتوا على مخاضة -أي: بركة ماء أو بحيرة ماء- وعمر على ناقته، فنزل عنها وخلع خفيه ووضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أأنت تفعل هذا، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؟! حيث كان القساوسة واقفين على أسوار بيت المقدس يشاهدون هذا الموقف، فكيف يراه القساوسة والبطارقة وهؤلاء النصارى وهو على هذه الهيئة يفعل هذا؟! فـ عمر ثاني أفضل رجل طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء، فإن أفضل مخلوق من البشر طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر رضي الله عنه، يليه الفاروق عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه. فهل هناك من هو أعظم من هؤلاء حتى نتخذ منه قدوة، ونتلقى منه المفاهيم والموازين للناس والأشخاص والقيم؟ ماذا قال عمر لما قال له أبو عبيدة: (يا أمير المؤمنين أنت أنت تفعل هذا! تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؟ قال عمر: أوه -هذا اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع وأتضجر من هذه الكلمة- أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم) لكن أبو عبيدة هو من العشرة المبشرين بالجنة، وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنه، فقال: لو كان غيرك قالها لجعلته نكالاً ولأدبته تأديباً شديداً، لأجل هذا الخلل في مقاييسه وموازينه وحكمه على الأمور. قال عمر: (أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله). فهذا قانون خاص للأمة المحمدية تعامل هذه المعاملة؛ فهذه سنة الله فيمن يكفر نعمة الله، الله الذي أنزل هذا القرآن قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] يعني: فيه رفعتكم ومجدكم. فبعدما كانت أمة العرب أذل الأمم وأحقرها فما رفعهم الله إلا بهذا الدين، فأي أمة أخرى إذا تمسكت بدينها تقهقرت! وإذا تخلفت عن دينها تقدمت إلا أمة الإسلام إذا تخلوا عن دينهم لابد أن يصيروا في ذيل الأمم؛ لأنهم كفروا نعمة الله؛ لأن الله شرفهم بما لم يشرف به أمة من العالمين بالقرآن وبالإسلام وبسنة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم. فمن يكفر بنعمة الله يهنه الله، قال عمر: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين فمهما نبتغي العزة في غير ما أعزنا الله به أذلنا الله، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، فمن ابتغى العزة في غير الإسلام وفي غير مفاهيم الإسلام يعاقب بالمذلة والصغار، هذه الأمة عندما تتمسك بالدين ترتقي، وعندما تتخلى عنه تعود إلى المؤخرة وإلى الذيل. بخلاف الأمم الأخرى كما رأينا مثلاً أمة اليابانيين لما تخلوا عن دينهم ترقوا وتقدموا، وعندما يدعون أن الحضارة الغربية حضارة نصرانية هذا كذب؛ لأنهم ما ترقوا إلا بعدما كفروا بالكنيسة وكفروا بالدين وعزلوها وحبسوها داخل جدران الكنائس كما هو معلوم، ورفعوا في الثورة الفرنسية شعاراً معروفاً: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس. الشاهد أنه ما ترقى الغربيون إلا بعدما طلقوا الدين وكفروا بالدين تماماً، المسلمون اليوم على العكس تماماً، فمن الظلم أن يطبق هذا الوضع الموجود الآن في بلاد الكفار وفي الغرب على المسلمين؛ لأن المسلمين لن يرتقوا حتماً، ونقسم على هذا بالله عز وجل أنه لا يمكن أبداً أن يصلح حالهم إلا بالقرآن والسنة وبالإسلام، بخلاف غيرهم من الأمم، فمن أراد العز في غير هذا الدين فلن يجني إلا المذلة، وفي رواية أن أبا عبيدة قال: يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العزة بغيره. فالعزة ليست بالمظهرية وبالشكليات وغير ذلك. دخل أعرابي رث الهيئة على أحد الخلفاء فاقتحمته عينه، يعني: كأن الخليفة لما رآه بثياب بالية فكأنه استنقصه وظهر عليه أمارات التأثر بهذا، فعرف الأعرابي ذلك في وجهه فقال: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك ولكن يكلمك من فيها، فأدناه وقربه فإذا به يظهر من فصاحة في القول والبلاغة؛ فجعله من خاصته.

إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه

إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه)، يعني: إننا نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع المتاع، ونحن حاضرو المدينة نعد له ما يحتاج إليه مما لا يجده هو في البادية. كان يقول عليه الصلاة والسلام على هذا الرجل: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان دميماً -يعني: قبيح الوجه رضي الله تعالى عنه- فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو -أي: لا يبالي- ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتضنه يقول: من يشتري العبد؟ من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً -يعني: تجد سعري قليلاً؛ لأنني ذميم الخلقة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال: لكن عند الله أنت غال) أخرجه الإمام أحمد والبغوي والترمذي في الشمائل وصححه الحافظ ابن حجر في الإصابة. ففي هذا الحديث كيف كان صلى الله عليه وسلم يواسي الفقراء، وكيف أنه لم يلتفت إلى صور الناس؛ لأن العبرة بالقلوب والأعمال وليس بهذه المظاهر الكاذبة، هكذا تعلم منه الأصحاب الذين هم أولو الألباب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

ذم الاهتمام الكبير بالمظهر

ذم الاهتمام الكبير بالمظهر عن عبد الله بن شقيق قال: (كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه وهو شعث الرأس مشعان، فقال: مالي أراك مشعاناً وأنت أمير؟! فقال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الإرفاه)، فأصل الرفه أن الجمل يتعود أنه كل يوم يذهب به إلى البئر ويرد الماء ويشرب، فأخذ منه معنى الرفاهية والترفه، قوله: (فكان ينهانا عن الإرفاه) يعني: كثرة التجمل والاشتغال بهذه المظاهر. (قلنا ما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم) رواه النسائي وصححه الألباني إننا نهتم بتخريج الأحاديث من وقت ما رأيت الإخوة البريطانيين يعتبون جداً على ألا يذكر الإنسان حديثاً ولا يذكر تخريجه ومن صححه، فاستفدنا منهم ذلك ألا نترخص بذلك. في طريق أخرى عن يزيد بن هارون عن الجريري عن عبد الله بن بريدة رحمه الله: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فقدم عليه وهو يمد ناقة له، فقال: إني لم آتك زائراً وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك فيه علم، فرآه شعثاً فقال: مالي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، ورآه حافياً، فقال: مالي أراك حافياً؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحياناً).

ربعي بن عامر يعلم رستم أن مظاهر الدنيا ليس لها قيمة

ربعي بن عامر يعلم رستم أن مظاهر الدنيا ليس لها قيمة هذا ربعي بن عامر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أرسله سعد قبل موقعة القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فلما دخل عليه وأراد رستم أن يظهر له العظمة والأبهة كي يذل الصحابة رضي الله عنهم بهذا المظهر، فزين مجلسه بالنمارق والزرابي، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، ووضع على رأسه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وجلس رستم على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب غليظة وفرس قصيرة، فأراد رضي الله تعالى عنه أن يلقنه درساً لا ينساه، أراد أن يعلمه أن كل هذا لا يساوي عندنا شيئاً، فتعمد رضي الله عنه أن يركب الفرس فلم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، حتى يبين أن هذه الأشياء ما لها قيمة عندنا ولا تهزنا هذه المظاهر، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك! فقال: إنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، يعني: أنتم تريدون أن تذلوني بدنياكم فهذه دنياكم، فأخذ الرمح وظل يمزق هذه النمارق والزرابي فخرق عامتها وأفسدها عليهم، فقال له: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله. إذاً: فهذه الأمور التافهة والمظاهر الدنيوية ليس لها أي قيمة في نظر من يريد الدار الآخرة، فكان جندي من جنود المسلمين يعرف لماذا خلق، ومن الذي كلفه بهذه الرسالة. يقول: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).

مقاييس وموازين الإسلام للرجال

مقاييس وموازين الإسلام للرجال المقاييس التي غرسها الإسلام في نفوس أتباعه والقيم والموازين هي أن شأن عباد الله الصالحين أنهم لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة القصص بعد ما حكى عاقبة قارون وما كان عليه من المظاهر والرياش والأموال: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] يعني: كانت المفاتيح فقط تحملها عصبة من أولي القوة وتكون ثقيلة عليهم، هذه مفاتيح الخزائن فما بالك بما في الخزائن! لكن ماذا كانت عاقبة قارون؟ أهلكه الله تبارك وتعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]. في نهاية القصة يقول تبارك وتعالى مبيناً العبرة والدرس من هذه القصة العظيمة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، كلمة (تلك) إشارة تعظيم وتفخيم، وفيها تنزيل الشيء الغيبي منزلة المشاهد والمحسوس. قوله: ((تلك الدار الآخرة)) يعني: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها هي الدارة الآخرة. قوله: (نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) قيل: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. تأمل في الآية لم يقل تبارك وتعالى: نجعلها للذين لا يعلون في الأرض ولا يفسدون، لكنه نفى عنهم مجرد الإرادة، يعني: أنهم أصلاً لا يريدون فضلاً عن أن يفسدوا أو يعلوا في الأرض، حتى مجرد الإرادة أو الميل بالقلب لا يخطر على قلوبهم، ففي تعليق الوعيد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما، بمعنى أننا يجب ألا نريد العلو ولا الفساد في الأرض فضلاً عن أن نقع في العلو أو الفساد، كما قال عز وجل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] فعلق الوعيد بالركون، والركون: هو مجرد الميل القلبي أو مساعدة الظالم، كما قال بعض السلف: لو أن ظالماً طلب منك أن تناوله قلماً لا تعطه أخذاً بهذه الآية؛ خشية أن يكتب به ظلماً فتعينه على ظلمه. قوله: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً) العلو: هو الغلبة والتسلط بسوء وتكبر على المسلمين، ونتأمل هنا قوله تبارك وتعالى: (لا يريدون علواًَ في الأرض ولا فساداً) فكرر (لا)، إشارة إلى أن كلاً من العلو والفساد مقصود بالنفي، ليس هما شيئاً واحداً معطوفاً على بعض، يعني: لا يريدون علواً ولا فساداً. قال عكرمة: العلو في الأرض: التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها، والفساد: العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه.

اهتمام الناس بقشور المباهاة والمفاخرة ونقدهم لمسائل الدين

اهتمام الناس بقشور المباهاة والمفاخرة ونقدهم لمسائل الدين إن التواضع في الحقيقة له صور كثيرة جداً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأتي الصبي الصغير أو الجارية الصغيرة فيأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فيمضي معه حيث أخذه، وقالت له عائشة رضي الله عنها وهو يأكل يوماً: (هلا اتكأت -يعني: نأتي لك بمتكأ تجلس عليه- فحنا رأسه عليه الصلاة والسلام وقال: بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)، صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه هي قيم الإسلام، وهذه قشور القوم، وهذا هو اللب والجوهر والروح، فما بال القوم قد ابتغوا العزة في رباط العنق (الكرفتة)، ويكون لونها مناسباً مع لون القميص ومع الأزرار والبدلة، وكذلك مع السيارة أحياناً، فجعلوا العزة في مثل هذه المظاهر، لا، هذه مقاييس أهل الدنيا، هذه ليست لنا، هذه الزينة وهذه القيم للقوم الذين جنتهم عجلت لهم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). فمهما سابقناهم في هذا فلن ندركهم، فهم يسبقوننا في الرياضة، ويسبقوننا في الزينة وفي الرياش والفخفخة لن ندركهم ولن نلحقهم؛ لأن هذه ليست لنا، هذه لغيرنا، وزينتنا هي التواضع والبذاذة كما قال عليه الصلاة والسلام: (البذاذة من الإيمان). زينتنا قيام الليل، وذكر الله عز وجل، وصلاة الجماعة، هذه هي الزينة التي تليق بعباد الرحمن، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] فما بال القوم ابتغوا العزة في هذه المظاهر الكاذبة والقشور الفارغة، في ربطة العنق وكي الملابس، وأهدروا أموالهم في مظاهر قشرية جوفاء، وإذا ندبت أحدهم إلى الاعتدال وقلت له: ترفق بنفسك مهلاً، انطلق كالصاروخ يسرد لك ما أسعفه من الحجج والمعاذير، في حين أنه بمجرد رؤيته لمن يتمسك بالسنة وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم مثل: ارتداء القميص حيث كان أحب الثياب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الأستر وفيه تواضع، والعمامة أو غير ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا به يشمئز ويقول: هذه شكليات وهذه قشور لا ينبغي الاشتغال بها، نقول: لماذا شغلت أنت نفسك بهذه القشور؟ أنا ما كلمتك وما دعوتك بأن تفعل مثلي، ومن حقي أصلاً أن أدعوك. فمن الذي استفزته هذه القشور؟ وهناك مفارقات عجيبة في الحقيقة نلمحها في مجتمعاتنا تعكس الخلل في هذه القيم وفي هذه الأمور، فمثلاً تلمح بعضهم إذا رأى إماماً للصلاة متمسكاً بالسنة يلاحظ اهتمامه الشديد بتسوية صفوف الصلاة وبرصها أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، يقول: هذه شكليات هذه قشور، بل إن منهم من سخر من هذه السنة لما سئل في بعض الأحاديث الصحافية ما هي آخر نكتة، أو (كاريكاتير) أعجبك؟ فقال: رأيت (كاريكاتير) جماعة أحدهم لابس قفاز الملاكمة، فقالوا له: ماذا تفعل؟ هل أنت تستعد للملاكمة؟ قال: لا أنا سأسوي الصف. من يفعل هذا؟ هل هناك من يضرب الناس حتى يسووا الصفوف؟ إن هذا تنفير من السنن واستهزاء بأشياء قد تضر إيمانهم وإسلامهم. فالشاهد قولهم: هذه شكليات وهذه قشور، بينما تراهم في أنشطتهم إذا عملوا معسكرات كشافة أو حتى معسكرات رياضية أو حفلات واستقبالات سواء كانوا من الكشافة أو من الصحفيين أو غيرهم، فانظر إلى اهتمامهم بتسوية الصفوف مثلاً في الاستعراضات العسكرية، أو استقبال حرس الشرف، أو في المدارس والمعسكرات وطابور الصباح، وكل هذا من أجل المحافظة على مظهر الاستعراض! أليست هذه شكليات أو قشور؟! فيقول لك: هذا من لوازم الانضباط والنظام وكذا وكذا إلى آخر هذه المعاذير، هذا من المفارقات العجيبة في الحقيقة، لماذا تقولون في الصلاة: شكليات وقشور؟ ولماذا في حفلاتكم ومراسيمكم تهتمون بهذه المظاهر؟ إذا جاء الفقير ذو الدين والخلق الحسن إلى أحدهم يخطب ابنته تمسك بالمظاهر وتشبث بالقشر، وأهمل الجوهر واعتبر المظهر، وعقد الأمور، وغالى في المهور، وإذا كان رجلاً طيباً وتورع عن المغالاة في المهر وقنع باليسير لابد أن يظهر أمام الناس أن المهر قدره كذا وكذا، لماذا؟ من أجل الاشتغال بهذه القشور. أما قشور المآتم فحدث ولا حرج عما يقع بسبب التباهي في المآتم، بل إنهم يتباهون بحسن أكفان الموتى، في أحد المساجد هنا قريباً في المنطقة تجد إذا دخلت الباب كفناً درجة أولى وكفناً عادياً وهكذا، وإلى عهد قريب إذا دخلت بعض المدافن تجد رخاماً مكتوباً عليه: مدفن درجة أولى ممتازة بكذا جنيه، ومدفن درجة ثانية بكذا جنيه، ومدفن عادي بكذا جنيه. هذا التباهي في الجنائز، وهذا غير التفاخر بالبنيان فوق القبور، مع ما في ذلك من المخالفة الصريحة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء فوقها. ومن القشور المدمرة كما يقولون: موت وخراب بيوت، أو كما يقول الشاعر الفصيح: ثلاثة تشقى بهن الدار العرس والمأتم ثم الجار فتجد في الجنائز إذا كان الميت له أقارب في مدن أخرى تتحول دار أهل الموت إلى فندق ومطعم يستقبل أفواجاً من المعزين تقيم الأيام والليالي، ويستنفر أهل الميت لخدمتهم وتأمين حاجياتهم، وحدث ولا حرج عن تكاليف السرادقات والتباهي بالمشاهير من المقرئين، وربما استدانوا لأجل هذه المظهرية، وربما دفعوا تكاليف هذه المظاهر الكاذبة الخادعة والقشريات من أموال قد صارت ملكاً لليتامى؛ لأن الميت انفصل عن ماله، صار ملك اليتامى القاصرين المساكين، فإذا بهم يأخذون من أموال اليتامى ولا يتحرجون، رغم أن هذا من أكل أموال اليتامى ظلماً وسحتاً في هذه المظاهر الكاذبة، فمن الذي يهتم بالقشور؟ ومن الذي تستعبده المظاهر وتلك العادات الخبيثة؟ وهذا أيضاً مخالف للسنة؛ لأن جيران أهل الميت الأصل أنهم هم الذين يصنعون الطعام لأهل الميت؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال عندما استشهد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم). أيضاً في سبيل هذا التصور وفي سبيل المظهرية الفارغة يضحي بعضهم بالنفس والنفيس، وربما أشغل ذمته بالدين أركبه الهم والذلة في النهار وأرقه بالليل. إذا فرح في الأفراح بذَّر في نفقات الإضاءة وأسرف في الولائم، مجاراة للتقاليد ومجاراة للأغنياء والوجهاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما) رواه البيهقي وصححه الألباني. قوله: (المتباريان) أي: لو أن شخصاً صنع وليمة وقام الثاني وصنع وليمة أفخم من وليمته، فتباريا كأنها مسابقة، فهذان يعاقبان شرعاً بأنهما لا يجابان ولا يؤكل من طعامهما، ويقول عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم. المقصود يمنعها المساكين من الدخول، فليس من الممكن أن تجد فقيراً في الأفراح، فلو ذهبت إلى (البوفيه) مثلاً فرأيت الفطائر والحلويات وهذه الأشياء فهل تجد رجلاً فقيراً مسكيناً رث الثياب يجلس مع هؤلاء الوجهاء الذين يتباهون بالملابس وبالثياب والمظاهر الفارغة؟ هل يمكن أن يتركوا واحداً فقيراً أو مسكيناً يأكل معهم؟ لا يمكن أن تجد هذا إلا أن يشاء الله، فهذه مظهرية فارغة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام والوليمة). وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يحضر أحدكم وعند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان) رواه مسلم، فإذا كانت اللقمة لا تتركها حتى لا تدعها للشيطان، فكيف بمن يطعم الشيطان ما لذ وطاب من أصناف الطعام والشراب؟ كنت في إحدى البلاد العربية في شيء مثل المخيم، فأتوا بخروف كبير جداً مشوياً بطريقتهم، وأتوا به على صواني كبيرة جداً كما هي الطريقة المعروفة عند بعضهم، فالناس أكلوا أكلاً يسيراً جداً، فبقي هذا الشيء يكاد يكون كما هو، والأكل الموجود من الفواكه والأرز بما عليه من الزبيب وغيره من الأشياء هذه كلها، وإذا أنا بهم يدخلون بإناء كبير جداً، جفان كالجواب ربما يصعد إليها بالسلالم، فالمهم أتوا ببقية الطعام فجعلوا يضعون اللحم على الخبز على الفواكه، فاستغربت من المنظر فقلت: أين تذهبون بها؟ فكأن الأخ أحرج فقال لي: نتصدق بها على الطيور، فهنا نقول: كيف تهدر نعم الله سبحانه وتعالى بهذا الشكل؟ هناك من المسلمين من يموت بالتخمة ومن الشبع، ومن المسلمين من يموت بسبب الجوع، فهل هذا هو شكر النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها علينا؟ كل هذه مظهرية كاذبة لا تليق بالمسلم، فإذا كان الشيطان لا تترك له لقمة، فكيف تترك له أصناف الطعام والفواكه والشراب وغير ذلك حتى يهنأ بها ويتقوى عليك ويهزمك؟! وكيف بمن يرمي في القمامة أكواماً من الطعام تفقدها أفواه محرومة، وبطون خاوية، ويلقي في المزبلة بقايا الولائم في حين يغلي قلبه حسرة على ما ركبه من ذل الدين وهمه في سبيل قشور فارغة وفي سبيل المظاهر الكاذبة؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

أقسام الناس في العلو والفساد في الأرض

أقسام الناس في العلو والفساد في الأرض إن الناس على أقسام فيما يتعلق بالعلو والفساد في الأرض، فمن الناس من يريد علواً في الأرض وفساداً كالحكام الظلمة والفسقة والفجرة، فهو يجمع بين أمرين: حب الرياسة والزعامة، والتسلط والقهر والعلو، ويريد أيضاً في نفس الوقت أن ينشر الفساد في خلق الله وإباحة المعاصي، وتيسيرها على الناس، فهذا يريد العلو ويريد الفساد أيضاً. وهناك قسم آخر يريد علواً ولا يريد فساداً، وتجد هذا أحياناً في بعض أهل الصلاح، يريد العلو والرياسة، ولكنه ينهى عن المعاصي ولا يريد المعاصي، كما قال الشاعر: هلاك الناس مذ كانوا إلى أن تأتي الساعة بحب الأمر والنهي وحب السمع والطاعة وقسم ثالث: وهم الذين لا يريدون علواً ولكنهم يريدون أن يكون الفساد متوفراً لهم، فهذا الصنف يريد فساداً لا يريد علواً، لكن أهل الآخرة هم الذين قال الله فيهم: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إن الرجل لو أحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية). يعني: أن يحب أن يتميز على أخيه حتى في شسع النعل، والشسع: هو القطعة من الجلد التي تدخل بين أصبع القدم الكبيرة والتي تليها، فإذا أحب الرجل أن يكون شسع نعله أفضل من غيره فهذه درجة من درجات حب العلو في الأرض، لكن لا بأس أن يحب أن يكون نعله حسناً كما جاء في الحديث الذي ذكرناه، لكن لا يتكبر على من دونه في الدنيا، ولا يكون ممن يريد العلو في الأرض. قول علي: (إن رجلاً يحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية) قال العلماء: لعل هذا إذا أحب ذلك لافتخر على صاحبه ويستهين به، وإلا فقد جاء في الحديث: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس). فالكبر عمل قلبي أساساً لكن إذا كان الإنسان ركب سيارة أحسن من سيارة جاره، أو لبس ثياباً معينة حتى تكون ثيابه أفضل فهذا يريد العلو، لكن لا حرج أن تحب الجمال والنظافة والثياب الجديدة، لكن لا لتعلو بها على خلق الله، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا لبس أو استجد ثوباً كان يدعو الله تبارك وتعالى يقول: (اللهم إني أسألك خيره وخير ما صنع لأجله، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع من أجله)، فإنه يصنع ويلبس أحياناً لأجل التفاخر والتعالي على الناس وهذا منهي عنه، ويصنع ويلبس لأجل الستر والزينة وهذا لا بأس به، وكان علي رضي الله عنه يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويأتي إلى البقال والبياع فيفتتح عليه القرآن، ويقرأ تلك الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. نحلم باليوم الذي ينزل فيه الرؤساء إلى الأسواق والشوارع ويتلون هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. ولما قرئت هذه الآية عند بعضهم قال: ذهبت الأماني هاهنا، يعني: الآمال العظيمة التي يأملها الإنسان في الدنيا انقطعت الآن، عند هذه الآية يعرف الإنسان أنه ليس بحاجة إلى علو ولا إلى استكبار على خلق الله. وجاء عن عمر بن عبد العزيز أنه في لحظة وفاته رضي الله عنه كان يرددها حتى قبض رحمه الله. وقال أبو معاية: الذي لا يريد علواً هو من لم يجزع من ظلمها، ولم ينافس في عزها، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعاً. ومر علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كسراً لهم من الخبز فسلم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فتلا هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني كما أجبت دعوتكم، فحملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وصرفهم. هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم.

معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات [1]

معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات [1] لقد فرق الله عز وجل بين علم الدنيا وعلم الآخرة، وفضل علم الإيمان والدين على سائر العلوم، وأعظم شيء في علم الإيمان والدين هو علم التوحيد والعقيدة الذي منه باب الأسماء والصفات؛ لأن له تعلقاً بمعرفة ذات الله. وقد ضل في باب الأسماء والصفات كثير من أهل الأهواء والبدع، فنسبوا إلى الله عز وجل ما لا يليق بجلاله من النقص والعيب، وسموه بما لا يرضى من الأسماء، ووصفوه بصفات خلقه، فألحدوا في أسماء الله سبحانه وتعالى.

شرف العلم وأهله

شرف العلم وأهله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: إن الله جل ذكره شرف أهل العلم الشرعي على غيرهم، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال سبحانه وتعالى مبيناً أنه يرفعهم درجات: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، ولم يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله الزيادة في شيء إلا في العلم؛ لأن العلم فيه زيادة درجاته صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. وبين الله عز وجل أن أشد الناس له خشية هم العلماء، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى لا يعني في أمثال هذه الآيات علماء الدنيا، كعلماء الحساب، أو الهندسة، أو الطب، أو الصناعة، أو الزراعة، أو غير ذلك؛ لأن أكثر هؤلاء لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يخافه أو يتقيه. وهؤلاء الذين فرحوا بما عندهم من العلم بظاهر الحياة الدنيا جعل الله علمهم كالجهل في قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:6 - 7]، فأبدل من قوله: (لا يعلمون) قوله: (يعلمون)، فدل على أن هذا العلم ما دام متوقفاً على ظاهر الحياة الدنيا دون أن ينفذ إلى باطن ذلك مما في هذا العلم من آيات ودلائل توحيد الله عز وجل فهو جهل. والله تبارك وتعالى وصف أهل الكفر والشرك بالضلال والجهل، حتى ولو كانوا على علم بعلوم الدنيا، فقال تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة:118]، وقال أيضاً: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113] بذلك إلى المشركين، وقال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، فوصف أكثر أهل الأرض بالجهل على ما كانوا عليه من العلم، وعمارة الدنيا، ومهارة في الصناعة والزراعة، ونحو ذلك.

من أشراط الساعة تناقص العلم الشرعي

من أشراط الساعة تناقص العلم الشرعي بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العلم يكون في تناقص، فبين في بعض الأحاديث أن من أشراط الساعة أن يظهر الجهل، ويرفع العلم، فإذا تأملنا واقع الناس اليوم وجدنا ظهور العلم الدنيوي، وانتشار الجهل بأمور الدين، حتى إنك تفاجأ أن من الناس من لا يعرف أصلاً أن الصلاة واجبة، يحكي لي قصة بدايته أن المواظبة على الصلاة كانت في سن الأربعين؛ لأنه وجد كتاباً عند أحد باعة الجرائد عنوانه: حكم تارك الصلاة، وكان وقتها لا يعلم حكم الصلاة، ففوجئ بأن الصلاة واجبة وفريضة، ولا ندري كيف نصدق أو نتخيل أن إنساناً يعيش في وسط المسلمين ثم يجهل أن الصلاة فريضة؟! بل هي عمود الدين الأعظم بعد التوحيد، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذه فنانة تائبة تقول: إنها لم تكن تعرف أصلاً أن الحجاب واجب، وإنما كانت تعرف أن الحجاب شيء اختياري. ومظاهر الغربة في الدين في هذا الزمان كلها ناشئة عن أن الجهل بالعلم الديني هو الذي يشيع، ومع اجتهاد الناس في تحصيل علوم الدنيا، ولو على حساب الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة)، فهو في غاية الاجتهاد في تعلم أمور الدنيا، فإن كان نجاراً فهو يعرف أنواع الخشب وكذا وكذا، وإن كان مهندساً في السيارات فهو يعرف جميع ماركات السيارات وخصائصها وكذا وكذا، بل من الناس من يحفظ أسماء لاعبي الفرق في كرة القدم، وتفاصيل حياتهم الشخصية في كل أقطار الأرض، وغير ذلك من هذه التفاهات، مع أن ذلك لا يغني عنه عند الله سبحانه وتعالى شيئاً.

العلم بالله وبشرعه أشرف العلوم

العلم بالله وبشرعه أشرف العلوم إن العلم الذي ينبغي أن ينصرف إليه الفهم -عندما تطلق كلمة العلم أو العلماء في القرآن أو السنة- هو العلم الذي هو أشرف علم في الوجود، وهو: العلم بالله، وبدين الله تبارك وتعالى، وبأحكام هذا الدين. فهذا العلم هو الذي جاءت به الرسل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو الذي حواه كتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم. فعلم الدين هو أشرف العلوم على الإطلاق، فشرف العلم يكون بشرف المعلوم يعني: أن العلم يأخذ مرتبته في الشرف بحسب المعلوم الذي يتعلم عن طريق هذا العلم، ولا شك أن علم الطب مثلاً أشرف من علم الحشرات، مع أن هذا علم وهذا علم، لكن حتى علوم الدنيا تتفاضل؛ لأن هذا موضوع الحشرات، أما ذاك فموضوعه رأس مال الإنسان في هذه الحياة، وهو الصحة، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب شرف موضوعها. فعلوم الدين بلا شك هي أشرف من علوم الدنيا، ثم إن علوم الدين نفسها تتفاوت في الشرف: فمنها علوم خادمة، ومنها علوم مخدومة، فالعلوم الخادمة التي هي علوم الوسائل: كعلم النحو، والصرف، واللغة، ونحو ذلك من العلوم التي هي آلات في فهم الكتاب والسنة، أما العلوم المخدومة فهي الأشرف: كعلم الفقه، وعلم الحديث، وعلم التفسير، ونحو ذلك من علوم الشرع الكريم، لكن أعظم علم فيه على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه إذا كان شرف العلم بشرف المعلوم فإن علم التوحيد موضوعه هو معرفة الله سبحانه وتعالى؛ فبه نعرف الله عز وجل؛ ولأجل ذلك فإن العلم بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله عز وجل وبتوحيده هو أشرف العلوم على الإطلاق في هذا الوجود، فأشرف العلوم الشرعية هو العلم بأسماء الله الحسنى، وصفاته العلى؛ لتعلقها بأشرف معلوم وهو الله سبحانه وتعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة. يعني: أن الآيات التي فيها صفات الله عز وجل، وأسماؤه الحسنى أكثر بكثير جداً من الآيات التي فيها نعيم الجنة من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، إلى آخر آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر!)، وهذا الحديث رواه مسلم، وهو دليل على أن أشرف آية في القرآن الكريم كله هي آية الكرسي، وإذا تأملنا آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن الكريم نجد أنه ليس فيها أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، وليس فيها إلا الإخبار عن صفة الله، وما الذي يليق به فنثبته له، وما الذي لا يليق فننفيه عنه عز وجل، فقوله: (الله لا إله إلا هو) (لا إله) هذا هو الكفر بالطاغوت، (إلا هو) إثبات التوحيد لله عز وجل، وهكذا بقيتها في صفة الله عز وجل، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]. وكذلك أفضل سورة في القرآن الكريم هي سورة الفاتحة، كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح حين قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها -أي: مثل سورة الفاتحة-، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد، كما هو معلوم. وقد ثبت في الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن، وليس في: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) التي لها هذه المنزلة العظيمة أو العظمى سوى الإخبار عن صفة الله سبحانه وتعالى، وكيف نعرف الله. وكما نلاحظ أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى منصبة على أسلوب التلقين؛ لأن الله لا نعرفه بالعقل، كما يشيع على ألسنة بعض عوام الناس؛ حيث تسمع منهم من يقول: ربنا عرفناه بالعقل، فنتدبر بالعقل في آيات الله وفي صفات الله، وصفات الله سبحانه وتعالى قد تعرف عن طريق التأمل في آياته التي تدل على توحيده، لكن معرفة الله أساساً إنما تكون عن طريق الوحي الذي أوحاه إلى أنبيائه، فبه يتعرف العباد على ربهم، فيتعرفون أن له تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى، وأنه على العرش استوى، وأن له كذا، وأنه يحب كذا، وأنه يبغض كذا، وهكذا، فهذا يأتي عن طريق التلقين، وليس عن طريق الاجتهاد العقلي؛ لأن العقل لا يمكن أبداً أن يدرك صفات الله سبحانه وتعالى، ولا ما هي أسماء الله، ولا غير ذلك، بدليل أن أسماء الله عز وجل كثيرة لا تسعة وتسعين، لكن الذي أخبرنا به هو التسعة والتسعون، قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة)، وقال عليه الصلاة السلام في الدعاء: (أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فهذا يدل على أن لله أسماء لم نطلع عليها، ولا سبيل إلى الاطلاع عليها؛ لأن السبيل الوحيد هو الوحي، وقد انقطع الوحي، وهي غير موجودة فيما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر الصحابي الذي كان يختم القراءة في الصلاة في كل ركعة بـ (قل هو الله أحد)، فسأله عن سبب ذلك؟ فقال: إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن، فأخبره عليه الصلاة والسلام: بأن الله سبحانه وتعالى يحبه) والحديث متفق عليه، فبين أن الله يحب من يحب الثناء عليه بذكر صفاته وأسمائه عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يذكر بهذه الصفات العظمى والأسماء الحسنى.

فائدة العلم بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته

فائدة العلم بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته العلم بأسماء الله جل ثناؤه وصفاته ومعرفة معانيها يحدث خشية ورهبة في قلب العبد، فمن عرف أن الله بكل شيء عليم، وأنه لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد، ويؤمن بذلك فإنه يكون أشد خوفاً ممن لا يعلم ذلك، سبق أن تكلمنا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل:105] وقلنا: إن (إنما) تفيد الحصر، فكأن صفة الكذب لا توجد إلا فيمن لا يؤمن بآيات الله، ولذلك المؤمن لا يكون كذاباً، كما جاء في الحديث؛ لذلك فإن من أخلاق من يؤمن بآيات الله أنه يتنزه عن الكذب، فهذه لفتة إلى أثر الإيمان بصفات الله سبحانه تعالى، وبآيات الله في سلوك الإنسان. ومن يعلم أن الله لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير أتقى ممن لا يعلم، وهكذا في سائر الأسماء والصفات، ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في الآية: إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد؛ لأن من علم ذلك وأيقن بعقابه على معصيته خافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه. إذاً: العلم بالله سبحانه وتعالى يدعو إلى محبته وخشيته ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وفي هذا فوز العبد وسعادته في الدارين، ولا يمكن معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وفهم معانيها، والعلم بالله عز وجل هو أحد أركان الإيمان، بل هو أصل الإيمان كله، وما بعده تبع له، وليس الإيمان مجرد أن تقول: آمنت بالله من غير علم ومعرفة بالله، بل إن حقيقة الإيمان أن يعرف العبد الرب الذي يؤمن به، ولذلك جاء في الحديث أنه لما أرسل عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا لقيتهم فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله، ثم قال: فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم: أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات)، فجعل أول واجب هو معرفة الله سبحانه وتعالى، وفي بعض الروايات: (فإذا هم وحدوا الله).

أهمية معرفة أسماء الله عز وجل وصفاته

أهمية معرفة أسماء الله عز وجل وصفاته يجب على الإنسان أن يبذل جهده في معرفة أسماء الله وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب علم العبد بربه تكون درجة إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، والطريق الشرعي للعلم بالله وبأسمائه وصفاته هو تدبر القرآن والسنة وما جاء فيهما. ثم إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليعبدوني وحدي، ولا يمكن أن يعبدوه دون أن يعرفوه، فلابد من معرفتهم له سبحانه ليحققوا الغاية المطلوبة منهم، والحكمة من خلقهم، والعبادة لا تصح من الكافر؛ لأن الكافر لا تصح نيته، والمؤمن تصح منه العبادة؛ لأنه ينوي التقرب بها إلى الله، والكافر لا يعرف الله، فكيف تصح منه العبادة لو أتاها دون أن يدخل في الإسلام؟! فالنصراني -مثلاً- إذا صلى أو حج أو فعل أي شيء من أفعال القرب يتقرب به إلى المسيح فقد أخطأ وضل الطريق، كما وصفهم الله بالضالين، فلا يمكن أن تصح عبادته وهو لا يعرف الله، ولا يعرف ما الذي يليق به، وما الذي ينبغي أن ينزه الله سبحانه وتعالى عنه، فالاشتغال بمعرفة الله عز وجل هو اشتغال بما خلق العبد من أجله، فالوظيفة التي خلقت من أجلها أيها الإنسان! أن تعرف الله؛ لأنه لا يمكن أن تعبده وأنت لا تعرفه، وترك هذا العلم وتضييعه إهمال لما خلقت له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيماً متوالياً من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته. والعالم بالله تعالى حقيقة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأن الله لا يفعل إلا ما هو من مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل، وكذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة، وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه عليه، كما قال الشاعر: وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل قال أبو القاسم التيمي الأصبهاني في بيان أهمية معرفة الأسماء الحسنى: قال بعض العلماء: أول فرض فرض الله على خلقه معرفته؛ فإذا عرفه الناس عبدوه. يعني: أن معرفة الله هي أول فرض أوجبه الله على عباده، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، وبدأ القرآن بالبسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، يعني: أن أول شيء في القرآن هو البسملة، وفيها البداءة بأسماء الله: الله، الرحمن، الرحيم، ونزل الوحي أول ما نزل آمراً النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتدبر آيات الله كلها من خلال النظر في أسمائه الحسنى، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فليس من علم ولا فهم إلا ويوصل إليه من خلال أسماء الله عز وجل الحسنى، والعلم بالأسماء الحسنى هو أساس قبول الدعاء؛ فإنك إذا لم تعرف من تدعوه فكيف تتوجه إليه؟! وإذا لم تعرف صفاته فكيف تتوجه إليه بالدعاء؟! ولذلك مما يدل على توجه العبد بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى معرفته بأسماء الله وصفاته. والدعاء يرادف في القرآن العبادة ويعتوران، يعني: يتبادلان المواقع، فأحياناً تعبر العبادة عن الدعاء والعكس؛ لأن الدعاء من أظهر أنواع العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة، وقرأ قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]) فمجرد توجهك في الدعاء إلى الله له معانٍ كثيرة جداً منها: إثبات وجود الله؛ لأن العدم لا يدعى، ومنها: إثبات رحمة الله؛ لأن القاسي لا يدعى، ومنها: إثبات كرم الله وجوده؛ لأن البخيل لا يدعى، وإثبات كذا وكذا وكذا من الصفات التي بها يدلل على إيمانك بها. كذلك العلم بأسماء الله الحسنى ينشئ حب الله تبارك وتعالى، ويقويه في قلب المؤمن؛ لما فيها من كمال وجلال وجمال. قال بعض أهل العلم: لو أراد رجل أن يتزوج من رجل أو يزوجه أو يعامله طلب أن يعرف اسمه وكنيته واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطته أولى أن نعرف أسماءه وتفسيرها. والله تعالى أعلم.

أهمية العلم بأسماء الله عز وجل الحسنى

أهمية العلم بأسماء الله عز وجل الحسنى إن العلم بأسماء الله عز وجل ومعرفة معانيها ودلالتها، وآثار الإيمان بها من أعظم المقاصد، بل هو أصل للعلم بكل المعلومات. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سوى الله سبحانه وتعالى إما أن تكون خلقاً له تعالى، أو أمراً. إما خلق وإما أمر، إما علم بما كونه -يعني: بما خلقه- أو علم بما شرعه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، ومصدر الخلق والأمر أسماؤه الحسنى، فالأمور التكوينية والشرعية تصدر عن أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره الأسماء الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد، والرأفة والرحمة بهم، والإحسان إليهم بتكليفهم بما أمرهم به، ونهاهم عنه. فأمره سبحانه وتعالى كله مصلحة وحكمة ورحمة، ولطف وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه، ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلاً، ولا سدى، ولا عبثاً، وكما أن كل موجود سواه -يعني: لا يمكن أنه يكون موجوداً إلا أن يوجده الله سبحانه وتعالى- فوجود من سواه تابع لوجوده عز وجل، تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي أحصى جميع العلوم؛ إذ إن إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها، ومرتبطة بها.

مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات

مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات ذكر الشيخ محمد بن حمد الحمود حفظه الله في كتابه: (النهج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) مقدمة يسيرة حول مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى فقال: مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى هو مذهبهم في الصفات عموماً، وذلك أن أسماء الله سبحانه وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء، وهي أوصاف، ولذلك كانت حسنى. والذي درج عليه سلف الأمة ومن تابعهم بإحسان، واتفقوا عليه: هو الإقرار والتصديق بآيات الأسماء والصفات وأحاديثها، وإمرارها كما جاءت، وإثباتها دون تشبيه أو تعطيل أو تحريف أو تأويل. عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى -وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به- يقول: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فمن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالروية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. انتهى كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وإسناده إليه صحيح. وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أيضاً في الرسالة: ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه سبحانه وتعالى. وعن محمد بن إسماعيل الترمذي قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً. وقال الترمذي بعدما روى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره) إلى آخر الحديث: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات في الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكروا هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه: اليد والسمع والبصر، فتأولوا هذه الآيات، وفسروها على غير ما فسرها أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق بيده، وقالوا: إنما معنى اليد القوة. وقال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا تشبيه، أما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف؟ ولا يقول: مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً، فهو كما قال تبارك في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. انتهى من سنن الترمذي رحمه الله تعالى. إذاً: إثبات الأسماء والصفات كلها تنحصر فيما هو ظاهر هذه الأسماء والصفات إذا أطلقت في حق الله تبارك وتعالى. والصحيح أن يقال: ظاهرها هو ما يليق بالله، فلا ينبغي أن تصرف النصوص عن ظاهرها، أما من قال: إن ظاهرها هو التشبيه فهذا فر من ذلك إلى التعطيل؛ لأنه فهم منها التشبيه، فوقع في التشبيه أولاً، فنفر من التشبيه إلى التعطيل، تعالى الله عن ذلك. فهو فر من فساد إلى فساد، لكن أهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات والأسماء بلا كيف، وهذا هو مذهب الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله تعالى، الذي رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وترك ما كان عليه من علم الكلام المبتدع المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر نصوصاً في ذلك في (مقالات الإسلاميين) وهو كتاب للإمام الأشعري رجع فيه إلى مذهب أهل السنة والجماعة. قال رحمه الله في كتابه (اختلاف المصلين ومقالات المسلمين) بعد أن ذكر فرق الخوارج، والروافض، والجهمية وغيرهم: ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: جملة قولهم: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئاً، وأن الله على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً، كما قال تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]. وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة إلى آخر كلام الأشعري في إثبات الصفات. وهذه العقيدة هي التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهي التي تلقاها التابعون منهم، وتواصوا بها جيلاً بعد جيل، محذرين بعضهم البعض من مخالفتها، والميل عنها، ودان بهذه العقيدة أئمة السلف الماضين من المحدثين والفقهاء، والمفسرين، واللغويين، والمصنفين، وكيف لا تكون هذه هي العقيدة صحيحة والله قد زكى اعتقاد نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين بقوله جل ثناؤه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]؟ فتأمل قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137] ففيه إشارة إلى أن الإنسان لا يهتدي إلا بهذه المثلية، وذلك بأن تكون عقيدتهم مثل عقيدة الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان، قال عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:137 - 138]. فمذهب أهل الحق إثبات الأسماء الحسنى الواردة في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة، والإيمان بها، وبما دلت عليه من المعاني، والإيمان بما تعلق بها من آثار، فمثلاً: نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى رحيم، ومعناه: أنه ذو رحمة، ومن آثار هذا الاسم: أنه يرحم من يشاء. ومثال ثانٍ: نؤمن بأن الله قدير، ومعناه: أنه ذو قدره، ومن آثار هذا الاسم: أنه على كل شيء قدير، وهكذا القول في جميع الأسماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: ولو ذكرنا قول كل من له كلام في إثبات الصفات من الأئمة لاتسع الخرق، وإذا كان المخالف لا يهتدي بمن ذكرنا أنه يقول: الإجماع على إثباتها من غير تأويلها، أو لا يصدقه في نقله فلا هداه الله. يعني: إن كان لا يملأ عينيه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين والأئمة العظام الأجلة، كالإمام الشافعي والإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك وسفيان الثوري، وكل هؤلاء الأئمة من أئمة أهل السنة وأهل الحديث، إذا كان يخالفهم ويشذ عنهم فيما نقلوه من الإجماع على إثبات الصفات كما يليق بالله سبحانه وتعالى، أو لا يصدقهم فيما نقوله من أن هذه عقيدة السلف. يقول: أي: أنه يدعو على من لم يهتد بمثل ما آمنوا به بألا يهديه الله، فلا هداه الله، ولا خير والله فيمن رد على مثل الزهري ومكحول والأوزاعي والثوري والليث بن سعد ومالك وابن عيينة وابن المبارك ومحمد بن الحسن والشافعي والحميدي وأبي عبيد وأحمد بن حنبل وأبي عيسى الترمذي وابن سريج، وابن جرير الطبري وابن خزيمة وزكريا الساجي وأبي الحسن الأشعري، أو لا يقول مثل قولهم من الإجماع. وممن حكى إجماعهم من الخلف الخطابي وأبو بكر الإسماعيلي وأبو القاسم الطبراني وأبو أحمد العسال إلى آخر هذه القائمة. إذاً: هذه مقدمة تتعلق بمنهج السلف في إثبات أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، فإنهم قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى فيما بعد لهذه القواعد.

وصف أسماء الله تعالى في القرآن بأنها حسنى

وصف أسماء الله تعالى في القرآن بأنها حسنى وصف الله سبحانه وتعالى أسماءه بالحسنى في أربع آيات من القرآن العظيم، وهي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8]، وقال أيضاً: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر:24]، قوله: (الحسنى)، هي تأنيث الأحسن، كالكبرى والصغرى تأنيث الأكبر والأصغر، وفي وصف الأسماء بكونها حسنى وجوه: الأول: أن أسماءه سبحانه وتعالى دالة على صفات كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى. ثانياً: أنها حسنى لما وعد الله عليها من الثواب بدخول الجنة لمن أحصاها، فإن من أحصاها دخل الجنة. ثالثاً: أن حسنها شرف العلم بها، فإن شرف العلم بشرف المعلوم، والبارئ عز وجل أشرف المعلومات، فالعلم بأسمائه أشرف العلوم؛ فلذلك كانت حسنى. رابعاً: أن من تمام كونها حسنى: أنه لا يدعى إلا بها، لا يسأل الله سبحانه وتعالى ولا يدعى إلا بهذه الأسماء الحسنى، سواء كان دعاء الثناء والتحميد والتمجيد أو دعاء المسألة والطلب، فلا يسأل الله سبحانه وتعالى إلا بأسمائه الحسنى ولا يثنى عليه إلا بها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، قوله: (وذروا الذين يلحدون) الإلحاد في اللغة: هو الزيغ والميل والذهاب عن سنن الصواب، ومنه يسمى الملحد ملحداً؛ لأنه مال عن طريق الحق، ومنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه: الملتحد على وزن مفتعل، قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]، أي: لن تجد من تعدل إليه أو تهرب وتميل إليه.

صور الإلحاد في أسماء الله تعالى

صور الإلحاد في أسماء الله تعالى أما التفصيل في صور الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى، فإن الإلحاد في أسماء الله عز وجل على أنواع:

تسمية الله تعالى بما لا يليق بجلاله

تسمية الله تعالى بما لا يليق بجلاله النوع الخامس من صور الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى: تسمية الله بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أباً، يسمون الله أباهم، يقولون: أبانا الذي في السماء، فهذا من الإلحاد أن يسموا الله أباً لهم، وتسمية الفلاسفة لله سبحانه وتعالى بأنه الموجد بذاته، أو تسميته بأنه علة فاعلة بالطبع، ومن هذا قول الكرامية: إنه -تعالى الله عما يقولون- جسم أستغفر الله! وقول بعضهم: إنه جوهر ونحو ذلك، وكما يقول الماسوني في هذا العصر حينما يصفون الله سبحانه بأنه مهندس الكون الأعظم!! كل هذا من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى، لكن برأ الله أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت إليه لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباته بريئاً من التشبيه، وتنزيههم خالياً من التعطيل. قال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: إن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فالرحيم اسم، لكن في نفس الوقت يتضمن إثبات صفة الرحمة لله عز وجل، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء وهي أوصاف، وبذلك كانت حسنى، هذا هو السبب في كونها حسنى، إذ لو كانت ألفاظاً لا معاني لها لم تكن حسنى، ولم تكن دالة على حسن ولا على كمال، ولساغ وجود الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس، فيقال: لو أن الرحيم أو الغفور مثل المنتقم الجبار لكان للعبد أن يقول مثلاً: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم الجبار؛ لأن الرحيم نفس المنتقم تماماً!! أو مثلاً يقول واحد: اللهم أعطني فإنك أنت الضار المانع!! فهذه الأسماء عبارة عن حروف لا معاني من ورائها! مجرد أعلام بدون أن تكون متضمنةً لمعانيها التي تثبتها؛ ولذلك قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: حقيقة الاسم: كل لفظ جعل للدلالة على المعنى، إن لم يكن مشتقاً، فإن كان مشتقاً فليس باسم إنما هو صفة، يقول: هذا قول النحاة، يعني: أهل اللغة والنحو يجعلون حقيقة الاسم: اللفظ الذي جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقاً، لكن إن كان مشتقاً فهو في هذه الحالة يكون صفة؛ ولذلك حكى عن أبي الحسن بن أخت أبي علي قال: سمعت خالي أبا علي يقول: كنا بمجلس سيف الدولة بحلب وبالحضرة جماعة من أهل المعرفة، فيهم ابن خالويه إلى أن قال ابن خالويه في المجلس: أحفظ للسيف خمسين اسماً، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ إلا اسماً واحداً وهو السيف، فقال ابن خالويه -وهو يحسب أنه لا يعرف فعلاً الأسماء التي تطلق على السيف: فأين المهند؟ وأين الصارم؟ وأين الرسوب؟ وأين المخذم؟ وظل يعدد أسماء السيف، فقال أبو علي بعدما وجده سرد كل هذه الأسماء وهو يعرفها والآخر لا يعرفها، قال له أبو علي: هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرق فيه بين الاسم والصفة، فإذاً: أسماء الله مشتقة من الصفات، فهي أسماء وهي في نفس الوقت أوصاف لله سبحانه وتعالى، يقول ابن القيم: ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها، قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، يلحدون في أسمائه كالصور التي ذكرناها، ومنها صور أخرى يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى فيما بعد، كما يفعل الصوفية حين يلحدون في أسماء الله عز وجل بأن يطلقوا على الله أسماء بلغات غير مفهومة ولا واضحة، أو كما يسمون الله بأنه: آه، لما يذكرون الله، فبدل أن يقولوا: الله، يقولون: آه آه، أو: هو هو هو إلى آخره!! فهذا كله من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى، كما سنبين ذلك بالتفصيل فيما بعد إن شاء الله تعالى، يقول: ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها، قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، ولأنها لو لم تدل على معانٍ وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: اسم القوي، ليس مجرد علم، لكنه يتضمن إثبات صفة القوة، والدليل: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، (ذو القوة) فهذا إثبات لصفة القوة، خلافاً لما يصنعه الملاحدة من الجهمية، فعلم أن القوي من أسمائه ومعناه: الموصوف بالقوة، ذو القوة، كذلك قوله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، (لله العزة) والعزيز اسم من أسماء الله، فالعزيز هو من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قوياً وعزيزاً سبحانه وتعالى، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية: أسماؤه أوصاف مدح كلها مشتقة قد حملت لمعاني إياك والإلحاد فيها إنه كفر معاذ الله من كفران وحقيقة الإلحاد فيها الميل للـ ـإشراك والتعطيل والكفران

تشبيه صفات الله بصفات خلقه

تشبيه صفات الله بصفات خلقه النوع الرابع من صور الإلحاد في أسماء الله الحسنى: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علواً كبيراً، فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، يعني: كما أن المعطلة الجهمية وغيرهم عطلوا أسماء الله وصفاته الكاملة وجحدوا معانيها، فهؤلاء في الجهة الأخرى شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرق هذا الإلحاد، فهؤلاء ألحدوا بأن شبهوا الله بخلقه، وأولئك ألحدوا بأن عطلوا أسماء الله وصفاته، فهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق حتى كأنهم عبدوا صنماً، والجهمية نفوا صفات الخالق وعطلوها حتى كأنهم عبدوا عدماً، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الجهمية تطاول وغلا ورمى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه بالتجسيم، حتى قال ثمامة بن الأشرس -وهو من رؤساء الجهمية- عليه من الله ما يستحق: ثلاثة من الأنبياء مشبهة! موسى حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، وعيسى حيث قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا)، إلى آخر الحديث. وجُلُّ المعتزلة تُدخِل عامة الأئمة، فأغلب المعتزلة ينظرون إلى هؤلاء الأئمة بأنهم مشبهون، وهؤلاء الأئمة مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة، فهم يزعمون أن من قال إن الله فوق العرش فقد اعتقد أنه محدود ومحصور، والحدود لا تكون إلا لمخلوق فهذا القول تشبيه!! والسبب أنهم هم الذين شبهوا؛ فلذلك استفظعوا، أما لو لم يشبهوا لأثبتوا الصفة كما تليق بالله، ولما حصل هذا الإلحاد، يقولون أيضاً: إن من قال: إن لله علماً وقدرة وكلاماً فقد جعل الله محلاً للأعراض، وهي لا تقوم إلا بالجواهر فهو مشبه، إلى آخر ما يرمون به الرسل وأتباع الرسل من الألقاب التي يفترونها، تماماً كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم، تارة مجنوناً وتارة شاعراً وتارة كاهناً وتارة مفترياً.

تسمية الأصنام بأسماء الله الحسنى

تسمية الأصنام بأسماء الله الحسنى النوع الأول: أن بعض الكفار سموا الأصنام بالأسماء الحسنى، فسموا الأحجار والأشجار والأوثان التي كانوا يعبدونها: آلهة، قال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، وسموا اللات من الإلهية، يعني: على أنه مؤنث رب الجلالة والعياذ بالله، وسموا العزى من العزيز، ومناة من المنان، فهذا إلحاد؛ لأنهم عدلوا ومالوا بأسمائه الحسنى إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.

وصف الله تعالى وتسميته بالنقائص

وصف الله تعالى وتسميته بالنقائص النوع الثاني من صور الإلحاد في الأسماء الحسنى: وصف الله تبارك وتعالى وتسميته بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، والعياذ بالله! فهذا إلحاد في أسماء الله أن يوصف الله بما يتضمن النقص، وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق الخلق!! وقولهم لعنهم الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، وأمثال ذلك من الإلحاد في أسمائه وصفاته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد نزه الله نفسه عما وصفوه به من الفقر والبخل والإعياء، فالإعياء من جنس العجز المنافي لتمام القدرة، صحيح أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض، وخلق المخلوقات كلها، لكن لم يمسه أدنى تعب أو إعياء معاذ الله، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، لم يمسه نصب أو إعياء؛ لأن الإعياء هذا من جنس العجز الذي ينافي كمال القدرة، والفقر من جنس الحاجة من الغير الذي يتنافى مع كمال الغنى، والبخل من جنس منع الخير وكراهة الإعطاء المنافي لكمال الرحمة والإحسان والقدرة والرحمة.

تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها

تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها النوع الثالث من صور الإلحاد في أسماء الله الحسنى: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها، وأنها مجرد أعلام فقط، يعني: أسماء لا معنى وراءها، لا تتضمن المعاني التي اشتقت منها، فهي مجرد أعلام، وعليه يكون الجبار مثل الرحيم مثل العزيز، كلها مجرد أعلام مع جحد معانيها وحقائقها، وهذا مذهب الجهمية وأتباعهم، فيطلقون على الله سبحانه وتعالى اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، لكن يقولون: هذه أعلام مجردة لا معنى وراءها، فهم يقولون: سميع بلا سمع! عليم بلا علم! مع أن الله تعالى يقول: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، فهم يفصلون الأسماء عن المعاني، فالله اسمه السميع بلا سمع، البصير بلا بصر، الحي بلا حياة، الرحيم بلا رحمة، المتكلم أو المريد بلا إرادة ولا كلام، لا تقوم به هذا الصفات، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإلحاد المشركين وقع بأنهم خلعوا أسماء الله وصفاته وجعلوها لآلهتهم، أما هؤلاء فقد سلبوه صفات كماله وجحدوها وأبطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه. ثم الجهمية وطوائفها متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب، وكل من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر، وإذا كان الله سبحانه وتعالى أنكر على المشركين حينما جحدوا اسماً واحداً فقط من أسماء الله، وهو الرحمن، كما قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60]، مع أنهم كانوا يعرفون الله باسمه الرحمن، لكنه الجحود والنكران، وقال أيضاً: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، فإذا كان هذا الإنكار في جحد اسم واحد فقط فكيف بحال الجهمية الذين جحدوا جميع صفات الله وأسمائه؟! نعوذ بالله من الخذلان؛ لذلك فإن العلماء يعتبرون الجهمية النفاة المحضة الذين ينفون كل أسماء الله وصفاته كفاراً أكثر من المشركين في شركهم وفي كفرهم، كما سبق أن تكلمنا في ذلك، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى سبب ضلال الجهمية وأتباعهم فقال: سبب هذا الضلال أن لفظ التمثيل والتشبيه لفظ فيه إجمال، وهؤلاء أنفسهم وجماهير العقلاء يعلمون أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك، ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفي التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، فالتشبيه الذي قام الدليل على نفيه: ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم في الرد على هؤلاء الملاحدة، وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلاً للآخر، يعني: حينما يوصف شخص بأنه عالم، وشخص آخر بأنه عالم، وثالث بأنه عالم، لا يقتضي ذلك تساويهم في درجة العلم، بل يتفاوتون؛ فما بالك إذا وصف المخلوق بالعالم ووصف الله سبحانه وتعالى بالعالم؟! لا شك أن علم الله يختلف تماماً عن علم المخلوقين، فالقاعدة: أن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسميات، فالعبد عالم والله عالم، لكن هناك فرق كبير هو تمام الفرق بين الخالق والمخلوق في هذه الصفات، كذلك يقال في: كريم حكيم عليم، وغير ذلك من هذه الأسماء. ولا يجوز أن ينفى عن الخالق سبحانه كل ما تكون فيه موافقة لغيره في معنىً ما، فإنه يلزم منه أن يكون عدماً بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة، بل يلزم من ذلك نفي وجوده ونفي عدمه، وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل، انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. فالجهمية هم نفاة الأسماء والصفات، ويقولون: إنما يسمى بها مجازاً! أو المقصود بها غيره! أو لا يعرف معناه! وأصل تلبيسهم هو: أن إطلاق هذه الأسماء على الله فيه تشبيه له بخلقه، ولذا فيجب نفي الأسماء عنه، هذا هو مبلغهم من العلم والعقل، أو بتعبير أدق من الجهل والغباوة! فإنهم قالوا: إننا لو أثبتنا هذه الأسماء لله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك أننا نشبه الله بخلقه، فإذا قلنا: إن الله هو العليم أو العالم، فمعنى ذلك أن فيها صفة لله، فإذاً: هذا معناه أن الله يشبه خلقه! فلا يتحقق التنزيه في زعمهم إلا بنفيه؛ وكل اسم من أسماء الله هو بلا معنى، فهو عليم بلا علم في زعمهم، وهكذا في باقي الصفات. وقال الجهم بن صفوان وهو إمام هؤلاء الجهمية الضلال: لا يجوز أن يوصف الباري سبحانه بصفة يوصف بها خلقه؛ لأن ذلك بزعمه يوجب تشبيهه، وهذا هو السبب في أنهم نفوا جميع أسماء الله وصفاته.

أنواع أوصاف الله عز وجل

أنواع أوصاف الله عز وجل نضيف بعض التنبيهات والفوائد المتعلقة بقواعد الاعتقاد في أسماء الله عز وجل الحسنى: أما التنبيه الأول فهو: أن ما يوصف به الرب سبحانه وتعالى أو يخبر عنه أقسام: أولاً: ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك: ذات، وموجود، وشيء. ثانياً: ما يرجع إلى صفات معنوية، كالعليم والقدير والسميع والبصير، وهذه تسمى صفات ذاتية. ثالثاً: ما يرجع إلى أفعال الله سبحانه وتعالى، كالخالق والرازق، وهذه تسمى صفات فعلية، ومنها ما يرجع إلى التنزيه المحض، فما يوصف به الله سبحانه وتعالى منه ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتاً؛ إذ لا كمال في العدم المحض. والتنزيه هو: نفي ما لا يليق بالله عز وجل من الصفات أو الأسماء، والنفي المحض لا يعتبر كمالاً إلا إذا تضمن ثبوتاً، فمثلاً: إذا أتيت إلى الملك وأردت أن تمدحه -ولله المثل الأعلى- فطفقت تقول له: أنت لست جاهلاً، ولست جباناً، ولست بخيلاً، ولست فاسقاً، ولست زبالاً، ولست خادماً، ولست إلى آخر هذه الصفات كلها، فهل هذا يتضمن مدحاً؟ A لا؛ لأن النفي المحض هو صفة العدم؛ فالعدم هو الذي يوصف بأنه لا كذا ولا كذا ولا كذا. أما النفي في صفات الله سبحانه وتعالى فإنه لا يحصل تنزيه الله عما لا يليق عن طريق هذه الصفات إلا إذا تضمنت إثبات الكمال، فلا كمال في العدم المحض. ومن أسماء الله سبحانه وتعالى التي تضمنت هذا التنزيه: القدوس والسلام، فهذه الأسماء من الأسماء التي تضمنت تنزيهاً يتضمن أمراً ثبوتياً، وليس نفياً محضاً. ومن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته ما يدل على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفات معينة، فالعزيز دل على معاني العزة، يعني: أن الاسم نفسه يدل على معانٍ كثيرة جداً، نحو: اسم المجيد، والعظيم، والصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا؛ لأن المجيد لغة هو: موضوع للسعة والكثرة والزيادة وتعدد الأوصاف وشمولها وكمالها، ولذلك قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، لسعة العرش وعظمته، والعظيم أيضاً من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال، وكذلك الصمد. أيضاً مما يوصف به الله سبحانه وتعالى: صفة تحصل من اقتران أحد الوصفين مع الآخر، هذه صفة تحصل من اقترانهما معاً؛ وذلك قدر زائد على مفرديهما، يعني: كل اسم على حدة له معنى، لكن إذا اجتمعا واقترنا فإنه يدل على صفة زائدة تحصل من اقترانهما معاً، كقولك: الغني الحميد، العفو القدير، الحميد المجيد ونحو ذلك، فإن الغنى من صفات الكمال والحمد كذلك، أما اجتماع الغنى مع الحمد فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك نظائرهما، فالغني وحده له معنى، والحميد وحده له معنى أيضاً، لكن اجتماع الغني والحميد يأتي بمعنى زائد على أحد الاثنين حينما يأتي منفرداً.

باب الإخبار عن الله سبحانه وتعالى

باب الإخبار عن الله سبحانه وتعالى باب الإخبار عن الله سبحانه وتعالى أوسع من باب أسمائه وصفاته، فهناك ألفاظ وعبارات يخبر بها عن الله هي أوسع من حدود الأسماء والصفات، كالموجود والقائم بنفسه والشارع، فهذا مما يخبر به عن الله عز وجل، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فيقال: الشارع الحكيم كذا وكذا. وهذا ليس من أسماء الله وصفاته، وإنما من باب الإخبار عن الله الذي هو أوسع من باب الأسماء والصفات، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في درء تعارض العقل والنقل: ثم أنت تسميه قديماً وواجب الوجود وذاتاً ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع، والشارع يفرق بين ما يدعى به من الأسماء، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وبين ما يخبر بمضمونه عنه، فالدعاء لا يكون ولا يحصل إلا بالأسماء الحسنى، كما أمر الله سبحانه وتعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]. فكل ما لا يليق أن يدعى الله به فهو قطعاً ليس من الأسماء الحسنى. هذا أمر. الأمر الثاني: ما يُخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاه عنه ناف. كما أنه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبراً عنه بما يستحقه: إنه قديم وواجب الوجود، وإن كانت هذه ألفاظ كلامية، والأولى استعمال الاسم الشرعي الذي هو الأول. وقال شيخ الإسلام: الفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت في الشرع والعقل، مقام المخاطبة هو دعاء الله سبحانه وتعالى، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، لكن مقام الإخبار عن الله عز وجل أوسع من مقام التقيد بالأسماء الحسنى، وبه يظهر الفرق بين ما يدعى الله به من الأسماء الحسنى، وبين ما يخبر به عنه عز وجل مما هو حق ثابت؛ لإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال، ونفي ما تنزه عنه عز وجل من العيوب والنقائص؛ فإنه الملك القدوس السلام سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، مع أنه قال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]، فأطلق عليه هنا وأخبر عنه بأنه شيء سبحانه وتعالى، لكن هل يقال في الدعاء: يا شيء؟ لا يقال في الدعاء: يا شيء؛ لأنه ليس من أسمائه الحسنى، لكن هذا من باب الإخبار عن الله عز وجل، أما باب مخاطبة الله ودعاء الله فلا يكون إلا بما هو ثابت من الأسماء الحسنى. وقد وضح هذه الجملة الدكتور عمر الأشقر حفظه الله تعالى في كتابه في الأسماء والصفات، حيث يقول: ليس كل ما أخبرت به النصوص فهو من أسمائه تبارك وتعالى. أي: أن النصوص حينما تخبر عن الله تخبر بعبارات أوسع من مجرد حدود الأسماء الحسنى. يقول: فليس كل ما تخبر به النصوص عن الله يعد من أسمائه الحسنى؛ والسر في ذلك: أن الأخبار يتوسع فيها ما لا يتوسع في الأسماء، خاصة إذا كانت الأسماء تستعمل للمخاطبة. أي: مخاطبة الله، ودعاء الله، وسؤال الله، فالقاعدة: أنه لا يسأل العبد ربه إلا بالأسماء الحسنى، لكن يخبر عنه بأشياء أوسع من الأسماء الحسنى. فالله أخبر عن نفسه تبارك وتعالى أنه كثير العفو قابل التوب فالق الإصباح فالق الحب والنوى محب المؤمنين مبغض الكافرين فعال لما يريد عدو الكافرين منعم متفضل مكرم مقلب القلوب ونحو ذلك، فجعلها بعض أهل العلم من أسمائه، والعلماء يتوسعون في الأخبار، فيجيزون إطلاق اسم: الموجود والشيء والثابت على الله من باب الأخبار، وإن لم ترد في الكتاب والسنة، كما يقول المفسرون -مثلاً- في تفسير لفظ اسم الحق سبحانه وتعالى: الثابت الدائم. يقول ابن القيم: ما يدخل في باب الإخبار عنه تبارك وتعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء والموجود والقائم بنفسه؛ فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكثير مما عده أهل العلم من أسمائه الحسنى مما ورد في الكتاب والسنة ومما لم يرد فيهما هو من باب الإخبار لا من باب الأسماء، وهذا أمر مهم نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد أفاد أنه لا يجوز الإخبار عن الله تعالى باسم سيء. يقول رحمه الله: يفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه فلا يكون باسم سيء، لكن قد يكون باسم حسن أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم في حسنه مثل: اسم شيء، وذات، وموجود.

أسماء الله عز وجل توقيفية

أسماء الله عز وجل توقيفية تنبيه آخر أيضاً يتعلق بقواعد فهم الأسماء الحسنى وهو: أن أسماء الله سبحانه وتعالى أسماء توقيفية، وهذا هو مذهب الجمهور من أهل السنة والجماعة، أن أسماء الله توقيفية لا يجوز تسميته بما لم يرد به سمع، يعني: أنه لابد أن نقتصر على ما ثبت في أسماء الله الحسنى في القرآن وفي السنة فقط؛ وذلك أن أسماء الله تعالى وصفاته من الأمور الغيبية التي لا يمكن لنا أن نعرفها إلا عن طريق الرسل الذين يطلعهم الله على ما شاء من الغيب، ثم هم يبلغونه للناس، ولا يجوز القياس فيها أو الاجتهاد؛ لأن هذا الباب ليس من أبواب الاجتهاد. فالمنهج الصحيح لمعرفة توحيد الله عز وجل وأسمائه وصفاته هو الاعتماد على الوحي الذي أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره باتباعه، فقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:106]. وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]. وقال أيضاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]. فالعقل ليس قادراً على معرفة أسماء الله وصفاته، وهذا الكلام رد على من يقول قولاً مطلقاً: إن الله سبحانه وتعالى يُعرف بالعقل، وهذا غير صحيح، فالعقل غير قادر على معرفة الله سبحانه وتعالى، العقل هو: آلة للتأمل في مخلوقات الله؛ للتوصل بها إلى عظم صفاته وتوحيده، لكن معرفة الأسماء الحسنى وما يليق بالله وما لا يليق لا يستقل العقل بمعرفته، وإنما يعرف الله عز وجل بالوحي وبالسمع، وبالإخبار وبالتلقي عن طريق الوحي، وليس بالعقل كما يزعم بعض الناس. فلو كان العقل قادراً على معرفة أسماء الله وصفاته وما يجوز أن يوصف به مما لا يجوز لما احتاج الناس إلى الوحي، ولأصبح إرسال الرسل إلى الناس من العبث، تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وتسمية الله سبحانه بما لم يرد به الدليل يدخل في الإلحاد في أسمائه الحسنى، وقد يقع صاحبه في التشبيه؛ لأن المشبهة وصفوا الله بما لم يأذن به. قال أبو إسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعو الله بما لم يصف به نفسه. وقال أبو سليمان الخطابي: ومن علم هذا الباب -أي: باب الأسماء والصفات- وما يدخل في أحكامه ويتعلق به من شرائط أنه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يستعمل فيها القياس، فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر وضع اللغة ومتعارف الكلام، كالجواد. يعني: أن الله سبحانه وتعالى جواد، فهل يجوز أن يقاس عليه السخي، فيوصف الله سبحانه وتعالى بأنه سخي؟ A لا؛ لأن هذا قياس، والقياس دليل عقلي، فالأسماء الحسنى لا يجوز فيها القياس، بل هي توقيفية، بمعنى: أنه لابد أن نقف حيث أوقفنا الشارع في إثبات الأسماء الحسنى، فالجواد لا يجوز أن يقاس عليه السخي وإن كانا متقاربين في ظاهر الكلام؛ وذلك أن السخي لم يرد به الشرع كما ورد بالجواد. والقوي لا يقاس عليه الجلد، كما تقول: رجل جلد، وتقول: رجل قوي، لكن لا يجوز أبداً في حق الله سبحانه وتعالى أن تقول: الجلد، وإن كان يتقارب الجلد والقوي في نعوت الآدميين؛ لأن باب التجلد يدخله التكلف والاجتهاد. ولا يقاس على القادر المطيق ولا المستطيع؛ فالذي ورد في النقل هو القادر أو القدير، لذلك فلا يجوز أن يقيس عليه شخص لفظ المستطيع، أو المطيق. وفي أسمائه تعالى العليم، وهو يدل على صفة العلم، لكن لا يجوز قياساً على العلم والعليم أن يسمى الله عز وجل عارفاً؛ لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء. وكذلك الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالعاقل، وهذا الباب يجب أن يراعى ولا يغفل، فإن فائدته عظيمة، والجهل به ضار، وبالله التوفيق. قال السفاريني رحمه الله تعالى في نظمه للعقيدة: لكنها في الحق توقيفية لنا بذا أدلة وفية أي: لكن الأسماء الحسنى في المذهب الحق توقيفية، وهذا هو مذهب الجمهور كما ذكرنا، ولا يجوز الزيادة فيها بالعقل ولا بالاجتهاد. قال في شرحها: لكنها: أي الأسماء الحسنى، في القول الحق المعتمد عند أهل الحق توقيفية بنص الشارع، وورود السمع بها، فمما يجب أن يعلم أن علماء السنة اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء الحسنى والصفات العلى على الباري جل وعلا إذا ورد بها الإذن من الشارع، وعلى امتناعه على ما ورد المنع عنه. وقال الغزالي: اتفق على أنه لا يجوز لنا أن نسمي الرسول باسم ما سماه الله به -أي: لا يجوز للواحد أن يسمي الرسول الله صلى الله عليه وسلم اسماً لم يسمه الله به، بل لابد أن يسمى الرسول بما سماه الله به- ولا باسم ما سمى هو نفسه به، فلا يجوز أن تسمي الرسول عليه الصلاة والسلام باسم لم يسمه الله إياه، ولا باسم هو نفسه عليه الصلاة والسلام لم يسم نفسه به، فإذا لم يجز ذلك في حق الرسول، بل في حق أحد من آحاد الناس فهو في حق الله تعالى أولى. وأما المعتزلة والكرامية فقالوا: إن اللفظ إذا دل العقل على أن معناه ثابت في حق الله سبحانه وتعالى جاز إطلاق ذلك اللفظ على الله تعالى، سواء ورد التوقيف به أو لم يرد. هذه بعض القواعد المتعلقة بالأسماء الحسنى. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات [2]

معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات [2] لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر سبحانه يحب الوتر، وقد اختلف العلماء في معنى الإحصاء الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بين هذه الأسماء الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله عز وجل به أجاب، وإذا سئل أعطى، وقد اختلف فيه أيضاً، فعلى العبد أن يدعو الله سبحانه وتعالى بما شاء من أسمائه وصفاته.

المسائل المتعلقة بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما)

المسائل المتعلقة بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لله تسعة وتسعون اسماً، مائة إلا واحداً، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر) وفي رواية: (من أحصاها دخل الجنة). هذا الحديث فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لله تسعة وتسعون اسماً، مائة إلا واحداً) هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد أم أنها أكثر من ذلك؟ لكنها اختصت بأن من حفظ هذه التسعة والتسعين دخل الجنة.

معنى الإحصاء لأسماء الله الحسنى

معنى الإحصاء لأسماء الله الحسنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحصاها) يحتمل وجوهاً: الأول: أن يعدها حتى يستوفيها حفظاً، ويذكر ربه بها، ويثني عليه بجميعها، كقوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28]. واستدل له الخطابي بقوله صلى الله عليه وسلم-كما في الرواية الأخرى-: (من حفظها دخل الجنة)، وقال البخاري وغيره من المحققين معناه: حفظها، وهذا هو الأظهر لثبوته نصاً في الخبر، فقوله: (من أحصاها) فسرها قوله في الروايات الأخرى: (من حفظها دخل الجنة)، ولذلك قال ابن الجوزي: إن المراد بالإحصاء العد. يعني: من عدها ليستوفيها حفظاً. وإن كان كلمة: (حفظها) لا يلزم منها تعيين السرد عن ظهر قلب، بل يحتمل أيضاً الحفظ المعنوي كقوله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك). وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط؛ لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العلم بها. القول الثاني: أن المراد بالإحصاء: الإطاقة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20]، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصو)، أي: لن تبلغوا كل الاستقامة، فيكون المعنى: (من أحصاها) من أطاق الأسماء الحسنى، وأحسن مراعاته لها، وأن يعمل بمقتضاها، وأن يعتبرها فيلزم نفسه بواجبها، فإذا قال مثلاً: يا رحمان! يا رحيم! تذكر صفة الرحمة، واعتقد أنها من صفات الله سبحانه، فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته، فإذا قال: السميع البصير، علم أنه يراه ويسمعه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فيخافه في سره وعلنه، وفي كافة أحواله. وإذا قال: الرزاق، اعتقد أنه المتكفل برزقه، يسوقه إليه في وقته؛ فيثق بوعده، ويعلم أنه لا رازق له سواه إلى آخره. وقال أبو عمر الطلمنكي: من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: المعرفة بالأسماء والصفات، وما تتضمن من الفوائد، وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماًَ بمعاني الأسماء، ولا مستفيداً بذكر ما تدل عليه من المعاني. القول الثالث: أن الإحصاء بمعنى: العقل والمعرفة، فيكون معناه: من عرفها وعقل معانيها، وآمن بها دخل الجنة، وهو مأخوذ من الحصاة، وهي العقلة، والعرب تقول: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل ومعرفة بالأمور. قال القرطبي: المرجو من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة، وهذه المراتب الثلاثة هي للسابقين والصديقين وأصحاب اليمين. القول الرابع: أن يكون معنى الحديث: أن يقرأ القرآن حتى يختمه فيستوفي في هذه الأسماء كلها في أثناء التلاوة، فكأنه قال: من حفظ القرآن وقرأه فقد استحق دخول الجنة. والمراد: أن بعض العلماء قالوا: (من أحصاها دخل الجنة) أي: من حفظ القرآن دخل الجنة؛ لأن إحصاء الأسماء الحسنى يكون عن طريق قراءة القرآن كله. والجواب على هذا: إن بعض الأسماء الواردة هي موجودة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أسماء زائدة عن القرآن.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو وتر يحب الوتر)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو وتر يحب الوتر) قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو وتر يحب الوتر)، الوتر: الفرد، ومعناه في صفة الله جل وعلا: الواحد الذي لا شريك له، ولا نظير له، المتفرد عن خلقه، البائن منهم بذاته وصفاته. فهو سبحانه وتر، وجميع خلقه شفع، يعني: خلقوا أزواجاً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49]، فظاهرة الزوجية لازمة للمخلوقات، ففي الإنسان والطيور والحيوانات الذكر والأنثى، وفي كل شيء، ففي الكهرباء يوجد فيها سالب وموجب، وظاهرة الزوجية موجودة في النباتات، والأنهار يوجد فيها الذرات السالبة والموجبة، فإذاً: ظاهرة الزوجية موجودة في كل شيء، فالله وتر لا ثاني له، أما خلقه فهم أزواج، وشفع، قال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3]. فالمراد: أن الله يحب الوتر من كل شيء، وإن تعدد انتفى منه الوتر؛ ولذلك أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات، فالصلوات عددها خمس، فهي وتر، وكذلك وتر الليل، وأعداد مرات الطهارة، وتكفين الميت وتراً، وفي كثير من المخلوقات كالسماوات والأرض، فهذا ما تيسر من الفوائد المتعلقة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)، وفي رواية: (من أحصاها دخل الجنة).

خلاف العلماء في المراد بقوله: (إن لله تسعة وتسعين اسما)

خلاف العلماء في المراد بقوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) اختلف العلماء في المراد بقوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً)، ومائة إلا واحداً تساوي تسعة وتسعين، فهذا التكرار ما هو إلا للتأكيد، كما في قول الله سبحانه وتعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]. وكما في قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51]. فقوله: (مائة إلا واحداً) تكرار بالتأكيد، بعض الناس ذهبوا إلى أن الأسماء الحسنى تنحصر في هذه التسعة والتسعين، والبعض قالوا: بل هي أكثر من ذلك، لكن فائدة اختصاص التسعة والتسعين بالذكر هو: أن في هذه التسعة والتسعين بالذات: من أحصاها دخل الجنة. وذهب جمهور العلماء إلى هذا المذهب الثاني، ونقل النووي اتفاق العلماء عليه، وقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه: أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود: أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة. فالمراد: الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء، إذاً: ليس مقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصيغة حصر أسماء الله الحسنى في التسعة والتسعين، وإنما مقصوده الإخبار عن هذا الثواب لمن أحصاها، وليس مقصوده صلى الله عليه وسلم أن يحصر الأسماء الحسنى في هذا العدد. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: إنما هو بمنزلة قوله: إن لزيد ألف درهم أعدها للصدقة، هل يعني ذلك أنك تقصد ثروة زيد في أنها تساوي ألف درهم؟ لا، أنت تقصد أن الذي أعده للصدقة محدود بهذا الألف، وهذا لا ينفي أن له مالاً آخر غير هذا. وكقولك: إن لعمر مائة ثوب من زاره خلعها عليه، ليس المقصود أنه ليس له من الثياب غير هذه الثياب المذكورة مائة ثوب، ولكن المقصود: أن هذه هي التي اختصها بالإهداء، فمن زاره خلعها عليه، فدلالة هذين المثالين: أن الذي أعده زيد من الدراهم هو للصدقة، وأن الذي أعده عمر من الثياب للهدية مائة ثوب، والذي يدل على صحة هذا التأويل الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك) يعني: سواء كان هذا الاسم سميت به نفسك، (أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فهذا يدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماءً لم ينزلها في كتابه، حجبها عن خلقه ولم يظهرها لهم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ما نقل كلام الخطابي: وأيضاً فقوله: (إن لله تسعة وتسعين) تقيده بهذا العدد، بمنزلة قوله تعالى: ((تِسْعَةَ عَشَرَ))، يعني: قال تعالى في ملائكة سقر: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]، فلما استقلوهم أنزل الله تعالى قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فإنه لا يعلم أسماءه إلا هو أولى، يعني: إن كان جنود الله -وهي الملائكة- لا يعلمها إلا هو فأولى ثم أولى أن أسماء الله لا يعلمها كلها إلا هو سبحانه. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في تعارض العقل والنقل: والصواب الذي عليه الجمهور أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس إلا تسعة وتسعون اسماً، ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الشاهد. وقال: وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحصي ثناءً على الله، ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها، فكان يحصي الثناء عليه في هذه الحالة؛ لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه؛ لأن الأسماء هي وسيلة التعبير عن الصفات. فقول النبي عليه السلام: (لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، اعتراف بالعجز عن توفية الله سبحانه وتعالى ما يستحقه من الثناء والحمد، ولجوء إلى التفويض، وأن هذا الثناء الذي يستحقه الله هو مفوض إلى الله؛ لأنه لا يحصي العد مهما مدح الله سبحانه وتعالى عز وجل وأثنى عليه، إنما الله كما أثنى على نفسه، ولا يحصي أحد الثناء الذي يستحقه الله عز وجل، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام أحصى جميع أسمائه سبحانه وتعالى فإنه يحصي بالتالي كل صفاته، فكما أنه لا يحصي ثناءً عليه فهو لا يحصي كل صفاته، وبالتالي لا يحصي كل أسمائه التي يعبر عنها بأسمائه. خالف ابن حزم الجمهور في هذه المسألة، فذهب إلى أن عدد أسماء الله الحسنى ينحصر في التسعة والتسعين، ورد عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح فقال: وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، وهو لا يقول بالمفهوم أصلاً؛ لأنه لا يعترف بدليل الخطاب، أو مفهوم المخالفة، لكنه احتج -ليس بمفهوم تسعة وتسعين في قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) - بقوله: (مائة إلا واحداً)، قال: لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور لزم أن يكون مائة. قال الحافظ: وهذا الذي قاله ليس بحجة؛ لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها. المقصود بالحصر: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) أن الثواب يختص بمن أحصاها. فمن ادعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائداً على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك ألا يكون هناك اسم زائد. أي: هذا الحديث لا ينفي أن لله أسماءً أخرى زائدة على ذلك، ولكن الحديث سيق للإخبار عن ثواب من أحصى أسماءه، والراجح والله تعالى أعلم: تفويض علم سر هذا العدد بالذات إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لم يطلعنا على ذلك، فهو كأعداد ركعات الصلوات، والصلوات نفسها وغير ذلك مما علمه عند الله عز وجل.

الأحاديث الواردة في تعيين اسم الله الأعظم

الأحاديث الواردة في تعيين اسم الله الأعظم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)، وفي رواية: (فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى). وهذا الحديث إسناده صحيح أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن أبي شيبة في المصنف، وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وفي بعض ألفاظه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وإذا رجل قد قضى صلاته وهو يتشهد فقال: اللهم إني أسالك يا ألله! بأنك الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد غفر لك! قد غفر لك! قد غفر لك!)، إسناده صحيح، لكن لم يرد فيه أن هذا هو الاسم الأعظم. وفي لفظ آخر عن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسالك بأنك أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم والأكبر، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى). على أي الأحوال: فحديث بريدة رضي الله تعالى عنه هو من الروايات الصحيحة التي ورد فيها تعيين الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى. ومن خصائص الاسم الأعظم أن الإنسان إذا دعا الله به أجابه، وإذا سأله به أعطاه، يعني: إذا توسل إلى الله سبحانه وتعالى باسمه الأعظم أجابه، وعندما تذكر كلمة الاسم الأعظم تشتد حاجتنا إلى الوقوف عندما علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب، وإلا فلو فتح الباب لاستعمال كلمات الاسم الأعظم لرأينا ضلالات وطامات الصوفية الذين يزعمون أن هناك علماً خفياً لا يفشى سره للعامة، وأن موضوع الاسم الأعظم كغيره من أسرار الولاية يذكر في السر لسلالة معينة من الأولياء، عن طريق عهود ومواثيق وصلاة معينة مكتومة، ولا تظهر للناس إلى غير ذلك من ضلالات الصوفية المعروفة. وليس في ديننا أسرار ولا طبقية دينية معينة تحتكر بعض الخواص وبعض الأسرار والأمور، فالمسلم بريء تماماً ولا يعرف في دين الإسلام أسرار، وما كتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من الوحي كما هو معلوم ومقطوع به، فكلمة (الاسم الأعظم) عند الصوفية لها إيحاءات ودلالات، ولها أشياء تنفر منها القلوب إذا سمعت، لن نخوض في كلام الصوفية وضلالاتهم في هذا الباب، ولكننا فقط نريد أن نستجلي الحقيقة من مشكاة النبوة. فهذه إحدى الروايات التي صح فيها تعيين الاسم الأعظم، وهو ذلك الدعاء الذي دعا به هذا الصحابي الجليل: (اللهم إني أسالك بأني أشهد أنك أنت الله) إذاً: هذا توسل بأسماء الله سبحانه وتعالى وكتابه، بتعبير آخر في بعض الروايات: (اللهم إني أسالك بأنك أنت الله)، ففي هذه الحالة هذا توسل بالأسماء والصفات: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد) إلى آخره. وهناك لفظ وهو: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله)، توسل بالعمل الصالح، فهو توسل بشهادته هو، فهذا نوع من أنواع التوسل المشروع. وهناك نوع آخر: وهو التوسل بدعاء الرجل الصالح إلى الله سبحانه وتعالى. إذاً: هذه إحدى الروايات الصحيحة في تعيين الاسم الأعظم: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد). صح أيضاً حديث آخر عن أنس رضي الله تعالى عنه: قال: (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ورجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى). إذاً: هذا الحديث أيضاً مما صح في تعيين الاسم الأعظم، ولا شك أنه إذا كان الاسم الأعظم له هذه الفضيلة العظمى فلا ينبغي أبداً لأحد أن يزهد في حفظه، وكثرة التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى). كذلك حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: في البقرة، وآل عمران، وطه) إذا حاولنا استقراء هذه السور الثلاث، وبحثنا عن الاسم الذي تكرر في هذه الأحاديث الذي هو لفظ الجلالة (الله) فقد ورد في الحديث الأول، وورد في الحديث الثاني بصيغة (اللهم)، وإنما كان الأصل فيها: يا ألله! فلما حذف الياء من أول الحرف وبقي: (الله) جاء الميم في آخره بعدما حذف الياء في أوله؛ فأصبحت الكلمة (اللهم) تعني: الدعاء بجميع أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى. كذلك أيضاً ورد في الآيات التي ذكرها بعض العلماء من سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة طه، فبعض العلماء قالوا: إن الاسم الأعظم في قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]، لكن الأرجح كما بينه الطحاوي رحمه الله تعالى: أن الذي في سورة طه هو قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:7 - 8]. فإذاً: الحديث الذي فيه: أن الاسم الأعظم في ثلاث سور من القرآن: في البقرة، وآل عمران، وطه هو لفظ الجلالة (الله). أما حديث أسماء بنت يزيد أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وفاتحة آل عمران {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2])، فهذا الحديث ضعيف.

الحجج التي ساقها الرازي على أن الاسم الأعظم هو لفظ الجلالة

الحجج التي ساقها الرازي على أن الاسم الأعظم هو لفظ الجلالة ساق فخر الدين الرازي في كتابه: شرح أسماء الله الحسنى حجج من قال: إن الاسم الأعظم هو الله، فمن هذه الحجج: أولاً: أن هذا الاسم ما أطلق على غير الله سبحانه وتعالى، حتى العرب في أشد ما وصلوا إليه من الشرك لم يطلقوا لفظ الجلالة (الله) على غير الله سبحانه وتعالى، فإن العرب كانوا يسمون الأوثان آلهة، إلا هذا الاسم فإنهم ما كانوا يطلقونه على غير الله سبحانه وتعالى، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] معناه: هل تعلم من اسمه (الله) سوى الله؟! ولما كان هذا الاسم في الاختصاص بالله سبحانه وتعالى على هذا الوجه وجب أن يكون أشرف أسماء الله سبحانه وتعالى. ثانياً: أن هذا الاسم هو الأصل في أسماء الله سبحانه وتعالى، وسائر الأسماء مضافة إليه تابعة له، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] فأضاف سائر الأسماء إليه، ولا محالة أن الموصوف أشرف من الصفة، ولأنه يقال: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس كلها من أسماء الله تعالى، ولا يقال: الله اسم الرحمن الرحيم، فدل هذا على أن الاسم هو الأصل. فإن قيل: لفظ (الله) قد جعل نعتاً في قوله تعالى في أول سورة إبراهيم: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2] ف A أن نافعاً وابن عامر قرأا بالرفع على الاستئناف، أي: فلا يرد هذا الإشكال؛ لأن قراءة ابن عامر ونافع: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهَ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2]، ففي هذه القراءة ليس هناك تبعية، فرفع (الله) على الاستئناف والخبر يأتي بعد، أما الباقون فقرءوها: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2] عطفاً على قوله (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). وقال أبو عمرو: والخفض على التقديم والتأخير يعني: قراءة {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2]، تقديم (صراط الله العزيز الحميد، الذي له ما في السماوات وما في الأرض) التفاتاً منه إلى هذا المعنى، وهو أن الأصل هو الله، وما بعده يكون مضافاً إليه، فلذلك حتى الذي قرأ بالجر على النعت: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1] (الله الذي) قال: هي من حيث القراءة هكذا، لكن من حيث التفسير فيها تقديم وتأخير بمعنى: إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له، حتى تأتي العزيز الحميد بعد الاسم الأصلي الذي هو الله سبحانه وتعالى. ثالثاً: من أدلة الرازي التي ساقها واستدل بها من ذهب إلى أن الاسم الأعظم هو (الله) قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] خص هذين الاسمين بالذكر؛ وذلك يدل على أنهما أشرف من غيرهما، ثم إن اسم الله أشرف من اسم الرحمن لأمور: أولاً: لأنه يذكر قبله في الذكر، دائماً نبدأ بلفظ الجلالة، ثم تأتي بالرحمن بعدها، فهذا التقديم يشير إلى أنه أشرف منه، كما تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فتقدم اسم الله سبحانه وتعالى. كذلك: أي إنسان سواء في الذكر في القصص في المواعظ فإنه دائماً يقدم اسم الله على ما عداه من الأسماء، وخاصة اسم الرحمن. ثانياً: أن اسم الرحمن يدل على كمال الرحمة، ولا يدل على كمال القهر والغلبة والعظمة والعزة، وأما اسم الله فإنه يدل على كل ذلك، فثبت أن اسم الله تعالى أشرف. رابعاً: هذا الاسم له خاصية غير حاصلة في سائر الأسماء، اختص بخاصية غير موجودة فيما عداه من الأسماء الحسنى، وهي أن سائر الأسماء والصفات إذا دخل عليها النداء أسقط عنها الألف واللام، ولهذا لا يجوز أن يقال: يا الرحمن! يا الرحيم! يا العزيز! يا الحكيم! بل يقال: يا رحمن! يا رحيم! يا عزيز! يا غفور! يا تواب! أما هذا الاسم فإنه يحتمل هذا، فيصح أن يقال: يا ألله؛ وذلك أن الألف واللام في هذا الاسم صار كالجزء الذاتي، فلا جرم ألا يسقطان حالة النداء؛ وفيه إشارة لطيفة، وذلك أن الألف واللام للتعريف، فعدم سقوطهما عن هذا الاسم يدل على أن هذه المعرفة لا تزول أبداً ألبتة، فلذلك لا تفارقها الألف واللام، تقول: يا ألله أو اللهم، لكن لا تقول: يا إله مثلاً.

اختيار الطحاوي وابن القيم أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة

اختيار الطحاوي وابن القيم أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة اختار القول بأن الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى هو (الله) الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى، وكذا العلامة المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى، رجح هذان العالمان الجليلان أن الاسم الأعظم هو لفظ (الله)، فقال ابن القيم بعد أن بين لوازم أسماء الله الحسنى: فاسم الله دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا، بالدلالات الثلاث أي: بدلالة التضمن والمطابقة والالتزام، فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية، مع نفي أضدادها عنه، والصفات الإلهية هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف الله سبحانه وتعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180]، ولم يقل مثلاً: للعظيم الأسماء الحسنى، ولم يقل: للرحيم أو للجبار الأسماء الحسنى، وإنما الأسماء الحسنى تضاف إلى الأصل والأساس الذي هو اسم الله، ولذلك قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180]، ويقال: الرحمن، الرحيم، القدوس، والسلام، العزيز، الحكيم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحيم، ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك، فعلم أن اسمه تعالى (الله) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، ودال عليها بالإجمال يعني: من دعا الله باسمه الأعظم الذي هو (الله) فكأنه دعا بجميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا. فعلم أن اسم (الله) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، ودال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم (الله) أي: أن سائر الأسماء الحسنى سوى اسم الله هي شرح وبيان وتفصيل لما تتضمنه لفظة (الله) عز وجل. واسم (الله) دال على كونه مألوهاً معبوداً تألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب؛ وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد، وإلاهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله، إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله. وصفات الجلال والجمال أخص باسم الله سبحانه وتعالى، أما صفات الفعل والقدرة، والتفرد بالنفع والضر والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة، فأخص باسم الرب سبحانه. وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة والملك أخص باسم الرحمن.

اسم الله الأعظم

اسم الله الأعظم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، فقال: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)، وفي رواية قال: (والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى). وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ودخل رجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى). وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في سور من القرآن ثلاث: في البقرة، وآل عمران، وطه). الاسم الذي تكرر في هذه الأحاديث الثلاثة هو لفظ الجلالة (الله) إلا أنه ورد فيها بلفظ اللهم، وأصل (اللهم) يا ألله، فلما حذفت الياء من أول الكلمة، عوض عنها الميم في آخرها.

أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن

أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن آخر التنبيهات المتعلقة بلفظ الجلالة هو: أن: (أحب الأسماء إلى الله سبحانه وتعالى: عبد الله وعبد الرحمن) كما في الحديث الصحيح، ولما كان الاسم مقتضياً لمسماه ومؤثراً فيه كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه كعبد الله وعبد الرحمن، ولا يصح حديث: (خير الأسماء ما عبد أو حمد)، لا يصح هذا، وإنما الصحيح هو: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن). فإضافة العبودية إلى اسم الله واسم الرحمن أحب إليه من إضافتها إلى غيرهما، كالقاهر والقادر، فعبد الرحمن أحب إلى الله من عبد القاهر، وعبد الله أحب إليه من عبد ربه؛ وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة، والتعلق الذي بين الله وبين العبد من رحمة محضة، فبرحمته كان وجوده وكمال وجوده، والغاية التي أوجدهم لأجلها أن يتأله له وحده محبة وخوفاً ورجاءً وإجلالاً وتعظيماً، فيكون عبداً لله، وقد عبده لما لاسم الله من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمته غضبه وكانت رحمته أحب إليه من الغضب كان عبد الرحمن أحب إليه من عبد القاهر، فهذا فيما يتعلق بلفظ الجلالة الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عدم مشروعية ذكر الله مفردا

عدم مشروعية ذكر الله مفرداً التنبيه الأخير: أن هذا الاسم الجليل الذي هو الاسم الأعظم (الله) لا يشرع ذكر الله سبحانه وتعالى به مفرداً؛ وذلك أن بعض الجاهلين يذكر الله سبحانه وتعالى باسم الجلالة مفرداً، فيجعلون لهم أوراداً، وهؤلاء هم الصوفية كما تعلمون يجعلون أوراداً يرددون فيها لفظ الجلالة مرات عديدة، فيرددها ألف مرة ألفين مرة: الله الله الله الله إلى آخره، وأحياناً يجتمعون على ذلك في حلقات وهم جالسون أو واقفون فيتمايلون ذات اليمين وذات الشمال، ويقفزون بين الحين والآخر، ويصاحب ذلك دقات الطبول، وتشحب الأصوات حتى لا تسمع إلا: هو هو هو فيقولون: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] من أسماء الله الحسنى لجهلهم. فيظلون يرددون هو هو أو: آه آه آه يعني: باعتبار أن هذا لحن في أسماء الله، ولجهلهم يستدلون بقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، فيقولون: إنه كان يكثر قول: آه الذي هو في زعمهم اسم من أسماء الله عز وجل. أو حع حع حع (حاء، عين)، ولا أدري من أين أتوا بهذا؟! يزعمون أنهم بهذه البدع النكراء يذكرون الله سبحانه وتعالى، ومادام فيها هذه اللحن لأسماء الله والرقص والمزامير والاختلاط أحياناً والأشياء التي يفعلونها فهذا ذكر الله أم نسيان لله؟ هذا نسيان لله، وغفلة عن الله، وإعراض عن الله، ولا يسمى هذا ذكراً بحال من الأحوال، إنما هذا بدعة وضلال. فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً الذكر بالاسم المفرد، وما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أبداً في أي دليل أنه ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا، فيستدلون بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، فـ (قل الله) هل هو بمعنى: الله؟ لا، {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، أي: قل الله أكبر شهيد فيما ذكر، فهي جملة كاملة؛ لأن اللفظ المفرد لا يفيد شيئاً من حيث المعنى، إنما اللفظ المفيد هو الذي يدل على جملة تامة يحسن السكوت عندها. فإذاً: اللفظ المفرد ليس فيه سوى لفظ واحد، فقولهم: حي مثلاً، فذكر الله بهذه الطريقة بدعة، والبدعة تقصي من الله وتبعد العبد، وليست تقرب من الله عز وجل، فلم يأت ذلك الذكر في حديث قط، بل جميع الأذكار الصحيحة نجدها بلفظ الجلالة في جملة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلم يثبت أبداً في هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه ذكر الله بالاسم المفرد.

لفظ الجلالة اسم مشتق غير جامد

لفظ الجلالة اسم مشتق غير جامد بقي تنبيهات يسيرة تتعلق باسم الله الأعظم وهو لفظ الجلالة (الله)، هل هو مشتق أم أنه اسم جامد؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين أصحهما أنه مشتق، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: زعم السهيلي وشيخه ابن العربي أن اسم الله غير مشتق، قالوا: لأن الاشتقاق يستلزم ندبةً يشتق منها، واسم الله تعالى قديم والقديم لا ندبة له، فيستحيل الاشتقاق. يقول ابن القيم مبطلاً هذا الرأي: ولا ريب أنه إن أريد الاشتقاق لهذا المعنى، وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل، إن أريد بالاشتقاق أنه يتولد من غيره فهذا باطل بلا شك، ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يقصدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم، وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، العليم، والقدير، والغفور، والرحيم، والسميع، والبصير، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي أسماء قديمة، والقديم لا ندبة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله. ثم إننا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، تلاقي وتوافق مصدرها في اللفظ والمعنى لا أكثر، فهذا هو المقصود بالاشتقاق، لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله، وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة. قالوا: ولا محذور في اشتقاق اسم الله أو أي اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى، إن هذا هو أصل مادة الكلمة، وليس معناه أنه أجرى له التولد من غيره، فإذاً: هذا المحذور الذي ذكروه يسقط بهذا الاعتبار. أما أصل كلمة: (الله) في اللغة فقد قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: مأخوذ من (إله) وتقديرها فُعلانية بالضم، تقول: إله بين الآلهة والأُلهانية، وأصله: من أله يأله، يعني: إذا تحير، يريد إذا وقع العبد في عظمة الله سبحانه وتعالى وجلاله وغير ذلك من صفات الربوبية، وصرف همه إليها أبغض الناس حتى لا يلين قلبه إلى أحد. قال أبو الهيثم: فالله أصله إله، قال الله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91]، قال: ولا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً، وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله وإن عبد ظلماً، ما مناسبة كلمة (ظلم) هنا؟ الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، ولذا جعل الله الشرك ظلماً قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. فوضع العبودية في غير موضعها ظلم، لأنه لم يوجهها إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما وجهها إلى الأنداد. فإذاً: يقول: ولا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون هذا الإله لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً، وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله وإن عبد ظلماً، بل هو مخلوق ومتعبد، حتى إن حصلت العبادة لغير الله فهو ظلم؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها اللائق بها. وأصل كلمة (إله) وله، فقلبت الواو همزة فصارت إله، كما قالوا: أصل كلمة (إيجاد) وجاد، ومعنى وله: أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كل ما ينوبهم كما يوله كل طفل إلى أمه. وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها: إلهاً، وقد ضعف الزجاج هذا القول، وقال ابن سيده: والإله والألوهة والألوهية العبادة، وقد قرئ في قوله تعالى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] هذه قراءة الجمهور، لكن قرأ ابن عباس: (ويذرك وإلهتك)، يريد: وعبادتك. إذاً: قراءة ابن عباس: (ويذرك وإلهتك) بكسر الهمز أي: ويذرك وعبادتك، وهذه القراءة الأخيرة عند ثعلب كأنها هي المختارة، وثعلب لما اختار هذه القراءة التي هي: (ويذرك وإلهتك)، قال: لأن فرعون كان يُعبد ولا يعبد، فهو على هذا ذو إلهة وليس هو آلهة، وعلى قراءة الجمهور: (ويذرك وآلهتك)، فهو ذو آلهة على هذه القراءة، وهذه القراءة أكثر القراء عليها، وهي قراءة الجمهور. وقال ابن بري: يقوي ما ذهب إليه ابن عباس في قراءته: (ويذرك وإلهتك) قول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقوله أيضاً: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فهذا يقوي قراءة ابن عباس في الآية: (ويذرك وإلهتك) يعني: يترك عبادتك ولا يعبدك. وكان العرب في الجاهلية يسمون معبوداتهم من الأوثان والأصنام آلهة وهي جمع إله، قال الله عز وجل: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] يعني: وهي أصنام عبدها قوم فرعون معه، والله أصله إله، على وزن فعال، بمعنى: مفعول، فهو إله بمعنى: مألوه، أي: معبود، ولذلك نسمي توحيد الألوهية توحيد العبادة. وكقولنا: إمام، على وزن فعال، لكنها بمعنى: مفعول؛ لأنه مؤتم به، كذلك إله بمعنى مفعول أي: معبود، فلما أدخلت عليه الألف واللام: الإله، حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام؛ فصار اللفظ (الله)؛ لأن لفظ الجلالة يقال كثيراً جداً، فخففوه بحذف الهمزة. وقال ابن القيم: القول الصحيح: أن الله أصله الإله، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم.

ترجيح أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة

ترجيح أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة وقد تكلمنا عن الأدلة التي ترجح أن اسم (الله) هو الاسم الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، ومن هذه المرجحات: أن هذا الاسم ما أطلق على غير الله سبحانه وتعالى، فإن العرب كانوا يسمون الأوثان آلهة، إلا أن اسم الله لم يطلقوه على أوثانهم، وإنما أفردوا الله سبحانه وتعالى به، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، يعني: هل تعلم من اسمه (الله) سوى الله؟! فانفرد الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم الأعظم، فلما كان هذا الاسم في الاستحقاق بالله تعالى على هذا الوجه وجب أن يكون أشرف أسماء الله سبحانه وتعالى. كذلك قلنا: إن هذا الاسم هو الأصل في أسماء الله سبحانه وتعالى، وسائر الأسماء مضافة إليه، فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، ولم يقل: للرحمن الأسماء الحسنى، ولا للجبار الأسماء الحسنى، وإنما قال: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى))، فأضاف سائر الأسماء إليه، ولا محالة أن الموصوف أشرف من الصفة، ولأنه يقال: الرحمن الرحيم الملك القدوس إلى آخره كلها من أسماء الله تعالى، ولا يقال: (الله) اسم الرحمن الرحيم، فدل هذا على أن الاسم هو الأصل. كذلك قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110]، فخصهما بالذكر فدل على أنهما أشرف من غيرهما، ثم إن اسم الله أشرف من اسم الرحمن لعدة أمور: أولاً: لأنه يقدم في الذكر قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110]. ثانياً: لأن اسم الرحمن يدل على كمال الرحمة، لكنه لا يدل على كمال القهر والغلبة والعظمة والألف والعزة، وأما اسم (الله) فإنه يدل على كل ذلك؛ فثبت أن اسم الله تعالى أشرف. كذلك قلنا: إن هذا الاسم له خاصية غير حاصلة في سائر الأسماء، وهي أن سائر الأسماء والصفات إذا أدخل عليها النداء أسقط عنها الألف واللام، ولهذا لا يجوز أن تقول: يا الرحمن! يا الرحيم! يا السلام! وإنما تقول: يا رحمان! يا رحيم! يا عزيز! يا قوي! أما هذا الاسم فإنه يحتمل هذا فيصح أن يقال: يا ألله؛ لأن الألف واللام في هذا الاسم صارا كالجزء الذاتي فلا يسقطان في حالة النداء، وفيه إشارة لطيفة وهي: أن الألف واللام للتعريف فعدم سقوطهما عن هذا الاسم يدل على أن هذه المعرفة لا تزول أبداً.

نظرة في تاريخ العقيدة [1]

نظرة في تاريخ العقيدة [1] إنّ تاريخ هذا الدين وهذه العقيدة الإسلامية الحقّة تاريخ قديم قِدَم خلق الإنسان، وهذا الأمر أمر واضح جلي في الكتاب والسنة، ولا يجادل في ذلك إلّا جاهل أو مكابر أو طاعن، وبداية تلك العقيدة وتفاصيلها، وكيفية خلق الإنسان وبداية ذلك أمر غيبي لا يعرف إلّا من قِبل من يعرف الغيب، فلا ندع ذلك ونذهب نتخبط يميناً وشمالاً بحثاً عن تلك الحقائق التي نشأت قبل دهور طويلة، وقبل أزمنة مديدة، فإن ذلك مدعاة للتخبط والتخرص والقول القاصر والحدس، فتمسَّك أيها المسلم! بكتاب ربك، وسنة نبيك تنجُ وتفلح.

تاريخ نشوء العقيدة والرد على المخالفين في ذلك

تاريخ نشوء العقيدة والرد على المخالفين في ذلك الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الموضوع الذي سنتناوله اليوم هو موضوع النظر إلى تاريخ العقيدة الإسلامية، خاصة وأن هذه المسألة مع وضوحها كالشمس، لكن نجد في الناس من يخلط في هذه القضية المهمة. فبعض الناس يزعم أن العقيدة لم يعرفها الإنسان على ما هي عليه مرة واحدة، وإنما ترقت العقيدة وتطورت خلال قرون سحيقة، وأطلقوا عليها عصور ما قبل التاريخ، أو العصور الحجرية، حيث يزعمون أن الإنسان الذي يسمونه البدائي أو الحجري لم يكن يعرف له رباً ولا معبوداً، ثم نشأت عنده بعد ذلك عاطفة التدين؛ بسبب أنه رأى الحيوانات تخشى القوى الخفية، فتخاف من البرق والرعد، فظل الإنسان يبحث عن معبود يشعر نحوه بالولاء والتقديس، مهما كانت صورة هذا المعبود. وهذا فيه عملية إضفاء نوع من العذر والاعتذار عن هذه الجريمة التي تعتبر أكبر جريمة وقعت في الوجود، وهي الشرك بالله سبحانه وتعالى. فكأن الإنسان الأول كان حائراً يبحث عن إله يأوي إليه ويحبه، وانظر إلى هذه العاطفة، فكأن الخبثاء يريدون أن يقولوا: إن الدين نبع من الأرض ولم ينزل من السماء، وإن الدين اختراع بشري، وإن الإنسان هو الذي توصل إليه واكتشفه؛ وبالتالي فإن هذه الأديان تستوي؛ لأنها صنع بشري، فلكل إنسان أن يختار الدين الذي يرتاح إليه، فانكمش هذا المعبود في الشمس وفي القمر وفي الكواكب، حتى في الأشجار وفي الحيوانات. ثم قالوا: إنه تطور من وثنية إلى وثنية إلى أن اكتشف التوحيد من تلقاء نفسه، فعند هؤلاء أنّ الإنسان هو الذي اكتشف التوحيد. فخلاصة الكلام أن الدين في زعم هؤلاء الناس هو نتاج العقل البشري واختراعه.

طرق دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة ومصادرها

طرق دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة ومصادرها ليس هناك دليل مادي على أمر التوحيد واتصال الأرض بالسماء بهذه الكيفية عند هؤلاء المستشرقين والباحثين، فالطريق الذي يسلكه جمهور الباحثين للوصول إلى هذا المطلب هو دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة، عن طريق التنقيب في الحفريات والرمم والجثث المحنطة والآثار الحجرية، ثم البحث في أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، وهذا هو المنهج الذي ارتضوه كي يصلوا إلى الحقيقة فيما يتعلق بقضية الدين. وهم أيضاً متأثرون بفكرة النشوء والتطور، فلذلك هم يبحثون في هذين الخطين فقط في الأمم القديمة، والأمم المعاصرة غير المتحضرة، ولا يلتفتون إلى الدين؛ لأن الدين تخلف، والدين اختراع عتيق في متحف التاريخ، فالذي يريد أن يبحث في التاريخ ينبغي له أن يبحث عنه في الحفريات وفي طبقات الأرض (الجيولوجيا)، وفي تواريخ الأمم القديمة، وإذا كنا نبحث في القرون المعاصرة فعلينا أن نبحث في تاريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة، ويعتبر هؤلاء نهاية ما يعلمونه في القدم من أديان البشر، وما عليه الأمم الأشد تخلفاً من ممارسات دينية، صورة مطابقة لما كان عليه الإنسان الأول. فزعموا أن ما عليه الأمم المتخلفة التي تعيش في المجاهل والأدغال الآن، والتي تعيش حياة الوحوش، هو صورة لما كان عليه الإنسان الأول. أما بالنسبة للأديان القديمة، فليس لهم أي مصادر علمية، بل هو القول على الله بغير علم، ويستندون إلى النقوش والرسوم والرمم التي يستوحون منها ما يزعمونه قطعياً، ولما كانت تلك مصادر آرائهم اختلفت آراؤهم. فذهب فريق إلى أن الدين بدأ بصورة الخرافة، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس الثاني. وقد نادى بهذه النظرية أنصار المذهب التصوري الذي ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، وذلك في أكثر من فرع من فروع العلم. وهناك فريق آخر من هؤلاء الباحثين الماديين قال بفطرة التوحيد وأصالته، وأثبت أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشرية، فردوا على أنصار المذهب الأول، ورفضوا ما قالوه، مع أن مسلكهما في تحديد بداية الدين مسلك واحد وهو: الوصول إلى ذلك عن طريق الرمم والنقوش والحفريات، وأيضاً دراسة تواريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة. إنّ ممن أجاد وأفاد في هذا المبحث واكتشف فيه الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى، وهو من علماء الأزهر الذين لم توفهم الصحوة الإسلامية حقهم من الاهتمام بكتبه النادرة، فهذا من العلماء المعاصرين الذين ابتكروا البحث في تاريخ الدين، وهو في عامة بحوثه مبتكر، ولا يكرر مثل الآخرين، بل تجد أفكاره ناضجة جداً، وللأسف الشديد أنه لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولم تذع كتبه كما كان ينبغي لها أن تذاع. يقول رحمه الله تعالى: أما من حيث الغاية التي يهدف إليها البحث فهي تحديد أصل العقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة، وهذه المنطقة البدائية المحضة اعتبرها العلم شقة حراماً حظرها على نفسه، وأعلم بصراحة خروجها عن حدود علمه؛ لأنه سيخبر عن غيب، فكيف سيصل إلى هذه المنطقة البدائية؟ وبم سيتكلم عنها؟ أيرجم بالغيب؟! فلذلك نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن يمتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يخبره بأنباء الغيب، وجعل الله هذا دليلاً من أدلة صدق نبوته فقال: {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44]، وهكذا في كثير من الآيات مثل قوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99] إلى آخر الآيات. فهناك آيات كثيرة في القرآن يمتن الله سبحانه وتعالى بها على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يطلعه على بعض أخبار الغيب التي لا سبيل إليها إلا عن طريق الوحي. ويقول: ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب. وأما من حيث المنهج وهو الاستدلال على ديانة الإنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية فهذا مبني على أساس افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ واتفق عليه المنقبون عن آثار الأمم الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنيتنا الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة قريبة أو بعيدة، وذلك في أدوار تتعاقب على البشرية. فانظر إلى قدماء المصريين، فقد كانوا في فترة زمنية قريبة، وليست بالسحيقة كالقرون الأولى من قبلهم، ومع ذلك فقد تركوا آثاراً تُظهر تفوقاً في بعض فروع العلوم، ولا يستطيع العلم البشري إلى اليوم أن يصل إلى عشر معشارها، فهناك بعض الألغاز الموجودة حتى الآن لم يستطع العلم الحديث أن يفسرها، وهذا ما حدا بالكثيرين إلى أن يقولوا: إن قدماء المصريين كانوا يستعينون بالجن والسحر؛ وذلك بسبب ضخامة ما خلفوه من علوم تدل على تقدم وازدهار حضاري كما يسمونه ويزعمونه. وقد نُشر في مجلة لا أذكر اسمها الآن في أمريكا مقالاً تحت عنوان: مدينة الأبراج، وهي منطقة في حضرموت، وفي نفس المكان الذي نعتقد نحن أنه كانت فيه مدينة عاد إرم ذات العماد، فيقولون: إنهم عن طريق التصوير والاستعانة بالأقمار الاصطناعية اكتشفوا مدينة كاملة مغمورة تحت الأرض، وفيها مبان مرتفعة جداً، وسموها مدينة الأبراج، وهم لا خبر عندهم بما يتعلق بالقرآن الذي وصفها بهذا الوصف: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8]. فهذا مما يدل على أن الأمر بالعكس، فهناك أمم في القرون الماضية قد يكون عندها حضارات وتقدم هائل جداً، ثم تحصل فترات ركود وانحدار، وذلك في فترات تتعاقب على البشرية. ويقول: فمن العسير أن نحكم بصفة قاطعة أن الخرافات القديمة بداية أديان؛ لأننا حتى في هذا العصر الذي نزعم فيه الترقي والتطور والتقدم والحضارة وغير ذلك لا زلنا نجد هذا موجوداً، بل ومن أرقى الأمم تحضراً كأمة اليابان مثلاً، فاليابانيون يعبدون الإمبراطور ويعبدون العائلة المالكة كما كان يفعل المصريون. وهنالك في أوروبا والغرب من يعبد آلهة قدماء المصريين، ويأتون إلى هنا، ويحجون إلى الأهرامات وإلى الآثار. وهناك ما تعجبون منه، ففي بعض الدول في شرق آسيا من يعبد الفئران! وقد رأى أحد الإخوة منظراً مثل هذا في شرق آسيا، ورأى أشياء مقززة، ولولا ذلك لحكيتها لكم، وذلك فيما يتعلق بتقديس الفئران، وهي أمور لا يتصورها أي إنسان عنده فطرة سليمة، أو ذوق مستقيم، فهم يقدسون الفئران، ويبنون قصوراً من الرخام الأبيض الجميل؛ كي يعبدوا فيها هذه الفئران. وهناك من يعبد النيران وغير ذلك من الأوثان، وهذا يحصل الآن -كما يقولون- في القرن العشرين. إذاً: فليس هناك قديم ولا جديد فيما يتعلق بالعقيدة، بل هي فترات ركود وانحدار وانحطاط بعد الترقي، فهذه في حد ذاتها ليست دليلاً على صحة المبدأ الذي عليه هؤلاء الناس. ويقول بعض إخواننا: لو يرانا عباد الفئران ونحن نقتل الفئران هنا لأقاموا علينا حرباً مقدسة، كما فعل إخوانهم في المسجد البابري في الهند، وسبب المشكلة في ذلك المسجد أنّه بُني على مسقط رأس إلههم، أي: أنّ الإله ولد في هذا المكان، إله يولد تباً لهم! فهذا المكان مقدس عندهم. فيمكن أن تطرأ على بعض هذه الحضارات بعض الطوارئ فتمزقهم الحروب، أو تفسدهم بعض المؤثرات الاجتماعية، فينحرفون عن التوحيد الذي كانوا عليه، أو يقل اعتناؤهم بأصول دينهم فيضيع هذا الدين، ويبقى تعلقهم بأشياء محرفة أو مغلوطة. فإذاً: هذه البحوث التي يسمونها بحوثاً علمية في تاريخ الأديان، كلها مبنية على شفا جرف هار، وليس لها دليل علمي يدل عليها؛ لأنها لا تقوم إلا على التخمين والظن اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً. وأما الاستدلال بالآثار والنقوش والحفريات ودراسة الرمم، فهذا أمر يحتاج إلى كثير من التأمل، وكل من كان له قلب فإنه يدرك مدى اختلاف الناس في الأشياء المشاهدة في وقت واحد، فكيف بتفسير أشياء بيننا وبينها قرون سحيقة، وما ندري ما وراءها!! ومن عجيب أمر الباحثين في موضوع تاريخ الأديان أنهم يغفلون تماماً آثار الأنبياء، فتراهم يتجاهلون قضية الأنبياء وآثار الأنبياء، ويتجاهلون كتب الأنبياء، ويتعلقون بالواهي من الأدلة ورموز الأخبار والآثار، وتزداد الغرابة وتعظم المصيبة حينما يكون الباحث مسلماً، ويتابع غير المسلمين في مثل هذه الأمور التي صرحت بها الرسالات السماوية، متجاهلاً للحقائق التي جلاها الإسلام بما لا يدع مجالاً للشك، سواء كان ذلك فيما يتعلق بقضية خلق الإنسان، أو تكوينه أو نظام حياته وتدينه، أو الحكمة من خلقه ووجوده، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، ويقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].

زعم الأفاكين: أن الإنسان الأول كان شبيها بالحيوان

زعم الأفّاكين: أن الإنسان الأول كان شبيهاً بالحيوان إن من جملة مزاعم القوم في هذا الباب أن الإنسان الأول كان أقرب إلى الحيوانات، لذلك نجد كتب العلوم والأحياء وغيرها من الكتب تحاول دائماً أن تصور وتحفر في ذاكرة الطلبة أن هذه حقيقة لا مناص منها، والله سبحانه وتعالى يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، فهم يرجمون بالغيب، ويحاولون أن يطبعوا في أذهان الشباب صورة أنّ الإنسان ترقى من الشمبانزي وهذا نوع من القرود، وكيف أنه كان يترقى بانحناءاته وطريقته في المشي، وزوال الشعر عن جسده، إلى أن وصل إلى الإنسان الحجري، فهذه هي الصورة التي يحفظونها الأبناء. ولن نناقش اليوم قضية الترقي والتطور في بنية الجسد البشرية؛ لأن هذا موضوع آخر نرجو أن نتكلم عليه في فرصة أخرى، وإن كنا قد تكلمنا عليه منذ سنوات ولكن بَعُد العهد به جداً. ونرجو أن يتيسر لنا الكلام على نظرية دارون، هذه النظرية الفاشلة التي تستعمل لحرف العقيدة، وتشكيك الشباب في عقيدتهم ودينهم، مع أنها نظرية فاشلة بكل المقاييس، وليس ذلك فقط من الناحية الدينية، فهي حتى من النواحي العلمية نظرية فاشلة وقد انهارت، ومع ذلك يصرون على تدريسها في بلادنا في أحرج سنوات العمر، وهي فترة الثانوية العامة، ويركزون عليها وكأنها أمر ثابت، وهي كذب وتزوير كما سنبينه إن جاءت فرصة إن شاء الله تعالى. فتصويرهم لهذا الإنسان بهذه الصورة، وتعليمهم ذلك للشباب يجعل الشاب يشعر في نفسه بتناقض، فنحن نؤمن بالقرآن وبالوحي وفيهما: أن آدم أول البشر، فهل كان عليه السلام بهذه الصورة؟ وهل كان آدم عليه السلام أقرب ما يكون لمنظر الشمبانزي والقرد الذي يزعمون أنه ابن عم الإنسان؟! فإنهم يقولون: إن الإنسان والشمبانزي انحدرا من أصل واحد. فعلى هذا يكون هذا الأصل غير معروف، وهذه هي الحلقة المفقودة، وليس هناك دليل أبداً يسد هذه الحلقة، فهي مجرد افتراض وهمي. فهل كان آدم عليه السلام بالصورة التي نتلقاها من القرآن والسنة، أو أنّه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان من حيث التخلف العقلي والبدائية؟! أي: أنه منحن في مشيته والشعر على جسده مثل فروة الغوريلا أو الشمبانزي وغيرها من القرود، وأنه أقرب ما يكون للأبله الذي لا عقل له. فهم يصورون هذا الإنسان الذي يسمونه بالإنسان الأول على أنه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان، وأنه خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، كما تزعم ذلك النظرية الدارونية الفاشلة كما ذكرنا، وأنه كائن تطور عن غيره، وعلى هذا الأساس فلا يكون هناك أي معنى لاستخلاف هذا الإنسان وتكليفه في هذه الأرض.

زعم الأفاكين: أن الأصل في الإنسان الشرك

زعم الأفاكين: أنّ الأصل في الإنسان الشرك الأمر الثاني من هذه المزاعم الكاذبة: أن الإنسان كان مشركاً بطبيعته، ففطرته ملوثة بالشرك، وأول ما يبحث فإنه يبحث عن عبادة الأحجار والأقمار والأشجار والكواكب إلى غير ذلك، فيصورونه على أن الأصل في فطرته هو الشرك والوثنية، وبناءً على ذلك زعموا أن الأصل في عقيدة البشر هي العقيدة الفاسدة، ثم طرأ التوحيد بعد ذلك، حيث إن الدين الداعي إلى التوحيد جاء متأخراً عن وجود الإنسان على ظهر الأرض في زعمهم. فدين التوحيد هذا لم ينزل، بل إنّ الإنسان هو الذي اكتشف أن أفضل شيء هو التوحيد، فبعد مضي أجيال طويلة اخترعت البشرية عقيدة التوحيد!

زعم الأفاكين: أن الإنسان تطور بأفكاره حتى اكتشف الدين بنفسه

زعم الأفاكين: أنّ الإنسان تطور بأفكاره حتى اكتشف الدين بنفسه الأمر الثالث من هذه المزاعم: أن الإنسان سعى بجهده وعقله في البحث عن معبود، وأن أفكاره تطورت ذاتياً بناءً على تجاربه، وذلك دون توجيه رباني يهديه ويرشده، إلى أن اكتشف الدين بنفسه دون معلم يعلمه، وأنه كما ترقى في العلوم والصناعات، ترقى كذلك في معرفة الله تبارك وتعالى.

زعم الأفاكين: أن قرونا طويلة مرت على الإنسان دون أن يعرف فيها ربا ولا معبودا

زعم الأفاكين: أن قروناً طويلة مرّت على الإنسان دون أن يعرف فيها رباً ولا معبوداً الأمر الرابع من هذه المزاعم: أن قروناً طويلة مرت على البشرية وهي لا تعرف لها رباً ولا معبوداً، لكن كلما تقدمت البشرية فإنها تترقى وتتطور في فهمها للدين، وعلى ذلك فكل من جاء بعد آدم من القرون البشرية كانوا على دين أكمل من دين آدم، لأن آدم كان هو الإنسان الأول، وكان متخلفاً عقلياً ولم يكن مؤهلاً لتلقي هذه الحقيقة العظمى، وهي حقيقة التوحيد، فمن أتى بعده فهو أكمل منه عليه السلام، وكلما تأخرنا تكون القرون المتأخرة أقرب للفهم الصحيح من الأمم المتقدمة! وعلى هذه المزاعم صنفوا تواريخ الأمم التي سبقت بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. بما في ذلك تاريخ أوروبا على أنه تاريخ وثني جاهلي محض، لا أثر فيه لوجود الله ولا لدين طلب الله من البشرية أن تعتنقه، ولا لنظام ولا لشرع رباني طلب الله من بني آدم أن يُخضعوا حياتهم له، ولا وجود لرسل من قِبَل الله عز وجل يطلبون من الناس عبادة الله وحده لا شريك له. ويفهم مما سبق انتفاء التكليف الإلهي للبشر، بل إذا أقروا بوجود خالق لهذا الكون، فإنهم يقولون: خلقه ثم حرّكه، ثم تركه، أي: أنه خلق الكون وحركة فالشمس تجري، والأرض تدور، والأقمار تسبح في الفضاء، ثم ترك العالم على هذا الأساس بلا تكليف ولا أمر ولا نهي.

خطر الدسائس التاريخية والغزو الثقافي على الأمة الإسلامية

خطر الدسائس التاريخية والغزو الثقافي على الأمة الإسلامية إذا تأملنا كيفية معالجة المستشرقين لتاريخ مصر والعراق وبلاد الشام والجزيرة العربية منذ أقدم الدهور، فهم عندما درسوا تاريخ هذه البلاد في القرون القديمة فإنهم يحذفون من حساباتهم ذكر الإسلام تماماً، ويهملون ذكر دعوات الرسل في حياة هذه الأمم التي سكنت تلك البلاد، وبهذا أصبحت جميع الأمم بلا استثناء تنظر إلى هذا الفترة من تاريخها على أنها خلقت وتركت هملاً، فلم تكن تعرف لها رباً ولا ترتضي لنفسها ديناً، بل أخذوا يرددون بأن الأصل في عقيدة أهل تلك الأقطار هي الوثنية، وأنهم تطوروا في الوثنية من التعدد إلى التوحيد، وأن أول الموحدين وذلك من تلقاء نفسه في التاريخ هو الفرعون أخناتون، أو أمنحتب الرابع، ويفخرون بـ أخناتون فخراً عجيباً جداً، فتجدهم في الأناشيد والأشعار والكتب يمدحونه على أنه أول مخترع للتوحيد، رغم أنه لم يكن توحيداً، بل كان شركاً نجساً خبيثاً. إنّ أخناتون هذا هو أول من إلى التوحيد بين آلهة ثلاثة في إله واحد، وقد أخذ النصارى عن قدماء المصريين أفكارهم الشركية أيضاً. فكان أمنحتب الرابع أو أخناتون يعبد القوة الكامنة وراء إله الشمس آتون، ويعتقد أن عبادته هي الحقيقة، وأنها هي الدين الصحيح، وأن هذه الفكرة انتقلت من مصر إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، أي: أن الإسلام ليس وحياً من عند الله تبارك وتعالى. فهذه من الدسائس التي تسمم قلوب الشباب والأجيال، فتتخرج أجيال بعد أجيال على هذه العقائد التي يُلحّ إلحاحاً في تحفيظهم إياها على أنها حقائق مسلمة، فلا شك أنه بذلك تنقطع رابطة هؤلاء الشباب بالإسلام. فالغزو في الحقيقة من كل جانب، فقد سمعتُ مؤخراً عن أشياء تُعرض في القنوات الفضائية مخالفة للشريعة، وقد يستهين بها كثير من الناس، وهناك أشياء كثيرة نستهين بها وهي تؤثر على نفسيات الأطفال أكثر، فالأشياء التي نستهين بها هي من أخطر الأشياء، فكثير من الناس يتهاونون مع ما يسمى بأفلام الكرتون، ويقولون: إن هذه تسلية للأطفال، وليس فيها رقص ولا غناء ولا أي منكرات! فأقول: كلا، بل فيها كثير من المنكرات، وهذا أنموذج من هذه النماذج سمعت عنه، فقد أتوا بقصة فيها: أن أباً وأماً وأولاداً خرجوا في رحلة جميلة، وكانوا في مركب في البحر، فجاءت عاصفة شديدة كادوا أن يغرقوا ويهلكوا بسببها، فأخرج الأب الذي هو رب الأسرة جهازاً لاسلكياً، واتصل بإله البحر؛ حتى يأتي وينقذه، فأتى هذا الإله وأنقذه من الغرق في الحال. وفي مناسبة أخرى تكررت نفس القصة، فقد وقع الولد في نفس الورطة وأشرف على الغرق، فماذا فعل الطفل الصغير؟ أخرج الجهاز اللاسلكي، واتصل بابن إله البحر، أي: الإله الصغير، فأتى ابن إله البحر وأنقذه. وأنا ما رأيتها، ولكني سمعت ذلك. فلا شك أنّ هذه رسالة من خلال أفلام الكرتون لإفساد العقيدة، وتهيئة الأولاد لقبول فكرة أنّ هناك إلهاً كبيراً وأن له ابناً، وأن كليهما قادر على أن ينقذك في الضراء وفي الكربات. إذاً: فمثل هذه الأشياء لا شك أنها تترك آثاراً خطيرة جداً، وخاصة أنها لا تقترن بما ينفر منها، بل العكس فإنها تقترن بما يرغب فيها من المحسنات والمزينات، فمثل هذه الحقائق كثير من المسلمين الجهلة ليس عندهم خبر بها، وما يشعرون بخطر التساهل في مثل هذه العقائد، فانظر إلى ما يدرسونه أبناءنا في التاريخ، يدرسونهم أن التوحيد أول من اخترعه هو: أمنحتب، أو أخناتون، ونفرتيتي، فإنهما عملا مع آتون شركة، ووحدوا هذه الآلهة الثلاثة في إله واحد وهو إله الشمس، فهذا أول اكتشاف بشري للتوحيد. ثم بعد ذلك انتقلت عقيدة التوحيد هذه إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، فانظر إلى هذا الربط في قولهم: حيث أقام إبراهيم دينه، فما معنى ذلك؟! معنى ذلك: أنّ أبا الأنبياء وخليل الرحمن سبحانه وتعالى وإمام الحنفاء -الذي أَمرنا الله سبحانه وتعالى أن نكون على ملته، والذي كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران:95]- اقتبس هذا التوحيد من مصر أم الدنيا، فهي التي نقلت التوحيد إلى إبراهيم الخليل، وعلى هذا الأساس أقام إبراهيم دينه، أي: أنّ الدين تأسيس بشري وليس له أصل إلهي. وتأكيداً على هذه المزاعم، فقد حرص علماء الآثار من المستشرقين على طمس أي قرينة أثرية، أو ملامح تاريخية تؤكد أن الله سبحانه وتعالى فطر البشرية على الإسلام، وارتضاه لها ديناً، وبعث به الرسل، وعندما تظهر قرينة رغماً عنهم تؤكد أصالة خط التوحيد في حياة البشر، فإنهم يعزونها إلى تطور الفكر البشري، فهم يزعمون أن الإنسان قد تطور في معتقده كما تطور في صناعته. فهؤلاء كما يسميهم كثير من الفضلاء: أصحاب منهج التجاهل والتجهيل، فهم يتجاهلون الحقائق، ويريدون أن يخرجوا جيلاً يتجاهل أيضاً هذه الحقائق، فهم متجاهلون ومجَّهلون لهذه الأجيال، ولا يستندون إلى أي دليل في هذه الفكرة الخطيرة سوى الجهل، والجهل لا يصلح أن يكون دليلاً.

الطرق العلمية الصحيحة في معرفة الأمور

الطرق العلمية الصحيحة في معرفة الأمور إن من خلال هذا التقديم قد رأينا أن مسالكهم التي يسمونها علمية لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، فإنّ العلم هو أن تصل إلى حقائق الأشياء على ما هي عليه في واقع الحقيقة، وعلى هذا الأساس فالحقائق الموجودة في الوجود لا تنحصر في الأمور المحسوسة.

المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور المحسوسة

المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور المحسوسة إن الأمور المحسوسة تعرف عن طريق المنهج العلمي المادي المعروف، وهو ما يسمونه بالمنهج التجريبي، وهذه الطريقة تعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج، فهذا محصور في دائرة الأمور الحسية فقط. فهذا ما يتعلق بالأمور التجريبية، فهي تخضع للحواس مثل: الذوق والشم والنظر واللمس وهكذا، فمن خلالها نصل إلى الحقائق الحسية، وهذا الجانب من العلم تركه الله سبحانه وتعالى للبشر يجتهدون في استخراجه واستنباطه، وإعمال عقولهم فيه، مع هدايته سبحانه وتعالى لهم.

المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور الغيبية الموجودة والماضية والآتية

المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور الغيبية الموجودة والماضية والآتية أما القسم الآخر وهو الأخطر فهو العلم بحقائق موجودة، أو قد وجدت من قبل، أو ستوجد في المستقبل، فهو علم بلا حدود، وهذا لا سبيل على الإطلاق للوصول إلى العلم به، وإدراك حقائقه على ما هي عليه إلا من خلال نافذة الوحي فقط؛ لأن الذي خلق هذه الأشياء هو الذي يخبرنا بذلك، وأما غيره فلا يمكن أن يخبرنا بحقائق ذلك. فلذلك عرفنا ما جرى في هذا الوجود قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، حينما أمر الله القلم فقال له: (اكتب). وعرفنا أن أول مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهو العرش. وعرفنا أن الجن كانوا يعيشون في الأرض قبلنا، وأنهم أكثروا فيها الفساد. وعرفنا قصة خلق آدم بالتفصيل، وإخراجه من الجنة، وسبب ذلك، وتوبة الله عليه. وعرفنا قصص جميع الأنبياء عن طريق هذه النعمة العظمى نعمة الوحي. كذلك نعرف ونجزم قطعاً بأحداث مستقبلية ستقع، لا لأننا نعلم الغيب، ولكن لأنه أخبرنا من يخبر عمن يعلم الغيب: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأخبرنا عن أشراط الساعة، وما سيحصل في آخر الزمان بتفاصيل دقيقة، فذكر فتنة الدجال، وأشراط الساعة الصغرى والكبرى بكل تفاصيلها، وما يعصمنا منها. وأيضاً هذا من العلم بالحقائق على ما هي عليه، وعلى ما ستكون عليه، ولا سبيل إلى ذلك إلّا عن طريق نعمة الوحي. وكذلك نعرف أن الجنة موجودة الآن، وأن النار موجودة الآن، وما صفتها وما عدد أبوابها، وتفاصيل أحوال أهل الدارين، وما سيحصل في يوم القيامة إلى آخر كل هذه التفاصيل، فهذا علم. وعرفنا صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله وما يتعلق بتوحيده عن طريق الوحي أيضاً، وهو أرقى وأشرف العلوم على الإطلاق. فإذاً: لا سبيل لإدراك هذه الحقائق إلا عن طريق الوحي، فالقوم في مناقشتهم وبحثهم في هذا الأمر، ووسائلهم في ذلك، لا يمكن أبداً أن تقدم جواباً شافياً يطمئن إليه القلب والنفس عن ديانة الإنسان الأول. فالمصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نستشرف هذا الغيب، وأن نقف على وجه الصواب فيه، هو الوحي الإلهي الذي يطلعنا على حقائق الماضي والحاضر والمستقبل التي تغيب عن عقولنا وحواسنا، إنه القرآن الكريم كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد.

ضرورة استمداد الحقائق التاريخية من القرآن الكريم

ضرورة استمداد الحقائق التاريخية من القرآن الكريم إن القرآن الكريم وحده فقط هو مصدر معرفة حقيقة تاريخ هذه العقيدة، فليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله تبارك وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع. وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً للأسباب التالية: الأول: أن ما نعرفه من التاريخ البشري قبل خمسة آلاف عام قليل، أي: لو أردنا أن نتعرف على حقائق التاريخ البشري فقط منذ خمسة آلاف سنة صعُب علينا جداً أن نصل إلى الأمور على حقيقتها. وأما ما نعرفه من أحداث لهذا التاريخ البشري قبل عشرة آلاف سنة فأقل من القليل، أما قبل ذلك فهي مجاهيل لا يدري علمُ التاريخ عنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقائق ضاع بضياع التاريخ الإنساني. السبب الثاني: أنّ الحقائق الموجودة لدينا عن تواريخ الأمم السابقة اختلطت بباطل كثير، بل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف. وأقرب دليل على ذلك أنك لو أردت أن تؤرخ لتاريخ جماعة معينة أو شخصية معينة حتى من العصر الحديث الذي نعيشه، لشق عليك أن تدرك الحقائق على ما هي عليه؛ لأنّه يدخلها الكثير من التحريف والدجل والأغراض الخبيثة التي تحاول أن توجه هذه الأمور لخدمة أشياء معينة. فكيف نصل إلى حقائق تاريخ يمتد إلى الفجر الأول لهذا البشرية. السبب الثالث: أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل وقع في السماء، وذلك ما وقع من خلق آدم عليه السلام، فإننا نرجع إلى فجر البشرية، وهذا بدأ بخلق آدم عليه السلام، ثم خلق حواء، ثم نزولهما من الجنة إلى الأرض. فمن أين سنصل إلى الجنة حتى نأتي بذلك التاريخ؟! وذلك إذا قلنا: إنها جنة المأوى. إذاً: فالذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيق لا لبس فيه هو الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فلنتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى، ولنأخذ هذه الحقائق بطريقة علمية موضوعية. أول هذه الحقائق التي نستنبطها من القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، فآدم عليه السلام لم يتطور من غيره، وقد حطمت العلوم الحديثة فكرة التطور تماماً، فصارت الآن هذه الفكرة خرافة، خاصة بعد تطور علم الوراثة وعلم الجينات، فقد انهارت تماماً نظرية دارون الدجلية من أصلها. فنحن نؤمن من خلال القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم منذ أول لحظة خلقاً كاملاً سوياً مستقلاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأنه خلقه لغاية محددة وهي عبادة الله تبارك وتعالى وحده، وأنه عليه السلام خلق مؤهلاً لذلك، فقد كانت عنده أهلية كأكمل ما تكون عليه الأهلية؛ حتى يخاطب بتكليف الله سبحانه وتعالى، ولم يكن أبله، وكذلك لم يكن متخلفاً عقلياً أو شبيهاً بالوحوش وقرود الشمبانزي والغوريلا، بل خلق آدم عليه السلام في أكمل صورة، والدليل على أنها كانت أكمل وأجمل صورة، أن أهل الجنة يدخلون الجنة على صورة أبيهم آدم. إذاً: فآدم عليه السلام خلق مؤهلاً للخطاب الإلهي، ولم يتركه سبحانه وتعالى لفكره كي يتعرف على ربه بطريقة التفكير والتأمل، بل عرفه سبحانه وتعالى على نفسه منذ البداية، فآدم عليه السلام منذ أول لحظة كان يعرف ربه، فالله سبحانه وتعالى عرفه على نفسه، ولم يترك له فرصة أن يتأمل ويتدبر في السماوات والأرض وفي المخلوقات؛ حتى يهتدي إلى التوحيد عن طريق التفكر والتأمل. فقد دلت آيات القرآن المجيد على أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، فتميز آدم على الملائكة بهذا العلم الذي علمه الله إياه، ثم أسكنه الله تعالى الجنة هو وزوجه، يقول عز وجل: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]، فقول الله عز وجل: (يَا آدَمُ اسْكُنْ) هذا تكليف، وقوله (وَلا تَقْرَبَا) أي: لا تفعلا، فهذا يدل على أنه مؤهل لأن يخاطب. فهل يخطر في بال عاقل أن يكون هذا المخلوق المكرم المعلم بالأسماء كلها لم يعرف الله سبحانه وتعالى؟! وآدم عليه السلام يرى الملائكة يسبحون الله ويحمدونه ولا يفترون عن ذكره، مع أن الله سبحانه وتعالى أمره وزوْجه بسكنى الجنة، والأكل من حيث شاءا إلا شجرة واحدة نهاهما عنها وحذرهما من قربها. وقد أخبر الله تعالى آدم عليه السلام بعدوه وعدو زوجه إبليس لعنه الله، وأن مغبة طاعة إبليس خروجهما من الجنة، وحصول الشقاء لآدم {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] فهذا تعليم وتحذير. وآدم عليه السلام لم يعصِ الله سبحانه وتعالى متعمداً، يقول عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن فعل إبليس: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]. وقد جاء في كتب التفسير: أنّ آدم عليه السلام صدق إبليس قوله: (وَقَاسَمَهُمَا) أي: حلف لهما: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ). {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]، فكان أبونا آدم يحب أن يبقى في الجنة، فأتاه إبليس من باب الحرص، وقال له: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) فحلف لهما أنه صادق، فلم يتخيل آدم وحواء عليهما السلام أبداً ولم يرد على خاطرهما أن مخلوقاً يحلف ويقسم بالله ويكون كاذباً، فهذا غير وارد عندهما؛ ولذلك صدقاه، ولم يتذكرا تحذير الله سبحانه وتعالى لهما من قبل. قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22]. وجاء في الحديث الصحيح: (أن آدم عليه السلام لما سقطت الثياب عنه وبدت له سوأته، ظل يجري ويتوارى، فقال الله سبحانه وتعالى له: تفر مني، فقال آدم -كما في معنى الحديث-: رب إني استحييت!) أي: أنه استحيا من الله سبحانه وتعالى، ومعنى هذا أنه كان مدركاً، وكل ذلك يدل على أن الإنسان الأول كان في أكمل درجات الوعي والإدراك والأهلية للتكليف بالتوحيد، وعبادة الله سبحانه وتعالى. وبعد ما حصل من مخالفة آدم وحواء عليهما السلام قال تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، أي: أدرك آدم وحواء بعد وقوعهما في المنهي عنه أثر المعصية وشؤمها، فندما على ما حصل منهما، وتوجها إلى الله تعالى طالبين مغفرته ورحمته، معترفين بالذنب وبظلم النفس، قال عز وجل عنهما: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. فهل هذا كلام من يعرف ربه، أم أنه كلام من يمشي كالغوريلا والشمبانزي، ويفكر مثلهما؟! إنّه كلام موحّد يعرف ربه كأكمل ما تكون المعرفة، فهو نبي عليه السلام. وقال عز وجل في الآية الأخرى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].

ما جاء في التوراة من تزوير وتحريف في قصة آدم وحواء عليهما السلام

ما جاء في التوراة من تزوير وتحريف في قصة آدم وحواء عليهما السلام إن ما وجد في التوراة من قصص تتعلق بهذه الأحداث، فكلها تزوير وكذب وافتراء على الله سبحانه وتعالى، وهم ينسبون الخطيئة إلى حواء فقط؛ لأن حواء هي التي أغرت آدم بتلك الخطيئة، ولذلك يقولون: إنّ المرأة مصيبة وهي وراء كل شر وبلية، إلى آخر ما ينسبونه إلى المرأة، وأعداء الإسلام والمنافقون هنا في بلادنا يعزفون على نفس الوتر، فيقولون: الأديان كلها تعادي المرأة وتحتقرها وذلك انطلاقاً منهم من أن حواء هي سبب الخطيئة، فعليها أن تغطي رأسها عاراً؛ لأنها سبب العار والأذية للبشر، وسبب إخراجهم من الجنة، فعندهم أن الأديان تحتقر المرأة، وهذا من الكذب على الله سبحانه وتعالى، وسببه التأثر بقصص هذه الكتب المحرفة. فهم حرفوا هذه الكتب، وزعموا أن آدم عليه السلام لما ارتكب هذه الخطيئة طرده الله من الجنة وغضب عليه، والسبب كما هو في كتبهم أن الله سبحانه وتعالى نهاه عن شجرة معينة، وهي: شجرة المعرفة والعلم والبصيرة، فهم دائماً عندهم تصوُّر أن الدين ضد العلم، وأن الإله يكره أن يكون عند العباد علم ومعرفة، لذلك فتصوُّر اليهود والنصارى لهذه القضية يعكس كذبهم على الله سبحانه وتعالى، فهم يقولون: إن هذه الشجرة هي شجرة العلم والمعرفة، ولو أكل منها آدم عليه السلام فإنه سيحصل على علم وبصيرة، فالله تعالى يخاف معاذ الله من الإنسان أن يتفتح عقله فيدرك الأمور على حقائقها؛ فلذلك نهاه أن يأكل منها. فالذي ألف هذه القصة انطلق مما في ذهنه من العداوة بين الإله وبين العلم والمعرفة، فلذلك لما خالف آدم عليه السلام هذا النهي وأكل من الشجرة تحصل على العلم والبصيرة؛ لأنه أكل من شجرة المعرفة، فعاقبه الله وغضب عليه وطرده من الجنة، وليس هذا فحسب، بل هم لا يذكرون أبداً أن آدم عليه السلام تاب، ولا أن الله سامحه وعفا عنه، ولا يعتقدون هذا، بل يعتقدون أن البشرية كلها تولد ومعها الخطيئة الأصلية، فكل مولود يولد عندهم ملوثاً بخطيئة آدم الأصلية، ولا يولد على الفطرة كما أخبرنا سيد البشر عليه الصلاة والسلام. فكلنا نرث هذه الخطيئة من آدم، ونصير مستحقين للخلود في جهنم، بل يقولون: إن البشرية منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض إلى الصلب المزعوم -للمسيح عليه السلام -كانت ملوثة بخطيئة آدم، وأن جميع الأنبياء كانوا محبوسين في سجن جهنم، وهذا في كتبهم المحرفة أيضاً. فهذا يعني أنّ موسى وهارون ونوحاً وكل الأنبياء قبل عيسى إذا ماتوا فإنهم يدخلون جهنم؛ بسبب خطيئة آدم، وأنه ليس هناك طريقة كي يعفو الله عن البشرية، أو يكفر عنها خطيئة آدم إلا أن ينفصل جزء عن الإله فيحل في رحم امرأة، ويبقى هناك تسعة أشهر ثم يخرج ويكبر إلى آخره، وفي آخر الأمر يصلب ويكون ضحية؛ كي تذهب هذه الخطيئة، ومع ذلك فهي لم تذهب، فهم يعتقدون أن كل مولود يكون ملوثاً بخطيئة آدم حتى بعد عملية الصلب المزعومة المكذوبة، وقد ذكرنا أنّ بعض الكنائس لها أراضٍ موقوفة لدفن النصارى، فإذا مات الشخص وكان أبواه نصرانيين، ولم يكن قد عمد قبل موته، فإنهم لا يسمحون بدفنه في وسط النصارى؛ لأنه لم يدخل في دين النصرانية، فهو مازال ملوثاً بالخطيئة. إنّ النبي صلى الله عليه وسلم يبشرنا في كثير من الأعمال الصالحة بمغفرة الذنوب، وأننا نرجع كالطفل الذي ولدته أمه نقياً وطاهراً منها، فيقول: (من حج ولم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فيضرب المثل بنقاء الطفل وطهارته من الذنوب فهذه أكبر منّة من الله سبحانه وتعالى أن يعود الإنسان طاهراً تماماً من الذنوب كالطفل، وحتى قبل التكليف فالإنسان يكون طاهراً، فلو بلغ إنسان وكلّف في سن الثالثة عشرة مثلاً فقبلها لم يُكتب عليه شيء من الأوزار، لكن انظر الحديث كيف خصّ المولود بالذكر: (كيوم ولدته أمه) وذلك مبالغة في طهارته من كسب أي ذنب.

سبب الصدام الذي حصل بين العلوم الحديثة وما كانت تثبته الكنائس وسلامة ديننا من ذلك

سبب الصدام الذي حصل بين العلوم الحديثة وما كانت تثبته الكنائس وسلامة ديننا من ذلك إن عند النصارى أشياء تصادم الفطرة أصلاً، ولهذا لما ظهرت الثورة العلمية في الغرب صار كثير من العلماء والناس يعلمون كثيراً من الحقائق العلمية والتجريبية، ثم أخذت تلك العلوم بالتقدم والتطور، فبدأ الناس هناك يشعرون بالتصادم بين كثير من الحقائق العلمية وبين كثير من تلك العقائد الفاسدة التي كانت تبثها الكنائس، فكيف تقبل بمثل هذه العقيدة أن الله لا يتوب عليك إلا إذا فضحت نفسك، وذهبت إلى القسيس وجلست على كرسي الاعتراف، فتحكي له جميع تفاصيل الفاحشة، ثم يتوسط القسيس بينك وبين الله، فهذه العقيدة ترفضها الفطرة، ثم يعطونهم صكوك الغفران، ويقطعون لهم إقطاعات في الجنة، ويدعون لهم، ثم فوق هذا كله فقد مارست الكنيسة القهر والحرب الشديدين ضد أي عالم يكتشف نظرية جديدة، فقد قامت بحرقهم أو إعدامهم كما فعلوا مع نيوتن ومع جاليللوا وغيرهما، فهناك حوادث كثيرة جداً من الصدام، ولذلك رفض الغرب هذا الدين، وأما ديننا الإسلامي فلم يحصل في يوم من الأيام صدام بين الإسلام وبين العلم، ولا يمكن أن يقع، ونحل هذه المعادلة ببساطة وسهولة شديدة فنقول: إن الذي أنزل القرآن والوحي هو الله، والذي خلق حقائق الكون هو الله، فلا يمكن أن تتعارض حقيقة علمية مع آية أو حديث؛ لأن هذه مصدرها هو الله تعالى، فهو الذي خلق وهو الذي أنزل القرآن، لكن قد يحصل تعارض نتيجة خطأ في فهم الآية أو النص، أو يكون الحديث نفسه ضعيفاً وغير ثابت مثلاً، أو تكون القضية العلمية التي تتكلم عنها ما زالت نظرية، ولم تصل بعدُ إلى مرتبة الحقائق.

توبة آدم وحواء عليهما السلام إلى الله تعالى

توبة آدم وحواء عليهما السلام إلى الله تعالى إن تلك الكلمات التي تضرع بها آدم عليه السلام إلى الله تبارك وتعالى توبة وإنابة لا تكون إلا بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. فآدم عليه السلام توسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وهذا هو طريق الدعاء والمناجاة، وكان هذا قبل أن يهبطه الله تعالى إلى الأرض كما هو رأي بعض العلماء. فبعد أن أهبطه الله إلى الأرض ذكّره ثانية بعداوة إبليس له، وأنه مصدر شر له، وبين الله سبحانه وتعالى أنه لا نجاة لك يا آدم ولا لذريتك إلا بأن تتبعوا الوحي الإلهي. فهذه بكل سهولة حقائق هذا الوجود، يقول تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122]. إذاً: فقضية خطيئة آدم قد انتهت، والله تعالى يقول: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم:38 - 40]، وهذا في صحف إبراهيم وموسى، أي: أنه كلام في الكتب السابقة. فخطيئة آدم عليه السلام انتهت، فقد تاب الله عليه بعدما تاب هو إليه سبحانه وتعالى. ولكن هذه المصيبة وهذه المعصية كانت سبباً في إنزال آدم إلى الأرض، لكن هل معنى ذلك أن الله لم يغفر لآدم؟ كلا، فقد انتهت خطيئة آدم تماماً، أما عملية التوريث وأن البشرية تورث هذه الخطيئة، ولا توجد طريقة تطهر الإنسان منها غير التعميد والتغطيس، فهذه الخرافات والأساطير أخذوها من الهنود وقدماء المصريين، فهذه العقيدة بكل تفاصيلها موجودة في المراجع الوثنية القديمة وفي أديان كثيرة، وهناك كتاب رائع في هذا الباب اسمه: (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية). فإنه يأتي بكل جذور الشرك التي أُخذت منها هذه العقيدة الخبيثة. فالشاهد قوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:122 - 124]. وقال عز وجل حاكياً عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]. إذاً: فهذه هي الحقيقة الأولى في تصحيح هذه المزاعم التي ذكرناها وهي: أنّ الله عز وجل خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، وأنه بيّن له وظيفة محددة وهي: عبادته وحده لا شريك له، وأن آدم عليه السلام كان مؤهلاً لذلك، وأنه عرَّفه على نفسه منذ البداية، ولم يتركه ليتعرف عليه بطريقة التفكير والتأمل.

كل مولود يولد على فطرة التوحيد والإسلام

كل مولود يولد على فطرة التوحيد والإسلام

حقيقة الفطرة التي يولد عليها المولود

حقيقة الفطرة التي يولد عليها المولود إن المولود يولد على الفطرة والفطرة هي الإسلام، لكن هل معنى ذلك أننا ندعي أنّ هذا الطفل الذي عمره سويعات قليلة يعرف أسماء الله وصفاته، ويعقل الرسالة وأدلتها والصلاة والزكاة؟! A لا، نحن لا ندعي ذلك، وإنما نعني سلامة القلب وإرادته للحق الذي هو الإسلام، بحيث إن هذا الطفل لو ترك في نموّه الطبيعي من غير أن يخضع لمؤثر خارجي من الشياطين أو من الوالدين أو نحو ذلك، لما كان إلا موحداً مسلماً. فهذه القوة العلمية والعملية تقتضي الإسلام مالم يمنعها مانع، كمؤثرات البيئة وتقليد الأبوين، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها. فعند نمّو الطفل رويداً رويداً تبدأ هذه الفطرة تتحرك في أعماقه، ومع النمو تبدأ فطرة هذا الطفل تستيقظ وتتنبأ، وتجذبه بكل قوة نحو الحقيقة العظمى، ومن ثَم نلاحظ أنه في مرحلة معينة يبدأ الطفل بالسؤال عن بعض الأمور، وكلما كان الطفل نبيهاً وذكياً ستجد أنّ هذه الأسئلة تظهر مبكراً. فيبدأ بإلقاء أسئلة لا تكاد تنتهي، فيسأل والديه عما يحيط به: من رفع السماء؟ ولماذا هي زرقاء؟ وأين تذهب الشمس ليلاً؟ ولماذا لا تظهر الشمس في الليل؟ وأين يذهب النور حين يحل الظلام؟ ولماذا تتلألأ النجوم؟ وأين تنتهي الأرض؟ ولماذا تفوح الروائح العطرة من بعض الأزهار دون البعض الآخر؟ ومن أين أتيتُ؟ وأين كنت قبل أن آتي إلى هذه الدنيا؟ وغير ذلك من الأسئلة التي كلنا نحفظها وكلنا يعرفها فهذه الأسئلة كلها أمارات تدل على أن الفطرة بدأت تستيقظ، ولذلك فالله سبحانه وتعالى من حكمته أنه لا يكلف الإنسان قبل سن البلوغ؛ لأن البلوغ يعبر عن ترجمة للنمو والنضج البدني، ويقارنه النضج العقلي الذهني والفكري، فهو في هذه السن يصبح مكلفاً، ويجري عليه قلم التكليف بمجرد البلوغ؛ لأنه الآن صار مهيئاً ومؤهلاً، فعليه أن يتفكر ويدرك. فما الذي يدفع هؤلاء الأطفال إلى إلقاء هذه الأسئلة؟ إنها الفطرة المغروسة في أعماق نفوسهم، تبدأ بالاستيقاظ والتحرك والتعرف على خالق الكون وما في هذا الكون، وكلما نمت ملكاته وزاد علمه اطمئن قلبه للإيمان بالله وحده لا شريك له.

موجبات الفطرة ومقتضياتها

موجبات الفطرة ومقتضياتها إن موجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً بحسب كمال هذه الفطرة واستعدادها، وبحسب سلامتها من المعارض، فكل مولود يولد على الإقرار لفاطره ومحبته والإذعان له بالعبودية، فلو ترك بلا معارض ولا حجاب لم يعدل عن ذلك إلى غيره. كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال عز وجل: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). فهل هذا الطفل درس ميكانيكة عملية الرضاع؟! فنحن لو تأملنا في الميكانيكة التي يتم فيها عملية الرضاع لوجدنا هذا الطفل وكأنه درسها دراسة متقنة، فمن علمه؟! لقد علمه (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) وهذه هي الهداية العامة التي تكلمنا عليها في القضاء والقدر، وهي المرتبة الأولى من مراتب الهداية الأربع. فهذه النملة، اعمل معها مرة عملية مطاردة، وحاول أن تقتلها فماذا ستفعل؟ إنّها تحاول أن تهرب، فمن الذي هداها إلى هذا؟ إنّها هداية الله سبحانه وتعالى. ادرس مملكة النحل وما فيها من العجائب، من أين للنحل هذه العلوم كلها؟! إنّ هذه من آيات الله العظام، فهذه حشرة أو طائر بسيط، من الذي يلهمه البحث عما ينفعه، والحرص عليه، والاجتهاد في دفع ما يضره؟ إنّه الله سبحانه وتعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وكذلك الفيروسات والبكتيريا، من الذي يهديها إلى هذه الهدايات التي نعرفها؟ إنّه الله سبحانه وتعالى. فكما أننا نعترف أن الطفل عنده أنواع معينة من الهدايات، يغرسها الله سبحانه وتعالى في نفسه ويفطره عليها، فكذلك فيما يتلقى بفطرة التوحيد، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتدياً إلى حب ما ينفعه وجلْبهِ، وبغض ما يضره ودفْعِه، ثم هذا الحب والبغض يحصلان فيه شيئاً فشيئاً حسب حاجته، لكن قد يعرض لبعض الأبدان ما يُفسد ما خلق عليه من الطبيعة السليمة، والعادة المستقيمة. وهكذا ما ولد عليه الإنسان من الفطرة، فقد يطرأ عليها ما يصيبها، ولهذا شبهت الفطرة باللبن، بل كانت نفسها هي اللبن، وذلك في تأويل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حين عُرض عليه ليلة الإسراء اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل له: (أصبت الفطرة، أو هديت للفطرة). فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه به دون غيره كمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها، فكما أن هذا الطفل الذي يولد غذاؤه الوحيد هو اللبن، وصلاح بدنه لا يكون إلا باللبن، ولو أتيت له بأفخم المطعومات وأغلاها وأثمنها كاللحوم وغيرها فإنها تضره، وقد تهلكه؛ لأن البدن في هذه المرحلة لا يستطيع تحمل ولا هضم هذه الأطعمة، فالشيء الوحيد الذي يصلح له هو هذا اللبن، فالفطرة بالنسبة لقلبك وصلاحه كاللبن بالنسبة لبدنك. فلذلك ربط في الحديث بين الفطرة وبين اللبن، وهذا يتعلق بمن تسلم فطرته وتنجو من مؤثرات البيئة من حوله. أما الذي تفسد فطرته بعوامل البيئة المحيطة به، فإنه ينشأ على عقائد منحرفة أجنبية عن فطرته السوية، فأي انحراف عن الإسلام فهو خلاف الأصل، فالأصل هو التوحيد، والشرك طارئ، لا كما يزعم الجهلة الكذابون الدجالون من أن الشرك هو الأصل، وأن الإنسان بطبيعته مشرك، كلا، بل الإنسان بفطرته موحّد كما بينا. يقول الله تبارك وتعالى في المنافقين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]، فجعل الهدى هو رأس المال الحاصل عندهم، إلا أنهم عرّضوه للزوال فخسروه، وذلك حين بدلوا هذه الفطرة المستقيمة القريبة منهم، واشتروا بها الضلالة البعيدة عنهم، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. إذاً: فما هو الهدى الذي كان عند المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى؟ إنّه الفطرة.

موانع الانتفاع بالفطرة السليمة

موانع الانتفاع بالفطرة السليمة إنّ مثَل الفطرة مع الحق كبصر العين مع الشمس، فكل ذي عين مبصرة لو تركت عينه بغير حجاب عليها فإنه يرى الشمس، فالعقائد الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية مثل الحجاب على العين، فهي تحول بين البصر وبين رؤية الشمس، كما أن كل ذي حس سليم يحب الحلو إلّا أن يعرض في طبيعته فساد يجعل الحلو في فمه مراً، فيقول: أنا أشرب العسل فأجد أنه مر، فنقول له: أنت فيك فساد في حاسة الذوق في لسانك، فالأجزاء الحسية في اللسان فيها آفة، أو عندك سبب آخر، فالأذى فيك أنت، وأما العسل فهو هو، فكذلك العين السليمة يستطيع الإنسان أن يرى بها الشمس، لكن قد تأتي الحجب فتحول دون رؤيتها، والعين نفسها مستعدة لتتقبل ضوء الشمس وتعترف به، لكن الحواجز الموجودة تحجب الرؤية، كما يقول الشاعر: ومن يكن ذا فم مرّ مريض يجد مراً به الماء الزلالا أي: بعض الناس يصيبه مرض، فيقول: أنا أشرب الماء وأطعمه مراً، فهذا آفته في نفسه، وليست في هذا الماء الزلال.

قصة تتعلق بالفطرة

قصة تتعلق بالفطرة وأذكر أني سمعت شريطاً لأحد الإخوة كان نصرانياً وأسلم، وذكر في قصة إسلامه السبب الذي فجر قضية الإسلام في ذهنه، وظلت في ذاكرته إلى أن نضج وكبر، ثم انتهى الأمر ولله الحمد إلى إسلامه، وهو من الدعاة إلى الإسلام الآن. قال هذا الأخ: إن أباه تأخر جداً في اصطحابه إلى القسيس كي يقوم بعملية التعميد أو التغطيس، ومعروف أن التعميد لا يكون إلّا بأن يتجرد الإنسان من ثيابه تماماً سواء كان رجلاً أو امرأة، ولو كان ابن عشرين أو ثلاثين سنة ولم يعمد بعدُ، فيحمله القسيس وأعوانه ويغطسونه في ماء خاص، والله أعلم ماذا في هذا الماء، ويقولون: إن فيه بركة وأشياء من الزيوت ونحوها، والله أعلم. المهم أن هذا الأخ لما اصطحبه أبوه كان عمره اثنتي عشرة سنة، ولم يكن قد عُمَّد بعد، فذهب مع أبيه إلى هذا القسيس لكي يعمدوه، فصرخ القسيس في وجه أبيه وقال له: صار الآن اثنتا عشرة سنة ولم تعمده بعدُ؟! أما تعلم أنه حتى الآن ما زال مسلماً؟! كيف تأخرت إلى الآن في تعليمه؟! فحفر هذا الكلام في ذاكرة الولد، فلما كبر سُّنه ظلت تلك الكلمات تحزّ في نفسه، فقال لنفسه لما أدرك ونضج: لو كان الله سبحانه وتعالى يعرف ديناً أفضل من دين الإسلام لفطرني عليه. فكانت كلمة هذا القسيس سبب إسلامه.

حقيقة الإسلام وعدم مصادمته للحقائق العلمية

حقيقة الإسلام وعدم مصادمته للحقائق العلمية إإن حقيقة الإسلام أن يستسلم العبد لله لا لغيره، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فيا سبحان الله! لو أنّ عاقلاً تأمل في حقائق هذا الدين، واعتبر نفسه محايداً لا علاقة له بالأديان، فتأمل وبحث عن صورة لعقيدة صحيحة، وأحكام كاملة، وقيم مثالية، ونظافة وطهارة، وكمال في كل شيء، فإنه لا يجد إلا الإسلام، فلا يمكن أن تكون هناك صورة أخرى للدين الصحيح في غير هذا الدين، وهذا كله يدرك بالعقل حتى دون الخوض في الأدلة الشرعية، فكل سؤال له في ديننا جوابه العلمي المنطقي الذي يقتنع به الإنسان. فلا يصادم الدين الإسلامي الحقائق العلمية أبداً، فهو الفطرة السليمة، وهو قيم وأخلاق ومُثُل عليا. فهذا هو معنى لا إله إلا الله، فالقلوب مفطورة على الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، ولو استرجع الإنسان من فترات طفولته المبكرة، لشعر أن قلبه في حالة افتقار إلى الله عز وجل. إنّ هذه القلوب لا تقنع أبداً، ولا تطمئن إلى أي محبوب سوى الله عز وجل، وكلما أحبت غير الله فإنها لا تقنع به، بل تنتقل عنه كما قال ابن القيم: لقد كان يسبي القلب في كل ليلة ثمانون بل تسعون نفساً وأرجحُ يهيم بهذا ثم يعشق غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح فلما دعا قلبي هواك أجابه فليس أراه عن خبائك يبرحُ إلى آخرها، وهي قصيدة جميلة في أوائل كتاب (طريق الهجرتين) للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. فالقلب لا يسكن ولا يطمئن إلا إذا عُمَّر بمحبة الله، وأما إذا عمَّر بغير ذلك فلا يمكن أن يجد سكينة أو راحة، بل قضى الله سبحانه وتعالى قضاء مبرماً لا يرد ولا ينقض أنّ من أحب غيره عذب به ولابد. فإذا أحبت القلوب الله سبحانه وتعالى ووحدته سكنت واطمأنت واستقرت {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

معنى الفطرة لغة واصطلاحا

معنى الفطرة لغة واصطلاحاً الفطرة في اللغة: مأخوذة من فطر الشيء يفطره، إذا شقه، فشقّ الشيء معناه فطره، وتفطر يعني: تشقق، والفطر هو الشق، وجمعه فطور، ومنه فطر ناب البعير، إذا نبت. وقال عز وجل: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، أي: انشقت، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كما في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) يعني: تتشقق. والفَطر هو الابتداء والاختراع، قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، يعني: خالقهما ومبتدئهما. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت لا أدري ما (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرت البئر، فهي بئري، يعني: أنا بدأتها. ففهم معنى الفطر من قول الأعرابي، فهذا من حيث اللغة. أما من حيث الاصطلاح، فالفطرة هي دين الإسلام. كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]. إن الحقيقة التي نستنبطها من القرآن في هذه القضية: هي أن كل مولود يولد على فطرة التوحيد، فقد دلتنا قصة آدم عليه السلام على أنه كان على عقيدة التوحيد، ودل القرآن الكريم والسنة النبوية على أن هذا لم يكن خاصاً بالإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، وإنما هو عام في كل مولود. يقول سبحانه وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. قال ابن كثير: أي: سدد وجهك واستمر واثبت على هذا الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية السمحة، ملة إبراهيم عليه السلام التي هداك الله لها، وكملها لك غاية الإكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فقد فطر الله تعالى العباد على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره. وقوله: (حَنِيفًا) يعني: مائلاً عن الأديان إلى الإسلام. وقد اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: ((لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) فقال بعض العلماء: إنها خبر بمعنى الطلب، كما تقول في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، فلفظه لفظ الخبر، لكن المقصود به الأمر أو النهي، أي: لا تضر غيرك سواء ابتداء أو على سبيل المقابلة. وكذلك مثل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فلفظه لفظ الخبر، والمراد به الطلب والتكليف، أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، بدليل أن الناس قد يرتكبون مثل هذا، فدل على أنه أمر شرعي إرادي، وليس أمراً كونياً قدرياً. إذاً: فقوله: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) خبر بمعنى الطلب، أي: لا تبدلوا خلق الله، ولا تحرفوا الناس عن فطرتهم. القول الثاني: أنها خبر على بابه، وليس المقصود بها الأمر أو التكليف، لكن المعنى أن الله سبحانه وتعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، فلا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بينهم في ذلك، فكل الناس يستوون في أنهم يفطرون على الفطرة المستقيمة السوية. لقد فسر البخاري قوله تعالى: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) قال: لدين الله، واستشهد أن قوله تعالى: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] يعني دين الأولين، ثم قال: الفطرة الإسلام. وقال سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، وزادها إيضاحاً في قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:19]. فهذه الآيات الكريمات تدل على أن الدين الحنيف هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأن ذلك هو الدين القيم الذي كان الناس عليه قبل أن يختلفوا. قال العلماء في تفسير قوله تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) أي: أن الناس بقوا عشرة قرون على الدين الحق، وذلك قبل حدوث التغيير وظهور الشرك، فبقي الإسلام والتوحيد ولم يطرأ شرك إلا بعد ألف سنة من وجود البشرية في هذه الأرض، ثم طرأ الشرك بعد ذلك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] رواه البخاري ومسلم. يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (ما من مولود) يعني: ليس هناك مولود من بني آدم. قوله: (إلا ويولد على الفطرة)، أي: على الدين الإسلامي، وذلك كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، وهذه الفطرة كما قال العلماء: هي الإيمان المعهود الذي أخذ الله عليه الميثاق من بني آدم، وذلك لما ضرب صلب آدم واستخرج منه كل ذريته عليه السلام، فأخذ عليهم الميثاق وهم في عالم الذر، وقال لهم:: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، فكل إنسان أخذ عليه هذا الميثاق، وقد يقول قائل: نحن الآن لا نذكر هذا الميثاق، فنقول: يكفي أن يخبرنا الوحي بوقوعه، فنؤمن بوقوعه كسائر أخبار الغيب التي أخبرنا الله عنها، فنصدقها وإن نسينا هذا الميثاق، ثم إنك تشعر في نفسك بهذا الميثاق وهذه الفطرة، فأنت تشعر أن قضية وجود الله سبحانه وتعالى مثلاً لا تحتاج إلى دليل بالنسبة للمؤمن السليم الفطرة، فلا تجد عنده جدلاً في قضية وجود الله، وإنما تجد الجدل في ذلك عند من تلوث بالشبهات والوساوس الشيطانية، ممن استمع لأهل الإلحاد والانحراف وأشباههم. فتجد أنّ أقوى دليل عند الإنسان على وجود الله هو الفطرة، وهذه مسألة غير قابلة للنقاش عنده؛ لأنّ هذه الفطرة مغروسة في الأعماق، فهذا أقوى دليل على أن الله خلقنا بفطرة، فنحس بالانجذاب إلى التوحيد، والإقرار بألوهيته تبارك وتعالى. وقال بعض العلماء في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أي: اثبت على إيمانك القديم الواقع منك في عالم الذر. وهذه الفطرة هي فطرة الإسلام، والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول بالعقائد الصحيحة. وتفسير الفطرة في الحديث وفي الآيات بالإسلام تدل عليه أشياء كثيرة وتؤيده وتثبت صحته، فالروايات المختلفة الألفاظ المتفقة المعاني والتي يفسر بعضها بعضاً تؤيد هذا، مثل رواية: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) كما في الرواية التي ذكرناها، وهناك رواية أخرى: (ما من مولود يولد إلا وهو على الملة)، أي: الملة الإسلامية الحنيفية، كما في (صحيح مسلم). أيضاً: مما يؤيد تفسير الفطرة بالإسلام قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بعدما ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) إلى آخر الحديث، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). فقد فسر أبو هريرة الحديث بالآية. وحكى أبو عمر بن عبد البر إجماع العلماء على أن المراد بالفطرة في هذه الآية هو الإسلام. وأيضاً: فتوى أبي هريرة رضي الله عنه، فقد سئل رضي الله عنه عن رجل عليه كفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ فقال: نعم؛ لأنه ولد على الفطرة. فاستدل أبو هريرة بالحديث السابق على أن هذه رقبة مؤمنة. وقال ابن شهاب الزهري: يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغية. يعني: من ولد الزنا؛ من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام فهو لا ذنب له، وإن كان أتى عن طريق الخطيئة فإنه يولد مبرأ من كل وزر. وأفتى الزهري رجلاً عليه رقبة مؤمنة أن يعتق رضيعاً؛ لأنه ولد على الفطرة. وقال الإمام أحمد: من مات أبواه وهما كافران، حكم بإسلامه، واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة). وأيضاً: قوله: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فقد ذكر الانحرافات التي تطرأ على الفطرة، وذكر أنواعها، وذكر تغيير الفطرة إلى ملل الكفر، ولم يذكر الإسلام، فلم يقل: أو يمسلمانه، ولكن قال: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فعُلم أنه يتحول عن الإسلام إلى غيره بفعل الأبوين أو غيرهما. وأيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)، فهذه إشارة إلى مثال أنتم ترونه في حياتكم وواقعكم، فالبهيمة خُلقت سليمة، ثم جُدعت بعد ذلك، أي: أنها تقطع أذنها، فهل تولد وهي مقطوعة الأذن؟ A الأصل أن البهائم تولد سليمة، وقطع الأذن شيء طارئ. فالتغيير هو الانحراف والنقل عن الأصل، فلذلك قال بعده: (هل تحسون فيها من جدعاء؟) إشارة إلى أن البهيمة خلقت سليمة، ثم جدعت بعد ذلك، فكذلك الولد يولد سليماً من الكفر، ثم يطرأ عليه الكفر بعد ذلك، فالعيب الذي طرأ على البدن يقابله العيب الذي طرأ على الدين وهو الكفر. فهذه الفطرة هي فطرة الإسلام، والسلامة من الاعتقادات الباطلة.

الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد

الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد إن ذلك الحديث الشريف الذي سبق ذكره وفيه: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) يؤكد أن الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد، وأنه يولد مهيئاً للعقيدة الصحيحة في فاطره وخالقه سبحانه وتعالى، وأما الشرك فهو انحراف يطرأ على هذا الأصل فيفسد الفطرة، وذلك بتأثير البيئة المحيطة به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأبواه يهودانه)، أي: يجعلانه يهودياً إذا كانا يهوديين. قوله: (أو ينصرانه) أي: يجعلانه نصرانياً إن كانا نصرانيين. وقوله: (أو يمجسانه) أي: يجعلانه مجوسياً إن كانا مجوسيين. والشاهد من الحديث أن الضلال عن فطرة الإسلام ليس من المولود، بل هو من مؤثر خارجي، فإن بلغ الحلم وبقي منحرفاً عن دين الفطرة بقي معه ضلاله، وإذا أسلم وجهه لله عز وجل انتفى عنه وعاد إلى الفطرة الإسلامية. لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً يؤكد معنى الحديث فقال: (كما تنتج البهمية) يعني: كما تلد البهيمة قوله: (بهيمة جمعاء) أي: تامة الأعضاء، وسميت جمعاء؛ لاجتماع أعضائها. (فالمولود يولد على الفطرة مثل نتاج البهيمة، فإنها تولد سليمة الأعضاء مكتملة). قوله: (هل تحسون فيها من جدعاء؟) أي: هل تبصرون فيها مقطوعة الأذن أو الأطراف أو الأنف، وإنما يطرأ عليها قطع الأعضاء بعد ولادتها سلمية. فكذلك الأبوان الكافران يغيران فطرة ولدهما، ويزينان له العقيدة الباطلة. وهذا الذي دل عليه الحديث النبوي الشريف قد دل عليه الحديث القدسي الذي رواه عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته حاكياً عن الله عز وجل أنه قال: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت عليهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً). فقوله تعالى في الحديث: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي: جمع حنيف، وهو الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحنف في الرِّجْلِ وهو ميلها إلى خارجها، فلا يقدر الأحنف أن يرد حنفه، والمقصود بالحنيف هنا: الذي يميل عن الأديان إلى الإسلام، فهذا الحديث يدل على أن الأصل في الآدميين هو الفطرة والتوحيد، وأن الشرك عارض طارئ. فهذا ما تيسر من الكلام في شرح قوله صلى الله عيله وآله وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟). ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] إلى آخر الآية، وهذا الحديث رواه الشيخان كما بينا. وللحديث إن شاء الله شيء من البقية، فهناك حقائق أخرى من القرآن فيها الرد على هذه المزاعم فيما يتعلق بالتاريخ الحقيقي لدين الإسلام ولفطرة التوحيد.

الأسئلة

الأسئلة

شبهة والجواب عنها

شبهة والجواب عنها Q احتج القائلون بالتطوير على زعمهم بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو: (كان خلق آدم ستون ذراعاً في السماء، ثم تناقص الخلق حتى وصل إلى هذه الحالة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فما الرد الصريح على هذه الشبهة؟ A طول الإنسان الآن يقرب من متر ونصف أو أكثر، فهل في هذا تصحيح لنظرية التطور الكذابة؟! فقد عكسوا كل شيء، فقالوا: إنّ الأصل في الإنسان هو الشرك، ونحن نؤمن أن الأصل في الإنسان هو التوحيد، وكذلك هنا في مسألة البنية والجسم، فالذي حصل هو عملية انحطاط في الجانبين: في العقيدة، وفي البنية، ففي العقيدة الأصل هو التوحيد، ثم طرأ الشرك، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا} [البقرة:213]، فالشرك طارئ كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً، وأما في بنية البدن نفسه، فهذا الحديث يثبت أن آدم عليه السلام كان في أكمل وأقوى وأجمل صورة، ستون ذراعاً في السماء، يصل تقريباً إلى ارتفاع عمارة مكونة من أربعة عشر دوراً، فهذه خلقة آدم، فلا يزال طول الخلق ينقص إلى اليوم، فهذا يدل على أن بنية الإنسان أيضاً حصل فيها عملية انحدار ونقصان، لا تطور كما تزعم نظرية التطور. وصلى الله على عبد ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نظرة في تاريخ العقيدة [2]

نظرة في تاريخ العقيدة [2] لقد خلق الله تبارك وتعالى أبانا آدم عليه السلام خلقاً كاملاً سوياً في التفكير والتدبير والفهم والمعرفة، فلم يجعله خلقاً متوحشاً، ولا مخلوقاً ناقصاً في العقل شبيهاً بالقرود والحيوانات كما يزعم ذلك من لا خلاق له في العلم والعمل. ثم بعد ذلك عرّفه الله على نفسه، وأمره ونهاه، ولم يتركه إلى عقله وفهمه ليكتشف التوحيد والدين عن طريق التجارب والممارسة، بل علمه الله كل شيء، والأدلة متكاثرة ومتواترة على ذلك، فتباً لعقول معكوسة، وفهوم مركوسة لا تفهم الأمور إلّا بالمقلوب، فصيرت الإنسان قرداً وحيواناً، وجعلت البقرة والفأر إلهاً ورباً معبوداً!!

نبذة مختصرة عن تاريخ العقيدة وأهم مصادرها

نبذة مختصرة عن تاريخ العقيدة وأهم مصادرها الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلّا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد شرعنا في الأسبوع الماضي في دارسة البحث المتعلق بتاريخ العقيدة وتاريخ الدين، وذكرنا التخبط الذي يحصل من بعض الباحثين في هذا الباب؛ نتيجة اعتمادهم على أشياء لا يجنون منها سوى التخبط والجهل، ولا تصلح أن يقوم عليها العلم والبحث في طبقات الأرض، أو في تواريخ الأمم القديمة من خلال الحفريات والآثار، أو في تاريخ -كما يزعمون- الأمم المعاصرة، أو الأمم غير المتحضرة، فهي تعكس في زعمهم ما كان عليه الإنسان الأول في عقيدته. وانتهينا إلى أنه لا يوجد هناك مصدر نستطيع من خلاله أن ندرك هذه الأمور على حقيقتها سوى القرآن الكريم. وقلنا: إننا في هذا الباب إذا تأملنا القرآن خرجنا بعدة حقائق، وذكرنا أولى هذه الحقائق وهي: أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأنه خلقه لغاية محددة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن آدم عليه السلام كان مؤهلاً لعبادة الله، ولفهم هذه الرسالة، وللتعرف على ربه عز وجل، وأن الله سبحانه وتعالى عرّف آدم على نفسه منذ اللحظة الأولى، ولم يتركه لفكره وعقله ليتعرف على ربه بطريق التفكير والتأمل، وإنما عرّفه الله سبحانه وتعالى بنفسه منذ الوهلة الأولى، وذكرنا الأدلة على ذلك من القرآن الكريم. ثم تعرضنا للحقيقة الثانية التي نستطيع استنتاجها من القرآن الكريم في هذا الباب وهي: أن كل مولود يولد على فطرة التوحيد، ويولد مهيئاً لقبول عقيدة التوحيد والإسلام. وشرحنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟). ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]. ثم بيّنّا أن هذه الفطرة لا بد أن تكون هي فطرة الإسلام لا غير، وذكرنا الأدلة على ذلك. كذلك ذكرنا قول الله تعالى في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).

الأصل في تاريخ البشرية هو التوحيد والإسلام

الأصل في تاريخ البشرية هو التوحيد والإسلام كنا قد تعرضنا ضمن الكلام السابق إلى أن التوحيد هو الأصل وأن الشرك طارئ عليه، فاعلم أخي المسلم أنّ التوحيد هو الأصل في تاريخ البشر، كما أن التوحيد مركوز في فطرة كل مولود، فهو الأصل بصفة فردية، وكذلك فيما يتعلق بتاريخ البشرية كلها، والشرك طرأ على الأمم بعد ذلك. فتاريخ الأمة الإسلامية ليس كما يزعم بعض الناس أنه يبدأ من القرن السابع الميلادي ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنّ هذا خطأ فادح، بل إنّ تاريخ الديانة الإسلامية لم تبدأ بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ أربعة عشر قرناً، وإنما بدأت منذ الفجر الأول للبشرية، وذلك مع خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فاللبنة الأولى في تاريخ البشرية والمكونة من آدم وحواء وذريتهما كانت مفطورة على الإسلام، وكذلك كل من جاء بعدهم من الأنبياء والرسل الذين كان لهم شرف حمل رسالة الإسلام، كلهم كانوا على متن هذا الدين، وقد استجاب لهم أقوام عاشوا للإسلام وبالإسلام، ومنهم تكونت أمة الإسلام. إذاً: فالأمة الإسلامية لم تبدأ هذه البداية منذ أربعة عشر قرناً، ولكنها موغلة في القدم، وهي الأصل في تاريخ هذه البشرية كلها. ونزيد الأمر إيضاحاً وذلك بالتدليل من القرآن الكريم على هذه الحقيقة، وهي أن الجيل الأول من البشرية كان على التوحيد: فحينما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض، أنشأ الله من ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص، كما قال سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] يعني: كانوا على التوحيد وعلى الدين الحق، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، وهنا لا بد من أن نقدر كلمة نفهم بها السياق وهي فاختلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213]. وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أنبي كان آدم؟ قال: نعم، مكلَّم). يعني: كان نبياً مكلماً كموسى عليه السلام، كما في قوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]، فآدم ممن كلمهم الله سبحانه وتعالى، (قال: نعم، مكلم، قال: فكم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون) يعني: ألف سنة. أخرجه أبو حاتم بن حبان في (صحيحه)، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في (البداية والنهاية): هذا على شرط مسلم، ولم يخرّجه.

أول نشوء الشرك وسببه

أول نشوء الشرك وسببه جاء في (صحيح البخاري) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام) يعني: خلال الألف السنة الأولى كان كل من في الأرض ممن ينتمي إلى الجنس البشري على دين الإسلام، ثم بعد ذلك طرأ الانحراف، فأول انحراف عن العقيدة حصل بعد أن كان الناس أمة واحدة، وكان هذا الانحراف سببه هو الغلو في تعظيم الصالحين، فلم يزين الشيطان للبشرية الوقوع في الشرك بصورة صريحة واضحة، وإلا لسهل كشف أمره، ولكنه زينها لهم عن طريق الغلو في إظهار محبتهم للصالحين، فما زال بهم هذا الغلو والإفراط حتى رفعوهم إلى مرتبة الآلهة المعبودة، ففي (صحيح البخاري) من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]. قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد -أي: لم يعبدها الجيل الأول- حتى إذا هلك أولئك، وانتسخ العلم -يعني: ذهب العلم ودرج-، عبدت من دون الله تبارك وتعالى.

تحذير العلماء من الغلو في الصالحين

تحذير العلماء من الغلو في الصالحين إن العلماء رحمهم الله تعالى حذروا من الغلو في الصالحين والتعظيم لهم، وخصوصاً فيمن كان رئيساً أو زعيماً أو معظماً في قومه، فهذا يشتد الحذر والاحتياط في حقه أكثر من غيره، فلا يجيزون التصوير واتخاذ الصور أصلاً، ويزداد الأمر إذا كانت صوراً لأئمة أو معظمين في الدين؛ سداً لذريعة الإشراك بهم، والحديث يطول جداً إذا أفضنا في بيان هذا الأمر، وانعكاسه على واقعنا في هذا الزمان، ووقوع الناس في كثير من الشرك بسبب التساهل في تعظيم الصالحين، حتى صاروا يعبدون الموتى، ويطوفون بهم، ويجيئون لقبورهم، ويصفون بها، وينذرون لها النذور، فكل هذا شرك صريح وخروج من ملة الإسلام بلا شك. فيظهرون كل هذا في ثوب التوحيد، وباسم الإسلام، وباسم التقرب إلى الله بمحبة الصالحين، حتى وصل الأمر إلى أنه وجد في دمنهور ضريح مدفون في مسجد، وهذا الضريح هو ضريح أبي حصيرة، وهو رجل يهودي، واليهود الآن بعد ما حصلت معاهدة السلام صاروا يأتون من فلسطين المحتلة إلى دمنهور كي يحجوا إلى هذا الضريح مع المسلمين، فهؤلاء يعظمونه وهؤلاء يعظمونه، فإذا كنتم تعظمون يهودياً مدفوناً في هذا المسجد فماذا بعد هذا؟! وأي دليل تطلبون واليهود يشدون إليه رحالهم؟!! وهكذا، فإنّ أكثر هذه المقابر والأضرحة مبنية على أوهام وخيالات، وذلك مثل قبر السيدة زينب، فمتى دخلت السيدة زينب إلى مصر؟! وأين دفنت؟ وإذا رجعنا إلى التاريخ نجد أن رجلاً كان في ناحية المكان يوزع فيه الماء فرأى هذا الرجل في المنام أنّ السيدة زينب أتته وقالت له: ابن لي ضريحاً في هذا المكان. فقام الرجل وبنى لها ضريحاً وهمياً لم يُدفن فيه أحد أبداً، فكثير من هذه الأضرحة وهمية. وكذلك قبر الحسين، وُيدعى وجوده في أكثر من خمسة أماكن في العالم الإسلامي، ففي سوريا هناك قبر، وفي العراق، وفي كذا وكذا قبر، وهو مقام الحسين رضي الله تعالى عنه. إذاً: فهذه البضاعة لا تروج إلا في سوق الجهل والأمية والغلو الذي لم تنج منه حتى هذه الأمة.

سبب إرسال نوح إلى قومه وجداله لهم

سبب إرسال نوح إلى قومه وجداله لهم إنّ أول انحراف وجد في تاريخ البشرية عن التوحيد هو ما حصل من قوم نوح، وذلك بسبب الغلو في تعظيم الصالحين، فأرسل الله إليهم أول رسله نوحاً عليه السلام مصداقاً لوعده الذي أعطاه لأبي البشر آدم، فالله سبحانه وتعالى وعد آدم عندما أنزله إلى الأرض فقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]. فالدليل على أن نوحاً عليه السلام هو أول رسول بعث إلى البشر هو حديث الشفاعة، وهو حديث متفق عليه، وفيه: أن الناس يأتون أولاً آدم عليه السلام، ثم يأتون نوحاً، فكان مما قالوا له: (يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)، فهذا هو الدليل على أولية نوح عليه السلام بالنسبة للرسل، وأما آدم فهو أول نبي. والنصوص التي بين أيدينا من كتاب ربنا عز وجل تدل دلالة واضحة على أن نوحاً قد دعا إلى التوحيد الخالص، فقد قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، وقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21]، وقال أيضاً كما حكاه الله عنه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23]، والذين استجابوا لدعوته للتوحيد هم ضعفاء الناس. فنحن إذا أعملنا الفرية الكاذبة المسماه: بنظرية التطور المزعومة التي يدعيها الملاحدة، فإن التطور على زعمهم يحصل في أحقاب سحيقة من التاريخ، فالألف سنة ونحوها تعتبر فترة وجيزة جداً لا يكفي أن يحصل فيها تطور بزعمهم، فيترتب على ذلك شموله لبعثة نوح، فإذا كان آدم عليه السلام متخلفاً وكان على هيئة القرد، ويمشي منحنياً، وجسمه مليء بالشعر كالغوريلا أو الشمبانزي، فكذلك نوح عليه السلام كان في عرفهم من أقسام الإنسان الأول الذي يزعمون؛ فبالتالي سنكفر بآيات الله سبحانه وتعالى جميعها؛ كي نصدق هؤلاء الملاحدة. فهذا نوح أيضاً يدعو إلى التوحيد وإلى الإسلام، فاستجاب لدعوته ضعفاء الناس، وتنكر لها السادة والزعماء الذين يظنون في أنفسهم العقل والفطنة والذكاء، واستكبروا عن متابعة الحق، قال الله حاكياً عنهم: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، والملأ: هم السادة والكبراء، وقالوا له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، أي: ما نرى اتبعك إلا الضعفاء والفقراء والمساكين (بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني: أنّ هؤلاء استجابوا لك من أول سماعهم لكلامك، وأما نحن فأهل الفطنة وأهل التفلسف والذكاء، فلا بد أن نتمعن في مثل هذا الكلام الذي تقول: إنه وحي من الله، ولسنا مثل هؤلاء السذج الذين قبلوا ما دعوتهم إليه لأول الأمر، ولم يتعمقوا فيه، وإنما اتبعوك بدون تأمل عميق ولا تفكير ونظر. وهذا الذي رموهم به منقبة في حقهم؛ لأن الحق إذا ظهر فإنه لا يحتاج إلى نظر، بل يجب اتباعه، فهذا هو السر في أنهم اتبعوه فوراً، فهذا شأن الإنسان سليم الفطرة أنه إذا ظهر له الحق فإنه ينقاد إليه فوراً ولا يتردد، ولا يحتاج إلى تأمل ولا إلى تفكير. وقالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود:27]، أي: أنهم تعجبوا كيف يبعث الله بشراً رسولاً. وقال عز وجل: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون:24]. ثم اشترطوا كي يتابعوه أن يطرد من حوله من الضعفاء والفقراء والمساكين، فرد عليهم نوح عليه السلام بقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29]. فتطاول الزمان، وكثرت المجادلة بين نوح عليه السلام وبين قومه كما قال عز وجل: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14]. فمكث نوح عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل تسعمائة وخمسين سنة، فلما أيس منهم ورأى أنّه لا يخرج من أصلابهم إلا كافر مثلهم دعا عليهم، قال تعالى حاكياً عنه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، فأهلكهم الله عز وجل بالطوفان: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان:37]، وأنجى الله نوحاً والمؤمنين برحمة منه، وخلت الأرض من الظالمين، ولم يبق فيها إلا الموحدون، فلما انحرفوا عن التوحيد أرسل الله إليهم رسولاً، يقول تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [المؤمنون:31 - 32]، فدعاهم أيضاً إلى التوحيد: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]. وهكذا استمرت رحمة الله سبحانه وتعالى وعنايته ببني آدم، فكلما ضلوا وزاغوا أنزل إليهم ما يضيء لهم الظلمات، قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:44]. فهذه هي القصة الحقيقية للبشرية: صراع طويل بين الحق والباطل، بين الرسل الذين يعرضون الحق والهدى، وبين الضالين عن التوحيد المتمسكين بما أَلْفَوا عليه الآباء والأجداد بأهوائهم ومعتقداتهم الباطلة: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم:9 - 10].

الشرك انحطاط وليس ترقيا كما يزعم الأفاكون

الشرك انحطاط وليس ترقياً كما يزعم الأفاكون إن الشرك الطارئ انحطاط من الأعلى إلى الأدنى، وليس ترقياً ولا تطوراً، لا في بنية الإنسان ولا في عقيدته، فبالنسبة لبنية الإنسان: فإن الإنسان خلق في أكمل وأجمل وأعظم صورة، فقد كان طول آدم عليه السلام ستين ذراعاً في السماء، ثم بدأ الخلق يتناقص حتى وصلنا إلى الوضع الذي نحن عليه الآن، فهي عملية انحدار وهبوط وتدهور، وليست رقياً وتطوراً. وكذلك أيضاً في شأن العقيدة، فالأصل هو التوحيد، ثم ينحدر الناس وينحطون إلى الأسفل وهو الشرك، وليس كما يزعم أهل التطور المزعوم أن الإنسان يترقى في اكتشاف هذه العقيدة. فليس السبب في الشرك واتخاذ المعبودات من دون الله هو الترقي في العقيدة خلال القرون، بل سببه الحقيقي هو انحراف أتباع الرسل عما جاءت به الرسل، فهذا هو السبب الحقيقي في حدوث الشرك في الأرض، يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، واتباعهم الظن والهوى وتركهم الهدى، يقول تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]. وقال عز وجل: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]. وقال في اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13]. وقال في النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14]. إذاً: فهذا هو سبب الضلال والانحراف عن الوحي، وهذا هو تعليل وجود الشرك على ظهر الأرض، وليس عملية التطور المزعومة كما ذكروا. وقال الله تبارك وتعالى أيضاً مبيناً سبب انحرافهم عن التوحيد الذي أمروا به: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. فالرسل مبرءون من الذين انحرفوا عن منهجهم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ} [المائدة:116]، فعبر عنه هنا بصيغة الماضي؛ للدلالة على تحقق الوقوع، فكأنه قد وقع، مع أنه سيقع في المستقبل، يعني: سيقول الله يوم القيامة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:116 - 117] إلى آخر الآية.

إرسال الرسل والنذر إلى جميع الأمم

إرسال الرسل والنذر إلى جميع الأمم إن الله سبحانه وتعالى لم يترك أمة بلا نذير، فآدم عليه السلام هو أول البشر خلقه الله تبارك وتعالى من تراب من غير أب ولا أم، ثم خلق منه زوجه، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وكانت بداية عيش هذا النوع في الجنة، ثم أهبط إلى الأرض، فعرف آدم ربه في السماء وتوجه إليه وأناب بعد أن أهبطه الله إلى الأرض، فتولى الله سبحانه وتعالى هذا النوع من خلقه بهداه، إذ لا صلاح له ولا بقاء في هذه الدنيا إلا باتباع هدى الله، كما قال عز وجل: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]. وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]. ومن المعروف أنّ الهدى يأتي دائماً في مقابلة الهوى، وأنّ الهوى يأتي في مقابلة الهدى أو الوحي، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، كهذه الآية، ومنها أيضاً قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] يعني: فإن لم يستجيبوا لك في الوحي. ومنها قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. وقوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26]. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، ولم يتركه سدىً، وإنما خلقه لحكمة وغاية، وامتحنه بالفعل والترك حين أوحى إلى رسله، يقول تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، يعني: فـ ((هَلْ)) هنا بمعنى: قد، {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:2 - 3]. ويقول تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]. ويقول تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]. ويقول أيضاً: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]. وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]. وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، يعني: لا يمكن أبداً أن يكون كل هذا الخلق سدى وعبثاً بلا حكمة، ولا أن الله غائب عن خلقه عياذاً بالله، بل الله شهيد على ما تعملون، فهو سبحانه وتعالى يرعى هذه البشرية، ونعمه تعم المؤمنين والكافرين. فكما ذكرنا أنّ أول الخلق هو آدم عليه السلام، وأنه أول الذين اصطفاهم الله وخاطبهم بالوحي، وهو نبي مكلم كما جاء في الحديث. وقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]. إذاً: فكل أمة قامت عليها الحجة الرسالية، وأما أهل الفترة الذين لم يبلغهم الوحي فحالتهم استثنائية، لكن كل أمة بعث فيها رسول، فهذه نظرتنا المغايرة لضلال أصحاب نظرية التطور في العقيدة، فإنهم حينما يتعرضون لديانة قدماء المصريين مثلاً، يتصورون الأمر وكأنهم معذورون، أو كأنهم باحثون عن الحقيقة حتى وصلوا إليها بالفعل، وذلك لما وحدوا الآلهة الثلاثة، وأن أخناتون هو أول من اخترع التوحيد، وهذا كله دجل وهو يناقض عقيدة المسلمين، ولا يمكن أن يعتقد هذا مسلم. أما نحن فنؤمن أن قدماء المصريين قد قامت عليهم الحجة الرسالية قطعاً، سواء كان ذلك بموسى أو بغيره من الأنبياء، فالله يقول: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، ويقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:36]، و (كُلِّ) صيغة عموم، وقال تعالى: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. فكل أمة قامت عليها الحجة الرسالية، وآثار قدماء المصريين خصوصاً تكشف لنا اعتقادهم في كثير من الأمور الغيبية التي ما كانوا ليؤمنوا بها إلا عن طريق الوحي، كنصب الموازين يوم القيامة، وحشر الأجساد وغير ذلك مما تدل عليه النقوش التي تركوها، فتلك تدل على الرسالات الإلهية التي أرسلت إليهم. ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]. فالله سبحانه وتعالى منذ خلق الإنسان فقد تعاهده برعايته وعنايته، وشرع له الشرائع السماوية التي تدعوه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه. بل لما كانت بعض الأمم لا تناسبها شريعة النبي السابق فإنه يوحي إليها بشريعة جديدة؛ حتى تواكب ما تحتاجه، وكذلك إذا حصل فيها تحريف، فإنه يبعث رسولاً آخر يجدد لهم هذا الدين. لقد تكفل الله سبحانه وتعالى بألّا يعذب أحداً إلا بعد أن تقوم عليه الحجة الرسالية، يقول تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. ويقول تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165].

دعوة جميع الأنبياء والرسل إلى دين الإسلام

دعوة جميع الأنبياء والرسل إلى دين الإسلام لقد دعا كل الرسل والأنبياء إلى دين واحد، وهو دين الإسلام، وهذا هو البحث الذي سنفصله إن شاء الله فيما يلي: فنقول: منذ وجد الشرك والفساد والمعاصي في هذه الأرض، والأنبياء والرسل يدعون الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومع ذلك كانوا ينهون أيضاً عن كل صور الفساد في الأرض. والحقيقة التي ينبغي أن نتنبه لها أيضاً هي أن هؤلاء الذين كانوا يتبعون الرسل، كانوا مؤمنين، فكل من اتبع الرسل في أي أمة من الأمم الخالية فإنهم مؤمنون. وكذلك الأنبياء كانوا أول المؤمنين بلا شك، فنوح عليه السلام كان مؤمناً، وكان الذين اتبعوه من قومه مؤمنين، وكذلك إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين وخليل الرحمن كان مؤمناً، وكذلك إسماعيل عليه السلام كان مؤمناً مسلماً، وكذلك إسحاق ويعقوب وموسى، وكذلك كان الأنبياء من بعده إلى عيسى. لقد كان الأنبياء عليهم السلام من نوح إلى بعثة عيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، هؤلاء أجمعون كانوا مؤمنين، وكان أتباعهم مؤمنين، حتى بعث الله تبارك وتعالى إلى البشرية كلها خاتمهم وسيدهم محمداً صلى الله عليه وسلم مؤمناً، وأتباعه مؤمنون، واليوم في عصرنا هذا يعرف الذين انتسبوا إلى موسى عليه السلام باليهود، وأحياناً يسمونهم الموسويين، ويعرف الذين انتسبوا إلى المسيح عليه السلام بالنصارى، ويسمونهم خطأً بالمسيحيين، ويعرف الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وكل يؤمن أن دينه هو الدين المرضي عند الله تبارك وتعالى. إذاً: فكلنا متفقون يهود ونصارى ومسلمون على أن آدم ونوحاً وجميع الأنبياء الذين أتوا بعد نوح عليه السلام إلى موسى كلهم أنبياء الله، وهؤلاء كلهم كانوا مؤمنين، ثم بعث الله تعالى عيسى عليه السلام أيضاً، فأتباعه مؤمنون، وعيسى كان مؤمناً، كذلك بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم. فكل دين من الأديان الثلاثة يقول: إن دينه هو الإيمان، وأن أتباعه هم المؤمنون، فلا يستطيع مسلم ولا يهودي ولا نصراني أن ينفي الإيمان عن نوح، ولا عن إبراهيم، ولا عن إسماعيل، ولا عن إسحاق، ولا عن يعقوب ولا عن غيرهم من الأنبياء قبل موسى عليه السلام، فالجميع متفقون على أن هؤلاء أنبياء الله، وأنهم كانوا على دين الحق، وأن من تبعوهم كانوا مؤمنين، وأنهم كانوا على الدين المرضي عند الله عز وجل، وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد منهم أن ينسب إبراهيم عليه السلام أو نوحاً أو هوداً أو صالحاً أو شعيباً أو غيرهم من الأنبياء بأنهم كانوا يهوداً؛ لأن اليهودية لم توجد إلا بعد موسى عليه السلام، وكذلك لا نستطيع أن نقول: إنهم كانوا نصارى؛ لأن النصرانية إنما وُجدت بعدهم، فاليهودية والنصرانية لم تكن قد عرفت بعدُ في عهد أي واحد من هؤلاء الأنبياء قبل موسى عليه السلام. وهنا سؤال يفرض نفسه وهو: ما هو الدين الذي آمن به الأنبياء من زمن آدم عليه السلام إلى آخر نبي بعث قبل موسى عليه السلام؟ ما هو دين هؤلاء الأنبياء الذين يتفق اليهود والنصارى والمسلمون على أنه دين الله، وعلى أنه هو الدين المقبول المرضي عند الله سبحانه وتعالى؟ فلم يرد في توراة اليهود ولا إنجيل النصارى الحاليين إثبات لاسم هذه الدين الذي آمن به هؤلاء الأنبياء ومن تبعهم، فكيف نستطيع معرفة هذا الدين؟ A السبيل إلى التعرف على هذا الدين هو التفكر في هذا الدين: ما حقيقته؟ وما مقاصده؟ فنحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى لما أرسل هؤلاء الأنبياء إلى أممهم أرسلهم بعقيدة واحدة وهي توحيد الله عز وجل، وبشرائع يدعون الناس إليها فيها أوامر الله، وفيها نواهيه، فمن قبل هذا التوحيد وهذه الشرائع فهو المؤمن الذي آمن بالله ورسوله المبعوث إليه، ودان بالدين الذي يرتضيه الله عز وجل ويقبله، فهذا الدين هو توحيد الله، والانقياد لشرائع الله، والاستسلام لحكمه والخضوع لأمره ونهيه، والإخلاص له عز وجل في ذلك كله.

شمول الإسلام لمعنى الاستسلام والسلامة ودين كل الأنبياء والرسل

شمول الإسلام لمعنى الاستسلام والسلامة ودين كل الأنبياء والرسل إذا بحثت في لغة العرب عن كلمة تعبر عن الاستسلام والسلامة، لوجدت أن الاستسلام: هو الخضوع والإذعان والانقياد لحكم الله ولأمره، والسلامة: هي السلامة من الشرك والإخلاص في التوحيد، فلا توجد في لغة العرب كلمة تعبر عن هذين المعنيين سوى كلمة الإسلام. فإن الإسلام لله هو التعبير الوحيد الذي يمكن أن نعبر به عن الدين المرضي الذي يقبله الله سبحانه وتعالى ويعتبره، فهذا هو القاسم المشترك بين رسالات جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فالأنبياء دعوا إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، والسلامة والبراءة من الشرك، ودعوا إلى الانقياد لشرائع الله التي أنزلت على هؤلاء الرسل والأنبياء، فهذا يعبر عنه بكلمة واحدة وهي الإسلام لله، ولما صارت مشهورة عندنا جداً صار اسمه الإسلام؛ لأنه صار معروفاً أنه لا يكون إلا لله عز وجل. إذاً: فهذا هو القاسم المشترك بين جميع الأنبياء، وهذا هو وحده الدين الذي نستطيع أن نقول: إنه كان دين نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن تبعهم من المؤمنين، أي: التوحيد لله والسلامة من الشرك، والاستسلام والخضوع لأوامر الله سبحانه وتعالى وشرائعه، من أجل ذلك لم يكن لفظ الإسلام اسماً علماً على الدين الخاتم فقط، ولكنه في الحقيقة هو التعبير الوحيد عن جوهر جميع الرسالات السماوية، بما في ذلك رسالتي موسى وعيسى عليهما السلام، ولم يكن وصف المسلمين مجرد لفظ لأتباع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو معنى عام للإسلام والمسلمين دلت عليه عشرات النصوص كما سنبين فيما يلي: يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فالإسلام العام هو الإسلام الذي كان دين آدم ونوح وإدريس وهود وشعيب وصالح وجميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالله تعالى لم يقبل من أحد قبل محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يقبل من أحد بعده غير دين الإسلام، فمن يلقى الله بغير الإسلام فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. ويقول عز وجل: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]. وقال سبحانه وتعالى حاكياً دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128]. وقال عز وجل: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125]. وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]. وقال أيضاً: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34].

أقسام الناس في فهم معنى الإسلام

أقسام الناس في فهم معنى الإسلام إن هذه الحقيقة الظاهرة الواضحة وضوح الشمس قد تغيب عن فريقين من الناس: الفريق الأول: غير المسلمين، وهم الذين لا يعرفون اللغة العربية على وجه الخصوص، وهؤلاء لا يكاد يتطرق إلى أذهانهم هذا المعنى العظيم الذي يعبر عنه بكلمة الإسلام، وصحيح أنهم يقولون في لغتهم عن الإسلام في الإنجليزية: إسلام، وفي الفرنسية: إسلام، في كل لغة يعبر عنه بالإسلام كأي عَلَم، فهم يقولون: إسلام كما نقول، ولكن لا يعرفون معنى كلمة إسلام، ونحن كذلك إذا أتينا بأي كلمة أجنبية من أي لغة أجنبية ونطقناها كما هي، فإننا ننطق الحروف كما نسمعها، ولكن لا نعرف معناها إذا لم نكن دارسين لهذه اللغة، فهذا الفريق ينطقون بهذه الكلمة ولا يفهمون منها ما نفهم نحن منها من الاستسلام والخضوع والإذعان لأمر الله، وذلك مع السلامة مما يخالف التوحيد من الشرك وغيره، فيجب علينا معشر المسلمين أن نشيع هذا اللفظ مقروناً ببيان معناه في لغتنا، بحيث يكون كلما ذكرت كلمة الإسلام فهم معناها في لغة العرب. وأما الفريق الثاني: فهم غير المسلمين ممن يعرفون اللغة العربية، فهؤلاء إذا سمعوا قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وإذا سمعوا قوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، تنصرف أذهانهم إلى الإسلام الخاص الذي دعا إليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحسبون أن رسالة موسى التي يعبر عنها الآن بالموسوية، أو اليهودية، وأنّ رسالة عيسى التي يعبر عنها الآن بالمسيحية، لا تدخلان في عموم الإسلام المذكور في الآيتين السابقتين، فاليهود والنصارى إذا قلت لهم: قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فإنهم يتخيلون الإسلام ديناً آخر غير دين موسى وعيسى عليهما السلام. وهذا غير صحيح، فإنهم إذا فهموا هذا المعنى الذي ذكرناه آنفاً لأدركوا أن هذا يشمل ما جاء به موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومما يؤسف له أشد الأسف أن هذه الحقيقة لم تغب عن الأعاجم الذين لا ينطقون العربية ولا يعرفونها فقط، ولا عن اليهود والنصارى الذين يعرفون اللغة العربية فقط، ولكن المصيبة الكبرى أن تغيب هذه الحقيقة العظمى المعلومة من الدين بالضرورة، بل هي ألف باء الإسلام، أن تغيب على كثير من المسلمين. وإذا سألت كثيراً من الناس وخصوصاً العوام أو المنصرفين عن تعلم دينهم انصرافاً كلياً، أو كلمته في تكفير اليهود والنصارى فإنه يقول: لقد خلقنا الله كلّنا، وهذا المنطق منطق جاهلي ساذج جداً، وقد يستدلون على هذا المعنى الفاسد بآيات من القرآن. فالمهم أن بعض الجهلة من المسلمين يحملون الآيتين السابقتين على الإسلام الخاص، ولا يفطنون إلى أن الأسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وأنهم هم وأتباعهم أجمعون كانوا مسلمين.

النصوص الشرعية الدالة على أن دين جميع الأنبياء والرسل هو: الإسلام

النصوص الشرعية الدالة على أن دين جميع الأنبياء والرسل هو: الإسلام إننا سنورد شواهد من القرآن الكريم تدل على أن دين الإسلام هو دين جميع الأنبياء والرسل. قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسله الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52]. فقوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) ليس المراد بالأمة هنا: الشعب، أو الأمة العربية، لا، وإنما المراد بالأمة هنا: الملة، أي: وإن هذه ملتكم، فكلمة أمة جاءت في القرآن على عدة معان، فتأتي بمعنى الجمع من الناس والقوم، وتأتي بمعنى الفترة الزمنية، مثل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45]، أي: بعد فترة من الزمن. وتأتي بمعنى قدوة، مثل قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] أي: قدوة وجامع لخصال الخير. وتأتي بمعنى الملة والدين، كما في هذه الآية: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52] أي: هذه ملتكم ملة واحدة، وهذا دينكم دين واحد وهو دين الإسلام. وقال عز وجل في بيان أنّ دعوة الأنبياء واحدة: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]. وقال عز وجل أيضاً في حق الأنبياء: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]. وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن أول رسول وهو نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]. وقال عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]. وقال عن إبراهيم ويعقوب أيضاً عليهما السلام: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 132]. وقال أيضاً في شأن يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]. وحكى عن يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. وحكى عن لوط عليه السلام أنه قال: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:31 - 36]. وقال عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، ولم يقل: إن كنتم يهوداً، لكنه قال: ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)). وقال عز وجل حاكياً عن سحرة فرعون الذين آمنوا بموسى عليه السلام: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]. وقال تعالى حاكياً عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]. وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن بلقيس: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:29 - 31]. وقال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42]، والمراد بقوله: (وكنا مسلمين) أي: سليمان ومن آمن معه، إلى قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]. وقال سبحانه وتعالى في شأن عيسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]، فالحواريون كانوا مسلمين، وقال أيضاً عن الحواريين: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. قال الزمخشري في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة:44]، قال: المراد بإجراء هذه الصفة التعريض باليهود، وأنهم بُعداء عن صلة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل. أي: أن المراد: كأنكم يا يهود لستم مسلمين، فأنتم بمعزل عن صفة الإسلام وغير مرتبطين بها. وقال ابن منظور في قوله تعالى: ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا)): فسره ثعلب فقال: كل نبي بعث بالإسلام غير أن الشرائع تختلف. وقال تعالى عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:52 - 53] يعني: أن المؤمنين منهم بدينهم حقاً يقولون: إنا كنا من قبل نزول القرآن مسلمين، ولم يقولوا: إنا كنا من قبل يهوداً أو نصارى. وقال سبحانه وتعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:83 - 84] يعني: لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان، بل نؤمن بجميع الأنبياء، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. فقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19] يفهم منه أنه سبحانه وتعالى لا يقبل من أحد ديناً سوى دين الإسلام، وأن من في السماوات والأرض قد أسلموا لله عز وجل طوعاً

خطأ تسمية الأديان بالموسوية، والمسيحية، والمحمدية

خطأ تسمية الأديان بالموسوية، والمسيحية، والمحمدية من خلال هذا العرض نخلص إلى أمور مهمة جداً: الأمر الأول: أن من الخطأ تسمية هذا الدين الذي كنا نتحدث عنه بالموسوية، أو المسيحية، أو المحمدية، فإنما هو دين الإسلام، وهو دين واحد أرسل الله به جميع الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، داعين أممهم إليه، فمن أجابهم كان مسلماً، فلا يصح أن تقول: الموسوية، أو المسيحية، أو المحمدية؛ لأنه ليس مذهباً أسسه موسى، أو عيسى، أو محمد، وإنما هم مبلغون فقط {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99].

عدم جواز إطلاق عبارة: الأديان السماوية

عدم جواز إطلاق عبارة: الأديان السماوية الأمر الثاني الذي نستخلصه من هذه المقدمة: هو عدم جواز إطلاق عبارة: الأديان السماوية؛ لأنه لا يوجد أديان سماوية، وكيف تكون كلها أدياناً سماوية وهي متناقضة متعارضة؟! فالنصرانية تدعوا إلى التثليث والشرك بالله عز وجل، واليهودية فيها التشبيه وسب الأنبياء، وفيها الكثير من الضلال والانحراف. وكيف أيضاً نصفها جميعاً بأنها أديان سماوية بصيغة الجمع؟ فهذا أيضاً خطأ؛ لأنه لا توجد أديان سماوية متعددة، فيمكن أن تقول لها: أديان، لكن لا تقل سماوية؛ لأن الأديان تشمل الدين الحق والدين الباطل، كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، وكقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76]. أذاً: فكلمة الدين ككلمة الإله، فيها الحق وفيها الباطل، فيمكن أن تقول: الأديان بالجمع، وأما أن تقول: الأديان السماوية فلا يصح؛ لأن السماء لم ينزل منها إلا دين واحد فقط وهو دين الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فالدين لا يتعدد وإنما التعدد في الشرائع والرسالات، فمن الممكن أن تقول: الرسالات السماوية، وتعني: رسالة عيسى، ورسالة موسى، ورسالة نوح، وهكذا، أو تقول: الشرائع السماوية، وتعني: شريعة محمد، وموسى، وعيسى، فهذه تختلف وتتعدد، فالأحكام العملية تختلف من نبي إلى آخر، كتفاصيل الصلاة والطهارة وأحكام الزواج والطلاق، وكيفية العبادات والأحوال الشخصية والأحكام عامة.

بطلان فكرة التقريب بين الأديان

بطلان فكرة التقريب بين الأديان الأمر الثالث الذي نستخلصه مما مضى: بطلان الفكرة الضالة الداعية إلى التقريب بين الأديان السماوية، فهذه الدعاوى الخبيثة قد تورّط فيها بعض الجهلة من المسلمين، ففكرة التقريب بين الأديان ليست دعوة حق، وإنما هي دعوة خبيثة كي يتنازل المسلمون عن دينهم، ولا يمكن أن نتنازل عن ديننا ولا عن أية جزئية منه، فهو أمانة الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن نحافظ عليه، فيكف نقول بالتقريب يبن الأديان السماوية، ونحن نؤمن أنه لا توجد أديان سماوية، وإنما هناك دين سماوي واحد وهو الإسلام؟! فمحاولة التوفيق بين الإسلام وغيره من الأديان إنما هي محاولة للتوفيق بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، وبين دين أنزله الله وحفظه وهو الإسلام، وبين دين أنزله الله لكن طرأ عليه التحريف والتغيير والتبديل، كاليهودية والنصرانية. فإذا كان الدين عند الله واحداً كما سبق أن بينا، فكيف يصح أن ندعو إلى التقريب بين الشيء ونفسه؟! فالدين كله واحد، ونحن لا نحتاج إلى دعوة للتقريب.

العقيدة الصحيحة المنقذة للبشرية من الهلاك هي العقيدة الإسلامية

العقيدة الصحيحة المنقذة للبشرية من الهلاك هي العقيدة الإسلامية الأمر الرابع: أن العقيدة الوحيدة الصحيحة على وجه الأرض منذ أن بعث الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم لا توجد إلا في الإسلام، لأن الله عز وجل قد تكفل بحفظه من التغيير والتحريف والتبديل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وهذه العقيدة هي نفس العقيدة التي دعا إليها الرسل الكرام في كل زمان ومكان، فلا تختلف من رسول إلى رسول، ولا من زمان إلى زمان، وأما ما عداها من العقائد الموجودة على الأرض فهي عقائد فاسدة متعددة، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر وأهوائهم، وقد يكون أصل بعض هذه العقائد صحيحاً، لكن التغيير والتحريف طرأ عليها كما هو الحال في زماننا هذا بالنسبة إلى اليهودية والنصرانية. فاليهودية في وضعها الحالي عقيدة عنصرية، فهي مبنية على الاعتقاد بأنهم شعب الله المختار، وأن كل من عداهم من الأمم هم بمثابة الحمير التي خلقها الله لبني إسرائيل؛ كي يركبوها ويستذلوها ويسخروها، فهذه هي نظرة اليهود إلى كل من عداهم. لذلك فاليهودية ليس فيها تبشير، واليهود لا يبشرون؛ لأنها ديانة عنصرية، فلا بد أن تكون من نفس اليهودي حتى تصير يهودياً، لذلك لا نجد في اليهودية خطر التبشير باليهودية والتهويد، لكن نجد عندهم خطر إفساد عقائد الناس الآخرين؛ حتى يفقدوهم عناصر القوة، وإفساد الأخلاق؛ حتى يحطموا هذه الأمم قبل أن يقيموا دولتهم الكبرى التي يسمونها: مملكة داود. وكذلك بالنسبة للنصرانية. فإذاً: هل يمكن أن يكون إنقاذ البشرية بديانة كالديانة اليهودية في وضعها الحالي؟! وهل يعقل أن يخرج البشرية مما هي فيه من الضلال والضياع أن تنتمي إلى الديانة اليهودية؟!! ومع ذلك فاليهود يقولون: غير مسموح لكم الولوج في هذا الباب؛ لأننا أشرف الخلق ونحن أفضل الأمم، وديانتنا ليست مفتوحة لهؤلاء الأوباش من الأمم الأخرى، فنظرة اليهود للأمم الأخرى التعالي والعنصرية. فقطعاً لا يمكن أن يكون إنقاذ البشرية بديانة كاليهودية، وهذا بغض النظر أيضاً عن الأحكام الفقهية والعملية الموجودة في شريعة التوراة، فقد كان فيها تشديد؛ لأن الله عاقب اليهود بالتشديد عليهم حينما شددوا على أنفسهم، فوضع عليهم الآصار والأغلال، فلما جاء محمد عليه الصلاة والسلام وضع عنا الآصار والأغلال، فستشقى البشرية بحمل هذه الأغلال التي عوقب بها بنو إسرائيل؛ بسبب تعنتهم مع نبيهم موسى عليه السلام. وهل يمكن أن تكون الديانة النصرانية هي المنقذة للبشرية؟ A لا، وتفصيل ذلك يطول جداً، ولكن نمر عليها مراً سريعاً وهي أن الديانة النصرانية فيها هذه الفلسفة الوثنية التي دخلت عليها فأفسدتها وهدمتها تماماً. والنصارى أيضاً يصدقون بالتوراة وهي العهد القديم، وبالإنجيل وهو العهد الجديد، فالكتاب المقدس عندهم مكون من العهد القديم والعهد الجديد. واليهود يؤمنون بالعهد القديم، وهو التوراة ولا يؤمنون بالإنجيل الذي هو العهد الجديد، بخلاف النصارى فإنهم يؤمنون بالكتابين معاً. فهل يمكن أن تكون عقيدة الحق والنجاة في الصلب والتقديس والفداء وكذا وكذا، ثم لا يوجد لها أي أثر في العهد القديم على الإطلاق؟! وكذلك قضية آدم والخطيئة الأولى وتوريثها ذلك للبشر، وحصول الصلب بعد ذلك حتى يتحرر البشر من خطيئة أبينا آدم عليه السلام. فهل هذه هي عقيدة الحق؟ وهل كل هذه الأجيال البشرية التي ماتت، ماتت على غير العقيدة الصحيحة؟! فهذا أدل دليل على أن هذا الفساد في دين النصارى فساد طارئ عليه، ويكفي أن النصارى كلهم يكفر بعضهم بعضاً، ويعتقدون أن بعضهم من أصحاب النار خالدين فيها؛ بسبب مخالفتهم إياهم في عقيدة الثالوث، وهل كل من الأقانيم الثلاثة له ذات مستقلة أم لا؟ إلى آخره، فهناك كثير من العقائد الفاسدة التي ترفضها الفطرة، كعقيدة التثليث، والخطيئة الأولى، والصلب. ثم إنها ديانة خالية تماماً من التشريع، أو تكاد، وكما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما في دين النصارى من الباطل أضعاف ما فيه من الحق، وحقه منسوخ، فما بقي عندهم شيء. والأديان الموجودة الآن إما أديان صنعها البشر كالبوذية والزرادشتية والمجوسية، وغيرها من الأديان الضالة التي صنعت بأيدي البشر، فهذه كلها أديان، فالماركسية دين، والناصرية دين، لأنها طرائق في السلوك وفي الحياة وفي الاعتقاد تخالف ما عليه دين الإسلام، فهذه أديان باطلة صنعها البشر ابتداءً، وإما أنها أديان سماوية أصلاً، لكن طرأ عليها التحريف والتبديل والتغيير، كاليهودية والنصرانية، وأما العقيدة الوحيدة التي يقبلها الله منذ بعث محمداً عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، فهي عقيدة الإسلام، ورسالة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

العقائد الأرضية المحرفة هي التي تقبل التعدد

العقائد الأرضية المحرفة هي التي تقبل التعدد الأمر الخامس والأخير الذي نستخلصه هو: أن هذه العقائد الأرضية والمحرفة هي التي تقبل التعدد، فيصح أن نسميها أديان، فنقول: الأديان الأرضية، والأديان الباطلة. وقد سمى الله عز وجل الوثنية ديناً، فقال سبحانه وتعالى مخاطباً مشركي قريش: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. وليس المقصود منها إقرار الكفار على دينهم كما يفهم بعض الجهلة، وبعض الناس إذا أراد أن يفارق شخصاً فإنه يقول له: يا عم! لكم دينكم ولي دين!! والمقصود من قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6]، أي: الباطل الذي أنا بريء منه، {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، أي: دين الحق، يعني: أنتم بريئون مما أعمل، وأنا برئ مما تعملون. وقال سبحانه وتعالى أيضاً حاكياً عن فرعون: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، فسمى ما كان عليه وقومه ديناً. وكذلك قال سبحانه وتعالى في حق يوسف عليه السلام: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] يعني: في نظام وشريعة الملك، فسماه أيضاً ديناً، فكل منهج يوضع للناس كي يسلكونه، وينظم حياتهم وعقائدهم فإنه يسمى ديناً، فالاشتراكية دين، والناصرية دين، والوجودية دين، فكل مذهب يخالف دين الإسلام فهو دين، سواء كانت مذاهب نفسيه أو فكرية أو اقتصادية، فهذه أديان يدينون بها ويخضعون لها، وهذه المذاهب تخالف دين الإسلام في شموله ونقائه وخلقه. فهذا ما تيسر اليوم من كلام في هذه القضية، وبهذا تقريباً نكون قد أنهينا الكلام في مسألة تاريخ الأديان وما يكتنفها من انحرافات في الفهم، وأهم النقاط التي ينبغي أن نلتفت إليها عند دراسة هذه القضية.

الأسئلة

الأسئلة

النظام العالمي الجديد وأعماله الخبيثة

النظام العالمي الجديد وأعماله الخبيثة Q ما المقصود بالنظام العالمي الجديد والشرعية الدولية؟ A ليس بجديد، بل هو نظام عالمي قديم جديد، مثل العهد الجديد والعهد القديم، وكلاهما باطل، فالنظام العالمي الجديد لا يحتاج إلى شرح، ولا إلى توضيح بعدما مرت سنوات تزيد على الثلاث سنوات من بداية انتشار هذا النظام في العالم، فحصل فيه من الفساد في الأرض ما الله به عليم، وما لا يكاد يحصى، فمنذ أن أمسكت أمريكا بزمام الأمور على الساحة الدولية ونحن نرى الفساد والظلم والقهر، وصارت ما تسمى بالشرعية الدولية عصا تضرب بها بلاد المسلمين، فمجلس الأمن صار مجلس تأديب للمسلمين، وليس له وظيفة غير تأديب المسلمين، فقد صار مجلس تأديب كمجالس التأديب في الجامعة وغيرها، وأمينه هو الخبيث الخائن المجرم بطرس غالي، وهو خصم الإسلام والمسلمين، فكيف يكون القاضي الذي يتحكم في قضايا العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه خصماً من خصوم الإسلام، وعدواً لدوداً لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، كارهاً لأمة المسلمين وحاقداً عليها؟! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذه ومن والاه أخذ عزيز مقتدر. فهذا النظام نظام قرصنة، وهو نفس نظام القراصنة القدامى لم يتغير منه شيء، لكن العصابات صارت يحكمها زعيم واحد، ولم تعد متفرقة كما كانت من قبل، وهي عصابة يكشفها لنا قول الله تبارك وتعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]. فعلينا أن نقبل خبر الله سبحانه وتعالى، وأن نوقن به، ولا نحتاج إلى دليل من الواقع. من قبل كنا نرهق جداً مع الناس حتى نثبت لهم أن الكفار يتآمرون على الإسلام، يقول: كيف ذلك وهم أناس لطاف وأناس عندهم عدل وأناس عندهم كذا؟! أما الآن فقد كشروا عن أنيابهم، وظهرت الحقيقة التي كانت دفينة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. فقد بعث الخبيث جون ميجور بياناً سرياً لـ دجلس هوك يبين فيه حقيقة السياسة البريطانية فيما يتعلق بالبوسنة والهرسك، فلما انتشر المنشور هنا، ووزع في بعض المحافظات، أسرعت السفارة البريطانية في تكذيبه، وأن هذا لا أساس له من الصحة. فلنفرض أنه ليس له أساس من الصحة، فهذا ميجور نفسه الخبيث يقول في حديث صحفي وقد سئل: كيف لا توافقون على تسليح البوسنة والهرسك؟! فقال معتذراً: نحن لا نسمح بتسليح البوسنة والهرسك؛ لأن هذا سيطول مدى الحرب، ومعنى ذلك: أن نتركهم حتى يذبحوا عن آخرهم، فهذا هو الحل!!!

درجة حديث صلاة الحاجة

درجة حديث صلاة الحاجة Q ما حال الحديث الوارد في صلاة الحاجة؟ A الحديث الوارد في صلاة الحاجة لا يصح، لكن من السنة أن الإنسان قبل أن يدعو الله تبارك وتعالى أن يتقرب إليه بعمل صالح، سواء كان صلاة أو غيرها، فمن هذه الحيثية يمكن أن تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بعمل صالح قبل أن تدعوه؛ لأن هذا أرجى لقبوله واستجابته. والله تعالى أعلم. وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقفة مع الجن [1]

وقفة مع الجن [1] إن موضوع مس الجان قد فشا وانتشر بين الناس، وغلا فيه البعض حتى تصدر لعلاج المرضى والمصروعين من ليس من أهل العلم والإيمان، فكان ضررهم أكثر من نفعهم، وأرادوا الخير فوقعوا في الشر، بل أصبح يدور بمخيلتهم أن كل مرض سببه المس. وبالمقابل أنكر أقوامٌ الجن جملة وتفصيلاً، والحق وسط بين الإفراط والتفريط، فالجن عالم له أثره الملموس، وقد يصيبون الإنسان بالمس لكن ليس بهذه الصورة التي يتخيلها كثير من الناس.

رسالة إلى المعالجين بالرقية

رسالة إلى المعالجين بالرقية إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد كثر الحديث منذ فترة ليست بالقصيرة عن قضية تسلط الجن وتلبسهم بالإنس، وكذا عن السحر والحسد وما إلى ذلك، وهي أمور واقعة لا شك فيها ولا سبيل لإنكارها، كما فعل ويفعل بعض المنسوبين إلى العلم ممن يدعون العقلانية في القديم والحديث، كما أنه قد كثر عدد المشتغلين والمهتمين بهذا الأمر ممن يسعون لعلاج الحالات الواقعة بالوسائل الشرعية المباحة، وهذا أمر حسن إذا تم الوفاء به، حتى لا يضطر الناس للذهاب إلى السحرة والدجالين والمشعوذين. ولكن غير الحسن: أن تتسلط فكرة الجن على عقول وقلوب كثير من الناس، فإذا ما اشتكى إنسان أو أصيب بشيء من الأدواء صاح الناس على الفور: الجن!! العين!! السحر!! وهذا بدوره قد أنشأ العديد من المشكلات غير اليسيرة، والتي يخشى منها، وقد يزداد الأمر سوءاً عندما يتدرج البعض في هذه الأحوال إلى أن يصبح الأمر بمثابة حرفة من الحرف، وشيئاً فشيئاً حتى يتدخل الشيطان -هذا إذا أحسنا الظن وقلنا: إنه لم يتدخل منذ البداية- فيعمل عمله في القلوب، وتتبدل النوايا، فكم من عورات كشفت، وأموال أخذت بالباطل، بل وأعراض هتكت أو كادت، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون. وهنا تظهر الآفات، والآفات تولّد آفات، والأمراض تنتج أمراضاً من المباهاة والسمعة، وإخلاف الوعد، والخداع، والجشع، والتحايل في كسب المال، ومهما خاب العلاج المزعوم ولم يأت بشيء، فالمخرج من الأمر سهل ميسور؛ فإن كان قد زعم من خلال ما يهذي به المريض أنه قد أخرج جنّياً أو أحرقه، فالمخرج موجود، هو وجوداً ثان وثالث ورابع ومائة، فإذا احترق الجني جاءت أمه ثم أبوه وأخوه، وهكذا الذي يخرج يأتي آخر بدلاً عنه، بل إن البعض قد يرغب في الاستكثار والتشبع بما لم يُعط، فيلجأ إلى بعض الكتب، ويتوسع في استخدام ما فيها من طرق للعلاج، وقد تكون من السحر الحرام! وقد اعترف البعض بذلك، إذ يبدأ طريقة بالعلاج بالقرآن والأذكار، وبمرور الأيام -ومع قلة العلم الشرعي- يتوسع شيئاً فشيئاً في استخدام السحر والطلاسم؛ لأنه يرى أن هذه الأشياء من جنس النشرات والتعويذات التي قد تبدو مبهمة، وهي موجودة ومصرح بها في بعض كتب أهل العلم، فإلى الله المشتكى من هذا الصيد الخبيث باسم الدين، فالكل يصطاد ويتصيد، ولكن الشباك تختلف وتتنوع، إلا من رحم ربك! توشك العين تغيظ والبحيرات تجف بعضها يصطاد بعضاً والشباك تختلف لا يجيء الباب رأساً لا يدور أو يلف والطبيب قد يعف والكبير لا يعف والإمام قد يسف والصغير لا يسف والثياب قد تصون والثياب قد تشف والبغي قد تداري سهمها وتلتحف والشتات لا يزال يأتلف ويختلف والخطيب لا يزال بالعقول يستخف والقلوب لا تزال للشمال تنحرف والصغير بات يدري كيف تؤكل الكتف لا تصانع يا صديقي بالحقيقة اعترف فإلى هؤلاء المعالجين نقول: يا قوم! اتقوا الله تعالى في أنفسكم، ولا تكونوا ذباب طمع، وفراش نار، اتقوا الله في أعراض الناس وأموالهم، اتقوا الله في دين الله المفترى عليه، واحذروا الحرام والبدع والشبهات، ولا تكونوا جُرآء على النار، ولا ينطبق عليكم قول الشاعر: طبيب يداوي الناس وهو سقيمُ! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]، إن كنتم تريدون حقاً إخراج الشياطين، فتعاونوا جميعاً على إخراج شياطين الإنس من جسد هذه الأمة، أخرجوها بالعمل النافع، وبالعبادة الصالحة لله تبارك وتعالى، وبالدعوة الحكيمة، والعمل الدءوب إلى الله جل وعلا. في عالم الأزياء موضات وصيحات وتقليعات، وكذلك في عالم الأفكار والدعوات تقليعات وصيحات وموضات! يفرضها علينا مرض الفراغ. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهذه الظاهرة التي نريد أن نعرف إلى أين تمتد، ما كان لها أن تنتشر بهذه الصورة الوبائية لولا الفراغ والخواء الذي ملأ القلوب، فوجد الشيطان فيها أرضاً خصبة، فصال وجال، وبذر وزرع وحصد! إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده وبعدما كان الجدل حول الجن والسحر والحسد من التخصصات الشائعة في جيل العجائز الأميّات والنساء الفارغات، بحيث كان من خصائص المجتمعات النسائية الجاهلة، وكان يستنكف الرجل من الخوض فيه ترفعاً عن خصائص النساء، تمكنت طائفة ممن يسمون بالمعالجين من تصديره إلى مجتمع الرجال، شباباً كانوا أو شيوخاً أو مراهقين، بل صِبية! بل احتل أو بالأحرى اغتصب مساحة شاسعة من رقعة الدعوة إلى الله لتهدر طاقة بعض الدعاة -الذين هم صفوة الرجال- في هذا السعار المحموم، إما باقتحام هذا المجال كمعالجين، أو بالهجوم على المقتحمين، ولا أظن أنه أدل على هذه الحقيقة المؤلمة من تشوق الناس بكثرة للاطلاع حول هذا الموضوع. إن موضوع السحر والمس وما يتعلق بالجن قد تسلط على العقول، واحتل القلوب بصورة مفزعة، فما أسرع ما تشير أصابع الاتهام إلى المس الجنّي بمجرد أن يعاني الإنسان من صداع أو ألم أو مشكلة نفسية عادية! ولن يكون حديثنا حول القضايا المسلّم بها، كقضية إثبات وجود الجن مثلاً، أو إثبات الصرع والمس وحقيقة السحر والحسد، ولا حتى تلقين طائفة المعالجين مبادئ التعامل مع حالات الصرع والحسد والسحر، فلقد طُرقت هذه القضايا كثيراً، وأُشبعت بحثاً، وامتلأت رفوف المكتبات بالغث والسمين منها، ولكنها وقفة معالجة مع طائفة المعالجين الذين صار العلاج بفضل جهودهم مرضاً وبائياًَ! والذين تجاوزوا أحياناً حدود الله، وتلبسوا بحالات من الانحراف تحوجهم إلى من يأخذ بأيديهم أو يأخذ على أيديهم. ونُنبه إلى أننا لا نعمم الاتهام بهذه السلبيات التي نذكرها، فمن المعالجين قوم ذوو بصيرة وتقوى وعلم وورع، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، لكن كلامنا هنا موجه إلى فريق آخر خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فتورطوا في المخالفات، وسوف نتناول هذا انطلاقاً من منهج القرآن الكريم الذي فصل وفرق عند الكلام على اليهود: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] إلى آخر الآيات، وكذلك كان الحال لما ذكر الله سبحانه وتعالى حال الأعراب فقد ميز بين الصادقين المخلصين وبين المنافقين الكاذبين، فنحن نقصد من المعالجين الفريق الذين تلبسوا بهذه الأدواء التي نذكرها لا غير. بدايةً: نحن لا نختلف حول مبدأ التداوي، فقد جاء الإسلام بالعلاجات الشافية لكل الأمراض والأدواء، إما نصاً عليها وإما على سبيل الدلالة والإرشاد إليها، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تداوى وأمر الناس بالتداوي، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل)، رواه مسلم. وفي صحيح البخاري مرفوعاً: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)، وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال: نعم عباد الله! تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: ما هو؟ قال: الهَرَم)، يعني: الشيخوخة. في هذا الواقع الذي نعيشه الآن، والذي أفرزه مرض الفراغ، احتار المريض بين طبيبه وشيخه، فالطبيب يجزم بكل ثقة أن هذه حالة نفسية علاجها الدواء، والشيخ المعالج يؤكد أن هذه حالة مس من الجن، وعلاجها الدعاء وطرد هذا الجان. فالغرب وتلاميذه متمادون في علومهم المادية، ومنكرون لكل ما هو غيب، وأصبحوا يتحدثون في مراجعهم الطبية عن العين والسحر والحسد على أنها أوهام وأساطير قديمة قد ملأت رءوس العامة في المجتمعات البدائية، وقد تخطاها الإنسان المتطور، وأصبح الحديث عن هذه الأشياء يثير السخرية عندهم. أما في بلاد الشرق فقد بالغ الناس في الحديث عن عالم الجن والسحر والحسد، حتى اختلطت الحقيقة بأضعافها من الخيالات والأوهام والحكايات، وعلق كل شيء في عقول العامة على الجن والسحر والحسد، حتى أن أحدهم إذا ذهب إلى الطبيب فإنه يذهب قبل ذلك وأثناء ذلك وبعد ذلك إلى معالج يخلصه من الجن أو السحر أو غيرهما، وأصبح هناك الكثيرون ممن يمارسون هذه الوظيفة إن صدق بعضهم كذب معظمهم؛ لذلك نحن بحاجة ماسة إلى إيضاح الصورة، وضبط الأمور، وتخليص الحقيقة من بين ركام الخيالات والأوهام بعون الله تبارك وتعالى وتوفيقه.

ما أنزل الله من داء إلا وله شفاء

ما أنزل الله من داء إلا وله شفاء قال عليه الصلاة والسلام: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل). فما من شيء من الأمراض إلا وقد خلق له الله سبحانه وتعالى ما يضاده، وبلا شك أن هذا المفهوم الذي يؤخذ من هذا الحديث يؤكد فكرة النوعية، وتخصيص العلاجات للأمراض المختلفة، أي: أن هناك أنواعاً من التخصصات في علاج الأمراض، فليست كل الأمراض تعالج بنفس الطريقة كما يفعل بعض المعالجين الشعبيين، حيث أنهم يعطون نفس المادة لعدة حالات مرضية، ويتبعون نفس الطريقة في علاج جميع الحالات، وهذا تعميم خاطئ دحضه الرسول صلى الله عليه وسلم بحديثه، حيث بين أن (لكل داء دواء)، يعني: مختص بدفعه. وأيضاً: لما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: (أرأيت رقىً نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: هي من قدر الله)، فهذا يؤكد أن تقدير وقوع المرض والبلاء في نفس الإنسان أو جسمه ينبغي أن يواجه بأسباب هي أيضاً من قدر الله، فالمرض يقع بقضاء وقدر، وكذلك نحن نحارب القدر بالقدر، فندفع قضاء المرض بقضاء التداوي والعلاج المناسب المختص بهذا الدواء. ولا نقاش أيضاً في لزوم الأخذ بالأسباب العادية المتاحة والأسباب الشرعية لمواجهة هذه الآفات، وهذا لا يقدح في التوكل، بل هو من التوكل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل). ولا شك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء) فيه تقوية لنفس المريض قبل الطبيب، وفيه حث على الاجتهاد في محاولة اكتشاف أدواء الأمراض، فما من مرض إلا وله دواء إلا الشيخوخة والهرم كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى الأمراض التي عجز الطب إلى الآن عن اكتشاف دواء حاسم لها كالسرطان والإيدز وغير ذلك، فنحن نوقن قطعاً أن لها دواء، ومن الخطأ أن نقول: ليس لها دواء؛ لأنه ما من داء إلا أنزل الله له دواء، لكننا لما نعلمه بعد، فمن اجتهد ويسر له الأمر فإنه يصل إلى علاج هذه الأمراض. ولا شك أن المريض إذا تعلق بهذا الأمل الذي ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يقوي نفسه، وكذلك الطبيب يجتهد في إصابة هذا الدواء والتفتيش عنه.

مسئولية الطبيب في المحافظة على النفس البشرية

مسئولية الطبيب في المحافظة على النفس البشرية ابتداء: ننبه إلى أمر هام جداً وهو: أن المحافظة على النفس من المقاصد العليا والأساسية للشريعة الإسلامية، فحفظ صحة الناس ونفوسهم ليس متروكاً للعبث، والشريعة لا يمكن أبداً أن تفتح الباب لكل من هب ودب أن يعبث بنفوس الناس وبجوارحهم وبأعضائهم بمثل هذه الصورة التي تحصل اليوم. والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بتحري الحاذق من الأطباء، فقد ذكر مالك في موطئه عن زيد بن أسلم: (أن رجلاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أصابه جرح، فاحتقن الجرح الدم، وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه، فزعما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: أيكما أطب؟ -أي: أيكما أتقن للطب؟ - فقال: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: أنزل الدواء الذي أنزل الداء). وروي عن عمرو بن دينار عن هلال بن يساف قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مريض يعوده، فقال: أرسلوا إلى طبيب، فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟! قال: نعم، إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء). فاطمئنوا ولا داعي لهذا الشعور الخفي الذي يجده كثير من الناس من التشكك في الطب، وفقد الثقة فيه، والنظر إليه نظرة احتقار وازدراء؛ فإن اللجوء إلى الطبيب في مجال تخصصه يعتبر من الأسباب العادية التي قد طولبنا بالأخذ بها إذا ألم بنا مرض أو داء. ليس هذا فحسب! بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدد في عقوبة من يتولى علاج الناس وليس له خبرة وعلم كافٍ، فلابد أن يأمن إيقاع الضرر بالآخرين نتيجة الأخطاء المهنية، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم حمل هذا المتطبب دية الخطأ، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، أي: فهو مسئول، ويعتبر جانياً إذا أتلف شيئاً من أعضاء المريض، ويؤاخذ به شرعاً. إذا كنا نحن الآن وقبل الآن ننكر على الذين يعذبون الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم يغدون في سخط الله ويروحون في غضب الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)، فإن كان هؤلاء من أهل النار، فما بالنا نتساهل مع أناس يمارسون أقبح أنواع الجنايات تحت اسم العلاج بالقرآن؟! وكأن كلمة (القرآن) ترس يتترسون خلفه، وحصن يتحصنون به ليستبيحوا إراقة دماء الناس وقتلهم جهلاً وظلماً وعدواناً. إذا كنا ننكر على هؤلاء الذين يعذبون الناس فما بالنا نضفي الشرعية على هذه الأفعال؟! بل هذه الجرائم وهذه الجنايات التي ترتكب باسم العلاج بالقرآن؟! وهل التستر وراء القرآن يشفع لهؤلاء الذين يرتكبون نفس الجريمة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن).

أهمية التثبت من المرض قبل العلاج

أهمية التثبت من المرض قبل العلاج يجب أن نبين أن الظهور العلمي، والاكتشافات المذهلة في مجال الطب والعلاج، والتقدم العجيب الذي حصل فعلاً في مجال الأمراض النفسية قد اغتر به كثير ممن تربوا على طب وثقافة الغرب، وانبهروا به انبهاراً كلياً، حتى إنهم اعتقدوا أن كل شيء في هذا الوجود قد أصبح لهم واضحاً، وأن ما كان يعتقده الأولون في الماضي من حالات تلبس الجن أصبحت الآن مفهومة من خلال عملية اللاشعور التي تقوم بوظيفة دفاعية من أجل مصلحة توازن المريض. وأكثر الحالات إثارة للجدل هي حالات الهستيريا، وهي الحالات المسئولة عن هذا التشوش، فحالات الهستيريا هي نفس الحالات التي استغلها هؤلاء المعالجون الشعبيون لإثبات صحة عملهم وفاعليته، وهذه الحالات تصيب الشخصيات غير الناضجة انفعالياً، والقابلة للإيحاء في نفس الوقت، وعند عدم قدرة الطالب أو عدم رغبته مثلاً في إكمال دراسته، أو عدم تكيف زوجة في زواجها، أو نحو ذلك من الضغوط؛ فإنه يحدث نوع من الانشقاق في مستوى الوعي، فتحدث حالات الإغماء أو الصرع الهستيري، أو يتصرف الشخص بالفعل كأنه شخص آخر، ليعبر عما لم يستطع التعبير عنه في حالاته العادية، وأحياناً يغير صوته، والأطباء يعرفون هذا جيداً، كأن يكون المريض مثقفاً، وكان قد قرأ، الذبحة الصدرية، أو يعرفها، فيستولي عليه الوهم حتى أنه ليأتي بكل أعراض الذبحة وما به من ذبحة، أو يأتي بأعراض الشلل وما به من شلل، كما حصل في أول حالة هستيريا عولجت، وقد حدثت هذه الحالة في زمان الإغريق، حيث شعر شاب بأنه مشلول، وأتي به إلى المعبد كي يتعالج من الشلل التام الذي ألم به، فقام أحد رهبانهم ومضلليهم واختطف حقيبة الشاب من يده بسرعة وولى هارباً، فما كان من هذا المريض الذي كان يدعي الشلل إلا أن لحق الراهب بسرعة وبدون شعور! فأكثر حالات الهستيريا هي من حالات الالتباس التي أثرت على هؤلاء المعالجين، وسنوضح هذا الأمر إن شاء الله تعالى بالتفصيل. والشخص المعالج قد يفعل أشياء تؤكد هذا الإيحاء الذاتي الموجود عند المريض بسلوكياته، ويكون هذا المريض قد امتلأ عقله وشحن بعشرات القصص عن موضوع الجن، وسمع عدة أشرطة، وقرأ عشرات الكتب، وسمع محاضرات وأحاديث أصدقائه، ومجالس الحوار وغير ذلك، هذا إن لم يكن قد حضر حالات الجن، فهو مهيأ أصلاً لإتقان الدور تماماً، ويحفظ السيناريو -كما يقولون- من الألف إلى الياء بمنتهى الإتقان. فهؤلاء المعالجون الشعبيون يمارسون نوعاً من الإيحاءات للمريض، وقد يحدثون له نوعاً من الإيلام بالضرب إذا لزم الأمر، فيفيق من هذا الانشقاق الهروبي بسرعة، وينبهر بذلك العامة، وتزداد ثقتهم بهذا المعالج! لكن نفس هذه الأعراض ما تلبث أن تعود من جديد عند أول ضغط نفسي أو اجتماعي؛ لأن المعالج لم يبحث عن السبب الحسي، وإنما عالج العرض الموجود فقط في جو من الغموض، بل ويحدث أن يتمادى المريض في أعراضه ويصورها بعد ما رأى وسمع من إيحاءات عن تلبس الجن، وتزداد الأمور تعقيداً، وهنا يعود أهل المريض إلى المعالج الذي يبتزهم تحت وهم تأثير الجن! وقد أراد البعض منهم أن يوسع تأثيره على الناس، فسجل أشرطة تبين كيف يخرج الجن من المرضى، وانتشرت الأشرطة، وسببت فزعاً لكل من سمعها، وقد جاءوا زرافات ووحداناً! إلى هذا المعالج كي يعالجهم من تأثيرها، وكثير من الأخصائيين النفسانيين حينما سمعوا هذه الأشرطة -وهم من المسلمين المتقين الذين يؤمنون بلبس الجن- لم يشتبهوا لحظة في أن هذه حالات هستيريا، وليست في الحقيقة حالات مس شيطاني، وإنما تحدث هذه الهستيريا تحت إيحاءات هذا المعالج؛ لأن المعالج يرتكب أول خطأ عندما لا يتأكد ويتيقن من التشخيص، بل أول ما يبدأ بقراءة القرآن، ولذلك يحس هذا الشخص المريض بأنه مصروع، حتى ولو لم يكن كذلك. فالخطأ من المعالج عندما يربط بين قراءة القرآن وبين اللبس مباشرة دون تأكد، فالمريض عندما يستشعر أن المعالج يقرأ عليه القرآن الكريم، حينئذٍ يترسخ عنده نفس هذا الوهم والإيحاء بأنه مصاب بالمس.

حقائق تتعلق بوجود الجن

حقائق تتعلق بوجود الجن نظراً لكثير من هذه الممارسات المؤسفة في هذا المجال، فقد وجدنا انشقاقاً وحيرة عند هذا المريض بين الشيخ المعالج وبين الطبيب المعالج أيضاً، الأمر الذي أدى بمعظم الأطباء إلى أن يستنكروا ما يحدث، وامتد استنكارهم وبالغوا فيه حتى أنكروا حقائق ثابتة في القرآن والسنة لا يسوغ لمسلم أبداً أن ينكرها، وجاء هذا كرد فعل لهذا التخبط الذي حصل وعانى منه الناس، فهي حقائق في الأصل، لكنها أحيطت بأخطاء هؤلاء المشعوذين، وأحيطت بمبالغات العامة وأوهامهم. الذي يجهله كثير من الناس، خاصة الذين أنفقوا عمرهم في التشبع من الثقافة الغربية المادية الملحدة: أن مس الجن أمر ثابت، وأن السحر والحسد حقيقة ثابتة، بغض النظر عن هذه المبالغات والمجازفات التي تصدر من جهلة الناس، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275]. قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حالة صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً. وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ابن أبي العاص؟! قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما جاء بك؟ قلت: يا رسول الله! عرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي، قال: ذاك الشيطان، ادنه، فدنوت منه، فجلست على صدور قدميه، فضرب صدري بيده) يعني: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدر عثمان بيده، دون كسر عظم أو ضرب على الوجه، (وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو الله، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك)، رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة. وعند الشيخين من حديث صفية رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، ولاشك أن الطب الغربي أو الطب المادي الملحد لا يعترف بحقيقة الشيطان، ولا بالروح، ولا بالله، ولا بالقرآن، بل يتعامل مع الأمور المحسوسة، فمِن ثَم خُدع من خدع من الأطباء بأن جارى المراجع الطبية في هذه المزلقة المهلكة والخطيرة. وفي الجهة الأخرى بالغ مُدَّعو العلم بأسرار الجن في هذا الأمر، فادّعوا أن كل الأمراض هي مس من الجن أو هي تأثير سحر؛ ليستجدوا المرضى المساكين، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة الذين يلتمسون الشفاء في أي مكان، وبأية طريقة، وهكذا انتشرت من جديد على أيدي هؤلاء المعالجين العرافة والكهانة بصورة جديدة، ولكن في هذه المرة تختفي وراء لحية عمامة وقميص، ووراء ادعاء العلاج بالقرآن الكريم حتى يمارسوا هذا الدجل في حماية القرآن الكريم، وكي تزداد ثقة عند عامة الناس بهم. إذاً: الصنف الأول بالغوا في استنكار ما يحدث، وفي إنكار تأثير الجن والسحر والحسد بالكلية، ولاذوا واعتصموا بمكتسبات الطب الهائلة التي هي بالفعل قد كشفت كثيراً من الغموض، واعتقد الكثيرون منهم أنهم عرفوا كل شيء حتى لم يغب شيء عن مجال البحث والتجربة الملموسة! والواقع أن الأمر بخلاف ذلك، فما زالت أسباب كثير من الأمراض النفسية في مجال النظريات التي تتغير من وقت إلى آخر، وما زالت هناك أشياء في الطب شديدة الغموض، حيث تم وصف الكثير من مظاهر الأمراض، ولكن بقيت المسببات في حاجة إلى بحث طويل. ونحن ندعو الفريقين سواء كان الأطباء المتأثرون بالمنهج الغربي، أو الغُلاة الذين غلوا في موضوع علاج الجن إلى أن يتخلى كل منهما عن موقفهما المتطرف؛ لتكون القضية واضحة وموضوعية، مع الاعتراف والالتزام والاعتقاد بما ورد من آيات وأحاديث صحيحة في هذا الشأن، دون تقليل أو تهويل.

عوامل رواج السحر والمس ومظاهرهما

عوامل رواج السحر والمس ومظاهرهما توجد هناك الكثير من العوامل، نذكر منها:

فطرة حب الاستطلاع عند الإنسان

فطرة حب الاستطلاع عند الإنسان توصل الباحثون في تاريخ البشر وفي نفس الإنسان إلى أن الإنسان عنده ولع شديد بمعرفة الغيب، يقول العلامة ابن خلدون رحمه الله: اعلم أن من خواص النفوس البشرية: التشوف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر، سيما الحوادث العامة، كمعرفة كم بقي من عمر الدنيا، ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها، والتطلع إلى هذا الغيب طبيعة بشرية مركوزة في طبيعة الإنسان، مجبول عليها هؤلاء البشر، ولذلك يولعون بمعرفة ذلك عن أي طريقة، حتى عن طريق المنامات والرؤى، يريدون أن يعرفوا ويستكشفوا ما يأتي من هذا الغيب، أو ما يخفى عليهم من هذا الغيب. وقد أتت الشرائع الإلهية متوافقة تماماً مع هذه الغريزة، وهي غريزة حب الاستطلاع، أو غريزة الفضول والتطلع إلى استكشاف الغيب المجهول، حيث جاءت الشرائع الإلهية متوافقة مع هذه الفطرة، فقامت بإشباع هذه الفطرة، فجاء في الوحي الإلهي وعلى ألسنة الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ما يشبع هذا النزعة في النفس البشرية، فحدثت الناس عن العوالم غير المنظورة التي سماها القرآن الكريم: عالم الغيب، حيث حدثهم ربهم سبحانه وتعالى عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله، كما حدثهم عن عالم الملائكة، وحدثهم عن عالم الجن، وحدثهم طويلاً عن الموت، وعن سكرات الموت، وماذا يحدث بعد الموت، وماذا يحصل في القبر، وماذا يحصل في البعث والنشور، وكذا أحوال أهل الجنة وأهل النار، وأطلعهم على كثير من الحوادث التي ستقع على ظهر الأرض، وبالذات أشراط الساعة، كالمسيح الدجال، وغير ذلك من الأحداث التي تعلمون. فهناك طاقتان فكريتان في كيان الإنسان: الإيمان بما تدركه الحواس، والإيمان بما لا تدركه الحواس، فالإيمان بما تدركه الحواس اقتصرت عليه جاهلية العلم، ونعني بذلك: العلم الذي قال الله سبحانه وتعالى في أصحابه: {لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7]، فأبدل من العلم عدم العلم؛ ليدل على استوائهما؛ لأنه علم يقف عند الظواهر فقط دون أن ينفذ إلى ما وراءها من الحقائق. أما العلم بالغيب الذي لا تدركه الحواس فقد أنكره العالم المادي، حيث أنكر الروح؛ لأنها لا تخضع لحاسة الذوق، ولا السمع، ولا الشم، ولا البصر، ولا اللمس، أما الإسلام فإنه يؤمن بالطاقات الإنسانية جميعاً، ويعطي كل طاقة ما يصلح لها من الغذاء، فالعالم المادي مبسوط أمام الإنسان يدركه بحواسه أو بواسطة الآلات، والمجال رحب ومفتوح للبحث والتنقيب واستكشاف ما يفيد هذا الإنسان. أما عالم الغيب فقد أعطى الإسلام الإنسان غذاءً خصيباً في هذا المجال حينما أخبرنا عن الجن والشياطين، لكن قد اختلف حديث القرآن عن الجن عنه في حديثه عن الشياطين، فحينما حدثنا القرآن عن الشيطان فصل ووضح معالم الشيطان، ونفسيته، وأهدافه، ومراميه، وخطواته، ونوّع في الكلام تنويعاً كثيراً حتى نكاد نرى صورةً بارزة ومعالم واضحة مفصلة لهذا العدو المبين، بل كأننا نلمسه؛ لأن هذا -بلا شك- له دوره في حماية هذا الإنسان من كيد ذلك العدو المبين. أما الجن فقد جاءت الإشارة إليهم مفصلة في سورة الجن، وجاءت مختصرة في مرور عابر في سورة الأحقاف، وفي قصة سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وفي هذا فائدة، وهي: إشباع هذه الفطرة المغروزة فينا من حب استكشاف ما حولنا من العوالم الغيبية، وهذا مما يزيد مساحة العقيدة ويوسع رقعتها، ويلبي ميلاً فطرياً عند الإنسان إلى الإيمان بكائنات لا تدركها الحواس. إن الحديث عن الجن في بدايته موضوع شيق وجذاب، له بريقه؛ لأنه يلمس هذا الوتر الحساس في نفس كل منا، فللموضوع لذة وجاذبية، ويحيطه الغموض الذي يغري باكتشافه، ويشكل عامل جذب نحوه، ويشبع غريزة حب الاستطلاع والتفتيش وراء المجهول، وقد شكل هذا الفضول سبباً رئيساً في انتشار ظاهرة العلاج الشعبي للمس الجني. فهذا من أعظم الأسباب التي روجت لهذا الأمر، وجعلته على كل لسان؛ حيث أنه يشبع هذه الفطرة والغريزة المركوزة في كل واحد منا، وهي حب الفضول وتتبع مثل هذه الأخبار؛ ولأنها تشبع هذا الشعور الموجود في الإنسان، فكثير من الناس إزاء هذا الشعور وهذا الإشباع لا يسعهم إلا أن يغضوا الطرف عن التحري والتحقق والتثبت مما يسمعون؛ لأنه يوافق هذا الميل عندهم.

ترويج بعض الدعاة للموضوع من دون ضوابط

ترويج بعض الدعاة للموضوع من دون ضوابط هناك أناس مسئولون عن شيوع هذه الظاهرة، وفي مقدمتهم للأسف الشديد طائفة من الشيوخ والدعاة المشهورين، حيث رحبوا منذ البداية بهذا الموضوع، ونشروا قصصه بأنفسهم على المنابر، ونشروا تجاربهم الشخصية والقصص التي حكاها لهم الثقات على الملأ، دون أن يضعوا في اعتبارهم طبيعة هذه الجماهير التي يخاطبونها، وأن هذه الطبيعة قابلة للغلو في هذا الباب، فمن ثم فتحوا الباب دون أن يضعوا له ضوابط أو قيود، وهم إذ فتحوا هذا الباب، ولم يضعوا له ضوابط ولا قواعد، ولم يوجدوا في نفس الوقت نوعاً من الإشراف الجماعي أو الإشراف العلمي على هذا الأمر، فانتشرت التجارب وعمت الأخطاء الفردية.

اشتغال من قلت بضاعتهم من العلم والإيمان بالتأليف عن الجن

اشتغال من قلت بضاعتهم من العلم والإيمان بالتأليف عن الجن من المسئولين عن شيوع هذه الظاهرة: هؤلاء المعالجين الذين روجوا لهذا الأمر بصور شتى بين الشباب، فألفوا الكتب التي بلغب أكثر من (84) كتاباً -حسب إحصائية قام بها أحد الإخوة- وأنت حيثما حللت وأينما ذهبت في معارض الكتب فإنك تجد هناك قسم خاص بكتب الجن! ولو حاولنا عمل إحصائية متكاملة فإننا سنذهل بالعدد الكبير من المؤلفات في هذا الباب، وهذا أحد العوامل التي أودت بنا إلى هذه الظاهرة الخطيرة، حيث تفصل هذه الكتب في دراسة أعراض هذا المس المزعوم وطرق علاجه؛ فتتكلم عن الجن، وأحواله، ونواميسه، وكيف تعتدي على البشر، وكل مؤلف يقول لك: هذه تجربتي الشخصية، والحالات التي تأتيني، وفعلت كذا، وعالجت كذا، ولله الحمد والمنة استطعنا إخراج الجن. إلى غير ذلك مما نسمعه ونقرؤه. ليس هذا فحسب بل إن الشباب والأحداث والمراهقون خاضوا في هذا الأمر! فتجد حديث المجالس عن الجن، ويقرءون الكتب التي تتحدث عن الجن، وأشرطة الكاست أغلبها عن الجن، وهناك حوار مع الجني المسلم كما يزعمون! فالواحد منهم يظن أنه ما عليه إلا أنه يقرأ آيات من القرآن الكريم، فإذا ضحك المريض أو بكى أو اختنق أو تشنج؛ فإن هذا يعني أنه مصاب بالسحر أو بمس الجن، ويا حبذا لو تكلم فسرعان ما ينفعل المعالج مع هذا الجن، ويقوم بتسجيل المحاورة في أشرطة، ومن ثم يقوم بإذاعتها بين الناس. وقد انتشرت الحكايات الكثيرة عما يحدث في جلسات العلاج، وهذا من أكبر أسباب انتشار هذا الأمر، ونحن نذكر هذه الأسباب؛ لأنها مهمة جداً في الوقاية من هذا الداء، ومحاربة هذه الظاهرة التي أصبح كل واحد منا مسئولاً عن مواجهتها وإخمادها والقضاء عليها؛ لما يترتب عليها من مخاطر جسيمة سنذكرها إن شاء الله تعالى حينما نتكلم في النهاية عن طرق الوقاية أو العلاج.

الصحف

الصحف من المسئولين عن انتشار هذا الأمر وشيوعه: بعض الصحف؛ لأن الصحف لا تعترف إلا بالتوزيع، حتى تمتلئ جيوب أصحاب الجرائد، ولا نستثني الصحف المسماة بالإسلامية، فإنها قد دخلت أيضاً في هذا الموضوع، ولعبت دوراً كبيراً في الترويج له، وفتحت الباب على مصراعيه لإشغال الرأي العام بهذا الموضوع، وفتحت الباب لاستغلال الدجالين والمدعين لهذا الأمر. ويكفي لبيان المهزلة إعلان حزب من الأحزاب السياسية بخط عريض: لعلاج فشل الخطوبة المتكرر، فهم يعزفون على الوتر الحساس عند الجهلة وقاصري العقول من الناس، ويغرون الناس بأن عندهم الحل لكل مشكلة. إذاً: علينا أن نلقي هذا الطب -حسب اعتقادهم- في البحر؛ لأنهم يزعمون أن كل مرض سببه المس، بل إن هناك من يزعم بأن الجن يعمل عمليات جراحية! ويعالج العقم! ويعالج تكسير العظام! ويفعل كذا وكذا إلخ، وهناك أساطير وحكايات لا يعلم أين ستتوقف وكيف ستنتهي إلا الله سبحانه وتعالى. فالحقيقة أن سلبيات هؤلاء المعالجين كانت سبباً رئيساً في تفاقم هذه الظاهرة، وفي كثرة هذه الحالات، وإلا فإن ظاهرة المس الجني موجودة في كل زمان، بل يوجد في كتب الطب النفسي بالذات صور لعملية الإحراق للمصروعين، حيث كانوا يعالجون حالات الصرع بالإحراق؛ حتى تخرج الأرواح الشريرة من المريض كما كانوا يقولون, وهذا يوجد منذ زمن بعيد جداً، حتى في كتب أهل الكتاب توجد حوادث تنسب إلى المسيح أنه عالج فيها المس الجني.

التهويل والإفراط

التهويل والإفراط ظاهرة المس الجني موجودة في كل زمان، لكنها كانت محصورة ومحدودة، وكذلك ظاهرة السحر والحسد، فإنه وقبل انتعاش الصحوة الإسلامية كان الناس يراعون أمور المروءة، وكان من أكبر العيب أن تسمع رجلاً يقول: عمل لي فلان عملاً؛ لأن هذه الكلمة لم تكن تصدر إلا من النساء الأميات القاصرات الجاهلات، وكان هذا يعتبر من خوارم المروءة، ولما كنت في الثانوية كان المدرس يقول لنا: ماذا تعمل في المسألة؟ نقول: نعمل عملاً، وكان الواحد منا يستحي من قول هذه الكلمة؛ لأنها لا تشيع إلا في حصص الرياضة، فنظراً لمشابهتها للألفاظ النسائية كان الإنسان يستحي من استعمال هذا التعبير، أما الآن فإن هذه الكلمة قد راجت حتى أنه لا يكاد يوجد حدود بين عقلية النساء التافهات القاصرات، وبين رجل ضخم البنية، كما قال تعالى: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]، ثم تراه يقول: هذا عمل لي عملاً! ويستعملون هذه الألفاظ التي ما شاعت إلا على ألسنة النساء، وليس كل النساء بل فقط الأميات الجاهلات. بفضل هؤلاء المعالجين المزعومين انتقل موضوع الجن والسحر والحسد من الوسط النسائي إلى وسط الرجال، أو بتعبير أدق: إلى وسط الدعاة، ومن بعض الدعاة انتقل إلى الوسط الرجالي، واستوى الرجال مع النساء في الاستغراق والاندماج مع هذه الظاهرة الخطيرة. فكل ما فعله هؤلاء المعالجون أنهم لم يعالجوا في الحقيقة، بل وسعوا رقعة هذا البلاء، ونشروا خبره، وسلطوا الأضواء عليه، ولفتوا أنظار الناس إليه، وفتحوا أبواب الشر على مصراعيها! ولا زالت حالات المس والصرع الجني موجودة، لكنها في الحقيقة ليست بهذه الكثرة التي نراها اليوم، فكثير مما نرى أو نسمع عنه من الحالات -بل أغلبها في الحقيقة- ليست مساً جنياً، وليس لها علاقة بالصرع، وإن تكاثر المعالجون على الخطأ في تشخيصها، ومن ثم في علاجها. وسوف أذكر دليلاً حياً عابراً على هذا الكلام: أحد المشايخ المشهورين في السعودية وهو الشيخ: العمري كان له للأسف الشديد دور فعال في نشر الاهتمام بموضوع الجن، حتى أنه من شدة استغراقه في هذا المجال كان العلماء ينكرون عليه الإفراط في موضوع الجن، ثم دار الزمان دورته، وإذا به تُنشر له مقالة في إحدى الجرائد العالمية المشهورة بأنه ينكر تماماً الصرع الجني، ولا يعترف بشيء اسمه: صرعاً جنياً! وهذا بسبب غلوه وإفراطه في موضوع الجن، حيث جعله ينقلب إلى الجهة المقابلة، بعدما خاض فيما خاض، والآن بنفس اللسان ها هو يقول: إن هذا الصرع لا أصل له على الإطلاق! وينكر حقيقة الصرع الجني للإنس، مما اضطر العلماء هذه المرة أيضاً أن يردوا عليه ليردوه إلى الحال الوسط، وهو إثبات المس.

عدم التفريق بين المرض العضوي والنفسي وبين الصرع والمس

عدم التفريق بين المرض العضوي والنفسي وبين الصرع والمس بعض المرضى بمرض عضوي مزمن أو نفسي ييأسون من علاج حالاتهم، أو من قدرتهم على الخروج من المشكلات الاجتماعية، فإذا ما انتبه صاحب هذا الدافع إلى هذا الداء الجديد داء السحر واعتداء الجن؛ فسرعان ما يتعلق بالقشة، ويهديه تفكيره إلى أن سبب هذا المرض الذي يعاني منه هو من الجن أو السحر أو نحو ذلك، فيهرع إلى طلب العلاج. هناك أمراض عضوية، وهناك أمراض نفسية، والمريض بالمرض النفسي قد يتأثر بما يقرأه ويسمعه حتى يقع فريسة الإيحاء الذاتي، فيقرأ عنه من باب الفضول وحب الاستطلاع خاصة النساء؛ لأن أصل كلمة هستيريا مأخوذة من كلمة (هسترا) يعني: الرحم، فكانوا فيما مضى يقصرون هذا المرض فقط على النساء، إلى أن اقتنعوا في العصر الحديث بأنه مرض يصيب الرجال والنساء، لكن نسبة النساء فيه أكثر. الشاهد: أن النساء لهن تأثر بهذا المجال أكثر من غيرهن، حيث يقرأن عن الجان، ونواميسه، وحركاته، وكيفية اعتدائه ومسه للإنسان، ويفصل مؤلف الكتاب، ويشرح أعراض المرض، وأسبابه، وطرق علاجه وأكبر خطأ يرتكبه المؤلفون: أنهم يجعلون هذه المادة متوفرة ومتاحة لكل من شاء، ويسترسل المؤلف في ذكر أعراض قد تتشابه في كثير من الحالات مع أعراض الأمراض العضوية والنفسية؛ من صداع، وضيق الصدر، وارتفاع ضغط الدم أو انخفاضه، أو مغص، أو غثيان، أو شبه غيبوبة، أو اضطراب عصبي، أو تشنجات إلى أو غير ذلك، وهذه الأعراض قد تقابلنا في حياتنا اليومية نتيجة أسباب شتى ومشاكل اجتماعية يعانيها الإنسان، فإذا كانت المرأة أو الشخص الذي يقرأ هذا الكتاب يعاني من هذه المشكلات فسوف يقتنع في ضوء ما قرأه أن به مس من الجن، أو أن هذه المرأة وقعت في شرك السحر، في حين أن الحقيقة غير ذلك، خاصة وأن بعض المرضى النفسيين يكون عندهم ما يسمى بالميل للاضطهاد، وكثير من الشعب المصري عنده ميل إلى أن يبين أنه مظلوم، وأن بعض الناس يحسدوه، أو يتآمروا عليه، أو يعملون له سحراً، أو أن الجن يؤذونه إلى غير ذلك من مظاهر الشكوى والتظلم؛ وإسقاط المشاكل على الآخرين. فكثير من الحالات -التي هي في الأصل سالمة من الجن- عندها أعراض إما عضوية أو نفسية، وتجد أحدهم يتوغل في الوهم إلى أن يصبح الوهم في نظره حقيقة واقعة، وربما أدى به الأمر إلى أنه يتعرض لصرع الجن حقيقة؛ بسبب ذهابه إلى المعالجين، وهم الذين يجلبون له الجن، ويجنون عليه.

كثرة التخوف من الجن والمبالغة فيه

كثرة التخوف من الجن والمبالغة فيه من جراء انتشار هذا الكلام، والمبالغة في الحديث عنه من خلال الكتب والأشرطة والجرائد انتشرت الأوهام والوساوس، والخوف المرضي، والهلع، وتغلغل ذلك في قلوب كثير من الناس، حتى إنهم عظموا الجن، وخافوا ورهبوا منهم، وضعف التوكل على الله سبحانه وتعالى، وتعلق الناس بالمخلوق الضعيف الذي يعتقدون أن عنده العلاج بدلاً من وثوقهم بالله سبحانه وتعالى، فصار فيهم شبه بمؤمني الجن الذين قالوا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]، وهذا نفس ما حصل من هؤلاء المعالجين ومن هؤلاء المرضى، وقوله: (رهقاً) يعني: خطيئة وإثماً، قال القرطبي: المراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، كان الرجل إذا نزل في وادي وأراد أن يبيت فيه يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فيبيت في جواره حتى يصبح، أي: يتعوذ بملك الجن في هذه المنطقة من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار هذا السيد حتى يصبح. قال مجاهد: ((فَزَادُوهُمْ)) أي: أن الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوذ، والواو هنا -على هذا القول- تعود إلى الإنس، يعني: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ} [الجن:6] أي: يتحصنون ويحتمون ويلتجئون، {بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] يعني: فتسبب الإنس بفعلهم هذا في أن زادوا طغيان الجن، ونحن لا نعتب على الجن في هذه الحالة؛ لأنهم وجدوا أناساً عقولهم ضعيفة، فما بالهم لا يلعبون بهم وقد أتوا إليهم بأنفسهم، وأعطوهم من السلطان ما لم يكونوا يحلمون به؟! ولماذا لا يصرعهم الجن في الحقيقة؟! حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن. وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن، وقال سعيد بن جبير: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] يعني: كفراً. وقد فُتح باب من الشر والبلاء، وخُدش التوحيد، وانتشر السحر، والجدل، وإهمال الدعوة بسبب الانشغال بكل هذه الأشياء التي فتحت لنا أبواباً من الشر ما كنا نسمع عنها من قبل، ولولا أني لست من أنصار تفسير كل شيء بالتآمر العلماني واليهودي والصليبي والاستشراقي لقلت: لا يبعد أن يكون هذا من فعل أعداء الإسلام، فهم الذين شجعوا هذا الخط، لكن أنا لست من أنصار هذا المنهج، وقد حقق هؤلاء من حيث لا يدروا لأعداء دعوة التوحيد مكاسب عظيمة جداً، ولابد أن أعداء الإسلام سيشكرون لهم أن شغلوا الناس بهذه الأشياء، وصدوا الناس عن سبيل الله، وأوقعوهم في الشرك، وأحيوا كثيراً من الفتن التي نلمسها!! يقول الرازي في تفسير الآية: المعنى: أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفاً من أن يغشاهم الجن، ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان، فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترءوا عليهم، فزادوهم ظلماً. إذاً: الإنس هم الذين تسببوا في زيادة طغيان الجن، وكثير من هؤلاء الناس الذين يدّعون الصرع، ومن هؤلاء المسمين بالمعالجين، كان لهم دور كبير في إشاعة المس الوهمي والمس الحقيقي، ((فَزَادُوهُمْ رَهَقًا))، فاغتنم الشيطان حالة الرعب والفزع التي انتابت الناس بطريقة وبائية أكثر مما غنم من الطبع واللمس نفسه. ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه فكان أن زادهم الشياطين رهقاً لما رأوهم قد ولعوا باللبس الجني، ونفخوا في الشيطان، حتى خافوه ونسوا قوله تبارك وتعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]. بدلاً من الدعوة إلى التوحيد، وإلى تقوية الإيمان والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن يتلوا عليهم قوله تبارك وتعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]، بدل هذا كله؛ إذا بهم ينفخون ويعظمون الشيطان الذي أُمرنا بتحقيره وتصغيره، والصواب هو تحقيره وازدراؤه، كما روى الإمام أحمد: (إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر)، قوله: (ينضي) يعني: يأخذ بناصيته ويقهره ويذله، ألم يكن إبليس كما قال النبي عليه الصلاة السلام في حق ابن الخطاب: (ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيره)؟! بدل أن يوقدوا شعلة الإيمان واليقين في قلوب الناس، والتوكل على الله سبحانه وتعالى؛ حتى تحرق بنورها هؤلاء الشياطين، إذا بهم يجتهدون في إطفاء هذه الجذوة الإيمانية بتضخيم الشياطين، وأن الشياطين يفعلون ويفعلون! وهم بهذا الاعتقاد يضادون المنهج النبوي الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا كيف نحقر الشيطان، وكيف نتجنب الأشياء التي تنفخ هذا الشيطان وتعظمه، فعن رجل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فعثرت دابتي، فقلت: تعس الشيطان، فقال: لا تقل: تعس الشيطان، ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب)، أي: لأنك إذا قلت: تعس الشيطان، كأنك تبين أن الشيطان قد بلغ منك مبلغاً حينما يكيدك وأنه يفعل بك ما يريد، وهذا مما ينافي سلوك أهل التوحيد. فهؤلاء الذين يهزمهم الرعب والخوف هم مرضى من كثرة ما يسمعون، فهم يفزعون ويخافون، بل ويخيفون الأطفال، فإن الأطفال حينما يسمعون هذه الأشياء يخافون من النوم في الظلمة، ومن الجلوس في البيت بمفردهم، وهذا خوف مرضي، وهو خطر على نفسية الأطفال بلا شك. فهؤلاء يهزمون أنفسهم بأنفسهم بسبب الرعب الذي يُدخلونه في قلوبهم من خوف الجان، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50]، وينادي أولهم آخرهم: الجن الجن، السحر السحر، العين العين!

خطر انغماس بعض الدعاة في علاج المس

خطر انغماس بعض الدعاة في علاج المس إن ظاهرة انغماس المعالج في هذا الأمر ينتج عنها أشد الأضرار، وأول من يصطلي بنارها هو المعالج نفسه، فبمجرد أن يشاع أن فلاناً عالج حالة مرضية، إذا بالناس يتقاطرون على بيته ليل نهار، وإذا بطابور طويل من المرضى يتبعه من البيت إلى المسجد، ومن منزل إلى آخر، والنتيجة هي اضطراب شامل في نظام حياته، واستهلاك كامل لوقته، ولا أحد يعينه على الانتظام في عمله أو وظيفته أو دراسته، فيحدث عنده خلل على مستوى المسئوليات الشخصية أو الأسرية أو الاجتماعية أو الوظيفية أو الدعوية، فالذي كان داعية من قبل أصبح في وضع يقول له الناس: ألست أنت الذي كنت تنهانا عن الشعوذة ها أنت الآن تمارس ما كنت تسميه من قبل شعوذة؟! وهو مستغرق تماماً في علاج هذه الحالات المزعومة، وبعد أن كان محتسباً إذا به يترقى درجة ليصبح محترفاً ومرتزقاً بهذا العمل، وقد يصل به الأمر إلى المغالاة في الأجور، والإلحاح في الطلب! أما المعالج نفسه فمن أخطر الآثار عليه: أنه لو كانت الحالة ليست حالة مس، وإنما هي حالة وهم ومرض كاذب، فإنه قد يسلك مسالك تؤكد لهذا المريض الحالة التي عنده تماماً، ولا يبين له كما بين الطب الجسمي العضوي والطب النفسي، كأن تكون حالة أعصاب أو نوعاً من القلق أو الأرق، فقد يشتكي المريض من نفس الأعراض -وهو صادق في ذلك- لكن سببها هو سبب نفسي، وليس سبباً عضوياً، فهي حالة نفسية بطريقة معينه تؤثر وتوجد نفس الأعراض، وليس سببها هو الجن. فهذا المعالج أحياناً يضرب هذا المريض، وقد يصل بالضرب إلى حد القتل! فيُصدم هو، وقد يصاب بالذهول، أو الجنون، وربما يؤثر على بيته؛ لأنه غالباً يهمل شئون أسرته فيتصدع بيته، وربما وصل الأمر مع زوجته إلى الطلاق، وإذا كان من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أو من طلبة العلم الشريف فلا شك أن هذه الوظائف الشريفة سوف تُطوى في عالم النسيان؛ لانغماسه في علاج هذه الحالات، وهو في الحقيقة ضرب من التخدير، وإلهاء الناس عن واقعهم وعن الطريقة الصحيحة للتعامل مع الشيطان، وهي: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6]. فكم شغلت هذه الظاهرة دعاة عن الدعوة؟! وكم حولت دعاة إلى مشعوذين وكهنة؟! حتى أن بعض الناس يقول لأحد الإخوة: أنا بالأمس قابلت أخاً كاهناً! منذ متى أصبح الكاهن أخاً؟! ومنذ متى أُضيفت كلمة (أخ) إلى (كاهن) حتى يصبح أخاً وكاهناً؟! الله المستعان. ومن الأمور الخطيرة جداً: أن الشياطين أذكياء في إغواء الناس وإضلالهم، فالشيطان إذا رأى الناس قد التفوا حول شخص من هؤلاء المعالجين، فإن له طرقاً شتى يحاول أن يفتن بها هذا المعالج، كأن ينفخ فيه الغرور، حيث يكون هذا الشيطان متلبساً بشخص، فيقول له الناس: سوف نأتي لك بالشيخ فلان المعالج، فيقول: إلا فلان! لا تحضروا هذا الشيخ؛ فإنه سيحرقني، أنا سأهرب وأخرج من غير أن تأتوا به!! والشيطان له هدف من وراء هذا الكلام، وهو نفخ المعالج، لكي يملأه بالغرور، حتى يتمادى في هذا الطريق المهلك؛ لأن الشيطان خبير في إغواء الناس وإضلالهم، فالشيطان يساعده في وظيفته دون أن يشعر هو، ويقع فريسة للشيطان دون أن يشعر، وكم سمعنا من هذه المواقف التي تماثل ما ذكرناه. وقد انتشرت هذه الظاهرة المهلكة، ثم ينتج عن ذلك غلو في هذا المعالج، حتى ربما يعتقد الناس أن فيه سراً معيناً ليس موجوداً في غيره، فالناس يتزاحمون عليه ويشدون إليه الرحال من كل بلاد إليه ويضربون إليه أكباد السيارات حينما يسمعون ما ينشر عنه من حكايات غريبة، وكيف أن أكثر المصروعين تكلمت الشياطين على ألسنتهم أمام هذا القارئ، وأخذ العهد من الشيطان أنه لا يعود إلى ذلك المصروع، وهذا المعالج ينخدع بكلام هذا الجني الشيطان، وربما يكون المتكلم هو المريض نفسه حيث يتقمص شخصية الجني، ولكثرة ما سمع عن الجن فإنه يعيش نفس الدور بكل إتقان. وهذا الكلام الذي يقوله الجن أو الشيطان إنما هو استدراج وفتنة له؛ كي يصرفه أكثر عن سبيل الله وعن الصراط المستقيم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولما كانت الخوارق كثيراً ما تنقص بها درجة الرجل -أي: تنقص درجته في الولاية بسبب حصول الخوارق- كان كثير من الصالحين يتوبون من مثل ذلك ويستغفروا الله تعالى، كما يتوبوا من الذنوب كالسرقة وغيرها، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها -يخشى من الكرامة؛ لأنها قد تنزل مرتبته- وكلهم يأمر المريد -أي: يأمر تلامذته- ألا يقف عند خوارق العادات، ولا يجعلها همه، ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كانت كرامات، فكيف إذا كانت في الحقيقة من الشياطين؟! فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر، ويقول: هنيئاً لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك -أي: أنه شيطان- وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير ونحوها، وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك. فأنت تعرف أن هذا شيطان، وهو الذي يمدحك، فليس في الأمر أي اشتباه، وإذا كان أحد السلف يأتيه الرجل ويقول له: رأيتك في الجنة تطير! فيبكي ويقول: لعلها تكون من الشيطان يريد أن يغرني ويريد أن يذلني. فلابد أن يكون الإنسان على حذر من الشيطان حتى اللحظة الأخيرة. وقد روي في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه عند موته فوجئ ابنه بأنه يقول: لا بعد، لا بعد، فبعد ما أفاق قال له ابنه: يا أبت! قلت شيئاً غريباً! كنت تقول: لا بعد، لا بعد، قال: يا بني! هذا الشيطان عرض لي في ركن الحجرة، وهو يعض أنامله ويقول: فُتَّني يا أحمد -أي: سوف تموت وما استطعت أن أضلك- فكان يرد عليه الإمام أحمد: لا بعد، لا بعد. أي: ما دام فيَّ عرق ينبض فلا آمن الفتنة. وهذا باب من أبواب الفتنة الخطيرة جداً، وأنت نفسك تعرف أن الشيطان هو الذي يقول: إلا المعالج فلان، انتبهوا! لا تأتوا لي بفلان، أنا سوف أخرج، لكن لا أريد أن يأتي ليحرقني إلى آخر هذا الكلام الماكر، فهو شيطان، وأنت تعترف أنه شيطان، فكيف تقبل نصيحة شيطان رجيم؟! وكيف تغتر بكلامه وبمدحه إياك وهو يريد أن يغرك ويفتنك عن صراط الله المستقيم؟! فهذا المعالج قد يتوهم أن الناس الذين ازدحموا على بابه من كل الآفاق إنما هو لقوة إيمانه، ويرى المرضى الكثيرون الذين يعافيهم الله سبحانه وتعالى على يده، وكيف أنه قهر الشياطين وقهر الجان، فأصبحت الشياطين تخاف منه وتخرج من المصروعين، فيتوهم أنه من الأولياء الأبرار، ويصيبه العجب الذي هو أخوف ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وها هو عمر رضي الله تعالى عنه يخاف على أُبيّ رضي الله تعالى عنه من كثرة الأتباع والتلاميذ الذين يطأون عقبه، وهذا عمر رضي الله عنه يعزل خالد بن الوليد وهو في أوج انتصاراته وفتوحاته؛ خشية أن يفتن الناس بـ خالد بن الوليد ويظنوا أن النصر يأتي من خالد بن الوليد، فإذا كان هذا في حق خير هذه الأمة التي أُخرجت للناس، فكيف في حق هؤلاء الضعفاء؟! أما الأثر على المريض -ونعني به: المريض بغير الصرع، وعومل على أنه مصروع- من الضرب أو القتل الذي يحصل له إذا عولج بالقرآن الكريم وهو في الحقيقة ليس مصروعاً، فلا يحصل له شفاء في نظره، بل قد يحصل تشكيك لضعاف اليقين من هؤلاء المرضى في جدوى العلاج بالقرآن الكريم، وقد يصل أمر المريض إلى أن يفكر في الانتحار إذا أيس من العلاج.

تصحيح نظرة العوام للقرآن

تصحيح نظرة العوام للقرآن كثير من الناس يرى أن القرآن الكريم عبارة عن دواء يؤخذ للعلاج! هذا هو تصورهم للقرآن، وهذا هو المدخل الذي دخلوا منه للتعامل مع القرآن، فالقرآن في نظرهم ما هو إلا دواء، والمقصود منه أن يصل بالمريض إلى حالة الشفاء، وهذا اعتقاد غير صحيح، فينبغي التعامل مع القرآن على أنه كتاب الله سبحانه وتعالى، وأنه طريق السعادة في الدارين، ومنهج كامل للحياة، ولا يُنظر للقرآن على أنه فقط مجرد دواء لبعض الأمراض، بغض النظر عن أنه منهج شامل لحياته. وينبغي ألا يكون التعامل مع القرآن الكريم من خلال التلاوة الذاتية التي يتعبد بها الإنسان بالتلاوة والصوت والحركات والحروف، أو من خلال تشغيل المسجل، وحتى الإخوة الملتزمون يكتفي بعضهم بسماع المسجل، ويقول أحدهم: أنا لا أقطع صلتي بالقرآن، بل أسمع إذاعة القرآن الكريم كثيراً. صحيح أن هذا شيء طيب، لكن لا شك أن الأعظم والأجدى والأكثر ثواباً أن تقرأ وتتعبد الله بتلاوة القرآن، بحيث يخرج من قلبك ولسانك أنت، ومن الجفاء أن يغلب علينا الاهتمام بالقرآن عن طريق الأشرطة، أو الكمبيوتر. ويحصل عند بعض المعالجين أن يصرف للمريض شريط تسجيل للقرآن الكريم فيه سورة البقرة وآيات محدودة معدودة، ويكون هذا كل ما يعالج به المريض من القرآن الكريم. وكثير من الناس إذا مرض لهم مريض -وقد لا يكون مصروعاً- يسارعون قائلين: ابحثوا عمن يرقيه! ابحثوا له عن معالج! هل من راق؟! دون أن يكون هناك حافز على أن يرقي الإنسان نفسه، مع أن الأصل في العلاج أن كل إنسان يرقي نفسه، وإلا ما الذي وسع دائرة هذه الظاهرة؟! ما لماذا لا ترقي نفسك بالقرآن؟! هل من اللازم إيجاد وسائط؟! نحن لا نقول: إن الإنسان لا يجوز له أن يرقي غيره، لكن نقول: لماذا نحصرها في هذا الإطار الضيق؟! لماذا لا يرقي الرجل زوجته بدل أن يحملها بنفسه إلى هؤلاء الناس؟! لماذا لا يرقي ولده؟ لم لابد من معالج اصطفيناه لهذه الوظيفة بالذات؟ لقد اصبح الجهد الوحيد والهدف الوحيد عند حصول حالة من هذه الحالات هو البحث عمن يقرأ عليه وكفى! كأن الناس اعتقدوا أن هذا هو التصرف السليم، وتجاهلوا أن ربنا سبحانه وتعالى أقرب لأحدهم من حبل الوريد، فالقرآن موجود، والتحصينات القرآنية موجودة، والأدعية النبوية موجودة، فلماذا لا ترقي نفسك أنت؟ لم لابد من معالج كما يزعمون؟

بعض أخطاء المعالجين بالقرآن

بعض أخطاء المعالجين بالقرآن من أخطار المنهج الذي يتعامل به هؤلاء المعالجون مع هذه الحالات -وهذا يصدر عن حسن نية المعالج إن شاء الله- أنه يحاول أن يستثمر سلطة المرض في تحسين التزام هذا المريض بالإسلام، وهم يصيبون فعلاً حينما يقولون: هذا بسبب الذنوب والمعاصي، فيقول له مثلاً: الجني يأتي في البيت ويعاكسك بسبب وجود صور في البيت، أو فيه كلب، أو أنك تستمع الموسيقى، أو عندك تلفزيون أو فيديو إلخ، فعليك أن تتخلى عن هذه الأشياء؛ من أجل أن تحصن نفسك من الجن، ولكي تتحسن حالتك. فكأن نظرته لطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست مبنية على أنه يجب عليه كمسلم أن يغير أسلوب حياته كله، وأن يلتزم بدين الله كله {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] بل كأن هذه حالة مؤقتة من الالتزام مرتبطة بالشفاء من المرض. حكى لي أخ: أن رجلاً من هؤلاء الناس قالوا له: عندك صور في البيت؟ قال: نعم، قالوا: وموسيقى وتلفزيون؟ قال: نعم، قالوا: والنساء متبرجات؟ قال: نعم! فانتهى الأمر بالاتفاق معه على التخلص من هذه الأشياء لكي يُشفى هو أو زوجته من المرض، فتخلص منها، وطال عليه الأمر، ثم تحسنت الحالة، فإذا به يعود لهذه الأشياء مرة ثانية، فعادوا بالمريض للأخ المعالج، فقال له: أنت عدت إلى الصور وكذا وكذا؟ قال: نعم، فقال: لا يوجد علاج إلا أنك تترك هذه الأشياء، وهذا المدخل جعل الالتزام بأنه علاج حالة، وهذا مدخل غير صحيح، وأما المدخل الصحيح فهو أن يكون الالتزام هو الأصل، وطاعة لله سبحانه وتعالى هي الأساس، وحتى لو قدر مرض فهو بلاء على المسلم، وينبغي أن يصبر عليه، وليس مجرد الالتزام عبارة عن آلة نستعملها مؤقتاً ثم نخلعها بعد ذلك إذا شُفيت الحالة! وقد يكون المريض موهوماً، يتملكه التأكد من أنه مصروع وهو ليس كذلك، فما أن يُقرأ عليه القرآن إلا ويتأكد أنه فعلاً مصاب بالمس، وهو يحفظ الحوار؛ لأنه سمع الكثير من هذه الحوارات في الأشرطة وفي غير الأشرطة، فأول ما يقرأ عليه القارئ إلا وهو يتخيل Q ما اسمك؟ فيجيب: أنا جرجر! وهكذا يمثل الحوار، ويجيب على أسئلة المعالج، ويعيش الدور فعلاً بمنتهى الصدق، وبمنتهى الإتقان، مع أنه ليس فيه مس ولا شيء من هذا، وإنما لكثرة سماعه وتخيله، كما سندلل على ذلك إن شاء الله.

خطورة التعمق والاسترسال في علاج الصرع والمس

خطورة التعمق والاسترسال في علاج الصرع والمس لم أكن أود أن ننشغل بهذا الموضوع، لكن يبدو أننا محتاجون لوقت أكثر مع المعالجين وليس مع الجن! كثير من الناس يهابون التحدث في هذا الموضوع، وكثير من المعالجين يتحصنون وراء كلمة: (العلاج بالقرآن الكريم)، وإذا انتقدتهم قالوا: إذاً أنت تنكر أن القرآن شفاء! وهذا نوع من الإرهاب والتخويف الذي يغطون به جرائمهم، ويقولون: أنت تنكر المس، وأهل السنة والجماعة يقرّون به، وتنكر السحر وهو مذكور في القرآن، وهذا كله مما يتحصنون وراءه لكي يستبيحوا ما يفعلونه من هذه المخالفات. وإذا تجردنا من كثير من الضغوط التي تفرض علينا في هذه القضية، سنجد أن الجن عالم يكتنفه الغموض من كل جوانبه، ولا نستطيع أن نستوضح كل شيء إن نحن فتحنا هذا المجال؛ لأن الله سبحانه لم يخبرنا عن كل شيء في حياة الجن حتى نخرج من عالم الإنس إلى عالم الجن، وماذا يأكلون ويشربون ويلبسون! فنحن بشر، وعلينا أن نتعامل كبشر، وأن نتفاعل مع الأحداث التي تمر بنا من مرض أو غيره حسب ما خوّلنا الله، ونتعامل مع المرض تعاملاً طبيعياً جداً، فالذي يمرض عليه أن يذهب للطبيب الأخصائي ويتعالج، وهو بذلك متوكل على الله سبحانه وتعالى، ويأخذ بالأسباب التي ندبنا إليها الشرع، أما أن نفتح باب الجن فهذه متاهات؛ لأن للجن عالم مجهول مجهول مجهول، وعالم غامض غامض غامض ليس له حدود، والإنسان إذا دخل فيه فإنه يضيع في متاهات ودروب ومسالك لا أول لها ولا آخر، بل عبارة عن حلقة مفرغة فقط. حتى أن واحداً من أشهر معالجي الجن، وهو الشيخ العمري -سامحه الله- بعد ما دوّخ الدنيا كلها ونشر موضوع الجن وأشاعه وشجعه، وكان يحكي أشياء عن الجن، ومع ذلك ها هو الآن يأتي ويقول: كل هذا وهم ليس له حقيقة! آلآن بعد ما أذيع وأشيع وروج هذا الضلال المبين يعالج بالضد من ذلك؟! فهذا الموضوع كله مثل الدخان، كأنه حيرة وغموض وضباب وعدم وضوح، فهو فن لا تضبطه ضوابط نقلية محدودة وحازمة، والذين يكثرون الكلام في هذا المجال إنما يلتقطون أشياء من هنا وهناك، ويقولون: وجدنا كذا في الكتب والمراجع القديمة، وهي أشياء عجيبة غريبة، أو أشياء قالها علماء أفاضل، لكن كانت من باب الاجتهاد، ولا تقوم على دليل، فلماذا لا نرفضها؟! ولماذا ندس أنفسنا في كل هذه الأشياء وهي مما لم يقم عليه دليل بعد؟! ولاسيما السلفيين، أين السلفية؟! أليست السلفية: اتباع كل شيء بالدليل؟! أليست السلفية تمحيص أقوال العلماء ورفض ما لم يقم عليه دليل؟! إذاً لماذا كثر هذا الأمر فينا ونحن كنا أولى الناس بالتنزه عن الغوص في هذا الوحل؟! متاهات يهيم فيها الناس وراء من لا يعرفون من هم ولا كيف هم، أعراض غير محددة أعراض لمرض غير حاسمة أعراض تكتنفها الاحتمالات علاجات مخترعة بنفس الجو غير معروفة وغير محددة، وليس لها أول ولا آخر. وأما من يضرب المصروع، نقول له: من أين لك أنه صرعه جني؟ وما هو الدليل على أن هذا مصروع بالجن؟ وما هو الضمان قبل الشروع في الضرب أن هذا الضرب سوف يقع على الجني لا الإنسي؟ أين الضمان أنك لن تظلم هذا المريض المسكين؟! وقد حصل في كثير من الحالات أن يخطئ هذا المعالج وينهال بضرب فظيع جداً على جسد المريض، وهو معتقد أنه يقع على الجني -كما قرأ في الكتب- ولا يقع على المريض، فيفاجأ بأن الجني غير موجود أو أنه قد هرب، ووقع الضرب على المريض، وأما كلام العلماء الذين قالوا هذا فكلامهم على العين والرأس، لكن أين الدليل عليه؟ وأين الضمان أنك حين تضرب هذا الشخص فإنك تضرب الجني الظالم ولا يقع الضرب على هذا الإنسان المظلوم؟! هل تعذيب الناس والعدوان على أبدانهم بهذه الطريقة مباح لكل أحد؟! هل إزهاق أرواحهم كما يحصل كثيراًَ أمر متروك هكذا؟! وهل يعفى عن المعالجين أن يفعلوا ما يشاءون؟! {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]. وهل تُرك الأمر سبهللاً دون ضوابط أو حدود؟ أين الضمان؟ نريد دليلاً يضمن لنا أن الضرب سيقع على الجني وليس على الإنسي؟ كثير من الحالات التي يزعم هؤلاء المتفوقون في علاج الجن أنهم يصيبون فيها إذا هم يخطئون فيها، وبالفعل يقع الضرب على الإنسي، ويصل أحياناً إلى إزهاق الروح بحسن نية هؤلاء القاصرين!

وقفة مع الجن [2]

وقفة مع الجن [2] عالم الجن من الغيب الذي يجب أن نؤمن به، ونؤمن أنه يمكن للجن أن تتلبس بالإنس، غير أنه يجب مراعاة أمور منها: أنه ليس كل صرع هو مس، وأن المصاب بالمس يعالج نفسه أو يعالجه غيره دون غلو يفضي إلى التعلق بالقارئ دون المقروء، وعلى المعالج أن يتقي الله فلا يتخذ العلاج حرفة ومهنة، وأن يقف عند حدود الله تعالى وضوابطه الشرعية؛ حتى لا ينجر إلى هاوية المحرمات، ثم إلى البدع والشركيات.

مرض الصرع

مرض الصرع إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: الصرع قسمان: صرع عضوي، وله أسباب عضوية معروفة، وصرع جني -أي: عن طريق الجن- وله أسباب معروفة أخرى، وقسم كبير جداً من الصرع يعبر عنه الأطباء بـ (الصرع المجهول السبب)، وهذا هو الذي يقع فيه المس الجني غالباً. أما الصرع العضوي فقد عرفه الأطباء بأنه: عبارة عن عاصفة كهربائية بسيطة أو قصيرة تحصل في الدائرة الكهربائية في الجهاز العصبي في جسم الإنسان. فيقول الأطباء: إن الصرع يشبه قفصاً كقفص العصافير، وفي داخله منبه مضبوط على ساعة معينة، وهذا القفص مقفل بالقفل، وليس مع أحد مفتاحه، فإذا حان الوقت المحدد يصدر صوت رنين الجرس، وليس هناك حل غير أنك تتركه حتى تنقضي هذه النوبة؛ لأن الصندوق عليه قفل، ولا تقدر أن تمد يدك لتسكت المنبه؛ فاستسلم للحالة تلك التي تأخذ دقيقتين أو ثلاث إلى أن تمرّ دون أن تتدخل أنت بأي شيء، فلا تتدخل في هذا المصروع كأن تضع شيئاً في فمه أو ما شابه من الأفعال لمحاولة إيقافه، هذا هو المسلك الذي ينبغي أن نسلكه في حالة الصرع العضوي بناء على نصائح الأطباء، أما المسلك الذي يسلكه هؤلاء في الجهة الأخرى فهو: التدخل بالعلاج والرقية، فهذا طريق وله خطواته، وهذا طريق آخر وله خطواته. وقد ذكر ابن القيم أن الصرع ينقسم إلى صرع عضوي أو صرع الأخلاط، وصرع الجن، ولم يحدد ابن القيم رحمه الله تعالى بشكل حاسم قواعد وضوابط تميز لنا كلاً من النوعين حتى نقطع ونجزم من أي نوع من النوعين هذا الصرع. وإذا حصل تخبط في التشخيص فلا شك أنه سوف يحصل تخبط في العلاج، فلماذا لا نسلك الأسباب العادية في علاج حالة هذا المريض؟! وبعض المعالجين يسأل: هل تشنج المريض عندما ولد؟ هل تعرض لكذا وكذا؟ مع أن هذه حالات طبيعية، هل الطفل الرضيع إذا ارتفعت حرارته جداً وتشنج نقول: إن عليه جني، ثم نضربه لكي نخرج هذا الجني؟! من أين لهم هذا؟! لماذا لا نقبل على الطب بثقة، ونعترف أنه علم مبني على قواعد وأصول وليس عبثاً، لماذا نتصرف في الجانب المقابل ونغوص في عالم كله غموض لا أول له ولا آخر، ولا قواعد تضبطه، ولا ملامح محدده تحكمه؟! بل إن بعضهم إذا قرأ على المريض ولم يتكلم الجني على لسانه فإنه يقول: هذا فيه عين! هذا محسود! ونحو ذلك، وكأن بعض القراء المعالجين يشعرون في ذوات أنفسهم أنهم لا يقرءون على أي مصروع إلا ولا بد أن يرد عليهم الجني، أو يتكلم خوفاً منهم أو من القرآن الكريم، فما هو الدليل على لزوم هذه القاعدة التي يطبقونها في كل حالة؟ فالمصروع إذا قرئ عليه وخُوّف الجني الذي بداخله فقد يتكلم الجني ويخاف، وقد لا يتكلم ولا يخاف، فمن أين سنقطع بأنه ليس في المقروء عليه جني أو عين؟! إن عالم الجن عالم غامض ليس له حدود، ولن نستطيع أن نقطع في مثل هذه الأشياء، ويجب أن نتذكر هذا الأمر أثناء هذه الدراسة, والأمثلة كلها تؤيد هذا المعنى، فالجن لهم عالمَ غامض جداً، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].

بدع وأخطاء المعالجين بالقرآن الكريم

بدع وأخطاء المعالجين بالقرآن الكريم يجب أن نفرق بين العلاج بالرقى الشرعية المنضبطة، وبين السلوكيات المنحرفة لبعض المعالجين، ونكرر أيضاً لهؤلاء المعالجين: لا تستعملوا آيات الله سبحانه وتعالى درعاً وترساً تحتمون وراءه كي لا يعترض عليكم أحد فيما تفعلون من هذه المجازفات.

تنصيب المعالج نفسه للعلاج بالقرآن الكريم

تنصيب المعالج نفسه للعلاج بالقرآن الكريم هذه ظاهرة جديدة وهي: أن المعالج ينصب نفسه للمعالجة بالقرآن الكريم، كأن يفتح عيادة لاستقبال المرضى! مع أن السلف لم يعرفوا هذا، والحالات التي كانت تُعالج إنما تأتي اتفاقاً، مثل: أن يقابل المريض رجلاً من الصالحين فيدعو له أو يرقيه، وهذا لا بأس به، أما أن يفتتح مركزاً للعلاج بالقرآن، أو يعلن عن نفسه كمعالج بالقرآن، فهذا أول ما يؤخذ على المعالجين، حيث إنهم أحياناً يبادرون بأنفسهم بالتحري والتفتيش عن الحالات. فنقول للمعالج: من أين لك هذا؟ نريد دليلاً على هذه المسالك التي سلكتها؟!

الاستعانة بالجن وتصديقهم

الاستعانة بالجن وتصديقهم بعض المعالجين يبدأ بالطرق المشروعة عند العلاج بالقرآن أو بالرقى، وينتهي إلى طرق يُعلّمها إياه الجني! في بداية الأمر كان موضوع الاستعانة بالجن غير وارد، وكانت هناك احتياطات؛ لأنهم لا زالوا متشبعين بمعاني دعوة التوحيد، وبالسلفية، فكان هناك حذر شديد، ولم يحدث أن أحداً طَرَق موضوع الاستعانة بالجن، لكن مع مرور الوقت أصبح شيئاً عادياً جداً، حتى أن بعض من تحصل بينه وبين آخر خصومة فإنه يقول له: سوف أؤذيك بالجن الذي معي!! ما هذا الهُراء؟! وما هذا البغي؟! والجن يعلمونهم أشياء كثيرة جداً، ونريد أن نؤكد قاعدة مهمة جداً، وهي: كل معلومة تأتي عن طريق الجن لا يُوثق بها، والمصيبة التي استجلبت إلينا هذا البلاء هي تصديق كثير من المعالجين لكلام الجن، وقد كنا نعيب على الصوفية أشياء كثيرة، ونختلف معهم في مصادر التلقي، فمصادر التلقي عندهم هي الوجد والكشف والأذواق والمنامات وغير هذه الأشياء، ونحن الآن أصبح الكثير منا يشابه الصوفية، حيث أصبح الجن مصدراً لتلقي المعلومات، وأصبحت كثير من الأساليب التي يعالجون بها إنما مصدرها الجني الذي يستعين به المعالج على العلاج، فالجني هو الذي علمهم أن من أراد أن يكشف على المريض فإنه يمسك المصروع من رأسه -بجانب عينيه- بالسبابة والإبهام، فأول ما يمسكه فإنه يسقط على الأرض، ثم يبدأ بمخاطبة الجني إذا كان مصروعاً، فهذا الأسلوب مأخوذ من الجن. وأنا أتساءل: هل الجنّي يُقبل خبره يا سلفيون؟! هل سمعتم واحداً من العلماء يأخذ حديثاً عن طريق الجن: حدثنا الجني فلان عن الجني فلان؟! وإذا كان هناك إنسيّاً تراه وتعرفه، لكنه ليس بضابط ولا عدل فهل تقبل خبره؟ فماذا عن الجني الذي لا تعرف من هو ولا كيف هو؟! وإذا قال لك: أنا مسلم، فمن أين تثبت أنه مسلم؟ وكيف تصدقه؟ وما الدليل على صدقه في ذلك؟! الجن يلعبون بنا، ويستخفون بعقولنا، ونحن الذين زدناهم رهقاً، وكما كنا ننتقد الصوفية من قبل، فالآن لهم أن ينتقدونا، حيث صار الجن عند بعضنا مصدراً من مصادر التلقي والتوجيه، ومع أنهم عالم غامض، وعالم غير مرئي، لكننا انشغلنا به واندمجنا معه، حتى وصل الحال إلى ما وصل إليه الآن.

استخدام الضرب المبرح

استخدام الضرب المبرح استخدام البعض للضرب بالصورة التي تحصل يجعل الإنسان يتساءل: من أين لكم الضرب بهذه الطريقة؟ وما الدليل على مشروعية هذا الضرب المبرح الشنيع الذي تقومون به؟! لكنهم لم يجدوا سوى أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد عالج بالضرب. نقول: شيخ الإسلام على الرأس والعين، وهو متربّع في القلب، لكن هل هذا دليل شرعي أيها السلفيون؟! ثم إن شيخ الإسلام نسب إليه القول بفناء النار، فهل قال ذلك من كان قبله من السلفيين؟! هو إمام السلفيين في عصره ومن بعد عصره رحمه الله تعالى، لكن مع ذلك فقد مُحّص كلام شيخ الإسلام وحوكم في ضوء الأدلة من القرآن والسنة، فلربما كان وقوع هذا الضرب للجني لوجود البصيرة عند شيخ الإسلام ابن تيمية، فهل عندك بصيرة نافذة كبصيرة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى؟! وتمادى هؤلاء المعالجون -ومنهم جَهَلة قاصرون- فاعتبروا كل الأمراض من تلبس الجن، واعتبروا أنفع الوسائل هي الضرب المبرح أو الخنق أو الكي أو إيذاء المريض بحجة أنه يؤذي الجني المتلبس! وقد حدثت مآسٍ كثيرة نسمع بها كل يوم، وقد حصلت بالفعل حالات قتل! نعم. ليس لها اسم سوى القتل، وسوى إزهاق النفس التي حرم الله سبحانه وتعالى بغير حق، فيا ويل هؤلاء القتلة من إثم هذا القتل وهذا الإجرام. وقد أذيع في إذاعة الـ ( BBC) أنه صدر حكم في محكمة بريطانية على رجل مسلم؛ لأنه قتل امرأة زعم أنه كان يريد أن يخرج منها الجن، وكم سمعنا عن امرأة ضربها هؤلاء المعالجون حتى ماتت، وشاب آخر مات تحت وطأة الضرب بحجة إخراج الجن! والسؤال الهام الذي يفرض نفسه الآن: من يستطيع أن يفرق بين الحالة التي يتلبس بها الجن، وبين الحالات المرضية الأخرى؟ وجواب هذا السؤال ليس بالأمر السهل، ولا بالأمر الهين. الدكتور محمد عبد الفتاح المهدي من الأطباء النفسيين الأفاضل، وهو رجل ملتزم بدينه، ويؤمن بالصرع، والمس الجني كله، لكنه رجل منضبط، يقول: ومن خلال عملي في مجال الطب النفسي رأيت مدعي إخراج الجن يعالجون حالات مرضية نفسية، وأحياناً عضوية معروفة أسبابها، ولها تسلسل منطقي صريح في حياة المريض، وليس فيها غموض من ناحية تلبس الجن -يعني: أن هناك أسباباً واضحة تدل على أنها أمراض عضوية أو نفسية- وهم مع ذلك يصرون على تلبسها بالجن، وهذه الحالات ساءت كثيراً بسبب ما بث في عقولها من خيالات، وصاروا يعانون، وأضيف لمرضهم أمراض نفسية شديدة؛ نظراً لخوفهم الشديد من هذه القوى الخفية التي تحاربهم، ونظراً للجو الأسطوري المخيف الذي يعيشونه عند هؤلاء المعالجين.

الوقوع في الشرك

الوقوع في الشرك من سلبيات بعض هؤلاء المعالجين: أنه قد يعالج بكلمات محرمة، أو يقع في الشرك! فوا أسفاه على أمة التوحيد!! ويا أسفا على من ينتسبون زوراً إلى السلفية وإلى الكتاب والسنة!! أحد هؤلاء الغارقين في هذا الغلو وهذا الضلال وجدت ابنته في يوم من الأيام صليباً ذهبياً كان قد خبّأه في البيت! والله أعلم ما سر وجود هذا الصليب في البيت، لكن هذا حدث، فالله أعلم ما وراء ذلك من لعب الجن وعبثهم بعقول الناس. وهناك أمر مهم جداً: وهو أن بعض المعالجين الحريصين على أن الحالة تشفى، كان يجرب كلام الجن الذي يقولوه له، ويأخذ أموراً من كتب الضلال والخزعبلات، ويمارس بعض الأشياء التي قد يكون فيها شرك، أو نوع من السحر، أو غير ذلك من الأشياء المحرمة قطعاً، ثم يجد أن هذا العلاج له أثر في علاج الحالة، فيزداد فتنة، ويظن أنه ما دام العلاج قد نفع فيجوز له أن يستخدمه! نقول: هذا أمر محرم حتى لو انصرف الجني عن المصروع بهذا الكلام؛ لأن ما حرمه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام يكون الأصل تركه؛ إذ ضرره أكثر وأكبر من نفعه، فما دام أنه محرم فلا ينبغي أن يبحث عن علاج فيه، وحتى لو حصل الشفاء فلا يجوز تعاطي هذه الأشياء المحرمة، فالعبرة بالوسيلة وبالغاية، كالسارق الذي يريد أن يأكل، نعم حقق غرضه عن طريق السرقة، لكن هل معنى ذلك أن السرقة حلال له؟ A لا يحل له ذلك، كذلك الكذاب الذي يصل عن طريق الكذب إلى غرض يريد أن يحققه، فهل الكذب حلال له؟! A لا يجوز له أن يكذب أصلاً، وكذلك الخائن، وهكذا. فقد يتشبع المعالج بما لم يعط، فيفتش في بعض الكتب، ويتوسع في استخراج أنواع أخرى من الوصفات التي هي من جنس السحر الحرام، وقد ينخدع البعض ببعض هذه الكتب، وقد نسبت بعض الكتب إلى بعض العلماء ككتاب: الرحمة في الطب والحكمة، المنسوب زوراً إلى الإمام السيوطي، فإن بعض الناس نسبه إلى مهدي بن ابراهيم الطبيري، وهو كتاب يحوي شركيات وضلالات وخزعبلات وطلاسم وجهالات، سماه بعض المشايخ: اللعنة في الطب والحكمة! نعم اللعنة وليس الرحمة، وسماه في موضع آخر: النقمة في الطب والحكمة! ولا أريد أن أنقل هنا بعض النماذج من هذا الكلام البشع، والضلال المبين، والكفر الصراح البواح الذي في هذا الكتاب؛ فلا ينخدع أحد بوجود اسم عالم من العلماء زوراً على غلاف الكتاب، فيأتي ويأخذ منه بعض ما فيه، وقد اعترف بعض المعالجين أنه بالفعل استخدم ما في هذا الكتاب من وصفات منكرة!

استخدام أدوية وعقاقير طبية دون علم بالطب

استخدام أدوية وعقاقير طبية دون علم بالطب وهذا شيء مؤلم جداً: أن بعض المعالجين كان يلتقط المعلومات الطبية، ويختطف كتاباً طبياً من هنا، والمريض إذا أتى ومعه وصفات طبية أخذها ثم يحفظ أسماء الأدوية التي أعطاها الطبيب لذلك المريض، ويجمع الوصفات التي مع المرضى، ويحتفظ بقائمة من هذه الأدوية، وفيما بعد يريد أن يعالج وهو غير واثق بالذي يعمله، فماذا يفعل؟ يدس الدواء في الداء الذي يقرأ عليه، ويسقيه للمريض دون أن يعرف المريض، وهذا من أخطر العدوان؛ لأن هذه الأدوية في قمة الخطورة إذا استعملها أحد بغير وصف الطبيب المختص بالجرعة، حتى المريض نفسه مهما حصل عنده من تحولات صحية فلابد له في كل خطوة أن يرجع إلى الطبيب يسترشده في تعديل الجرعة؛ لما يترتب على ذلك من آثار خطيرة جداً إذا حصل خلل في هذا الموضوع بزيادة أو بنقص، فهذا المعالج بجهله يأخذ الدواء الذي التقطه من الورقة، ويذوبه من غير أن يشعر المريض، ويدسّه بطريقته الخاصة في مسحوق أو مشروب، ثم يعطيه للمريض!

استخدام بعض الحيل المحرمة

استخدام بعض الحيل المحرمة لقد وصلت الخيانة ببعض هؤلاء -وأنا أقول: البعض وليس الكل- إلى أنه يأخذ المشروب أو الماء الذي يقرأ عليه القرآن بزعمه، ويضع فيه منوم ليعالج مريضه في خلوة!! فكان ما كان مما لست أذكره فَظُنْ شراً ولا تسأل عن الخبرِ ومهما خاب العلاج، ولم يستطع المريض أن يصل إلى الحل، فالمخرج والعذر للمعالج موجود وسهل وميسور، حيث يقول للمريض: الجني الذي كان عليك أنا قد أخرجته أو أحرقته، لكن هذا خرج وجاءت أمه، أو أخته، أو أخوه، أو أبوه! فكأن القبيلة كلها حضرت، وأصبحنا نسمع أن مريضاً عليه ألف عفريت أو مائة عفريت!! ما هذا الكلام؟! ومن أقبح مسالك بعض هؤلاء المعالجين أيضاً: أنهم يذهبون إلى قصور الساسة والفنانين والممثلات أيضاً ليعالجوهم!! وهذا مما نسمعه، وأظن أن هناك كتباً تكلمت عن هذا. ومن ضلالات بعضهم أنه لكي يروج ضلاله المبين يقول: أنا في اعتقادي أن نساء مصر كلهن ملبوسات! والله تعالى قال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. وهناك رجل يحمل نفس اسمي، وهو موجود في الزقازيق، وهذا الخبر عرفته أخيراً، واسترحت لأني عرفت سبب الإشاعات التي كانت تشاع عني، وهي: أن لي باعاً عظيماً جداً في موضوع علاج الجن، وهذا ليس بصحيح، فأنا في حياتي لم أتعامل مع حالة جن أبداً، لكن تشابهت الأسماء، فكان هذا هو السبب في إشاعة هذا الأمر عني، وقد ادعى هذا الشخص الذي يحمل نفس اسمي أن معه قرين الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن هذا القرين يصحح له الأحاديث ويضعفها، وأنه يفعل ذلك، وهو يستفتيه ويدله على الفتاوى الصحيحة كي يقضي على الخلاف بين المسلمين، وأنه قال له: سل تُعطه! وما معنى قوله له: سل تُعطه؟! إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فلولا دعوة أخي سليمان لكان أطفال المدينة يلعبون به) يعني: الشيطان وذلك حينما أراد أن يقيده في السارية، فتذكر دعوة سليمان فأمسك عن هذا؛ لأن سليمان فقط هو الذي أُعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فهل أنت مثل سليمان حتى يأتيك هذا الشيطان ويقول لك: سل تُعطه؟! بعض هؤلاء يزعم أنه يعالج بالقرآن الكريم، وهو لا يحسن قراءة القرآن الكريم، بل قيل لي: إن بعضهم لا يحسن قراءة الفاتحة، حتى أن أحد هؤلاء كان يريد أن يعالج حالة جن، فأخطأ عند قراءة القرآن؛ لأنه لا يعرف قراءة القرآن، فسخر منه الجني.

الاستجابة لطلبات الجن

الاستجابة لطلبات الجن من المعالجين من يستجيب لطلبات الجن، كأن يقول له الجني: هات لي قماشاً لبنياً! أو طبقاً لبنياً! أو كوباً لبنياً! وكل هذه التحكمات المعروفة من الجن إنما هي للتلاعب بالمعالجين عن طريق هذه الطلبات، وإذا استجاب المعالج لهذا فإنه يفتح باب شر وفساد عظيم.

التوسع في أساليب الرقى المحدثة

التوسع في أساليب الرقى المحدثة من الأخطاء: كتابة القرآن في الأواني؛ لكي يغسل المريض الإناء ويشرب الذي فيه، وهذه الأساليب محدثة، ولا ينبغي اللجوء إليها، بل الذي صح وثبت في القرآن والسنة: أن تأتي بالمريض وتقرأ عليه القرآن الكريم والرقى الشرعية، ثم تنفث عليه مباشرة، أما الأساليب التي أُحدثت فما سمعنا بهذا عن سلفنا الصالح، فما ينبغي تعميمها بهذه الطريقة كأنها دين يدان به، كأن يأتي بالماء ثم ينفث عليه، فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم ينتشر إلا في العصور المتأخرة، فعن إبراهيم بن مهاجر: أن رجلاً كان يكتب القرآن فيسقيه، فقال: إني أرى أنه سيصيبه بلاء. وعلى أي الأحوال: فإن المفروض على الإنسان أن يتجنب ما يخالف الكتاب والسنة، ولا يتعاطى إلا ما ثبتت مشروعيته. وبعض المعالجين فتحوا أبواباً كثيرة في موضوع الرقى، حيث أدخل في الرقية ما ليس منها من البدع المحدثة والموروثات المخترعة التي لا أصل لها في كتاب ولا سنة، ولا هدي الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكنها إلى الشعوذة ألصق وأقرب، حيث يجتمع الفئام من الناس في بعض المساجد، فيقرءون عليهم جميعاً قراءة واحدة؛ لأن الوقت لا يكفي بسبب كثرة الزبائن! فيجمعونهم في طابور طويل داخل المسجد، ثم يمسك بحبل أو ماسورة أو شيء من هذا، ثم يقرأ عليهم قراءة واحدة! والله المستعان. وبعض الدجالين يتظاهرون بأنهم يعالجون بالقرآن، فيفتحون دكاكين لهذا الغرض ويخلطون الحق بالباطل، والدجال لا يكلفه الأمر إلا أنه يترك لحيته، ويضع شيئاً كالعمامة على رأسه، ويلبس القميص، ويكتب: معالج بالقرآن، ويوهم الناس أنه يعالج بالقرآن، ويستعمل الطلاسم أو السحر أو أي شيء من هذه الشرور، وما يدريك أن هذا الباب قد فُتح فعلاً للدجالين والمشعوذين لاختلاط أمرهم بالقراء! ويحكي بعض الشيوخ أن أحد هؤلاء كان يأتي ببرميل مملوء بماء أو زيت ويقرأ عليه، ثم يقوم بتقليبه بعصا أو عرجون، ثم يوزع منه على هؤلاء المرضى! شخص آخر يقوم بالقراءة على زجاجات الماء المعدنية وهي مغلقة من دون أن يفتحها؛ لعدم وجود وقت كافٍ للفتح! وهذه الحيل كلها من التوسع الغريب الذي لا دليل عليه شرعاً. ومن العجائب في هذا الأمر: أن أحد هؤلاء خاطب جنياً في إحدى حالات العلاج، فسأل الجني عن الأشياء التي يكرهها الجن، ونحن قررنا أن الجن ليسوا مصدراً صحيحاً لتلقي أي معلومات، فلا تأخذ من الجن أي معلومات؛ لأنك لا تعرف هل هو صادق أم كاذب، ولا تعرف من هو، ولا كيف هو، فخبره مشكوك فيه، فلما سأله ذكر له ما يعرف لدى العطارين بزبد البحر! ولعل الجني كان يلعب به، وهل هناك شيء يسمى بهذا العطارين؟! فما كان من المعالج إلا أنه أحضر كمية من زبد البحر، وبدأ التجارة في زبد البحر! والمخبر بهذا من السعودية، وهو صاحب كتاب: النذير العريان، يقول: فكان يشتري الكيلو بأربعين ريالاً ليبيعه لمرضاه أو لضحاياه، الملعقة الواحدة بمائة ريال!! ويزعم أن على المريض أن يمزج الزبد المذكور بالماء ثم يغتسل به، ويقول: حدثني أحد من حضر من المرضى أنه كان يقرأ عليهم جميعاً مرة واحدة بالميكرفون، ثم يمر عليهم واحداً واحداً ليتفل لكل واحد منهم في وعائه، ويستمر التفل لمدة ساعة تزيد أو تقل حسب العدد الموجود، وكل هذا بالقراءة الجماعية التي قرأها في الميكرفون!! الخلاصة: أن من أخطر مقاتل هذا الموضوع: أنه يفتح باب الشر على مصراعيه، ولجوا إليه ومارسوا الدجل والشعوذة والشرك تحت ستار: العلاج بالقرآن الكريم، فيكون هؤلاء المعالجون الملتزمون إلى حد ما بالعلاج الفعلي بالقرآن الكريم يساعدون أهل الباطل، كما قيل: كماسك الشاة من قرنيها لآخر كي يحلبها، حيث إنه يعطيه المبرر ويساعده كي يعيث في الأرض فساداً.

التوسع في طرق وأساليب غير شرعية للنشرة

التوسع في طرق وأساليب غير شرعية للنشرة الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري أتى بكلمة أثناء بشرحه لبعض الأحاديث، فقال: وفيه مشروعية النشرة، وكثير من الناس يبدءون من حيث انتهى الشرع، فينظرون إلى الشرع أين انتهى، ومن ثم يأخذون الرخصة ثم ينطلقون منها إلى آفاق بعيدة، ويخرجون عن حدود الشرع، كما حصل التوسع في موضوع النشرة بحيث اتسع الخرق على الراقع، وتسربت البدع والخزعبلات إلى كتب أهل العلم تحت ستار النشرة المشروعة، وفتحت لنا أبواباً عجيبة من النشرة كما سنذكر في الأمثلة الآتية إن شاء الله تعالى. والنشرة الثابتة في الشرع: هي اغتسال العائن لمن حسده بالتفصيل المعروف، أما أن يفتح باب النشرة لكل متردية ونطيحة وأكيلة السبع لتدخل وتمر تحت ستار مشروعية النشرة، فهذا تفريط خطير لا يمكن أن يُقبل بحال، حتى لو حكاه بعض أهل العلم؛ لأن أقوال العلماء صارت الآن -لا سيما في هذا الموضوع بالذات- قنطرة تعبر من عليها الخزعبلات بحجة النشرة الشرعية. ومن ضمن هذه النشرات المبتدعة: أن يطلب منك أن تأتي بحزمة من قضبان الحديد، وفأس ذي قطارين، ونار، وتضع الحزمة مع الفأس، ثم تسخنها، وتبول على النار ونحو هذا!! ما هذه النشرة؟! من أين لكم هذا؟ ولماذا حزمة القضبان بالذات؟! أما ينفع الزيت والقطران بدل القضبان؟! وفي وسط ازدحام النشرات المزعومة تدخل نشرات تحمل جواز مرور عليه تأشيرة: مُجرَّب، أي: قد جُرّب فنفع! وهكذا تنبعث سُحب الدخان الأسود لتدخل علينا وصفة الذئب الأغبر، والديك الأبيض، والورد الأحمر!! وما أروع كلمة قالها الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه إرشاد الفحول، وهي مهمة جداً، ولا بد من التنبه إليها، يقول رحمه الله: ويا لله العجب! من جري أقلام أهل العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل، ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع، وإنما ذكرناها ليعتبر بها المعتبر، ويعلم أن القيل والقال قد يكون من أهل العلم في بعض الأحوال من جنس الهذيان، فيأخذ عند ذلك حذره من التقليد، ويبحث عن الأدلة التي هي شرع الله التي شرعها لعباده، فإنه لم يشرِّع لهم إلا ما في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. مع التحفظ من كلمة: الهذيان؛ لأنه لا ينبغي أن يقال هذا في حق العلماء حتى لو رفضنا كلامهم المخالف للأدلة. ومن هذه العلاجات ما يتم بقصيدة البردة للبوصيري، فيتلونها كما يتلى القرآن! ويكتبونها في الآنية، ويشربون ماءها! وتنشر فيها القصص، فلان قرأها فخف مرضه إلى آخر هذا الكلام الفارغ. والباب مفتوح للأوراد المزعومة غير البردة من سيل الصوفية العرمرم، فمثلاً: يقول بعض المعالجين: بعد هذا الحزب يأتي حزب النصر للشاذلي، وهو أيضاً على هامش الدلائل، وفيه هذه الصيغة: (حم) مكتوبة ثمان مرات، حم الأمر وجاء النصر، فعلينا لا ينصرون، (حم عسق حمايتنا مما نخاف)! وبعدها يأتي الحزب البحري: (يا ميسر كل عسير بحق أب ت ث هـ ل أي، انصرنا وسخّر لنا هذا البحر، وسخر لنا كل بحر، وبحر الدنيا وبحر الآخرة، كهيعص، كهيعص، حم عسق، انصرنا فإنك خير الناصرين، باسم الله بابنا، تبارك شيطاننا، ياسين سقفنا، كهيعص كفايتنا، حم عسق حمايتنا) إلى آخر هذه الأشياء المحرمة، وكل هذا دخل تحت قنطرة النشرة والرخص، وأقوال التقطوها لبعض العلماء فتوسعوا فيها، والمطية التي يركب عليها واحدة وهي: قد جرب ونفع! ومن الملاحظ أن كل من فيه خير وعلم وورع فإنه لا يستمر في هذا الطريق، وهناك الكثير ممن أعرفهم بنفسي، غاصوا في هذا الأمر غوصاً عميقاً، وكانوا ممن يشار إليهم بالبنان، ولكن لأن فيهم خيراً انقطعوا وما استمروا، فأغلب من فيه خير وورع وعلم لا يستمر في هذا الطريق إذا ولجه، فقد تراجع الكثير من المعالجين في نهاية المطاف إلى العدل والوسطية، وانقطعوا تماماً عن الانخراط في سلك المعالجين؛ لما مسهم من لهيبه، ولفحهم من ناره، ومنهم الشيخ عبد الله بن مشرف العمري فقد تراجع وتاب، لكن للأسف أنه غلا ونفى الصرع الجني تماماً.

بناء العلاج على الوهم وغلبة الظن

بناء العلاج على الوهم وغلبة الظن بعض الناس يحضر مجالس العلاج بالقرآن الكريم، ويرى حالات الصرع، ويسمع القصص المنتشرة عن أمراض المترددين أو المعالجين، فأصبح هذا الوهم يدب إلى نفوسهم وسط مشاكل الحياة الكثيرة، فبمجرد ما يصادف أحدهم في حياته مشكلة، سواء مشكلة زوجية، أو مشكلة اجتماعية، أو مشكلة في العمل، فسرعان ما يظن أن أحداً عمل له سحراً، أو أنه قد صرعه الجن! وقد كنت قبل أيام عند أحدهم فسقطت المرآة وانكسرت، فقال لي: يوجد جني يعاكسني هنا في المحل! زعم هذا لأن المرآة وقعت وانكسرت، وهذا من الوهم المنتشر بين الناس، وكذلك بعض من تحصل مشكلة بينه وبين زوجته سرعان ما يجزم أن هناك من حسده بعينه، ومن سقط على الأرض وأصابه وجع، أو اشتكى من وجع في ظهره، أو حصل له نوع من الألم؛ سرعان ما ينسب هذا للجن، حتى أصبح كل شيء يُنسب إليهم. لقد أصبح مرض الوهم يتسبب فهذا المرض -الذي هو مرض الوهم- هو الذي يتسبب في تصور الحالة حتى تصل إلى الإغماء والتشنجات التي يعبر عنها بالإيحاء الذاتي، أو تظهر نتيجة الخوف أعراض عضوية عادية جداً، لكن سببها هو الخوف أو القلق، وليس سببها الجن، وهكذا أكثر الحالات، وينبغي التنبه لهذا، فقد ترى المريض يتشنج ويصيبه الصرع، ويتكلم ويغير صوته، وهو الذي يدير المسرحية كلها في أغلب الحالات! وهذه الحركات يصطنعها المريض بنفسه نتيجة لكثرة سماع هذه الأمور وتصورها، فأصبحت لديه خبرة وتمرس، وصار متقناً جداً لهذه التحولات، وقد يقول للمعالج: اعرض علي الإسلام، أنا أريد أن أعرف الإسلام، فيشرح له الإسلام، ثم يقول: أنا أسلمت، فيقول له المعالج: اخرج، فيقول: لا، أنا لا أقدر على فراقها، أنا أحبها ولا أريد أن أخرج منها؛ لكي أحميها من الجن الآخرين!! أوهام وقصص وسيناريو محفوظ، والمريض يسيطر عليه هذا الوهم، والمعالج نفسه يقوي هذا المسلك الهستيري، ويتصرف على أنها فعلاً حالة جن؛ لأنه طبعاً ليس عنده علم، فيظل يضرب ويقرأ بالساعات، وإذا عجز عن أن يخرج الجن كانت هذه إحدى حالات التحدي، والمريض نفسه يقول: لا أخرج! فإذا عجز المعالج عن إخراجه فإنه يحضر شيخه وأستاذه وزملاءه، فيتوافدون عليه فوجاً بعد فوج، ويزداد اقتناع المريض أن حالته مس من الجن، ويزداد حماس المعالجين للقضاء على الأعراض التي تزيد يوماً بعد يوم، حتى يزعم البعض أنه قد ارتفع عدد الجان إلى ستمائة مارد، وكل مارد له قصة، فتزيد حيرة هذا المعالج، ويقول لك: أنا أحرقت الجن، ثم يقول المريض: أنا أصلاً من الجن المنظرين، ولو متُّ سوف أحيا مرة ثانية! وآخر يُسلم ويطلب البقاء مع المرأة للدفاع عنها والتصدي لبقية أفراد الجن المشرك الذي يتوافدون عليها من كل حدب وصوب! والعلاج الحقيقي هو إقناع هذا المريض بأنه أسير تفكيره، مثل دودة القز التي تنسج حول نفسها قبواً ضيقاً جداً، وتحصر نفسها فيه، والعالم كله في نظرها منحصر في هذا القبو الضيق! كذلك هذا المريض هو الذي يحدث نفسه بهذا التفكير تماماً، وهو الذي صنع هذا الوهم وحاصر نفسه به، وقبر نفسه في ظلماته، ولا يرى العالم إلا في حدوده الضيقة، فينبغي أن يقنع المريض في هذه الحالة أنه أسير تفكيره، وأنه هو الذي دفع نفسه في هذا الوهم، ويُدعى ليحيا حياة طبيعية، ويؤكد له ذلك كما ذكرنا. فالمريض يتخيل نفسه أنه ممسوس، ويتحدث بحديث الجان على لسانه، ويتمادى في الدور بناءً على المعلومات التي تشرّبها من مجالس الأصدقاء، وأشرطة التسجيل، وحكايات الناس، وقراءة الكتب والجرائد، ويحتاج الأمر إلى بعض التشنجات وحركات الجوارح التي يسببها اعتداء الجن في زعمه! ويتأكد هذا الوهم بعد كل جلسة علاج؛ لأنه يزداد اقتناعاً بأنه ممسوس ومريض، ومع طول فترة العلاج يترسخ في مخيلته أن هذا الجان بالذات جان مارد خطير لا يقدر على إخراجه أحد، الأمر الذي يئول به إلى حالة من اليأس وفقدان الثقة، ويتمادى في صناعة الأفلام والتمثيليات! ومما يزيد المسألة تعقيداً: أن قراءة القرآن عليه وهو في هذه الحالة يظهر بسببها ما يعزز عنده هذا الوهم، ثم يقول في نفسه: لو أن الجني لم يكن موجوداً فلماذا قرأ الشيخ عليّ؟ لا بد أن يكون المس موجوداً فعلاً، فالشيخ عنده خبرة! فهذه الحالة يجب أن يقنع صاحبها بالتخلي عن قناعته، مع الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في دفع هذا الوهم المسيطر، ولا يكون صاحبه معذوراً. فمثلاً: لو أن رجلاً صار يسرق، ويباشر عملية السرقة وهو مصرّ بقلبه أنه ينفذ جريمة السرقة بتحريض مسيطر من الداخل، ولا يستطيع التخلي عن هذا التحريض! فهل الحل أن نأتي بقارئ يقرأ عليه آية الكرسي حتى نمنعه من السرقة؟! A لا، ليس هذا هو العلاج في هذه الحالة، بل لا بد من أن تقنعه بالعدول عن السرقة، فهو ليس مريضاً معذوراً، بل له إرادة، أو بتعبير أدق: هو مجرم أو سارق، فهل نعذره ونقول: هذا مسكين؟! أو هذا ضحية الجن؟! وهل نقعد نرقيه أم نبين له أنه لابد أن يعدل عن السرقة، وأن السرقة حرام، ووزرها كذا، وعاقبتها كذا، ونرغبه في التوبة وفي ثوابها؟! فأنت تخاطب النفس اللوامة، والشيطان يخاطب النفس الأمارة بالسوء.

أمثلة لمرضى الوهم بالمس والسحر

أمثلة لمرضى الوهم بالمس والسحر من الأمثلة التي يحكيها بعض هؤلاء المعالجين أن محامياً كانت له مشكلة مع زوجته تتعلق بالعلاقة الزوجية، فذهب إلى أحد الناس المشهورين ممن يدعي أنه من أولياء الله الصالحين والذين يعالجون وقد كشف عنه كما يزعمون، فقال له هذ الشخص: إنك ممسوس من أنثى من الجان، وإن الجنية تحبك وتعشقك، وأثناء ما كان الشيخ المعالج يحكي له هذا الكلام، ويقول له: إن الجنية هذه سوف تقوم بخنق زوجتك، في الحال بدأت علامات الاختناق تظهر على الزوجة، وكأنها ليست قادرة على التنفس، وتقول: هناك من يخنقني!! ما معنى أنها ما اختنقت إلا لما سمعت هذا الكلام؟ لأن القناعة بدأت تتواجد نتيجة الخلفية القديمة عن الموضوع، ثم هي واثقة بالشيخ الذي يتكلم، فالشيخ يقول له: إن الجنية هي التي تكيدك، وهي التي تعمل على خنق زوجتك، وفوراً أحست الزوجة أن هناك شخصاً يخنقها. أيضاً يقول له: الجنية هذه تعمل لك كذا، والجنية تعمل لك التشنجات، ويبدأ الرجل يحس بالتشنجات، وأن هناك صوتاً يسمعه بأذنيه تهمس به الجنية العاشقة الولهانة إلى آخر هذه الأشياء. إذاً: ما نشأ هذا إلا بعد ما سمع هذا الكلام، فهذا مما يعزز الوهم عند بعض المرضى. ثم ذهب إلى طبيب نفسي، فبيّن له أن الموضوع ليس له أصل، وأن هذا الإيحاء من هذا الشيخ كذب، وسلك معه طريقة صحيحة وأقنعه فعلاً أن هذا الكلام لا أصل له، فزالت الحالة تماماً كأن لم يكن لها أثر. ومما يُحكى أيضاً وهو مثال قريب من سابقه: أن زوجة شخص معالج مكثت وحدها في البيت، وبينما هي جالسة وحدها تفكر في هذا الموضوع الشيق العجيب في أحداثه، فتذكرت حالة من تلك الحالات، وهي أن جنياً عشق امرأة واعتدى عليها مرات، ومع قوة تخيلاتها توقعت أن هذا سيحصل معها، ثم قالت: ولم يحصل معي؟ فهي لوحدها، والجني يريد أن ينتقم من زوجها؛ لأن زوجها هو الذي يطرده من جسد المرضى، واسترسلت في هذا التفكير إلى أن اقتنعت أن فعلاً أنه حصل كذا وكذا وكذا، ودخلت هي وزوجها في قصة طويلة عريضة كلها مبنية على وهم وتخيل لا أصل له. كما أن هناك مرضى يصدقون أنفسهم، وهم في ذلك ليسوا متعمدين للكذب، وهو أيضاً صادق لأن هذا يحدث عن طريق الوهم والإيحاء الذاتي والملابسات التي حوله، والخلفية الفكرية سابقاً، فيتهيأ له ما يجعله يعيش الدور، ويغير صوته ويتكلم، وهناك أناس لديهم مهارة في تقليد أصوات المطربين والفنانين، فما هي المشكلة؟! الرجل ممكن أن يأتي بصوت الطفل، أو عجوز إلخ، هذه ممكن أن تقع، ويمكن أن يكون هناك مس جني حقيقي، وأنا لا أنكر هذا لكن هذا وارد، فلو قلت له: غيّر صوتك كان هذا شيئاً ممكناً، وهو يعيش الدور تماماً، فيمكنه أن يغير صوته إلى صوت امرأة أو طفل أو غير ذلك، وهناك فرق بين الجني الحقيقي وبين هذا الذي يغير صوته. ويدور في فلك هؤلاء الموهمين أناس أصحاب حالات أخرى يتعمدون الكذب ويدعون المس والتلبس للخروج من مأزق معين. مثلاً: جاءت امرأة لبعض المعالجين تدعي المس، هذه المرأة تهجر فراش زوجها، وتنشز عليه، وتنغص عليه حياته، وتقول: إن جنياً لبسها، وأنه يقول لها: لو استجبت لزوجك أفعل بك كذا، وأنه ليس هناك حل غير الطلاق، ولابد أن تطلقي منه إلخ. فبعد فترة من العلاج الذي لم يجد نفعاً ولم يأت بأية نتيجة اعترفت للمعالج بالحقيقة وأنه ليس فيها مس، وأنها لجأت إلى هذه الدعوى للتخلص من زوجها كي تجبره على طلاقها؛ لأن زوجها شحيح بخيل، وكان مما قالت: تحولت حياتنا بسبب الشح إلى جحيم، هل رأيت رجلاً يراقب مقدار الجبن في الثلاجة؟! ويقيس زجاجة الزيت بالمسطرة ليعرف كم من الزيت استعملت؟! وهذا الوضع لا يُصبر عليه. تقول هذه المرأة: لست مجنونة ولا مسحورة ولا ممسوسة، لقد أقدمت على ذلك لأتخلص من هذا الجحيم، ولييئس من حالي فيطلقني. وكان المعالج في البداية تعامل معها ولم يقدر أن يميز حالتها، معنى هذا أنه حتى الذي عنده خبرة تلتبس عليه الأمور، حتى إنه ليضرب، وبعد فترات طويلة يجد أنه ليس هناك نتيجة، ما معنى هذا الكلام؟! وكلكم يقول: لدينا خبرة، وتؤلفون الكتب، وتردون على بعض، وتشتمون المشعوذين، حتى أنتم يخفى عليكم هذه الأشياء! إذاً: نعود إلى مكمن الغموض وهو أنه لا توجد علامات محددة ولا حدود واضحة يقف عندها كل طرف. ومن المشاهدات في المجتمع قضايا عدة، مثلاً: - فتاة مثلاً تُكرَه على الزواج من شخص تكرهه، ولا تستطيع أن تصارح أهلها بأنها لا تريد الزواج منه، فينصحها نساء ماكرات بادعاء كونها ممسوسة، وأن الجني يطالبها بالطلاق وإلا فإنه سوف يقتلها. - امرأة متزوجة تتفق مع عشيقها على أن تتدعي المس، وأن الجني يطالبها بالطلاق، وإذا مسها زوجها فسوف يحصل كذا وكذا. - شاب يؤتى به ليُعالج من مس الجن، فيقرأ عليه فيظهر الجني قائلاً: أنا سلمان بن أبي سليمان، وفجأة ظهر جني آخر، فسأله: ما اسمك؟ فأجاب: أنا جرجر. قال له: أنت نصراني أم يهودي؟ فأجاب الجني: أنا نصراني. قيل له: هل تسلم؟ ويبدأ الحوار: ما هو الإسلام؟ والمعالج يتفنن في أن يعرض عليه الإسلام، وكيف يدخل في الإسلام، ثم يقول: اخرج، وإلا سوف أحرقك بالقرآن، وهذه هي الاسطوانة نفسها المكررة مع كل حالة. يقول أحد الإخوة الحاضرين وقد حدثني عن هذا بنفسه، قال: شكّيت بسلمان بن أبي سليمان هذا، فقلت له بعد أن انتهى من: أنت كذاب، أنت لست ممسوساً، فقال لي: نعم، أنا لست ممسوساً، ولكن هناك مشاكل بيني وبين أبي، وأنا أريد أن أقنعه أني ممسوس حتى يخفف عني الوطأة والضغط. - شاب يتورط في معاكسة الفتيات في الشوارع، ويفعل أشياء غير لائقة، فعندما يعاتب على ذلك يقول: الجني هو الذي يؤزني أزاً على هذا، والجني هو الذي يجعلني أتعرض لمثل هذا! وهذا أخطر ما في الموضوع، فهو يفتح باب الفساد على مصراعيه. - امرأة ترتكب الفاحشة وتقول: الجن هم الذين فعلوا بها كذا وكذا! - يسرق شخص ثم يقول: الجني هو الذي سرق! ولو كان هذا عذراً فذلك يعني أن الحدود في الدولة الإسلامية لا تقام، فأية امرأة تفعل الفاحشة تدعي أن الجني هو الفاعل، فندخل في جو من الغموض والضباب والدخان والوهم الذي لا حدود له، وكأننا لسنا من الإنس، ونتعامل بقوانين وسنن ونواميس أخرى، فالشريعة تهدر هذه الاعتبارات، فأي شخص يثبت في حقه بالبينة الشرعية أنه فعل فعلاً يؤاخذ بجريرته، وإذا سرق سوف تقطع يده، والشرع لن يلتفت أبداً لمثل تلك الأعذا؛ لأن المسألة ليست لعباً ولا عبثاً بأموال الناس وأعراضهم ودمائهم، إن الشرع يهدر تماماً هذا الإدعاء، ولا يصح أبداً أن أي أحد يعمل جريمة ثم يقول: الجني هو الذي يؤزني على فعل هذه الجرائم.

احتراف العلاج بالقرآن

احتراف العلاج بالقرآن نتعرض بشيء من الاختصار لقضية اتخاذ العلاج كمهنة وحرفة، ومزالق الجهلة؛ لأن بعض الناس قد توسعوا فيه، وانتهزوا الفرصة لجلب الأموال من طريق احتراف علاج الجن، وتحول الأمر من كونه أمر يسد به الحاجة إلى مصدر مفتوح للترف والجشع والابتزاز، وقد يفرض بعضهم أتوات باهظة على الناس بجانب التجارة بجوالين وقناني المياه التي يقرءون فيها القرآن، وتجد أمام المساجد قناني مكتوب عليها: (هذا الماء مقروء عليه قرآن) وتباع بحجة أن الشيخ قرأ عليها قرآناً، وكذلك تجارة في العسل وزيت الزيتون على أساس أنه مقروء عليه ويتخذ دهاناً يدهن به الجسد إلى آخر ذلك، حتى إنني حُدّثت عن شخص طبع لنفسه كرتاً فيه الاسم والوظيفة: معالج بالقرآن، الكشف: عشرة جنيه الحجز: مقدماً العنوان: مسجد كذا، أصبح الموضوع شيئاً مؤلماً جداً في الحقيقة. أيضاً ليس من هدي السلف أبداً، وما كان على عهدهم أناس متفرغون وأصحاب مراكز وعيادات لعلاج مرضى الجن، مع أن المرض موجود في كل زمان، وكان المصاب إذا قابل شيخاً أو عالماً في الطريق فإنه يقرأ عليه دون تكلف، أو يدعو له أو يرقيه، لكن أن ترصد لذلك مجالس ومراكز وعيادات، وبهذه الطريقة لابد أن يقف هذا الأمر عند حده، إن التمادي فيه تمادٍ في تغييب الوعي، والعيش في عالم من الضباب والغمام والغموض لا نهاية له، هذه مسئولية كل واحد منا، العلاج هو إهمال هذا الموضوع تماماً. وكنت أرى أن من إهماله ألا أتكلم، وهذا هو السبب أني حتى الآن ما تكلمت، وهذه أول مرة أتكلم في هذا الموضوع بالتفصيل، فعلاجه إذن أن نهمل تماماً هذا الموضوع، فلا أحد يحكي لأحد، أو يروج الأشرطة، ولا يسمعها، ولا يقرأ هذه الكتب، ولا يذهب لهؤلاء الناس، ومن أصيب بشيء يعالج نفسه بالقرآن الكريم، حتى لو كان مساً جنياً فهو الذي يعالج نفسه، المرأة يرقيها زوجها، والبنت يرقيها أبوها، وهكذا. فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كان فيهم أناس اشتهروا بإجابة الدعاء، كـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ومن الذين دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم باستجابة دعوته، كذلك أويس القرني أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مجاب الدعوة، ومع ذلك ما فتحوا مركزاً لعلاج الناس، أو كان الناس يأتون إليهم ليدعوا لهم، ما حصل هذا، وما انصب الناس إليهم من كل حدب وصوب كي يطلبوا منهم الدعاء. إذاً: هذا خلاف هدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى أجمعين، ثم إن الأمر يتطور فيحصل تركيز على القارئ لا على المقروء، تركيز العوام أن البركة كلها في القارئ نفسه، مع غض النظر عن أهمية المقروء الذي هو القرآن الكريم. وأنا لا أعترض على الجعل أو الأجر على الرقية، لأنه جائز، لكننا أصبحنا نبدأ من حيث انتهى الشرع، ونغالي في هذه الأمور حتى تصل إلى حالات مرضية.

احتراف القراءة على المرضى سبب من أسباب التعرض لفتنة النساء

احتراف القراءة على المرضى سبب من أسباب التعرض لفتنة النساء ثالثة الأثافي، ومصيبة المصائب، وفتنة الفتن: فتنة النساء قال الله تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:14] الآية، فالفتنة تجر إلى غيرها من الفتن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء). ولقد ترخص بعض هؤلاء المعالجين وتساهل وتعدى حدود الشرع بالخلوة، أو باللمس، أو بالنظر، واستدرجهم الشيطان إلى استباحة الخلوة، ثم الكشف عما يحرم كشفه، ثم المس بزعم الرقية، والدهان بالزيت المقروء عليه، وربما بغير حائل، ولا شك أن هذه قرة عين للشيطان، وشيء يدخل على إبليس أعظم السرور، وأنا لا أريد أن أستفيض في مثل هذا، والحقيقة أنه لا ينبغي لي وأنا في مثل هذا المكان أن ألقي على أسماعكم أشياء لا يليق بنا جميعاً أن نحكيها، {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]. فهذه أحد المضار والحصاد الذي يحصده المريض وغيره من هذه الفتنة التي يجب إطفاؤها والقضاء عليها، كما يقول الشاعر: كان ما كان مما لست أذكره فظن شراً ولا تسأل عن الخبر أحدهم يشيد بنفسه، إذ إنه في كل يوم يكتشف طريقة جديدة، ولا يقتصر فقط على ما يلتقطه من الماضين، بل صار بعضهم يخترع ويجدد في هذا الفن. فهذا أحدهم يقول: اكتشفت طريقة جديدة للكشف عن المرضى، وسماها: طريقة الكشف بالنظر، وهي ليست طريقة جديدة، بل هي مفتاح شر وسنة سيئة، وهذه الطريقة هي: أن المعالج ينظر في عيني المريض أو المريضة، ويقترب منه مثل طبيب الرمد عندما يكشف على غطاء العين، فيجلس أمام المريض أو المريضة وينظر إلى عينيه، ويأمر المريض أو المريضة أيضاً أن ينظر في عينيه وهو يقرأ القرآن كي يطرد الشيطان، يقول هذا الشخص صاحب هذا الاكتشاف الخطير: ثم أمرت المريضة أن تنظر إلى عيناي ففعلت، فظهر الجني، فأخذت أقرأ عليه وهو يصرخ، وأخذت أنظر في عينيها وأنا أقرأ وأعظه، ثم احترق الجني، وحينما سأله الإخوة الذين قرءوا كثيراً على هذا الجني، قالوا: نحن قرأنا عليه كثيراً ولم ينفع!! قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء! يطلق البصر إلى ما حرم الله ويسميه: (فضل الله يؤتيه من يشاء) الله المستعان! ولما سئل عن مشروعية هذا الذي يفعله من إطلاق البصر بهذه الطريقة، قال: إن الشيخ عبد الخالق العطار -سامحه الله فقد كان صاحب دور خطير في تأسيس هذه الظاهرة- لما سئل قال له: إن هذا الذي ذكرته حق، وله دليل في القرآن الكريم، ألا وهو قوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ} [القلم:6]، فيستدل بهذه الآية على مشروعية هذا العبث الذي يفعله، وأنه ينظر إلى عين المريضة ويقترب منها بهذه الطريقة. فإذا نظرنا وقرأنا القرآن نعرف أيهم المفتون؟! لا، وإنما إذا قرأنا قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] عرفنا من المفتون، وإذا تذكرنا حديث النبي عليه السلام حينما أنكر على الفضل بن عباس عندما نظر إلى المرأة الخثعمية، فلوى المصطفى صلى الله عليه وسلم عنق الفضل إلى الجانب الآخر، ولما سئل عن ذلك قال: (رأيت شاباً وشابة، فخشيت عليهما الشيطان). والعجب كل العجب من رجل يحمل امرأته أو ابنته أو زوجته بنفسه ويقف ينتظر دوره في الزحام كي يعالج زوجته أمثال هؤلاء الناس! هذا من المصائب التي حصلت في موضوع علاج النساء، وأعتقد أن هذا كافٍ لتحريك من لا يتحرك، ومن خمد أو برد دمه حتى لا يبالي بمثل هذه الأشياء، فالموضوع هذا خط فاصل لا يحق ولا يجوز فيه علاج رجل لامرأة، وبأي حال يجب حسمه، وهذا العبث وهذه الفوضى الأخلاقية يجب أن يحسم الأمر فيها، ولا يقبل فيه الخلاف بإطلاق. ومن قبيح صنيع بعضهم أنه قد يطلب من المرأة أن تفتح عينيها للنظر ليحملق فيهما، وبعضهم يطلب أن تفتح فمها ليحملق فيه بحثاً عن الجني الذي قد يكون مختبئاً هنا أو هناك. فنقول لهؤلاء: أين الغيرة على العرض؟ وأين الخوف من يوم العرض؟ فيصدق أن يقال: (معالجها حراميها)، كما يقول الشاعر: وراع الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب

قتل النفس المحرمة جهلا وعدوانا

قتل النفس المحرمة جهلاً وعدواناً وهذه من الجنايات والمظالم التي ترتكب في هذه القضية، فما أكثر ما نزجر ونستنكر ونشجب هؤلاء الجلادين الذين يعذبون الناس في الدنيا، ونخوفهم بمثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر الزمان رجال معهم سياط كأنها أذناب البقر، يغدون في سخط الله ويروحون في غضبه) وقوله: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) هؤلاء نحملق فيهم وننكر عليهم، ثم نحن فيما بيننا نتغاضى عن هؤلاء المعالجين الذين يمارسون أبشع صور التعذيب البدني والنفسي بحجة إخراج الجن، ويتفنون في إيقاع العذاب الذي قد يصل إلى القتل، ومن الجهل ما قتل. يحكي بعض المعالجين قصة أرويها لكم بحروفها، وهي قصة مريضة تدعى وهيبة، يقول: وهيبة مريضة نفسياً طال مرضها، فذهب بها أهلها إلى مجموعة من الشباب المسموع عنهم علاج مثل هذه الحالات، وعجز هؤلاء الشباب عن أن يفرقوا بين المرض النفساني والمس الشيطاني، وحضرت وهيبة بين أيديهم يقرءون عليها، فلم ينطق الجني، فما كان منهم إلا أن قالوا: إنه شيطان ماكر يرفض أن ينطق، وانهالوا عليها ضرباً على فترات، وهمدت الجثة، وقال الأدعياء: لقد خرج لعنة الله عليه، ولم يكتشفوا بسبب جهلهم أن الذي خرج من وهيبة ليس الجني، وإنما خرجت روحها، اكتشفوا ذلك بعد أن تركوها فترة لتستريح، ثم طلبوا منها القيام، فقالوا: قومي يا وهيبة! فإذا بها قد توفيت، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

حرمة الاستعانة بالجن

حرمة الاستعانة بالجن من المهم التنبيه على موضوع الاستعانة بالجن، وهذا باب من أبواب الفتن، وقد فتحوه بعد أن كانوا في البداية لا يتجرءون على هذا الوضع، وما كان يقدر أحد أن يفتح أبداً موضوع الاستعانة بالجن إلا وينُظر إليه باشمئزاز، يقول القائل: كيف تستعين بالجن؟ هذا شرك، وهذا كذا وهذا كذا. ثم التقطوا عبارة لشيخ الإسلام ابن تيمية فهموها على غير وجهها، وبدءوا من حيث انتهى شيخ الإسلام، وانطلقوا إلى أبعد الآفاق في موضوع الاستعانة بالجن. الأمر الذي يجب أن نوضحه في نهاية هذا الحديث: أن خبر الجني لا يقبل، فكل شيء جاء عن طريق الجن يشطب عليه، وكأننا ما سمعنا شيئاً، فلو ادعى الجني بأنه يحب كذا، أو يكره كذا، أو دلنا على كذا، أو هذا الجني صالح، أو يساعدني، أو أستعين به، أو يعمل عمليات جراحية، أو يعالج العقم؛ كل هذا يشطب عليه، وكأن شيئاً لم يكن هذا هو المخرج من هذا الوضع. أين العدالة والضبط في خبر الجني؟ من هو هذا الجني؟ هل هو صادق أم كاذب؟ مسلم أم كافر؟ ولو قال بأنه أسلم، فما أدراك أنه صادق؟ وكيف تحققت أنه صادق في هذا؟ هل الإسلام كلمة مجردة تقال هكذا؟ ثم أيضاً يعد هذا فتح باب خطير جداً، أعني: محاولة التعرف على الغيب عن طريق الجني بدأ بعضهم يعمل أشياء فظيعة جداً مثل المندل، ولو سرق شيء قالوا: تعال هات لنا الجن الذين معك، قل لنا: من الذي سرقها، وأشياء أخرى كثيرة فتحت علينا أبواباً من الشرور كنا في عافية منها، ووصل الأمر إلى أن بعضهم يهدد غيره، ويقول بتبجح: أنا معي جني، وسوف أسلطه عليك ليؤذيك، فتحصل خصومة، وهذه أمور في غاية الخطورة.

نصيحة للمعالجين بالقرآن من المس

نصيحة للمعالجين بالقرآن من المس أرجو أن تكون الرسالة قد وصلت، وأن الحل الحقيقي -بجانب الالتزام بالشرع في هذه الأشياء كلها- لهذه الظاهرة أن تنكمش، وأن تعود إلى الحجم الذي كانت عليه، وعلينا أن نعلم أن هناك مساً جنياً، لكن ليس كل الحالات تعتبر مساً، فقد تكون ناتجة عن وهم، أو حالات هستيريا، أو خيال يسيطر على الإنسان، أو نتيجة عن حفظ الأدوار وإتقان تمثيلها احتيالاً؛ فينبغي دلالة هؤلاء الناس على الطريق الصحيح. ونختم الكلام بهذه الموعظة لبعض الشعراء نهديها إلى هذه الفئة من المعالجين الذين تعدوا وتخطوا حدود الله سبحانه وتعالى وشوهوا وجه الحق: القلب ينشط للقبيح وكم ينام عن الحسن يا نفس ويحك ما الذي يرضيك في دنيا العفن أولى بنا سفح الدموع وأن يجلببنا الحزن أولى بنا أن نرعوي أولى بنا لبس الكفن أولى بنا قتل الهوى فالصدر أصبح كالوهن فأمامنا سفر بعيد بعده يأتي السكن إما إلى نار الجحيم أو الجنان جنان عدن أقسمت ما هذه الحياة بها المقام أو الوطن فلم التلون والخداع؟! لم الدخول على الفتن يكفي مصانعة الرعاع مع التقلب في المحن تباً لهم من معشر ألفوا معاقرة الفتن تباً لهم فعلاجهم قد لطخ الوجه الحسن تباً لمن باع الجنان لأجل خضراء الدمن أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

وقفة مع الجن [3]

وقفة مع الجن [3] عالم الجان عالم يكتنفه الغموض من كل جوانبه، وقد ساهم اهتمام الدعاة بقضايا الجن في توسيع إطار الظاهرة المرضية التي نتجت عن الغلو من قبل عامة الناس في هذه القضايا، وكان للمعالجين أيضاً الحظ الأوفر في تفشي الأوهام، وتضخم مسائل الجان، حتى أصيب البعض بأوهام مرضية لا أساس لها، كما أنها كانت سبباً في إعراض الناس عن التداوي بالطب الحسي، ومن ثَم كونت هذه الظاهرة بيئة خصبة لانتشار الخرافات والمخالفات الشرعية.

عالم الجن بين الإفراط والتفريط

عالم الجن بين الإفراط والتفريط إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فقد شرعنا في بحث ظاهرة التمادي في علاج الجن، ويمكن أن يتلخص حديثنا في النقاط الآتية: - أن الاشتغال بموضوع الجن ومعالجة الجن هو مرض من أمراض الفراغ التي صادفت خواء عند بعض الشباب، فخاضوا فيه بهذه الصورة الملحوظة. - أن هذا المرض انتقل من الأوساط النسائية الفارغة التي كانت تحتكر التخصص في الكلام في هذا الأمر إلى مجتمعات الرجال، بل إلى مجتمعات الدعاة والمشتغلين بالدعوة، ونحن لا نعمم هذه السلبيات، والمقصود هو ذم من يتلبس بشيء من هذه المسالك. - لا خلاف في مشروعية التداوي بناء على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء) وما فيه من العموم. - حيرة المريض بين جفاء طبيبه وغلو شيخه، فالطبيب الذي يتأثر بالمناهج الغربية المادية في التعامل مع هذه القضايا ينكر أموراً هي من صلب الدين ومن صلب العقيدة، كالإيمان بوجود الجن، وغير ذلك من السحر أو الحسد التي ثبتت حقيقتها بأدلة قطعية في القرآن والسنة، فما بين جفاء الطبيب، وغلو الشيخ أو المعالج يحتار المريض بين الفريقين. - من مقاصد الشريعة الإسلامية العليا حفظ النفس وصيانتها، والشرع المطهر لم يدع صحة وعافية وجوارح الناس عبثاً بأيدي العابثين، فهم يخوضون بهم في بحار من الأوهام والغموض والمجهول الذي لا يمسك بزمام ولا بخطام، وإنما هو غموض في غموض في غموض، فلا نملك أدلة قطعية على التشخيص بأنها حالة مس جني، ولا نملك أدلة تثبت هذه المسالك التي أدخلت على أساليب العلاج الذي يذهبون إليه، ثم نرى -مع كل هذا الغموض وكل هذا المجهول- من يتجاسر على أن ينتهك حرمات الله سبحانه وتعالى ويعتدى على الأنفس بالتعذيب، والإنهاك، التعذيب البدني بالضرب وبالصعق بالكهرباء أحياناً، وبغير ذلك من هذه الأشياء الوحشية التي فيها مصادمة لحرمة الإنسان المسلم عند الله سبحانه وتعالى وفي شريعته. أخيراً: نحن ننكر على الذين يعذبون الناس في السجون والمعتقلات، ونتلو عليهم الآيات والأحاديث التي ترهب من هذا الفعل، وتنذر بشؤم العاقبة، لكننا نغض الطرف إذا سمعنا أن أخاً من هؤلاء المعالجين قد أنهك رجلاً أو امرأة أو صبياً بالضرب وقد يصل الأمر إلى إزهاق روحه؛ بحجة العلاج، فأي علاج هذا؟ ما الذي أدراك أنه جني؟ لابد من ضبط هذا الأمر بضوابط واضحة وقاطعة، قبل أن تستحل العدوان على الناس بالضرب، وإلا كنت واقعاً تحت طائلة التعزير الشرعي، أو الحد إذا جنيت جناية تستوجب الحد، فالأمر ليس فوضى، والعدوان على أرواح الناس وصحة الناس وأبدانهم لا يجوز، والذي وصل في بعض الحالات إلى القتل، فهذا إجرام وانحراف وعدوان على حرمات المسلمين، وليس علاجاً.

إفراط المعالجين في استخدام الوهم

إفراط المعالجين في استخدام الوهم سمعت من سائق يعيش في الساحل الشمالي أن امرأته اشتكت من مرض ما بعدما تزوجا بشهر تقريباً، فذهب بها إلى الطبيبة، فصرفت لها دواءً، وقبل أن تستكمل العلاج الذي وصفته لها الطبيبة إذا بشخص يتطوع ويقول: دعك من الطب، فهناك إخوة معالجون يعالجونها فلعل بها مساً من الجن، هكذا بمنتهى البساطة مع أنه مرض عضوي عادي جداً، فاذهب إلى الجماعة المعالجين للجن، فذهب إلى أحدهم وقرأ عليها ولم ينطق على لسانها جني، فقال: يظهر أن الجني أخرس، أو لعل الجني موجود، لكنه يتعمد ألا ينطق تماماً كما فعل آخرون في جريمة قتل مماثلة، أو لعله لا يوجد جني أصلاً ما دام أن المسألة مبنية على (لعل، وعسى) ولا نملك دليلاً نجزم به فما هو المسوغ للتمادي في الظنون نرجع إلى ما فعله هذا المعالج، ويكرره غيره من المعالجين الذين يزعمون أنهم تخصصوا وتفوقوا وتدربوا وتمرسوا في هذا المجال، ومع ذلك فهم يرتكبون مثل هذه الأخطاء التي ينبني عليها الإقدام بجهل على انتهاك حرمات الناس. فقال له: أحضر لي عوداً متيناً كي أضرب هذا الجني الأخرس الذي يرفض أن يتكلم، فيقول: فذهبت إلى شجرة الزيتون -ويبدو أن الذين يعيشون في الصحراء، يعلمون أن عود شجرة الزيتون عود قوي ومؤلم- وانتقيت عوداً طويلاً يلسع لسعاً مريراً، فأخذ يضرب المرأة على ظهرها ضرباً مبرحاً دون جدوى، ولم ينطق الجني الأخرس. المهم أنه حينما عاد إلى البيت وجد ظهر المرأة أخضر تماماً من كثرة الضرب، فقال لها: هذا يدل على أن الضرب وقع عليك أنت لا على الجني؟ قالت: نعم، قال: ما منعك من أن تتكلمي؟ قالت: أنا كنت منتظرة أن الجني يتكلم، أوهموها أن فيها جنياً، وسيطر عليهم هذا الوهم وكأن الوهم صار حقيقة لا تقبل الجدال، حتى إنه يستحل الضرب وهذا العدوان. وهذه الحالة ينبغي أن يقتص فيها من أمثال هؤلاء ويضرب بجهله وعدوانه، وإلا صار الأمر فوضى بهذه الطريقة. كما نجد آخرين متخصصين في كسر الإصبع الكبير، عالم من الجهل والجهلة، ومن المعتدين على حرمات المسلمين بهذه البدعة التي ابتدعوها، حتى أن المرأة اقتنعت أن فيها جنياً، فهي تعي وتتحمل الضرب ولا تريد أن تتكلم منتظرةً أن ينطق الجني الذي يلبسها. أنا أعتقد أنني لو فتحت حواراً مفتوحاً وكل واحد يحكي ما لديه من القصص، بل من المآسي؛ أظن أن عندكم رصيداً كبيراً من هذه المآسي، لكننا نكتفي فقط بضرب الأمثلة التي تغنينا عن التفاصيل.

خطر الانجرار وراء غيبيات عالم الجن

خطر الانجرار وراء غيبيات عالم الجن عالم الجن له حقيقة، ونحن لا ننكر مس الجني، وهي حقيقة شوهتها هذه الشعوذة، وهذا الدجل، وهذا الانحراف، والحالات التي فيها مس جني حقيقي هي حالات قليلة جداً جداً بالنسبة لما يحكى من الحالات الوهمية، ومن أسباب شيوع هذا الوهم فيما مضى. ولما الإنسان لديه ولع به كان ذلك من أسباب انتشار هذه الظاهرة، فحينما يسمع بهذا الموضوع شخص يراه موضوعاً شيقاً، وجذاباً ومغرياً، فتدفعه الغريزة والفطرة وحب الاستطلاع والفضول والولع إلى استكشاف ما غيب عنه؛ لأن الإنسان عنده تعطش دائماً لأن يعلم شيئاً عن العوالم الغيبية وعما يحدث في المستقبل، وعما غاب من المخلوقات أو حقائق هذا الوجود، فالإسلام أشبع هذه الفطرة بأن وسع رقعة العقيدة، ومد مساحتها بإخبارنا عن كثير من الأمور الغيبية؛ لتشبع هذا الميل في الإنسان. وقد يكون هذا السبب -وهو حب الاستطلاع والفضول- دافعاً لاستطلاع هذا العالم الغامض بالنسبة إلينا مما قد يؤدي إلى شيوع هذه الظاهرة المرضية التي بصددها. وعلاجاً لهذه الظاهرة لا بد من كبح جماح هذا التطلع، وأن يحد بحدود الشرع، فأنت إذا أردت أن تشبع هذا الفضول والاستطلاع إلى هذه العوالم الغيبية فلا توجد نافذة يمكن أن نطلع من خلالها على الغيوب إلا نافذة الوحي فقط، ولا يمكن أبداً أن نطلع على الغيوب، ونقطع بصدق هذه المعلومات إلا من خلال نافذة الوحي المعصوم، أما ما عدا ذلك فلا أمل قطعاً في التطلع إلى الأخبار الغيبية إلا عن طريق الوحي الشريف.

عالم الجن والشياطين في القرآن الكريم

عالم الجن والشياطين في القرآن الكريم تعرض القرآن الكريم لموضوع الجن ممثلاً بالشيطان بصفة أساسية، وفي كيد بني آدم، وفي شياطين الإنس والجن، وفصل تفصيلاً مهماً جداً، هذا هو الذي ينبغي أن ننشغل به: عداوة الشيطان لبني آدم، وأن الشيطان يقف وراء كل شرك ومعصية، وأن جنوده يجتهدون في إضلال الناس وإفساد ما بينهم، فنحن مطالبون بمحاربة كيد الشيطان بالاستقامة على طاعة الله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]، هذا موضوع أساسي، لكنه ليس موضوعنا الآن: عداوة الشيطان، وكيف نواجه هذا العدو؟ وكيف نكون منه على حذر؟ وكيف لا نقع في المعاصي؟ هكذا فصل القرآن وحذر من تلبيس الشيطان، وإضلاله إيانا سواء في العقيدة أو العبادات أو الأخلاق، أو غير ذلك من المسالك، هذا هو الموضوع الذي فصل القرآن فيه تفصيلاً عجيباً جداً، وكذلك السنة. أما حقائق عالم الجن، فقد عرض القرآن لها بالتفصيل في سورة الجن، ثم في سورة الأحقاف بصورة عابرة، وما عهدنا أبداً لا من الصحابة ولا من السلف الانغماس في موضوع الجن بهذه الطريقة المرضية الوبائية التي انتشرت وصرفت الناس عن الواقع الذي يعيشونه باعتبارهم من بني آدم إلى واقع من الخيال، وشيء غائب عنا، وأغلب المعلومات التي نتداولها ليست من مصدر الوحي ولكنها أخبار الجن، أو السحرة، أو ممن يزعمون أنهم قد تمرسوا وتدربوا في هذا المجال، لكن أين الخبر المعصوم الذي يجب ألا نتعداه؟ وتساهلنا كثيراً في أن نشرب كماً هائلاً من المعلومات دون أن نتمحص ونتحرى المنهج السلفي الذين نزعم أننا ننتمي إليه. فمثلاً: إذا قلنا لأخ: نريد دليلاً معصوماً على أن الجني يحرق بالقرآن؟ قد يدهش لأن الخبر حقيقة مسلمة، لكن من أين لك هذا؟ من أين أتيتم أن القرآن الكريم يحرق الجن؟ لن يجدوا دليلاً، إنما يتمسكون بعمومات من القرآن الكريم بعيدة تماماً عن تأييد ما ذهبوا إليه، نحن نريد احترام المنهج العلمي في مثل هذه القضية، أين الدليل على هذه الأشياء؟ أين الدليل على هذا الضرب المبرح بهذه الطريقة؟ هل الشريعة التي حرمت العدوان الصول على بدن وروح المؤمن تبيح في نفس الوقت هذا العبث وهذا الانتهاك لحرمات المسلمين بالصورة التي نراها والتي قد تصل إلى القتل في كثير من الحالات؟ أين العقول؟ أين منهج السلف الذي نزعم أننا ننتسب إليه؟ إذاً: ولع الإنسان بمعرفة الغيوب كان المدخل الذي من خلاله راج هذا الموضوع؛ لأننا نسينا أننا لا نتلقى الأخبار إلا من الوحي المعصوم، وفتحنا نافذة جديدة غير نافذة الوحي أخبار تأتينا عن عالم المجهول، وهذا إن كان جنياً بالفعل فإننا لا نعرف من هو، ولا كيف هو، ونعيش في عالم من الوهم، ونصدق هذه الأشياء، وأن الجني يسلم، ثم بعد ذلك يُعرض عليه الإسلام، ويقال له: ما اسمك؟ يجيب بأن اسمه جرجر، ثم يُسأل: من الذي بعثك؟ فيجيب شنودة إلخ، ونفتح أبواب خيال في خيال.

شناعة ادعاء تأييد قرين النبي صلى الله عليه وسلم

شناعة ادعاء تأييد قرين النبي صلى الله عليه وسلم هناك شخص يدعى محمد إسماعيل من الزقازيق، يدعي أن معه قرين النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يصحح له الأحاديث ويضعفها، وأنه يعطيه الفتاوى من أجل توحيد الصف المسلم وتوحيد المسلمين. وهذا غريب وعجيب، هل نشطب على كل جهود المحدثين الذين بذلوا الأرواح والأنفس والأموال، وسهر الليالي والرحلة في طلب العلم؟! كل هذا يلغى لأن قرين الرسول عليه الصلاة والسلام المزعوم يخبرنا مباشرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إذاً: ما كان أسهل الأمر، لماذا أتعب المحدثون أنفسهم بالجرح والتعديل والضوابط والاصطلاح والرحلة والسهر؟ لقد كان من السهولة بمكان أن نستقي من هذا المعين الحي المباشر بواسطة أعلى إسناد في العالم، فهو واحد فقط يتلقى من النبي عليه الصلاة والسلام! هذا عبث، هل رأينا أحداً من علماء المسلمين فعل هذا أو قال بهذا، أو اعتبر هذا مصدراً من مصادر العلم؟ إذا كان من يعرف بالغفلة، وعدم التركيز في مجالس التحديث لا يؤخذ خبره، ويقدح في ضبطه، فكيف نتلقى من كائن مجهول؟! نحن لسنا متأكدين أنه جني أصلاً، وربما كان هو نفس الشخص الذي يتكلم، وإذا كان جنياً من أين لنا أنه مسلم، أثبت أنه مسلم؟ أين الشهود؟ أين الذين عاشروه كي يضبطوا لنا إن كان مسلماً، ثم حتى لو كان مسلماً كيف هو؟ كيف عدالته؟ كيف ضبطه؟ كيف حفظه؟ كيف كيف كيف إلخ؟ فكيف نستطيع أن نتخلى عن هذا المنهج العريق الأصيل الذي تحسد عليه أمة المسلمين كما قال اليهودي مارجليوث: (ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم. علم لم تعرف الدنيا له نظيراً، ثم نأتي بهذه الخزعبلات ونقول: إن معنا قرين الرسول عليه الصلاة والسلام، الحقيقة أن هذا تنازل وانحطاط عن المنهج السلفي بطريقة ما، من كان يتصور أننا نصل إلى هذا المستوى؟ ما الفرق بيننا وبين الصوفية؟ نحن نقارن بين المنهج السلفي والمنهج الصوفي في مناهج التلقي، ونقول: نحن السلفيون منهجنا القرآن والسنة وفق فهم السلف الصالح، ثم نقول: ننتقد الصوفية لما عندهم من مصادر أخرى، كالكشف والإلهام والذوق والوجد والمنامات، ونقول: نحن نختلف معهم اختلافاً أساسياً في مصدر التلقي، أليس هذا انحرافاً في مصدر التلقي حينما نزعم أننا نتلقى من العالم الجني الغيبي من خلال نافذة غير نافذة الوحي المعصوم؟!

دور الدعاة والمعالجين بالقرآن في نشر الظاهرة المرضية

دور الدعاة والمعالجين بالقرآن في نشر الظاهرة المرضية ثمة عوامل أخرى مسئولة عن إشاعة هذه الظاهرة، في مقدمتها أولئك الطائفة من الدعاة الذين نشروا هذه الظاهرة في بداية الأمر، وسجلوا فيها الأشرطة، وخطب الجمعة، دون اعتبار وحذر من طبيعة الجماهير القابلة للغلو في هذا الجانب، بالذات جماهير العوام، وللأسف أيضاً أن نقول: طلبة العلم المزعومين الذين خاضوا في هذا الأمر ليل نهار، وصار شغلهم الشاغل، وانصرفوا حتى عن واجبات الدعوة والتعلم إلى موضوع الجن فكان ينبغي على هؤلاء الدعاة أن يراعوا طبيعة العوام -وطلبة العلم الذين هم في الحقيقة عوام وليسوا طلبة علم- أن عندهم قابلية للغلو في هذا الأمر، فإما أن توضع ضوابط لهذا الأمر، أو لا يطرق أصلاً، وكان ينبغي أن يحصل إشراف جماعي من العلماء على هذه الأشياء. كما أن المعالجين أنفسهم كانوا عاملاً أساسياً في نشر هذه الظاهرة، وكذلك المؤلفون الذين ألفوا عشرات الكتب، بل لو أحصاها أحد لسوف تزيد عن المائة كلها تتحدث عن الجن، سوق رائجة لكل من هب ودب ليكتب عن الجن: مغامراته مع الجن، حوار مع الجني المسلم إلخ، نظرت في بطاقته الشخصية فوجدت أن اسمه كبجور، عرفت من أين أن اسمه: كبجور، على أي أساس صدقت؟ هنالك كتاب كامل على هذا الحوار، ما الدليل على صدقه؟ الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (صدقك وهو كذوب) كان يعني ما يقول، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، وقد حكم لنا أنه صدق في هذا، لكن قال: (وهو كذوب) إشارة إلى أن الجني الشيطاني طبيعته الكذب، وذكرها بصيغة المبالغة، فما بالنا نأخذ بكلمة صدقك ونغفل الطبيعة الأصلية، مع أن الصدق بالنسبة إليه استثناء، أما الأصل الذي ينبغي أن نحسبه في كل ما يأتينا به من أخبار فهو: أنه كذوب. إن أشرطة الكاست لجلسات هؤلاء المعالجين ساهمت بدور كبير في إشغال الرأي العام بهذه القضية، بجانب جلسات الشباب فيما بينهم، جلسات السمر والحكايات والمغامرات للجن، ثم أيضاً حضور جلسات العلاج بدافع الفضول، ثم دخلت في هذه الأزقة بعض الصحف الحزبية التي تريد أن تروج ركودها، وتعالج هذا الركود بأن تلفت أنظار الناس بأي شيء، وتطور الأمر حتى صار حزب الأحرار يعلق إعلانات في كل مكان بطريقة عجيبة جداً، ويتسترون وراء القرآن، ويستغلون القرآن مصدة ومجنة لإرهاب الناس، وإياك أن تتكلم؛ لأنك إذا انتقدت المبالغة في هذا فمعنى ذلك أنك تقول: إن القرآن ليس بشفاء، لا، بل القرآن أعظم شفاء لجميع الأدواء بدنية وروحية ونفسية وكل شيء، لكن ليس بهذه الطريقة التي يمارسونها ويفعلونها، ويتسترون وراء كلمة القرآن الكريم ليستروا ويخفوا عدوانهم، وانتهاك حرمات الناس، ويعزفون على الأوتار الحساسة عند الناس.

حقيقة المس

حقيقة المس المس حقيقة لا ننكره قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275]، أما الطب الغربي فهو طب إلحادي من ناحية الإيمان، ولا يؤمن بالله، ولا بالقرآن، ولا يعترف بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فنحن لا نستغرب إذا أنكر هذا، مع أن الطب الغربي في الحقيقة لو احترم الحقيقة العلمية لحكم على نفسه كما يسمي في الاصطلاح الطبي: (إديوفاتك) يعني: غير معلومة السبب، أغلب حالات الجن غير معلومة السبب، فيقفوا عند حدهم، ويعترفوا قائلين: هذا شيء نجهله، فالجان هنا حالة نسبية، لكن ليس من حقه أن ينكر، هذا هو المنهج العلمي، فهذا ليس مجاله، إنما مجاله هو التعامل التجريبي مع الحالات المباشرة، أما أن يغتر الإنسان بما وصل إليه من العلم حتى يصل إلى حد التمادي وينكر حقائق غيبية، فهذا ليس مجاله، وليس تخصصه.

التوهم من طرق الإصابة بالمس

التوهم من طرق الإصابة بالمس أكثر المرضى يقعون فريسة الإيحاء الذاتي، وهي حالة مثل حالة الهستيريا تماماً، يسيطر فيها على المريض ويوهمه بأن عنده مثلاً الذبحة الصدرية، أو شلل، وهو في الحقيقة ليس مشلولاً، والبعض من كثرة ما سمع الأشرطة، والمحاضرات، وحفظ الحوار والسيناريو بكل دقة، فمجرد ما يقرأ القرآن ينفعل بنفس الكلام الذي سيطر عليه تماماً. وأقوى دليل على ما نقوله من أن أغلب الحالات حالات وهمية: أنك لو سلكت معه وسيلة الإيحاء والتأكيد بثقة أن هذا مجرد وهم تجد نتيجة إيجابية في كثير جداً من الحالات إذا سلكت هذا العلاج الطبيعي، واستخدمت الأسباب العادية في صرفه عن هذا الوهم، وإقناعه بأن الموضوع لا يعدو أن يكون وهماً سيطر عليه ليس أكثر، وأنه سليم تماماً ومعافى، وأن عنده أعراض واقعية، ونحن لا نقول: إنه يكذب، فقد يحس بخفقان في القلب أو عرق أو اضطراب أو غير ذلك من أعراض القلق المعروفة، لكن هذا له تفسير آخر معقول جداً، فالأعراض موجودة، لكن سببها ليس الجن، أو مرضاً عضوياً، سببها هو مرض نفسي؛ لأن مركز الخوف في المخ بجوار المركز العصبي الذاتي، فإذا اشتعل هذا أثر على الجهاز العصبي الذاتي الذي بجواره، فتحدث هذه الأعراض؛ لأن المركزين متقاربان، لكن هذه الأعراض سببها الشخص نفسه، وليست سبباً عضوياً، وهذه الأشياء معروفة؛ فإتقان التشخيص ينعكس على العلاج الصحيح؛ لأن أغلب الناس إذا دخلوا في هذا الخط يدخلون معافين من الجن، وإذا بهم في النهاية يخرجون وقد لبسهم مائة جني بسبب المعالجين وجهلهم وانحرافهم في التشخيص، كما قال الله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]، فيتمادى الجن، وبالفعل يتسلطون عليهم.

عودة الأفاضل إلى الطريق المستقيم

عودة الأفاضل إلى الطريق المستقيم هذه ظاهرة تستحق التسجيل، ولها دلالتها، وهي: أن أغلب من فيهم الخير لا يستمرون في هذا الخط، فبعد وقت معين يبدءون في التراجع؛ لأن فيهم خيراً، وهناك أشخاص كان يشار إليهم بالبنان في علاج هذه الحالات، ثم إذا بالواحد يندم على ما فعل وعلى خوضه في هذا المجال، ويقطع صلته به تماماً، ويشتكي من العناء الشديد، وهناك آثار لهذه الظاهرة على المعالج نفسه، وهي أن الجن يضحكون على بعض الشباب، فقد كان أحدهم يعالج حالة من الحالات يقول له: سوف يحضر فلان يقرأ عليك، فيصرخ الجني قائلاً: لا لا إلا فلان أنا لا أقدر عليه، سوف يحرقني بالقرآن. يريد الجني أن يفتنه، ويزيد انشغاله بهذه القضية، ويتوهم في نفسه أنه قاهر الجان ولا حل ولا قوة إلا بالله.

بعد السلف عن الاحتراف بالقرآن

بُعد السلف عن الاحتراف بالقرآن لما كان هذا المجال غامضاً فإن السلف ما اشتغلوا به بهذه الطريقة، وما فتحوا العيادات التخصصية لعلاج الجن، ولا مراكز علاج بالقرآن، ولا جلس أحدهم في مكان ما ينتظر الناس يتقاطرون ببابه، ويكتب أحدهم إعلانات وكروتاً تعجب من بياناتها الوظيفة: معالج بالقرآن الكريم، والكشف: عشرة جنية ويدفع مقدماً، والحجز مقدماً، وكأنها عيادات، من فعل هذا من السلف يا من تنتسبون إلى السلف؟! كان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مجاب الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا له أن يستجيب الله دعوته، وكذلك أويس القرني وما فتح أحد منهم مركزاً لعلاج الناس، ولا تفكر محتجاً بقوله: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، صحيح أن الرقية مشروعة، لكن هذا الغلو هو الذي يجب أن يوقف عند حده؛ لأننا كثيراً ما نبدأ من حيث انتهى الشرع، ونتمادى في الإفراط أو في التفريط، فالسلف كان فيهم من هو مجاب الدعوة، لكن ما فتح أحدهم مركزاً للعلاج، ولا قال: تعالوا إليّ، وأنا أدعو لكم، وأفعل بكم كذا وكذا. إن هذا الموضوع يكتنفه الغموض والضباب، وعدم وضوح الرؤية من بدايته إلى نهايته، الواضح فقط هو ما تقيد بالقرآن والسنة من الرقية الشرعية المنضبطة والملتزمة بضوابط الشرع، كإنسان قابل رجلاً صالحاً فلا بأس أن يطلب منه أن يرقيه، هذه الأشياء هي التي قام عليها الدليل، أما كل ما عدا هذه الأشياء التي يخوضون فيها فلا يسندها دليل، وقد لا نجد دليلاً قاطعاً نستطيع أن نجزم به أن هذه حالة مس جني. نعم. هناك حالات قليلة فعلاً يتضح فيها بجلاء أنه مس، مثلاً: شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا معروف عنه تماماً، ثم إذا به يتكلم لغة إنجليزية في غاية القوة بصوت رجل أو امرأة أو غير ذلك مما يخالف جنسه، فهذه أدلة واضحة حسية نسمعها في الأذن، وكلام حسي يدل على أن هناك جناً بالفعل. لكن هذه حالات قليلة، أما إذا كان الواحد يتكلم بصوت طفلة أو امرأة، فلربما أن المريض نفسه يقلد هذه الأصوات، فقد سمع أخباراً طويلة عن هذا، وحافظ كل الكلام اسمك ماذا؟ اسمي كذا، تسلم أم لا؟ تخرج أم لا؟ أنا أحبها ولا أريد أن أفارقها وتنتهي الحالة في الآخر إلى ما يشبه الأوهام فقط، وهذه الأشياء تعرفونها. ذكرنا أيضاً بدع المعالجين وأحوالهم، وكيف أنهم توسعوا في موضوع الرقى والنشرة حتى دخلوا منطقة السحر المحرمة، والأخذ بأساليب السحرة كما سنفصل إن شاء الله.

اتخاذ العلاج بالقرآن حرفة ومهنة خلاف هدي السلف

اتخاذ العلاج بالقرآن حرفة ومهنة خلاف هدي السلف ظاهرة احتراف العلاج بالقرآن الكريم ظاهرة جديدة، وانتشرت بطريقة ليست من سلوك السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم في شيء، وقد فتح هؤلاء باباً عظيماً جداً من أبواب الفتنة، وهو فتنة النساء، وكيف أن الشيطان يستجلب بعض هؤلاء الناس؛ ولأن العوام جهلة، ممكن لا مرأة أن تأتي بمفردها، ثم يخلو بها، وبحجة العلاج يرتكب معها جرائم توجب الحد، وكبائر الذنوب بحجة العلاج بالقرآن الكريم، حتى يصل الحال ببعضهم أن يدهن الجسد بدون حائل عن طريق هذا الزيت الذي قرأ عليه، فهل يطمع الشيطان في أكثر من هذا اللعب بعقول الناس، وتوريطهم في أكبر هذه الكبائر؟! ذكرنا أن بعض المرضى مصاب حقيقة بالمس، وهذه نادرة وقليلة جداً بالنسبة للكم الهائل الذي نراه ونسمع عنه، وبعضهم يكون مرضه نتيجة الوهم الهستيري المسيطر عليه، فيتقن تمثيل الدور الذي قرأ فيه كثيراً، وسمع فيه أشرطة، وتكلم فيه كثيراً، وبعضهم يكذب متعمداً الكذب لمصلحة شخصية، كما في قصة الشاب الذي شك أحد الحضور في أنه متلبس بالجن، وكله نفس الكلام، أنت من؟ أنا سلمان بن أبي سليمان، أأنت نصراني؟ هل تخرج وتسلم؟ سوف أسلم وأشهد الشهادتين، ثم بعد تلك القصة الطويلة العريضة، قال أحد الحضور أنت كذاب، قال: نعم، الحقيقة ليس بي مس جن، مع أن الكذب راجع على الذي يعالجه، وراج على الحضور جميعاً، لكن هذا الأخ كان عنده بصيرة، فقال له: فعلاً أنا أمثل؛ لأن بيني وبين أبي بعض المشاكل، فأريد منه أن يخفف عني الوطأة قليلاً، فادعيت أنني ملبوس. كذلك قصة تلك التي كانت تشتكي من زوجها البخيل، قعد أحد المعالجين يعالجها بنفس المراحل، وفي النهاية بعدما لم ير أي تحسن في الحالة، قال لها: ما الأمر؟ لأنه لا يرى أي استجابة للعلاج، فقالت: أنا في الحقيقة أفعل هذا وأمثل أنني ملبوسة نتيجة أن زوجي رجل شديد البخل حتى أنه يقيس الزيت بالمسطرة.

الطريقة المثلى للتعامل مع غيبيات عالم الجن

الطريقة المثلى للتعامل مع غيبيات عالم الجن علاقة أهل الإيمان بالشياطين علاقة القهر والإذلال كما روي في الحديث -وإن كان فيه ضعف- عند الإمام أحمد في مسنده: (إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر)، يعني: كما تأخذ بناصية البعير وتقهره وتذله، فكذلك المؤمن يفعل بشيطانه يقهره ويذله، لا أن يخاف منه، وبعضهم قال: ينضي: يجعله هزيلاً. المؤمن كثير الذكر لله مما يجعل الشيطان هزيلاً ضعيفاً لا يجد فرصة لأن يتغذى ويسمن. أليس إبليس -الشيطان الأحقر- هو الذي فر يوم بدر صارخاً فقال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:48]، ساعة الجد يخذلهم، فما بالك بجنوده، هم أضعف وأذل وأحقر، فالمخرج والبديل هو أن نحقق قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] فنقول للناس: اتخذوه عدواً، إذ لا تصلح معه هدنة، ولا الإحسان إليه، ولا المصانعة ولا المداراة، لا يصلح مع إبليس إلا طريق واحد فقط هو: اتخاذه عدواً، ومعنى اتخاذه عدواً: ألا نطيعه في معصية الله سبحانه وتعالى. فمن هذا المدخل نقول للناس: التلفاز كله فساد، وإذا أردت أن تطيع الله ينبغي أن تحمي نفسك من فساده، تضييع الصلاة كفر ونفاق وكذا وكذا، لماذا نحن نربط التزامه بالعلاج؟ بمعنى: أن بعض الناس إذا لم يلق فائدة ربما رجع إلى التلفاز، فنحن لا نطيع الله سبحانه وتعالى ونلتزم بالدين إلا على أساس العلاج، فإذا قضيت الحاجة تركنا ذلك لا، المفروض أن تكون دعوة الداعية والمعالج إلى العبودية لله سبحانه وتعالى، وليس إلى تحصيل هذه المصلحة، فنتذكر قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:17] الكل يبحث على السحرة للعلاج من مس الجن، والفرج لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى، أين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأين قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:17] استعن بالله سبحانه وتعالى بالدعاء وبالذكر وبالاجتهاد في الطاعة يكشف ما بك من شر، وقال تعالى حاكياً عن حبيب النجار: {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]، وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] وغير ذلك من النصوص. أيضاً من التنبيهات المهمة: أنه ينبغي أن نتعامل مع هذه الحالات بصفتنا بشراً، ونتعامل مع الواقع الذي نحن فيه، فإذا أصبت بمرض فاذهب إلى الطبيب المختص، فبسبب تدهور فكرك تسلط عليك الجن، ولهذا كثيراً ما يهرع الناس ابتداء إلى المعنيين بعلاج المس دون أدنى تمييز أو تفرقة بين الساحر والمشعوذ، وبين من يعالجون بالقرآن الكريم، وترك الأسباب المعتادة مثل: الذهاب إلى الأطباء المتخصصين في الأمراض العضوية والنفسية. كذلك نجد انعكاسات سيئة لهذه الظاهرة وردود أفعال مشينة بصورة غير عادية كالإعلان الذي ينشره أصحاب حزب الأحرار عن علاج فشل الخطبة المتكرر، فلو أن واحدة خطبت وفشلت الخطبة، أول شيء تهرع إليه هو التفكير في سحر ما تقليداً للنساء، وهذا كله من أساليب العجائز من النساء الجاهلات، ثم صارت هذه الأساليب معترفاً بها حتى بين الرجال، وصار من المألوف أن المرأة إذا خطبت أكثر من مرة ولم توفق أن يعتقد أن فيها سحراً، وأن خطيبها الأول هو الفاعل، وكلام كثير بهذه الصورة المعروفة، بينما نحن نتعامل مع الواقع ومع الحقيقة ونبحث عن الأسباب، ولعل هذا الخاطب من النوع المتلاعب وغير الجاد، وربما الزواج لم يتم لأنه عاجز عن تقديم مستلزماته، أو أن الفتاة نفسها لا ترغب في الزواج، فالأولى أن يبحث عن السبب الحقيقي الذي أدى إلى ذلك نتجنبه، أما أن ندخل في مجال غامض ومبهم ولا حدود له ونقول: سحر أو ليس بسحر، ونفتح باب شر نحن في غنى عنه؟ لا. ومن باب ما نظن أنه مصلحة نقع في الشرك عن طريق الذهاب للسحرة والمشعوذين، فينبغي على الإنسان أن يتعامل مع الأسباب المعتادة؛ فإن اعتراك مرض تذهب إلى الطبيب. وأصبح من المعتاد جداً أن يسمع الواحد منا جنايات بمبررات غير سائغة، وأذكر أن أحد الإخوة سألني مرة فقال لي: الأخت كانت نفسيتها تعبانة قليلاً، فضربتها على رجلها ليخرج الجني، وكسرت لها أصبعها، ويتكلم وكأنه شيء معتاد، وكأنه لم يعمل جريمة، ويحكي ويسترسل في الحديث كأن الأمر ضيافة لها وكرامة. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، أنت مسئول عن هذه الجناية، ولولا غياب الشريعة الإسلامية، والتغاضي عن مثل هذه الأخطاء لعوقب هؤلاء العابثين بصحة الناس وبجوارحهم عقوبة شديدة، ولا شك أن الإسلام بريء من كل هذه الفوضى.

بين الطب والعلاج بالقرآن

بين الطب والعلاج بالقرآن خلاصة الكلام يذكره أحد الأخصائيين النفسيين من ذوي الاستقامة، يقول: إن حالات تلبس الجن ثابتة في الكتاب والسنة، ولكنها ليست بهذه الكثرة، والممارس لمهنة الطب النفسي يلاحظ أن معظم الحالات التي تتردد للعلاج لها مسار مرضي محدد، وتسلسل منطقي واضح، واستجابة معقولة للأدوية المتاحة رغم حصولها، فقط يكتفي بالعلاج إذ إن العلامات واضحة كلها تماماً وتبين ما إذا كانت أعراض مرض نفسي أو مرض عضوي، والطب النفسي الآن ليس كما كان من قبل، الطب النفسي الآن عبارة عن (1 + 1 =2)، فيوجد وضوح كامل في قواعد التشخيص وعلاماته بعد التقدم الهائل في هذا المجال، فلا يصح أن نسيء الظن في هذا المجال الذي عظمه الشرع، وحثنا على السعي إلى أهل الخبرة والثقة من الأطباء. ثم يقول: وإذا كانت هناك نسبة من الأمراض النفسية ما زالت أسبابها الحقيقية غامضة، فهذا يدعونا إلى البحث والدراسة والوصول إلى أسبابها، وليس أضر علينا من تفسير كل الأمراض على تلبس الجن أو السحر أو الحسد؛ لأن ذلك يوقف حركة الاجتهاد والبحث البشري، ولو كان الحال هكذا لما اكتشف علاج مرض واحد. ويقول أيضاً: من الصعوبة على أي شخص أن يجزم بأن حالة معينة هي من تلبس الجن، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عالج كل الحالات على أنها تلبس جن أو سحر أو حسد، ولكنه عالج بكل الوسائل: عالج بعض الحالات بالعسل، وعالج بالكي، وعالج بالحمية، وعالج بالحناء، وعالج بالعصابة للرأس إلخ، وأمر صحابته بالذهاب إلى الطبيب مع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب، ولكنه يعلمنا الأخذ بالأسباب. إذاً: التعميم والتعتيم الذي يمارسه بعض المعالجين الآن ما هو إلا جهل بالدين أو بالطب أو كلاهما معاً. ثالثاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)، وما يفعله الكثيرون من المعالجين البدائيين اليوم لا يخرج عن كونه عرافة أو كهانة؛ لأنهم يجزمون بتلبس الجن، والجن غيب عنا، والجزم بالغيب عرافة، وإذا كان بعضهم على علم فالغالبية على درجة شديدة من الجهل، وإذا كان بعضهم تقياً فالغالبية على غير الجادة، وليس هناك رقابة على ممارساتهم لذلك، فالمريض المسكين حين يذهب إلى أحدهم فهو يرمي نفسه في المجهول. رابعاً: أن الاستعاذة من الجن ومن السحر ومن الحسد أمر يسير علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة المعوذتين، وآية الكرسي، وباقي الآيات في الصباح والمساء، وبتقوية العلاقة بين الإنسان وربه دون الحاجة إلى وسيط، وهذه الأدعية يقرؤها الشخص المريض على نفسه أياً كان نوع مرضه، أو يقرؤها عليه أحد أقاربه أو أصدقائه، ولا يكون هناك شخص بذاته يتولى هذه المهمة ويتخذها وظيفة وإلا أصبحت كهانة صريحة. خامساً: ليس هناك ما يمنع من الجمع، بل إنه من الضروري الجمع بين أخذ الدواء الذي يفرضه الطبيب المتخصص، وبين الدعاء وقراءة القرآن والرقية الشرعية، لا مانع على الإطلاق بجانب الأسباب العادية أن تتعاطى العلاج بالقرآن الكريم وبذكر الله سبحانه وتعالى، وبالرقية الشرعية التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل هذا من أمر الله وقدره وعلينا أن نحارب القدر بالقدر، سواء قدر التداوي بالأدوية، أو التداوي بالقرآن الكريم الذي قال تعالى فيه: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]. أما الأخذ بشيء مع إهمال باقي الأشياء فهو من قبيل النقص، فالإنسان جسد ونفس، ولا يمكن الفصل بينهما، وللجسد ما يفيده وللنفس ما يلائمها. يقول أيضاً الدكتور عبد الستار أبو غدة في بحث له قيم جداً حول هذا الموضوع، نلتقط منه بعض العبارات بسرعة، يقول: الأصل في المرض -أي: مرض كان- أن يبحث عن دوائه في الأسباب الكونية الظاهرة المقدور على فهمها وتفسيرها، ولذا لا يصار للبحث عن علاج آخر إلا عند العين، وسنرى أن الحالات المنقولة في السنة كلها فيها الإشارة إلى أن ما بهؤلاء المرضى قد أعيا الأطباء علاجهم، على أنه لا ينافي هذا أن يحصل الاقتران بين العلاج المادي والروحي الذي لا يتنافى اجتماعه مع الأخذ بالأسباب الظاهرة، ذلك أن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف، والرقية له لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق الشفاء، وهذا الفصل أيضاً غير مرغوب في الإسلام، أما أن نعتمد فقط على الأدوية، ونهمل جانب الرقية والعلاج بالدعاء وبالذكر، واضح أن الإنسان بدن ونفس وروح، البدن يعالجه الطب، والروح يعالجها القرآن، وليس فيه داعي أبداً للفصل بين هذين الركنين، فالالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق شفائه، بل إن ذلك الالتجاء يرافق عملية العلاج للمرض، سواء حصل الأمل بشفائه أو العجز عنه، إنما لا يسوغ الاقتصار على العلاج الروحي ويترك الأخذ بالأسباب الأخرى التي وضعها الله سبحانه وتعالى في صورة قوانين طبيعية، وجاءت الشريعة بالتأكيد على أن الأخذ بها لا ينافي التوكل على الله، بل إن عدم الأخذ بها عجز وتواكل منهي عنهما شرعاً، ومستنكران عقلاً وطبعاً. يقول أيضاً: إن الإقدام على وسائل العلاج الروحي الزائدة على الدعاء والتعوذ والرقية من غلظة وشدة وانتهار وتهديد من المعالج موجهة في الظاهر للمريض يحل ذلك لا يحل إلا بعد أن يثبت أنه لا علاج له في الطب، أي: حتى يستيقن أن سبب هذا المرض غير عضوي، وأن يكون المعالج موقناً أيضاً بسلامة تصرفه، وأن تكون عاقبة ذلك مصادقة لما رآه، وإلا لم يكن بمنجاة من القصاص والتعزير، ثم ذكر أموراً من المعوذات المعروفة، والاستعاذة من نزغات الشياطين، وقراءة المعوذتين، وقراءة آية الكرسي، وسورة البقرة، والآيتين من سورة البقرة إلى غير ذلك من الأذكار المعروفة في هذا المجال. ثم وجهت إلى الدكتور: عبد الستار أبو غدة في نهاية هذا البحث بعض الأسئلة -لأنه كان يحاضر بعض الأطباء- فسئل من أحدهم: نحن نعتقد بالجن باعتبارنا مسلمين -والتعبير هذا أدق فقول: (باعتبارنا أو بصفتنا) أولى، ولا داعي إلى كلمة (كمسلمين) التي تقتضي التشبيه- إلا أنه ما الدليل المستخرج من الشريعة على أن الجن قد يسببون الأمراض، وخاصة الأمراض العقلية النفسية؟ وما هو الدليل على أن الشفاء يتم باستخراج أو طرد الجن؟ A وردت بعض الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الجن قد يتسلطون على ضعاف الناس، ويسببون لهم أحوالاً مرضية لا يجدي فيها العلاج الطبي، وورد أن بعض هذه الحالات عولجت بتقوية نفس المصاب، وذلك بالتعوذ بالأدعية، وزجر الجني المتسلط عليه، ولا يقوى على ذلك إلا من كان قوي الإيمان والعزيمة، حتى يكون سلطانه على الأنفس الشريرة أقوى من سلطانها، فإذا تخلص المصاب مما كان يعانيه، دل ذلك على جدوى العلاج، هذا وإن درجة هذه الأحاديث تصلح للأخذ بها عملاً، ولم تصل إلى درجة أن يبنى عليها اعتقاد، يبدو أنه يقصد عدم التواتر وهذه قضية أخرى. Q كيف نتعرف على أن الجني مسيطر على شخص ما؟ A إذا أصيب الإنسان بمرض، أو خلل في جسمه أو عقله، فإن السبيل الذي دعت إليه الشريعة هو الرجوع إلى المختصين من الأطباء، فإذا لم يُجدِ العلاج الطبي فإن من المحتمل أن يكون سبب الإصابة أو المرض غير عضوي، فيضم إليه العلاج الروحي مثل: الأدعية والأذكار وتقوية نفس المصاب، والتغلب على تسلط النفس الشريرة المؤثرة عليه. Q ما حكم تعلم كيفية التخلص من الجن؟ الجواب: ليس هناك أمور خاصة تحتاج إلى تعلم أو تعليم، بل كل ما يحتاج إليه العلاج هو الدعاء بالأدعية المأثورة، وترداد الأذكار الواردة، مضافاً إلى ذلك صلاح المعالج وتقواه وقوة نفسه. يقول أيضاً: إن الجوانب الروحية والدينية في علاج الأمراض عامة والنفسية منها بخاصة هي العنصر الدائم في العلاج مهما تبدلت الوسائل الأخرى الخاضعة لمعطيات التجارب والكشوف. أيضاً في كلامه عن العلاجات الروحية الغيبية يقول: ومن الواضح أن العمل بالشيء أو تركه للآخر غير التصديق والجحود، ويقول: حين نقرر العلاج الروحي وتوقع بعض الصور الغيبية لا نلتزم ولا نقبل من صوره إلا ما ثبتت شرعيته بالنصوص الصحيحة، بعيداً عن الخرافات والأوهام، وذلك منهج واضح؛ لأن الإسلام قد وضع الأسس الكفيلة لإبعاد صور الدجل والاستغلال التي يخترعها كثيرون ممن يستغلون حال ضعف المريض واستسلامه لكل من يلوح له بالعلاج، وإن تسليط الأضواء على المنهج الصحيح كفيل بإزهاق الباطل حتى يذهب الزبد جفاء، وبإحقاق الحق حتى يبقى، وهو ما كان قائماً على أدعية وتعويذات مشروعة وهادفة، ولابد أن يؤدي إلى تراكم الشوائب التي علقت بهذا العلاج بسبب الغموض الذي يستغله بعض المشعوذين. إن ما جاء في الطب النبوي من علاجات روحية في المرض والوجع واللدغة والإصابة بالعين مما صح في الأحاديث كله قائم على دعاء الله مباشرة دون وسيط، بأن يلزم الإنسان سواء السبيل للوصول إلى العلاج الناجح، (فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله سبحانه وتعالى)، وهذا الدعاء يصدر من المريض أو ممن يتوسم فيه استجابة دعائه بعيداً عن حمل التمائم والحجب. ثم يقول أيضاًً: وهناك شعار يمكن رفعه في الدعوة إلى رحابة الصدر بهذا العلاج، وهو مستمد من قول النبي صلى الله عليه وسلم تعقيباً على استعراضه بعض الرقى المتداولة، وإقرار ما كان منها خالياً من الشوائب المخلة بالعقيدة أو السلوك الإسلامي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وإن تسليط الأضواء على هذا النوع من العلاج إباحة للنفع، كما أن من ينكر عن جهل مضمونه ومستنداته يوصد باباً للنفع، ويصد عن سبيله. وهنا يرد على الأطباء الذين ينكرون العلاج بالقرآن والذكر وبالعلاج الروحي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، ما دام فيه انضباط بالضوابط الشرعية المعروفة، وسد هذا الباب وإغلاقه على الناس يعد م

سلسلة حول دخول البرلمان_طريق البرلمان الرأي والرأي الآخر

سلسلة حول دخول البرلمان_طريق البرلمان الرأي والرأي الآخر الأصل في دخول الدعاة إلى البرلمان للإصلاح والدعوة المنع؛ لأن في الدخول مفاسد كثيرة، وتنازلات عديدة، وقد أثبتت التجارب الكثيرة المتتابعة أن هذا الطريق شره أكثر من خيره، وأضراره أكثر من منافعه، ومن أبى إلا الدخول فلا نضلله؛ لأن دخوله مبني على اجتهاد ونظر، وهو أيضاً لا يجوز له أن يضلِّل من خالفه، والواجب علينا أن نعذر بعضنا بعضاً في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف.

الإسلام دين ودولة

الإسلام دين ودولة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)، والشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأولهن نقضاً الحكم) وفي هذا دليل على أن الإسلام دين ودولة، وأن الاشتغال بالسياسة بالمفهوم الإسلامي هو من صميم هذا الدين، بل -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- من عرى هذا الدين، فأول عرى الإسلام نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة فميتته ميتة جاهلية) يعني: بيعة للحاكم المسلم. هذا، ونحن نتعرض لموضوع الساعة وهو ما يتعلق بالعمل السياسي في المفهوم الإسلامي فلا ينبغي أن ننحصر في مفهوم الحكم، فإذا قلنا: العمل السياسي في الإسلام فلا نعني فقط ما يتعلق بالحكم، وإنما مصطلح العمل السياسي أوسع بكثير من مجرد الحكم، فالسياسة تشمل قيادة الناس، والاهتمام بالأمور العامة، وشئون الحكم منها، وعلاقة الدول بعضها ببعض، وغير ذلك. فمن المسلمات التي لا يقول بعكسها إلا من ليس له حظ في الإسلام أن الإسلام دين ودولة، وربما لم يجتمع وصف الرسالة مع وصف الحكم والملك إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع وصف نبي وملك في حق داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام, أما رسول بجانب الحكم والقيادة فالوحيد الذي جمع بينهما في أكمل صورة هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جمع بين مهمة الدعوة والبشارة والنذارة، وبين ممارسة واجبات الحاكم والسيادة، فقد كان هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت كان حاكماً وقائداً وليس مجرد مرشد أو مبلغ كما يدعي البعض, بل كان حاكماً كما قال له الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال له عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] إلى آخر الآية، وكان قائداً كما قال الله له: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84]، بل عاتبه الله سبحانه وتعالى في إذنه للذين استأذنوه في التخلف عن الجهاد فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، ومارس القيادة العسكرية حينما عين أسامة بن زيد رضي الله عنهما قبل وفاته مباشرة لغزو الروم, وقال عليه الصلاة والسلام: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) إشارة إلى اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له للخلافة.

الآثار المترتبة على غياب الخلافة الإسلامية

الآثار المترتبة على غياب الخلافة الإسلامية لقد مارس المسلمون السياسة في عهود الخلافة لمدة تقارب الثلاثة عشر قرناً، ابتداء من أروع أنموذج للخلافة الراشدة بعد النبي عليه الصلاة والسلام في عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عهد بني أمية، ثم في عهد بني العباس، ثم في عهد بني أيوب، ثم في عهد بني عثمان, على تفاوت في درجة الالتزام بالشريعة كمرجعية إسلامية بصورة كاملة، ولا شك أن الأنموذج الأمثل للسياسة كان في عهد الخلفاء الراشدين، ثم بعد ذلك كانت المسألة نسبية، لكن بقي الإسلام هو الإطار المرجعي العام الذي يتحاكم إليه المسلمون بلا نقاش ولا خلاف أو انحراف بينهم في ذلك، حتى سقطت الخلافة العثمانية في سنة (1923م) , والخلافة كانت قد آلت إلى مراحل من الضعف نتيجة الانحراف عن الشريعة الإسلامية في فتراتها الأخيرة, التي ظهر فيها الانحلال والتدهور، فكانت مهيأة للسقوط, فما فعله أتاتورك هو أن الجدار كان آيلاً للسقوط فهو دفعه بيده فسقط ولو كان جداراً متيناً لما سقط بتلك السهولة، لكن كانت هناك أسباب أخرى للضعف انتهت بانهيار الخلافة العثمانية وغيابها، لكن كان المسلمون حتى في حالات الضعف يعزون أنفسهم بأن لهم خليفة ولهم بيعة في عنقه، ولهم كذا وكذا، لكن حتى هذا الوضع الشكلي الذي آلت إليه الخلافة العثمانية انتهى بإقصائها تماماً على يد أتاتورك وأعوانه. وأول شؤم بعد سقوط الخلافة وضعف المسلمين في تلك المرحلة هو تقسيم الأمة الإسلامية إلى أقاليم جغرافية متعددة على أيدي أعداء الإسلام من الإنكليز والفرنسيين وغيرهم من أعداء الله سبحانه وتعالى؛ تطبيقاً لمبدئهم المعروف: فرق تسد, وكان الإنكليز وراء ما يسمى بالثورة العربية، وأشرفوا على عملية الانفصال بين الأتراك وبين العرب. والأثر الثاني أن هذه الأقاليم خضع معظمها للاستعمار العسكري الكافر سواء انجلترا أو فرنسا أو إيطاليا أو هولندا أو روسيا، ثم حكمتها حكومات أقامها الاستعمار ممن يطيعه، مما نستطيع أن نسميه استعماراً وطنياً كما هو الحال الآن في العراق، حيث تنتقي الدولة المستعمرة أناساً يقومون هم بالتصدي لتنفيذ سياساتها وأغراضها، فهذا نوع من الاستعمار لكن بأيدي أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. ثم بعد ذلك شرع الكفار المستعمرون في استبدال القوانين الإسلامية والنظم الإسلامية بقوانين كافرة تنافي شريعة الإسلام، وهذه مرحلة الاستعمار التشريعي. ثم بعد ذلك بدأ الزحف إلى مناهج التعليم فغيرت، ونشأت بسببها أجيال تعتنق المفاهيم الغربية وتعادي الإسلام ولا تعتز بالانتماء إلى الهوية الإسلامية، وهذا هو الاستعمار التعليمي والفكري. لقد ألغيت الخلافة الإسلامية تماماً من الوجود, بل صدر في تركيا قانون يعتبر أن العمل لاسترداد الخلافة الإسلامية أو الدعوة إليها جريمة يعاقب عليها, حتى أن أربكان لما أراد أن يرشح نفسه للرئاسة أراد بعض الصحفيين أن يورطه في كلام يطبق عليه هذا القانون فبالتالي يقصى عن النشاط السياسي، فقال له: إذا وصلت إلى الحكم فكيف ستحكم تركيا؟ فاضطر أن يجيب إجابة تصور الخوف والوضع المتردي الذي وصل إليه المسلمون في تركيا, وأجاب إجابة ذكية ليهرب من هذا الفخ الذي نصبه له هذا الصحفي، وفي نفس الوقت يجيب بما يعتقده فقال: سوف أحكم تركيا بالنظام الذي كان يحكمها يوم أن كانت تسود العالم. وكل هذا هروباً من كلمة النظام الإسلامي حتى لا يتهم بأنه يريد إعادة الخلافة! وبعد ذلك جاءت مرحلة نهب ثروات المسلمين واستغلالها وإذلال المسلمين, ثم أتت بعد ذلك مرحلة خروج الاستعمار من بلاد المسلمين، لكنه لم يغادر إلا بعد أن أرسى دعائم استمرار هذه الأنواع من الاستعمار، وترك خلفه واقعاً مغايراً للإسلام يصعب تغييره إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.

العلاقة بين الإسلام والديمقراطية

العلاقة بين الإٍسلام والديمقراطية من هذا الركام الذي وصل إلينا من خلال الاحتكاك بالعالم الغربي ومن خلال سفراء الغرب لدينا أو تجار الشنطة الثقافية كما يطلقون عليهم أن نبعت فكرة الديمقراطية كنظام يتبع، وأنه المخرج، وأنه النظام الأمثل إلى غير ذلك, فكانت هذه الفكرة من الأفكار التي وردت إلينا من الغرب، والغرب يحاول تسخيرها ليصل بها إلى مصالحه في البلاد الإسلامية. والديمقراطية لو فرض جدلاً أنها تطبق فإنها نظام وفكرة نابعة من الثقافة الغربية, وهي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، يعني: أن يكون الشعب هو مصدر السلطات, والإسلام يرفض الديمقراطية تماماً باعتبارها لا تتوافق مع عقيدتنا ولا مع ثقافتنا الإسلامية لأسباب كثيرة سوف نفصلها إن شاء الله تعالى فيما بعد, لكن أهم الفروق التي بين النظامين: أن الدعاة إلى الإسلام يقولون: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, ويقولون: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] , {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] ويقولون: إن الإسلام هو محور الحياة وهو منهج الحياة, امتثالاً لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، أما دعاة الديمقراطية الغربية فهم يقولون: خير الهدي هدي الغرب! إذاً: يوجد افتراق عقائدي من المنبع ومن الأصل, نحن عقيدتنا أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, أما هم فيقولون: خير الهدي هدي الغرب, وهو النموذج الأمثل الذي ينبغي أن نتبعه، وهو المخرج، بخلاف شعارنا أن الإسلام هو منهج الحياة, والعبارة التي تشيع الآن وهي (الإسلام هو الحل) هي عبارة صحيحة، لكنها عبارة قاصرة, الإسلام فعلاً هو الحل وهو المخرج كما قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، لكن هي عبارة قاصرة؛ لأن الإسلام لا ينظر إليه على أنه مجرد حل, بل هو بالنسبة إلينا منهج متكامل للحياة، حتى لو كلفنا الغالي والنفيس, ولو كلفنا دماءنا وأموالنا وأرواحنا فإننا نبذل ذلك طواعية في سبيل إعداده, فعبارة (الإسلام هو الحل) قاصرة، لأن بعض الدول الكافرة قد تدرس النظام القضائي في الإسلام فترى أنه الحل الأمثل فعلاً لمشكلتها فتمتثله, لا طاعة لله ولرسوله، ولا تأخذ به من باب العبودية لله عز وجل، وإنما من باب إدراك المصالح التي تتحقق من تطبيق الشريعة الإسلامية, فهم قد يقولون: (الإسلام هو الحل) في جزئية معينة, أما نحن فلا ننكر عبارة (الإسلام هو الحل) إذا أطلقها مسلمون واعون, لكن نقول: هي عبارة قاصرة، وأشمل منها أن نقول: الإسلام هو منهج الحياة المتكامل، ونحن لا نلجأ إليه فقط ليحل مشاكلنا، ونحصد ما يترتب على امتثاله من بركات, وإنما نمتثله حتى ولو كان التزامنا به يكلفنا أرواحنا ودماءنا وأموالنا، فإننا نبذلها في سبيل الله تبارك وتعالى. أما الديمقراطية فهي تعني حكم الشعب بالشعب وللشعب, فبدل ما يعبد وثن واحد: هبل أو اللات أو العزى, فإن الشعب كله يكون آلهة له حق التشريع والتحليل والتحريم, فالحكم في الديمقراطية للأغلبية أياً كانت نوعية هؤلاء الناس، أما في الإسلام فمفهوم الشورى بالمعنى الشرعي الواسع يخالف هذا، والذين يتخذون القرارات التي تحتاجها الأمة هم الصفوة من أهل الحل والعقد, وهم أولو الأمر كما سماهم الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] , فهم الذين يحددون القرارات المصيرية، ويقودون الأمة للخير، أما أن يكون الحق لكل الناس وآحاد الناس فهذا يتعارض تماماً مع شريعة الإسلام, نعم توجد أغلبية في الإسلام, ولكنها أغلبية الصفوة من العلماء والفقهاء والحكماء والقادة العسكريين والخبراء ونحوهم في كل مجالات الحياة, فالصفوة المنتقاة هم الذين تراعى أغلبيتهم، وليس رجل الشارع الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل الساعة في قوله: (ينطق الرويبضة, قيل: ومن الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمور العامة). هذه إشارة عابرة في حكم الديمقراطية، فبيننا معشر المسلمين وبين الغرب اختلاف في الثقافة، فإن الغرب له موقف من الدين بناء على تجربته السابقة في القرون الوسطى المظلمة، حيث عانى فيها الغرب عناء شديداً جداً من تسلط الكنيسة وظلمها وقهرها للناس ومحاربتها للعلم وفساد العقيدة التي كانت تدعوهم إليها مع تصادمها مع الفطرة, فكان رد الفعل أن ثار الغربيون على الكنيسة وأقصوها عن الحياة ورفعوا الشعار المعروف: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس, أما عندنا فالإسلام دين العلم, ودين الفطرة, ودين التوحيد, ولا يوجد أي مسوغ لأن ننادي بفصل الدين عن الحياة؛ لأننا لم نعرف مثل هذا النوع من الحكم القهري الظالم المتسلط الذي يحارب العلم ويحارب التطور ونحو ذلك؛ ولذا فإن الغرب لما تخلى عن عقيدته الفاسدة تقدم, فتم الربط بأن التقدم لا يكون إلا بالتخلي عن الدين, وحصل نوع من التعميم الظالم لهذه القاعدة, والحقيقة أن هذه القاعدة تنطبق على كل الأديان ما عدا الدين الإسلامي, فكل الأمم غير أمة الإسلام إذا تمسكت بدينها تقهقرت, وإذا تخلت عن دينها تقدمت في علوم الدنيا، فمثلاً اليابان لما حصل منهم تمرد على عبادة الإمبراطور، وتخلوا عن عقيدتهم, وفصلوا دينهم عن دولتهم؛ تقدموا وترقوا, وكذلك الغرب لما تخلى عن العقيدة النصرانية المحرفة تقدم وتطور، أما المسلمون فإنهم يعاملون من الله سبحانه وتعالى معاملة خاصة, يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فكلما تمسكت الأمة بدينها ترقت وقويت, وكلما تخلت عنه ذلت وضعفت كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، فهذا قانون؛ لأن تركنا لدين الله كفر بنعمة الله سبحانه وتعالى, فإن كفرنا بنعمة الله عز وجل ورفضنا ديننا ولم نحترم شريعتنا فإننا نعود إلى ما كنا عليه قبل الإسلام في مؤخرة الأمم وفي ذيل الأمم.

نظرة التيارات الإسلامية في دخول البرلمانات

نظرة التيارات الإسلامية في دخول البرلمانات مشاركة الدعوة الإسلامية في البرلمانات أو الاندماج عموماً في العمل السياسي فيها أقوال كثيرة سنفصلها فيما بعد إن شاء الله تعالى, فمن قائل: إنها وسيلة دعوية فعالة يمكن تطويعها لخدمة الإسلام، ومن خلالها يمكن التصدي للمنافقين وأعداء الإسلام؛ لإزاحتهم عن الصدارة ليتولى الأمور من هم أحق بها وأهلها, ومن قائل في الطرف الآخر: إن هذا الاندماج في العمل السياسي أو في البرلمانات وتعليق الآمال على مثل هذه الأساليب هو نوع من السراب، ويؤيدون قولهم بأن التجربة طويلة حتى الآن, ومع ذلك ما أتت بفوائد كما يطمح إلى تحقيقها من خلال هذا النوع من النشاط. ومعرفة الراجح من هذا الخلاف مهم جداً؛ لأن الخلاف في مسألة واحدة ويقول فيها فريق: إنها واجبة، والآخر يقول: إنها حرام، ولو كان الخلاف في شيء يقول فريق عنه: إنه مكروه، ويقول الفريق الآخر: إنه حرام, أو يقول بعضهم: إنه واجب، والآخر يقول: إنه مستحب؛ لكان الأمر أهون، أما خلاف في شيء واحد وفريق يقول: إنه واجب ومحتم، والآخر يقول: إنه حرام ويأثم من فعله؛ فهذا النوع من الخلاف مما تتنزه عنه الشريعة, لكن باختصار شديد نقول: إن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن دخول البرلمان الأصل فيه الحظر، والدخول فيه نوع من الرخصة بشروط, والأصل الحظر للمحاذير الشرعية الكثيرة في الدخول في مثل هذه المجالس، لكن أقصى ما يمكن أن يقال: إن دخولها رخصة مشروطة بشروط كما سنبين ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى. والكلام في هذا الموضوع فيه شيء من التحفز والانفعال لكثير من الناس، وعندما نختلف ينبغي أن يكون خلافنا راقياً ومنضبطاً بآداب الشرع الشريف، فنحن لا نتناول القضية في ظل الانفعالات العاطفية والتحفز الذي قد يئول إلى تهارج وإلى تناكر، لكن نقول: إن قضية الترشيح لدخول البرلمانات لأجل التمكين للدعوة الإسلامية اختلف فيها العلماء المعاصرون، والتيار السلفي في الأعم الأغلب من حيث المبدأ يرفض الخوض فيها بإيجابية، وهذا الموقف في حد ذاته ناشئ عن اعتبارات سوف نذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل فيما بعد, فالذي يتحصل باستقراء مواقف علماء السلفيين عموماً في هذه القضية هو رفض الدخول كدعوة، لكن ممكن السكوت عن مشاركة أفراد وآحاد من الناس، فنحن مع ترجيح القول بتجنب المشاركة في هذه البرلمانات لكننا لا نضلل المخالف, وفي مثل هذه القضية لا يضلل المخالف؛ لأن سلوكه وموقفه ناشئ عن اجتهاد فقهي ونظر مصلحي, وينبغي أن تتسع صدورنا لاستيعاب أدلته وفهم وجهة نظره, فالمخالف لا يدخل وهو يقول: إنني أعطي حق التشريع للشعب ليحل أو يحرم, لكنه يقول: أنا أدخل؛ لأن نص الدستور أن الدين الرسمي للدولة هو دين الإسلام، وبالتالي ينبغي أن نلزم هؤلاء الناس بالالتزام بهذه المادة وتطبيقها، ونطالبهم بأن يغيروا كل شيء إلى ما يوافق هذا النص، حتى لا يصبح مجرد نص صوري شكلي لا أثر له في الناحية الواقعية. وللأدلة التي يذكرها من يحرمون الدخول في البرلمان أجوبة عنها للفريق الآخر سوف نذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل فيما بعد، لكن من أهم الاعتبارات الموجودة عند أغلب السلفيين لرفض الدخول في مثل هذه الأنشطة, هو الجانب الاعتقادي، فأخطر ما في الموضوع هو أن الشعب يكون مصدر السلطات, فعند المسلمين أن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم وهو مصدر السلطات، قال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40] , فهذا المجلس التشريعي قائم على الديمقراطية, وقائم على إعطاء حق التشريع لهؤلاء البشر. أمر ثان وهو: أن السياسة تعتبر لعبة، وليست لعبة بمعنى تهريج, لكن لعبة بالدين، لها قواعد وقوانين تحكمها, فالسياسة تقوم على المصالح ولا تعرف المبادئ, تعرف القاعدة المكيافلية: الغاية تسوغ الوسيلة, وما أكثر الأساليب الحزبية والسياسية المعروفة, والواقع في عامة البلاد الإسلامية أن دخول هذه الحلبة والمشاركة في هذه اللعبة يستلزم دفع ضريبة, والسلفية بالذات إذا دفعت هذه الضريبة فسوف تفقد أهم مقوماتها وأهم أسباب وزنها وثقلها واستقامتها على الشرع الشريف, وهذه الضريبة ثمنها فادح, وسوف نوضح هذا إن شاء الله تعالى فيما بعد, ونوضح أن السلفيين لا يستطيعون أن يدفعوا هذه الضريبة.

فشل التجارب الإسلامية الداخلة في البرلمانات

فشل التجارب الإسلامية الداخلة في البرلمانات مما يثبطنا عن النظر بأمل إلى هذه الممارسات أن حصاد التجارب الإسلامية السابقة غير مشجع, فالإخوان المسلمون لهم أكثر من سبعين سنة وهم يحاولون الدخول في البرلمانات وإحداث التغيير من خلالها ولم يفلحوا، حتى حسن البنا رحمه الله رشح نفسه في البرلمان مرتين، ولكن أجبر على التراجع, فدخول الدعاة في البرلمانات محاولة للتغيير، ولا داعي أن نسميها مغامرة، لكن التجارب الكثيرة السابقة في العالم الإسلامي توضح النتيجة، فهناك تجربة الجزائر، ففرنسا التي تدعي أنها حامية حمى الحرية، كان رئيسها يقول: لو نجح الإسلاميون في الجزائر فسوف نحتل الجزائر! هكذا يقول بمنتهى الصراحة، فهم الذين أسسوا الديمقراطية، ولكنهم يرفعون شعار: لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية، مثل الشعار الذي كان أيام عبد الناصر: لا حرية لأعداء الحرية، فهم يعرفون التصادم والتعارض بين عقيدة الإسلام وبين العقيدة الديمقراطية, فالغرب يشجع الديمقراطية في بلاد المسلمين لأي اتجاه غير الاتجاه الإسلامي؛ لأن الديمقراطية لعبة أمريكية، والإصلاحات مفروضة من أمريكا، فهل النموذج الديمقراطي الذي جاء من أمريكا سيعيد لنا الخلافة الراشدة؟! انظروا النموذج الديمقراطي الذي في العراق, والنموذج الذي في تركيا, والنموذج الذي في الجزائر ونحو ذلك, فحصاد التجارب السابقة واللاحقة لا تشجع على أننا نعقد الآمال بأن يتم التغيير من خلال هذه المجالس, إنما يتم التغيير من خلال النائحة الثكلى, ومن خلال أبناء الدعوة الإسلامية الذين يجتهدون في هذه الدعوة, ويبذلون في سبيلها.

تميز الدعوة السلفية في الفكر والمنهج

تميز الدعوة السلفية في الفكر والمنهج الدعوة السلفية بدأت في مصر منذ سنة (1975) أو (1976م)، والإخوان المسلمون كانوا في نفس الوقت موجودين، وكنا دائماً ندعو الإخوان أن يهتموا بالعلم والعقيدة ونحو ذلك, ورغم أن الإخوان كانوا موجودين قبلنا بخمسين سنة، ومع ذلك فإن الإخوان في الناحية العلمية ما زالوا في مكانهم، وللسلفيين بفضل الله سبحانه وتعالى مردود إيجابي للنشاط الدعوي العلني السلمي الذي سلكته الدعوة السلفية, وهو أثر واقعي واضح جداً في هذا الحصاد المبارك الذي انعكس في آثاره الميدانية على أمور كثيرة جداً من مجالات الحياة, مثل الاهتمام بطلب العلم, والالتزام بشريعة الإسلام, فهذا التغيير وهذه الأفكار الميدانية هي أثر مبارك لآثار هذه الدعوة، فالدعوة ليست عقيمة، ولا ينبغي أن ينظر إليها بنوع من الازدراء، بل بالعكس، فإن الدعوة السلمية العلنية التي نتبناها أثمرت ثماراً مباركة يلمسها القريب والبعيد حتى الإخوان المسلمين، فكان ينبغي لهم أن يستفيدوا من هذه التجربة, في يوم من الأيام ما كان لنا مسجد هنا غير مسجد عباد الرحمن، وهو الذي ولدت فيه الدعوة, وكنا نحارب ولا نجد مسجداً آخر, حتى مسجد عباد الرحمن هددنا فيه، وذهب بعضهم إلى الرجل الذي بنى المسجد وساوموه ليتخلص من الدعاة الذين فيه، ووعدوه أن يأتوه بدعاة حقيقيين، فصمد ولم يستجب لهم, فقد كنا في حالة غربة شديدة جداً، وكان عدد الإخوة قليلاً جداً نحو العشرة فقط في أول الأمر، إلى أن أذن الله سبحانه وتعالى بنشاط الدعوة فنمى الخير وتكاثر, وصار للدعوة أثر واقعي لا يستطيع أحد أن يجحده. إذاً: الدعوة ليست نشاطاً عقيماً، بل الرصيد الحقيقي للدعوة هم أبناؤها المنتمون إليها، فكل واحد منهم يشكل لبنة, ويحمل عقيدة محددة، عندما تقول: أنا سلفي, فسلفي تساوي أنه يعتقد في الأسماء والصفات كذا, وفي القدر كذا, وموقفه في القضية الفلانية كذا, وموقفه من الفرق الضالة كذا إلى آخره، فتوجد قضايا محددة لا يمكن أن يختلف فيها سلفيان أبداً، التوحيد المنهج السلوك الاتباع وليس الابتداع رفض المظاهر الشركية ونحو ذلك, فالسلفية كلمة نوعية وراءها ما يدل على أن هذه اللبنات هي التي سوف يحترق قلبها على دعوة الإسلام, أما الاتجاه الثاني فليجربوا أكثر وأكثر، فنحن موقفنا مبني على أن الدعوة ليست عقيمة, بل هي دعوة مثمرة، وبركاتها -ولله الحمد- محسوسة وملموسة، فبالتالي رضينا بهذا الطريق، ونحن -والحمد لله- ماضون فيه، ونسأل الله أن يوفق الجميع.

بعض مفاسد الدخول في البرلمانات

بعض مفاسد الدخول في البرلمانات الأصل في الانضمام للبرلمانات هو المنع إلا لضرورة مثل الميتة، فهي في حالة الضرورة تكون رخصة بشروط, وأهم هذه الشروط الالتزام بالضوابط الإسلامية في دخول مثل هذه البرلمانات والتواجد فيها. والحقيقة أن الإخوان المسلمين حيرونا وصدمونا صدمة شديدة في الفترات الأخيرة, حتى يقول الإنسان: هل عندهم تقية مثل تقية الشيعة؟ بعضهم يقول كلاماً خطيراً جداً يهدم الدعوة من الأساس، كما حصل من الدكتور عبد المنعم أبو فتوح والدكتور عصام العريان , ذكروا تصريحات مؤلمة جداً في الحقيقة, وهذا الخطاب السياسي فيه نوع من الازدواجية في الخطاب, فإن من ضمن الشروط الأساسية للدخول في حلبة اللعبة السياسية أنك تتخلى عن مبدئك, ولا ينفع عندنا قاعدة: الغاية تسوغ الوسيلة, لابد أن تكون الوسيلة مشروعة والغاية مشروعة، فالقاعدة المكيافيلية لا تليق بالمسلمين، وإن كانت هي الثمن للدخول في السياسة فلا نريدها؛ لأن الخسارة فادحة في هذه الحال, وذلك عندما نلبس على الناس العقيدة، ونخلط أمور الدين الأساسية التي ليست قابلة للمساومة، فبعض الدعاة مثلاً في ثقل الدكتور القرضاوي عفا الله عنه يقرر أن اليهود والنصارى مؤمنون، وأنهم قد يدخلون الجنة، أو يترحم على البابا, ويقول: البابا الله يرحمه! فمثل هذه الأخطاء الجسيمة هو متأول فيها تأويلاً فاسداً؛ ولذا لا نكفره بهذا، ولكن نقول: تأوله فيه ضلال مبين, ونسأل الله أن يهديه ويصلح حاله، وأن يوفقه للرجوع عن هذا الكلام, فالتجاوز عندهم وصل إلى تخطي الخطوط الحمراء التي لا يجوز أبداً تعديها ولا تجاوزها؛ لأن هذه قضية إسلام وكفر. كنت أتمنى أن جماعة الإخوان المسلمين تصدر بياناً رسمياً في ثاني يوم مباشرة لتعقب على كلام أبو الفتوح، وتتبرأ من هذا الضلال المبين وهذا الانحراف الخطير عن الرسالة, وماذا بقي بعدما نقول: إننا نؤمن بحرية الإلحاد وحرية الزندقة, ولو أن رئيس الدولة كان نصرانياً أو زنديقاً أو ملحداً فمرحباً ولا توجد مشكلة, ولو أن الشعب عرضت عليه الشريعة الإسلامية فقال: لا، فنحترم اختيار الشعب إلى آخر الكلام الذي في غاية الضلال، الديمقراطية كمصطلح قد تلتبس على بعض الناس بالشورى, ولا يعرفون الفرق بينهما، لكن بعض التصريحات هي في غاية الخطورة وفي غاية الإيلام. فهذه الأشياء تؤدي إلى ضعف الثقة في إمكانية أن يلتزم الذين يخوضون هذه المغامرة بالضوابط الشرعية التي هي شرط للدخول في البرلمان، وجماعة الإخوان لا أعتقد أنها تتبنى هذه التصريحات الخطيرة؛ لأن هذا يعتبر قضاء على عنصر التميز الأساسي, فتصير مثل أي حزب علماني, فينبغي لهم التبرؤ من هذه التصريحات على أعلى مستوى.

الراجح في حكم المشاركة في البرلمانات

الراجح في حكم المشاركة في البرلمانات نحن نرجح القول بتجنب المشاركة في البرلمانات في الوضع الحالي، إلا أننا لا نضلل المخالف؛ لأن سلوكه ناشئ عن اجتهاد وعن نظر مصلحي، وبالتالي فموقفنا هو التجنب, والتجنب هذا ليس سلبياً؛ لأنه مبني على أدلة شرعية، ومبني على ربط المسألة بالعقيدة، وبإمكانية النفع الذي يأتي من جراء هذه المسالك، لكن مع ذلك لو ذهب إنسان ينتخب الإخوان المسلمين فإننا لا نزجره؛ احتراماً للخلاف الفقهي في هذه المسألة، لاسيما إذا كان المرشح أمامه معادياً للإسلام أو من هؤلاء القوم الذين يستعينون بأمريكا التي تسن لنا السكين, وتسنه لسوريا أيضاً، وقد فرحت بموضوع الحريري للضغط على سوريا، والعراق فيه ما فيه، وأهل السنة الآن يعانون في العراق أشد أنواع الاضطهاد والقهر, فهذه الورقة مثل مسمار جحا عندنا في مصر, وقد عقد مؤتمر في أمريكا يقولون: إن في مصر اضطهاداً للأقباط، وأن كذا ألف قبطي قتلوا خلال ثلاثين سنة, وأننا نعمل عملية إبادة عرقية للأقباط، ونمثل بجثثهم بعدما نقتلها، وأن المسلمين يخطفون بناتهم، ويقهرونهن على الإسلام أو على الزواج إلى آخر هذه الأكاذيب، مع أن أسعد أقلية في العالم هي الأقلية القبطية, وهذه أكاذيب غير صحيحة أساساً؛ لأن الإسلام هو الذي يضبطنا, فأصبحت هذه الورقة تضغط بها أمريكا على مصر وفي نفس الوقت تسن لنا السكين, فنرجو أن الإخوان عندما يدخلون في هذه المجالس أن يتصدوا في يوم من الأيام للمطامع المتوقعة المطالب بها فيما بعد, فقد يكون من وراء هذه المجالس خير، وهذا سوف يسرنا ولا يزعجنا, فدعهم يحاولون الإصلاح من هذه المجالس، ونحن لا نضلل المخالف لنا في هذه المسألة؛ لأنه يوجد فيها خلاف فقهي بين العلماء، فالشيخ أحمد شاكر ممن أيدوا دخول البرلمانات, وكذا الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وكذا الشيخ الألباني على مضض. على أي الأحوال نقول: هل سيحصل تغيير في الفترات الآتية؟ العملية ما زالت في المطبخ، والوجبة سنتناولها لمدة خمس سنوات, وهذه المدة -خمس سنوات- كافية لتقويم هذه التجربة والحكم عليها، ونرجو أن يكون تطور المسألة في صالح الإسلام وفي صالح المسلمين. والذي نطلبه من إخواننا الإخوان المسلمين أن يطبقوا علينا القاعدة التي يحترمونها، وهي: ليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فنحن مختلفون معكم في هذه المسألة, فلماذا التشنج والتهارج الذي يحصل بين الشباب أحياناً بسبب الاختلاف في هذه المسألة؟ هذه القاعدة أنتم طبقتموها مع الشيعة، وطبقتموها مع النصارى, وطبقتموها مع العلمانيين, وطبقتموها مع حزب الوفد, وطبقتموها مع كل الناس, فنحن أولى الناس بها، فليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. على أي الأحوال ينبغي أن تكون العلاقة بين جماعات الدعوة هي علاقة التكامل، ووظائف الدعوة الإسلامية كانت تقوم بها إمبراطورية عظيمة، لها وظائف وولايات كثيرة جداً من الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكفالة اليتامى، وجمع الزكاة وتوزيعها، والجهاد والدفاع عن البلاد الإسلامية، فهذه الوظائف العظمى كانت تقوم بها دولة الخلافة، ثم لم يبق لهذا الكيان السياسي وجود, والجماعات الإسلامية الآن تحاول كل منها أن تقف على ثغرة, وهذه الواجبات الشرعية لا توجد أي جماعة عندها إمكانات لتقوم بكل شيء.

فضل المنهج السلفي وآثاره على الأمة

فضل المنهج السلفي وآثاره على الأمة من أعظم وظائف الدولة الإسلامية وظيفة حراسة الدين, ثم سياسة الدنيا بالدين, وحراسة الدين تكون بأساليب كثيرة جداً, والتيار الوحيد الذي يستحق بكل جدارة أن يؤتمن على حراسة الدين وحراسة الشريعة هو التيار السلفي, ولا أقول ذلك تعصباً، ولكن إقراراً بالوضع القائم، وليس ذلك بطلبة العلم من أمثالنا، ولكن بعلمائنا الجبال الكبار الذين ما زال تراثهم يهدينا ويرشدنا وينفعنا, من علمائنا الأحياء أو الأموات رحمهم الله تعالى, فالتيار السلفي هو الوحيد المؤهل لأن يقوم بوظيفة حراسة الدين، وصيانة الشريعة من التحريف, وتنقيتها من البدع والشركيات، وحماية وبعث التراث الإسلامي, والدفاع عن العقيدة السلفية, وتصحيح عقائد الناس, واتباع الدليل في القضايا الفقهية، ونبذ التقليد والتعصب المذهبي, ونشر العلم الشرعي, وإقامة الحجة على خلق الله, وصيانة المفاهيم الإسلامية من أي تحريف تحت ضغط العولمة أو تحت ضغط الأمر الواقع، ولا يوجد أي تيار من التيارات الإسلامية على مستوى العالم مؤهل لأن يقوم بهذه المهمة سوى التيار السلفي، فالوظيفة الأساسية للدعوة السلفية هي حراسة الدين, وصيانة المفاهيم من أن تتزلزل في عصر زلزلة الثوابت, نحن الآن في فتن يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً, زمن تضطرب فيه المفاهيم, والأمور التي كانت غير قابلة للنقاش أصبحت قابلة للنقاش بسبب كثرة الإلحاح عليها وتكرارها من الفضائيات من جهة، ومن التبشير النصراني من جهة، ومن الشيعة من جهة، ومن الصوفية من جهة، ومن العلمانيين من جهة، ومن أعداء الإسلام في الغرب من جهة، فالسهام تتكالب علينا من كل جانب، فأصبحت مهمة صيانة المفاهيم من التغيير من أعظم المهمات؛ ليبقى الإسلام محفوظاً, وهو محفوظ شئنا أم أبينا؛ لأن الله تكفل بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، لكن حفظه له أسباب، ومنها الاجتهاد في حراسة الدين ومفاهيمه من أي تغير. ولا يليق بالدعوة السلفية في الأوضاع الحالية أن تلبس ثوب الدخول في الاتجاه البرلماني؛ لأن هذا الدخول لا بد فيه من ضريبة الدفع, فلا بد أن تقول في قضايا المرأة كذا, وفي القضايا الطائفية تقول كذا, وقضايا الولاء والبراء تلغيها تماماً من القاموس, وقضية التوحيد والشرك والبدع، فلابد من عملية تقليم أظافر حتى يسمح لك بالدخول في حلبة اللعبة السياسية، فاللعبة السياسية لها ثمن, والدعوة السلفية بالذات لا يصلح أن تدفع هذا الثمن, ويوم أن يكون هناك ضمانات أنها لن تدفع هذا الثمن فهذه قضية أخرى, لكن الواقع الأليم يشهد بالتنازلات التي تتم من رموز كبيرة جداً على مستوى العالم, وللأسف الشديد نسمع تصريحات تدع الحليم حيراناً من شدة شذوذها عن كلام أهل العلم، بل عن مسائل الإجماع, فلا يستطيع أن يتأهل لهذه الوظيفة -وهي حراسة الدين وصيانته من البدع ومن الشركيات ومن الانحرافات ليصل للأجيال المقبلة نقياً من هذه الانحرافات- سوى التيار السلفي على مستوى العالم كله. التيار السلفي نظرته لقضية الحكم نظرة معتدلة, التيار السلفي يرى أن الواجب في كل مرحلة هو ما يستطاع في تلك المرحلة, ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, ونظرية أن الحكم غاية في حد ذاتها هذه نظرية غير دقيقة, فبعض الكتاب مثل سيد قطب رحمه الله أو المودودي رحمه الله وغيرهما كانوا يتكلمون دائماًَ على موضوع الحكم الإسلامي، وكأن الحكم الإسلامي نظارة لابسها على عينيه, ومن خلالها يفسر كل القرآن الكريم كما في الظلال, فيجعل قضية الحكم هي القضية المحورية حتى قال المودودي: إن الغاية من بعثة الأنبياء هي إقامة الحكومة الإسلامية. بل تجاوز المودودي رحمه الله تعالى إلى قوله: إن من الأنبياء من نجح في إقامة الحكومة الإسلامية ومنهم من كذا! وكبرت كلمة، فالأنبياء لا يوصفون بالفشل، فالواجب أن تبلغ الحق، فمن الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه واحد فقط، ومن الأنبياء من يأتي ومعه اثنان استجابا له، ومنهم من يأتي وليس معه أحد، فالمسألة أنك تبلغ الحق وتؤدي ما عليك بغض النظر عن النتيجة، فقضية الحاكمية هي جزء من قضية التوحيد, وليست كل القضية, الإمامة أو الحكم هي القضية الجوهرية عند الشيعة أساساً, فالإمامة عند الشيعة صلب الدين، بل يوجبونها على الله، ويعتقدون أنه يجب على الله ألا يترك الأمة إلا بإمام، وهذا تأثر بالمنهج الاعتزالي الضال, أما نحن فنقول: وجوبه على الأمة وليس على الله سبحانه وتعالى كما يدعي المعتزلة والإمامية، فنظرتنا للحكم أشمل وأوسع, ففي كتب أصول الفقه في بحث الحكم يذكرون الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه إلى آخر هذه الأقسام, فالحكم في الشرع الإسلامي يشمل الحكم بما أنزل الله على نطاق الأفراد وعلى نطاق الجماعات, فيجب الالتزام بشرع الله سبحانه وتعالى ما أمكن، فإذا لم نعش تحت ظل من يحكمنا بالشرع بصورة كاملة ففي هذا الحال نحن ملزمون بأن نمتثل قوله وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فأت بما استطعت مما كلفك الله تبارك وتعالى، فإذا فشلنا في إقامة الحكم أو صار ذلك عسيراً علينا فعلينا أن نقيم حكم الله في أنفسنا، وقد ترجم البخاري في صحيحه باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ فقد تغيب الجماعة بمعناها السياسي، لكن لا يمكن أن تغيب بمعناها العلمي؛ وذلك لأن الرسول عليه السلام ضمن لنا بقاءها فقال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم أو من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالجماعة بمعنى إقامة الحجة على الناس وحفظ الدين والكيان العلمي الذي يوضح منهج الحق منهج أهل السنة والجماعة؛ لا تغيب أبداً, ولا يمكن أن تزول عن الأرض بالكلية, وقد تتخلف الجماعة بالمفهوم السياسي كما هو وضعنا الآن, لكن لا تتخلف بالمعنى العلمي بسبب التراث السلفي, وبسبب جهود علماء السلفيين في خلال القرون كلها من بداية الصدر الأول إلى يومنا هذا, فهم الذين يحفظون ويحرسون هذا الدين من التحريف، ويحفظون حجة الله قائمة على خلقه, فلا يعني أننا نعجز عن إقامة الحكم أن نترك العمل، فالوظائف الأساسية موجودة، والهدف ليس هو إقامة الحكم فقط, فهذه جزئية من الجزئيات, لكن الهدف هو تعبيد الناس لربهم, فالله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فالهدف هو تعبيد الناس لربهم ما أمكن, فأنت تبذل كل ما تستطيع في الدعوة فعلي أن أسعى وليس علي إدراك النجاح.

اللعبة السياسية تتصادم مع المنهج السلفي

اللعبة السياسية تتصادم مع المنهج السلفي اللعبة السياسية فيها تحريف للمفاهيم المجمع عليها، حتى التي هي حد فاصل بين الإيمان والكفر، وبين السنة والبدعة، فهذه الأمور غير قابلة للمساومة أبداً حتى تبقى حجة الله قائمة على الخلق نقية ناصعة، ولا يحصل فيها هذا الامتزاج الذي يكون ثمناً وضريبة تدفع من أجل الدخول في اللعبة السياسية؛ ولهذا فإن السلفيين أشد الناس نفوراً من اللعبة السياسية؛ لأن وظيفتهم الأساسية حراسة الدين، وهم أحق الناس بالقيام بهذه الوظيفة، بل هم الوحيدون المؤهلون لأدائها على خير وجه. والخطاب السياسي في اللعبة السياسية يحتاج دائماً إلى التقية؛ لأنه يريد أن يصل إلى هدف، والغاية تسوغ الوسيلة, لكن لابد أن تكون الوسيلة مشروعة والغاية مشروعة، أما هذه القاعدة المكيافلية فلا تليق بنا, فكيف أجعل الهدف هو المقعد في المجلس، والوسيلة أن أتنازل عن عقيدتي؟ كيف نرضى بالشر ونقول: يمكن أن يكون الحاكم زنديقاً أو ملحداً أو نصرانياً؟ كيف نبيح حرية الإلحاد وحرية الرأي وحرية الفكر المخالف للشرع؟ كيف لا ننكر الكتب الإلحادية؟ لماذا نضحي بعقيدتنا ومنهجنا ومحور حياتنا في سبيل مقعد؟! إذاً: لا داعي للدخول في البرلمان في هذه الحالة؛ لأن شروط الرخصة لم تتوافر، والتنازل يتجاوز الخطوط الحمراء، وبالتالي فهذا خلط وتمييع للدين. طه حسين أدخل التعليم المختلط في الجامعة بمكيدة، وأدخل الفتيات في الجامعة سراً، ثم أصبح أمراً واقعاً، فحصل عدوان على الأعراض من جراء هذا الاختلاط, فقال له بعض الصحفيين: أتنظر إلى شؤم الاختلاط الذي أنت دبرت مكيدته؟ فقد حصل كذا وكذا وكذا! فرد طه حسين وقال: لابد من ضحايا! فنقول: تضحي بالأعراض من أجل ماذا؟ فالعرض أغلى شيء فكيف تضحي به؟ ومن أجل ماذا نضحي به؟ فلا يصح أن نضحي بعقيدتنا في سبيل مقعد في مجلس الشعب, فالشرط الأساسي للرخصة عدم التنازل, وعدم استخدام التقية؛ لأن التقية في قضايا العقيدة والقضايا الجوهرية يترتب عليها تلبيس الحق على جماهير الناس، فتلتبس عليهم الأمور, وتختلط عليهم مفاهيم أساسية تمس العقيدة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، ثم انظر ماذا بعدها: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]. فالتنازل عن أي قضية من حقائق الدين أو تلبيسها بما يخالف مفاهيم الدين جريمة كبرى وانحراف خطير يمس بأصل الدين, نعم قد يحصل تنازل بصورة عملية في بعض الظروف الضاغطة على المسلمين, لكن في قضايا عملية وليس في قضايا علمية أو اعتقادية، قد يضطر المسلمون مثلاً أن يبذلوا الأموال في سبيل فكاك أسرى المسلمين, وهذه الأموال سينتفع بها الكفار ويتقوون بها، لكن نحن نضطر أن ندفعها لهم في سبيل مصلحة أهم، وهي استنقاذ المسلمين من أيديهم, والرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية رد بعض المسلمين إلى الكفار وقال: (إن الله سوف يجعل لهم فرجاً ومخرجاً)، فهذا تنازل عملي في سبيل تحقيق مصالح وبركات عظيمة جداً كانت من جراء صلح الحديبية، وليس هذا تنازلاً اعتقادياً وحاشاه عليه الصلاة والسلام، فالتنازل العملي في المواقف العملية هو من باب ترجيح المصالح, وليس فيه تزييف للشريعة, وليس فيه تغيير للأحكام؛ لأن النصرة في الدين أصل قائم كما قال الله: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72]، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75]، فقضية النصرة قائمة, لكن في الآية الأولى قال الله: ((وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ))، فالتنازل في القضايا العملية يرجع إلى قاعدة ترجيح المصالح أو ارتكاب أخف الضررين لتفويت الضرر الأعظم, ومثاله أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعاهد تميماً يوم الخندق على أن يتركوا قتال المسلمين ويرجعوا ولهم ثلث ثمار المدينة, فأراد أن يبذل لهم ثلث ثمار المدينة مقابل أن ينفضوا عن الأحزاب, فقال الأنصار: يا رسول الله! أهذا شيء أمرك الله به فنطيع أم شيء تصنعه لنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأحببت أن أنفس عنكم إلى حين) يعني: هو شيء أصنعه لكم لأخفف عنكم, فقالوا: والله! يا رسول الله لا نعطيهم إلا السيف, فهنا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنازل في قضية عملية، وليس في قضية علمية أو قضية تمس الاعتقاد.

سراب الديمقراطية

سراب الديمقراطية خلاصة ما نستطيع أن نقوله فيما يتعلق بهذه القضية: نحن لا نعقد كثيراً من الأمل -في ضوء الأدلة الشرعية وفي ضوء تجارب الواقع في مصر أو في خارجها- على أن الديمقراطية تنفع الدعوة، بل هي سراب, والرصيد الحقيقي للدعوة هو أبناؤها الذين يعيشون لها ويعيشون بها ويحيون من أجلها, هذا هو الرصيد الحقيقي للدعوة الذي تنعقد عليهم الآمال, أما أن المخالفين بمنتهى البساطة سوف يفسحون لنا الطريق ويقولون: تعالوا اقعدوا مكاننا، واحكموا بالشرع الشريف, فهذا نوع من السراب، وبعض الباحثين ألف كتاباً أسماه: سراب الديمقراطية، فهي سراب في الحقيقة، لكن مع ذلك نحن نقر بأن هناك اختلافاًً بين العلماء المعاصرين مناطه مدى ما يتحقق من مصالح أو يدفع من مفاسد بهذه المشاركة، لكن معظم علماء السلفيين يرفضون الدخول في هذه الأشياء، ويتجنبونها بناء على الاعتبارات التي ذكرنا، وأهمها الخطر الاعتقادي، ثم الدخول في حلبة السياسة التي لها ضريبة قد تدفعها بعض الاتجاهات، لكن الاتجاه السلفي بالذات لا يستطيع أن يترخص في دفع هذه الضريبة, وإذا زالت هذه الضريبة فقد يختلف الكلام, لكن مع وجود هذه الضريبة فلا تقبل ذلك الدعوة السلفية، وليس من حقها؛ لأنها مؤتمنة على الحفاظ على جوهر الدين نقياً، وهذا في حد ذاته من المكاسب التي لا تقدر بثمن، ولا توازيها على الإطلاق المكاسب المتوهمة من جراء هذا الأمر، فنحن نؤكد أننا على هذا الموقف, إلا أننا لا نضلل المخالف؛ مراعاة للخلاف الفقهي فيها، واعتباراً بأن سلوكه ناشئ عن اجتهاد وعن نظر مصلحي, وفي نفس الوقت نقول: لعل وعسى، ولن نقول كما قال الشاعر: يقلقني الوجد فآتيكم والقلب مملوء من اليأس لكن قد يكون هناك بصيص أمل، ونرجو لهم إذا نجحوا أن يحدثوا تغييراً، وإن كانوا مخطئين في ذلك فنسأل الله أن يعفو عن خطئهم، والعملية الآن تتم داخل المطبخ، والمطبخ مقفول بقوة، فننتظر خروج الوجبة التي سنأكلها لمدة خمس سنوات. سوف تدري إذا انجلى الغبار أفرس تحت رجلك أم حمار فإذا انجلى غبار هذه المباراة, فعندنا خمس سنوات تكفينا لنقوم التجربة، ونرى العاقبة، فنرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين إلى ما يحب ويرضاه، وأن يعز هذا الدين، وأن يمكن له في الأرض، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك.

سلسلة حول دخول البرلمان [2] نظرية السيادة

سلسلة حول دخول البرلمان [2] نظرية السيادة السيادة المطلقة في الحكم والتشريع، والأمر والنهي والإباحة هي لله سبحانه وتعالى، فهو المتفرد بصفات الألوهية، وهذا على خلاف ما هي عليه اليوم الحكومات العلمانية، والبرلمانات الديمقراطية، فقد جعلت السيادة للشعب، فله أن يختار لنفسه نظاماً أو قانوناً وإن كان معارضاً لشرع الله، وهدي رسوله.

زيف الديمقراطية الموجودة عند الغرب

زيف الديمقراطية الموجودة عند الغرب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فنشرع إن شاء الله تعالى في دراسة قضايا الساعة بنوع من التفصيل والتنظير، بحيث أنها تبقى ملفات تصلح مع الزمن خاصة أننا في هذه الأيام نخوض نوعاً من التجارب الجديدة ينبغي أن تضاف إلى رصيد الدعوة وخبرتها فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الواقع الذي نعيشه، ومع احترامنا لوجهة نظر إخواننا: الإخوان المسلمين، ونعذرهم باعتبار أن الخلاف في هذه المسألة معروف، حتى إن بعض العلماء السلفيين لهم اجتهاد في إباحة الحل البرلماني، لكن دعونا نخوض هذه التجربة ونرصدها، ونستفيد منها ما ينبغي أن يكون لنا رصيداً، ونعتقد أن أعظم وأهم فائدة هو ما أشرت إليه مسبقاً أنه لن يحمل هم هذه الدعوة، ولن يجري تمكينها إلا على يد النائحة الثكلى، وهي الأم التي فقدت ولدها، فتخيل كيف تبكي عليه! وكيف تحزن عليه! فلا يمكن أن يحمل هم الدعوة وهم الدين إلا أهله الذين رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، والذين ارتضوا هذا المنهج وعاشوا من أجله، وماتوا في سبيله، فهؤلاء هم لبنات الدعوة وأصحابها. أما المشجعون والمتحمسون عاطفياً للإسلام فهم ليسوا الثقل الحقيقي بالنسبة للدعوة، الثقل الحقيقي هو فيمن يتبنونها، ويقتنعون بها، ويضحون من أجلها، أما المصفقون والمتعاطفون فساعة الجد لا يبقى منهم معنا أحد، وإنما نريد النائحة الثكلى، وليس النائحة المستأجرة. ومع ذلك أنا أعتقد أن التجربة سوف تزيد وعينا لزيف الدعوة الديمقراطية، والديمقراطية لا تزيف عندنا فقط، الديمقراطية في أي نظام هي تزيف حتى في أمريكا، فالنظام الرأسمالي له طرق أخرى يكون فيها التزييف، وعندنا في هذا الوقت اختراع طرق عجيبة للتزييف مثل أطفال الأنابيب، وأطفال المفاتيح، وعندنا في هذا الوقت نظام جديد يطلق عليه نواب الظرف وهو أنه يوزع على الناخبين ظروفاً بسعر أصواتهم التي يعطونها له، يعني: بعض المرشحين يحكي لي موضوع نواب الظرف هذا، فقلت له: من الممكن أن يأخذ منه الفلوس ويدخل ينتخب شخصاً غيره، يعني: يأخذ خيري وينتخب غيري، قال لي: هو يعطيه قبل دخول اللجنة نصف المبلغ ويعطيه موبايل بكاميرا، ويدخل في الداخل ينتخب ويصور بالكاميرا، ويطلع خارج يأخذ بقية المبلغ، وهذه في الحقيقة أشياء عجيبة جداً، والتجارب سوف تزيد رصيدنا من أننا نقدر فعلاً أن نحكم على هذا الاتجاه، هل هو فعلاً فيه خيارات بغض النظر عن اعتقادنا نحن أنه يخالف الشرع من الأساس، لكن نقول: حتى إخواننا الذين عندهم أمل وطموح أن يحدث التغيير لحال الأمة بهذه الطريقة أعتقد سيستفيدون كثيراً، ونحن أيضاً سنستفيد معهم من هذه التجربة. الديمقراطية تزيف في كل العالم لماذا؟ لأنها نظام بشري، والنظام البشري لابد أن يخضع للأهواء، يعني: أمريكا التي تدعي أنها صاحبة رسالة لتجمل وجهها القبيح وتقول: حقوق الإنسان والبيئة، والديمقراطية والإصلاح. وأمريكا نفسها إذا نحن قعدنا تضربنا وتأمرنا بأن نقف، وعندما نقف تضربنا وتأمرنا بأن نقعد، فهي لا تريد لنا استقراراً؛ لأن عدم الاستقرار هو الذي يسوغ تدخلها كما حصل في العراق، وكما حصل من يلتسن لما ضرب مبنى البرلمان المنتخب في روسيا بالأسلحة والنار، وقد حوصر فيه النواب، فهذا ذبح للديمقراطية حقهم، لكن الغرب كله سكت وهلل؛ لأنهم كانوا يريدون انهيار المعارضة ضد يلتسن لأجل الوضع الذي كان معروفاً في روسيا. فنحن متعودون على أن الشرق بالأولى يتعامل مع موضوع الديمقراطية نفس تعامل المشرك الجاهلي مع صنم العجوة، الإله الذي كان يعبده، وفي ساعة الاحتياج والجوع يأكل الصنم رغم أنه إلهه، والأمر نفسه يحدث عند الغرب فتراهم يمجدون الديمقراطية والإصلاح وكذا وكذا، لكن إذا جاعوا يلتهمون هذا الإله ويأكلونه في بطونهم، فهذا نموذج متكرر وليس حالة مفاجئة، فهذه الأساليب موجودة بصورة أو بأخرى تتفاوت بين مجتمع إلى آخر، لكن السبب أنه نابع من الأهواء البشرية، وهذه إحدى المزايا العظمى للشريعة الإسلامية أنها منهج رباني معصوم من الأهواء. ولذلك لو تأملنا القرآن الكريم سنجد دائماً الهوى أنه يكون في مقابلة الوحي، فهما عدوان لا يلتقيان وضدان لا يجتمعان أبداً، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص:50] يعني: للوحي {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] ولو استقرأت القرآن فستجد دليلاً للوحي في مقابلة الهوى، فالتحيز يكون نتيجة للهوى، ونتيجة العنصرية في اللون أو الجنس أو نحو ذلك، وسوف تجد هذا في هذه النظم الوضعية الأرضية، أما النظم المنزهة عن الهوى فهو النظام الإلهي الذي يتجسد في القرآن الكريم. فنموذج صنم العجوة موجود، وهذه هي الديمقراطية؛ لأنها نابعة من نظام بشري غير معصوم، فبالتالي يحصل اتباع الهوى، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في سورة الحديد حينما نعى على النصارى اتباعهم وإحداثهم الرهبانية، فقال عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] فقوله تعالى: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)) هذا إثبات أنها بدعة في النصرانية، ولم يشرعها الله سبحانه وتعالى، فتحريم الطيبات وتحريم الحلال هذا ابتداع من البشر. قوله: ((مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)) أي: ما شرعها الله سبحانه وتعالى ولا أمرهم بها. قوله: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)) هذا استثناء منقطع، بمعنى: ولكن كتبنا عليهم أن يبتغوا رضوان الله عن طريق العبادات المشروعة لا المبتدعة، ومع أنهم ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم إلا أنهم لم يرعوها حق رعايتها، فهنا الذم يكون أشد وأبلغ؛ لأنك تبتدع مبدأ ثم أنت لا تحترمه ولا تلتزمه فهذا أجدر بالذم، ونفس الشيء في الديمقراطية التي ابتدعوها ما كتبناها عليهم، وما رعوها حق رعايتها، وما أسهل ما تلتهم بكل ما أمكن من الأساليب. ففي تركيا مثلاً توجد انتخابات وحرية وكذا وكذا، وليس عندهم تزوير، لكن عند ساعة الجد وعند أي اختراق للون الإسلامي أو الطيف الباهت فإنه يحسم الأمر ويحل البرلمان. وفي الجزائر كانت تجربة صارخة، فمن الذي صنع الديمقراطية في الأصل؟ هم الغرب. وفي الكويت في يوم من الأيام حُلّ البرلمان بجرة قلم. وأنا أعتقد أن برلماننا العظيم سوف يكون برلماناً منحلاً على غرار الجماعة التي يصفونها بأنها منحلة، بمعنى: أنها حزب منحل، وإن كانت الكلمة لا تخلو من نوع من اللمز، لكن يبدو هكذا أنه سوف يبقى البرلمان كله منحلاً، والله المستعان!

نظرية السيادة

نظرية السيادة ناقشنا هذا الموضوع منذ زمن بعيد، وكانت المحاضرة بعنوان: (السيادة للقرآن لا للبرلمان) فالسيادة هي الوجه القانوني للعملة ذات الوجهين، أما الوجه الآخر فهو الديمقراطية، وهي الوجه السياسي لهذه العملة، وقد كنت لخصت في تلك المحاضرة بحثاً قيماً للدكتور: صلاح الصاوي يناقش نظرية السيادة، وهذا يعتبر بحثاً تأصيلياً جيداً؛ لأنه يجمع بين توضيح موقف القانون، وبالتالي يتكلم عن القضية بأسانيدها المعترف بها عند أصحابها، ثم يربطها بالشرع في مقارنة جيدة بين النظامين.

أصل نظرية السيادة ونشأتها

أصل نظرية السيادة ونشأتها يذكر هنا في بحثه أن نظرية السيادة أصلاً هي نظرية فرنسية الأصل، نشأت في نهاية العصور الوسطى، ونشأت دفاعاً عن سلطة الملوك، لأنه كانت هناك سلطات أخرى تنازع سلطة الملوك، وبالتالي أراد الملوك بنظرية السيادة أن يتميزوا عن السلطات الأخرى التي كانت تنازعها سلطة أمراء الإقطاع في الداخل، وسلطة الإمبراطور أو البابا في الخارج، وكان النزاع على أشده بين الملك من ناحية، وبين البابا من ناحية أخرى، أو بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، فهذا أدى إلى نشأة هذه النظرية، وكل طرف أراد أن يوجد النظريات التي تسوغ أو تدعم موقفه في مواجهة خصمه. كان هناك نظرية السيادة وكان فيه نظرية (السيفين المتقاطعين)، والمراد بها السلطتان، يعني: تجعل لكل من السلطة الدينية والسلطة الزمنية مجالاً مستقلاً لا تتعداه، هذه النظرية كانت غامضة لم تستطع أن تحدد بوضوح اختصاص كل طرف من هذين الطرفين بجانب الطموح والطمع من كل سلطة، إلا أنها تعتدي على سلطة الآخر وتخضعه، من أجل ذلك سعى كل فريق -السلطة الزمنية الممثلة في الملوك، والسلطة الدينية الممثلة في الباباوات- في تدعيم مطامعه، وإخضاع الطرف الآخر. فأصل نظرية السيادة هي نظرية قذف بها الباباوات في وجه خصومهم من الملوك أو أمراء الإقطاع في الداخل، والقانون الفيزيائي يقول: لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويضاده في الاتجاه، فلما قذفت الباباوية بنظرية السيادة في وجه خصومها كان رد فعل بعض الملوك الطامحين أن استخدموا نفس السلاح، وردوه إلى نحور الباباوات مطالبين بإخضاع الكنيسة للسلطة الزمنية، ومن ثم تلقف القانونيون الفرنسيون هذه النظرية، وصاغوا منها نظرية السيادة دفاعاً عن سلطة الملوك. إذاً الذي طالب بهذه النظرية هم الباباوات فجوبهوا من الملوك بنظرية السيادة التي صاغها القانونيون من أجل أن يخضعوا الكنيسة لسلطة الملوك لإبطال مساعي الباباوات وسلطة الكنيسة.

تعريف السيادة عند القانونيين

تعريف السيادة عند القانونيين القانونيون لهم في تعريف السيادة اتجاهان: الاتجاه الأول: يرى أن السيادة خاصية من خصائص السلطة، مفادها عدم وجود سلطة أخرى أعلى منها أو مساوية لها في الداخل، وعدم الخضوع لسلطة دولة أخرى في الخارج، وهذا يعكس مرحلة من مراحل تطور نظرية السيادة وهي المرحلة الأولى، حيث لم تكن تفهم على أنها سلطة سياسية، لكنها خاصية لسلطة سياسية معينة، وهي سلطة الملك. الاتجاه الثاني: يرى أن السيادة هي السلطة العليا الآمرة للدولة، والتي لا تعرف فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها أو مساوية لها، أو هي الحق في إصدار الأوامر إلى كل الأفراد المقيمين على إقليم الدولة، أو هي سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدها قانون. وهذا تطور ثان للتعريف الثاني يمثل مرحلة أخرى من مراحل تطور نظرية السيادة عندما تم الفصل بين الملك والسيادة، فأصبحت السيادة عنصراً من عناصر تكوين الدولة، لم تعد -كما كانت في الماضي- مجرد خاصية من خصائص السلطة التي هي سلطة الملك، بل تجاوزت ذلك إلى اعتبارها مرادفة لسلطة الدولة، مما أعطاها المضمون الإيجابي لهذه السلطة، وأكد هذا المضمون سلطة عمل القوانين.

مفهوم خصائص السيادة

مفهوم خصائص السيادة السيادة: هي عبارة عن إرادة عليا تتميز بخصائص لا توجد في غيرها من الإرادات، وجماع هذه الخصائص أنها الإرادة التي تحدد نفسها بنفسها، فصاحب السيادة لا يمكن أن تلزمه إرادة أجنبية عنه بالتصرف على نحو معين، وهو لا يلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أراد هو ذلك كما أشار إلى ذلك دوبي في كتابه (السيادة والحرية) وهذا يعني أن سلطة صاحب السيادة مطلقة؛ لأنها لو لم تكن كذلك سوف تعتمد على إرادة أخرى تقوم بتحديدها، مما يتعارض مع ما تقرر لها من أنها سلطة أصيلة، بمعنى: أنها لم تتلق هذه الخاصية من إرادة سابقة عليها، أو من إرادة أعلى منها. إذاً: نستطيع أن نجمل خصائص مفهوم السيادة فيما يلي: أولاً: الإطلاق، يعني: أنها سلطة مطلقة. ثانياً: السمو. ثالثاً: الوحدانية والتفرد. رابعاً: الأصالة. خامساً: عدم القابلية للتملك. سادساً: العصمة من الخطأ. فأول خصائص السيادة: الإطلاق، فصاحب السيادة لا يفرض عليه قانون، بل القانون هو تعبير عن إرادته، وليس لإرادة أجنبية عنه أن تلزمه بالتصرف على نحو معين؛ لأنه لا توجد إرادة تساميه أو تساويه، إرادته آمرة دائماً، وليس لأحد قبله حقوق، وعلاقته بغيره علاقة السيد بالرعية، أو المتبوع بالتابع، وعلى الرعية أو التابع تنفيذ ما يصدر عنه من أوامر، ليس بسبب مضمون الأوامر أو فحواها، ولكن لأنها صادرة عن إرادة هي بطبيعتها أعلى من إرادتهم. يقول أحد فلافسة نظرية السيادة: إنه لا يتفق مع طبيعة النظام السياسي نفسه أن يفرض على صاحب السيادة قانوناً لا يستطيع أن يخالفه أو ينقضه. إذاً: هذا فيما يتعلق بأنها سلطة مطلقة، فصاحب السيادة لا يمكن أن يفرض عليه قانون، بل القانون يعبر عن إرادته هو. الخاصية الثانية: السمو، فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، العلو والفوقية، وهذه كلمة حساسة عند السلفيين (الفوقية)، فعندهم الفوقية للسيادة، فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، وسلطة تعلو كافة السلطات، لا توجد فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها، ولا سلطة مساوية لها. الخاصية الثالثة: الوحدانية والتفرد، فلا يوجد على الإقليم الواحد إلا سيادة واحدة، إذ لو وجدت سيادتان على إقليم واحد لفسدت أحواله، ووجه ذلك أنه لو صدر من كل منهما تكليف يناقض ما أصدرته الأخرى فلا يخلو الأمر من أحد هذه الأحوال: تنفيذ التكليفين المتضادين معاً، وهو محال، أو الامتناع عنهما معاً، وفي ذلك إبقاء لسيادتهما معاً، أو إنفاذ واحدٍ منهما فقط فيكون صاحبه هو الأحق بالسيادة، وتبطل سيادة ما سواه. الخاصية الرابعة: الأصالة، فهي قائمة بذاتها، يعني: السيادة قائمة بذاتها لم تتلق هذا العلو من إرادة سابقة عليها أو إرادة أعلى منها. الخاصية الخامسة: عدم القابلية للتملك، السيادة غير قابلة لأن يتملكها أحد، فإذا اغتصبها من ليس أهلاً لها، وفرض على الناس سلطانه مدة من الزمن طالت هذه المدة أو قصرت، فإنه لا يستطيع أن يدعي شرعية سلطته أو شرعية سيادته مهما طال الأمد، فغصب السيادة سيظل دائماً غصباً لا يثبت بالحيازة، ولا يسوغه التقادم. الخاصية السادسة والأخيرة: العصمة من الخطأ، فنظرية السيادة تنزع إلى اعتبار إرادة الأمة إرادة مشروعة، وأن القانون يعد مطابقاً لقواعد الحق والعدل، لا لسبب إلا لأنه صادر عن إرادة الأمة أو ممثليها، ولذلك فإن هذه النظرية تنسب إلى الأمة أو الشعب صفة العصمة من الخطأ حتى قال أحد زعماء وفقهاء ذلك العصر وهو بابلي: حينما يتكلم القانون يجب أن يصمت الضمير، هذه هي السيادة كما أصدرها الكتاب الفرنسيون، ونصَّت عليه القوانين الفرنسية المتعاقبة، وكما انتقلت منها بعد ذلك إلى معظم الدساتير في كثير من بلدان العالم، السيادة سلطة عليا آمرة تفردت بالحكم، فلا تشرك في حكمها أحداً، إرادتها هي القانون، وتوجيهاتها هي الشريعة الملزمة. إذاً: تفردت بالحكم فلا تشرك في حكمها أحداً. ثانياً: تفردت بالعلو، فلا تعرف سلطة أخرى تعلو عنها أو تساويها. ثالثاً: قائمة بذاتها، فلم تكتسب سلطانها من إرادة أخرى. رابعاً: حقوقها مقدسة لا تقبل التنازل، ولا يسقطها التقادم، معصومة من الخطأ، فكل ما يصدر عنها هو الحق والعدل. إذاً: يضع الدكتور الصاوي تعريفاً للسيادة بناء على هذه الخصائص فيقول: إن السيادة هي السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال. أو بتعبير آخر: هي السلطة العليا المطلقة التي تملك وحدها الحق في إنشاء الخطاب المتعلق بأفعال المواطنين على سبيل التكليف أو الوضع. والتكليف قد يكون تكليفاً بفعل شيء، أو تكليفاً بتركه، أو تخييراً بين الفعل والترك، فخطاب التكليف هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء واجباً أو محرماً أو مباحاً، أما الوضع فهو الربط بين شيئين برابطة السببية أو الشرطية أو المانعية. فخطاب الوضع: هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً، وعلى هذا فالسيادة: هي السلطة العليا المطلقة التي تفردت بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال، فهي التي تملك جعل الفعل واجباً أو محرماً أو مباحاً، وهي التي تملك جعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً. والذين درسوا أصول الفقه يشاهدون التشابه الشديد في قضية الحكم، ومبحث الحكم في كتب أصول الفقه سواء الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي. يقول: هذا ويلاحظ أن السيادة والديمقراطية تعبيران عن فكرة واحدة، فالسيادة هي التعبير القانوني، والديمقراطية هي التعبير السياسي، وعلى هذا فنظرية سيادة الأمة: هي التعبير القانوني عن الديمقراطية التي تميز نظام الحكم في الدول الرأسمالية.

السيادة في المجتمعات الغربية

السيادة في المجتمعات الغربية ثم يناقش بعد ذلك قضية: السيادة في المجتمعات الغربية، فيذكر تحت عنوان: (انتقال السيادة إلى الأمة على يد الثورة الفرنسية) يعني: السيادة فيما مضى كانت تمزج بين شخص الملك وبين الدولة، فنظام الحكم قبل الثورة الفرنسية كان قائماً على المزج بين الشخصيتين: شخصية الملك وشخصية الدولة، وعبر عنها في أوضح صورها لويس الرابع عشر بقولته المشهورة: أنا الدولة! أنا الدولة! وكان الملك هو صاحب الحق في السيادة بمقتضى ما له من الصفات الشخصية، وكانت تتركز فيه وحدة سلطة الدولة، فلما قامت الثورة الفرنسية توجه النظام إلى أساس آخر، وهو المزج بين الأمة والدولة، وأصبحت السيادة ملكاً للأمة، وأخذت فكرة سيادة الأمة طريقها إلى القانون العام الفرنسي، وفي المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان الصادر في (1879م) النص على أن السيادة للأمة، وعلى أن القانون هو التعبير عن إرادة الأمة. خلاصة هذا: أن السيادة للأمة باعتبارها شخصاً متميزاً عن الأفراد المكونين لها، فالسيادة ليست ملكاً لأفراد الأمة مستقلين، فليس لكل منهم جزء من السيادة، وإنما للسيادة صاحب واحد، وهو الأمة التي هي شخص جماعي مستقل عن الأفراد الذين يكونونها، فالإرادة العامة للأمة التي صارت مستقراً ومستودعاً لهذه السيادة هي ذلك الوجود المعنوي أو المجازي الذي انبثق من مجموع الإرادات الفردية، واستقل عنها.

جوانب نظرية السيادة

جوانب نظرية السيادة هذه النظرية كما صاغتها الجمعية التأسيسية بعد الثورة الفرنسية لها جانبان: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي. الجانب السلبي يتمثل في أمرين: الأمر الأول: أن الملك لم يعد هو صاحب الحق في السيادة كما كان مقرراً من قبل؛ لأنه كانت تتركز فيه وحدة سلطة الدولة، بل أصبحت الأمة هي صاحبة السيادة باعتبارها العنصر الحقيقي المكون للدولة. الأمر الثاني: أن السيادة لا تعتمد على أي سلطة أخرى، ويقصد بذلك التأكيد على أن إرادة الأمة مطلقة، يعني: لا تعتمد على أي إرادة أخرى. أما الجانب الإيجابي لهذه النظرية في تلك المرحلة فهو يشتمل على سلطات ثلاث: الانتخاب، والتشريع، والتنفيذ. سلطة الانتخاب وهي أولى السلطات، وذلك أن إرادة الأمة وسيادتها تقرر هذه السلطة، كما تقرر دائماً لغة الأدب السياسي، وتتمثل وظيفتها في أن يتم بطريق الاقتراع العام اختيار السلطة التشريعية. أما اختصاصها: فهو التعبير عن إرادة مضمرة أو مادة خام لم تتضح بعد، ولهذا يعهد بها إلى جمهور الناخبين، وهم على الجملة غير مؤهلين للعمل الذي يحتاج إلى دراسة وتفكير، وأيضاً الانتخاب في ظل نظرية سيادة الأمة هو وظيفة وليس حقاً، وهذا مبني على أن السيادة لا تتجزأ، ولذلك الانتخاب وظيفة وليس حقاً يسوغ تقييده بما تقيد به الوظائف العامة من الشروط والقيود. أما سلطة التشريع: فهي آكد مظاهر السيادة وأبرز علاماتها، وتختص بتوضيح الإرادات المضمرة الناشئة عن الانتخاب لتستخلص منها -من خلال المداولات- تمثيلاً أكثر وضوحاً من الإرادة العامة، فهذه السلطة في التشريع سلطة مطلقة لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود، ولا تلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أرادت هي ذلك. أما السلطة الثالثة فهي سلطة التنفيذ، ووظيفتها تتلخص في الحكم والإدارة، فالحكم الذي يتمثل في ابتكار الحلول الملائمة للمشكلات التي تطرأ على المستويين الدولي والداخلي، والإدارة التي تتمثل في العمل على ضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد.

النتائج والانتقادات التي ترتبت على انتقال السيادة للأمة

النتائج والانتقادات التي ترتبت على انتقال السيادة للأمة النتائج التي ترتبت على انتقال السيادة إلى الأمة هي: أولاً: أن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة للأمة، وهي إرادة تعلو إرادات الأفراد، ولذلك تجب الطاعة لها. ثانياً: الأمة وحدها هي صاحبة الحق في وضع الدستور أو تعديله دون ما أدنى تدخل من أي هيئة أخرى. ثالثاً: أن النائب لا يعتبر ممثلاً لدائرته فحسب، ولكنه ممثل للأمة كلها. أما الانتقادات التي وجهت إلى نظرية سيادة الأمة فهي: أولاً: أن فيها نوعاً من تضييق دائرة الحرية السياسية التي لا تؤدي دورها في ظل هذه النظرية إلا مرة واحدة، وهي المرة التي يتجه فيها الأفراد إلى صناديق الاقتراع، لاختيار الأشخاص الذين سيمارسون مهمة السيادة، وبعدها يتم تجريدهم من كل شيء، فلا يقدرون على ممارسة أي نوع من أنواع الحرية السياسية المباشرة. والعلة أن هذه الممارسات تجزئ السيادة، والسيادة في ظل هذه النظرية كل لا يتجزأ، أيضاً لا يستطيعون ممارسة شيء من الحرية من خلال الوسائط السياسية الشعبية كالنقابات الطائفية والمهنية ونحو ذلك. ثانياً: من عيوبها أيضاً: تضييق دائرة الاقتراع، وهذا من ثمرات القول بأن السيادة كل لا يتجزأ، فبما أن الأفراد الذين يذهبون إلى الانتخاب سينتخبون من سوف يضطلع بمهام السيادة نيابة عنهم لا يمارسون حقاً أو جزءاً من أعمال السيادة؛ لأن السيادة كل لا يتجزأ، لكنهم يؤدون وظيفة من الوظائف، ولما كانت السلطة السيادية هي التي تسند الاختصاص بالوظائف إلى الأفراد، وتعدد لشروطها، فإن لها أن تضع ما تشاء من الشروط أو القيود بما يكفل حسن الاختيار، ويوفر الكفايات المطلوبة. وقد أدى هذا الوضع من الناحية العملية إلى التمييز بين نوعين من أفراد الأمة: أولهما: الأمة كحقيقة اجتماعية. الثاني: الصفوة من أفراد الأمة، وهم الذين يؤهلون ويقدرون على ممارسة مهام السيادة نيابة عن الأمة. وقد أدت الانتقادات التي وجهت نظرية سيادة الأمة إلى طرح جديد يتلافى هذه النقائص، ويحقق مزيداً من المكاسب، فجاءت نظرية سيادة الشعب، وكانت تمثل تطوراً سياسياً وقانونياً بالنسبة لنظرية سيادة الأمة. والإخوة الذين يدرسون القانون هم القادرون على فهم هذا الكلام، لكن حاولوا فهم ولو العناوين الرئيسية لأجل أن هذا تمهيد للذي سيأتي. نقطة البداية في نظرية سيادة الشعب أنها تقرر انتقال السيادة إلى الجماعة بوصفها مكونة من عدد من الأفراد، وليس باعتبارها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها. إذاً: السيادة هنا -في نظرية السيادة للشعب- لم تعد كلاً لا يتجزأ، بل أصبحت -وفقاً لهذه النظرية- شركة بين جميع أفراد هذه الجماعة لكل امرئ منها نصيب معلوم، ولذلك نص الدستور الفرنسي في (1793م) على أن السيادة للشعب، وترتب على هذه النظرية الأخذ بمبدأ الاقتراع العام، وتحول الانتخاب من وظيفة إلى حق. أيضاً: ترتب عليه تعبير النائب عن دائرته الانتخابية باعتباره ممثلاً عن ذلك الجزء من السيادة الذي يملكه ناخبوه، يعني: كل واحد له حق في التعبير، فأصبح الناخب يمثل الدائرة التي انتخبته. وأيضاً توسيع قاعدة المشاركة الشعبية لإلغاء التمييز بين نوعي المواطنين الذي كان في ظل نظرية سيادة الأمة، بإتاحة الفرصة للمشاركة الشعبية المباشرة للحرية السياسية عن طريق الاستفتاء الشعبي، أو الاعتراض الشعبي، أو طلب إعادة الانتخاب، أو طلب حل الهيئة النيابية ونحو ذلك. والاتجاهات الدستورية الحديثة ترمي إلى الأخذ بنظرية سيادة الشعب باعتبارها أكثر تحقيقاً للديمقراطية. إذاً: هذا هو مفهوم نظرية السيادة في الفكر الغربي نشأة وتطوراً وخصائص وآثاراً.

نتائج نظرية السيادة في الفكر الغربي

نتائج نظرية السيادة في الفكر الغربي يمكن أن نخرج مما تقدم بالنتائج التالية: أولاً: أن هذه النظرية على الجملة قد تبلورت إثر صراع عنيف مع السلطة الدينية التي كانت تحيل الأمر في قضية السيادة إلى جهة مقدسة تستحل باسمها ومن خلال الانتساب إليها كل صنوف القهر والإفساد والطغيان في الأرض، فجاءت ردة الفعل في هذه النظرية مساوية للاتجاه الأول في القوة، ومضادة له في الاتجاه، جاءت لتعلن خلع الربقة والتمرد على كل ما هو مقدس، وتأليه إرادة الإنسان، واعتبارها معيار الحقيقة المطلقة، فجاء تمرد مطلق، يعني: رد فعل عكسي تماماً لطغيان الكنيسة والباباوات؛ لأننا لو درسنا تاريخ الباباوات والكنيسة في القرون الوسطى المظلمة، وطبعاً كل قرون أوروبا مظلمة، لكنهم يطلقون عليها القرون الوسطى المظلمة، ولن ندرسها من أي مصادر إسلامية، بل من كتب الغربيين أنفسهم، فهم شهود من أهلها يكشفون الطغيان والظلم والقهر والاستبداد والإذلال الذي مارسته الكنيسة في ذلك الوقت. فحصل رد فعل في العبارة التي دائماً نكررها: (اشنقوا آخر قسيس بأمعاء آخر ملك) الصراع الذي خاضه رجال الكنيسة في هذه القضية لم يخوضوه باسم الوحي المعصوم، ولم يلتزموا فيه بأبسط مبادئ العدل الفطري، بل أطلقوا لأهوائهم وجبروتهم العنان، وتردوا خلاله إلى أسوأ دركات الفساد والإجرام، ثم نسبوا كل ذلك إلى الوحي، وإلى السماء، والذي درس رواية: (أحدب نوتردام) بأقلام غربية ولم يكتبها المسلمون، يجد هذا القدر من التسلط والقهر والإذلال الذي كانت تمارسه الكنيسة وعدائها الشديد للعلم وللكتب ونحو ذلك.

انتقال نظرية السيادة إلى العالم الإسلامي

انتقال نظرية السيادة إلى العالم الإسلامي ثم يناقش بعد ذلك انتقال نظرية السيادة إلى العالم الإسلامي يقول: لقد كانت الشريعة الإسلامية هي الشريعة الوحيدة التي يقضى بها، ويتحاكم إليها في بلاد المسلمين، وقد يتهاون بعض الناس أو الحكام في التزام أحكامها، ولكن هذه الانحرافات لم تتجاوز على الجملة دائرة التنفيذ العملي لبعض الأحكام الشرعية، ولم تتعد ذلك إلى دائرة التشريع بحال من الأحوال، يعني: كان يحصل فساد من الجهة التنفيذية، لكن من جهة التشريع كانت الراية مرفوعة دائماً للتحاكم إلى الشريعة الإسلامية، بل ظلت الشريعة دينهم الذي به يدينون، ودعوتهم التي إليها يردون عند التنازع، ويتحاكمون إليها عند الاختلاف، ولم يحدث أن استبدلت الأمة بها شريعة أخرى عبر تاريخها الطويل، ثم أخذ الوهن يدب في جسم هذه الأمة، فضعفت شوكتها، وذهب ريحها، واجتمع عليها عدوها فغزا ديارها، وأوضع خلالها، وبث فيها سمومه، ونشر فيها كفره ورجسه فتنة لها في الدين، وتكريساً لما آلت إليه من تصدع وانكسار، وكان من بين المناهج الغربية التي غزت بلاد المسلمين نظرية السيادة التي سبق أن بيناها تحت ستار من التحرير، ومقاومة الطغيان، ووصف جوقة من العزف على نغمة حقوق الإنسان، ثم عرفت هذه النظرية طريقها إلى الدساتير العربية والإسلامية بعد أن أقصيت الشريعة، وألغيت أحكام الإسلام من قوانين هذه البلاد، فكانت هذه النظرية هي الحلقة الأخيرة في مسلسل إقصاء الشريعة وفصل الدين عن الحياة. وتتجسد مظاهر السيادة التي نصت هذه الدساتير على تقريرها للأمة أو الشعب في ثلاثة مظاهر رئيسية: الأول: السلطة التشريعية. الثاني: السلطة التنفيذية. الثالث: السلطة القضائية. أما السلطة التشريعية: فدورها سن القوانين التي يتحاكم إليها في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شئون الحياة. الثاني: السلطة التنفيذية، ووظيفتها: المحافظة على النظام العام، والسهر على حماية هذه القوانين. الثالث: السلطة القضائية، ووظيفتها: حل المنازعات والفصل في الخصومات، وفقاً للقوانين الصادرة من السلطة التشريعية. وباستقراء الدساتير الصادرة في البلاد الإسلامية نجد أن هذه النظرية قد تم النص عليها صراحة في هذه الدساتير، كما أنه باستقراء الواقع العملي في هذه البلاد نجد أن إقصاء الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية هو السمة البارزة على أنظمة الحكم فيها، وأن فصل الدولة عن الدين هو الواقع العملي المستيقن في ظل هذه النظم، وإن كان النص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ولا يزال موجوداً في أغلب هذه الدساتير، الأمر الذي يؤكد أن تطبيق الشريعة وتقرير السيادة والتشريع للأمة أو الشعب نقيضان لا يجتمعان أبداً في نظام من الأنظمة، ولا في أمة من الأمم. ثم يضيف ملمحاً جديداً وهو: أن رؤساء الدول يعتبرون أعضاء أصليين في السلطة التشريعية، والبرلمان الذي ينتخب بالصورة المعروفة هو سلطة تشريعية، لكن رئيس الدولة أو الملك في بعض البلاد يكون عضواً أصلياً في السلطة التشريعية لما له من حق الاقتراح وحق الإصدار، وحق الاعتراض أو التصديق، ومن هذه الحقوق ما يشتركون فيه مع غيرهم كحق الاقتراح، ومنها ما يستقلون به كالحق في التصديق على القوانين بعد إقرارها من السلطة التشريعية، أو الحق في الاعتراض على القانون، أو إعادته إلى البرلمان لمراجعته، والتصويت عليه مرة أخرى بأغلبية خاصة. وقد نصت بعض الدساتير صراحة على اعتبار رئيس الدولة جزءاً أصيلاً من السلطة التشريعية، ومنها ما اكتفي بالنص على الحقوق التي يمارسها رئيس الدولة في مجال التشريع، وهي حق الاقتراح والإصدار، وحق الاعتراض أو التصديق. فمثلاً: الدستور الدائم لمصر ينص على هذا الحق لرئيس الدولة، الذي هو التشريع في حالة تعطيل الحياة البرلمانية، إذا كان الأصل هو أن يمارس رئيس الدولة اختصاصاته التشريعية بالتعاون مع البرلمان، فقد تعرض بعض الحالات يستقل فيها رئيس الدولة بممارسة الوظيفة التشريعية وتتمثل فيما يلي: أولاً: التشريع في حالة تعطيل الحياة البرلمانية، مثلما كان يفعل السادات حيث يعطيه إجازة يوم الجمعة، ويصدر القانون الجمعة، فيبقى رئيس الدولة له الحق أن يشرع كما سار على نفس النسق الدستور المؤقت للجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية إلى آخره. ثانياً: التشريع فيما بين أدوار انعقاد البرلمان، يعني: عند تعطيل الحياة البرلمانية الرئيس له أن يشرع ما شاء من القوانين، والنظام النيابي يقوم على توقيت البرلمان بمدد معينة يعود الأعضاء بعدها إلى الشعب ليجددوا انتخابهم، أو يسحبوا منهم ثقتهم، كما أن البرلمانات لا تنعقد باستمرار، بل يتخللها فترات من الراحة، فإذا حدث أمر طارئ لا يمكن مواجهته إلا بقانون كان لرئيس الجمهورية أن يصدر مراسيم لها قوة القانون على أن يعرضها على البرلمان عند انعقاده ليقرر في شأنها ما يشاء، وهذا نص الدستور في المادة (147). ثالثاً: التشريع بتفويض من البرلمان، فالبرلمان هو الذي يفوض الرئيس أن يشرع، فمعظم الدساتير العربية تجيز هذا التفويض وتقيده ببعض القيود التي تمنع من اللجوء إليه إلا عند الضرورات، وإن كان الفقهاء القانونيون يضيقون ذرعاً من هذا الأسلوب، ويرون فيه تخلياً من البرلمان عن وظيفته الأصلية، كما لا يرون له الضرورة التي تسوغه كما في الحالتين السابقتين، يعني: هنا في دستور مصر مادة (108) لرئيس الجمهورية عند الضرورة وفي الأحوال الاستثنائية بناءً على التفويض من مجلس الشعب بأغلبية ثلثي أعضائه أن يصدر قرارات لها قوة القانون، ويجب أن يكون التفويض لمدة محدودة، وأن تبين فيه موضوعات هذه القرارات والأسس التي يقوم عليها، ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب في أول جلسة بعد انتهاء التفويض، فإذا لم تعرض أو عرضت ولم يوافق عليها زال ما كان لها من قوة القانون.

السيادة في المنهج الإسلامي

السيادة في المنهج الإسلامي ما تقدم كان يتناول نظرية السيادة في نشأتها الأولى وتطورها في المجتمعات الغربية، من حيث المضمون أو الخصائص أو الآثار، ثم انتقالها إلى المنطقة الإسلامية، وتبين من خلال هذا الكلام حقيقة هذه النظريات، وكيف أنها تعني الإقرار بالحق في السلطان المطلق، والتشريع المطلق، والإرادة العليا الماضية لممثلي الشعب أو الأمة، وما يقتضيه ذلك من فصل الدين عن الدولة، وخلع ربقة الإسلام، بل سائر الأديان في مجالات الحياة العامة؛ لتكون السيادة للأمة، وليكون القانون هو التعبير عن إرادتها الحرة، فماذا عن السيادة في الفقه الإسلامي أو الشريعة الإسلامية؟ لقد تقرر في قواطع الشريعة وبدهياتها الأولى أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، بل إن هذه الحقيقة هي الإسلام، فالقبول بها قبول بالإسلام، والكفر بها أو الإعراض عنها مروق من الدين وخروج من الإسلام، والدليل على هذه الحقيقة هو الإسلام نفسه، فمن صح عنده الرضا بالإسلام ديناً فقد صح عنده الرضا بهذه الحقيقة، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ومن أعرض عن الإسلام، أو تشكك في صحته، أو تردد في قبوله ساغ له أن يعرض عن هذه الحقيقة أو أن يتشكك في صحتها ويتردد في قبولها، يعني: لن يصدر التردد إلا ممن رفض هذا الشعار (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) فهذا هو الذي سوف يتردد، فما من دليل يشهد بصحة إلا وهو دليل شاهد بصدق هذه الحقيقة، ولكننا نتنزل مع من تلتبس عليه البدهيات ويعشى عن الشمس وقت الظهيرة ليس دونها سحاب فنطرح هذا Q ما هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله؟ أليس هو الإسلام؟ وما حقيقة هذا الإسلام الذي جاء به وإليه دعا، وعليه قاتل، ومن أجله فرق بين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرء وزوجه، أليس هو تصديق الخبر والانقياد للشرع؟ وما حقيقة الانقياد للشرع أليس هو الرضا بالشرع حاكماً وآمراً وناهياً، ومصدراً للحلال والحرام، وقبول سائر ما يصدر عنه من شرائع وأحكام؟ أرأيت لو أن رجلاً قال -سواء بلسان الحال أو بلسان المقال-: لا أقبل شرعاً يأتيني من عند الله، أو لا أقبل الإسلام حكماً في شئون الحياة، ولا أرضى بسلطان إلا سلطان الإرادة الإنسانية الحرة التي تحدد نفسها بنفسها، ولا تتقيد بقانون؛ لأن التعبير عنها هو القانون، وهي -أي: هذه السيادة والإرادة- لا تخضع لأي جهة سماوية كانت أو أرضية؛ لأن إرادتها عالية، وسلطانها مطلق، أفرأيت رجلاً يقول هذا القول هل يبقى له تعلق بالإسلام أو بقية انتماء إليه؟ ثم يذكر الإجماع على أن السيادة العليا، والتشريع المطلق حق لله تعالى وحده، يقول: إن الإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات هي إرادة وسلطة الله، ومن خلال تعريف السيادة: فالسيادة هذه بالمعنى هذا هي أننا حين نرى أن من صفاتها العلو والفوقية نتذكر مباشرة الآيات التي فيها وصف الله سبحانه وتعالى بالعلو والقهر قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وغير ذلك من الأشياء التي فيها منازعة واضحة للتوحيد، فالإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات، والتي لا تعرف فيما تنظمه أو تقضي فيه سلطة أخرى تساويها أو تساميها، إنما هي إرادة الله عز وجل وحده لا شريك له، ولقد انعقد إجماع الأمة كلها في مختلف الأعصار والأمصار إجماعاً لم يشذ عنه كبير ولا صغير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حر ولا عبد، ولا طائع ولا عاص، أنه لا دين إلا ما أوجبه الله، ولا شرع إلا ما شرعه الله، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، وإن من جادل في هذه البدهية فأحل ما حرمه الله، أو حرم ما أحله، أو رد شيئاً من حكمه، أو أعطى غيره حق التحليل والتحريم والإيجاب والندب، فهو مارق من الدين، كافر بإجماع المسلمين.

السيادة العليا والتشريع المطلق حق الله وحده

السيادة العليا والتشريع المطلق حق الله وحده ثم يذكر الإجماع على أن السيادة العليا والتشريع المطلق حق لله تعالى وحده، يقول: إن الإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات هي إرادة وسلطة الله، ومن خلال تعريف السيادة نرى أن من صفاتها العلو والفوقية وهنا نتذكر مباشرة الآيات التي فيها وصف الله سبحانه وتعالى بالعلو والقهر قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وغير ذلك من الأشياء التي فيها منازعة واضحة للتوحيد، فالإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات، والتي لا تعرف فيما تنظمه أو تقضي فيه سلطة أخرى تساويها أو تساميها، إنما هي إرادة الله عز وجل وحده لا شريك له، ولقد انعقد إجماع الأمة كلها في مختلف الأعصار والأمصار إجماعاً لم يشذ عنه كبير ولا صغير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حر ولا عبد، ولا طائع ولا عاص، أنه لا دين إلا ما أوجبه الله، ولا شرع إلا ما شرعه الله، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، وأن من جادل في هذه البدهية فأحل ما حرمه الله، أو حرم ما أحله، أو رد شيئاً من حكمه، أو أعطى غيره حق التحليل والتحريم والإيجاب والندب، فهو مارق من الدين، كافر بإجماع المسلمين.

الأدلة على تفرد الله سبحانه وتعالى بالسيادة والتشريع المطلق

الأدلة على تفرد الله سبحانه وتعالى بالسيادة والتشريع المطلق أما الأدلة على تفرد الشرع الشريف أو تفرد الله سبحانه وتعالى بالسيادة والتشريع المطلق فهي مستفيضة ومتعددة منها:

حقيقة الإسلام الذي لا يقبل الله غيره

حقيقة الإسلام الذي لا يقبل الله غيره أن حقيقة الإسلام هي الاستسلام لله وحده، فقد أجمع الأولون والآخرون من المسلمين على أن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بل الذي جاء به الرسل جميعاً هو الإسلام، وأن حقيقته هي الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وطاعته وحده عز وجل. فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، ولهذا كان الإسلام دين الرسل جميعاً، قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] إذا تقرر هذا فقد علم بيقين أن السيادة العليا، وأن السلطان المطلق هو لما جاء من عند الله عز وجل لا غير، وأنما سوى ذلك كفر وشرك وضلال.

تضمن عقيدة التوحيد لإفراد الحكم لله

تضمن عقيدة التوحيد لإفراد الحكم لله ثم إن عقيدة التوحيد تتضمن إفراد الله سبحانه وتعالى بالحكم والتشريع، وهذه المعاني للأسف في وسط الجو الذي نعيش فيه الآن أصبحت عند كثير من الناس معان غريبة مهجورة رغم أنها أصل دين الإسلام، وصلب عقيدة التوحيد؛ لأننا -كما قلت- في عصر زلزلة الثوابت زلازل على مقياس ريختر تكون في أعلى ما يكون، فتهد الدين من جذوره وأصوله، فلا بد أن ننتبه إلى تأثير مثل هذه الأشياء على عقائدنا وعلى زلزلة ثوابت هذا الدين، وهو أخطر ما نتعرض له الآن. فإذاً: من اتبع غير شرع الله في خلاف شريعة الله وهو يعلم أنه خلاف حكم الله، وترك تحليل الله وتحريمه إلى تحليل غيره وتحريمه فهذا شرك بلا نزاع، وهذا متخذ لهذا المصدر الجديد إلهاً من دون الله تبارك وتعالى، إذا كان الأمر كذلك فقد صح أن السيادة للشرع لا غير، وأن الوحي المعصوم وحده هو مصدر التحليل والتحريم فقط لا غير، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، ويقول تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله. ويقول في موضع آخر: وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الباطل حقاً والحق باطلاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ونهى عما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بما نهى عنه الله ورسوله، فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. إذاً: هذا كله يدل على أن السيادة العليا والسلطان المطلق للشرع لا غير، وقد أوجبت قواطع الشريعة التحاكم إلى الشرع الشريف، وجعلته شرطاً للإيمان، ونفت الإيمان، بل أثبتت النفاق لمن يعرض عن هدي الله عز وجل، ويصد عن التحاكم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] كما قلنا: الهوى دائماً عدو للوحي الشريف، وقال الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فأقسم بذاته المقدسة على نفي الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، أو وجد في نفسه حرجاً من حكمه. يقول الإمام الجصاص الرازي رحمه الله تعالى: وفي هذه الآية وهي قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون) دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة، وقتلهم، وسبي ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان. وهذا في الذين امتنعوا من أداء الزكاة جحوداً، أما المتأولون فهذا كان لهم حكم البغاة. ويقول شيخ الإسلام أيضاً: ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم، فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله. ويقول الحافظ ابن كثير: فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. وهذا كله دليل على أن السيادة للشرع لا لغيره، وأن ما عدا الشرع الإسلامي الشريف كفر وضلال. ويقول الله تعالى أيضاً: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]. فالإيمان لا يعدو أن يكون زعماً إذا أراد صاحبه أن يتحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت هنا يقابل ما أنزل الله، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والكفر بهذا الطاغوت هو أقصى درجات الرفض والتبرؤ، وهو الحكم الشرعي الواجب في مواجهته، والصد عن التحاكم إلى الشرع شأن المنافقين الذين آمنت ألسنتهم وكفرت قلوبهم. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله. وقد تكرر الأمر المطلق بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم زهاء ثمانية وعشرين مرة، ولم تأت الشريعة بطاعة مطلقة لأحد بعد الله وبعد رسوله صلى الله عليه وسلم. فالطاعة لأولي الأمر مشروطة بطاعتهم لله؛ لأنه لا طاعة في معصية، و (إنما الطاعة بالمعروف)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وكررت الآيات ذكر الطاعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تكرره مع ولي الأمر للدلالة على أن الطاعة لهم ليست مطلقة، بل فيما كان طاعة لله وللمسلمين فيه مصلحة، حتى طاعة الأبوين هي طاعة مقيدة وليست مطلقة قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] وطاعة الزوج أيضاً مقيدة إذ لا طاعة لزوج في معصية الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال أيضاً: (لا طاعة لمن لم يطع الله). وقال شيخ الإسلام: إن من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قتل. يعني: من قال: إنه يجب تقليد أبي حنيفة أو الشافعي أو مالك أو نحو ذلك فيستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه قال كلمة: (يجب) لأن الله لم يوجب طاعة شخص طاعة مطلقة في كل ما يأتي ويذر سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من عدا ذلك فلا يوجد عالم واحد من علماء المسلمين يقول: يجب أن تقلد الشافعي أو مالكاً أو أحمد أو أبا حنيفة، وإنما أقصى ما في التقليد أنه يسوغ أو يجوز رخصة للمقلد غير المجتهد في أوضاع معروفة، لكن من قال: يجب تقليد إمام بعينه ويأثم من لم يفعل، علماً بأنه لو أخذ بقوله بالدليل فيكون هذا مما يؤمر به، لكنه يأخذ قول الإمام دون أن يعرف دليلاً، وهذا هو التقليد. فيقول شيخ الإسلام: من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه يوجب طاعة شخص طاعة مطلقة غير الرسول صلى الله عليه وسلم، فالطاعة المطلقة والاتباع المطلق لا يكون إلا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أسبغ هذه المنزلة على أحد من الناس فقد أشرك بالله عز وجل. إذاً: هذا كله يثبت أيضاً أن السيادة للشرع لا غير، حتى الإجماع، يعني: الإجماع نفسه الذي إذا ثبت فإنه يعد حجة شرعية قاطعة ومعصومة؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فإذا انعقد الإجماع بالفعل وثبت، فإنه أصل من أصول الشريعة، لكن مع ذلك الإجماع لا ينعقد إلا على نص، فأولى ألا ينعقد على خلاف نص شرعي. وهذا أيضاً يدل على أن السيادة للشرع؛ لأن الإجماع عندما ينعقد فإنه يكون إجماعاً على نص، فالمرجع إلى النص لا غير، فالأمة في الإسلام لا تملك أن تنشئ الأحكام كما هو الحال عند الغربيين، وإنما يقتصر دورها على فهم الأدلة والتخريج عليها، يعني: دستور الدولة اللقيطة في فلسطين المحتلة دستورها هو التوراة، وهم ينتسبون زوراً إلى نبي الله إسرائيل أو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فينبغي أن يكون المسلمون دستورهم هو القرآن، فإذا كان المستند في الإجماع هو النص فما فائدة الإجماع حينئذ؟ فائدته قطع الشك في دلالة الحكم على المراد، فجميع الأئمة في الاجتهاد فهموا النص بهذه الطريقة فخرجوا منه بالإجماع على مسألة معينة، فعندما تقول: إن هذا إ

إجماع العلماء على أن العقل ليس مصدرا من مصادر التشريع

إجماع العلماء على أن العقل ليس مصدراً من مصادر التشريع أيضاً: أجمع العلماء على أن العقل ليس مصدراً من مصادر التشريع، ليس بشرع وليس بدليل، فالأصوليون اتفقوا جميعاً على أن الحكم هو خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو الترخيص أو الوضع. كما انعقد إجماعهم بل إجماع المسلمين أجمعين على أن العقل ليس بشارع؛ لأنه لا حكم إلا لله تعالى، حتى المعتزلة الذين جعلوا للعقل دوراً في تقرير بعض الأحكام اتفقوا على أن العقل كاشف عن الحكم الشرعي، وليس بمنشئ له. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع. وجاء في كتاب (فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت) مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، يعني: هو هنا يقول: إنه لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة، ويرد على بعض المشايخ الذين قالوا: إن أهل السنة عندهم لا حكم إلا لله، بخلاف المعتزلة الذين يقولون: إن الحاكم هو العقل، فهو هنا يدافع عن المعتزلة، ويقول: لا، بل كل الأمة حتى الفرق الضالة كالمعتزلة يوافقوننا في هذه القاعدة مثل ما قلنا: إن العقل كاشف للحكم، وليس منشئاً له كما قال المعتزلة. يقول: مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل. انظر إلى التعليل يقول: فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام. يعني: هل يوجد واحد ممن يدعي الإسلام يجترئ ويقول: إن العقل حاكم، أو العقل مشرع، فهو هنا يدافع عن المعتزلة، وينفي أنهم يعتقدون أن العقل منشئ للأحكام. يقول: مسألة لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة، لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل يعرف بعض الأحكام الإلهية سواء ورد بها الشرع أم لا، وهذا مأثور عن كبار مشايخنا أيضاً. وفي كتاب (دروس في تاريخ الفقه) للشيخ فرج السنهوري: لا حاكم إلا الله، ولا حكم إلا ما حكم به، على اتفقت كلمة المسلمين، حتى الذين قالوا: إن للأفعال حسناً وقبحاً عقليين، أي: يدركهما العقل، إذ أنهم لم يذهبوا إلى أكثر من اتخاذ الوصفين أساساً لحكم الله سبحانه يصدر على موقفهما، فالعقل لا دخل له في إنشاء الأحكام وإصدارها، وإن كان هو شرط التكليف، وله أعظم الأثر في فهم الشرع. فالله جل وعلا قد قصر إنشاء الحكم عليه وحده عز وجل، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40]، وقال تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وقرأ ابن عامر من السبعة: (ولا تشرك في حكمه أحداً) بصيغة النهي، والخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى عموم المخاطبين، أي: ولا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله عز وجل، بل أخلص الحكم لله من شوائب الشرك، وهذا كله مما يؤكد الحقيقة أن السيادة للشرع لا غير.

إجماع الصحابة على أن الشورى لا تكون إلا في دائرة المباح

إجماع الصحابة على أن الشورى لا تكون إلا في دائرة المباح أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم والأمة على أن الشورى لا تكون إلا في دائرة المباح أو العفو، يعني: أنه لا يصلح أن نتشاور ونناقش في شيء منصوص عليه، لكن الشورى تكون في الأشياء المباحة، أو الأشياء المعفو عنها، ففي البخاري: كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر: كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله الله، فإذا قالوا: (لا إله إلا الله) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة عمر إذ كان عنده حكم رسول الله في نص، في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، وأرادوا تبديل الدين وأحكامه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن بدل دينه فاقتلوه) وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. فالشورى تكون في دائرة المباح والعفو، أما ما قطعت فيه النصوص فليس لأحد أن يتقدم عنه أو يتأخر، ولهذا لما ترجح لدى أبي بكر أن النص ظاهر في وجوب قتال مانعي الزكاة لم يلتفت إلى مشورة عمر ولا غيره، وهذا كله يدل على أن السيادة للشرع لا لغيره.

إجماع الصحابة وتابعيهم على أن الحجة في الكتاب والسنة

إجماع الصحابة وتابعيهم على أن الحجة في الكتاب والسنة كذلك الصحابة رضي الله عنهم والأئمة أجمعوا على أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وأن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها لقول أحد من الناس كائناً من كان. يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمه؛ فإن الله تعالى لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي أيضاً: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وقال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال: كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وقال مالك رحمه الله: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه، يعني: الدليل، وفي رواية: حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإننا بشر نقول اليوم القول ونرجع عنه غداً، وقال أيضاً: إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي. وقال أحمد رحمه الله: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا. وقال أيضاً: من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة. يقول ابن رجب رحمه الله: فالواجب على كل من بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظمٍ قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأً. فهذا كله مما يدل على أن كل الحجة في الكتاب والسنة، وأن السيادة المطلقة هي لشرع الله تبارك وتعالى لا غير، فإذا كانت هذه النصوص كلها هي مقولات أئمة الإسلام رضي الله تعالى عنهم، وهي متعلقة باجتهاداتهم في فهم أدلة الشرع، يعني: كل كلام الأئمة الأربعة كما رأينا يدور حول اجتهاداتهم في فهم أدلة الشرع، فهذا الاجتهاد إنما يحوم حول فهم أدلة الشرع، فالمصدر هو أدلة الشرع، وهم أئمة مجتهدون ثقات عدول أجمعت الأمة على قبولهم، وشهدت لهم بما كانوا عليه من ديانة وصيانة، وتحري للحق، واتباع للسنة، ومع ذلك انظر إلى كلامهم في أنه لا منازع أبداً لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم حتى الأئمة الأربعة أنفسهم، فما الظن بجهة أو مجلس قام ابتداء على ادعاء الحق في التشريع المطلق، واطراح كل ما يمت للكتاب والسنة بصلة.

اتفاق العلماء على أنه لا اعتبار لمصلحة شهد لها الشرع بالبطلان

اتفاق العلماء على أنه لا اعتبار لمصلحة شهد لها الشرع بالبطلان لقد اتفق أهل العلم على اعتبار المصالح في الأحكام، إلا أنهم اتفقوا أيضاً على أنه لا اعتبار لمصلحة شهد لها الشرع بالبطلان، وذلك بوجود نص يدل على حكم في الواقعة، بخلاف الحكم الذي تمليه المصلحة، يعني: أحياناً تظهر لنا بالعقل مصالح في بعض التصرفات، لكن إذا كانت هذه المصلحة تصادم دليلاً شرعياً فهذه مصلحة ملغاة لا يلتفت إليها، مثال ذلك فتوى أحد الفقهاء لملك جامع في نهار رمضان، فالمفتي تحذلق فأفتى الملك بالصوم بدلاً من العتق، رغم كونه واجداً للرقبة وقادراً على إعتاقها، فالمفتي هنا المفروض أن يفتيه بالعتق دون بالصوم، فهو أفتاه بالصوم بدل العتق لمصلحة اعتبرها من عند نفسه أن الملك رجل غني فعندما نقول له: إن الكفارة عتق رقبة، فهذا أسهل شيء بالنسبة له فسيعتق رقبة، لكن لأجل أن أزجره فأنا أقول له: إن الكفارة هي الصيام، فعندما يصوم ستين يوماً أو شهرين متتابعين فهذا يكون أزجر له، فهو هنا ينظر لمصلحة معينة، لكن هذه المصلحة غير معتبرة شرعاً، فبالتالي هذا نوع من المصالح المهدرة أو الملغية لمصادمتها للنص الشرعي، وهي مصلحة متوهمة في مقابلة نص فلا اعتبار لها. وكذلك بعض الناس يقول: إن الأنثى ينبغي أن تساوي الذكر في الميراث بدعوى أن المصلحة تقتضي ذلك؛ لأنهما يتساويان في درجة القرابة من الوارث، يعني: هذه بنته وهذا ابنه، فدرجة القرابة واحدة، فبناء على هذا النظر المصلحي تسوى الأنثى بالذكر في الميراث، ثم إن البنت أصبحت تشارك زوجها في أعباء الحياة، فساوت الابن أيضاً من هذه الجهة، فهذه مصلحة لكنها مهدرة وملغاة وغير معتبرة؛ لأنها وقعت في مقابلة النص الصريح القاضي بأن: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فإذا كان الأمر كذلك، وكانت الأحكام الثابتة بالنصوص مشتملة على المصلحة لا محالة أدركها من أدركها، وغفل عنها من غفل، فإنه لا اعتبار لمصلحة أهدرتها نصوص الشريعة، فهذا كله أيضاً مما يؤكد أن السيادة للشرع لا لغيره.

إجماع الأمة على أن كل ما أحدث على خلاف الدين فهو رد

إجماع الأمة على أن كل ما أحدث على خلاف الدين فهو رد الأمة مجمعة على أن كل ما أحدث على خلاف الدين فهو رد، يعني: مردود في وجه فاعله باطل، والحديث في ذلك واضح، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا -أمرنا: ديننا الإسلام- ما ليس منه فهو رد) وهنا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم إبطال كل ما أحدث على خلاف الدين، وهذا يعطينا معيار القبول والرد، ما الذي نقبله أو ما الذي نرفضه؟ نقبل ما يوافق الدين، ونرفض ما يخالفه، وهذا مما يؤكد أن السيادة للشريعة الإسلامية بلا منازع.

عدم مشروعية التقليد للعلماء إلا في أوضاع خاصة

عدم مشروعية التقليد للعلماء إلا في أوضاع خاصة كذلك حتى في تقليد العلماء حينما نقلد العلماء في بعض الأوضاع التي يسوغ فيها التقليد خاصة بالنسبة لعوام المسلمين، فاتباع أهل العلم لا يكون اتباعاً لهم من ذواتهم من حيث هم، وإنما هو باعتبارهم ممثلين للشريعة ووسائط بيننا وبين الشريعة الشريفة في العلم والفقه. وقد اتفقت الأمة على أن اتباع أهل العلم إنما يكون من جهة علمهم بالشريعة وقيامهم بحجتها، وحكمهم بأحكامها جملة وتفصيلاً، وأن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال وبهتان، وأن من علم أو غلب على الظن عدم إصابته للحكم الشرعي فيما ألقاه فلا يتبع في ذلك، بل يجب التبين ومواصلة السؤال حتى يغلب على الظن أنه حكم الله تبارك وتعالى، فأنت لا تتبع المفتي أو الفقيه أو الإمام لذاته، وإنما أنت تتبعه من حيث كونه وسيلة إلى تعليمك أو إعلامك وتعريفك بحكم الشرع الشريف، فحتى في التقليد المتبوع الحقيقي هو الشرع الشريف ليس هذا فحسب، بل أجمعت الأمة على أن زلة العالم الفقيه المخلص -الذي كل الصفات فيه- لا يصح الاعتداد بها، ولا البناء عليها، ولا على اعتبارها قولاً يعتد به في مسائل الخلاف، ولا يصح نسبته إلى الشريعة بأي حال من الأحوال، لأنها لم تصدر عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإنما كان صدورها لمجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته. والخلاف الذي يعتد به هو الخلاف الصادر عن أدلة معتبرة في الشريعة، لكن إذا زل العالم زلة شديدة -وهذا موجود في العلماء- فهل تنسب زلته إلى الشريعة؟ وهو ليس قاصداً ولا متعمداً، فما بالك بمن يرفض التحاكم إلى الشرع أصلاً وابتداءً ويهدر سيادة الشريعة؟!

نفي وجود أي خلاف في سيادة الشرع للمنهج الإسلامي

نفي وجود أي خلاف في سيادة الشرع للمنهج الإسلامي والسؤال الأخير الذي يفرض نفسه الآن: هل يعتبر تفرد الشرع الشريف بالسيادة موضع خلاف في المنهج الإسلامي، أو في داخل الأمة المسلمة؟! لا بد أولاًَ أن نحرر محل النزاع في هذه القضية، فالسيادة التي جرى حولها النزاع هي السيادة في مفهومها الغربي كما فصلنا فيما تقدم من الكلام، وهي السلطة العليا المطلقة التي تحدد نفسها بنفسها، فلا تتقيد بقانون؛ لأنها هي التي تضع القانون، ولا تعرف فيما تنظمه من علاقات سلطة أخرى تساويها أو تساميها. فإذاً: أبرز ما يميز هذه السلطة الإطلاق، سلطة مطلقة بلا قيود، والعلو، والتفرد أو الوحدانية، والأصالة والقيام بالنفس. وهذه الصفات تشبه كلام الأشاعرة: قيامه تعالى بنفسه، فهذه صفات الواجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى وهذه في اللغة الكلامية، فكذلك يشبه قيامه تعالى بنفسه قولهم: قيام صاحب السيادة بنفسه، أي: أنها لم تستمد هذه الخصائص من جهة أخرى؛ لأنه لا توجه فوقها، بل ولا مثلها جهة. كذلك أبرز علامات السيادة: الحق في التشريع المطلق، فالقانون هو التعبير عن إرادتها الحرة، وليس لأي جهة كائنة ما كانت، ولا لشخص كائناً من كان أن يقيد هذه الإرادة أو أن يلزمها بالتصرف على نحو معين إلا إذا أرادت هي ذلك، فهل كانت السيادة على هذا النحو موضع نزاع في الفكر الإسلامي؟ وهل قال أحد من علماء المسلمين: إن أحداً بعد الله عز وجل له سلطان مطلق في التشريع يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء إلى آخره؟ إن الذي نقطع به ويقطع به كل مسلم أن أحداً من أهل الإسلام لم يجترئ على هذه المقالة في تاريخ الإسلام، اللهم إلا إذا كان قد كفر بعد إيمانه، وخلع ربقة الإسلام من عنقه، والدليل على ذلك ما سبق سرده من الأدلة، وأي محاولة لتصوير القضية على غير هذا النحو تمييع لها، ولذلك تلاحظوا الجماعة الذين يأتون في الإعلام ويتناولون هذه القضايا بناء على مصطلح يستعملونه وهو (دايالوج) و (مونولوج)، فالـ (مونولوج) يطلق على الطرح عندما يكون المتكلم واحداً ويفرض كلامه على الجالسين، أما الـ (دايالوج) فهو اشتراك أناس في حوار مفتوح لكن هناك من يفرض رأيه على الناس، فتجد أنه يتكلم في غرف مغلقة ولا يسمح لأحد أن يعترض عليه، ولا يمكن للصوت الآخر أن يصل، فيسمم أفكار الناس بما شاء من ضلالاته. والحقيقة كما ذكرنا مراراً أن عموم الناس ما زالوا على ولائهم للإسلام، ويكفي أن الناس لو تجد أدنى ثغرة ينفسون فيها عن ولائهم للإسلام فإنه يحصل هذا الطوفان الهادر المزعج لأعداء الإسلام، وهذا الذي يجعلنا ندعو أن لا يتورط أحد في التكفير المطلق لعموم الناس؛ لأن المسألة أنه يحال بينهم وبين شرع الله تبارك وتعالى. يقول الدكتور الصاوي حفظه الله تعالى: إن أي محاولة لتصوير القضية على غير هذا النحو تمييع لها، وتزييف للوعي في أخطر قضية تتعلق بواجب هذا الوقت، فأي مسلم أو عالم من علماء المسلمين في يوم من الأيام قال: إنه ممكن أن تكون السيادة لغير الشرع فالزعم بهذا حدث يجافي الواقع ويكابر الحقائق كما بينا، فحتى كبار علماء الحقوق الذين هم غير متخصصين في الدراسات الشرعية يقررون أن تفرد الشرع بالسيادة موضع إجماع الأمة قاطبة. يقول الدكتور فرج السنهوري وهو من الذين عملوا في التشريع الوضعي ليس هنا فقط ولكن أيضاً خارج مصر، يقول: روح التشريع الإسلامي تفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك، وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله تعالى المنزل في القرآن، وسنة رسوله المعصوم الملهم، ثم إجماع الأمة. يعني: حتى الحقوقيين حينما تأتي تكلمه عن الإسلام يقول: اختاروا الذي أنتم تريدونه، لا إكراه في الدين، لكن عندما يأتي ذكر الإسلام يقول الحقيقة، ولا يمكن أن يوجد عامي من عوام المسلمين باق وثابت على إسلامه ويقول: إن السيادة -بالمعنى الذي ذكرناه- تكون لغير الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] فالذي يخلق هو الذي له الحق في الأمر والتشريع، أما هؤلاء فيفرقون ممكن يقولون: ربنا هو الخالق، لكن يرفضون أن يكون الله هو الآمر والمشرع سبحانه وتعالى. وهنا نلخص فصلاً مما عقده يقول في خلاصته: إن الاجتهاد يكون في دائرة المباح والأمور التنفيذية البحتة، يعني: الاجتهاد يكون في دائرة المباح فلا تأت تجيش في قضية أن الخمر حرام وتفتح باب الاجتهاد فيها، فالأمور التي حسمت شرعاً لا اجتهاد فيها، وإنما الاجتهاد في دائرة الأمور المباحة، أو الأمور التنفيذية البحتة، أو في عملية القوانين الإدارية، لأن هناك فرق بين القوانين الإدارية وبين القوانين التي تصادم الشريعة، فالقوانين الإدارية تنظم مثلاً كشوفات العمال والموظفين وحقوقهم وكذا وكذا، وهذه أمور إدارية بحتة لا حرج فيها؛ لكن مطلوب فيها الالتزام بروح الشريعة والقواعد العامة من العدل والمساواة وغيرها. يقول: كذلك: إن الاجتهاد يكون في دائرة المباح في الأمور التنفيذية البحتة التي يتولاها أهل الحل والعقد، الذين هم أهل الشورى مع رقابة عامة من علماء الشريعة، أما الاجتهاد في دائرة الحلال والحرام، وما كان مستنداً إلى النصوص أو حمل عليها بطريق الاجتهاد فإنه يتولاه العلماء وأئمة الفتوى، مع الاستعانة في معرفة الواقع وتوصيفه بأهل الاختصاص.

أوجه المقارنة بين السيادة في المنهج الغربي والسيادة في المنهج الإسلامي

أوجه المقارنة بين السيادة في المنهج الغربي والسيادة في المنهج الإسلامي ثم يعقد مقارنة بين السيادة في المنهج الغربي، والسيادة في الشرع الإسلامي، يقول: الفرق الأول: مصدر السيادة في الفقه الإسلامي هو الله عز وجل الذي يقضي فلا راد لقضائه، ويحكم فلا معقب لحكمه قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] الدين ما أوجبه، والشرع ما شرعه، والحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، كما تفرد بالخلق فلم يشاركه فيه أحد تفرد بالأمر فلا يشرك في حكمه أحداً. أما السيادة في النظريات الغربية فمردها إلى الإرادة العامة للأمة سواء باعتبارها شخصية معنوية، أو باعتبارها مكونة من عدد من الأفراد، وهذه الإرادة المطلقة لا تلتزم بقانون؛ لأن التعبير عنها هو القانون، ولا تقيدها جهة؛ لأنها أعلى من كل جهة، ولم تكتسب سلطانها من أحد؛ لأنه لا يماثلها ولا يساميها أحد، وبالجملة فإن الصفات التي يعتقدها المؤمنون في الله، يخلعها هؤلاء على هذه الإرادة المطلقة. يقول السنهوري: روح التشريع الإسلامي تفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك، وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن، وسنة الرسول المعصوم الملهم، ثم إجماع الأمة. يعني: حتى موضوع نظرية السيادة في المفهوم الغربي فهي ناشئة عن صراع داخلي هناك عندهم في الغرب، صراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، هل نحن المسلمين عرفنا هذا الصراع؟ ما عرفنا هذا الصراع؛ لأن الصورة قاتمة جداً، لو درستم تاريخ القرون الوسطى المظلمة -كما يسمونها- فإن الفرق شاسع، فالحاصل أنه تعميم على بلاد المسلمين بما لا ذنب لهم فيه، فأمتنا لم تعرف مثل هذا الصراع، ولا هذا التجزؤ كما شرحنا ذلك في محاضرة بعنوان: (العلمانية طاغوت العصر) حيث تكلمنا عن تاريخ أوروبا في تلك الحقبة بنوع من التوضيح والتفصيل. إذاً: الوجه الأول من أوجه المقارنة بين نظرية السيادة في الشرع الإسلامي وبينها في الغرب مصدر السيادة، فمصدر السيادة هنا في الشرع الإسلامي هو الله سبحانه وتعالى كما بينا. الوجه الثاني هو من حيث الثبات والتغير، فالقواعد التي تقررها السيادة الغربية قابلة للنسخ والتبديل في كل وقت؛ لأن من يملك الإنشاء يملك الإلغاء، حتى أنكم تلاحظون في بعض البلاد الدستور الذي هو يعتبر أقوى مرجعية في أي شعب فإنه يتغير، وها نحن رأينا أمريكا ماذا عملت في العراق؟ بمنتهى البساطة لأن ضابطها في ذلك أهواء البشر والضغوط التي تحصل على الأمم أحياناً، فهو فحوى كلامهم أن السيادة هذه أو السلطة هذه معصومة؛ لأنها مصدر السلطات، ومع ذلك يقبل حكمها التغيير والتبديل والنسخ في كل وقت؛ لأن من يملك الإنشاء يملك الإلغاء. ولما كانت هذه القواعد تعبيراً عما سموه بالإرادة العامة الحرة فإن هذه الإرادة الحرة لها مطلق الصلاحية في نسخها وتبديلها متى تشاء، فقد تحل الشيء اليوم وتحرمه غداً أو العكس، ولا بأس عليها في ذلك ولا تثريب، ولكن القواعد التي تقررها السيادة الشرعية في الإسلام تتسم بالثبات والخلود، وقد انقطع الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فهي ثابتة باقية ما دامت السماوات والأرض، ولا مبدل لكلمات الله، فما أحله الله ورسوله فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، ولا تملك الأمة الإسلامية ولو اجتمعت كلها في صعيد واحد أن تحل شيئاً مما حرم الله، أو أن تحرم شيئاً مما أحل الله. يقول الدكتور الطماوي: إن القواعد والأحكام المستمدة من القرآن والسنة باعتبارها تعبيراً عن إرادة الله سبحانه وتعالى -بطريق مباشر وهو القرآن، أو غير مباشر وهو السنة- تتسم بالخلود، ولا يمكن أن تتغير بحال من الأحوال لأنها ليست من وضع جماعة المسلمين حتى يجوز لهم التعديل فيها، لهذا لا يمكن تشبيه القرآن والسنة حتى بالقواعد الدستورية وفقاً لاصطلاحات فقهاء القانون العام المعاصرين؛ لأن المسلم به أن للجماعة في كل وقت أن تغير دستورها بمطلق حريتها، ودون أي قيد في هذا الخصوص. الوجه الثالث من أوجه المقارنة من حيث العلاقة بالدين: السيادة في المنهج الإسلامي هي سيادة الشرع، وغايتها تحقيق العبودية لله عز وجل، وسياسة الدنيا بالدين، فلا مجال في ظل هذه السيادة لعزل الدين عن شأن من شئون الحياة، أو تقليص سلطانه عليه، أو أن الدين يحبس في داخل القفص الصدري أو داخل جدران المساجد. الفارق الأساسي بين دين الإسلام وغيره من الأديان، الدين الإسلامي دين حياة، ونظام كامل للحياة، لا يمكن أن يرضوا بنا حتى إن رضينا نحن بهم، لأن أهم شيء في الفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أن الإسلام ليس ديناً كهنوتياً بل هو دين حياة، وتطبيق الشريعة الإسلامية يعتبر العدو اللدود لأعداء الإسلام. فالشاهد من الكلام أن الإسلام دين حياة، ولا يمكن أن يعزل عن الحياة، فلذلك تجد العلماني دائماً حريصاً على خنق الإسلام منع الأذان منع الشعائر الإسلامية عدم اضفاء الصبغة الدينية على المجتمع، وهذا هو الهم الأكبر عند العلمانيين. يقول الدكتور صلاح الصاوي حفظه الله تعالى: السيادة في المنهج الإسلامي هي سيادة الشرع، وغايتها تحقيق العبودية لله عز وجل، وسياسة الدنيا بالدين، فلا مجال في ظل هذه السيادة لعزل الدين عن شأن من شئون الحياة، أو تقليص سلطانه عليه، اللهم إلا جانب فوض الدين فيه الأمر إلى الخبرة والتجربة، وفيما عدا ذلك فالدين هو الروح التي تسري في أوصال المجتمع كله؛ لأن الإمامة في الإسلام موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولكن السيادة في المنهج الغربي لها مع الدين شأن آخر، فقد قننت نظريات السيادة في هذه المجتمعات الغربية لتنزع ابتداء السلطة من كل الملوك ورجال الكنيسة، والثورة الفرنسية التي يرجع لها الفضل الأول في نشر هذه النظريات كان شعارها (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس). وإذا كانت السيادة كما يقول فقهاء الغرب: لا تقبل التعدد، ولا تعرف التقييد، فإن في تقرير هذه السيادة المطلقة لإرادة الأمة أو الشعب إلغاء لدور الدين بالكلية في مجال التوجيه والتشريع، وإبقاؤه مجرد ترانيم وطقوس يمارسها من شاء في أعماق المعابد دون أن يكون لها أدنى دور في مجال من مجالات الحياة العامة، فلا بأس بالدين في ظل هذا المنهج أن يبقى عقيدة في الحنايا، يعني: عقيدة محبوسة داخل القفص الصدري، وشعائر تؤدى في المعابد على أن تنتهي رسالته، ويقف دوره عند هذا الحد؛ لأن ما وراء ذلك من الشئون مرده إلى سيادة الأمة، وهي إرادتها العامة الحرة الطليقة التي تحدد نفسها بنفسها ولا تقبل سلطاناً عليها من أحد، ولهذا كان فصل الدين عن الحياة أمراً ملازماً لهذا المنهج لا ينفك عنه؛ لأن السيادة واحدة لا تتعدد، وقد نزعها هذا المنهج من الدين ومن الملوك، وجعلها حقاً خالصاً لإرادة الأمة. كذلك من أوجه المقارنة من حيث الحق في التشريع: التشريع في المنهج الإسلامي لا يكون إلا لله، ولا تملك الأمة في ظل هذا المنهج إلا الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية وتطبيقها على ما يجد من الحوادث، وليس لفقهائها ولو اجتمعوا في صعيد واحد أن يتجاوزوا الإطار الذي تحدده هذه النصوص، ومن فعل ذلك منهم ففعله منعدم لا شرعية له ولا اعتبار، يعني: نحن نقول للإخوة الذين يذهبون إلى الغرب ليقيموا: هناك كلام للعلماء في هذا، وهو أنه يجوز لك الإقامة في بلاد الكفار بشروط معينة من ضمنها إظهار الدين، هل من يدخل مجلس الشعب سيقوى على إظهار الدين بهذه المفاهيم التي نتحدث فيها؟ هل يستطيع أحد أن يدخل ويأخذ فرصة ليتكلم عن السيادة التي يمثلها مجلس الشعب في المنهج الغربي والسيادة التي يمثلها الإسلام؟ فهل هو قادر على إظهار دينه في وسط هؤلاء القوم؟ لا يستطيع. نعم هناك دائرة المباح والعفو، وهو ما سكت الله عنه، وهذه فوضتها الشريعة إلى الأمة لتقرر فيها ما يحقق مصالحها العامة في إطار مقاصد الشرع وقواعده الكلية، ولكن الأصل فيما وراء ذلك هو التقيد بالنصوص والأدلة الشرعية، وقد تقرر في عقيدة التوحيد أن من زعم لنفسه الحق في التشريع بغير سلطان من الله فقد تجاوز حدود العبودية، وتطاول إلى مقام الربوبية، وجعل نفسه نداً لله تعالى، وإنه بذلك يكون قد خلع ربقة الإسلام من عنقه، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، ويعد هذا المعنى من الأمور البدهية التي يقف عليها كل من له صلة بعلوم الشريعة، وإن لم يكن من المتخصصين في هذه العلوم. يقول الدكتور الطماوي: التشريع بمعناه الدقيق في الإسلام إنما هو لله تعالى، وعلى هذا الأساس لا تملك أي سلطة في الدولة الإسلامية -سلطة التشريع- أي: ابتداع أحكام في الدولة، وأما مواجهة الضرورات الجديدة فإنما يكون عن طريق استمداد ما يناسبها من أحكام من التشريع الإلهي، ولقد رأينا أن هذه الوظيفة إنما يقوم بها فئة خاصة من المسلمين هم المجتهدون. انتهى. ويقول الدكتور الصاوي: أما التشريع في ظل سيادة الأمة فهو حق خالص من الأمة، لا ينازعها فيه منازع، ولا يشركها فيه شريك، وهذا الحق ثابت لها بالأصالة وهو مطلق بلا حدود، فما تحله هو الحلال، وإن اجتمعت على حرمته كافة الشرائع السماوية كالزنا عن تراض على سبيل المثال، وما تحرمه هو الحرام، وإن اتفق على حله من في الأرض كلهم جميعاً، فإرادة الأمة في هذا طليقة من كل قيد؛ لأنها تعلو جميع الإرادات وتهيمن على كافة السلطات. ثم يقارن من حيث المصادر الشرعية، فيقول: المصادر الشرعية في المنهج الإسلامي تتمثل في القرآن والسنة، وما حمل عليهما بطريق الاجتهاد، والمراجع التي يرجع إليها الباحثون في هذا المجال هي كتب التفسير، وكتب الحديث، وكتب الفقه، وكتب الأصول ونحوها، والأعلام الذين يستأنس بتفسيراتهم واجتهاداتهم هم الأئمة ال

§1/1