دروس الشيخ عمر الأشقر

سليمان الأشقر، عمر

مع آيات في كتاب الله

مع آيات في كتاب الله إن طريق العزة لا يكون في غير منهج الله، فمن تأمل التاريخ، ودقق النظر في تاريخ الرعيل الأول، وجد الضالة المفقودة التي ينشدها المسلمون اليوم، وهي العزة والنصر والتمكين، وهي لا تكون إلا إذا حققنا منهج الله في حياتنا كما حققه ذلك الجيل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

استحقاق الله للعبادة

استحقاق الله للعبادة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الذي يقرأ كتاب الله تبارك وتعالى ببصيرة نافذة، يدرسه، ويتأمله، ويفقه ما فيه؛ فإنه يضع نفسه في الإطار الصحيح الذي ينبغي أن يوضع فيه، فيعرف طريقه في الحياة، ويعرف المهمة التي ينبغي أن يتحملها، وذلك أن الإنسان لا يستقر له بال ما لم يحمل مهمة في هذه الحياة، ويشغل نفسه بقضية. وفي كثير من الأحيان يشغل الإنسان نفسه بقضايا تعود عليه بالضرر والوبال، فجاء القرآن الكريم ليضعنا في المسار الصحيح، وفي الطريق الحق، وفي هذا المقام سوف نستعرض ونقف مع تلك الآيات التي افتتح الله بها سورة آل عمران؛ لنتبين الإطار السليم الذي يضع القرآن فيه الإنسان. يقرر الله تبارك وتعالى أنه صاحب الأمر والنهي في هذا الكون، والمتفرد في ذلك، وهو إله الناس، ورب الناس، ومالك الناس، وهو السيد المتفرد قال تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2]، لا يوجد في هذا الوجود معبود يستحق العبادة إلا الله، ولا يتصف بصفات الجلال والكمال إلا الله، فهو الذي أنشأ الكون، وخلق الوجود، ويدبر الأمر ويصرفه، فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل)، فهو حي كامل الحياة، لا يموت، قيوم قائم بنفسه لا يحتاج إلى غيره، ويقيم غيره، فلا يحتاج إلى أحد، لا من ملائكته، ولا من البشر، ولا من الجن، ولا من جميع المخلوقات، بل كل الوجود بحاجة إليه، الملائكة بحاجة إليه، والعرش بحاجة إليه، والسماوات بحاجة إليه، والبشر بحاجة إليه. ويقول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]، فقوله: ((وَالْمَلائِكَةُ)) أي: والملائكة كلهم يشهدون أنه السيد المطاع، وأنه المعبود الحق، وأنه المالك والخالق الموجد الذي يستحق أن يعبد دون غيره. وقوله: ((وَأُوْلُوا الْعِلْمِ)) أي: أصحاب العلم الذين فتح الله بصائرهم وهداهم إلى طريقه الحق، يشهدون بذلك، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].

أهمية الاستقامة على منهج الله ودينه

أهمية الاستقامة على منهج الله ودينه قضيتنا: كيف ننتسب إلى هذا الإله المتفرد الواحد الأحد؟ وكيف نقيم حياتنا وفق منهجه؟ وكيف نحمل رسالته إلى العالمين؟ وكيف ندعو البشرية لأن يحكموا الحياة الإنسانية بمنهج الله تبارك وتعالى؟ إن القضية التي جاءت بها الرسل من عند الله هي: أن يكون الناس عبيداً لهذا الإله الواحد الأحد، وأن يقيموا وجوههم لله تبارك وتعالى، وأن يحكموا حياتهم وحياة مجتمعاتهم بحكم الله، وبمنهج الله، قال تبارك وتعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران:3 - 4]. منهج الله تتضمنه الكتب السماوية التي أنزلها الله تبارك وتعالى هداية للبشرية، يلتزم بها الفرد في نفسه فيمثل الهداية على وجه الأرض، ويلتزم بها المجتمع فيحكم نفسه بالكتاب المنزل، فيكون المجتمع السوي الذي يريده الله تبارك وتعالى للبشرية، كما يقول الله أيضاً في أوائل هذه السورة: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فالدين والمنهج الحق الذي ينبغي أن يحكمك ويحكم المجتمع هو الإسلام، والإسلام علم على هذا المنهج الذي وضعه الله تبارك وتعالى ليصلح عقيدتك، وفكرك، وسلوكك، وأسرتك، والمجتمع الإنساني. وهذا المنهج اسمه الإسلام؛ لأنك تستسلم فيه لله، وتنفذ منهج الله، ويستسلم فيه المجتمع لله، قال الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ))، لا الشيوعية ولا القومية، ولا البوذية، ولا عبادة الأصنام، ولا عبادة الفئران، ولا أي نظرية في الأرض. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]، هذه الانحرافات التي عند اليهودية، وعند النصرانية، وعند البشرية، حدثت والرسالات تتلى وتتوالى على البشر، فيختارون منهجاً غير منهج الله تبارك وتعالى، وأنت تحمل القضية وهي: أنك تنتسب إلى الله تبارك وتعالى، وبمجرد انتسابك إلى الله عز وجل، بأن قبلت رسالة الله عز وجل، وحملت الأمانة، وأصبحت ذا مهمة محددة تحققها في واقع الحياة؛ فإنك لا بد أن تواجه الذين يرفضون منهج الله تبارك وتعالى، ودين الله، وكتب الله عز وجل. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران:4]، هناك فريق لا يستجيب، لا يؤمن بما أنزل الله تبارك وتعالى؛ فهؤلاء يصبحون أعداء لخالق الوجود الإله المعبود، وهم أعداء أيضاً للمؤمنين، والله تبارك وتعالى يعادي هؤلاء، ويتهددهم ويتوعدهم بالعذاب الدنيوي والعذاب الأخروي في الوقت الذي يؤمنك فيه، ويسكب في قلبك عظمته، وأنك تنتسب إلى قوة عليا تستطيع أن تواجه بها العالم، وعندما تأكد هذا المعنى في نفوس الصحابة، والقرآن يدفق عليهم بقوة أصبحوا قوة هائلة، بضع مئات كانوا يغلبون ألوفاً، وتهتز الدنيا من حولهم، ثم يرتد العرب الذين آمنوا ودخلوا في دين الله أفواجاً، يرتدون ولا يثبت منهم إلا فئة قليلة، ولكن هذه الفئة التي فقهت دورها وارتباطها بربها، وعلمت مدى قدرة الله وقوته، استطاعت أن تعيد المياه إلى مجاريها، وأن تحول التيار الذي أراد أن يجتاح الإسلام إلى قوة تزيل الكفر، وتدمر عروش الظالمين، فقهوا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران:10 - 11] أي: قل للذين كفروا الذين لا يؤمنون بي، ولا يوحدونني، ولا يؤمنون برسالتي، ولا يحكمون شرعي وديني، ولا ينهجون منهجي: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12]. والمثال قريب: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:13]، في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان -الكفر والإيمان- في معركة بدر، والمؤمنون قلة، والكفار كثرة، أنزل الله نصره على الذين آمنوا، وأمدهم بألوف من الملائكة تنزل فوجاً بعد فوج، فيثبت بهم قلوب الذين آمنوا، ونصرهم على أعدائهم. ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)) هؤلاء أعداء لله، وهؤلاء قد يصولون ويجولون، وقد يقتلون المؤمنين، بل وقد يقتلون الأنبياء، وتلك معركة ينال الكفار منا فيسقط من يسقط شهيداً، وننال منهم فننال العزة والنصر، ولكن أين مصيرهم؟ غضب الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:21]، ليس المؤمنون فقط هم الذين يقتلون، بل الأنبياء أيضاً قد يقتلون، {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ} [آل عمران:21] أي: يأمرون بالعدل، وتنفيذ حكم الله وشرع الله. فلا تظنوا الذين يسقطون الآن لأنهم يطالبون بحكم الله أنهم ظالمون، كلا، رب العزة يقول في هؤلاء الذين يقومون بهذه الأعمال التي تسميها الدول خيانة عظمى، وهي كذلك في ميزان الله، ولكنهم يخونون الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:22]. ثم قال بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران:23]، أي: بقية اليهود والنصارى الذين عندهم بقية من كتاب {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [آل عمران:23]، وإلى منهج الله ودين الله فيقفون في صف الأعداء، وكان الأحرى بهم أن يقفوا في صف خاتم الرسل الذي جاء امتداداً لموسى وعيسى عليهما السلام. {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23]، حجتهم إنما هي ترهات، وأباطيل، وكذب {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:26 - 25]، بمقدار ما يعظم ربنا في صدورنا، وبمقدار ما نؤمن بقدرته وعظمته وقيوميته وحياته، وبمقدار ما نتوكل عليه، ونعتمد عليه، ونعلم أنه يفعل ما يشاء، ويقدر على ما يشاء، بمقدار ما نستطيع من تحقيق هذه الأمانة، وتفجيرها في واقع الحياة، وجعلها هي السائدة في الوجود.

ملك الله يؤتيه من يشاء

ملك الله يؤتيه من يشاء والله تبارك وتعالى يبين لنا شيئاً من قدرته، وشيئاً من عظمته؛ لنعيش في الأرض وقلوبنا معلقة بخالق الوجود، ورب الأرض والسماء، لا بأمريكا، ولا بريطانيا، ولا فرنسا، ولا مجلس الأمن، ولا أي قوة في الأرض {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]، ذلك ربنا، وإلهنا، وسيدنا، وواضع منهجنا وطريقنا، فمن له حاكم كحاكمنا؟ ومن له سيد كسيدنا؟ إذا لجأ الناس إلى قوى الأرض، ولجأ المؤمنون إلى ربهم، فإنه يزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، ويخسف بهم من السماء، ويزيلهم من الأرض؛ لأنه قادر على ذلك كله، وقد فعل بأسلافنا من قبل مثل هذا، فأعزهم ونصرهم، ودانت لهم الدول، وكان ذلك واقعاً حياً مشهوداً. ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ))، لا يظن الناس أنهم يحصلون الملك بمشيئتهم، فالله تبارك وتعالى هو الذي يؤتي الملك، وهو الذي ينزع الملك؛ أمة مقهورة يصبح جنابها عالياً، كانت لا ذكر لها في التاريخ، ولا يؤبه لها، ثم آتاها الملك، ثم ينزع الله الملك بعد أن تعلو وترتفع ويصبح لها سلطان كبير، ويزيل الله تبارك وتعالى ملكها: ((وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)). وكم حكى لنا التاريخ عن أقوام عزوا وبزوا، ثم ذلوا وهانوا، والله تبارك وتعالى هو المعز وهو المذل: ((َتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) هذا فعله في البشر، وهو الذي يفعل في الكون {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27]. فإذا التجأ الناس إلى الله، وأقاموا حياتهم على منهجه، فالله تبارك وتعالى يؤتيهم الملك ويعزهم، ويذل أعداءهم، وينزع منهم الملك، فالله تبارك وتعالى هو الحاكم في كونه، والحاكم في خلقه تبارك وتعالى، وعندما نفقه كتاب الله يضعنا كتاب الله في الإطار الصحيح، ويقيمنا على المسار الصحيح، فيبني نفوسنا وعقولنا، ويهذب طباعنا، ويصحح سلوكنا، ويصبح الإسلام منهجاً لحياتنا؛ فنعرف طعم الحياة في ظلال الإسلام على منهج الله تبارك وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أسباب الانحراف عن الاستقامة

أسباب الانحراف عن الاستقامة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. إن من أعظم ما يحرف مسار الفرد بل مسار البشرية عن الاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى هو ما ركب في الإنسان وفي البشر من شهوات، ينحرف الإنسان إذا ما استولت الشهوات على نفسه، أو عندما يقوم شياطين الإنس والجن ليوقعوا البشرية في حمأة الرذيلة والفسق والفساد، وإن أعظم سلاح يواجه به أعداء الإسلام المسلمين أن يحطموا عقائدهم وأخلاقهم بأن يجعلوهم يرتعون في الشهوات. في حروب صلاح الدين عندما رأى الصليبيون الجدار الصلب الذي يملكه صلاح الدين من القوة التي بناها الإسلام، وغذاها الإيمان أرادوا أن يحطموا ذلك، فجاءوا بمئات من فتياتهم ووضعوهن في معسكرات قرب معسكرات المسلمين؛ ليحطموا الأخلاق، ويحطموا الرجال؛ فتهتز العقيدة، ويهتز الإيمان، فتتبدل الغاية، وعند ذلك يسهل عليهم أن يقتنصوا المسلمين، ولكن صلاح الدين علم بالمؤامرة واحتاط لها، وهي الفعلة نفسها التي يفعلها أعداؤنا بنا في هذه الأيام لتحطيم الشخصية الإسلامية، والعقيدة الإسلامية، والخلق الإسلامي. زينوا للمرأة أن تخرج من بيتها متكشفة ومتهتكة، ومتبرجة، وأرسلوا فتياتهم إلينا على وصف أبلغ من هذا، فذهب شبابنا إلى ديارهم التي يسودها جو من الإباحية النتن القذر، كل ذلك ليغرقونا في حمأة الرذيلة، والإنسان مزين في نفسه حب الشهوات، والإسلام يريد من أتباعه أن يرتفعوا فوق هذا المستوى، وأن يستقيموا على منهج الله {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]، هذا هو متاع الدنيا: أموال، زروع، قصور، مراكب فارهة، هذا متاع الحياة الدنيا. ثم يعرض الله تبارك وتعالى صورة أخرى لا للمتاع، ولكن لنعيم الآخرة، وهو لا يسمى متاعاً، فإن ما في الدنيا من زينة يسمى متاعاً؛ لأنه يتمتع به ثم يزول ولا يبقى، أما نعيم الآخرة فلا يتوقف ولا ينتهي، ولا يتلاشى قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15]، هذا هو نعيم الآخرة في جانب متاع الدنيا العارض الزائل الذي لا يدوم، وهو شيء تافه يسير بالنسبة لنعيم الآخرة، وليس معنى ذلك أن الإسلام يقول لك: انزع الشهوات من قلبك وعش راهباً. فالإسلام جاء بمحاربة الرهبانية، لكنه وضع ضوابط للشهوات، أحل الزواج وحرم الزنا، وحرم اللواط، ووضع حدوداً للزواج، فيحل أن يتزوج الرجل من امرأة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع فلا يزيد، ولا يحل له أن يتزوج من كافرة، فقد وضع الإسلام منهجاً فلا تتعد منهج الله، ولا تحرم ما أحل الله. وكذا المال شرع لك الطرق التي تمكنك من أن تستفيده منها، وحرم عليك أن تأخذ المال من طريق الربا، وأن تأخذه من طريق الرشوة، وأكل مال اليتيم، وأكل مال الناس بالباطل، وحرم عليك الإسراف، وأمرك بالاعتدال؛ فالله لم يحرم علينا هذه الزينة {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، لكن الإغراق فيها، وأخذها من حيث لا تحل، ونسيان أنك عبد لله تبارك وتعالى هذا هو المرفوض في دين الله وفي منهج الله. فإذا ما استقام المسلمون عرفوا حقيقة الحياة، وكيف يأخذونها، وكيف يكونون في هذه الحياة، وكيف يسيرون بمنهج الله تبارك وتعالى؛ عند ذلك يستقيم أمرهم، ولا يجد أعداؤهم طريقاً إلى أنفسهم، فيكونون أولياء لله، وأولياء للإسلام، وأولياء للمؤمنين، يقيمون أنفسهم بهذا المنهج، ويستقيمون على هذا المنهج؛ فيعزهم الله تبارك وتعالى بالإسلام، ويعز الإسلام بهم، وتعود المسيرة الإسلامية التي اضطربت في أيامنا الأخيرة اضطراباً شديداً في مواجهة أعداء الإسلام؛ فذل المسلمون وهانوا، فليعودوا مرة أخرى إلى الاستقامة على الطريق، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يكون ذلك قريباً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

عالم الجن

عالم الجن إن عالم الجن من العوالم الغيبية التي يحب على المؤمن الإيمان بوجودها، وقد جاء القرآن والسنة بذكر الجن، وأن منهم الصالح والطالح والمؤمن والكافر، وهم يأكلون ويشربون، غير أن لهم صفات تخصهم عن غيرهم، وهم في الغالب أعداء لبني البشر وعداوتهم مستمرة إلى يوم القيامة.

تعريف عالم الجن

تعريف عالم الجن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فحديثنا اليوم عن عالم الجن، وعلماء العقائد يلحقون الحديث عن الجن ببحث الملائكة، لأن هناك نوعاً من الشبه بين البحثين، وحتى يتميز الملائكة وهم عالم غيبي عن عالم الجن. إن الحديث عن الجن أمر مقرر لا بد منه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك، فهو جزء من الغيب الحقيقي الذي يجب أن نؤمن به، فنحن مطالبون بأن نؤمن بالغيب لكن ليس غيب الخرافة والدجل، إنما الغيب الذي أخبرنا به الله سبحانه وتعالى: كالجنة، والنار، واليوم الآخر، والملائكة، ومن جملة ذلك عالم الجن. ومما يوجب معرفة هذا العالم أن خفاءه وعدم معرفة الناس به معرفة حقيقية يوقع الناس في كثير من اللبس والخرافات والانحرافات التصورية والعقائدية كما سيتبين معنا في أثناء هذه الدراسة، وهذه الدراسة عن الجن تعتبر دراسة موسعة أرجو أن يكون من ورائها الخير إن شاء الله. والجن عالم من العوالم التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وهي مدركة عاقلة كالبشر، والعوالم العاقلة التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى بها ثلاث: البشر، والملائكة، والجن، وقد سموا جناً لاجتنانهم؛ وهو الاستتار، فنحن لا نراهم كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، وقد علمنا أن البشر خلقوا من طين، والملائكة من نور، أما الجن فقد خلقوا من نار. والملائكة لم يخبرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن أنهم خلقوا من نور إنما أخبرنا النبي في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم، أما الجن فقد جاءت نصوص كثيرة تبين المادة التي خلقوا منها، فقد قال جل وعلا: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27]، وقال سبحانه: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15]، ومارج النار هو طرف اللهب، وبعض العلماء يقولون: مارج من نار، أي: من أحسن اللهب وأصفاه، ولكن الحقيقة أن (مارج من نار) هو اللهب المختلط بسواد النار كما فسره النووي رحمه الله.

أسماء الجن وأصنافهم

أسماء الجن وأصنافهم يطلق الناس -منذ القدم- على الجن أسماء مختلفة وهي في الحقيقة واحدة، فيقولون: الجن، وقد يكون هذا الجني من الذين يسكنون مع الناس في بيوتهم، فيسمونهم عماراً، فإذا كان يتعرض للأولاد والصبيان فإنهم يسموه أرواحاً، فإذا كان خبيثاً سيئاً يسمونه شيطاناً، فإذا كان هذا الشيطان عاتياً متمرداً فإنهم يسمونه عفريتاً، وكلها أسماء متقاربة. هذه مراتب الجن من حيث أسمائهم، أما من حيث خلقهم فقد صنفهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أصناف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون) أي أنهم قبائل وعشائر.

مراتب الجن في الصلاح والفساد

مراتب الجن في الصلاح والفساد للجن مراتب في الصلاح وفي الفساد، فمنهم المستقيمون الصالحون الطيبون، ومنهم الكفرة المجرمون، ومنهم العصاة المذنبون، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى حكاية عن الجن الذين استمعوا للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11] أي: جماعات ومذاهب ونحل مختلفة وفي آية أخرى يقولون: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14 - 15] فمنهم المسلمون ومنهم الكفار.

حكم من أنكر الجن

حكم من أنكر الجن لا يجوز بحال من الأحوال أن ينكر مسلم عاقل الجن ثم يدعي الإسلام؛ لأنه ليس هناك مجال لإنكارهم بحال من الأحوال، والمشركون وكثير من الفلاسفة الذين لا يؤمنون بالإسلام بل حتى من نسميهم فلاسفة الإسلام يقولون: إن الجن المراد بهم: أرواح، وبعض العقلانيين من الفلاسفة المسلمين وبعضهم من المحدثين يقولون: المراد بالجن نوازع الشر في النفس الإنسانية وقواه، كما أنهم يقولون: إن المراد بالملائكة النوازع الخيرة الموجودة في النفس الإنسانية، ومن الغريب أن بعض الناس أيضاً يقول: الجن هم ما كشف عنه العلم الحديث من الميكروبات والجراثيم، فالجن الذين كلفهم الله بعبادته وأمرهم ونهاهم المراد بهم الميكروبات والجراثيم الموجودة في جسم الإنسان أو في بعض المخلوقات على زعمهم ومن المحدثين الدكتور محمد عبده في تفسيره لسورة النور يرى أن المراد بالجن الملائكة، فليس هناك عالم اسمه عالم الجن مخالف لعالم الملائكة، فالجن هم الملائكة على حد زعمه. ومنهم من يلحق البشر الذين يتسترون بأفكارهم ومعتقداتهم كالمنافقين بعالم الجن، وهذا خطأ، ومن تأمل في آيات القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن الجن خلق آخر غير الملائكة وغير البشر.

الأدلة على وجود الجن

الأدلة على وجود الجن الأدلة على وجود عالم الجن بهذه الصفات التي تحدثنا عنها سابقاً كثيرة منها: أن هذا أمر قد أجمعت عليه الأمم، يقول ابن تيمية: ولم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا بأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن يعني: أن غالبية الكفار يثبتون الجن، وقد يثبتونهم باسم الجن أو باسم آخر، وفي عصرنا يكاد الناس في العالم الكافر المادي يؤمنون بوجود أرواح ويسمونهم بالأطباق الطائرة، ولهم تسميات مختلفة، لكن الجميع يؤمن بوجود عالم آخر غير منظور من غير البشر موجود. وأهل الكتاب اليهود والنصارى يقرون بهم كإقرار المسلمين، وقد يوجد طوائف من اليهود والنصارى ينكرونهم كما وجد طوائف من المسلمين ينكرونهم، لكن الغالبية العظمى يقرون بهم ولا ينكرونهم؛ لأن الأنبياء والرسل جميعاً أجمعوا على هذا، وأخبروا بوجود عالم آخر غير عالم الإنس وغير عالم الملائكة يسمى عالم الجن، فالذين عندهم بقية من دين الأنبياء والرسل بل وغيرهم ممن تأثروا بهم وبما عندهم يقرون بوجود عالم الجن. وبالنسبة للمسلمين فقد وردت نصوص قرآنية كثيرة تثبت وجود الجن منها: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1]، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، وستأتي جملة من هذه النصوص في أثناء البحث. ومنها: أن كثيراً من الناس استطاع أن يلتقي بالجن بطريقة ما، فهم ليسوا مثل الملائكة قلما يراهم الناس، ففي كل عصر من العصور هناك عشرات من الناس رأوا الجن، ومئات من الناس الثقات يروي لك أنه قد حصل لقاء بينه وبين الجن بصورة ما، كأن يتشكلوا أو يكون بينه وبينهم حديثاً، وإما أن تحدث أشياء قد نراها غريبة وعجيبة تدل على أن هناك عالماً آخر غير منظور. ومما يرد على الذين قالوا: أن عالم الجن هم عالم الملائكة اختلاف الأصل، فالملائكة خلقوا من نور، والجن خلقوا من نار بنص القرآن وبنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

الغاية من خلق الجن

الغاية من خلق الجن الجان خلقوا قبل الإنسان قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:26 - 27]، وبعض العلماء يقولون: خلقوا قبل الإنسان بألفي عام، وهذا لا دليل يدل عليه. وقد خلقوا بنص القرآن لعبادة الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهم مخلوقون لطاعة الله يأمرهم وينهاهم ويكلفهم بأمور اعتقادية وعملية. والدليل على أنهم مكلفون بهذه المهمة: أن الله سبحانه وتعالى سيسألهم ويحاسبهم يوم القيامة، ويقول لهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130].

مصير الجن في الآخرة

مصير الجن في الآخرة الجن يوم القيامة معذبون ومنعمون يدخلون الجنة ويدخلون النار، فمؤمنهم يدخل الجنة وكافرهم يدخل النار؛ بدليل قول الله سبحانه وتعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف:38]، وهذا نص صريح بأنهم مكلفون؛ لأنهم معذبون، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179]، وقال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]. وكفار الجن يدخلون جهنم بإجماع علماء السنة، ولم يخالف أحد في ذلك، وخالف بعض العلماء بالنسبة لدخولهم الجنة، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47] والخطاب للجن والإنس. يقول ابن مفلح وهو من علماء الحنابلة: الجن مكلفون في الجملة إجماعاً -بدون خلاف-، ويدخل كافرهم النار إجماعاً، ويدخل مؤمنهم الجنة وفاقاً لـ مالك والشافعي، فالحنابلة والشافعي والإمام مالك يقولون: مؤمنو الجن يدخلون الجنة، وبعض العلماء يقولون: إن المؤمن من الجن يصير تراباً كالبهيمة بعد الحساب، وثواب مؤمنهم هو النجاة من النار، وهذا قول أبي حنيفة والليث بن سعد وغيرهما. قال: والظاهر أنهم في الجنة كغيرهم بقدر ثوابهم خلافاً لمن قال: لا يأكلون ولا يشربون، لأن بعضهم قال: يدخلون الجنة لكن لا يأكلون ولا يشربون، وهذا قول مجاهد، وبعضهم قال: إنهم في ربض الجنة أي حول الجنة، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، والصحيح أن الجن والإنس منهم المعذبون ومنهم المنعمون، فالمعذبون يدخلون جهنم، والمنعمون يدخلون الجنة. لكن هل التكاليف الموكلة إلى الجن ونفس التكاليف الموكلة للإنس؟ لا، كلهم مكلف، لكن ليس بنفس الأشياء، وليس بنفس الصفات؛ لأن لهم خلقة تختلف عن خلقتنا، فتكاليفهم بحسب خلقتهم. يقول ابن تيمية: الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوياً لما على الإنس في الحد، لكنهم يشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم. إذاً: الجن يشاركون الإنس في التكاليف، لكن ليس بنفس التكاليف وبنفس الصفة التي كلفنا بها، وبعض الزنادقة الذين لا يخافون الله يوردون شبهة فيقولون: كيف يعذب الجن في النار وهم من النار؟ يلبسون بهذا على بعض الناس الذين لا علم عندهم. و A أن الجن خلقوا من النار ولكنهم فيما بعد أصبحوا خلقاً آخر ليس هو النار، وإنما مخالف للنار تماماً، كالبشر فهم مخلوقون من طين ثم فيما بعد أصبحوا بشراً، فالإنسان ليس هو الطين، فأصله من الطين لكنه مغاير الآن للطين بحيث لو أخذنا لبنة من الطين وضربنا بها رأس إنسان فإنها قد تقتله، ولو حفرنا حفرة لإنسان ودفناه في التراب فإنه يموت، ولا يقول أحد: إن التراب لا يضره؛ لأنه مخلوق من تراب، كذلك الجن أصلهم من النار ولكن النار تؤذيهم كما أن البشر يؤذيهم التراب.

الرد على زعم الكفار أن بين الله والجن نسبا

الرد على زعم الكفار أن بين الله والجن نسباً ويزعم الكفار أن هناك نسب بين الجن وبين رب العزة سبحانه وتعالى وهذا من الخرافات العقائدية التي نشأت بسبب عدم معرفة الناس معرفة صحيحة بالجن، فمشركو العرب كانوا يزعمون أن الله سبحانه وتعالى تزوج من سروات الجن يعني: من الأسر ذات النسب العريق في الجن، وكان ثمرة هذا الزواج الملائكة، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الصافات: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158] أي: بين الله وبين الجن نسب {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:158 - 160] يقول مجاهد وهو من أئمة تفسير الأثر: قال المشركون: الملائكة بنات الله تعالى الله عما يقولون، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهم؟ أي: الملائكة؟ قالوا: بنات سروات الجن. يعني: أمهات الملائكة بنات سروات الجن.

كيفية تبليغ الله للجن تشريعه ووحيه

كيفية تبليغ الله للجن تشريعه ووحيه كيف يبلغ الله الجن وحيه وتشريعه؟ وهل لهم رسل منهم أم أن رسلهم من البشر؟ علماء السنة لهم قولان في هذه المسألة، وبالإجماع أن الجن لهم رسل بدليل قول الله سبحانه وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، وهذه الآية لا يستطيع أحد الطرفين أن يقول: هي نص له أو هي حجة قاطعة معه؛ لأنها محتملة، فقوله: (ورسل منكم) قيل: أي: رسل من الجن ورسل من الإنس، والطرف الآخر يقول: إذا كان للجن رسل من الإنس فقد سبق أن لهم رسلاً منهم، فالآية محتملة وليست محكمة في هذه القضية. وابن الجوزي وابن حزم يقولان: ليس للجن رسل من البشر إلا رسول واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع علماء السنة أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول إلى الجن والإنس، أما أن للجن رسلاً من الإنس فهذا هو قول غالبية العلماء من الصحابة ومن بعدهم. ومما يرجح أن رسل الجن من الإنس قول الله سبحانه وتعالى حكاية عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] فهم يحكون عما سمعوا من القرآن وقد كانوا يعرفون كتاب موسى، فهذا يستأنس به أن رسلهم من الإنس. وهذه المسألة لا يبنى عليها قضايا خطيرة في الدين؛ ولذلك لا ينبغي العناية ببحثها كثيراً.

إجماع المسلمين على رسالة محمد للجن والإنس

إجماع المسلمين على رسالة محمد للجن والإنس النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع أنه مرسل إلى الجن ومرسل إلى الإنس، يقول ابن تيمية: وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف أهل السنة والجماعة. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، فهم يتحدون بالقرآن كما أن الإنس يتحدون بالقرآن، وكذلك قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2]، وقوله تعالى في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29 - 32]، فهؤلاء الجن سمعوا القرآن وآمنوا به ثم ذهبوا يبشرون قومهم وينذرونهم، وهذا يدل على أنهم ملزمون بذلك.

لقاء النبي بالجن

لقاء النبي بالجن روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ -وهذا قبل الهجرة- وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، -أي: زادت حراسة السماء وكثر رمي الشياطين بالشهب- وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، -أي: أنه كان من نصيب مجموعة منهم أن تأتي إلى المكان الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم فيه- يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فذلك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:1 - 2] وأنزل الله على نبيه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1]). فهذه بداية معرفة الجن بالرسول صلى الله عليه وسلم وخبره، ثم بعد أن تسامع الجن وعرفوا بأن هناك نبياً قد أرسل جاءت وفود الجن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه الهدى والإيمان وشريعة الله سبحانه وتعالى. وقد روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أنه سأله أحد أصحابه فقال: (هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ - علقمة يسأل ابن مسعود - فقال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا: اغتيل أو استطير! قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان وجه الصبح أو قال: في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فذكروا له الذي كانوا فيه، فقال: إنه أتاني داعي الجن - أي: جاء واحد موكل من الجن إلى بيته وقال: يا رسول الله! وفود الجن في مكان كذا تنتظرك لكي يتعلموا منك- فأتيتهم فقرأت عليهم، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم) وفي رواية عند الطبري عن ابن مسعود: (بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون) والحجون مكان معروف بمكة. ومما قرأه عليهم صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد قرأتها -يعني سورة الرحمن على الجن- ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) رواه البزار والحاكم وابن جرير بإسناد صحيح. ولم تكن هذه الليلة هي الليلة الوحيدة التي قابل الرسول صلى الله عليه وسلم فيها وفود الجن ومن أحب المزيد فليرجع إلى تفسير ابن كثير لسورة الأحقاف، فقد ساق الروايات التي تتحدث عن مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفود الجن، ومنها الحديث الذي يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أنه جاءه وفد من الجن فمدحهم وقال: (نعم الجن) وتوجد أحاديث كثيرة جداً ساقها ابن كثير في ذلك الموضع. وابن عباس يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقابل وفود الجن، وهذه من الحجج التي اعتمد عليها الدكتور محمد عبده، يقول ابن عباس: إن الرسول لم يقابل الجن مع أن ابن عباس لا ينكر الجن، ولا ينكر أنهم استمعوا للرسول، ولكن ينكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قابلهم، والقاعدة عند علماء السنة: من حفظ حجة على من لم يحفظ. وابن مسعود ليس في الحفظ بأقل رتبة من ابن عباس بل هو في حفظ الأحاديث مقدم على ابن عباس؛ لأنه صحب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عباس صغير. وابن مسعود صحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إحدى الليالي فهو يحدث عن رؤيا ومشاهدة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذهم وعبد الله بن مسعود معهم وأراهم مكان آثارهم ومكان نيرانهم. ومن الروايات التي يستحسن أن تذكر هنا: أن أهل الجاهلية كان هذا مقرراً عندهم، ومما له صلة بالموضوع أن أحد الصحابة واسمه سواد بن قارب كان كاهناً في الجاهلية، فمر سواد بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيام خلافته، فدعاه عمر وسأله عن أعجب ما جاءته به جنيته -أي: عندما كان كاهناً في الجاهيلة -قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني -يعني: الجنية- أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها، ويأسها بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها. ألم تر الجن وإبلاسها، يعني: أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أحدثت حيرة عندهم، وأصبح عندهم يأس وضعف ومسكنة، حتى هامت على وجوهها في البوادي. قال عمر: صدقت، ثم يقول: بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه -يبدو أن هذا الجني كان مؤمناً، يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، قال: فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم علم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي. هذه الرواية في الصحيح، والصحيح أن القصة كلها عن سواد بن قارب، وبعض المحدثين يجعل الرواية الثانية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن كثير حقق المسألة وقال: الصحيح أنها كلها عن سواد بن قارب.

طريق معرفة الجن

طريق معرفة الجن ليس هناك من سبيل هو أقوم وأقوى في معرفة الجن من دراسة الكتاب والسنة، وأخذ المعلومات الموجودة في الكتاب والسنة عن الجن، وبعض الناس يقولون: لا ينبغي أن نبحث في قضايا الجن، فـ سيد رحمه الله في الظلال أحياناً كان يقول: لا أحب أن أتعمق في دراسة هذا البحث، وصحيح أنه لا يجوز أن نتعمق فيه بعقولنا، لكن لا مانع من دراسة النصوص التي تؤدي بنا إلى معرفة هذا العالم، فدراسة هذا الأمر بعقل مجرد خطأ، لكن جمع النصوص عنهم ودراستها أمر علمي سليم ليس فيه شيء. فأول شيء النصوص، ثم المشاهدات وخاصة مشاهدات الثقات، وعلماء السنة الكبار لهم مشاهدات في هذا الأمر متواترة، كـ الأعمش رحمه الله في رواية يقول ابن كثير عن إسنادها: سألت عن هذا الإسناد شيخنا الحافظ المزي فقال: هذا الإسناد صحيح إلى الأعمش، يعني: أن الرواية عن الأعمش سليمة صحيحة، يقول الأعمش: تروح إلينا جني-أي: جاء يزورني -فقلت لهم: ما أحب الطعام إليكم؟ قال: الأرز، قال: فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحداً، فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا، أي: هل عندكم من هذه الفرق المختلفة مثل الرافضة والخوارج وما أشبه ذلك؟ قال: نعم، قلت: فما الرافضة فيكم؟ قالوا: شر. ثم قال: وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن يحيى الدمشقي قال: سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي في الليل ينشد: قلوب براها الحب حتى تعلقت مذاهبها في كل غرب وشارق تهيم بحب الله والله ربها معلقة بالله دون الخلائق وكثير من الناس الذين نعرفهم يذكرون أشياء من هذا القبيل، فالجن لا نراهم ولكن هناك بعض الأحياء يرون الجن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنهم يرون ما لا ترون) فالديكة يرون الملائكة، والكلاب والحمير يرون الشياطين.

العلاقة بين الشيطان والجان

العلاقة بين الشيطان والجان ما العلاقة بين الشيطان والجان؟ الصحيح أن الشيطان الذي حدثنا الله عنه من عالم الجن، ومجمل ما في القرآن عن الشيطان أنه كان في بداية أمره مخلوق صالح يعبد الله سبحانه وتعالى مع ملائكة السماء، ودخل الجنة وعصى ربه سبحانه وتعالى عندما أمره بالسجود لآدم، فرفض حسداً وكبراً، فطرده الله سبحانه وتعالى من رحمته. والشيطان في لغة العرب يطلق على كل عاتٍ متمرد، وقد أطلق على هذا المخلوق لعتوه وتمرده على ربه، وأطلق الله عليه لفظ الطاغوت، قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء:76]، فالشيطان طاغوت، وكل إنسان يدعو إلى هذه الدعوة طاغوت؛ لأنه أيضاً متمرد عاتٍ، لكن الطاغوت الأكبر الشرك. ومن الطريف أن العقاد في كتابه إبليس يقول: إن من الأسماء الشائعة عند كل الأمم لفظ إبليس يعني أنه ليس عند المسلمين فقط بل هو معروف عند اليهود والنصارى وغالبية أمم الأرض فإنهم يطلقون على الشيطان إبليس، وسمي إبليس من البلس وهو اليأس؛ لأنه يئس من رحمة الله سبحانه وتعالى، ويذكر بعض علماء السنة أن الشيطان كان قبل أن يكفر اسمه عزرائيل والله أعلم بمدى صحة هذا الكلام، فإنه لم يرد به حديث صحيح، وإنما هو كلام قد يكون مأخوذاً عن الإسرائيليات. والشيطان مخلوق عاقل أي مدرك، وبعض الناس اليوم يفلسف الأمور ويقول: الشيطان هو روح الشر المتمثلة في غرائز الإنسان الحيوانية التي تصرفه إذا تمكنت من قلبه عن المثل الروحية. وغير صحيح أن الشيطان يلعب بغرائز الإنسان، لكنه مخلوق عاقل مفكر واعٍ مفصح. وبعض العلماء يرى أن الشيطان ليس من الجن، وإنما هو في الأصل من الملائكة ولكنه عصى الله سبحانه وتعالى فطرده الله عز وجل، وفي كثير من كتب التفسير أن الشيطان من الملائكة، لكن لم ترد نصوص صحيحة تصرح بهذا، ولكن نقل مثل هذا كثيراً جداً عن بعض علماء السنة، وابن كثير يذكر أن هذا الكلام الذي يقوله علماء السنة وغيرهم إنما هو من الإسرائيليات. وأكبر حجة للذين يقولون بأن الشيطان من الملائكة قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فمن أساليب اللغة العربية أن المستثنى يكون من جنس المستثنى منه، فتقول: جاء الرجال إلا زيداً، فزيد من جنس الرجال، هذه حجتهم، لكن هناك استثناء في اللغة العربية يسمى الاستثناء المنقطع، وهذا الصحيح فيه أنه استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع هو أن لا يكون المستثنى جزءاً من المستثنى منه كما تقول: جاء القوم إلا حماراً، فالحمار ليس من جنس القوم، وكذلك هنا فليس المراد أن الشيطان كان من جنس الملائكة؛ لأن الاستثناء منقطع، والدليل على هذا آية الكهف: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50]، فقد نص على جنسيته وأنه ليس من الملائكة {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]. والشيء الآخر: أن الشياطين والجن مخلوقون من نار بينما الملائكة من نور وهذا فارق آخر. والذي حققه ابن تيمية في هذه المسألة أن الشيطان كان من الملائكة باعتبار صورته وشكله وليس منهم باعتبار أصله. إن آدم أبو البشر فهل الشيطان أبو الجن؟

هل الشيطان أبو الجن؟

هل الشيطان أبو الجن؟ هذه مسألة ليس فيها نص، فآدم أبو البشر كما هو منصوص عليه، أما أن الشيطان أصل الجن أو هو واحد من الجن ولهم أصل غيره فالله أعلم، وقول الله {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50] هذه الآية محتملة أن يكون واحداً من الجن أو أن يكون أصلهم، وابن تيمية يرى أنه أصل الجن كما أن آدم أصل البشر.

العداوة بين الإنس والشياطين

العداوة بين الإنس والشياطين العداء الذي بيننا وبين الشيطان عداء مرير وطويل، ولا يمكن أن ينتهي إلا بانتهاء الحياة، فقد عزم على أن يعادي آدم وآدم لم تنفخ فيه الروح بعد، فإن الله عندما خلق آدم تركه ولم ينفخ فيه الروح فأخذ -كما الحديث الصحيح-: (يطيف به الشيطان ويقول: لئن سلطت علي لأعصينك، ولئن سلطت عليك لأهلكنك) فمن قبل أن يخلق الله آدم وهو يضمر له العداء وهذا الحديث في صحيح مسلم. فعندما نفخ الله في آدم الروح وجد أعظم تكريم يمكن أن يعطى لبشر وهو سجود الملائكة، ولكن في مقابل هذا وجد عدواً بغير ذنب جناه، يعاديه من أول ثانية خلق فيها ألا وهو الشيطان، فقال الله له: هذا عدو لك يا آدم، ومن أول لحظة سأل الله جل وعلا الشيطان: لماذا لم تسجد؟ فقال: أنا خير منه، فقال الله: يا آدم اسكن الجنة ولكن هذا عدوك فاحذر أن يضلك. وعندما طرد الله سبحانه وتعالى الشيطان من رحمته ومن جنته طلب من الله سبحانه وتعالى أن ينظره إلى يوم القيامة {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:37 - 38]، وعند ذلك قطع على نفسه عهداً بأن يضل بني آدم: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17]، وقال له الله سبحانه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64]، ثم حذرنا الله سبحانه وتعالى كما حذر آدم من الشيطان فقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:27]، وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، وقال: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:119]. ومن الغريب أن علماء الأخلاق حتى من المسلمين وعلماء النفس يركزون جهودهم على عيوب النفس وشرور النفس وبلايا النفس ويتناسون الشيطان الذي يحرك الوساوس ويثير الغرائز الكامنة، فلا يوجد في القرآن تحذير من النفس، وإنما وجد في ذلك استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم من شر النفس: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، أما الشيطان الخفي العدو اللدود الخبيث فخذ ما شئت من تحذيرات القرآن منه، ثم تجدون عناية كثير من العلماء بالنفس عناية فائقة جداً، فكم من عالم كبير في النفس ألف كتابين وثلاثة وأربعة وخمسة عن النفس، وقل من تحدث عن قضية مداخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ووسوسته وكيف نتخلص من وسوسته، بينما هو أخطر بمئات المرات من النفس الإنسانية، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من مراجعة في هذا الجانب بحيث يكون المسلم عنده بصيرة في عدوه؛ لأن هذا العدو لا يريد أن يقطع رأسي فهذه مسألة سهلة، لكنه يريد أن يدخل الإنسان جهنم خالداً مخلداً، لا يرضى بدون هذا، فالمسألة ليست مسألة موت وحياة بل هي أخطر من ذلك؛ لأنها مسألة خلود في النار.

صورة الشيطان

صورة الشيطان أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن الشيطان أنه قبيح الخلق والنصوص توحي بهذا، ولذلك شبه الله شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم برءوس الشياطين فقال: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:64 - 65] طلعها أي: ثمرها، وما شبهه بهذا التشبيه إلا لأنه في شكل قبيح، وقبح صورة الشيطان مغروسة في ذهن الإنسان، كما أن حسن صورة الملائكة مغروسة في أذهاننا. ونحن نعرف أن النصارى لهم رسمة للشيطان، فهم يصورون الشيطان على هيئة رجل أسود، ذي لحية مدببة، وحواجب مرفوعة، وفم ينفث لهباً، وقرون، وأظلاف، وذيل، وهذه صورة تخيلها النصارى من قديم، ولا تزال مطبوعة في أذهانهم إلى اليوم، لكن هذا غير صحيح، فما أحد رأى الشيطان وإنما هو محاولة تقليد.

إثبات أن الجن يأكلون ويشربون

إثبات أن الجن يأكلون ويشربون الجن والشياطين يأكلون ويشربون، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأتيه بأحجار يستجمر بها بعد أن يقضي حاجته وقال له: لا تأتني بعظم ولا روث) وبعد أن انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم من حاجته سأله: (لماذا العظم يا رسول الله والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد المسلمين، ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاماً) فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الاستجمار بهذا؛ لأنه إفساد لطعام الجن، فكيف بالذي يفسد طعام الإنس؟! ومهما يدل على أنهم يأكلون ويشربون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل بالشمال مخالفة للشيطان؛ لأنه يأكل بالشمال. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أكل بشماله أكل معه الشيطان)، والذي يدخل بيته ويقول: باسم الله فإنه يحرم الشيطان من المبيت، وإذا قال عند الطعام باسم الله فإنه يحرم الشيطان من العشاء. وطعام الجن المؤمنين ما ذكر عليه اسم الله من العظام، وطعام الجن الكفار ما لم يذكر اسم الله عليه، فإذا قلت: باسم الله فإن الشيطان يهرب، وإذا نسي الإنسان ولم يقل: باسم الله فإن الشيطان يأكل معه، ولذلك قال بعض العلماء: إن الميتة طعام الجن، وقد استنتج ابن القيم رحمه الله من قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] أن المسكر شراب الشيطان، فهو يشرب من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره وشاركهم في عمله فيشاركهم في شربه وإثمه وعقوبته.

حقيقة التزاوج بين الجن وزواجهم من الإنس

حقيقة التزاوج بين الجن وزواجهم من الإنس يقول الله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، فنساء الجنة لم يطمثهن إنس ولا جن، ومما يلحق بالزواج قضية تحدث عنها العلماء وهي: هل يقع الزواج بين الإنس والجن؟ فـ السيوطي رحمه الله يذكر أخباراً عن مجموعة من السلف أنهم حصل في زمانهم مثل هذا، وأنه وقع تناسل بين الإنس والجن، يقول ابن تيمية: وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد، وهذا كثير. لكن على فرض أن هذا ممكن أن يقع فالعلماء يكرهونه ولا يحبذونه، فالإمام مالك رحمه الله يقول: لا يوجد دليل ينهى عن مناكحة الجن غير أني لا أستحبه، لأني أكره إذا وجدت امرأة حامل فقيل: من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد، وبعضهم قالوا: إنه حرام لا يجوز؛ لأن الله يقول: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل:72]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، فلو وقع فقد يكون في التآلف بينهم صعوبة، والحقيقة أن هذا شذوذ، والشاذ لا يسأل عن هذا الحكم، وأحياناً يجبره الجن على هذا بدون اختياره وبدون إرادته. فالمسألة لا تحتاج إلى حكم شرعي؛ لأن الذي يبتلى بهذا في غالب الأحيان لا يكون باختياره وإرادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

العوائق في طريق التغيير

العوائق في طريق التغيير إن حال العالم الإسلامي يمر في حالة ضعف وتدهور، حتى طمع فيه اليهود والنصارى؛ فكان لا بد من مسيرة جادة تعيد الحق إلى نصابه، وتعيد المسلمين إلى القيادة، وذلك بأن يتجنبوا الأخطاء والمزالق والعثرات التي تعيق المسيرة الإسلامية.

مأساة العالم الإسلامي

مأساة العالم الإسلامي الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة! عندما نلقي نظرة فيها شيء من العموم على ديار المسلمين وبلاد المسلمين نرى حالاً لا يسر. منذ عهد ليس بالقريب ونحن نعاني من أمراض خطيرة، كان من نتائجها أن ضعف عالمنا الإسلامي وتمزق وتجزأ، وأصبحنا كما نرى في أيامنا هذه بلا راعٍ، وأمماً شتى مجزأة، حتى طمع فينا كلاب الأرض الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وكان لابد من مسيرة أخرى، تعيد الحق إلى نصابه والرمح إلى باريها، وتجعل المسلمين في القيادة مرة أخرى، كما جعلت من أوائل هذه الأمة ورعيلها الأول خير أمة أخرجت للناس، وقد بلغت بعض المسيرات في العالم العربي والإسلامي إلى مستوى جيد، وبعضها تعثر في أول الطريق، ولم تبلغ المسيرة كمالها وغايتها بعد، وكان لذلك أسباب، هذه الأسباب قد تكون مزالق، وقد تكون عوائق، وقد تكون عثرات، وأنا لست في موقف أريد به تجريح جماعة أو وضع اللوم على جماعة دون غيرها، إنما هي أخطاء تراءت لي من خلال النظر في مسيرتنا الإسلامية، أردت تبيينها، وإلقاء الضوء عليها، لعلنا نستطيع تجنب هذه المزالق وهذه الأخطاء، ونحن نجدد في المسيرة دائماً، ونريد بها أن تبلغ غايتها، وأن تبلغ القمة إن شاء الله.

أخطاء ومزالق التغيير

أخطاء ومزالق التغيير

المزلق الأول: التعصب الأعمى للجماعات

المزلق الأول: التعصب الأعمى للجماعات فمن هذه الأخطاء أو هذه المزالق والعثرات التي في التغيير سواء كان في الفرد أو في الأسرة أو في الجماعة أو في الحكم والتطور، كل ذلك بنوع من الشمول. هناك خطأ في بداية التغيير يقع فيه بعض الذين ينصبون أنفسهم دعاة إلى الله سبحانه وتعالى، فإنهم لا يحسنون نقطة البداية، فيكون بناء نفس المدعو بناء خاطئاً، فعندما ندعو جماعة أو فرداً في جماعة إلى الإسلام، ينبغي أن ندعوهم من منطلق إسلامي يربط الفرد بخالقه سبحانه وتعالى. فالإنسان عبد لله سبحانه وتعالى ينبغي له أن يسير إلى الله عز وجل، وأن يخضع حياته ونفسه له سبحانه وتعالى وفق منهج وضعه الله سبحانه وتعالى. فالله الذي خلقه وأوجده وهو الذي أعطاه هذه النعم، هذه هي البداية التي تربطه بالله سبحانه وتعالى، فلا يعبد فرداً أو جماعة من البشر، وإن وصل إلى درجة أن يرتبط فيها بجماعة ما عند ذلك يكون قد عمل عملاً طيباً، وإن لم يرتبط بجماعة أو لم يوفق بها، فسيبقى عبداً لله سبحانه وتعالى، ولن يخرج عن دائرة الإسلام. إن البداية التي تبدؤها بعض الجماعات بقولها: واقع الأمة واقع سيئ حقاً، والواقع السيئ يحتاج إلى تغيير، والتغيير لابد له من جماعة، والجماعة التي تستطيع التغيير هي الجماعة الفلانية، إذاً لابد أن تكون فرداً في هذه الجماعة، فهم من البداية يعبَّدون للجماعة. فالبداية لا تكون بهذا الشكل، ولا بارتباط الإنسان بشيء آخر إلا بدعوة الرسل كلهم قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. وبعض الناس قد يستسهل هذا الأمر، ولكنه في حقيقته فيه نوع من الخطورة، فالذين ينتمون إلى تجمعات لا يحسنون نقطة البداية، يتناسون عند الصدمات وعند المصائب، ولا تفقدهم تجمعاتهم بل يفقدهم الإسلام.

المزلق الثاني: الاعتزال عن الناس

المزلق الثاني: الاعتزال عن الناس وهناك نوع آخر أشد بعداً من النوع الأول، وهو أنَّ بعض الناس يرون أنه لا يجوز أن ينتظم الناس في جماعة. فيقولون: انتهى عصر الخلافة والإمامة، وليس للناس الآن إلا أن يعتزلوا في الكهوف وفي الغابات وتحت الأشجار، وعلى رءوس الجبال حتى يبعث الله المهدي، وعند ذلك يعود للمسلمين أمرهم وشأنهم. فيجعلون الانتماء إلى أي جماعة ما جريمة من الجرائم، ويوردون الأدلة على أن هذا خراب، ويحتجون بحديث حذيفة رضي الله عنه: (كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير) إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليه قذفوه فيها. قلت: فما تأمرني -يا رسول الله- إن أدركتهم؟ قال: إن كان للمسلمين جماعة وإمام فأنت معهم، وإلا اعتزل تلك الفرق كلها) فيقولون: كل هذه التجمعات الموجودة في الساحة التي تدعو إلى الله هي الفرق التي ينبغي أن يعتزلها المسلمون؛ لأنهم دعاة على أبواب جهنم. وبعض الناس اعتزل الآخرين هرباً من حياته أو من وظيفته أو من تدريسه أو من تعيينه، وذهب إلى الكهوف بعيداً عن الناس، ليكف عنهم خيره وشره، ويأكل مما تخرجه الأرض، ويشرب من مائها. فهذا مزلق من المزالق الخطيرة سببه سوء الفهم لما تضمنته نصوص الآيات والأحاديث، فالله سبحانه وتعالى لم يرد منا أن نعتزل الناس إلا عندما يكون أمامنا دعاة على أبواب جهنم، أما إذا كنا لا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي بعض، ونتعاون على البر والتقوى، ونعيد المسيرة الإسلامية مرة أخرى كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما بدأ الإسلام غريباً فتجمع عليه أهله، ثم تصارعوا مع الباطل فصرعوه، فذلك واجب لابد منه.

المزلق الثالث: التغيير بمنهج منحرف

المزلق الثالث: التغيير بمنهج منحرف التغيير لابد أن يكون بمنهج الإسلام، أما إذا كان بمنهج غير إسلامي فهو عبارة عن نقل الناس من باطل إلى باطل، ومن شر إلى شر، فنحن نريد المنهج الذي يريده الله سبحانه وتعالى، فإذا كان منهجاً لا يريده الله سبحانه وتعالى، فليس فيه فائدة. وقد وقع تغيير في عالمنا الإسلامي في هذا القرن قبل سنوات في إيران، فهل هذا هو منهج التغيير الإسلامي الذي يرضى عنه الله؟ فلو بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ورأوا هذا التغيير فإنهم سيقولون: ليس هذا هو المنهج الذي نريد أن نغير به. فالمنهج الذي يرفع البشر إلى مصاف الآلهة، والذي يمتلئ بالأحقاد على تاريخ هذه الأمة ويلعن أولها، والذي يفضل الطوائف المنحرفة على الطوائف الطيبة الخيرة، لا يمكن أن يكون هو المنهج المطلوب والسبيل. إن التغيير بمنهج محرف وبعيد عن كتاب الله وسنة رسوله وعن الضوابط السليمة للإسلام، لا يمكن أن يكون تغييراً صواباً حقاً.

المزلق الرابع: المناقشة في المسلمات

المزلق الرابع: المناقشة في المسلَّمات ومن المزالق أيضاً المناقشة في المُسَلَّمَات: بأن تظهر جماعة وتناقش في مسلمة أصلية أو فرعية كانت مسلمة عبر التاريخ الإسلامي. فالجماعة التي تقول لأفرادها: إن تقبيل المرأة الأجنبية ليس به بأس، تصبح بهذا الحكم مخالفة للأمة بأكملها من قبل ومن بعد. إن وضع المرأة في المجتمع الإسلامي ألا تصل إلى مراكز الدولة، فلا تكون حاكمة للمسلمين خليفة أو نائبة عنه، ولا في مجلس الشورى، فهذه قضية مسلمة. فمن يتبنى أن للمرأة أن تصل إلى أي مستوى في الدولة الإسلامية، فهذا طعن في المسلمات عبر القرون، وهذا مما لا نقاش فيه، ولا يحتاج إلى دليل؛ لأن الأمة الإسلامية كلها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الآن كانت متفقة على هذه الأمور ولم تناقش فيها، والمناقشة في هذه المسألة تجهيل للأمة، وفتح لباب مغلق لم يفتح من قبل، ومعنى ذلك أننا نحن الذين نفهم، ونحن على خير وبقية الأمة كانت جاهلة عبر تاريخها الطويل.

المزلق الخامس: تقديم كلام القائد أو الجماعة على النص الشرعي

المزلق الخامس: تقديم كلام القائد أو الجماعة على النص الشرعي إن جعل كلام الجماعة أو قائدها في درجة أعلى من النص الشرعي يعتبر قضية خطيرة ومزلقاً خطير. فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً، والجماعة صدر عنها قول مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الناس لا يعلمون كل شيء، ولا يبينون ما جاء من عند الله من الذي جاء من عند البشر، فيكون قانوناً عندهم أنه كلما تبنته الجماعة ينبغي أن يؤخذ به ولا يترك منه شيء، فإذا ترك فرد من الأفراد منه جزئية فإنه يخرج عن الجماعة، ولا يصبح فرداً منها، فهذا أمر خطير. مثال ذلك حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر فيه أن كل مال أديت زكاته لا يسمى كنزاً، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] فمن تبنى العقل دون النص، فقال: المال الذي أديت زكاته يسمى كنزاً، فيواجه الأفراد بهذا، فلا يمكن أن تتغير آراؤهم وأقوالهم أبداً، لأنهم ملزمون بأن يتبعوا جميع ما قالته الجماعة، وما صدر عنها، والله سبحانه وتعالى ذم أقواماً قال في حقهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] أي: لم يسجدوا لهم، وإنما اتبعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال. وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لـ عدي بن حاتم عندما قال له: (يا رسول الله! ما عبدناهم. قال: ألم يكونوا يحللون الحرام فتتبعوهم؟ ويحرمون الحلال فتتبعوهم؟ قال: نعم. قال: فتلك عبادتهم). فإذا كان الفرد أو القائد أو الرائد بشراً لا يحيط بالشريعة الإسلامية، ولا يتعمد مخالفتها، بل قد يخطئ أو ينسى، ثم نتبعه ونسير وراءه، ونعلم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف قوله فالمسألة خطيرة، وعندما يجعل كلامه مبدأ عاماً، وأنه لا يجوز الخروج عن الجماعة في جزئية من الجزئيات، يصبح الناس كلهم قالباً واحداً أو قوالب متشابهة.

المزلق السادس: جعل القضايا الجزئية بمثابة الكلية والعكس

المزلق السادس: جعل القضايا الجزئية بمثابة الكلية والعكس ومن المزالق أيضاً ما يسمى بالقضايا الجزئية والكلية، وهذا له جانبان: فبعض الناس يجعل القضايا الجزئية كأنها قضايا كلية، يشغل ليله ونهاره بها، ولا يفهم كليات الإسلام وهي: الأهم والمهم والأقل أهمية إنما يهتم بقضايا جزئية ويثيرها بين الأمة فتصبح هي مشكلات الحياة. وبعض الناس في الجانب المقابل يعلم الجزئيات التي ينبغي أن يلتزم بها في حياته كمسلم في الصلاة والصوم وغيرهما، ثم يقول هذه أمور تافهة، فهذان خطآن في آن واحد. والفصل في ذلك أن المسلم لابد أن يلتزم بهذه الأمور في خاصة نفسه، وفي صلاته وصومه وحجه وكذلك في سلوكه ومظهره، وما الإسلام إلا جزئيات، أما في واقع المسلمين فيقدم الأهم على المهم، فعندما يتحدث للناس ويبين لهم فإنه أولاً يهتم بالأصول فإذا ما استقرت في واقع الحياة، فعند ذلك يمكن أن يبني عليها في الفروع. فإذا وجد إنسان لا يفهم العقيدة، فأنكر عليه لبس خاتم ذهب، وهو مشرك بالله سبحانه وتعالى. أو وجد إنسان لا يصلي فأنكر عليه قضية اللحية، فهذان خطآن في طريقة التعامل مع القضايا الكلية. ومن الأمور التي ينبغي أن يشار إليها أيضاً: العناية بالأفراد، أو ما نسميه بالعمل الفردي والعمل الجماعي، وللناس في ذلك اتجاهان: الاتجاه الأول: من الناس من يقول: لا فائدة من العمل الفردي، أي: تربية الناس فرداً فرداً، فلابد أولاً أن نسعى لإقامة الدولة الإسلامية بكل ما أوتينا من قوة، والأمور الأخرى كدعوة الناس، والعناية بهم، وتربية الأولاد الصغار وما أشبه ذلك، فهذه أمور سهلة ميسورة، عندما تتغير هذه الدنيا وتأتي الدولة الإسلامية. والاتجاه الثاني: آخرون لا يفهم أصحابه إلا أفراداً يدعونهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولا ينظرون إلى ما وراء ذلك، والإسلام وسط بين هذين الأمرين، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]. فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ فرداً ودعا أفراداً، والأفراد كونوا جماعة، والجماعة اعتنت بالأفراد على الرغم من كونها جماعة، في دعوته وفي تربيته؛ لأنه هو الذي سيشكل في جسم الأمة لبنة جديدة، وفي جسم الجماعة لبنة جديدة أخرى، فهذا هو الأمر الوسط بين هذا وبين ذاك، ولابد منهما في آن واحد.

المزلق السابع: مداهنة الحكام الظلمة في الدعوة

المزلق السابع: مداهنة الحكام الظلمة في الدعوة ومن الأمور التي تعد أيضاً من المزالق: تطويع دعوة الله سبحانه وتعالى للظلمة والطغاة باسم الإسلام، وباسم اللين في الدعوة وإحسان الدعوة، فلا يطوع العمل الإسلامي ولا الجماعات الإسلامية للطغاة والظلمة، فهذا مزلق خطير وقع فيه أناس يزعمون إحسان الدعوة، وأنهم يفهمونها حق فهمها. إن دعوة الله تقوم على العبودية لله، ونبذ الطغاة والظالمين، وكثير من الناس أو بعضهم لا يريد أن تكون الدعوة شديدة صعبة، إنما يريدونها أن تكون لينة، فمواجهة الظالمين والطغاة أمر ليس بالسهل؛ لأنهم يملكون المال، والحكم، والرجال، ويقطعون الأعناق. ثم يبرزون لهذا في أشكال مختلفة، منها: أننا نريد أن نصلح الحاكم فيصلح الناس، وأن الحكام قريبون من هذه الدعوة، فهذا وساوس الشيطان. وقد أحسن بعض الناس الظن بالحكام في ديارهم، أنهم أخيار أبرار صالحون، ثم اكتشفوا بعد ذلك أنهم ضيعوا فترة ذهبية من تاريخ الدعوة إذ مدوا أيديهم إلى الحكام، وأن هؤلاء الحكام يتلاعبون بهم مرة بعد مرة، ومع ذلك فإن الدعوة هذه مستمرة. فينبغي أن ييئس الناس من شيء اسمه حاكم في هذه الأيام، وأي وقت يقضيه الدعاة في إقناع غيرهم في أن هؤلاء الحكام يمكن أن يكون الإصلاح من طريقهم، فهم يؤخرون مسيرة الدعوة إلى الخلف. فما رأينا في تاريخنا الحديث حاكماً يبشر بالخير في عالمنا الإسلامي والعربي أبداً، فكلهم وقفوا في وجه الدعوة الحقيقية، وعندما نقبل بأنصاف الحلول نرضى مسجداً من الحاكم، أو أن يطيل في إذاعة القرآن الكريم بعض البرامج الإسلامية، أو أن ينفق على بعض المشروعات الإسلامية، ثم نقول: هذه هي الدعوة، وهذا هو الإسلام بيننا وبين الحاكم. وعندما نقول نريد حاكماً بالإسلام ولا نرضى إلا أن يحكم بالقرآن، عند ذلك يكشر لنا عن أنيابه، ويشهر سيوفه في وجوهنا. وليس هناك من سبيل إلا أن يكون عمل وبناء، ثم مواجهة شئنا أم أبينا، قريباً أم بعيداً، لابد أن نفهم أن هذا هو الطريق، وأن حكامنا يمسكون بالكرسي، بل يقيدون أنفسهم به ولا يخرجون عنه إلا موتى، ولا ينتقل أحدهم منه إلا إلى القبر، لا يرضى أن يتركه فارغاً لغيره أبداً، مسلماً كان أو غير مسلم. وقريب من هذا المزلق أن نصفهم بأنهم مسلمون ومؤمنون وحكام الإسلام، وبالتالي نصبغ عليهم ما كان يطلق على الحاكم المسلم من قبل، وبالتالي ليس هناك من فائدة للعمل الإسلامي والجماعي، فالناس بخير ما دام هؤلاء الحكام مسلمين، والمسألة إنما هي مسألة تغيير لشيء من الباطل. إن قوماً نبذوا الشريعة الإسلامية، وألقوها وراء ظهورهم، وجاءوا بشريعة أخرى غير الإسلام تحكم الحياة، وحكموها في رقاب المسلمين وفي أعراضهم، ثم بعد ذلك يقال: إنهم مسلمون، ونتناسى كتاب ربنا الذي يحكم في هؤلاء الحكام فهذه قضية تحتاج إلى تفكير. فلو قال قائل: أنا مسلم أصلِّي وأصوم، لكن التشريع الذي سأطبقه هو القانون الروماني، أو الشريعة اليهودية، فيعتبر كافراً، فلا تنفعه صلاته ولا صومه؛ لأنه طبق الشريعة اليهودية أو القانون الروماني، وكذلك الذي عزل الإسلام عن الحياة وجاء بشريعة مخلوطة من القوانين الرومانية والفرنسية القديمة والحديثة، ومن الإسلام وجزئياته فالقضية بينهما واحدة، لا تختلف إلا أن الأول كان صريحاً والآخر كان خبيثاً ماكراً. فهذا مزلق ينبغي للمسلمين أن يتبينوا أمرهم فيه، ويعلموا حقيقة هؤلاء الحكام وموقفهم من الإسلام؛ لأن مواقفهم ستبنى على هذا الأساس.

علاج تمزق وحدة المسلمين

علاج تمزق وحدة المسلمين إن علاج التمزق الذي تعيشه الجماعات الإسلامية، وحدة إسلامية عامة، ومسيرة إسلامية واحدة، أما أن تبدأ المسيرة فيشتد إليها أناس يحبون الإسلام، فتتكاثر المسيرة وتُبنى، ثم يبرز رجل فيه خير وعنده فهم، ولكنه يخالف في بعض الآراء وبعض المفهومات، فإذا به يقيم جماعة جديدة، ينشأ فيها رجل آخر عنده شيء من الفهم يخالف من سبقه، فإذا به يعمل جماعة جديدة وتتوالى المسألة؛ فمتى يكون للمسلمين جماعة قوية تستطيع أن تواجه الباطل؟! إن الجماعة إذا حدث فيها تغيير، ينبغي أن يكون في داخلها هذا التغيير. إن وحدة العمل الإسلامي، ينبغي أن يكون خطاً واضحاً، وأساساً من الأسس، ودعوة للناس كلهم، وإذا لم نستطع أن نوحد فعلينا أن نوقف التمزق، وألا يستمر المسلمون فيه إلى ما لا نهاية. نحن نملك الدعوة، فلن نعادي الذين يخرجون منها شيئاً قليلاً، بل سنودهم ونحبهم، فلا نريد أن يستمر التمزق في العمل الإسلامي، فإنه مزلق خطير، وما مصيبة المسلمين في تاريخهم إلا الفرقة، فهي ليست خيراً لهم، بل هي شر لهم، فقد أذهبت قوتهم، وجعلت بأسهم بينهم، فلا تفرقة، خاصةً في الجماعة الواحدة التي فهمها متقارب، فلا تصنع التجزؤات أو التجمعات الجديدة مهما وجد من أخطاء، فالأخطاء لا يخلو منها أحد، وإلا صارت مبرراً لنشوء جماعات جديدة وهكذا.

الأسئلة

الأسئلة

عقيدة الشيعة في أئمتهم

عقيدة الشيعة في أئمتهم Q ما هي عقيدة الشيعة في أئمتهم؟ A الشيعة يعتقدون في أئمتهم أنهم معصومون عن الخطأ، وكلامهم ككلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يخطئون ويقولون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه هو خليفة المسلمين وإمامهم؛ لأنه هو الذي نص الله عليه، والصحابة رضوان الله عليهم الذين لم ينتخبوا علياً واختاروا أبا بكر، فلم يطبقوا وحي الله سبحانه وتعالى، ويكونون في حكم الله قد خانوا الرسالة والأمانة، فرواية الصحابة التي هي أحاديث البخاري ومسلم وأبي داود وغيرهم لا تقبل؛ لأنها جاءت من طريق الصحابة الذين خانوا الأمانة والرسالة حسب زعمهم. ثم بما أنهم معصومون فلهم التشريع والتشريع عندنا انتهى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما عندهم فلقد استمر إلى سنة (260هـ)، حين اختفى الإمام الثاني عشر، والحلال والحرام لا يؤخذ إلا من كلام أئمتهم. ويؤصل الإمام الخميني للنظرية الجديدة في فقه الشيعة أن الحكام بعد الأئمة الأثني عشر إنما هم فقهاء الشيعة، والحكومة الإسلامية إنما هي محاضرات الخميني في النجف الأشرف على طلبة العلم هناك، في ولاية الفقيه الشيعي، فكان الشيعة يقولون: ما دام أن الإمام الثاني عشر قد غاب فلا نعمل شيئاً حتى يظهر، فقال لهم الفقيه الشيعي: الذي ينبغي هو إقامة الخلافة، وأدلته على ذلك: الرسالة التي جاءت من الإمام الغائب بعد غيابه. وفيها أن نقباءه من بعده هم المؤهلون للحكم، فهذا دليل على أن كلام الإمام الغائب الذي اختفى دليل شرعي، فقد غلوا فيهم غلواً كبيراً حتى قال الإمام الخميني في أحد كتبه: لهم مقام لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل. وعند الشيعة باتفاق أن الأئمة الاثني عشر أفضل من الأنبياء والمرسلين إلا خمسة وهم أولو العزم من الرسل، والأكثر على أنهم أفضل من أولي العزم إلا محمداً صلى الله عليه وسلم. وهذا القول بالإجماع ولم يخالفه واحد منهم لا في القديم ولا في الحديث. وفي كتاب الكافي للكليني الذي يعتبر من أصول فقه الشيعة ومن الكتب المعتمدة تمجيد عظيم لأئمتهم، ورفعهم فوق مرتبتهم، ويعتقدون أن الأئمة يعلمون ما في الغيب، أي: أن الأئمة يعلمون علم ما كان، وما يكون. وينقل كثير من علمائهم أن القرآن فيه نقص، وأن عندهم مصحفاً ليس فيه من مصحفنا حرف واحد، فهذه القضية قضية عقائدية. وعندما سئل ابن محسن الحكيم في مؤتمر في لندن: ما قولك في النصيرية؟ فقال: هم طائفة إسلامية، وكان موجوداً أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، والشيخ مصطفى مشهور، وممثل سوريا، ويقول: هم طائفة إسلامية، وهم من الشيعة الإمامية الإثني عشرية. إخواننا في سوريا يذبحون ويقتلون، بين إيران وسوريا ليس فيها خفاء، ثم يقال: النصيرية أقاموا دولة إسلامية، وأئمة الإسلام كلهم بلا استثناء يكفرون النصيرية، وهذا الرجل الذي سيكون حاكماً للعراق بعد سقوطها، فإنه سيمد يده إلى سوريا، واليد الأخرى إلى إيران لإقامة دولة الشيعة. القضية ليست سهلة، الخلاف ليس خلافاً في الفروع كما بين الإمام أحمد، والإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، إنما الخلاف في الأصول. عندما يذاع شريط كشك في إذاعة إيران، ويذكر عمر بن الخطاب فإنهم يبترون عبارة (رضي الله عنه) لأنها ثقيلة على أسماعهم لا يريدون أن يترضوا عن عمر رضي الله عنه، ومع أن كشكاً يمدحهم في شريطه الذي لا يمر يوم أو يومين إلا ويذيعونه، مع أنه من أهل السنة، ولكنه تحمس وثار. ويسبُّ في إذاعة إيران صباح مساء معاوية بن أبي سفيان باسمه، وإذا كنا قد نتساهل في أمر يزيد، فكيف في أمر معاوية بن أبي سفيان؟ وكتاب الحكومة الإسلامية للخميني لا يوجد فيه كلمة ترض واحدة عن أبي بكر وعمر. بينما يترضى عن نصير الدين الطوسي الذي تمت على يده مذبحة بغداد بقيادة هولاكو، فهو الذي سلم له خليفة المسلمين ونساءه وأطفاله، وفتح له باب بغداد حتى كانت مذبحة بغداد سنة ستمائة وستة وخمسين. ويقول لمخاطبيه: إذا زال الخميني لا يحدث شرخ في الإسلام، لكن إذا زال علي بن أبي طالب أو نصير الدين الطوسي فإنه سيحدث شرخ في الإسلام. أهذه أيدي تستحق أن تغير أو تحكم بالإسلام؟ الذين يجعلون دينهم سب الصحابة رضوان الله عليهم، فالآن هم لا يسبون أبا بكر ولا عمر ولكن عندما يتمكنون سيسبونهما. فلقد قالوا في عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنه كان به داء لا يشفيه إلا ماء الرجال. فهل يمكن أن يكون بيننا وبينهم تقارب؟ إن التغيير بمنهج منحرف لا يمكن أن يكون أبداً، ونحن لم نرفع العداء، فالمسلمون سكتوا وصرخوا بأن هذا إسلام وهذا دين، وذهب زعماء المسلمين إلى هناك، ولكن لا فائدة، وعندما قامت القائمة بين أهل السنة وبين حافظ الأسد الذي ذبح المسلمين، وهتك أعراضهم، وقتل أبناءهم، ودمر سوريا، وسحق المسلمين هناك، وقفت إيران في جانب سوريا وسوريا في جانب إيران. وعندما قام أخ سني سوداني في طهران يهاجم النصيرية في سوريا، فإنهم سفروه حالاً، فهذا دليل على أن الطائفة المنحرفة قد وضعت أيديها في يد كل حاقد على الإسلام، وأن تاريخها أسود كالظلام الشديد. فالنصيريون مآسيهم في التاريخ الإسلامي كثيرة، فلقد حاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي عدة مرات. وآخر مآسيهم عندما جاء الصليبيون الفرنسيون إلى سوريا، فقد وضعوا أيديهم في أيديهم، لأن حقدهم أشد من حقد اليهود، فناصروهم، وأمدوهم بالمال، وعندما احتاجوا إليهم أمدوهم بالسلاح وبالرجال. وكذلك فإن ثمانية من كبار ضباط النصيرية الذين قتلوا في حرب إيران مع العراق حملتهم الطائرة من إيران إلى سوريا، ودفنوا في أماكن مختلفة يعيش فيها النصيرية. فهذا دليل على التلاحم الذي بين النصيرية وبين الشيعة في طهران. فليس في بلاد المسلمين حاكم يستحق أن يقال فيه: إنه يحكم بالإسلام.

حكم التهجم على الجماعات الإسلامية

حكم التهجم على الجماعات الإسلامية Q ما رأيك فيمن يتهجم على الجماعات الإسلامية، وخاصة من بعض القائمين على الدعوة؟ A إن التهجم على الجماعات الإسلامية -لاسيما الجماعات التي أبلت في الدعوة بلاء حسناً- لا يليق بالقائمين على الدعوة، والذي يتهجم على هذه الجماعة مخطئ والذي يجعل كلامه فوق كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينبغي له ذلك، وإن كان من الفضلاء الطيبين. وهناك فرق بين كونهم فضلاء وبين أن يقال لهم: أنتم مخطئون في القضية الفلانية؛ فالصحابة رضي الله عنه الله عنهم كان يقف الواحد منهم أمام الخليفة ويقول له: أنت أخطأت في المسألة الفلانية، وكانوا يصلون وراءه، فما كانوا يتقاتلون ولا يتخاصمون. فالرأي أو الفهم أو المبدأ الخاطئ ينبغي أن يبين.

الطريق إلى قيام الدولة الإسلامية

الطريق إلى قيام الدولة الإسلامية Q ألا ترى أن مرحلة التربية الطويلة قد تبطئ بقيام الدولة الإسلامية؟ A لكن هل هناك طريق بديل؟ هل يمكن أن نأخذ أناساً لا يفهمون الإسلام، الإسلام لم يملأ نفوسهم وقلوبهم ثم يقيمون دولة الإسلام؟! فالطريق طويل ولكنه هو الطريق الوحيد.

أهمية النصح للجماعات الإسلامية التي فيها أخطاء في العقيدة

أهمية النصح للجماعات الإسلامية التي فيها أخطاء في العقيدة Q يقول البعض: إن دعوة إحدى الجماعات فيها خلل في العقيدة، وخاصة قضية التوسل، وضرورة تنظيف العقيدة أولاً، فهل نقف مع مثل هذه الجماعات؟ A قال الإمام الشافعي رحمه الله: ليس هناك عالم إلا وخفيت عليه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كنت تعرف من أناس ما أن عندهم أخطاء، فانصحهم وبين لهم بالمودة والمحبة، وقل لهم: هذه أخطاء لا تجوز، والإسلام يقول: كذا وكذا، والصحابة فيما بينهم ما كان يخطئ بعضهم بعضاً وكانوا جماعة واحدة. وينبغي ألا يمنعنا حبنا لإخواننا أو للجماعة الفلانية من البيان والنصح.

الجمع بين الاهتمام بالعقيدة والدعوة

الجمع بين الاهتمام بالعقيدة والدعوة Q هناك جماعة تدعو إلى إقامة الدولة الإسلامية وعقيدتها خاطئة، أو يكون منهم ناس بلا عقيدة -والعياذ بالله- فهل يجوز ذلك، أم يجب أن نهتم بالعقيدة أولاً ثم ندعو إلى إقامة الدولة الإسلامية؟ A لا يوجد تعارض بين القضيتين، فالفرد لابد أن يهتم بعقيدته، فإذا تجمع الأفراد فإن الدعوة تستمر، ويفهم الناس العقيدة والعمل في آن واحد كما حدث في المدينة المنورة. فإذا وجدت جماعة ليست عندهم عقيدة بالكلية، فمعناه أنهم ليسوا مسلمين، بل هم منحرفون بالكلية.

واجب المسلم تجاه الجماعات الإسلامية

واجب المسلم تجاه الجماعات الإسلامية Q لقد قدر الله لجماعاتنا الإسلامية أن تنمو وتقوى وهذا من فضله، وفي نفس الوقت قدر سبحانه أن يجعل هذه الجماعات تختلف شيئاً ما في أمور قد تكون أصغر مما نتصور، فما هو واجب الداعية الذي ينتمي لجماعة من هذه الجماعات تجاه إخوانه في الجماعات الأخرى، وكيف يجب أن يكون تعامله معهم وشعوره تجاههم؟ A أي جماعة إنما هي جماعة من المسلمين وليست جماعة المسلمين، فلا ينبغي أن ينظر الإنسان إلى نفسه في جماعةٍِ ما ويظن أنه هو الخليفة وغيره كفار. والجماعات هي تجمعات قامت هنا وهناك، فحب دائرة الإسلام وأخوة الإسلام، وحق المسلم على المسلم، ومحبة المسلم للمسلم؛ كل هذا يجمعنا، فلا بد أن يكون بيننا التناصح، والتآزر، والتعاون، والتآخي في حدود دائرة الإسلام الواسعة، وهذه الجماعات ليست من الفرق التي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: (إن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة)، إنما هي في الإسلام، فمشايخ الإسلام كانت لهم جماعات، فالإمام أحمد بن حنبل كانت له جماعة، وكذلك الشافعي، فهذه ليست فرقاً إنما كانت جماعات للتربية والتعلم. وفي الوقت الحاضر انتهت خلافة الإسلام، وصار العلماء يدعون الناس إلى منهج متكامل؛ ليعيدوا للمسلمين مجدهم وعزهم، وقد يختلفون شيئاً ما في تصور طريق الإعادة والتغيير والتبديل، لكن ليسوا من الفرق المختلفة فيما بينها، فينبغي أن تكسر الحواجز فيما بينهم، فلا ينظر الواحد منهم إلى أنه هو الذي يطبق الإسلام والآخرون من الكفار، فحقوق الأخ المسلم ينبغي أن تصان، فلا يطعن في عرضه، لئلا يصبح المسلمون فرقاً، فإن هذا إثم، وسيحاسب عنه يوم القيامة.

إصلاح المجتمع

إصلاح المجتمع Q هل المفروض إصلاح الناس أو المجتمع قبل محاربة الطاغوت؟ A لا يمكن أن يصلح المجتمع، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أصلح الدنيا كلها، إنما فئة تصلح تكون على مستوى القادر على التغيير، فيغير الله سبحانه وتعالى بها، ويجري بها قدره.

دور المرأة في بناء الدولة الإسلامية

دور المرأة في بناء الدولة الإسلامية Q ما هي الكيفية التي تمكن المرأة من المشاركة في بناء الدولة الإسلامية؟ A كانت المرأة موجودة عندما قام الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته، وكان لها دور في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة، ولا بد أن تكون في حياتنا كما كانت في حياتهم.

أهمية معرفة عقائد الشيعة

أهمية معرفة عقائد الشيعة Q هل هنالك خاتمة تحب أن توجهها في الكلام على الشيعة؟ A أوجه هذه الخاتمة من خلال نقطتين: النقطة الأولى: مسألة عدم القراءة والاطلاع ظاهرة منتشرة بين الشباب المسلم، وينبغي في الحقيقة أن ننتبه لهذه المسألة انتباهاً قوياً؛ لأنه لا يمكن للمسلم أن يعرف إسلامه في هذه الحياة إلا بالعلم، وإلا فكيف يمكن أن يسير في خطه في هذه الحياة دون أن يكون على علم؟ وهذه المسألة مهمة حقيقة، وأنبه الإخوة جميعاً إلى أن يقرءوا وسيجدون ما يشفي غليلهم في ذلك مما كتبه أهل الإسلام، ومما يوضح توضيحاً تاماً الفرق بين السنة وبين الشيعة، وأنا أدعو الإخوة جميعاً إلى أن يأخذوا هذا الأمر مأخذ الجد، وأن يرجعوا إلى الكتب حتى تتبين أخطاؤهم في كثير من المسائل. النقطة الثانية: مسألة التقوى: فإنها ذات دور عظيم في حياة المسلم، فكلنا محاسبون وموقوفون بين يدي الله سبحانه وتعالى، ألسنا نقرأ في كتاب الله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] عشرات المرات في كل يوم؟ وذلك لأن الطرق تعددت وتشعبت، فينبغي للمسلم أن يتحرى الطريق الصحيح، ولا يتصور أنه يمكن أن يتحرى ذلك إلا بالتماس التقوى، والتقوى نور من الله سبحانه وتعالى يقذفه في قلب المؤمن، وبها يستطيع أن يعلم، وأن يعرف، وأن يوازن بين الأمور، والمتقون دائماً تجدهم يحاسبون أنفسهم وينظرون إلى نقاط الضعف فيهم، ويصححون مفاهيمهم. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وجزاكم الله خيراً.

أسباب الجريمة وعلاجها

أسباب الجريمة وعلاجها إن من نعم الله تعالى على عباده التي يحتاجها كل عبد على هذه المعمورة نعمة الأمن، وقد شرع الله حدوداً، وسن قوانين تحفظ على الناس أمنهم واستقرارهم. ومن أعظم الوسائل والأسباب التي تنشر هذا الأمن وسيلة التقوى والإيمان، ومراقبة الله تعالى، فمن أراد هدم هذه الوسيلة من خلال ما ينشره من دعارات في التلفاز، أو الصحف، أو المسرحيات، وجب الأخذ على يده ومعاقبته على ذلك، وهذه مسئولية الجميع.

الأمن نعمة من نعم الله

الأمن نعمة من نعم الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الأمن نعمة وأي نعمة، فقد امتن الله بها على قريش إذ كانت تعيش في الجزيرة العربية حيث السلب والنهب واعتداء القبيلة على القبيلة الأخرى، وفي وسط الجزيرة العربية كانت مكة واحة أمن، ولذلك قال سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:1 - 4]. فالأمن لا يأتي هكذا، بل هو ناتج عن محاربة الجريمة ومعالجة أسبابها، فعند ذلك يتوفر الأمن، وبعض الصحف أوبعض المسئولين في حديثهم في الإذاعة أو التلفاز يقول: إن الجريمة موجودة وستبقى موجودة، وهذا كلام حق، فالجريمة وجدت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة، لكن الجريمة لم تؤثر على أمن الناس وأمن المجتمعات، أما إن ازدادت عن معدلها، فهذا يدل على أن أسباب الجريمة ونتائجها لم تعالجا بشكل سليم، أو أن الناس لم يحافظوا على صحتهم وصحة أولادهم وأهليهم بالشكل المطلوب، فلا يكفي أن نقتل الأمراض، أونقول: أن الأمراض منتشرة في الهواء، وكذلك الجراثيم والميكروبات منتشرة في كل مكان، فإذا كان فناء الدار قذر، والشارع قذر، والشمس لا تدخل البيوت، والناس لا يغتسلون ولا يتنظفون، فكيف بعد ذلك نحافظ على صحتنا؟! إن أول ما يجب على الناس فعله هو أن يزيلوا الأقذار والأوساخ، ويطهروا البيوت، ويغسلوا أجسادهم ويتنظفوا، عند ذلك يقل المرض، ثم إذا نشأت الأمراض بعد ذلك كله فعلينا معالجتها عن طريق المستشفيات، والمجمعات، والأطباء الذين يعالجون ذلك بالأدوية.

معالجة أسباب الجريمة يحد من انتشارها

معالجة أسباب الجريمة يحد من انتشارها وأسباب الجريمة موجودة، لكن ينبغي أن تعالج حتى تخف وتقل من المجتمعات، وفي بعض الأحيان تكاد تزول من المجتمع، أما إذا لم نعالج أسبابها فستبقى وستكثر، فعندما يرى الشاب وهو يسير في الشارع النساء عرايا كأنهن في غرف النوم مع أزواجهن فسيثرن شهوته وأعصابه، فليس عنده دين يحميه، فقد حطم الدين في نفوس كثير من الشباب، وحطمت الأخلاق، وضعفت مراقبة الله سبحانه وتعالى، ثم النساء يعرضن أجسادهن في الشوارع، ويعرضن شعورهن، عارية ظهورهن وصدورهن وسيقانهن، ثم يذهب إلى التلفزيون فيشاهد ما يشاهد، ثم يقلب الصحيفة فيرى ما يرى، ثم يريد الزواج فإذا براتبه لا يكفي لأجرة شقة، فلا يستطيع أن يتزوج، إذ ليس عنده المال الكافي، يطلب الحلال فلا يجده، وشياطين الإنس والجن كثيرون، ويرسلون الفاحشة ليثيروا الناس خاصة الذين لم يحصنوا أنفسهم بالإيمان، ولا يأتون إلى المساجد ليقووا إيمانهم وصلتهم بالله، ثم يقول البعض: إن الجريمة موجودة وستبقى موجودة. - فنقول: هل عالجتم أسبابها؟ هل أعطيتم الجانب المعاكس الذي يقضي على الجريمة في النفس حقه في رقابة الله سبحانه وتعالى؟ هل وصلتم الناس بكتاب الله؟ أين التقوى والإيمان الذي إذا جاء الشيطان يوسوس قال له: لا، فالله يراك، وينظر إليك، وسيحاسبك بين يديه سبحانه وتعالى؟ وأين الخلق الذين يقولون له: لا تفعل؟ أترضى الفاحشة لأمك؟ أترضاها لأختك؟ أترضاها لقريبتك؟ لا يوجد شيء من ذلك، بل حطمنا ذلك كله. فهناك شياطين يحطمونها، يحطمونها بالكلمة والمقالة والتمثيلية والمسرحية، ففي الشارع تحطم، وفي الحفلات التي تقام هنا وهناك تنتهك فيها الفضيلة وترتفع أسهم الرذيلة تحطم، فالفساد يعشعش هنا وهناك، وكل ذلك منتشر وموجود. فعندما تنتشر الأقذار والأوساخ تكثر الميكروبات، ويترعرع فيها الشر، وتترعرع فيها الجريمة ثم بعد ذلك نقول: إن الجريمة ستبقى موجودة. نعم، ستبقى موجودة، ولكن هناك فرق بين وجود ووجود، فإذا استأصلنا أسباب الجريمة ستقل الجريمة، ثم يأتي العلاج.

مقارنة بن معالجة الإسلام للجريمة ومعالجة غيره لها

مقارنة بن معالجة الإسلام للجريمة ومعالجة غيره لها وعندما توجد الجريمة ينبغي أن تعالج، وعلاجها في الإسلام مختلف، فالإسلام يعالجها لا كما تعالجها أوروبا، إذ أن علاجها في أوروبا جعلها تزداد وتنتشر؛ لأنها تعالج علاجاً خاطئاً. فالإنسان قد يجرم بجريمة واحدة، فيأتي عالم الغرب بعلاج السجن، فيلتقي مع مئات من المجرمين؛ فيعلمونه الإجرام، ويخرج أستاذاً في الإجرام، ويكثر المجرمون، فيحتاج الناس إلى أن يهيئوا لهم السجون، ويهيئوا لهم الحراس، ويهيئوا لهم الذين يطبخون، والذين يعنون بهم، فنحتاج إلى جيوش يقومون على رعايتهم. أما الإسلام فيعالج الجريمة بما وضع لها من حدود وعقوبات، وقد بين القرآن سبيلها، وأمر أن يكون ذلك أمام طائفة من المسلمين ليأخذوا منه العبرة والعظة، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]؛ وذلك ليعتبروا ويتعظوا، فإذا شاهد الإنسان العقوبة تحل بغيره عند ذلك إذا لم يزعه سلطان الإيمان والخوف من الله خاف من سلطان البشر، ومن العقوبة التي يمكن أن تنزل عليه، وإذا ما رأى غيره وقع به العذاب فإنه يخاف أن يكون يوماً ما مكانه إذا فعل مثل جريمته فيقع به ما وقع بغيره، عند ذلك يتعظ ويخاف ويبتعد. فمن قتل وكان متعمداً وأصر أولياء القتيل على قتله يقتل، ومن زنا إن كان محصناً رجم حتى الموت، وإن كان غير محصن جلد مائة جلدة، ونكون بذلك قد أدبناه وأدبنا بتأديبه من شاهدوه ومن رأوه. فالعلاج من ناحيتين: تعالج الجريمة باستئصالها من جذورها، حتى تغسل الأرض، وتنظف وتطيب، ويغسل المجتمع حتى لا تترعرع فيه الجريمة، فإذا نشأت الجريمة فإنه يعالجها، ويزيل آثارها، ويربي الناس بها، عند ذلك تكون الجريمة في إطار ضيق قليل، فتكون محصورة لا تؤثر في أمن الناس، ولا تسبب لهم المشكلات، وبغير هذا لن تكون الجريمة موجودة فحسب، بل ستكون منتشرة، وفرق بين وجودها وبين انتشارها. فنحن نقول للذين يرددون بأن الجريمة موجودة، نحن لسنا مجتمعاً شاذاً، فالجريمة موجودة في أوروبا، وفي بريطانيا، وأمريكا، ففي بعض المدن في أمريكا يحصل اعتداء على كل واحد من ثلاثة أشخاص، فإذا كانت المدينة ثلاثة ملايين فإن ثلثها المليون بكامله يحصل على الاعتداء، فهل ننتظر حتى يصل الأمر بنا كما وصل بتلك الديار؟! وفي بريطانيا رجل مجرم واحد كلف الدولة أربعة ملايين من الدنانير حتى قبض عليه؛ لأنه كان متخصصاً في قتل النساء، ففزعت المقاطعة كلها، وكان نساؤها لا يستطعن أن يسرن إلا وهن محصنات، فخصصت الدولة جيشاً كاملاً من الشرطة والمباحث لملاحقة هذا الرجل، وبعد سنوات طويلة قبض عليه بطريق المصادفة. فليس من الطبيعي أن تنتشر الجريمة وتسود، وأن يذهب الأمن من القلوب والنفوس، وأن تعيش النساء في رعب، وأن تحدث جريمة كل سنة أو كل سنتين.

وسائل القضاء على الجريمة

وسائل القضاء على الجريمة فإذا أردنا أن نقضي على الجريمة، أو نحد من انتشارها فلابد من معالجة الأسباب التي تثير الجريمة وتسببها. فننظر إلى خروج النساء شبه عاريات، وما يعرض في المسرحيات، والأفلام، في السينما والتلفزيون، وما يكتب من قصص، وما ينشر من صور، وما يقال من أحاديث، وما ينشأ من حفلات، فكل هذا من أسباب الجريمة، وما يحطم من الأخلاق والدين في نفوس الشباب، فالملحدون والأشرار الذين يحطمون الفضيلة والخلق في النفوس سواءً كان أستاذاً في مدرسة، أو كاتباً، أو باحثاً، أو رجلاً متكلماً، أو موظفاً، فكل هؤلاء ينبغي أن يؤخذ على أيديهم؛ لأنهم من أسباب الجريمة، فإذا تحطم الإيمان والخلق والفضيلة في الإنسان أصبح وحشاً، أو حيواناً، يمكن أن يقتل أمه أو أباه أو أخاه، وأن يعتدي على أمه أو أخته بالفاحشة. ويذكر ابن كثير في تاريخه: أن فتاة طائشة قهرت عشيقها بأن يقتل أمها وأباها، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً كما يقول عنه ابن كثير. وظهرت في الثلاثينات من هذا القرن الميلادي جريمة هزت فرنسا، وكانت حديث المجامع والصحف، وهي فتاة أراد عشيقها أن يشتري سيارة أو غيرها فوضعت السم لأمها وأبيها لتحصل على نقودهما، وعندما لم تمت أمها طعنتها طعنات كثيرة خشية أن تفيق من سمها فتمتد حياتها. فالإنسان عندما يحطم الخلق والدين عنده يصبح حيواناً لا يبالي بشيء، فالذين يحطمون الإيمان، ويحطمون الخلق في النفوس مجرمون، وهم من أسباب الجريمة، فينبغي أن يؤخذ على أيديهم، وألا تترك لهم الحرية في الكلام باسم الأدب، أو الفن، أو الحرية في النشر، فأي حرية هذه؟! إن هذا الذي يأتي بالجراثيم ليزرعها في المجتمعات، ويرشها هنا وهناك، ويفسد النفوس، ليس حراً في فعله، بل يجب أن يؤخذ على يده، والرسول صلى الله عليه وسلم شبه المجتمع بسفينة يركب عليها الناس، فبعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، فقال الذين في أسفلها: نحن نؤذي من فوقنا عندما نمر عليهم لنأخذ الماء، فلو خرقنا خرقاً في نصيبنا لكي نأخذ الماء ولا نؤذي من فوقنا، وهؤلاء عندما يخرقون خرقاً في السفينة فإنهم سيغرقون ويغرقون من معهم، فهل يأتي إنسان ويقول: هؤلاء أحرار، وهذه ديمقراطية، وهذه حرية؟! وقد كتب أحدهم ذات مرة كتابة سيئة، فلما رد عليه بعض الناس إذا ببعض البارزين من الكتاب يقولون: نحن نعيش في مجتمع ديمقراطي، فنقول: أي مجمع ديمقراطي الذي يأذن لأصحاب السفينة أن يخرقوا في نصيبهم، ثم تمتلئ السفينة ماءً ويموت الناس كلهم باسم الحرية والديمقراطية. فهناك حدود في الإسلام، وهناك أعمال صالحة وأعمال باطلة، وهناك عمل صالح وعمل قبيح، وهناك حق وباطل، وسيحاسب الناس، فله أن يعمل في دائرة الحق والمباح بحرية، أما أن يعمل في دائرة الباطل باسم الحرية وباسم الشر فهذا خطأ كبير.

شهادة الواقع على قدرة الإسلام في نشر الأمن بين الناس

شهادة الواقع على قدرة الإسلام في نشر الأمن بين الناس ولقد أثبتت التجربة والتطبيق العملي أن الإسلام قادر على أن يبث الأمن في المجتمعات التي يحكمها، وأن الاتجاه نحو العالم الغربي في قوانينه ونظمه وأخلاقه يجذب القلق والدمار، ويضيع الأمن، فحكومة عبد العزيز آل سعود هي أصدق حكومة في الجزيرة العربية طبق فيها الإسلام، وطبق فيها القرآن، وكان الناس في الجزيرة قبل تلك الأيام لا يستطيع أحدهم أن يتحرك من بلده إلى بلد آخر آمناً، فقد كان أهل الحاج يودعونه على أنه ليس براجع، وكان الإنسان يقتل على بصلة، أن المجرم يرى جيب الرجل منتفخاً فيقتله ظناً منه أنه مال وهو بصل. ولقد حدثني أهل المدينة المنورة أنهم كانوا قبل أن يأتي حكم عبد العزيز إليهم لا يستطيع أحدهم أن يخرج من المدينة أكثر من كيلو متراً. فعندما طبق حكم الإسلام تحولت الجزيرة إلى بلد آمن، وتحولت هذه الصحاري الشاسعة والبلاد الواسعة إلى بلد آمن، وإلى عهد قريب تقول إحصائية لا أذكر مصدرها من بعض البلاد الأوروبية: لا تزال أكثر بلاد العالم أمناً السعودية، على ما طرأ فيها من خلل في تطبيق الإسلام، والبقية الباقية التي فيها لا تزال تجعلها أكثر أمناً، ولو كان الناس الذين شعروا وذاقوا نعمة الأمن يقدرون لحرصوا على الإسلام بالنواجذ، ولما تركوا قاذورات أوروبا تصب في ديارهم، فإذا ما شئنا هنا في الكويت, أو في السعودية، أو في مصر، أو في أقطار العالم الإسلامي أن ننعم ببحبوحة الأمن، وأن نعيش آمنين على أنفسنا وزوجاتنا وبناتنا وأولادنا وأموالنا، فلابد أن نعود إلى الإسلام؛ ليغسل أقذار قلوبنا، ويطهر نفوسنا، ويحول بيننا وبين الشر، ويوجد فينا مراقبة الله سبحانه وتعالى، ووالله! إن لم نفعل ذلك فسنزداد بلاءً فوق بلاء، ومرارة فوق مرارة، وسيأتي يوم يبكي فيه الناس دماً؛ لأنهم قصروا وفرطوا، فالله ليس بينه وبين أحد من عبادة قرابة ولا صهر ولا نسب، فقد أنزل لهم ديناً فقال: هذا حظكم فيه، وهذا ذكركم، وفيه سعادتكم، إن أخذتم به فهو سعادتكم في دنياكم، وهو سعادتكم في أخراكم قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126].

اشتراك الجميع في المسئولية عن الجرائم

اشتراك الجميع في المسئولية عن الجرائم وفي الأسابيع الماضية القليلة روعت الكويت بجرائم اقشعرت لها الجلود، واحتارت لها العقول، فتاتان صغيرتان في عمر الورود -كما يقال- يعتدي عليهما وحوش خلت قلوبهم من الإيمان والتعقل والمروءة والفهم. جرائم أخرى يرتكبها رجل يقفز من فوق الأسوار، ثم يخدر ضحيته ويفعل بها الفاحشة. فمن المسئول عن هذه الجرائم؟ إن الأب مسئول أولاً، الأب الذي لم يرب ابنه على الإسلام، ولم يربه على الإيمان، فاشتغل بتجارته وماله ووظيفته وشهواته، وترك ابنه للشارع والسينما والتلفزيون، يهيم مع زملاء له في مثل سنه يفسقون ويفجرون، فهذا الأب مسئول يوم القيامة عن ابنه، وهو مسئول عنه في الدنيا أيضاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والأب راع وهو مسئول عن رعيته)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر). فالأب مكلف بالتربية، ومكلف بالتوجيه وغرس الفضائل والقيم، وأن يربي ابنه على الواجبات وأخلاق الإسلام، وإذا كان لا يستطيع؛ إذ ليس عنده علم، فإنه يستطيع أن يعلم ابنه الوضوء والصلاة، وأن يأتي به إلى بيت الله، وأن يصله بأبناء يعيشون على الطهر والفضيلة، وأن يشتري له أشرطة تتحدث عن الإسلام وهكذا؛ فهو مسئول عنه. والأم مسئولة كذلك، مسئولة أن تفهم ابنها وتعلمه، وكثير من نساءنا في هذه الأيام لا يفقهن هذه القضية، بل كل حديثهن مع أولادهن عن الدنيا، وماذا يمكن أن يكونوا في المستقبل، وبعضهن لا يأبهن بهذه القضية، بل ينشغلن بزينتهن وفتنتهن وتبرجهن، ولا يرعين أولادهن، فهن مشاركات في الجريمة. والدوائر المختلفة مسئولة أيضاً، فوزارة التربية مسئولة عن هذه الجرائم، لأن وزارة التربية التي تعلم حصتين للدين وثماني حصص للإنجليزي مسئولة عن ذلك، وبعض مدارسنا تساوي بين الدين والرقص، فتعلم بناتنا وأبناءنا الرقص والموسيقى، أما الأخلاق والقيم فأي شيء يسد نقصها، فهي مسئولة عن هذه الجرائم. فالمدارس ينبغي أن تكون مرتعاً للأخلاق الفاضلة، والقيم النبيلة، ففيها يدرس القرآن، ويدرس الحديث، وفيها يعيش الطلبة أربع سنوات في الابتدائية، ومثلها في المتوسط، ومثلها في الثانوي، ومثلها في الجامعة، فيقضي الإنسان منا طفولته وشبابه في المدارس، فإذا لم تقم المدارس على الطهر والفضيلة والأخلاق الطيبة فمن الذي يربي؟ ومن الذي يرعى؟ وأهم شيء عند المسلم عقيدته وإيمانه، فهو الذي يربيه ويحفظه، وسياجنا الذي يحمينا من الفساد هو هذا الدين، فالشيطان يريد أن يهلك الإنسان بالوسوسة له في الليل والنهار، والنفس الأمارة بالسوء توسوس له، وشياطين الإنس يوسوسون ويريدون أن يفسدوا، ولا عصمة من ذلك كله إلا بالتقوى والإيمان والصلاح. ولا يعطي التقوى والإيمان والصلاح إلا رجال أخيار يدرسون أبناءنا، فيفتحوا العيون على كتاب الله، وعلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعلمونهم القيم الفاضلة، ويعرفونهم سيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وسير الأخيار من هذه الأمة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وغيرهم، ويعرضوا لهم سير الصالحات من أمهات المؤمنين، ومن المؤمنات الطيبات اللواتي كن مثالاً يقتدى بهن. وفي كثير من الأحيان تجد الكتب التي تعلم في المدارس تفتح أعين أبناء المسلمين على تاريخ أوروبا وقيمها ومثلها ونظرياتها وأخلاقياتها وفلسفاتها، وتمنع نور الإسلام أن يصل إلى القلوب، فتحتاج المناهج إلى تصفية، وتحتاج الكتب إلى أن تنقى، وأن يعتنى بالدين. فبهذا الوضع وزارة التربية مسئولة. والتلفزيون الذي يعرض الجريمة مسئول أيضاً، فالإسلام عندما حرم الزنا والفجور حرم أسبابه، وعندما حرم شرب الخمر خلعه من جذوره، فالذي يبيع أو الذي يزرع العنب ليصنع به خمراً أو يبيعه لخمار هو مجرم في الإسلام، وصاحب السيارة الذي ينقل العنب إلى الخمارة مجرم، والذي يعمل في المصنع مجرم أيضاً؛ لأن الإسلام يقتلع الجريمة من جذورها. فالذي يعرض الفاحشة ويحببها للناس بتمثيل وفجور وغناء ورقص وأفلام باسم الفن يقتل الأخلاق، ويمزق القيم، ويهدر ما حرم الله، ويشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذه جريمة. وهو مسئول عن جرائم الزنا التي وقعت لمثل هذه الفتيات، فهو مسئول عنها أمام الناس، ومسئول عنها عند رب الناس وسيحاسب عليها، فهو يشارك في المسئولية، ومثله الإذاعة التي تشارك في المسئولية بما تبثه من شر، وبما تبثه من مواد تدعو إلى الفاحشة والجريمة وتحبب إليها. والصحافة تنشر أموراً قذرة في بعض الأحيان لا يتمالك الشاب نفسه إلا أن يبحث عن الجريمة، لما يرى في الصحافة من صور عهر وفجور، وتمثيليات ومسرحيات تكتب في الجريدة تلهب المشاعر والأحاسيس، فإذا بالشاب يبحث عن الجريمة. والمسارح التي تقدم ما تقدم تشارك في المسئولية. والقضاء يشارك في المسئولية، فعندما تأتيه جريمة رجل مجرم فجر بشقيقته، وآخر فجر بجارته، وثالث اعتدى على أسرة آمنة وفعل ما فعله، ثم يحكم عليه بستة شهور من السجن، وأحياناً تخرج في بعض البلاد براءته، وفي بعض الأحيان تتدخل الوساطات فلا يصنع القضاء شيئاً، فيكون مشاركاً في المسئولية. فرب العباد أرحم بنا من أنفسنا، وأرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وأرحم بنا من قضاتنا وحكامنا، والله الذي شرع لعباده رحيم بهم، ويعلم أن بعضهم قد يكون كالوحوش يفترس الآخرين كما تفترس الحيوانات بعضها في الغابات، فشرع تشريعات سبحانه وتعالى للعباد بما يصلحهم قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، أي: لكم حياة وأي حياة. وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، وتجد البعض يقول عن هذا: إنه وحشية وهمجية، فجعلوا حكم الله وحشية، فذاقوا البلاء، وقد يقع البلاء في الذي يقول بهذا القول، وقد يقع في أولادهم، وأزواجهم، وبناتهم، وهم يتهجمون على شريعة الله، ويعزلون حكم الله أن يحكم في عباده، فإذا بالمجتمع يفقد نعمة الأمن. ولقد علمنا ما حصل في هذه الديار، من فقد نعمة الأمن، حتى إن بعض الآباء من الذين بيوتهم غير آمنة اعتكفوا في بيوتهم في الأيام الماضية قبل أن يقبض على المجرم خشية على أولادهم، وكثير من الناس ارتجفت قلوبهم، والبنات يجرين في الشارع ذهاباً وإياباً إلى دورهن خوفاً وفزعاً، فعندما يفقد الناس نعمة الأمن فإن الحياة لا تصلح حينئذ. ولا يأتي بهذه النعمة إلا إيمان يغرس في القلوب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى الصراط سوران عن يمين وشمال، وفي السوران أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط: أيها الناس! ادخلوا الصراط ولا تعوجوا، وداع يدعو من ظهر الصراط، كلما أراد أحدكم أن يفتح باباً قال: ويحك! لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلج، ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: الصراط الذي ضربه الله هو الإسلام، والسوران عن اليمين وعن الشمال: حدود الله، والأبواب: محارم الله، والداعي الذي يدعو على رأس الصراط هو القرآن، والداعي الذي يدعو من ظهر الصراط: هو واعظ الله في قلب كل مسلم). فعندما يريد الإنسان أن يفتح باباً، وأن يدخل إلى الزنا، أو يشرب الخمر، إذا بواعظ من قلبه يقول: لا، ويذكره بربه سبحانه وتعالى، وواعظ الله في قلب المسلم هو الذي يسميه الناس الضمير، ويسميه الرسول صلى الله عليه وسلم: (واعظ الله في قلب كل مسلم) فهو ناتج من رقابة العبد لربه، وعلمه بأن الله ينظر إليه، وأن الله يراه، وأنه يسمع به غاص في أعماق الأرض، أو مشى على وجهها، أو طار في أجواء الفضاء، فإن الله به محيط، فعلم الله سبحانه وتعالى يحيط به في ليله ونهاره، في سره وعلنه، أظهر القول أو أخفى حديث نفسه في صدره، فالله سبحانه وتعالى يعلم به، وينظر إليه، لا تحجبه عن ربه ظلمات الليل، ولا طبقات الأرض، ولا جدران البيوت، فعندما يؤمن المسلم بذلك، ويستيقن بذلك، عند ذلك ترجو خيره وتأمن شره. والناس اليوم يحطمون هذا الواعظ كما قلت، فالتلفزيون يحطمه، والإذاعة تحطمه، والصحيفة تحطمه، والشر الذي يسود المجتمع يحطم هذا الواعظ، والواعظ عند المسلمين سلاح يقاومون به الباطل، ويقاومون به الفساد، ويقاومون به الشر، لكننا نكسر أسلحتنا بأيدينا، ونحرقها وندمرها فيصبح جنودنا بلا سلاح أمام الباطل والشر. فالإسلام يغرس هذا الوعظ في النفوس، ومن لم يربه الإيمان والإسلام رباه السوط، وربته القوة، ورباه السلطان، فالواعظ يدمر، والسلطان لا يأخذ على أيدي المجرمين بما شرع الله سبحانه وتعالى، فماذا نرجو إن استمر الحال على هذا المنوال ولم نتدارك أنفسنا، ولم نتدارك أجهزتنا، ولم يتدارك العقلاء الموقف؟ لا يأمن الناس في حياتهم، ولا يأمنون في مجتمعاتهم. فأوروبا وأمريكا تشكوان، فقد استشرى الفساد ووصل إلى الرءوس الكبيرة، فقد سمعنا منذ أيام أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ناله الرصاص، واغتيل رئيس وزراء إيطاليا، إذ أخذ من وسط داره ومن بين أهله، ثم قتل ورمي في الشارع، فالفساد استشرى ووصل إلى الرءوس الكبيرة؛ لأنها لم تتدارك الأمر، ولقد أكرمنا الله بهذا الدين، حيث جلب الأمن والخير لمن عملوا به. فحري بنا ألا نسير أكثر من ذلك في باطلنا، وأن ننتبه لأنفسنا، وإلا فإننا سنغرق في طوفان كبير. اذكروا أيها الإخوة! كيف كان حال العرب قبل الإسلام؟ وكيف كانت مجتمعاتهم، وقبائلهم، وأفرادهم؟ ثم كيف أصبحوا بعد الإسلام؟ قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران:103]، فقد كان العرب قبل الإسلام أعداء متناثرين متناحرين، فتحولوا بنعمة الله إلى إخوة أحبة كما قال تعالى: (

كيف تستعيد الأمة مكانتها

كيف تستعيد الأمة مكانتها إنَّ الأمة الإسلامية هي خير أمةٍ أخرجت للناس بنص القرآن الكريم، وهذه الخيرية إنما جاءت؛ لأنها طبّقت أوامر الله تبارك وتعالى في شئون حياتها، لكن الأمة في العصور المتأخرة تدهورت بسبب ابتعادها عن منهج الله تبارك وتعالى، فإذا أرادت أن تعود لها هذه العزة والمكانة التي كانت لأسلافها، فيجب عليها أن تعود إلى المنهج الذي رسمه لها ربُّها تبارك وتعالى، فعند ذلك يُغيِّر الله حالها.

مكانة أمة الإسلام

مكانة أمة الإسلام الحمد لله قيوم السماوات والأرض، بيده مقاليد الحكم، له الأمر كله والخلق كله، يصرف الأمور ويقدرها وفق علمه وحكمته، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير إنه على كل شيء قدير. قوله القول، وحكمه الحكم، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا معدل لأمره. وأصلي وأسلم على عبده المصطفى، ورسوله المجتبى، خيرته من خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله، أقام الله به الشريعة الغراء، وأنار به القلوب العمياء، ومحا به دولة الباطل، وطمس به معالم الشرك، وأصلي وأسلم على آله وصحبه الذين جعلوه لهم قدوة وأسوة، واتبعوا النور الذي جاء به، فكانوا على المحجة البيضاء، يقرون بالحق ويدعون إليه، ويجاهدون في سبيل إعلائه حتى ظهر أمر الله، وأصبح الدين كله لله، وعلى التابعين ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين. إخواني! لن أفيض في هذا الموضوع الذي سأتحدث إليكم فيه عن واقع الأمة الذي تعيشونه وتشاهدونه؛ لأن الواقع الذي نعيشه كلكم يراه، فمنذ أن كنا في زمن الطفولة والصبا فتحنا أعيننا وجنود الإنجليز تدك ديارنا، واليهود يتوافدون على بلادنا، وما كدنا نبلغ السابعة أو الثامنة من عمرنا حتى سقط جزء من فلسطين، وكنا نرى في صبانا جيوش الإنجليز وهي تطارد آباءنا وإخواننا، وتعتدي على حرماتنا وأهلنا ونسائنا، وسقط جزء من فلسطين ونحن لم نبلغ زمن الشباب بعد، ولكن الجزء الباقي من فلسطين سقط ونحن ندرك أبعاد القضية، وقبل ذلك احتلت ديار المسلمين من قبل الصليبيين في هذا العصر، فاحتلت مصر وسوريا ولبنان والجزائر وتونس، بل احتلت كل ديار الإسلام إلا القليل، ففي زماننا انقسمت دولة إسلامية كبرى إلى شطرين هي الباكستان، وبنغلادش، وفي زماننا ينقل لنا التلفاز في كل يوم مآسي من بلاد المسلمين في الهند وأرتيريا وفي الفلبين، وفي زماننا اخترقت جيوش اليهود لبنان ووصلت إلى عاصمته بيروت، ودمرت أحياء بأكملها، وتنقل لنا أخبار الدنيا بالصوت والصورة الجندي اليهودي وهو يجرجر امرأة مسلمة، في حين لو حدث هذا في يوم من الأيام في عهد العز لقامت الدنيا وما قعدت، فلا أريد أن أفيض في هذا؛ لأن هذا أمر تشاهدونه وتعلمونه، ومن الخطأ الإفاضة فيه. فقد كان لهذه الأمة مكانة عالية راقية، ثم ضاعت هذه المكانة، والمسلمون اليوم يبحثون من جديد ليستعيدوا العزة المفقودة، ويستعيدوا المكانة التي كانت تعيشها الأمة في ماضيها، أما مكانة هذه الأمة فقد نص الله تبارك وتعالى عليها في قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، والوسط هو مركز الاتزان والاعتدال، يقول بعض المفسرين: الوسط: عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض، وقد تعارف الناس على ذم الذي يمسك أحد الطرفين ولا يلزم موضع الاعتدال، فتراهم يقولون: فلان متطرف في أمره، في مقام الذم، وفلان معتدل في مقام المدح، ومع ذلك فإن أكثر البشر في عقائدهم وأفكارهم وأعمالهم يتطرفون ولا يلزمون مركز الاعتدال، فكانت هذه الأمة وسطاً في كل شيء، ودائماً تجد الخير والفضل في الوسط، وفي مصطلح العرب ومصطلح القرآن أن الوسط هو الأفضل والأحسن لأمرين: الأمر الأول: أن الأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد، فدائماً الفساد يبدأ من الطرف ولا يبدأ من الوسط، كما قال الشاعر الجاهلي: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً فهو يصف الشيء الذي يتحدث عنه بأنه كان وسطاً لا يصل إليه الفساد، ثم دب إليها الفساد حتى أصبحت طرفاً من الأطراف. والأمر الثاني: ما أشرت إليه من أن الوسط مركز الاعتدال والاتزان فقريش أوسط العرب نسباً، والرسول صلى الله عليه وسلم وسط في قومه، وفي محكم التنزيل: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، أي: قال خيرهم، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، وقد ثبت في الحديث أنها صلاة العصر، فهي خير الصلوات؛ لأنه سبحانه خصها بمزيد من الحث على أدائها. وقد صرح الله بهذه الأفضلية في آية أخرى بوضوح فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. إذاً: فبشهادة الله تبارك وتعالى تكون هذه الأمة خير الأمم وأفضلها على الإطلاق؛ لأنها وسط، والوسط هو الأفضل، فالوسط عند الله يُجَتَبى ويُختار.

سبب تفضيل الله تعالى هذه الأمة على غيرها

سبب تفضيل الله تعالى هذه الأمة على غيرها فضَّل الله تبارك وتعالى هذه الأمة على غيرها من الأمم؛ لأن الأمة الإسلامية استقامت على منهج الله، فالإسلام هو الذي صنع هذه الأمة، فقد بنى عقيدتها، ورسم منهجها وطريقها، وأقام أخلاقها وقيمها، وتأمل في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، تجد أن كلمة ((جَعَلْنَاكُمْ)) ليس معناها: خلقناكم، وإنما المعنى الصحيح: صيرناكم أمة وسطاً، وإنما صيرها الله كذلك بدينه المنزل عندما استقامت على الخصائص التي رسمها لها رب العالمين، وتستطيع أن تلحظ هذا المعنى في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فهَهنا مُخْرِج وهو الله، ومُخْرَج وهي الأمة، وأداة حصل بها هذا الإخراج وهي الإسلام. فبالاستقامة على الإسلام تحققت الأفضلية. إذاً: فليست الأفضلية والخيرية لقباً أطلق على هذه الأمة من غير مضمون، ولكنه عنوان لحقيقة تجسدت في هذه الأمة، فقد سما هذا الدين بهذه الأمة في عقيدتها، وتفكيرها، وتوجهات قلوبها وأقوالها وأعمالها، ونظمها حتى مثلت الأنموذج الفاضل الذي يريده الله تبارك وتعالى للبشرية، وهذه الأفضلية مرهونة باستمرار هذه الأمة على الخصائص التي حددها الإسلام، فإذا تدنت هذه الخصائص أو انحرفت أو زالت فإن الخيرية تتناقص وتضمر وتضعف، وهذا هو السر في تخلف هذه الأمة في عصرنا. إن أفضلية هذه الأمة تتلخص بأخذها بهذا الدين في نفسها، ودعوة الناس إلى الحق الذي قرره هذا الدين، ونهيهم عن الباطل الذي نهاهم عنه هذا الدين، مع تحقيق الإيمان وفق ما جاء به الإسلام، قال تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].

سبب إخبار الله تعالى بمكانة هذه الأمة وفضلها

سبب إخبار الله تعالى بمكانة هذه الأمة وفضلها وقد أخبرنا الله تعالى أننا خير أمة أخرجت للناس لا لنتفاخر ونتمادح به، ونقف في المجامع والمحافل فنقول: إننا خير أمة أخرجت للناس؛ لأن الحياة الإنسانية مجال صراع رهيب بين الأمم، فكل أمة مهما كانت منزلتها ولو كانت في القاع تقول: أنا الأفضل وأنا الأحسن، فأخبر الله بمكانة هذه الأمة حتى لا تذل في مجال الصراع والخصام؛ لأن هذه الأمة صاحبة رسالة، وستصارع اليهود والنصارى والوثنيين والشيوعيين والبوذيين، فحتى لا تهون في مجال الخصام والصراع أخبرها الله تبارك وتعالى بمكانتها، فقال عز وجل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. ولقد ادعى كل من اليهود والنصارى أنهم الأفضل والأكمل وأن غيرهم ليس على شيء كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113]، والذين لا يعلمون: هم العرب الوثنيون، فقد قالوا: إن اليهود ليسوا على شيء، والنصارى ليسوا على شيء، ثم غلا اليهود والنصارى في دعواهم، فادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18]، ثم ادعوا أن الجنة وقفٌ عليهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، فركب كل فريق هذه الدعوى مطالباً غيره باتباع منهجه؛ لأنه هو الأفضل والأحسن، والجنة وقف عليه، وهو ابن الله؛ فالذي ينبغي للبشرية أن تتابعه وألَّا تقاتله، بل ينبغي أن تحترمه وتقدره، فقد جاء عن اليهود والنصارى أنهم قالوا: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135]، أي: أنهم يطالبون غيرهم بأن يصبحوا يهوداً أو نصارى، فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135]. وكذلك هو حال الأمم التي ليس لها دين، فهي تدعي نفس الدعوى، فهذا هتلر رفع راية ألمانيا فوق الجميع، والشعب الأمريكي الآن يظن نفسه من طينة غير طينة البشر، فعندما يكلمك يكلمك وهو مصعر خده مستكبراً يظن أنك من جنسٍ غير جنسه، وهو من فئة غير فئة البشر. وقد كان اليهود في ميزان الله تبارك وتعالى خير الأمم عندما استقاموا على الشريعة التي أنزلها الله تبارك وتعالى عليهم، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]، قبل أن يقول فيهم: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، والنصارى كانوا أصحاب رسالة، ولهم في ميزان الله فضل عندما استقاموا على الدين الذي أنزله الله إليهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [الصف:14]، ولكن اليهود والنصارى انحرفوا عن المسار وتنكبوا الجادة، فأصبح اليهود مغضوباً عليهم والنصارى ضالين، وهم في ميزان الله من الخاسرين، فلقد غيروا وبدلوا فلعنهم الله، وغضب عليهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وهم لا يمثلون اليوم الفئة الفاضلة في ميزان الحق، وقد جاءت هذه الأمة من بعدهم لتكون هي الأمة الفاضلة، وإذا أنت رجعت إلى سورة البقرة وإلى ما حدثنا الحق فيها عن أهل الكتاب فسترى أن القرآن كشف لنا عن الدعوة المضللة التي يدعيها أهل الكتاب، من أنهم الأفضل والأصلح، وبين أنها دعوى زائفة، ذلك أن أهل الكتاب انحرفوا عن الخصائص التي كانت ترفعهم إلى مصاف الأمة الفاضلة، فقد سرت فيهم العلل والأدواء التي شوهت العقيدة الصافية والشريعة المنزلة، واختلت عندهم القيم والتصورات الإيمانية كما اختل السلوك والقول والعمل، فمن اتهاماتٍ للخالق العظيم، إلى تشويه لسير الأنبياء، إلى تحريف للكتب المنزلة، إلى كتمان للعلم، إلى سفك للدماء وتمرد على أحكام الشريعة، واتباع للشيطان. وبعد هذا البيان الطويل لحال الأمم التي تدعي الأفضلية في سورة البقرة يأتي قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: انتهت خيرية اليهود والنصارى، وأنتم يا أمة الإسلام الآن في المستوى الذي يصفه الله تبارك وتعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} [آل عمران:110] أي: أنتم الأمة الفاضلة. ولذلك يأتي بعد قليل قوله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] السفهاء هم اليهود والنصارى الذين اعترضوا على تحويل القبلة، فوصفهم الله تبارك وتعالى بالسفهاء، والسفه خفة في العقل، واضطراب في الموازين، فالسفيه لا يكون فاضلاً ولا يكون خيراً؛ لأنه فقد الخيرية والصلاح. أما الأمم الأخرى التي تدعي الأفضلية، والتي ليس لها دين غير اليهود والنصارى ففضلها دنيوي عارض، ليس له في ميزان الله اعتبار؛ لأنه قائم على متاع الحياة الدنيا، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] وقال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]. فلقد وصف القرآن الحضارات التي ارتفعت في العلوم المادية ولكنها انحدرت في عقيدتها وأخلاقها وقيمها بالضلال والزيغ؛ لأن المجتمع الذي يوصف بالرقي في ميزان الله هو المجتمع الذي يقيم حياته وفق منهج الله، وإن كان غير متقدم في مجال العمران والزراعة والصناعة. أما الجاهلية فإنها تعتبر المجتمع راقياً إذا كان يملك العلوم المادية، والمجتمع المتأخر في عرفها هو المجتمع الفقير الذي لا يملك أسباب الرقي المادي والذي تنتشر فيه الأمية، ونحن عندما ندرس المجتمع المثالي الإسلامي نجده مجتمعاً فقيراً، لا يكاد يجد الفرد فيه ما يسد به رمقه، ولا ما يواري به جسده، فقد كانت بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليها الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد فيها نار لإنضاج طعام، ونجد الذين كانوا يحسنون القراءة والكتابة في المجتمع الأول الفاضل قليلين، وكذلك الذين يحسنون الصناعة أيضاً. إذاً: فالمجتمع الصالح المتحضر هو هذا المجتمع الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. إن نظرة الإسلام إلى المجتمع الراقي تصادم نظرة الجاهلية، فالإسلام يسم أكثر التجمعات الإنسانية تقدماً بالتأخر والرجعية والضلال إذا لم تحقق العبودية لله، وإذا لم تقم حياتها وفق تشريعاته ومنهجه، إن هذا الرقي المادي والعلم المادي لم يخلِّص فرعون ونمرود وعاداً وثمود وغيرهم من الأمم من مقت الله وغضبه، وليس معنى هذا أن الإسلام يحارب الرقي المادي، فالإسلام يأمرنا أن نسعى في الأرض لنسخر ما فيها من خيرات لصالحنا، قال سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، لكن الإسلام يريد أن نبني هذا الرقي على أصول سليمة قويمة، ويريدنا أن نقوِّم علوم الحياة ونضبطها بضوابط إلهية تحميها من الانحراف والضلال، يريدنا أن نقيم الصروح والأبنية وفق تشريع الله تبارك وتعالى، عندما يكون الهدف الكبير من بناء ضخم كالأهرام، أو بناء ضخم مثل (تاج محل) أو تلك الأديرة والكنائس التي تراها في إيطاليا وفي العالم الغربي التي بنيت لهدف تافه، أن يكون هذا البناء الذي كلف أعماراً ومئات وألوفاً وعشرات الألوف من البشر ليكون قبراً لإنسان، أي حضارة مثل هذه؟! وأي رقي هذا؟! نحن لا نوافق الأمم التي تدعي أنها الأفضل والأحسن؛ لأنها تملك العمارات الشاهقة، والحدائق الغناء، والمسارح الرحبة، والقصور الفخمة، والشوارع المنسقة، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، لا نوافقها على أنها الأفضل من أجل ذلك وحده؛ ولا لأنها توصلت إلى علوم هائلة بنت بها الرقي المادي، فلو كان هذا صحيحاً لكان اللص صاحب القصر الكبير أفضل من الشريف صاحب الكوخ الصغير، والعالم الذي يخطط لتدمير البشرية أفضل من الإنسان العادي الذي يسعى في إصلاح العباد. لقد أقامت كثير من الأمم حضارات راقية في المجال المادي، ولكنها أقامتها على أسس ظالمة، فأتى الله بنيانهم من القواعد ودمر ما كانوا يعرشون، قال عز وجل: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] وقال عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] وقال سبحانه: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15]، من أجل ذلك عرفنا الله تبارك وتعالى بمكانتنا وأننا خير الأمم، سواء الأمم التي لها دين،

عوامل رقي ورفعة أمة الإسلام

عوامل رقي ورفعة أمة الإسلام ولقد حقق المسلمون بفضل الله ورحمته في عالم البشر الرقي العظيم، والذي أصبحوا به خير أمة أخرجت للناس، ويمكن أن نلخص العوامل التي أوصلت الأمة الإسلامية إلى هذا الرقي العظيم في عبارة واحدة: هي أن المسلمين حققوا الهدف الذي خلقوا من أجله، فقد خلق الله البشر من أجل هدف واحد وهو العبودية له سبحانه، والمسلمون الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم حققوا الهدف الذي خلقوا من أجله، ألا وهو العبودية لله العظيم، قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ومن أجل تحقيق هذا الهدف العظيم أنزل الله كتبه وأرسل رسله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، ويحقق البشر العبودية لله في عالمهم عندما يرضون بالله إلهاً معبوداً، ويتخذون دينه الذي أنزله منهجاً يستمدون منه عقيدتهم وأخلاقهم وتشريعهم، فالدين الذي أنزله الله يقيم العباد على النحو الذي يريده الله تبارك وتعالى، وهو نظام كامل يصوغ حياة البشر صياغة إلهية، لذا فإن العبارة التي تقول: إن الإسلام منهج حياة، تلخص القضية بأوجز عبارة وأوضحها: تحقيق العبودية باتخاذ الإسلام منهج حياة يحقق الصلاح للنوع الإنساني في داخل نفسه وفي مجتمعه، ولذلك لم يبعد الذين قالوا: إن غاية الدين الذي أنزله الحق هي إصلاح النوع الإنساني وقطع دابر الفساد، كما قال بعض الرسل لقومه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، وذم الله المفسدين في الأرض بقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. إن الإصلاح حسب فقهنا لكتاب الله تبارك وتعالى يتم بأمرين: الأول: إصلاح الفرد، والثاني: إصلاح المجتمع، وبالتأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أنه جاهد في مكة لإصلاح الفرد في عقيدته وتفكيره وتصوراته وسلوكه؛ ليكون لبنة صالحة، ثم كان الجهاد الكبير في المدينة لتحقيق المجتمع الراقي الذي انضبط بضوابط الشريعة الإسلامية، وقد نجح الإسلام في إقامة مجتمع صالح استنارت بصائر أفراده وصلحت عقائدهم، وقومت أخلاقهم، وأحكمت العلاقات فيما بينهم، وكانت الدينونة فيه لله وحده، وكان حاكم المسلمين فيه واحداً منهم، يخضع للشريعة كما يخضعون، ويحاسب كما يحاسبون، ونسج الإسلام من ذلك المجتمع وحدة كانت آصرتها الدين، ولحمتها التقى، وهدفها تحقيق العدل في ربوع الأرض بمنهج إلهي، وساح المسلمون في المشارق والمغارب ينشرون دين الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وتحطمت القوى الجاهلية الجبارة أمام المد الإسلامي المتماسك، وأصبحت الدولة الإسلامية هي الدولة العظمى إلى أمد ليس بالقصير، وصدَّق الله في هذه الأمة قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فلقد كان العرب في جزيرة العرب حيارى تائهين ضائعين، يسلب قويهم ضعيفهم، ويقتل بعضهم بعضاً، فلا دين يجمعهم، ولا ملك يوحدهم، فغيروا ما بهم من أمراض وأصلحوا نفوسهم وأمتهم بالدين، فارتقوا إلى مرتبة لم يسبقهم فيها سابق، ولم يلحقهم فيها لاحق، وكانوا كما قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فأنجز الله لهم ما وعدهم، فاستخلفهم في الأرض ومكن لهم دينهم الذي هو سبب عزهم وذكرهم عندما أنجزوا ما شرطه الله عليهم، قال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، ولا نزال إلى اليوم ننعم ببقية صلاح الأجيال الأولى التي حملت الإسلام، فعلى الرغم من البلايا والرزايا التي تعرض لها الإسلام من أعدائه وحكامه عبر تاريخ المسلمين الطويل إلا أن الإسلام لا يزال له وجود ظاهر، وحملته من المسلمين منتشرون في كل مكان.

عوامل تدهور مكانة أمة الإسلام

عوامل تدهور مكانة أمة الإسلام فالأمة الإسلامية عندما التزمت بتشريع الله تبارك وتعالى أعزها الله ورفعها، إلى أن تغير المسار، وجاءت عصور الانحطاط، والذي يمعن النظر في واقع هذه الأمة اليوم يطول عجبه ويكثر تفكره، فالمتفكر في حال الأمة الإسلامية عندما يقارن بين حاضرها المشهود وماضيها الغابر يهوله الأمر، فالبون شاسع والفرق بعيد، وعندما يرجع الباحث مرة أخرى مقارناً بين الواقع المشهود والواقع الذي رسمه القرآن لهذه الأمة، فإنه يجدها لا تتبوأ المقعد الذي حدده القرآن لها، والدارس لخط سير تاريخ الأمة الإسلامية يجد أن استمرار الأمة الإسلامية على خصائصها التي جعلها الله لها من كونها خير أمة لم يستمر على وتيرة واحدة؛ فالخط البياني كان ولا يزال متذبذباً بين هبوط وصعود، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا التذبذب في خط سير الأمة الإسلامية في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان أنه قال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه، قال: قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر، قلت: يا رسول الله! فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك، قال: فالزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك). فالأمة الإسلامية -كما يشير الحديث- يصيبها الشر فتضعف وتهزل، ثم تعود إلى أصالتها، وقد تكون العودة عودة مشوبة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وفيه دخن)، وقد يكون الانحراف هائلاً، وذلك عندما يتسلط على رقاب هذه الأمة دعاة على أبواب جهنم يدعون الناس إلى مذاهب كافرة، فمن استجاب لهم كان مصيره النار وبئس القرار، ولقد ألمحنا من قبل إلى أن الرقي العظيم الذي رفع هذه الأمة هو أخذها بالدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى، ثم التفافها حول هذا الدين، فأصبحت أمة واحدة فتشكل من هذه الأمة قوة هائلة لا تغلب، ويمكن أن نعيد تأخر المسلمين وانحطاطهم إلى قضية واحدة: وهي الفرقة التي مزقت وحدتها، فجعلتها أمماً وشيعاً وطوائف وتجمعات، فالسمة العظيمة التي تعطي الأمة الإسلامية مكانة قوية هائلة هي اجتماعها على أساس من دينها، وهذه حقيقة طالما كررها القرآن الكريم، ونبه إليها وأمر بها، فقد أمرنا القرآن بالوحدة ونهانا عن الاختلاف والتفرق، فقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، ثم ذكرنا بالحال التي كنا عليها قبل الإسلام: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]، ونهانا عن التفرق والاختلاف: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. وقد أخبرنا جل وعلا أن التنازع والاختلاف يسبب الفشل وذهاب القوة، بينما تجعل الوحدة الأمة قوية متماسكة في وجه الرياح والأعاصير، وعندما توجه هذه القوة مجتمعة نحو أعدائها فإنها تفتت بأسهم وتقضي على كيدهم، ولذلك لا يمكن أن تهزم الأمة إذا كانت مجتمعة، فسنة الله تبارك وتعالى أن هذه الأمة إذا ما اجتمعت فلا يمكن أن تهزم ولو وقفت الدنيا بأسرها في وجهها، وهذا ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض -ملك كسرى وقيصر-، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة) يعني: لا يكون بلاء عام يستأصل المسلمين، وإنما قد يصيب بعض الأمة، لكنه لا يصيب الأمة بكاملها، مثل ما أصاب قوم نوح والأمم من قبلنا، حين استأصل الأمة بكاملها، فهذا لا يحدث لهذه الأمة ثم قال: (ولو اجتمع عليهم من بأقطارها) يعني: ولو اجتمعت الدنيا كلها في مواجهة المسلمين فلن يقدروا أن يتغلبوا على المسلمين، (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً) يعني: إذا تفرقوا واختلفوا وسفك بعضهم دم بعض، وأسر بعضهم بعضاً، ودمر بعضهم بعضاً، فعند ذلك تصير قوتهم وبأسهم فيما بينهم، وعند ذلك يرفع الله تبارك وتعالى نصره عنهم. ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ملك المسلمين سيصبح عظيماً، وأنه سيمتد على رقعة واسعة في جنبات الأرض، وأن هذه الأمة ستحطم الدولتين العظيمتين في ذلك الوقت: الفرس والروم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله وعده ألا يصيب هذه الأمة بهلاك عام، وألا يسلط عليها أعداءها فيأخذون ملكها ويعلون عليها ويقهرونها، ولو اجتمعت كل قوى الشر ضدهم.

أنواع الفرقة وأسبابها

أنواع الفرقة وأسبابها وينبغي أن ندرك أن الفرقة ليست نوعاً واحداً، وأن الفرقة ليس لها سبب واحد.

الفرقة في الدين أسبابه وخطره

الفرقة في الدين أسبابه وخطره فإن أخطر أنواع الفرقة: هي الفرقة في الدين، وليس مرادي بالفرقة أن تفترق الأمة وتتقاتل وهي على عقيدة واحدة، فقد تقاتل الصحابة وهم على عقيدة واحدة ودين واحد، لكن الأخطر من ذلك أن تفترق الأمة في دينها، قال الله: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ومن المعلوم أن اجتماع المسلمين على أساس الإسلام وعلى أساس عقيدة الإسلام هو أعظم أنواع الوحدة، لكن عندما يصبحون أدياناً وفرقاً يكون الخلاف كبيراً، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]، ثم يقول بعد ذلك: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، فأمة واحدة تعبد إلهاً واحداً تمثل تجمعاً واحداً، وماذا حدث للأمم من قبل؟ لقد تقطعوا أمرهم بينهم زبراً، وكيف تقطعوا؟ بأن أصبحت هناك مذاهب وعقائد وملل في الدين الواحد، وفي موضع آخر يقول الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:92 - 93]، فاختلاف العقائد والمذاهب في الأمة يحدث -جزماً- خلافاً بين المسلمين في واقع الأمر، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سيصيبها ما أصاب الأمم من قبلها، فعن معاوية بن أبي سفيان في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو داود والإمام أحمد في مسنده قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة)، زاد في رواية: (وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)، وفي سنن أبي داود وسنن الترمذي وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، وإذا شئت أن تطلع على هذه الفرق فارجع إلى كتب الملل والنحل وكتب الفرق، فقد افترقت الأمة إلى خوارج، وإلى معتزلة، وإلى شيعة، وإلى قدرية، وإلى أشعرية وكلابية وماتريدية، وفرق كثيرة. ومن أسباب الافتراق في الدين: أن تجمعات من الأمة تبنت مناهج مخالفة للشرع، وأنا قلت من قبل: إن الإسلام منهج، والمطلوب من المسلمين أن يكتشفوا هذا المنهج، لا أن يضعوا مناهج من عند أنفسهم، وهذه قضية خطرة، وأنا أجزم أن كثيراً من المثقفين في هذه الأمة يفتخرون ويقولون: نحن عندنا منهج وأنتم ليس عندكم منهج، نقول: هناك منهج واحد هو منهج الإسلام، منهج ليوم الإنسان، ولشهر الإنسان، ولسنة الإنسان، ولعمر الإنسان، وللأمة الإسلامية بأكملها، فقط نحن مهمتنا أن نكتشف هذا المنهج، فلدينا منهج في العقيدة، ومنهج في التفكير، ومنهج في التصور، ومنهج في السلوك. الناس مغرمون من قديم الزمان بوضع المناهج، فمن المناهج الخطيرة التي أثرت في تفكير الأمة: المنهج الفلسفي الكلامي في العقيدة والإيمان، وأنا لا أريد أن أفصل في هذا، لكن هذا المنهج زاحم المنهج القرآني الإيماني النبوي في القلوب والنفوس، وفي التفكير، وفي تقرير العقائد. وهناك المنهج الصوفي الذي يغرق في التعبد، ويستحدث أنماطاً من العبادات لم يشرعها الله تبارك وتعالى، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المنهج بقوله: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن أقواماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم) فبعض الذين ينتسبون إلى الإسلام من العلماء يرفضون الاحتجاج بأصول الشريعة بالكتاب والسنة، ويزعم هؤلاء أن نصوص الكتاب والسنة هي ظواهر وعمومات لا تفيد اليقين، والذي يفيد اليقين عندهم هي الأدلة العقلية فقط، حتى إن بعض الفرق رفضت الاحتجاج بالسنة أصلاً كالمعتزلة، وقالوا: السنة عبارة عن ظن ليس فيها يقين، ولذلك لا يحتجون إلا بالمتواتر، والأحاديث المتواترة التي وصلت إلينا أحاديث قلة، هذا الاختلاف العقائدي القديم أنشأ مذاهب عقائدية جديدة، وأنشأ أهواء بين المسلمين في هذا العصر، فقامت في ديار المسلمين في هذه الأيام دعوات تنادي بالوطنية: أنا أردني، وأنا فلسطيني، وأنا مصري، وأنا كويتي، وأنا وأنا، وأصبحت هذه النعرات الوطنية القومية تُغذَّّّّّّّى، فبدلاً من أن نقول: نحن مسلمون، وننادي بالإسلام وعزة الإسلام، ورابطة وأخوة الإسلام، أصبحت الآن هذه النعرات تغذى في بلاد المسلمين، بل أصبح هناك تجمعات في ديار المسلمين على مذاهب كافرة، كالشيوعية، والعلمانية، والبعثية، وأخذ الضالون ينادون بالرجوع والاعتزاز بالحضارات القديمة البائدة، كالفرعونية، والآشورية، والبابلية، ولما دعا الترك إلى الطورانية ودعا العرب إلى القومية، قام الأكراد وقالوا: نحن أكراد، وثار البربر في شمال أفريقيا وقالوا: نحن بربر، وتفرق المسلمون وأصبح كل تجمع يعتز بجنسيته أو قوميته أو وطنيته، أضف إلى ذلك ما جاءنا من الغرب من هذا الانبهار الذي طغى على عقول مفكرينا ورجالاتنا وأبنائنا وفتياتنا، فهذا نمط ونوع واحد من الاختلاف.

الفرقة في الأحكام العملية التي تعارض الكتاب والسنة

الفرقة في الأحكام العملية التي تعارض الكتاب والسنة وهناك نوع آخر من الفرقة سببه الاختلاف في الأحكام العملية، لا أعني اختلاف الأحكام العملية الاختلاف الطبيعي الناشئ عن الاختلاف في فقه النصوص بسبب تفاوت العلماء في الفهم والإدراك، كما لا أعني به الاختلاف الناشئ من عدم وجود نص؛ فهذا النوع من الاختلاف لا يسبب فجوة بين المسلمين، وقد حدث هذا النوع من الاختلاف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما أقصد الاختلاف المذموم وهو: الإعراض عن الكتاب والسنة تقليداً لآراء الرجال، فترى الواحد يجد نصاً قرآنياً أو حديثاً نبوياً صريحاً في المسألة، ثم يقول: لكن شيخي قال هكذا، وإمامي قال هكذا، ومذهبي قال هكذا.

قاعدة الجزاء والحساب

قاعدة الجزاء والحساب إن الله تبارك وتعالى حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، لما له من نتائج وخيمة، وعواقب أليمة، وكان ينبغي لأولئك الذين يظلمون العباد ويسعون في الأرض الفساد، أن يتعظوا ويعتبروا بمن سبقهم من الظلمة. وهنيئاً لذلك الرجل الذي امتلأ قلبه بحب الله، فهو يعلم أن هدايته بيد الله، وأن رزقه سيأتي إليه رضي الطواغيت أم سخطوا؛ لأن الله هو الذي كتبه.

التحذير من الظلم

التحذير من الظلم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيما يريه عن ربه تبارك وتعالى: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). هذا حديث عظيم يخاطب فيه رب العزة تبارك وتعالى عباده ويعلمهم ويفقههم، ويخبرهم أنه حرم الظلم على نفسه، فلا يظلم رب العزة أحداً؛ ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ومن أجل ذلك تقوم القيامة حتى يأخذ الظالمون جزاءهم، ويأخذ العادلون المؤمنون الأتقياء جزاءهم. لقد جعل الله عليك ملائكة تسجل صالح أعمالك وطالحها، ويجعل ذلك في كتاب، ثم يوم القيامة تنصب الموازين القسط فتوزن الأعمال، ويوزن البشر، فمن رجحت موازينه فهو من أهل الخير، من خفت موازينه فأمه هواية {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. لقد حرم الله تبارك وتعالى الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً؛ فحرم أن يظلم الإنسان أخاه، وذلك كأن يقع في عرضه، أو يتكلم في أمره بغير حق، أو يجلد ظهره، أو يأخذ ماله، أو يعتدي على حرماته أو يغتابه كل ذلك حرام، والظلم كما في الحديث الصحيح: (ظلمات يوم القيامة) وفي الحديث أيضاً: (ومن كان لأخيه عنده مظلمة فليتحلله منها قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم إنما هي الحسنات والسيئات)، فالذي ظلمته يأخذ من حسناتك حتى إذا فنيت الحسنات جيء بسيئاتهم فوضع فوق ظهرك. (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، لا يفرح الظالمون، ولا يظنوا أنهم قد فازوا عندما داسوا على رقاب الناس وأخذوا أموالهم فبجرة قلم منهم تسفك الدماء وتنتهك الحرمات، وتخرب البيوت، ويظنون أنهم سادة الدنيا، فماذا فعل فرعون؟ ماذا فعل هامان؟ ماذا فعل نمرود؟ ذهبوا، وبقيت ذكراهم الخبيثة، وبقيت أعمالهم النتنة تحيط بهم، وعند الله تجتمع الخصوم، يجتمع الناس فيحشر المتكبرون المتجبرون أذلاء فقراء، يتمنون أنهم لم يظلموا، بل لم يخلقوا. (إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، أي: لا يظلم بعضكم بعضاً، وفي الحديث: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، ويقول الله لها: (لأنصرنك ولو بعد حين).

الهداية والرزق بيد الله وحده

الهداية والرزق بيد الله وحده قال الله تعالى: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم). الهداية بيد الله، والرزق بيد الله، هو الذي يرزق العباد ويطعمهم ويسقيهم ويكسوهم، خلق الماء، والأرض، والبذر، والشجر، والحيوان، فإذا منع ذلك كله، فمن أين تأكل؟ ومن أين تشرب؟ ومن أين تُكسى؟ قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:78 - 82]. فهذا هو ربكم تبارك وتعالى فاسألوه وحده، فبيده الهداية والرزق، وبيده الموت والحياة، والعباد عبيد مربوبون مقهورون، وأمرهم بيد الله تبارك وتعالى، وأمر الله فيهم ماض، فالخلق والأمر لله تبارك وتعالى، والرزق منه تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] (أنتم الفقراء إلى الله) تأتون ضعفاء، وتذهبون ضعفاء، وتعيشون ضعفاء، وإن كانت خزائنكم ملأى بالمال لكنكم ضعفاء. فالغني الذي لا يفتقر أبداً هو الحي القيوم الذي لا تنتهي حياته، ولا ينتهي وجوده، (أنتم الفقراء إلى الله) تحتاجون إلى هدايته ورزقه وعونه وتأييده وتوفيقه، فعليه فتوكلوا، وإليه فاجأروا، ووحده فاسألوا.

الله لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه

الله لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)، إن الله تبارك وتعالى لا تضره معصية العاصي، ولا تنفعه طاعة الطائع، فهو لم يخلقنا لحاجة لنا، فهو غني عنا وعن أعمالنا. (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، إنما تنفع نفسك {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس:108]، وإنما تضر نفسك {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108]، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت:6]. عندما تقدم الأضحية: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] أي: لا يريد منك رزقاً، فالله هو الذي يرزقك وهو الذي يطعمك، فهو غني عنك. إن البشر جميعاً لو كانوا في التقى والصلاح كمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لم يزد هذا في ملك الله شيئاً، ولو كانوا كلهم كإبليس في الشر والفجور ما ضر ذلك الله شيئاً ولا انتقص من ملك الله شيئاً. (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً -ولو كانوا على أفجر قلب شيطان- ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). وعندما يسأل العباد ربهم لا ينقص من ملكه شيء مهما أعطى ومنح وبذل؛ لأن غناه غناء أبدى، فلا ينقص من ملكه شيئاً.

خزائن الله ملأى

خزائن الله ملأى (يا عبادي! لو أن أولكم) منذ إبليس إلى آخر رجل: (وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسأل كل إنسان مسألته)، سأل الدنيا بمراتبها بآلاتها بما عليها، فأعطى الله كل إنسان ما يريد (ما نقص من ملكي إلا كما ينقص المخيط) أرأيت هذه الإبرة عندما تدخلها في البحر، ماذا تأخذ من البحر؟ لا شيء، وكذلك ملك الله لا ينقصه شيء، وخزائن الله ملأى، ولذلك أقل أهل الجنة يتمنى ويتمنى ويتمنى فيقول الله: (يكفيك قدر ملك الدنيا، يقول: ربي رضيت). هذا أقلهم ملكاً في الجنة. أما أعلاهم فالله أعلم بملكه، ويبقى في الجنة فضل لا يسكنه أحد، فيخلق الله تبارك وتعالى له خلقاً إن ملك الله واسع، وخزائن الله ملأى، لا تنقص ولا تقل، فلو سأل العباد ربهم فأعطى كل إنسان سؤله لظل ملك الله كما هو لم ينقص منه شيئاً. (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها) إنما الحساب على الأعمال، فأعمالك ترفعك أو تخفضك، والقول من العمل، قال معاذ: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، في كتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] فأعمالك تحصى عليك حتى إذا مت ختم على عملك، ووضع في عنقك، ويوم القيامة يخرج لك كتاب ويقال: هذا كتابك: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] فمن وجد خيراً فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. إن السيئة بمثلها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفاً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وهذه هي قاعدة الجزاء والحساب التي يحاسب عليها العباد عندما يجمع الله الأولين والآخرين في يوم الدين، فليعد كل امرئ عدته لمثل ذلك اليوم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.

أعمال الدنيا مزرعة الآخرة

أعمال الدنيا مزرعة الآخرة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. أما بعد: فهذه معان عظيمة جاء بها الحديث الكريم، فحري بالمسلم أن يتذكرها دائماً، وأن تكون على باله، فإن لها تأثيراً في صلاح قلبه وفكره وعمله، فتجعله دائماً يتفكر فيما بين يديه، فالناس يعيشون في غفلة، وقد تمضي الأيام والشهور والسنون، ثم يأتي الموت فيجد الإنسان نفسه قد قصر كثيرا، وأنه كان في دنياه غافلاً. فعلى المسلم أن يتذكر هذا الحديث فلا يظلم الناس، ويلجأ إلى الله تبارك وتعالى في كل أموره، فيطلب منه الهداية والسداد والرشاد، وعليه أن يعلم أن رزقه عند علام الغيوب ليس عند البشر، ولا في خزائن البشر، فلو شاء الله لك لقمة لا يمنعها كبار الطواغيت من أن تصل إليك، فإن الله أعظم من كل عظيم، إذا ما شاء الله لك في أمر ولم يرده عبد كسر رقبته، وأنهى وجوده، فأمر الله ماض، وأمر الله مفعول، وقدره مقدور وكائن لا بد منه، فعلى الإنسان أن يعلق قلبه بربه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] فعلى المسلم أن يعبد الله تبارك وتعالى حباً ورغبة ورهبة ورجاءً وتوكلاً واعتماداً، فالأمر كله بيد الله تبارك وتعالى، فنحن نعبد الله حباً في الله عز وجل، فالله لا تنفعه طاعتنا، ولا تضره معصيتنا، فهو تبارك وتعالى غني عنا وعن أعمالنا، وإذا شاء إذهابنا أذهبنا، وإن يشأ يأت بغيرنا فهو على كل شيء قدير. أعمالكم هي زراعة اليوم وحصاد الغد، أنتم اليوم تزرعون وغداً تحصدون، فإذا زرعت حنظلاً فستجني حنظلاً مراً، وإذا زرعت شجراً ذا شوك، أتتوقع أن ينتج عنباً وتفاحاً وبرتقالاً؟ كلا، بل ما تزرعه تجنيه، فإذا زرع الإنسان ظلماً وفجوراً وفساداً فسيجني في ذلك اليوم ما زرع. (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) غداً تقطف الثمرة، فإذا كانت الأعمال التي عملتها سيئة فلا تتوقع أن تجد خيراً، ولكن التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله عز وجل هي التي تطهر العباد من ذنوبهم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات؛ إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

ما يعترض الداعية المسلم

ما يعترض الداعية المسلم إن الله سبحانه وتعالى سخر لهذا الدين دعاة يحملون راياته، ولن يتقبل الله عمل مسلم إلا بما وقر في قلبه من الإيمان والتصديق، وقد تجف منابع الإيمان في قلب المؤمن وتنضب؛ وذلك لأسباب منها ما قد يشغل قلب الإنسان من أمور الدنيا فتسيطر على كيان قلبه، وتشل حركة قلبه الإيمانية مما يورثه قسوة شديدة في قلبه، ومما يورث هذه القسوة البعد عن تدبر آيات رب البرية. وأنجع علاج لمعالجة قسوة القلب هو المداومة على ذكر الله وتدبر كتابه وإدمان عبادته عز وجل.

خطر الجفاف الروحي

خطر الجفاف الروحي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، أما بعد: فقد انتشر الإسلام في فجاج الأرض بدعاته العاملين به، وإنما يتقبل الله عمل العاملين بما وقر في قلوبهم من إيمان وتصديق، وبما بذلوا من جهود في سبيل الله. فقد تصيب بعض العاملين للإسلام ودعاته أمراض يتوقف بها ثوابهم وعطاؤهم في بعض الأحيان. وسأحاول في حديثي هذا أن ألقي ضوءاً على أحد هذه الأمراض التي قد تصيب دعاة الإسلام والعاملين للإسلام، وحديثي إنما هو تذكير لنفسي، وتذكير لإخواني، فالدين النصيحة. فأقول: إن هناك ما يسميه بعض الناس بالجفاف الروحي، أو الهزال الذي يصيب روح الإنسان فيصبح آلة صماء تتحرك وتسعى ولكن من غير قلب. وهذا مرض خطير، إذا أصاب الإنسان فقد العمل قيمته، وأصبح العمل الذي يبذله إما عديم الفائدة أو قليل الفائدة. وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الإنسان مخلوقاً من قبضة من طين، فشكله ونفخ فيه من روحه، فالإنسان يتكون من هذين العنصرين، فلقبضة الطين -وهي الجسد- مقتضياتها، وللروح التي تسري في كياننا متطلباتها ومقتضياتها، والناس منذ القديم بين إفراط وتفريط. ففريق من الناس يفرطون في إعطاء الجسد متطلباته والعناية به عناية كبيرة تجعلهم يهملون الروح، وفريق غالى في الجانب الآخر. فجاء دين الله سبحانه وتعالى الذي هو الإسلام الذي أنزل للناس منذ أن أُرسل نوح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليجعل الإنسان ينتظم في منهج واحد، فليس هناك انشقاق أو انقسام في حياة الإنسان، وإنما هو طريق وسبيل واحد، فانتظمت مطالب الجسد والروح في هذا المنهج، فالذي أوجده هو خالق الإنسان، فمنزل القرآن ومنزل الإسلام هو خالق الإنسان. وقلوب الناس إنما تحيا بهذا الإسلام وتستنير استنارة هذه المصابيح الكهربائية التي نشاهدها عندما تتصل بمصدرها، وكذلك هذه القلوب عندما تتصل بخالقها وبالنور الذي أنزله الله سبحانه وتعالى فعند ذلك يشرق قلب الإنسان وتشرق نفسه وتضيء. قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] أي: مثل نوره في قلب عبده المؤمن كمشكاة فيها مصباح. والقلوب فيها مصابيح، فإذا ما استمدت من كتاب الله ومن سنة رسول الله استضاءت استضاءة حقيقية لا شكلية، وأصبحت حياة الإنسان لها معنى، ولها قيمة ولها طعم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجد الإنسان في قلبه حلاوة للإيمان يتذوقها، فهل نريد أن نصل إلى هذه الدرجة، وأن نستشعر الإيمان في قلوبنا، وأن يكون إيماننا إيماناً حقيقياً نحسه في ذوات أنفسنا، ونجد نداوته وحلاوته في قلوبنا؟ فإذا بقي العمل للإسلام عملاً ظاهرياً لا يغزو أعماقنا ولا يستقر في قلوبنا فسيكون حظنا من الإسلام قليلاً وضئيلاً.

أسباب قسوة القلب

أسباب قسوة القلب وهناك أسباب عدة لما يجده الإنسان في بعض الأحيان من فقدان ما أسماه القرآن -مثلاً- بالخشوع، أو نداوة القلوب ولينها، كما قال الله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74]. فقسوة القلوب تجعل الإنسان لا يستطيع أن يتحرك بإسلامه وبدينه، وإن تحرك فحركته بطيئة آلية لا تغني كثيراً.

انشغال القلب بالدنيا

انشغال القلب بالدنيا فمن أهم الأسباب: أن يشغل الإنسان قلبه بالدنيا. وأنا لا أعني أن يشتغل الإنسان بالدنيا، فتلك طبيعة الإنسان، وذلك منهج الله، فنحن نعمل في الدنيا للآخرة، ونأخذ حظنا من الدنيا، ونأخذ حظنا من الآخرة، ولكن لا نريد أن تنشغل هذه القلوب بحيث تتعلق بالدنيا تعلقاً يعبِّدها لهذه الدنيا. والرسول صلى الله عليه وسلم سمى هذا الانشغال عبودية فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، ونحن كلنا نلبس ونحرص على أموالنا، والقرآن أمرنا بذلك، فليست القضية أن يشتغل الإنسان بالدنيا، وإنما أن يتعلق قلبه بها فتصبح هي مدار حياته يدور بها كما يدور الحمار بالرحى. وقد يقوم هذا الإنسان ببعض الأعمال للإسلام لكن قلبه متعلق بالدنيا، هي التي تسيِّره وهي التي توقفه، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط منها سخط، فدنياه ذات تأثير كبير عليه أكثر من تأثير دينه عليه. فهذا الإنسان في خطر كبير، وينبغي أن يتدارك نفسه فيعالجها، وذلك بأن يعلم قيمة الدنيا كما وصفها الله في كتابه، ويعلم قيمة الآخرة، وينظر في قصر الدنيا وفي طول الآخرة كما بينه القرآن الكريم، ومن ذلك على سبيل المثال قوله جل وعلا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:14 - 16]. حتى إن الانشغال الدنيوي الذي ليس فيه شغل قلبي قد يقسي القلوب، ففي بعض الأحيان يحتاج القلب إلى علاجه السريع، وهو ألا يغفل المسلم عن ربه وعن ذكره وعبادته. (لقي حنظلة أبا بكر فقال: يا أبا بكر! نافق حنظلة. قال: وما ذاك؟ قال: نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار وكأنهما رأي عين، فإذا رجعنا إلى أهلينا عافسنا الأزواج والأولاد ونسينا كثيراً. قال: إني لأجد مثل الذي تجد، فانطلقا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله! قال: وما ذاك فأخبره، قال: يا حنظلة! لو تدومون على ما أنتم عليه معي في الذكر لصافحتكم الملائكة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. والشاهد: أن الإنسان حين ينشغل بهذه الأمور يجف أحياناً ما يستشعره من إيمان، فيقسو قلبه شيئاً ما، فهذا شيء طبعي، لكن ينبغي له أن يعالج. ولذلك شرع الله لنا أن نعمل في دنيانا ثم نعود إلى الصلاة، وهذا من حكمته سبحانه، فما يكاد الإنسان ينشغل في الدنيا حتى يعود إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى صلاة العصر، ثم يعود إلى صلاة المغرب، ثم إلى صلاة العشاء، وهو مع ذلك يذكر الله في أثناء عمله فلا يدع قلبه يقسو ويتأثر تأثراً كبيراً بالدنيا. وينبغي أن يدمن المسلم العبادة وطاعة الله عز وجل، فهذه العبادة التي نتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى -والله غني عنها- ذات تأثير كبير في إصلاح النفوس والقلوب، وفي صلاح القلب صلاح للإنسان، وفي الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). ومن أعظم ما يصلح القلوب: منهج التزكية في الإسلام ومن أعظمه: هذه العبادات التي جاء بها الإسلام من صلاة، وصيام، وذكر، ودعاء، واستغفار، وحج، وعمرة، وغير ذلك من العبادات التي شرعها الإسلام، فهي من أهم ما يصلح النفوس ويربيها، وحسبنا في ذلك قول الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، والطمأنينة شيء عظيم عندما يفقده الإنسان يصبح في حياته كثير من الشقاء، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، فالذكر والاستغفار يذهب هذا الذي يصيب القلب من قسوة. والمقصود: أن يستشعر المسلم من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصد أن يذكر الله، وأن يحرص على الذكر بالسبل التي شرعها الله، ومن جملة ذلك الاستغفار. فما يفعله الإنسان وما يتكلم به أحياناً إذا كان فيه شيء من البعد عن منهج الله أو شيء من الخطأ قد يصيب الإنسان فيغشي قلبه نوعاً ما، فالاستغفار يذهب ذلك، والدعاء كذلك. ومن جملة هذا أن الصلاة والعبادة والدعاء والاستغفار حصن يقي الإنسان من وساوس الشيطان التي تؤثر تأثيراً سيئاً على قلب الإنسان. فالحرص على العبادة كما شرعها الله سبحانه وتعالى غذاء ودواء للقلب، ولعله مر على كثير منا مقولة المجاهد الكبير ابن تيمية رحمه الله عندما كان يجلس من الفجر إلى الضحى وهو يذكر الله، والتي ينقلها عنه ابن القيم أنه كان يقول: هذا زادي أي: هذه الجلسة زادي فلو فقدتها فلن أستطيع أن أستمر بقية يومي!

البعد عن التفكر في آيات الله الكونية والشرعية

البعد عن التفكر في آيات الله الكونية والشرعية وبعض الناس لا يتدبرون الآيات الكونية ولا الآيات القرآنية، ومن وسائل تقويم النفس أن يكثر المسلم من التفكر في آيات الله، وهو منهج حثنا عليه القرآن الكريم فلا يجوز أن نغفل عنه وأن نهمله، فعلى الإنسان أن يتفكر في السماء ونجومها، وفي الشمس والقمر، وفي الليل والنهار، وفي السهل والجبل، وفي البر والبحر، وفي كل ما خلق الله سبحانه وتعالى من آيات مثل: قطرة الماء، وورق الشجر والثمر، ونسمة الهواء الباردة، ففي كل ذلك إعجاز وإبداع، وعندما يتفكر المسلم في ذلك فإن قلبه يستضيء بقدرة الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:190 - 192]. فوصف الله أولي الألباب بأنهم الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، ويصلون إلى النتيجة من هذا التفكر وهي قولهم: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]، والآيات التي تأمر بالتفكر والتذكر كثيرة، وعلى الإنسان أن يتفكر في أصل خلقته قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، وأن يتفكر في طعامه: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس:24 - 26]، وأن يتفكر في مخلوقات الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18] وهذا منهج واضح في كتاب الله ينبغي أن يحرص المسلم عليه حرصاً شديداً. ثم إن التدبر في الآيات القرآنية المتلوة، لا يكون بإقامة حروف القرآن وتحسين تلاوته فقط، مع أن ذلك شيء طيب وجميل ومطلوب، لكن ينبغي أن ننظر فيما وراء الألفاظ، وأن ننظر في المعاني، وفيما ترشد إليه هذه الآيات فنعتبر ونستغفر. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سيأتي أقوام يقيمون هذا القرآن إقامة القدح ثم لا يجاوز حناجرهم)، وهؤلاء هم الخوارج، فالقرآن لا يجاوز حناجرهم، فهم يحسنونه ويتلونه ويقومون به آناء الليل والنهار، ولكنهم لا يفقهون هذا الكتاب فقهاً حسناً. فنحن مطالبون بأن نتدبر القرآن، وأن نتبصر فيه وفق المقاييس التي وضعها السلف الصالح في فهم القرآن الكريم، يقول جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. فالله سبحانه وتعالى ذم هذا الفريق وهذا الصنف من الناس الذي لا يتدبر هداية الكتاب، فالقرآن الكريم نور وهداية، يكشف الظلمات، وهو روح في نفس الوقت كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. فهو نور وروح يحيي موات القلوب، وهو نور يكشف ظلمات النفس والكفر والشرك والباطل، ويكشف حقيقة أهل الضلال والزيغ والطغاة والظالمين، ويكشف أعمالهم، وهو نور لا يستغني عنه الإنسان، فإنه يبصره بربه، ويعرفه بمنهجه وبحقيقته، فنحن في سبيل إزالة هذا المرض لابد أن نحرص على الإكثار من هذا المنهج الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، وأن نتفكر في آيات الله الكونية المشاهدة المنظورة، وأن نتفكر في آيات الله المتلوة المنزلة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخل في ذلك فهم الأحاديث والتدبر في معانيها.

عدم محاسبة النفس

عدم محاسبة النفس ومما يسبب قسوة القلوب: أن الإنسان يقصر نظره على العمل فقط، ولا ينظر إلى ما وراء العمل من الغاية والهدف، فنحن بحاجة إلى أن نتذكر الغاية والهدف في كل خطوة، وينبغي أن يواجه الإنسان نفسه بأسئلة حتى يكون عمله خالصاً لله تعالى. ففي زحمة الأعمال والأشغال تتداخل الأهداف وتتصارع، وإذا غفل الإنسان عن نفسه فسيجد أن كثيراً من أعماله -إن كان صادقاً مع نفسه- لم يقصد بها الله سبحانه وتعالى، ولم يرد أجره وجنته، ولم يخف من ناره، وإنما عمل ذلك من أجل نيل شهرة أو رياءً أو شيئاً من ذلك، وهذا الأمر خطير، ونحن نعلم مدى خطورة هذا الشيء، فأصحاب هذه الأعمال لا قيمة لعملهم عند الله سبحانه وتعالى، فالثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار هم: مجاهد ومتصدق وعالم، كانت أعمالهم لغير الله، ما فتشوا في نفوسهم وسألوها: لم فعلتِ هذا العمل؟ وما صبروا على أن يكون العمل خالصاً، فهذا يحتاج إلى جهاد، وإلى أن يبذل الإنسان في سبيل ذلك جهداً، وكلنا نحتاج إلى هذا، فالصحابة رضي الله عنهم احتاجوا إلى هذا التوجيه، ونحن بحاجة إليه، يقول أحد الصحابة: ما علمت أن فينا أحداً يريد الدنيا حتى أنزل الله قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]. فنحن بحاجة إلى أن نفتش دائماً في نفوسنا ونسألها: لم نعمل هذا العمل؟ فهذا هو أول الدين كما يقول العلماء: أول الدين وآخره الإخلاص في العمل، وهو مضمون قول لا إله إلا الله، بل إن أصل الدين الذي هو محور القرآن الكريم ومحور دعوة الرسل جميعاً ومحور الرسالات السماوية: أن يكون الدين لله، وأن تكون العبودية لله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، وفي اللحظة التي تتداخل الأهداف وتصبح عند الإنسان غايات مختلفة غير هذه الغاية يفتر كثيراً، وقد يخطئ في كل شيء. فالدين لابد أن يكون خالصاً لله تعالى، عند ذلك يكون العمل مثمراً وخيراً، ويكون قليل العمل مباركاً، فالعمل القليل يصبح بالإخلاص عملاً كبيراً مباركاً؛ ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، فشق التمرة بالإخلاص ينفع، والعمل الكثير بدون الإخلاص لا خير فيه ولا بركة.

أثر الترغيب والترهيب في الإقبال على العمل وتركه

أثر الترغيب والترهيب في الإقبال على العمل وتركه ولقد عَلِمَ الله سبحانه وتعالى من الإنسان أنه لا يتحرك ولا يندفع اندفاعاً ذاتياً قوياً إلا إذا وضع له الله سبحانه وتعالى دواعي تجذبه نحو العمل، لذلك فإن الأمور التي يحبها الإنسان ويعشقها لم يوجبها الله عليه بل أباحها له؛ لأن هناك دواعي تدعوه إلى فعل هذا مثل تناول الطعام والشراب والنكاح، مع أن هذه الأمور مطلوبة شرعاً، فلو جاء إنسان يحرم على نفسه الطعام والشراب أو أنواعاً من الطعام وأنواعاً من الشراب أو يحرم شيئاً من النكاح فإنه يكون آثماً في الشريعة الإسلامية، لكن الشارع لم يوجبها اكتفاء بالدافع النفسي الموجود في أعماق الإنسان من داخله، أما الأمور التي فيها مشقات، ونفس الإنسان لا تقبل عليها بسهولة، فإن الإسلام جعل لها أموراً تزكيها عنده، فأقام لها الشارع دواعي من خارج نفس الإنسان بأن جعل لها الأجر العظيم والثواب الجزيل. وفي المقابل جعل على الأمور التي يندفع إليها الإنسان وهي مكروهة في الشرع العقاب الشديد؛ ولذلك فنحن بحاجة إلى أن نذكر أنفسنا باستمرار بما جعله الشارع من ثواب على الأفعال التي يحبها والتي طلبها منا. فقد خلق الله تعالى نفس الإنسان بهذا الشكل، فنحن نحب الخير لأنفسنا، ولذلك نجد الحافظ المنذري يكتب ثلاثة مجلدات في الترغيب والترهيب، وقد بين القرآن وبينت السنة تفاصيل الأعمال التي يعملها الإنسان، والتي يحب الله من الإنسان أن يعملها، والأجر العظيم المترتب عليها، فالإنسان عندما يتفكر في الأجر المترتب عليها يندفع لعملها، فعندما يقرأ آكل الربا قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، وعندما يقرأ آكل مال اليتيم قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، وعندما يقرأ الذين يكنزون المال قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]، وعندما نقرأ جزاء الكافرين في قوله سبحانه: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22]، ثم نقرأ ثواب المؤمنين: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:23 - 24]؛ نجد أن النفوس والقلوب تميل وتقبل على العمل، وعندما تقرأ في الثواب والأجر تحاول أن تتخذ الوسيلة التي شرعها الله سبحانه وتعالى للحصول على هذا الثواب. فعندما يسمع المسلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، ويسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقوله: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)؛ يقبل على هذا، ويتخذ الوسيلة التي تؤدي إلى هذه الغاية الكبيرة. وعندما يسمع ما أعد الله للكافرين يهرب ويفر من هذا العمل الذي سيوصله إلى غضب الله وسيوقعه في هذا البلاء العظيم، فنحن بحاجة إلى أن نعلم أن آيات القرآن امتلأت بذكر الوعيد، وبذكر ما يناله المؤمنون في الدنيا وفي الآخرة وما يناله الأتقياء والصالحون، فهذا ليس عبثاً، وتكوين الإنسان بهذا الشكل ليس عبثاً، والذين حاولوا أن يغفلوا هذا الأمر أضروا بالمسلمين ضرراً بالغاً، مثل الصوفية الذي يقول قائلهم: ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك! فالذين ما عبدوه لأجل هذا، أضروا بالناس ضرراً كبيراً، وأصبح بسطاء المسلمين يحاولون أن يصلوا إلى هذه المثالية المزعومة فيجدون نفوسهم تأبى ولا تستطيع أن ترتفع حتى لا تطلب جنة ولا تهرب من نار، ثم إذا أهملوا الجنة وأهملوا النار فترت عزائمهم وضعفت نفوسهم وأصبحوا لا يتقبلون المواعظ وتركوا العمل. فهذا أحدث شرخاً في تاريخ المسلمين وفي نفوسهم، وهذا مناقض لمنهج الله سبحانه وتعالى، فلو عقلوا لما اختاروا شيئاً ما اختاره الله سبحانه وتعالى لهم، أما المنهج الذي يصف الله به رسله وأنبياءه والصالحين وأمر عباده أن يسلكوه وبصرهم به: هو أن يعبد الله بالخوف والرجاء، وما ذلك إلا لأن الإنسان بغير هذا لا يندفع إلى العمل الصالح.

التحذير من كثرة الجدل

التحذير من كثرة الجدل ومن الأمور التي أحب أن أشير إليها علاوة على ما تقدم أن كثرة الجدل تقسي القلب، (وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا بالجدل) كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. فالجدل إذا أصبح سمة للإنسان وسمة للأمة وأصبح مظهراً لازماً، لا يجلس الناس مجلساً إلا وكان لهم فيه جدل؛ فهذه علامة مرض، والجدل يفرق ويقسي القلوب. وأنا لا أعني ألا يكون هناك أي جدل، فقد أمر الله رسوله فقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، إنما الذي أعنيه ألا يصبح مظهراً يشغلنا عن كتاب الله وعن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعن ذكر الله وطاعته. وأنا لا أعني أن نترك الحوار الذي يؤدي إلى الحق، ولكن لا أريد أن يتعمق هذا بحيث يفرق ويقسي قلوبنا، إنما يكون الجدل للوصول إلى الحق، فإذا استعصت المسألة فهناك متسع من الوقت للبحث والتنقيب والدراسة، وأخيراً نصل إلى الحق إن شاء الله. والجدل إذا ما تعمقت جذوره فهو علامة مرض خطير، وما ابتعد الناس عن الهدى إلا ألقي عليهم الجدل، وهذا ليس على إطلاقه، بل يجب أن نحاور أهل الباطل ونجادلهم ونبين لهم، ونحن فيما بيننا نتفاهم ونتشاور في المسائل التي تهمنا، وفي معالجة أمور ديننا، وهذا مما أمرنا به الإسلام، لكن لا نريد أن يصل الأمر إلى أن يشغل الناس بالجدل وبالقضايا الخلافية فقط، بل ينبغي أن يكون الهم دائماً تفهم الإسلام والقرآن، وزيادة الإيمان وتجديده، وتزكية النفوس، وفي أثناء ذلك تأتي قضايا قد لا يعلمها البعض أو يغفل عنها، لكن لا يكون الجدل همنا فنضيع الأصول بسبب الجدل، فهناك فرق بين هذا وبين ذاك، ونحن نسير في الطريق علماً وفهماً وعملاً، فهذا هو المنهج، وهذا هو الأصل، ونحن نريد أجر الله وثوابه، ونريد أن نحقق الإسلام في نفوسنا، وفي إخواننا، وفي الناس من حولنا، فأثناء سيرنا في الطريق قد نأتي على أشياء لا نفهمها، وقد يتساءل الناس عنها، فلابد أن نبينها. فإن كان هناك أناس يعادوننا ويخاصموننا فنحن نرد خصومتهم، ونبين وندحض باطلهم، وهذه إنما هي وقفات في الطريق، ولكنها ليست هي المنهج والأساس. ففي بعض الأحيان وعندما يتأزم الأمر خاصة بين الإخوة يكون ترك الجدل مطلوباً، وإن كان الإنسان يعتقد أنه على حق، بل ولو كان مستيقناً من الحق، فيكون ترك الجدل مطلوباً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)؛ لأن الطرف الآخر في بعض الأحيان قد يصل إلى أن يجعل الجدال نوعاً من الهوى، ففي هذه الحالة يجب على أحد الطرفين وإن كان معه الحق أن يتوقف، وألا نجعل الجدل سبيلاً لإضاعة الوقت وقتله والعياذ بالله، فهذه هي المصيبة. وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحابه فوجدهم يتجادلون في القدر فقال: (ما لهذا أمرتم، فاقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم)، فإذا أحسسنا بعد ذلك أن الأمر لم يسر على هذا النحو فعلينا أن نتفرق من المجلس؛ لأن الجدل يقسي القلوب. أسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في بيان هذا الشيء المهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم مجادلة الكفار

حكم مجادلة الكفار Q هل يجوز مجادلة أعداء الإسلام الذين لا يفقهون ديننا حتى نبين لهم؟ A نعم يجوز، وهذا واجب علينا أن نجادل بالتي هي أحسن؛ وذلك لإقامة الحجة والبيان ولا يختلف في هذا، إنما الذي أشرت إليه ألا يكون الجدل منهجاً، فتكون كل حياة الإنسان جدلاً أو غالب حياته، فيكون الجدل هو الأساس، وغيره أمر فرعي، فهذا الذي أنكره. أما ونحن سائرون في الطريق نجادل أعداء الإسلام الذين لا يفقهون الإسلام، فهذا شيء لابد للداعية المسلم أن يفعله، فقد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه، لكن لا يكون هذا هو المنهج.

أسماء الله الحسنى التي عدها الحافظ ابن حجر

أسماء الله الحسنى التي عدها الحافظ ابن حجر Q ورد عن ابن حجر أنه عدّ أسماء الله. فهل ما عدّه ابن حجر صحيح؟ A ليس في سرد أسماء الله سبحانه وتعالى حديث صحيح، وإنما هو اجتهاد في إحصائها من الكتاب والسنة، أما الشيء المختلف فيه فهو عدة أسماء، وكثير من الأسماء متفق عليها، ولا نستطيع أن نجزم أن هذه الأسماء هي أسماء الله سبحانه وتعالى، لكن نرجو أن يكون ما عده ابن حجر هو الأقرب إلى الصواب، والله أعلم.

توجيهات للدعاة

توجيهات للدعاة إن العلماء والدعاة منارات تعصم الأمة من الضلال والزلال، وقد عرفوا بمنهج صحيح على مر التاريخ الإسلامي، ألا وهو: ما أنا عليه وأصحابي، لذا كان لابد من توجيهات لهذا الصنف حتى لا يقع فيما وقع فيه من قبلهم، فتشقى وتضل هذه الأمة، ومن هذه التوجيهات، عدم الاغترار بالعلم والعبادة، وخطر الانحراف في الفهم.

أهمية الاعتصام بمنهج الله ورسوله

أهمية الاعتصام بمنهج الله ورسوله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين سبيل الله سبحانه وتعالى، وطريق الله عز وجل، وترك هذه الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وعرّف الناس بربهم، وبين لهم المنهج والطريق الذي يوصلهم إلى الله وإلى رضوانه وجنته ورحمته، وحذرهم من طرق الباطل، وبين لهم تفاصيل أمور دينهم، في صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم، وبيعهم وشرائهم وغير ذلك من الأمور. ومضى المسلمون على هذا الطريق يتبينونه ثم يسلكونه، وتكون المشكلة اليوم الذي عندما فيه منهج الله ومنهج رسوله على الأفراد، أو يخفى على طائفة من الأمة، أو على جمع كبير من الأمة. إذا خفي على الناس منهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم وقعوا في الضلال مع ظنهم أنهم على هداية، ومن هنا كان ائتمام الصحابة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم عاصماً يعصمهم من الضلال، ثم كان أعلام الصحابة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم منارات تعصم الأمة من الضلال، ثم كان علماء التابعين وأتباع التابعين والعلماء الذين صاروا على الطريق الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعلماء من بعدهم كانوا هداة يعصمون الأمة من الزلل.

الاغترار بالعلم وبالعبادة طريق الانحراف عن المنهج الرباني

الاغترار بالعلم وبالعبادة طريق الانحراف عن المنهج الرباني في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اغتر بعض الناس بعلمهم، وتصوروا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ممكن أن يضل السبيل، فيحتاج إلى تقويم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن تلك الطائفة منبع الضلال، وحذر الأمة من أن تسلك سبيلها. (جاءت الرسول صلى الله عليه وسلم قطعة من ذهب أرسلها علي بن أبي طالب من اليمن حين كان والياً عليها، فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة من زعماء قبائل العرب، فتكلم الأنصار وبعض من قريش، قالوا: يعطي أجلاف العرب وسيوفنا تقطر من دمائهم، فأخذوا في أنفسهم، فاعتذر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إنما أقسمها أتألفهم بها) أي: والله لا لمكانة في قلبي لهؤلاء، وإنما المكانة والمحبة للسابقين من المهاجرين والأنصار. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتألف هؤلاء بالمال ليقربهم إلى الإسلام ويحببهم بالإسلام. (جاء رجل ناتئ الجبين غائر العينين كث اللحية، فوقف على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، اعدل. قال: ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل، ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) أي: ائتمنني الله على وحيه ودينه ولا تأمنوني على قطعة من ذهب لا أحتاجها لنفسي، وإنما أنفقها في طاعة الله لمصلحة الإسلام والمسلمين (فيقول عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فيقول: لا، حتى لا تتحدث العرب بأن محمداً يقتل أصحابه، ويقوم خالد بن الوليد ويقول: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، قال: لعله يصلي، قال: وكم من مصل يقول ما ليس في قلبه، قال: لم أؤمر بأن أشق عن قلوب الناس، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يخرج من ضئضئ هذا - وفي بعض الروايات- من أصحاب هذا أقوام تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقراءتكم مع قراءتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). وفي حادثة أخرى أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخوارج بقوله: (سيكون أقوام حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون أو ينسلون من الدين كما يخرج السهم من الرمية) فهؤلاء قوم تطاولوا على محمد صلى الله عليه وسلم، واعتبروا عمله ظلماً يحتاج إلى تقويم، غرور وطيش وسفه في العقل، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من أمثال هؤلاء. وأول فرقة نشأت من أمثال هؤلاء شكلت تياراً ضالاً منحرفاً في حياة الأمة الإسلامية - عندما خرجوا في عهد علي بن أبي طالب وسموا بالخوارج- فكفروا المسلمين بالمعاصي والذنوب، واستباحوا دماء المسلمين، وأمّنوا الكافرين، فكان الكافر يأتيهم فيؤمنونه، أما المسلم إذا لم يعترف بهم، ولم يقر على نفسه بالكفر، وعلى علي بن أبي طالب والصحابة بالكفر عند ذلك يسفكون دمه ويأخذون ماله، فلم يكونوا مشركين كفاراً، فقد كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون صلاة لا يصليها كثير من المسلمين، ويصومون صوماً طويلاً، في الحروب شجعان لا يخافون ولا يفرون، يبذلون المال، ولكن كان عندهم ضلال فكري.

الانحراف في الفهم نتيجة البعد عن المنهج

الانحراف في الفهم نتيجة البعد عن المنهج لقد سئل علي بن أبي طالب عن الخوارج: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله صباح مساء، قالوا: فمن هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فأعمتهم وأصمتهم، فلم يفقهوا الحق. كان عندهم علماء الصحابة الذين تربوا على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وعندهم بصيرة في الدين وفي العلم، فكان ينبغي عليهم أن يتواضعوا وأن يرجعوا إلى هؤلاء، وليدرسوا على أيديهم، ويفهموا عنهم دينهم، ويفهموا عنهم الحق. قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] لقد كنت في مجلس مع بعض الذين عندهم شيء من العلم، فرأيت آراء غريبة وتصورات عجيبة في أمور العقيدة وفي أمور الدين، تدل على أن من يحدثني قد قرأ كثيراً وعلم كثيراً، ولكنه لا يفهم الحق مما قرأ ومما علم، وهذه مشكلة، فالقضية ليست قضية أن يقرأ الإنسان، وأن ينتهي من قراءة شرح البخاري، وقراءة شيء من كتب التفسير وغيرها، وإنما المهم الهداية التي توصلنا إلى الله سبحانه وتعالى. إذاً: المسألة هي مسألة وصول إلى الحق، ألا ترون أن الله يرشدنا إلى أن نقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فنحن دائماً ندعو بها، وهذه الآية تضمنتها أعظم سورة أنزلت من عند الله، فهي سورة لا يوجد مثلها لا في التوراة ولا في الإنجيل، ألا وهي سورة الفاتحة. إذاً فالهداية شيء عظيم، فلا تظنوا أيها الإخوة أن ميزان الاستقامة على الحق أن يكون الإنسان دائماً مكثراً من الصلاة ومن الصوم وكونه يحفظ القرآن ويكثر من تلاوته، لا، بل لا بد أن يكون على هداية ومعرفة بالحق؛ لأنه قد يضل عن الحق من يحفظ كتاب الله ومن يقوم الليل ويصوم النهار، كما حدث لهؤلاء الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة العبادات، ونرى هذا النموذج من البشر يتكرر في كل عصر وحين، فالذي يقرأ تاريخ الإسلام يرى مظاهر هؤلاء الذين حدث عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم موجودين في كل عصر وحين، ولا زلنا نراهم في أيامنا هذه، فمن الناس من يقرءون الكتاب ولا يفهمونه، أو قد يفهمون الكتاب فهماً خاطئاً، ومن هنا يحتاج علماء المسلمين أن يجعلوا ضوابط للعقيدة، وضوابط للاجتهاد، وضوابط للفهم حتى لا يضل الناس. كان المسلمون ولا يزال فيهم علماء يعصمون الأمة من الانحراف، ويعصمون الأمة من الضلال، عُرِفوا بمنهج صحيح على مر التاريخ الإسلامي، ذلك المنهج الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي). فالطائفة المعصومة، والطائفة المرحومة، والطائفة الناجية هي التي تسلك مسلكاً سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن هناك طوائف من المسلمين كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فيحقر أحدكم قراءته مع قراءتهم، وصلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن وهم يظنون أنه حجة لهم وهو حجة عليهم، مثل بعض الناس الذين لمعوا في أيامنا هذه، فتراه يجهل الأمة بأكملها، فهو لا يعترف بعلماء الأمة السابقين، بل حتى إنه لا يعترف بعلم كثير من الصحابة ولا فضلهم، وقد نصب نفسه حاكماً في كل شيء، وجعل رأيه وقوله وفهمه هو الصراط المستقيم، فهذه فتنة وضلال، كما قال علي بن أبي طالب: (تعمي وتصم) أي: تجعل الإنسان لا يفقه الحق ولا يتبينه. إن الفهم الذي يشاؤه الله لهذا الدين واضح بين، وهو الذي كان عليه المسلمون طويلاً، ولا تزال فئة من المسلمين كثيرة على هذا الحق تتبينه وتهدي به وترشد إليه. فالذي ينبغي على أبناء المسلمين أن يتبينوا الإسلام، وأن يدرسوا الإسلام قبل أن ينصبوا أنفسهم قادة يوجهون ويرشدون، فيُضِلون ويضلون ويكون عليهم الوزر والإثم. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حدثاء الأسنان) أي: أنهم نصبوا أنفسهم قبل أن يعلموا، وإلا فقد كان في صغار الصحابة من هو من كبار العلماء، والإمام الشافعي رحمه الله حفظ كتاب الله وتلقى العلم ودرسه وتبينه ودرس وأفتى وهو لم يبلغ العشرين، فكان صغيراً لكنه عالم، فليس في الصغر عيب، ولكن لا بد أن يتلقى الإنسان العلم ويفهمه على أصوله وعلى قواعده التي بينها الله وشرعها، وسار عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية الهداية إلى الحق

أهمية الهداية إلى الحق الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله صلى عليه وسلم. إن الهداية إلى الحق والعصمة من الضلال خير ما يؤتاه العبد، فلم يؤت العباد خيراً من هداية إلى الحق، تعصمهم من الزلل، وتوصلهم إلى الله سبحانه وتعالى، ذلك خير ما يعطي الناس، وخير ما يتفضل الله به على عباده الذين أنعم عليهم أن يهديهم، ولذلك نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] الذين أنعم الله عليهم هم: المرسلون والأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.

انحراف اليهود والنصارى عن الهداية

انحراف اليهود والنصارى عن الهداية لقد حاد عن طريق الهداية فريقان: فريق تمثل في اليهود ومن صار على شاكلتهم. وفريق تمثل في النصارى ومن صار على دربهم. الفريق الأول: اليهود الذين يعرفون الحق، ولكنهم يستكبرون، يقول ربنا لليهود: {َفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:87 - 89] أي: قبل أن ينزل القرآن كان يقولون للعرب: سيأتي رسول غداً معه كتاب فنتبعه، ونقتلكم قتل عاد وإرم، فلما جاء الرسول ونزل الكتاب الذي كانوا يستنصرون به ويستفتحون به على العرب، إذا بهم يكفرون به، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. ويقول سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101]. ويقول جل وعلا فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. فكانوا يعلمون أن محمداً مرسل من عند ربه، فيستكبرون ويكفرون، ولذلك سماهم الله مغضوباً عليهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، فالمغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق المنزل من عند الله، ولكنهم استكبروا وكفروا؛ لأنهم يريدون أن تكون الرسالة خاصة بهم، {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90] فهم لا يريدون هذا الخير لهذه الأمة، ولو اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم لنالهم الخير، ولحقق الله لهم وعده، وأنزل لهم المثوبة والأجر، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]. ويقول سبحانه: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] أي: إياكم أن تكفروا به. فإذا اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم سينالهم الخير، وتنالهم رحمة الله، فكل من آمن بهذا الرسول فإنه على خير. الفريق الثاني: هم الذين ضلوا بجهلهم، وهم النصارى الذين يعبدون الله على جهل، ولذلك ابتدعوا في دينهم بدعاً ما أنزل الله بها من سلطان، فترهبنوا وتركوا الزواج والأولاد والدنيا، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، أي: ابتدعوا بدعاً عبدوا الله بها، ولكن نحن سبيلنا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: لا أعبد الله على جهل، بل عن معرفة بالحق، وهو الجانب الذي يعرفه اليهود، ولكن دون طاعة واستسلام لهذا الحق، والنصارى يستسلمون، ولكن على جهل، فهذه الأمة أمة الوسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:143] والوسط خير بين أمرين، فهي تأخذ الخير من هنا ومن هنا، وتتجنب الشر في هذا وفي هذا. فأعظم خير يساق إليك، أن تكون على هدى من ربك، أن تكون على طريق الأنبياء والمرسلين، أن تكون على الطريق الواضح الذي سلكه محمد صلى الله عليه وسلم، تهتدي به وتتعلمه، وهذا الطريق له كتبه وله هداته وله دعاته الذين يبينونه ويوضحونه، وهو استسلام لأمر الله، وخضوع لجناب الله سبحانه وتعالى، ورضاً بهذا الحق، واستجابة لهذا الحق، وطاعة لكل ما أمر الله عز وجل، وترك لكل ما نهى الله سبحانه وتعالى، حدوده معروفة، ومعالمه واضحة، ومن طلب الهداية فإن الله سبحانه وتعالى يوفقه لها، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

قسوة القلوب

قسوة القلوب قسوة القلوب مرضٌ خطير يصيب العباد، وسبب هذا المرض الذنوب والآثام التي يقترفها العبد فتورث قسوة في القلب، وجموداً في الدموع، وضنكاً في العيش، ولن تلين القلوب ويصلح حالها حتى ترجع وتتصل بخالقها جل في علاه؛ وذلك بتلاوة القرآن فهو أفضل الذكر، وبه يتذكر الإنسان النعم التي أنعم الله بها عليه.

القلب هو الركيزة التي يرتبط بها صلاح الجسد أو فساده

القلب هو الركيزة التي يرتبط بها صلاح الجسد أو فساده إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يشكو كثير من العباد الصالحين إلى إخوانهم قسوة قلوبهم، وهذه مشكلة يعاني منها الصالحون على مر الزمان، وعانى منها صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقلب الإنسان هو الركيزة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فإذا صلح القلب صلحت الأعمال، وصلحت الأقوال، وصلحت الحياة، وفساده خطر عظيم، فالجسد يأتمر بأمر القلب، والقلب في الجسد كالحاكم في الرعية، فهو الآمر الناهي، وهو المسيطر، والجسد إنما هو خادم لهذا القلب، ومن هنا كانت عناية الإسلام بالقلب عظيمة. وصلاح القلب مرتبط بما يحل فيه من علم نافع، وعقيدة قيمة، وإرادة سليمة سامية، تدفع إلى الخير، وتوجه إلى العمل الطيب الصالح، وعلاج القلب هو علاج رباني، علاج القلوب لا يعرفه البشر، فالبشر يعرفون من علاج القلوب ما كان مادياً جسدياً، أما ما كان روحياً فذلك أمره إلى رب العزة تبارك وتعالى.

قراءة القرآن تطهر وتلين القلوب

قراءة القرآن تطهر وتلين القلوب من شاء أن يطهر نفسه، ومن شاء أن يلين قلبه؛ فليقرأ كتاب الله تبارك وتعالى، فإن أفضل الذكر هو هذا الكتاب، فمن قرأ كتاب الله تبارك وتعالى سيجد قلبه قد لان وخشع لذكر الله تبارك وتعالى، وإذا به يشعر بحلاوة الإيمان، وحلاوة اليقين، وإذا بنفسه تنقاد إليه، وإذا بالجسد يخضع لما أمر الله تبارك وتعالى. وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من قسوة القلب كما كان مصير اليهود والنصارى من قبل: {طَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] فالأرض تكون جرداء قاحلة لا نبات فيها، فينزل عليها الماء من السماء فإذا بها تتشقق، وإذا بالنبات يزهر، وتمر عليها بعد أيام فإذا بالأرض الجرداء القاحلة معشبة مخضرة مزهرة مثمرة معطاءة، فتسرك رؤيتها، وكذلك القلوب إذا نزل عليها الوحي وأقصد بنزول الوحي أن تتصل بالقرآن وإذا اتصلت بنور الله تبارك وتعالى الذي ضمنه كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ استضاءت بنور الله، وتحلت بوحي الله وبروح الله، وتغير أمرها وتغير شأنها. فإذا تكلم الإنسان الذي لا يقرأ القرآن فإنك تشعر بظلمة في قلبه، وظلمة في نفسه وقسوة، وتحس انحرافاً، ثم إذا اتصل بهذا الكتاب وارتوى منه، إذا بالإنسان غير الإنسان، وإذا بالرجل غير الرجل، وإذا في نفسه نقاوة ورقة، وإذا فيه صلاح وخير، وإذا بأعمالٍ طيبة ظهرت، كالأرض التي أنبتت بعد أن كانت مقحلة، بعد أن كانت مجدبة، فظهر نباتها وظهر خيرها، وتحول أمرها بالماء النازل من السماء هناك، وتحول أمر القلوب هنا بالوحي النازل من عند الله تبارك وتعالى.

كتاب الله يمنح قارئه معرفة عظيمة بالله عز وجل

كتاب الله يمنح قارئه معرفة عظيمة بالله عز وجل كتاب الله يعرفنا على ربنا، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله، وعندما يقرأ المسلم صفات الحق ويعرف من أفعال الحق ما يبهر العقول، ويحير القلوب؛ تخشع هذه القلوب لربها: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]. آيات تحدثك عن الله تبارك وتعالى فتصحو النفس عندما تذكر خالقها وبارئها وموجدها، وتعلم أن علمه محيط بها، وأن قدرته تحيط بها، فلا يخرج المرء عن علم الله، ولا يخرج عن قدرة الله تبارك وتعالى. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]. عندما تقرأ كتاب الله فيحدث عن ربك وموجدك وبارئك؛ ترى لذلك أثراً عجيباً في نفسك، لا تكاد تقوم من القراءة، حتى ترى الخير يكثر في القلب المريض، وترى المرض الذي في القلب يزول، ويتماثل القلب إلى الشفاء، فالقلوب تمرض ومرضها الذنوب والمعاصي والشكوك والشبهات، وفي كتاب الله علاج وأي علاج! يذكرك الله بنعمته عليك في كتابه، وبنعمته عليك في جسدك الذي سواه وخلقه، وبنعمته عليك في لقمة الطعام التي تمضغها بين أسنانك في فمك، هذه كلها صُنعت بأمر الله تبارك وتعالى، لتكون طعاماً يقدم لك على المائدة، حتى نسمة الهواء التي تهب وتستنشقها، وقطرات الماء التي ترتوي بها، كل هذه نعم.

يدعونا القرآن إلى التفكر في النعم حتى نشعر برحمة الله

يدعونا القرآن إلى التفكر في النعم حتى نشعر برحمة الله إذا تفكرت في نعم الله عليك تشعر برحمة الله تبارك وتعالى، فتثني على الله تبارك وتعالى بما هو أهله، وينور هذا القلب عندما يذكر النعم، وكم حدثنا الله تبارك وتعالى عن هذه النعم في كتابه: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17]، كيف خلقها الله تبارك وتعالى لك وأنعم بها عليك؟ ترى خلقاً رائعاً سليماً، انظر إليه وتفكر فيه. وانظر إلى السماء، إلى الجبال، إلى النجوم، إلى النبات، ينزل الله تبارك وتعالى الماء من السماء، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:25 - 30]. {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:6 - 9]. كثير من الآيات في كتاب الله تحدثك عن النعم، وعندما تتأملها تعود إلى القلب الطمأنينة.

الإكثار من ذكر الموت وما بعده يلين القلب القاسي

الإكثار من ذكر الموت وما بعده يلين القلب القاسي تفكر في الحياة وقصرها، وأنك زائل منها، فإن ذلك يخشع قلبك، وقد حدثنا القرآن أن الدنيا متاع سريع زوالها، كمثل غيث سقى النبات ثم نما بسرعة، وما بين اخضراره واصفراره أيام قليلة، (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] والمتاع يتمتع به ويزول. يحدثنا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه عن الموت وما بعد الموت، ويحدثنا كيف تقبض روح المؤمن، وروح الفاجر الكافر، كيف يسهل على هذا، ويصعب على هذا، ويحدثنا عن رحلة ما بعد الموت عندما يعرج بالمؤمن إلى السماوات، وتستقبله ملائكة الرحمن، ثم يعاد إلى قبره فتسأله الملائكة عن ربه وعن دينه، وعن نبيه، فيجيب الإجابة الصحيحة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. ويحدثنا عن رحلة الكافر وأنه بعد أن تخرج روحه تنبعث منها رائحة منتنة خبيثة، فلا تفتح لها أبواب السماء، ولا تستقبلها ملائكة الرحمن، وتطرح طرحاً، وتلقى إلقاءً {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ويعاد إلى قبره فلا هو في الدنيا كان ثابتاً على الحق، ولا يستطيع في قبره أن يجيب ملائكة الرحمن إجابة صحيحة تنبعث من قلب صادق. ويتحول القبر كما يخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إلى روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وذلكم هو البرزخ إلى أن يبعث الله الناس عندما يقومون لرب العالمين. وفي كتاب الله يحدثنا الله عن القيامة وأهوالها، وكيف تدك الأرض، وكيف تنشق السماء، وتكور الشمس، ويخسف القمر، وتتساقط النجوم، وتسجر البحار فتشتعل ناراً، وعندما ينفخ في الصور تبدل الأرض غير الأرض السماوات، وينفخ فيه أخرى فيقوم الناس لرب العالمين. وفي كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث عن مشاهد العباد في يوم البعث والنشور، عندما تدنو الشمس من رءوس الناس، فلا يكون بينها وبينهم إلا ميل، ويذهب عرق الناس في الأرض سبعين ذراعاً، ليس هناك ظل شجرة، ولا ظل جبل، ولا ظل صخرة، أرض سوية ليس فيها ارتفاع ولا انخفاض، وليس هناك إلا ظل عرش الرحمن، ولا يستظل بظله إلا الذين أجهدوا أنفسهم في دنياهم بطاعة مولاهم. ومقدار ذلك اليوم خمسون ألف سنة، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:4 - 18]. ثم تنصب الموازين ويحاسب الناس على أعمالهم وما قدموا، ثم يساق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، فمن أي الفريقين سنكون؟! هل من السعداء الذين يقال لهم: (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49] أم من الأشقياء الذين يساقون إلى المصير المظلم؟ مصير ليس بعده مصير، ونهاية ليس بعدها نهاية، وخسران لا يماثل خسارة أي صفقة من صفقات الدنيا كصفقة زواج أو صفقة تجارة أو صفقة مال، لا يعادل ذلك شيء، إنه الخسران النهائي الذي لا ربح بعده، خسران يفقد الإنسان فيه نفسه، ويفقد أهله، وليس هو الخسران الذي يؤدي إلى الموت، آلام ساعة ثم تنتهي الآلام {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]. وسعادة الآخرة هي الجنة التي ليس فيها من الدنيا إلا الأسماء، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. من تأمل هذه النهاية من خلال أقوال ربنا تبارك وتعالى وأقوال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه رأى عجباً، عند ذلك يلين القلب، وتخشع النفس، ويزن المسلم الأمور بالعدل، ويضع الأشياء في نصابها؛ فتحيا هذه النفوس، وتحيا هذه القلوب، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

دوام الطاعة يبعث الطمأنينة في القلب

دوام الطاعة يبعث الطمأنينة في القلب الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله عبده ورسوله. اعلموا -أيها الإخوة- أن مما يشرح الصدر ويطمئن القلب أن يديم العبد الطاعة لله تبارك وتعالى، صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وبراً، يديم الطاعة لله عز وجل، ويتخلص من أوساخ الذنوب والمعاصي والآثام، فيغسلها بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله تبارك وتعالى، فـ (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، والذي تتكاثر عليه الذنوب، تثقل كاهله، وتقصم ظهره، ويغشى ران الذنوب والمعاصي على قلبه، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. فالمعاصي تغشى القلب، وتحول بين الإنسان وبين ربه تبارك وتعالى، والإكثار من التوبة والاستغفار والالتجاء إلى الله تبارك وتعالى يطهر القلوب، فإذا تطهرت اتصلت بربها تبارك وتعالى، وإلا فإن المعصية تبعد الإنسان شيئاً فشيئاً عن الله تبارك وتعالى، حتى تحول بينه وبين الله تبارك وتعالى، فلا يستطيع التوبة، ولذلك كان من أهم صفات أتباع الرسل أنهم يسارعون إلى التوبة ولا يسوفون، فإذا وقع منهم ذنب يسير فإنهم يبادرون إلى التوبة ويستعجلون ولا يؤجلون، فلا تدري أيدركك الأجل قبل أن تتوب أم تتوب قبل أن يدركك الأجل، فإذا بادرت إلى التوبة فإن الأمر سهل، ورحمة الله قريب من المحسنين {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] لا يتعاظمه رب العزة ذنب، فإن الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر، أو مثل قطر المطر، إذا تاب العبد إلى ربه تبارك وتعالى توبة نصوحاً صادقة؛ فإن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً، ولا يتعاظمه ذنب تبارك وتعالى إذا طرق المسلم باب التوبة. وباب التوبة عريض، أعرض مما بين المشرق والمغرب، وأخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أنه لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها (لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158]، فباب التوبة مفتوح ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وما لم يغرغر العبد، وما لم تطلع الشمس من مغربها، فالتوبة مفتوح بابها، والعباد إذا جاءوا إلى ربهم يستغفرونه بقلوب خاشعة، وقلوب فاضلة مؤمنة، فإن الله يتوب على من تاب، ويغفر ذنب التائبين، ويثيبهم، ويجزل لهم العطاء. اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عوراتنا. اللهم كفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب الدعوات.

أخطاء الطريق

أخطاء الطريق إن المسلم وهو في طريقه إلى الله تعالى قد يقع في أخطاء ومزالق تضر به وبالمسلمين، وأصحاب البصيرة الحقيقية هم الذين يقوَّمون هذه الأخطاء والمزالق تقويماً سليماً، ويقيسونها بمقياس الإسلام، ولا يذهبون مع الهوى كل مذهب؛ حتى تكون دروساً لهم في أعمالهم وحركاتهم ومستقبل أيامهم.

أخطاء تضر بالمسلمين

أخطاء تضر بالمسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على سيد خلق الله، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: ففي معركة أحد هزم المسلمون لا من قلة في العدد، فقد انتصروا في معركة سابقة بعدد أقل، ولكن خالف بعض المسلمين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت النتيجة أن هزم المسلمون في تلك المعركة. وفي معركة حنين بعض المسلمين أعجبتهم كثرتهم، فكادوا أن ينهزموا في المعركة، لولا أن ثبت الرسول صلى الله عليه وسلم، ونادى العباس بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم أصحاب الشجرة الذين بايعوه في السنة السادسة من الهجرة على الموت، فناداهم مذكراً لهم بتلك البيعة التي بايعوها: أن يقاتلوا الأعداء حتى يقتلوا، فأجابوا ملبين، وأنزل الله نصره على تلك الفئة. وفي معركة الجسر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصر أبو عبيد بن مسعود الثقفي قائد المعركة على أن ينتقل المسلمون إلى الضفة الأخرى تجاه العدو، مع أن جمعاً كبيراً من المسلمين كان رأيهم أن يبقى المسلمون حيث هم، حتى يعبر أعداؤهم إليهم، وكانت تلك هي الخطة، ولكن أبا عبيد أصر على أن ينتقل بالجيش إلى الجهة الأخرى، فكانت موقعة استشهد فيها من المسلمين جمع كبير. فتلك أخطاء قد يرتكبها بعض المسلمين تؤدي إلى الهزيمة، وقد يلطف الله بعباده لسبب من أسباب النصر، كأن توجد طائفة تثبت في الميدان، وتكون النتيجة أن يصطفي الله سبحانه وتعالى فئة من عباده ويختارهم ليكونوا شهداء. وينبغي للمسلمين كما علمنا القرآن أن يبحثوا عن أسباب الهزيمة وأن يتعرفوها، ثم تكون دروساً لهم في عملهم وحركتهم، ويستفيدون منها في مستقبل أيامهم، ولكن يبقى الذين لم يخطئوا والذين أخطئوا في دائرة الإسلام، لذا فقد كان شهداء أحد الذين خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من خيرة الشهداء على مر التاريخ، ولقد كان أبو عبيد قائداً فذاً، فقد أصر أن يبقى في المؤخرة والمسلمون ينسحبون إلى الضفة الأخرى حتى استشهد.

تقويم الأمور تقويما سليما يجنب الأمة المزالق

تقويم الأمور تقويماً سليماً يجنب الأمة المزالق في مثل هذه الظروف تنشأ الأفكار في أذهان الناس، فتبدأ الظنون تذهب بالناس كل مذهب، والمسلم ينبغي عليه أن يكون صاحب بصيرة، فقوة المسلمين تكمن في وحدتهم، وقوة المسلمين تتمثل في هذه الوحدة، وأخطر قضية يواجهها المسلمون تجاه أعدائهم: أن يتسلل الشيطان إلى عقولهم أو أن يأتي دعاة الشر الذين هم شياطين الإنس فيفرقون صفوفهم في مثل هذه الظروف التي تكون فيها مصائب ونكبات يصاب بها المسلمون. وأصحاب البصيرة هم الذين يقومون الأمور حق تقويمها، ويعرفون المقاييس التي يقاس بها الرجال الأعمال، وهم الذين يجنبون الأمة المزالق. أما المسلمون الذين تذهب بهم الظنون، ولا يقيسون الأمور بمقياس الإسلام، بل يذهبون مع الهوى في كل مذهب؛ فإنهم يضرون أنفسهم ويضرون غيرهم. لذا نجد أنه قد شارك فئة من هؤلاء في مقتل عثمان، فالذين أثاروا الفتنة في عهد عثمان قوم أشرار وماكرون، وقد شاركهم بعض أهل الخير، فرأوا العيب الصغير كبيراً والنقطة بحراً، وهؤلاء الذين لا يقيسون الأمور بمقياس الإسلام هلكوا. وكذلك الذين شاركوا في هدم الخلافة العثمانية علموا بعد ذلك أنهم كانوا مضللين، فلقد كان الخير لهم ألا يشاركوا في هدم الخلافة وإن كانت ضعيفة، وإن كان فيها مرض، وإن كان فيها بلاء، بل كان عليهم أن يثبتوا أركانها لعل الله أن يبعث من ينقذها؛ لأنها كانت تجمع شمل المسلمين، وتلم كلمة المسلمين، وتقف في وجه أعداء الإسلام، لقد ظن هؤلاء أن الأخطاء الموجودة في الخلافة العثمانية تستوجب هدمها، فنقضوا البقية الباقية من السور الذي كان يحمي المسلمين، فاجتاحت الجيوش الصليبية بلاد الإسلام، فأصبحنا كما يقال: أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام. وكثير من هؤلاء اعترفوا بأخطائهم ولكن بعد فوات الأوان، والمجتمع الإسلامي ليس على درجة واحدة، فبعض النفوس قوية متينة، وبعض النفوس ضعيفة، وبعض النفوس بين ذلك.

المعصية لا تخرج صاحبها من دائرة الإسلام

المعصية لا تخرج صاحبها من دائرة الإسلام لقد كان في الصحابة من شرب الخمر، ولقد كان في الصحابة من ارتكب الزنا، ولم يخرجهم هذا عن دائرة الإسلام، وإلا فلماذا فرضت الحدود لو كانوا كفاراً عندما يفعلون الزنا وعندما يشربون الخمر؟! إذ لو كانوا كفاراً فلا يوجد أي فائدة من أن تقام الحدود على المسلمين، ولقد جيء برجل شرب الخمر أكثر من مرة، فلعنه أحد الصحابة بعد أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بضربه، فقال: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم، إنه يحب الله ورسوله). ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم بـ حاطب، وهو من الأوائل الذين شهدوا معركة بدر، بعد أن قرأ الكتاب الذي أرسله إلى المشركين، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا حاطب؟!) أي: كيف تفشي أسرار المسلمين إلى أعداء الإسلام؟! وهذا ليس بالأمر السهل، إنه أمر خطير، فيقول: والله يا رسول الله ما كفرت بالله، وإني لأحب الله ورسوله، ولكن لي أولاد في قريش وليس لي أهل وعشيرة يدفعون عنهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صدقت، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم؟! فدمعت عينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: الله ورسوله أعلم). فهذا موقف ضعف، ونحن لا نستطيع أن نحكم على مثل من يفعل فعل حاطب بنفس الطريقة، ولكن الذي نستدل به من الحديث: أن الكبار الذين استقر الإيمان في قلوبهم ولهم سابقة في الإسلام قد يقعون في أخطاء، فالمجتمع الإسلامي في صفوفه أشكال وألوان، والمسلم في مجتمع المسلمين يحب المسلمين، وسمة المسلم حبه للمسلمين، والمسلمون كالجسد الواحد، والمسلمون كالبنيان يشد بعضه بعضاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

حسن الظن بالمسلمين ووجوب التثبت في الأخبار

حسن الظن بالمسلمين ووجوب التثبت في الأخبار من جملة ما أحبه لنفسي ألا أنظر إلى الناس دائماً بمنظار أسود قاس، وكذلك لا ينبغي لي أن أنظر إلى الناس دائماً بمنظار قاتم، فالتهمة تحتاج إلى دليل وتحتاج إلى بينة، وبعض المسلمين يتهمون الآخرين بدون دليل وبدون بينة، وإنما بظنون وأوهام. كان يقال للرجل: أرأيت الشمس؟ فيقول: نعم، فيقال: على مثلها فاشهد، أي: إياك أن تشهد شهادة تقوم على ظن أو تحكم حكماً يقوم على ظن. وعرض المسلم مصون، ولا ينبغي للمسلم أن يقع في عرض أخيه بأقل أمر، وإنما ينبغي أن يصون عرضه، فلا يهمزه ولا يلمزه ولا يغتابه، ولا يطعن فيه بأمر قد يكون اجتهد فيه. وكثير من المسلمين لا يكاد يرى في فلان من المسلمين عيباً حتى يتهمه بأشنع الصفات، وهو رجل صالح، وقارئ للقرآن، وعارف بالله سبحانه وتعالى، وليس معنى ذلك ألا نبصره بخطئه، وألا ننصحه فيما بيننا وبينه، فذلك من حقوق المسلم على المسلم، ولكن الكلام في عرضه في المجالس والمحافل، والتحدث عنه في كل مكان خطر ينبغي للمسلم أن يتأنى فيه. وينبغي للمسلم أن يتقي ربه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الربا بضع وسبعون شعبة، أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) فأشد حرمة من الربا عرض الرجل المسلم، فإذا طعن المسلم في عرض أخيه، فذلك عند الله ذنب عظيم. قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من ليس له دينار ولا درهم، قال: ولكن المفلس من يأتي بحسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد ضرب هذا، وقد شتم هذا، وقد وقع في عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ويأخذ هذا من حسناته ويأخذ هذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فوضعت عليه، ثم ألقي في النار)، فهذا رجل أفلس، ثم زيادة على الإفلاس تأتي السيئات فتوضع فوق ظهره. ويصف الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بأنهم: (كالجسد الواحد)، وتصفهم الآية الأخيرة في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، فبين المسلمين مودة وتراحم وتناصح، ومع الكفار عداء، فلا يتحول هذا الحال إلى تقاطع وتدابر فيما بين المسلمين، فالمسلمون يحبون بمقدار ما فيهم من خير، والأعداء يكرهون لذواتهم، ومع ذلك نحب لهم الخير، ولكن هم في ذواتهم يكرهون؛ لأن الله يكره ويبغض الكفار، ونحن نحب ما يحب الله ونبغض ما يبغض الله، فلا نحب يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ولا ملحداً، ولو كان صديقاً أو أخاً أو أماً أو أباً: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. ولا يمكن أن يجتمع في قلب امرئ حب الله وحب أعداء الله، فالله يبغض كل مشرك، ويبغض كل كافر لم يقم على التوحيد والإيمان والاستقامة والطاعة لله سبحانه وتعالى، وإن كنا نحب لهم أن يسلموا ونحب لهم أن يؤمنوا وأن يهتدوا، فنحن نحب لهم الخير؛ ولذلك ندعوهم إليه. أما المؤمنون فنحبهم وحبنا لهم يتفاوت، فمنهم إنسان ضعيف في إيمانه، وإنسان قوي في إيمانه، فينبغي أن يكون الحب بمقدار هذا الخير الذي فيهم، وإن كان فيهم جانب شر فنكره هذا الجانب. وتجد بعض المسلمين اليوم لا يكاد يرى عاصياً من المسلمين إلا وقع فيه، وقد يصنفه مع الكفار، أو لا يرى أحداً من العاملين للإسلام وقع في خطأ في عمله إلا ويجعله عدواً للمسلمين، عميلاً لأمريكا أو عميلاً لروسيا! فلا يجوز أن تكون الأمور بهذا الشكل، ولا أن تقوم الأمور بهذا الشكل، فقد كان هناك أخطاء وقع فيها الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، فكانوا يقعون في أخطاء ليست كبيرة، ولا يخرجهم هذا من الصف الإسلامي، ولا يخرجهم من مجتمع المسلمين.

قياس الأمور بمقياس الإسلام يحفظ وحدة المسلمين

قياس الأمور بمقياس الإسلام يحفظ وحدة المسلمين إن قياس الأمور بمقياس الإسلام أمر مهم يحفظ وحدة المسلمين، وإلا سيحل بالمسلمين -بدل التحاب والتواد الذي ينبغي أن يسود صفوفهم- التقاطع والتدابر والفتن التي تقطع ما بين المسلمين، فيتدابر المسلمون ويتنافرون ويتعادون، وقد يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دم بعض، كما حدث في التاريخ الإسلامي لأسباب تافهة ليست حقيقية. وليس معنى هذا أن نسكت على الخطأ، فنحن نحب المسلم ونذكره بخطئه، نحبه ونكره ما فيه من خطأ، ونكره ما فيه من معصية، والمسلم لا يكون صافياً في كل أحواله إلا ما شاء الله، وما أقل الرجال الذين يبلغون الكمال، فنحن نود للمسلمين الخير، ونحب لهم الخير، ونبين لهم ما فيهم من خطأ وقصور ونقصان، وننصحهم، وعند ذلك نتآلف ونتحاب ونتواد، ويصبح بعضنا رحيماً ببعض، ويصبح بعضنا ولياً لبعض، وعند ذلك تكون للمسلمين مسيرة مباركة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

كم من مريد للخير لا يدركه

كم من مريد للخير لا يدركه الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. مر أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بقوم في مسجد الكوفة يسبحون ويذكرون الله وبين أيديهم أكواماً من الحصى، وعلى رأس الحلقة رجل يقول: سبحوا مائة! فيسبحون مائة، هللوا مائة! فيهللون مائة، احمدوا مائة! فيحمدون مائة، فذهب إلى عبد الله بن مسعود وكان من فقهاء الصحابة، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد شيئاً أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيراً، قال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت في المسجد أقواماً حلقاً، وعلى كل حلقة رجل يقول: سبحوا مائة! هللوا مائة! كبروا مائة! فيكبرون ويعدون بالحصى، فقال: هلا قلت لهم: عدوا خطاياكم، وأنا ضامن ألا يضيع الله من حسناتكم شيئاً، انطلق بنا إليهم، فلما وقف على رءوسهم قال: ماذا تفعلون؟! قال: نسبح الله ونذكر الله، قال: عدوا خطاياكم وأنا ضامن ألا يضيع الله من حسناتكم شيئاً، يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم في الحق! هذه ثياب رسول الله لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده لأنتم على ملة هي أهدى من ملة رسول الله؟ أو أنكم مفتتحو باب ضلالة. أي قال لهم: إن العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال قريباً، ونحن صحابته، وثيابه موجودة، وآنيته موجودة، ولم يطل العهد بيننا وبينه، وهذا الذي تفعلونه لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله، فما كان يجلس أبو بكر وعمر والصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقول لهم: عدوا فيعدون، بل كانوا يسبحون، كل واحد يعد لنفسه، سبح الله ثلاثاً وثلاثين، واحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقل تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وللإنسان أن يسبح وحده بدون أن يعد، فقال لهم ابن مسعود: أنتم بين أمرين: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة رسول الله، وهذا احتمال، وهم ليسوا على ملة أهدى من ملة رسول الله، إذاً الواقع هو الاحتمال الثاني: أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: يا أبا عبد الرحمن! والله ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لا يدركه. ولأجل هذه الكلمة الأخيرة سقت هذه القصة، فبعض الناس يريدون الخير ولكن لا يبلغون الخير ولا يسلكون سبله، فقد يقصد الخير وينويه ولكن لتحقيق الخير لا يفعل الخير، لأنه لا يأخذ الأمر من بابه الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، وهذا سيؤدي إلى فساد عمله بدل أن يقبل؛ لأنه لم يترسم المنهج الإسلامي ترسماً جيداً. وأبواب الخير واسعة، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: هذه الشريعة كأنها شرائع لسعتها؛ ولذلك فتحت أبواب الخير، وهي أبواب واسعة في العبادات وفي الصلاة وفي الصدقة وفي الصيام وفي الإكثار من الحج وفي الإكثار من العمرة وفي الإكثار من الذكر وفي الإكثار من الجهاد في سبيل الله، وكل إنسان يأخذ الخير الذي يتناسب معه، فمنهم من يحب الجهاد، ومنهم صاحب المال الذي ينفق ولا تنقطع نفقته، ومنهم الذي تحبب له الصلاة، ومنهم الذي يحبب له قراءة القرآن، ومنهم الذي يحبب له الذكر، أبواب الخير كثيرة ولكن في بعض الأحيان تضيق السبل على الناس فيبتدعون في الدين، أو يركبون المركب الصعب. العلم بابه واسع وطرقه معروفة، وبعض الناس يتمحلون في العلم، فلا يذهب ليفهم العلم من أبوابه التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يأخذ بصعاب المسائل. حُدَّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجل يسمى صبيغ وهو بدوي، وكان لا يسأل إلا عن المسائل الكبيرة والمشكلات، فقال: اللهم مكني من هذا الرجل، فبينما هو جالس بباب داره إذا بالرجل يسأل عمر، فقال عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ قال: انتظر في الباب، فدخل وجاء بعراجين النخل وضربه على رأسه حتى أوجعه وأدماه، فقال يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد أن تذهب ما في رأسي فقد ذهب والله وإن كنت تريد أن تقتلني فأنت وذاك، فنفاه إلى الكوفة أو البصرة، وأمر الناس ألا يجالسوه وألا يتحدثوا معه، حتى اشتد الأمر عليه وأرسل والي عمر أن قد صلح حاله، فأذن للناس في أن يخاطبوه ويجالسوه، بعد أن أدبه لسلوكه مسلكاً صعباً يضر بالمسلمين ويشتت جهودهم. كذلك الذي يتخذ سبيل الفتنة بين الناس، فهذا مسلك صعب يفرق المسلمين، وسبل الخير كثيرة، وتنقضي أعمار الناس وتنقضي الحياة وأبواب الخير لم تنفد، وتنتهي حياة الناس والشر واضح وبين، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن الطواغيت والظلمة والفجرة، وأنواع الشرك، وأنواع الذنوب والمعاصي، وتنتهي حياة الإنسان وهو لم يستطع أن يغير فيها إلا القليل، ثم يأتي المسلمون يسلكون سبلاً تبتعد بهم عن المنهج السليم! لذا فينبغي للمسلمين أن يرفقوا بأنفسهم، وأن يتذكروا وقوفهم بين يدي ربهم سبحانه وتعالى، فكلنا ملاق الله سبحانه وتعالى، والسعيد هو من جاء وهو طاهر ونظيف لم يخض في دماء المسلمين، ولم يخض في أعراض المسلمين، ولم ينتهك حرمات المسلمين، ولم يطعن ولم يغتب ولم ينم، وجاء وقد جاهد وأصلح بقدر وسعه وأنفق بقدر وسعه، وطرق أبواب الخير وأغلق أبواب الشر، فذلك الذي يرجى أن يكون من المحسنين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب سميع.

مزرعة الآخرة

مزرعة الآخرة لقد حث الله عز وجل على ذكره وأمر بطاعته، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، فعلى العبد أن يستغل أوقاته وعمره في طاعة الله عز وجل قبل أن يفوت الأوان، وتنتهي الأيام، فيندم العبد على ضياع عمره، وفناء شبابه، وضياع وقته في غير طاعة الله عز وجل.

سؤال العبد عن حياته وعمره

سؤال العبد عن حياته وعمره إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فهاهو الشهر الفضيل شهر رمضان يميل ميزانه، فبالأمس كنا نستقبله، ونحن اليوم نقضي آخر أيامه الوسطى، ويدخل الثلث الأخير من هذا الشهر الكريم. ثم ستأتي لحظات من عمر الزمن ونقول: هذا هو اليوم الأخير من رمضان، وهكذا هي الدنيا بأيامها ولياليها وشهورها وسنواتها تنقضي وتمضي سريعاً، فبينما كان الإنسان في الطفولة إذا هو في الشباب، إذا هو في المشيب، ثم تغرب به شمس العمر، ويوارى في التراب، والعاقل هو الذي يستغل لحظات العمر، يستغل هذه الليالي والأيام، وهذه الشهور والسنوات، فلا يجعلها تمضي هكذا هباءً، بل يستفيد منها، ويجعلها مزرعة للآخرة، فإن الإنسان يخسر خسراناً مبيناً إذا ما ضيع عمره عندما يخرج من الحياة، ويحسب ما استفاده من عمره فلا يجده يساوي أياماً أو شهوراً، فيكون عاش طويلاً، واستفاد قليلاً، وكما يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) وإحسان العمل: بأن تكون في هذه الدنيا كما يريدك الله تبارك وتعالى، فتقضي هذه الأيام والليالي كما يريدك الله عز وجل. واعلم أننا سنقف يوماً بين يدي الله أنا وأنت والبشر جميعاً، فيسألنا عن أعمارنا، ويسألنا عن شبابنا وأيامنا وليالينا، وعن كل لحظة مرت من عمرك كيف مرت؟! وفيم قضيتها؟! ولن تتحرك قدماك من المحشر إلا بعد أن تسأل عن عمرك: كيف أمضيت هذا العمر؟! وعن شبابك: كيف أبليت هذا الشباب؟! وعن مالك: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ وعن علمك ماذا عملت به؟! تسأل في الجملة عن العمر وخاصة مرحلة الشباب والقوة والفتوة والنشاط، فأنت مسئول عن أيامك التي تعيشها في الدنيا كيف قضيتها؟! فمن الناس من يقضيها فيما هو خير، ومن الناس من يقضيها فيما هو شر، ومن الناس من يضيعها بلا قيمة، فبعض الناس لا يكسب فيها أجراً ولا يكسب فيها وزراً، لكنها ضاعت هباءً منثوراً، ولم تحسب في صحيفة أعماله. وبعض الناس يطوق عنقه بالذنوب والمعاصي فيوبق نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو -والغدو: هو الخروج في الصباح- فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) فكل الناس يصبح ويغدو، ثم بعد ذلك تعمل أنت إما في هذا الاتجاه وإما في هذا الاتجاه.

أهمية اغتنام الأوقات في الطاعة

أهمية اغتنام الأوقات في الطاعة ولقد جاءنا الإسلام ليبين لنا كيفية استغلال مثل هذه الأوقات حتى لا تذهب سدى، وقال لنا: إن دنياكم زائلة، وتمتعكم فيها محدود، وستنتهي، والشيء الذي يبقى من أعمالكم هو ما أريد به وجه الله تبارك وتعالى. ومن ذلك: هذه الصلاة التي تصلونها، فإن أجرها عظيم، وثوابها كبير، وأفضلها الفرائض وخاصة إذا أديت في بيوت الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، طرفي النهار: في الصباح والظهيرة ثم في العصر. (وزلفاً من الليل): المغرب والعشاء. ثم قال: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، فهذه الصلوات تغسلك وتطهرك، ثم بعد ذلك نوافل العبادات، فالسنن الراتبة فيها أجر كبير، وثواب عظيم، وكذلك قيام الليل حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6].

عبادة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم

عبادة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ثم يقول الله تبارك وتعالى في ختام سورة المزمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل:20] فعباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينام ثلث الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، يقوم من الليل يصلي يقرأ القرآن، ويناجي ربه تبارك وتعالى استغلالاً للوقت. كذلك: قراءة القرآن في الليل والنهار، قال الله تعالى: {الَّذِيْنَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]، فاشغل هذا اللسان الذي ستسأل عنه يوم القيامة بذكر الله، فقد تتكلم بالكلمة من رضوان الله فيرفعك الله بها في الجنة درجات لا تتخيلها، وقد يتكلم العبد كلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً، فاستغله فيما يعود عليك بالخير والنفع وخاصة ذكر الله، وذكر الله يكون وأنت قائم، وأنت ماش، وأنت متحرك، وأنت جالس، وأنت في سيارتك، وأنت في بيتك، وأنت مضطجع على فراشك: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه واضطجع على جنبه الأيمن قال: باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). وكان يقرأ المعوذتين، وآية الكرسي، وإذا قام يصلي من الليل ذكر الله تبارك وتعالى، ودعا الله عز وجل، وقرأ آيات من القرآن، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، وكان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يعدون للرسول صلى الله عليه وسلم في الجلسة الواحدة أكثر من سبعين استغفاراً في الجلسة الواحدة، وكان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة) أي: يكثر من ذكر الله تبارك وتعالى. وقد علم المسلمين ألواناً من الذكر والدعاء والاستغفار، وهي موجودة في كتب الأذكار التي جمعها العلماء، وبين ما فيها من الأجر العظيم، أجر لا يتخيله العباد، فيستغل المسلم وقته. وبعضنا يضيع أوقاتاً هائلة كان يمكن أن يحول هذه الأوقات إلى ثروات، وأنت خارج إلى عملك تستغرق كل يوم وأنت ذاهب وآيب نصف ساعة أو ثلث ساعة، وبعض الإخوة ساعة من الزمن، وهذه الساعة لا تستطيع أن تعمل فيها شيئاً، فهي ضائعة من عمرك إلا إذا كان الإنسان نبيهاً فيستغلها في قراءة القرآن أو في ذكر الله تبارك وتعالى. فكم من إنسان يذهب إلى عمله في مدة ربع ساعة أو ثلث ساعة أو نصف ساعة ويعود إلى البيت في نصف ساعة، ولو شغل لسانه بذكر الله تبارك وتعالى فكم ينال من الأجر؟ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، يملأ أجرها ما بين السماء والأرض، فكم مرة تقولها وأنت ذاهب إلى عملك أو راجع منه؟! فلو أحسنا استغلال هذه الأوقات لأتينا يوم القيامة وعندنا حسنات أمثال الجبال.

أعظم الذكر

أعظم الذكر وأعظم الذكر قراءة القرآن، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، فهذا القرآن ذكر يذكرك بالله، ويذكرك بيوم القيامة، يذكرك بما ينفعك في الدنيا والآخرة، ويحذرك مما يضرك في الدنيا والآخرة. وقراءة القرآن نعيم للقلب، وراحة للنفس، واستقامة في العمل، وهو حبل بينك وبين الله تبارك وتعالى، حبل ممدود من السماء، طرفه في يدك وطرفه الآخر عند الله تبارك وتعالى، وخير ذكر الذاكرين أن يقرءوا هذا القرآن، فهو كلام الله تبارك وتعالى، به عزهم، وبه خيرهم وصلاحهم، وأجره عظيم، وثوابه جزيل. واشغل أذنيك بالخير، واستمع إلى الذكر والعلم، وائت بيوت الله إذا كان فيها مجالس للعلم والذكر -لا أقصد الذكر هذا الذي يفعله بعض الناس حيث يجتمعون على قراءات ما أنزل الله بها من سلطان- لكن أقصد دروس العلم، وتفسير كتاب الله، وقراءة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان سيرة الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وما يعظ به العلماء المسلمين، فهذه هي حلق العلم ورياض الجنة التي تقرب إلى الله تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) أي أجر هذا؟ وأي ثواب هذا يغفل عنه الغافلون، وتضيع أعمار الناس ولم يستفيدوا منه، ولم يتقربوا به إلى الله تبارك وتعالى؟ وأي أجر أعظم من أن تدعو إلى الله عز وجل فيهدي الله بك قريبك وجارك وصاحباً لك، ويهدي بك زميلاً في العمل قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). فهي ميادين لا ميداناً واحداً تستطيع أن تتقرب فيها إلى الله تبارك وتعالى، وتشغل بها هذا العمر حتى لا تتندم عندما يأتينا الموت، وعندما نقف بين يدي الله، وعندما نرى النعيم أو العذاب، عندما يأتي الموت كل إنسان فيقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، فهذه الفرصة لا تعوض، بل إنها تنتهي عندما يأتي الموت، فتنقطع التوبة، ولا يقبل الإيمان إذا غرغر العبد، فإنه يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99 - 100]. ولذلك فليبادر المذنب بالتوبة فلا يدري متى الموت، وليبادر المسلم بالعمل فقد يفجؤه الموت، فالموت لا تدري متى لحظته، بل إن هناك رجالاً يموتون في شرخ الشباب، في الفتوة والقوة؛ فالموت لا يعرف غنياً ولا فقيراً، ولا قوياً ولا ضعيفاً، يأتي فجأة ولا تدري متى يفجؤك الموت. فحتى لا يتندم الإنسان فعليه أن يستغل أوقاته في طاعة الله، وحتى لا يفجؤه الموت فيتمنى على الله بعد تلك الساعة أن يمتد به العمر ساعة، ولا يستأخر الإنسان ساعة ولا يستقدم إذا ما جاء الأجل الذي أجله الله. كذلك: عندما يكون الإنسان في المحشر فيرى الأجر العظيم، والثواب الجزيل للأعمال الصالحة، ويرى الذنوب والمعاصي كالجبال، ففي ذلك اليوم يتمنى لو أنه عمل من الخير كثيراً ولم يضيع أيامه وسنواته فيما لا يفيد. حتى إن أهل الجنة -لولا رحمة الله تبارك وتعالى- يموتون كمداً؛ لأنهم لم يستكثروا من عمل الخير، ولكن الله يرحمهم فما بالك بأهل النار الذين ألقوا فيها بجرائمهم كيف يكون ندمهم؟! يبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون دماً حتى تنقطع الدماء، وتحفر دموعهم ودماؤهم أخاديد في وجوههم لكثرة جريانها، فانظر! كيف يكون ندمهم؟! وكيف تكون حسرتهم؟! بل إن الموتى الذين في قبورهم أحياناً يتألمون عندما يسمعون رجلاً يذكر الله أو رجلاً يصلي؛ لأنهم لا يستطيعون أن يذكروا الله، ولا يستطيعون الصلاة فيستزيدون. فنحن لا نزال في الفرصة، ولا نزال في المهلة، لنستغل هذه الأيام الباقية من هذا الشهر، وهذه الأيام الباقية من أعمارنا قبل أن تضيع الفرصة، وفي كل يوم يغادر منا أشخاص يذهبون إلى مصيرهم، وسيأتي اليوم الذي نكون فيه نحن المغادرون، فلنستغل الفرصة قبل أن يأتي دورنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

شعار المؤمن الدائم

شعار المؤمن الدائم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. وبعد: فإنه ينبغي أن يكون شعار المسلم دائماً وأبداً: استقامة وعبودية لله تبارك وتعالى حتى الموت، هذا شعار ينبغي أن يرفعه المسلم، وأن يأخذ به على نفسه، وقد أدب الله به صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جاهد الأولون من المهاجرين والأنصار جهاداً مشكوراً، وقدموا لأنفسهم ولدينهم خيراً كثيراً، وقال من الأنصار من قال عندما أعز الله دينه: الآن نستطيع أن نستثمر أموالنا، وأن نعود إلى مزارعنا بعد أن نصر الله دينه وأعز كلمته؛ فنحن أهملنا بساتيننا وتجاراتنا، فالآن نستطيع أن نرجع إليها، فننمي أموالنا، ونحفظ أشجارنا وزروعنا وثمارنا، فقال رب العزة منكراً على من فكر هذا التفكير: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] قال أبو أيوب الأنصاري: فكانت التهلكة في ترك الجهاد. يقول أبو أيوب الأنصاري هذا الكلام للمسلمين على أسوار القسطنطينية، وهو شيخ كبير جاوز السبعين من العمر، لحيته بيضاء، وشعره أشيب، ومع ذلك يمسك بالسيف هناك في أسوار القسطنطينية ويعلم المسلمين هذا الدرس: وهو أن هذه الآية نزلت فيهم معشر الأنصار عندما أرادوا أن يتجهوا إلى تثمير أموالهم، وحفظ بساتينهم، فنبههم الله تبارك وتعالى وقال لهم: هذه هي التهلكة؛ لأنكم بذلك تتركون لعدوكم مجالاً أن ينتصر عليكم ويغلبكم، وأن يقهركم ويذلكم، هذا بالإضافة إلى الخير العميم الذي سيفوتكم، والجزاء الكبير من وراء ترك الجهاد. فقه أبو أيوب وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الدرس فحملوا هذا الشعار: عبودية استقامة جهاد حتى الموت. ومات هناك وتوفي على أسوار القسطنطينية، وتفرقت جثث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شتى بقاع الأرض: في بلاد الشام، في مصر، في جنبات أفريقيا، في الأندلس، فإلى كل مكان وصل المسلمون بغزواتهم، وترك الصحابة بصماتهم، ولا تزال قبورهم في شتى بقاع الأرض. فهو درس فقهه الصحابة بعد أن بينه الله تبارك وتعالى لهم، وينبغي أن يحمل المسلمون هذا الشعار إلى أن يلقوا الله تبارك وتعالى. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات. أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.

اليوم الآخر

اليوم الآخر إن الإيمان باليوم الآخر فارق بين عباد الله الموحدين وبين الكفار، وهو من سمات أهل الإيمان، والإيمان به سبيل المفلحين، ولقد أنكر بعض الطوائف البعث والجزاء والحساب قديماً وحديثاً، فجاء القرآن ليجلي لعباده الحقيقة ويقيم الحجة في بيان قدرته تعالى على البعث بعد الموت، ونوع الأدلة في إثبات ذلك، فاستدل القرآن على ذلك بخلق الإنسان، وإحياء الأرض بعد موتها، وخلق السماوات والأرض.

أثر الإيمان باليوم الآخر على المسلم

أثر الإيمان باليوم الآخر على المسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الإيمان باليوم الآخر هو مفترق الطريق بين المسلم والكافر، فسمة المسلم وعلامته أنه ينظر في كل أعماله وأحواله وتصرفاته إلى ذلك اليوم، فهو يريد بعمله أن يتقرب إلى الله عز وجل، وأن ينال رحمة الله سبحانه وتعالى، وأن يدخل جنة الله عز وجل، ويبتعد عن كل محرم نُهي عنه خوفاً من الله عز وجل، وخوفاً من ناره وعذابه؛ ولذلك وصف الله المؤمنين بأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه. ولشدة تأثير الإيمان باليوم الآخر في نفس المسلم وصف الله سبحانه وتعالى هذا اليوم وصفاً دقيقاً، وفصله رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه تفصيلاً بيناً، كأنك تراه أمام عينك؛ ولذلك فإن هذا اليوم حي في نفس المسلم دائماً، فهو يطرأ له عند منامه، وعند قيامه، فيعيش بين الناس منفرداً وحده. وقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يبكي منفرداً خائفاً من الله سبحانه وتعالى ومن غضبه أحد الأصناف الذين لا تمسهم النار، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقال: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، وقال: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).

سبب إنكار الكافر للبعث

سبب إنكار الكافر للبعث إن الكفار والفجار والمجرمين لا يريدون أن يستقيموا على هذا المنهج؛ لأنهم يرون أن في هذا المنهج تقييداً لفكرهم وأعمالهم، ويرون في ذلك ضياعاً للمتع والشهوات التي يظنون أن فيها خيراً لهم وسعادة؛ ولذلك هم يكفرون بهذا اليوم. أما الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يستبعدون هذا اليوم لقضية أشكلت عليهم، وهذه القضية لا تزال تراود كثيراً من الناس، كيف يعود الإنسان حياً سميعاً بصيراً متحركاً بعد أن وضع في التراب، وبعد أن تقطعت أجزاؤه، وأصبح لحمه رماداً، وبعد أن تبلى عظامه؟ فكيف يبعث مرة أخرى؟ هذه قضية أشكلت على عقول الناس، وقد ناقشها القرآن كثيراً، فإن كثيراً من الناس لا يؤمن بالبعث والنشور، كثير من الناس يؤمنون بوجود الله أي: يصدقون بوجوده، وأنه خالق الكون وخالق الإنسان، ولكنهم لا يصدقون بالبعث بعد الموت، فما السر في ذلك؟ يقولون: كيف يبعث الإنسان بعد أن بلي، قال الله: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10]، وتقول العرب: ضل الملح في الطعام إذا غاب فيه، أي: فني فيه، والمعنى: إذا غبنا في الأرض، وأصبحنا جزءاً منها، وبليت عظامنا ولحومنا، وتحولنا إلى تراب؛ أبعد ذلك يكون هناك خلق جديد؟ قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]. جاء أحد كفار مكة بعظم بالٍ متفتت وسحقه في يده ثم نفخه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يحيي العظام بعد أن أصبحت رميماً؟ فقال: (نعم، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك النار)، وأنزل الله قوله جل وعلا: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:78 - 80]. وهذه الشبهة تحتاج إلى بيان وإيضاح، ونحن بحاجة إلى أن نتبينها كي نستطيع أن نرد على الذين ارتابت قلوبهم وتشككوا في البعث نتيجة لهذه الشبهة.

أنواع الأدلة التي ذكرت في القرآن للرد على منكري البعث

أنواع الأدلة التي ذكرت في القرآن للرد على منكري البعث

خلق الإنسان

خلق الإنسان فالملحدون بالكلية وهم الذين لا يصدقون بوجود الله قضيتنا معهم قضية إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وكلامنا هنا مع غالب البشرية الذين يصدقون بوجود الله، ولكنهم يشركون بالله، أو يستبعدون قدرة الله على إعادة الأجساد مرة أخرى، وهؤلاء ناقشهم الله سبحانه وتعالى بعدة أنواع من الأدلة، فمن ذلك هذه الآية التي يذكرهم الله سبحانه وتعالى بدليل هو أنفسهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78]، فالذي يقول بهذه المقالة ويريد الدليل، نقول: أنت -أيها السائل- دليل على البعث، فالله أنشأك من عدم، كلنا عندما يحسب عمره ثم يقدم على أول عمره سنة أو سنتين يعلم أنه كان عدماً، قال الله جل وعلا: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، سواء كان هذا الإنسان آدم قبل أن يخلق أو كل واحد منا، فكلنا قبل أن يخلق في بطن أمه كان عدماً، فأنت -أيها السائل- دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى على البعث والنشور، فالذي أنشأ هذا الإنسان من عدم بعد أن لم يكن موجوداً قادر على إعادته، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]. وقد استقر في فطرة الناس أن الإعادة أسهل من البداءة، فالذي صنع شيئاً يسهل عليه أن يعيده أو يعيد مثله، فهنا يقول تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79]. فالله سبحانه وتعالى أنشأ الناس من العدم، وخلق هذا الخلق السوي بهذه الحواس المتكاملة، وبهذا القلب النابض، وبهذا الفكر الواعي، وبهذه الأحاسيس والمشاعر، وقد أوجدها الخبير العليم البصير القدير القوي القاهر القادر، فإذا قال: أنا سأحييهم مرة أخرى بعد موتهم؛ فليس في ذلك غرابة؛ لأن من صنع أول مرة قادر على أن يعيد الإنسان مرة أخرى، كما قال جل وعلا في سورة أخرى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5]، وهذا هو الخلق الأول آدم عليه السلام، خلقه من تراب، والتراب جماد لا حياة فيه، والتراب أصبح طيناً، والطين صلصالاً كما في آية أخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، وقال: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11]، بل وشكله الله سبحانه وتعالى بيديه كما قال لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، ثم نفخ فيه من روحه، فدبت فيه الحياة، فأصبح حياً سميعاً بصيراً متكلماً، أما قبل ذلك فقد كان عدماً لا شيء، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5]، فالذي حول التراب إلى حياة قادر على أن يعيد ذرات الإنسان بعد أن تضل وتغيب في الأرض، وقادر على أن يجمعها مرة أخرى، فالأمر أمره، والقول قوله، والحكم حكمه، ونحن لا نقيس قدرات الله على قدراتنا، فمن هنا جاء الخطأ، فالإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك؛ أنها قدرتي وقدرتك وقدرة البشر، أما قدرة الله فغير ذلك، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] هذا هو الخلق الأول، ثم بعد ذلك تسلسل البشر. ومما أخبرنا الله به أيضاً: أن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذه معجزة أخرى؛ لأن جزءاً من حي خلق منه امرأة، ثم تسلسل بقية الناس من ذكر وأنثى إلا ما كان من عيسى فإنه خلق من أنثى بلا ذكر.

إحياء الأرض بعد موتها

إحياء الأرض بعد موتها قال تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5]، وهذا دليل آخر، فالأرض اليابسة الجامدة التي لا حياة ولا نبات فيها، بل ونمر بها وهي قاحلة جرداء، وتمر عليها الرياح فتثير غبارها، وتعصف برمالها، ((وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ))، ثم عندما تمطر عليها السماء إذا بها تتشقق وتخرج نباتها صغيراً يكبر وينمو، ويزهر ويعطي، حتى يكون بهجة للناظرين، فأين كانت هذه الحياة؟! كانت الأرض ميتة، وما فيها ميت، فعندما جاء المطر أحياها الله، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، ثم عقب الله على هاتين الآيتين فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:6]، فالذي ابتدأ خلق الإنسان وكوَّنه من عدم بعد أن لم يكن موجوداً، وأحيا الأرض بعد موتها؛ قادر على أن يحيي الموتى: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6]. فقدرة الله لا يعجزها شيء، سواء في الابتداء أو في الإعادة، ثم قال: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7]، (وأن الساعة آتية) أي: قادمة لا شك فيها. فالذي أحيا الأرض بعد موتها، وخلق الإنسان من عدم؛ قادر على إحيائه مرة أخرى، وذلك قوله ووعده سبحانه وتعالى، فقدرة الله نشاهدها في الحياة، ونشاهدها أمامنا في كل ثانية في هذا الوجود، ففي كل لحظة يأتي إلى الدنيا عشرات وألوف وملايين الأحياء، هذا إذا عددنا الطيور والحيوانات عدا الإنسان. فكل حياة تحيا من جديد فإنما هي معجزته، فلا يستطيع أحد أن يدعي أنه الذي أوجدها وصنعها، الله سبحانه وتعالى هو الصانع وحده، وهو الموجد، وهذا الصانع الموجد سبحانه وتعالى سيعيد الناس ويحييهم مرة أخرى.

الاستدلال بخلق السماوات والأرض

الاستدلال بخلق السماوات والأرض ولقد لفت القرآن نظرنا إلى أن في هذا الكون مخلوقات هي أعظم من خلق الإنسان كما قال الله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]. واليوم يحدثنا الإنسان عن شيء مما علمه عن هذا الكون، من أرضه وسمائه وأبعاد نجومه وتعدادها، فعندما يطلع الإنسان على شيء من ذلك يأخذه العجب؛ لعظم خلق السماوات والأرض، وما فيها من إعجاز وقدرات، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، إلا أن أكثر الناس لا يعلمون، فهم غافلون ساهون لاهون، فالذي خلق العظيم قادر على أن يخلق ما هو أهون منه، وما هو أصغر منه.

قصص أقوام أحياهم الله بعد موتهم في الدنيا

قصص أقوام أحياهم الله بعد موتهم في الدنيا وقد أرى الله سبحانه وتعالى أناساً في بعض العصور، من إحيائه للموتى في الدنيا قبل الآخرة، وذلك مثل الرجل الذي: {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259]، فقد استبعد هذا الرجل أن يحيي الله تلك القرية بعد موتها، فأماته ثم أحياه، يقول المفسرون -والله أعلم بصحة ذلك-: كان أول ما أحيا الله من جسده رأسه وعينيه؛ لينظر إلى جسده وهو يتكون، ثم بعد أن أحياه أحيا حماره أمام ناظريه، فأراه كيف ينشز العظام ويكونها، وكيف تتجمع ذراتها البالية، ثم كساها باللحم والجلد والشعر، ثم بعث في ذلك الحمار الحياة فقام يجري ويمشي، ((قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). مات مائة سنة فبليت عظامه وعظام حماره، ولتمام الإعجاز بقي طعامه وشرابه لم يفسد، ((فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ))، فهذا الطعام والشرب الذي يفسد في يومين فأكثر بقي مائة سنةلم يفسد، والإنسان والحمار الذي يتأخر فسادهما قليلاً بليا وفنيا. كذلك إبراهيم عليه السلام عندما قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] أي: خذ أربعة طيور فقطعهن، وانثر أشلاء هذه الطيور على جبال مختلفة، واجعل رءوس الطيور في يدك، ثم ادعهن ونادهن: إن الله يأمركن أن تجتمعن، فإذا بهذه الأشلاء المتناثرة التي لا حياة فيها تسعى من تلك الأماكن المختلفة، وكل جزء من أجزائها يأتي في مكانه الذي جعله الله فيه، فلا تأتي الرِّجْل في مكان الجناح، ولا الجناح في مكان الرجل، بل يأتي كل شيء في مكانه، ثم تلتئم بقدرة الله سبحانه وتعالى، {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260]. فالله سبحانه وتعالى أمر هذه الأجزاء أن تطيع إبراهيم فأطاعته، وجاءت إليه والتأمت، وتركها فانطلقت محلقة في الفضاء. وأرى الله كذلك بني إسرائيل آية عندما قتلوا نفساً واختلفوا فيها كما قال الله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72]، وفصل الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة كيف جاءوا إلى موسى، وطلبوا منه أن يبين لهم القاتل، فقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، واستفصلوا وتعنتوا في الأسئلة إلى أن ذبحوها، {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]، ثم قال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] أي: خذوا جزءاً من هذه البقرة فاضربوا به الميت، {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73]، وشاهد بنو إسرائيل هذه الآية، وكيف أن ميتاً لا حياة فيه، ولا نفس فيه تتردد، وقد مات منذ أيام؛ يضرب بجزء من البقرة فيحييه الله سبحانه وتعالى، وكما أحياه الله عز وجل فإنه يحيي الموتى، قال سبحانه: ((كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى)) أي: مثل هذا الإحياء يحيي الله الموتى، ((وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ)) أي: فهذه آية دالة على البعث والنشور، وبالرغم من هذا فقد قست قلوبهم بعد ذلك! قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]. ومن ذلك أيضاً: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]. وكذلك عيسى عليه السلام؛ فقد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فكان يمر على صاحب القبر فيقول له: قم بإذن الله، فيحدثونه ويسألونه. وكذلك أصحاب الكهف: فقد مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ثم قاموا بإذن الله سبحانه وتعالى، قال الله: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة بالسنين الشمسية، وازدادوا تسع سنين بالسنين القمرية. وكذلك هذه الدلائل المنظورة المشاهدة في كل عصر، أو التي تشاهدها بعض الأجيال دون بعض؛ تكشف الشبهة وتميتها عند من يستبعد أن يعيد الله سبحانه وتعالى الناس بعد موتهم، وبعد أن اختلطت عظامهم ولحومهم بالتراب. فالقدرة هي قدرة الله سبحانه وتعالى التي أوجدتهم في البداية، وهي قادرة على أن توجدهم مرة أخرى، كما أخبر الله سبحانه وتعالى أنه ما من أحد أنشأه وخلقه إلا وسيأتيه يوم القيامة عبداً، وحيداً كما أنشأه الله وبدأه؛ لأن الله قد أحصاهم وعدهم عداً، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]. عندما ندرس القرآن الكريم والأحاديث النبوية نجد فيها تفصيلاً لرحلة ما بعد هذه الحياة منذ أن تنزع الروح؛ لأن هذه أمور غيبية لا نعلمها إلا من طريق الوحي، فإن رحلة الإنسان تبدأ منذ أن يأتيه ملائكة الموت، وللموت ملك موكل بقبض أرواح الناس، وله ملائكة يعينونه على ذلك، فإذا جاء الأجل الذي حدده الله سبحانه وتعالى أُرسلت الرسل لقبض روحه، ويكون قبض الروح ونوع الملائكة بحسب حال الإنسان صلاحاً وتقى أو فساداً وفجوراً، فالكافر والمنافق والفاجر تُرسل له الملائكة بصورة سوداء مرعبة؛ فينزعون روحه بشدة، وترسل للمؤمن ملائكة بيض الوجوه، فينزعون روحه برفق. نسأل الله أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، والحمد لله رب العالمين.

حياة البرزخ

حياة البرزخ لقد أخبر الله عز وجل أنه لابد للإنسان من رحلة يرحلها من الدنيا إلى الآخرة، إنها رحلة تبتدئ من سكرات الموت والاحتضار وتنتهي بالبعث والنشور الذي أنكره كثير من الملاحدة، وينقسم الناس خلال هذه الرحلة إلى قسمين لا ثالث لهما: أهل الجنة وأهل النار، وقد ذكرنا ربنا جل جلاله ونبينا عليه الصلاة والسلام ما يلاقي أهل الجنة أثناء الرحلة من البشرى والنعيم، وما يلاقي أهل النار من البشاعة والزجر والعذاب الأليم.

أهمية الإيمان باليوم الآخر

أهمية الإيمان باليوم الآخر إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إن الإيمان باليوم الآخر مفرق طريق يبن المسلم والكافر، بين المؤمنين والكفار، وعلامة المسلم: أنه ينظر في كل أعماله وأقواله وتصرفاته إلى ذلك اليوم، فهو يريد بعمله أن يتقرب إلى الله عز وجل، أن ينال رحمة الله سبحانه وتعالى، أن ينال جنة الله عز وجل، فهو يمتنع عن كل محرم وكل منهي عنه؛ خوفاً من الله عز وجل وخوفاً من ناره وعذابه، لذلك وصف الله المؤمنين بأنهم يريدون رحمته ويخافون عذابه. لشدة تأثير الإيمان باليوم الآخر في نفس المسلم وصف الله سبحانه وتعالى هذا اليوم وصفاً دقيقاً، وفصله رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه تفصيلاً بيناً، حتى كأنما المؤمن ينظر من خلال كتاب الله ومن خلال كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك اليوم، بل كأنه يعيش فيه، ولذلك فإن هذا اليوم حي في نفس المؤمن، دائماً يتراءى له عند منامه وقيامه، وهو يعيش بين الناس منفرداً وحده، بل جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يبكي منفرداً خائفاً من الله سبحانه وتعالى ومن غضب الله عز وجل أحد الأصناف الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث قال: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) وقال: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين حرست في سبيل الله). والكفار والفجار والمجرمون لا يريدون أن يستقيموا على منهج؛ لأنهم يرون في هذا المنهج تقييداً لفكرهم وأعمالهم، ويرون في ذلك ضياعاً للمتع والشهوات التي يظنون أن فيها خيراً وسعادة، ولذلك فهم يكفرون بهذا اليوم، ومن قبل كان الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يستبعدون هذا اليوم لقضية أشكلت عليهم، وهذه القضية لا تزال تراود كثيراً من الناس، وهي: كيف يعود الإنسان حياً سميعاً بصيراً متحركاً بعد أن وضع في التراب وتقطعت أجزاؤه وأصبح لحمه رماداً؟ كيف يبعث مرة أخرى بعد أن تبلى عظامه؟! هذه قضية أشكلت على عقول الناس، وقد ناقشها القرآن كثيراً، وكثير من الناس يؤمن بوجود الله ويصدق بوجوده، وأنه خالق الكون والإنسان، ولكنه لا يصدق بأن هناك بعثاً بعد الموت، فما السر في ذلك؟! يقولون: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10]، تقول العرب: ضل الملح في الطعام إذا غاب فيه، يعني: فني فيه، فإذا غبنا في الأرض، وأصبحنا جزءاً من هذه الأرض، فبليت عظامنا ولحومنا، وأصبحنا من هذه الأرض، وتحولنا إلى تراب، أبعد ذلك يكون هناك خلق جديد؟!

الأدلى على البعث والنشور

الأدلى على البعث والنشور قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] (جاء كافر من أهل مكة بعظم بال متفتت، وسحقه في يده، ثم نفثه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يحيي العظام بعد أن أصبحت رميماً؟ قال: نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يدخلك النار)، وأنزل الله قوله جل وعلا: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:78 - 80]. هذه الشبهة احتاجت إلى بيان وإيضاح ونحن بحاجة إلى أن نتبينها كي نرد على الذين ارتابت قلوبهم وتشككوا في هذا اليوم نتيجة لهذا الشبهة. الملحدون ليس لنا كلام معهم، الملحدون الذين لا يصدقون بوجود الله قضيتنا معهم قضية إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، إنما الكلام مع غالب البشرية الذين يصدقون بوجود الله ولكنهم يشركون بالله أو يستبعدون قدرة الله على أن يعيد الأجساد مرة أخرى، فهؤلاء ناقشهم الله سبحانه وتعالى بعدة أنواع من الأدلة. فمن ذلك هذه الآية التي يذكرهم الله سبحانه وتعالى بدليلهم أنفسهم قال تعالى: ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ)) الذي يقول بهذه المقالة ويريد الدليل على أن من قدرة الله أن يجمع الناس ويحييهم مرة أخرى، فذات هذا السائل دليل على البعث، فالذي أنشأه من عدم قادر على أن يعيده، وكلنا عندما يحسب عمره ثم يقدم على أول عمره سنة أو سنتان، يعلم أنه كان عدماً، كما قال الله جل وعلا: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، سواء آدم قبل أن يخلق كان عدماً، أو كل واحد منا قبل أن يخلق في بطن أمه كان عدماً. فأنت -أيها السائل- دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى على البعث والنشور، والذي أنشأ هذا الإنسان من عدم بعد أن لم يكن موجوداً هو الذي سيعيده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] قد استقر في فطرة الناس أن الإعادة أسهل من البداءة، فالذي صنع شيئاً يسهل عليه أن يعيده أو يعيد مثله، فهنا يقول: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79]، فإذا كان الله سبحانه وتعالى أنشأ الناس من العدم، فهذا الخلق السوي بهذه الحواس المتكاملة، وبهذا القلب النابض، وبهذا الفكر الواعي، وبهذه الأحاسيس والمشاعر؛ كيف وجدت؟ أوجدها السميع العليم البصير الخبير القوي القاهر القادر. فالله عندما يقول: أنا سأحييكم مرة أخرى بعد بعثكم، ليس في ذلك غرابة، فمن صنع أول مرة فهو قادر على أن يعيد الإنسان مرة أخرى.

من الأدلة على البعث قوله: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)

من الأدلة على البعث قوله: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5]، فهذا هو الخلق الأول خلق آدم عليه السلام، خلقه من تراب، والتراب جماد لا حياة فيه، ثم صار التراب طيناً، ثم صار الطين صلصالاً كما في آية أخرى: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، وقال: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11]. شكله الله سبحانه وتعالى بيديه إذ قال لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، ثم نفخ فيه من روحه، فدبت فيه الحياة، فأصبح حياً سميعاً بصيراً متكلماً، وقبل ذلك كان عدماً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] فالذي حول التراب إلى حياة قادر على أن يعيد ذرات الإنسان بعد أن تضل في الأرض، فالأمر أمره، والقول قوله، والحكم حكمه، ونحن لا نقيس قدرات الله على قدراتنا، لأن الخطأ من هنا جاء، الإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك، لكن هذه قدرتي وقدرتك وقدرة البشر، أما قدرة الله فغير ذلك، أمر الله إذا شاء شيئاً فإنما يقول له: كن، فيكون. قال الله: ((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)) هذا هو الخلق الأول، ثم بعد ذلك تسلسل البشر. أيضاً حواء خلقت من آدم من ضلعه، وهذه معجزة أخرى، جزء من حي خلق منه امرأة، وبقية الناس تسلسلوا من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه خلق من أنثى بلا ذكر. قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5]. وهذا دليل آخر: فالأرض اليابسة الجامدة لا حياة فيها، ولا نبات فيها، نمر بها وهي قاحلة جرداء، تمر عليها الرياح فتثير غبارها، وتعصف برمالها {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5] عندما تمطر عليها السماء إذا بها تتشقق وتخرج نباتاً صغيراً يكبر وينمو، ويزهر ويعطي، ويكون بهجة للناظرين، أين كانت هذه الحياة؟ كانت الأرض ميتة وما فيها ميت، فعندما جاء المطر أحياها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]. تعقيب الله على هاتين الآيتين: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:6] أي: الذي ابتدأ خلق الإنسان وكونه من عدم بعد أن لم يكن موجوداً، وأحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6]، فقدرة الله لا يعجزها شيء، قدرته في البداية ثم في الإعادة {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7]. (وأن الساعة آتية) قادمة لا شك، (وأن الله يبعث من في القبور) الذي أحيا الأرض بعد موتها، والذي خلق الإنسان من عدم سيحييه مرة أخرى، ذلك قوله، وذلك وعده سبحانه وتعالى. وقدرة الله نشاهدها في الحياة، ونشاهدها أمامنا في كل ثانية في هذا الوجود، يأتي إلى الدنيا بحياة جديدة، بل أحياء، بل عشرات وألوف وملايين الأحياء إذا عددنا الطيور والحيوانات عدا الإنسان، كل حياة تخفق من جديد إنما هي معجزة لا يستطيع أحد أن يدعي أنه الذي أوجدها وصنعها، فالله سبحانه وتعالى الصانع وهو الموجد، وهذا الصانع الموجد سبحانه وتعالى سيعيد الناس ويحييهم مرة أخرى.

من الأدلة على البعث خلق السماوات والأرض

من الأدلة على البعث خلق السماوات والأرض ولقد لفت القرآن نظرنا إلى أن في هذا الكون مخلوقات هي أعظم من خلق الإنسان، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]. اليوم يحدثنا العلم عن شيء مما علمه عن هذا الكون، أرضه وسمائه، وأبعاد نجومه، وتعداد نجومه، عندما يقف الإنسان على شيء من ذلك يأخذه العجب كل مأخذ لعظم خلق السماوات والأرض، وما فيها من إعجاز وقدرات، قال الله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] إلا أن الناس لا يعلمون، غالبية الناس لا يعلمون، غافلون ساهون لاهون، فالذي خلق العظيم قادر على أن يخلق ما هو أهون منه، وما هو أصغر منه.

من الأدلة على البعث إحياء الموتى في الدنيا

من الأدلة على البعث إحياء الموتى في الدنيا لقد أرى الله سبحانه وتعالى في بعض العصور بعض الناس معجزة إحياء الموتى في الدنيا قبل الآخرة، أرى ذلك الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259]. استبعد هذا الرجل أن يحيي الله تلك القرية بعد موتها فأماته وأحياه، ويقول المفسرون -الله أعلم بصدق ذلك-: إن الله أول ما أحيا رأسه وعينيه؛ لينظر إلى جسده وهو يتكون، وبعد أن أحياه أحيا حماره أمام ناظريه، أراه كيف ينشز العظام ويكونها، وتتجمع ذراتها البالية، ثم كساها باللحم والجلد والشعر، ثم بعث في ذلك الحمار الحياة، فقام يجري ويمشي ((قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). مات مائة سنة فبليت عظامه وعظام حماره، ولتمام الإعجاز بقي طعامه وشرابه لم يفسد (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) الطعام والشراب الذي يفسد في ساعتين في يومين في ثلاثة أيام بقي مائة سنة لم يفسد، والإنسان والحمار الذي يتأخر فساده نوعاً ما بلي وتلاشى. وهذا إبراهيم عليه السلام قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] خذ أربعة من الطيور وقطعهن، وانثر أشلاء هذه الطيور على جبال مختلفة، واجعل رءوس الطيور في يدك. ((ثُمَّ ادْعُهُنَّ)) ناد بهن، إن الله يأمركن أن تجتمعن، فهذه الأشلاء المتناثرة التي لا حياة فيها إذا بها تأتي من تلك الأماكن المختلفة، وكل جزء من أجزائها يأتي في مكانه الذي جعله الله فيه، فلا تأتي الرجل مكان الجناح، ولا الجناح مكان الرجل، كل شيء يأتي في مكانه وتلتئم بقدرة الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] فالله سبحانه وتعالى أوحى لهذه الأجزاء أن تطيع إبراهيم فأطاعته، وجاءت والتأمت، وتركها فانطلقت محلقة في أجواء الفضاء. وأرى بني إسرائيل قدرته عندما قتلوا نفساً واختلفوا فيها، قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] فصل الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة كيف جاءوا لموسى وطلبوا منه أن يبين لهم القاتل، فقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] واستفصلوا وتعنتوا في الأسئلة إلى أن ذبحوها، قال تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] أي: خذوا جزءاً من هذه البقرة فاضربوا به الميت {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73]. وشاهد بنو إسرائيل هذه الآية، ميت لا حياة فيه قد مات منذ أيام، يضرب بجزء من البقرة فيحييه الله سبحانه وتعالى، وكما أحياه الله عز وجل يحيي الموتى، لذلك قال: ((كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى)) أي: مثل هذا الإحياء يحيي الله الموتى. ((وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ)): فهذه آية دالة على البعث والنشور، ولكن مع ذلك قست قلوبهم بعد ذلك {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]. وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، يمر على صاحب القبر فيقول له: قم بإذن الله، فيحدثونه ويسألونه ويشافهونه. وأصحاب الكهف مكثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً، ثم قاموا بإذن الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] وهم قد لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين بالشمسية، وازدادوا تسع سنين بالقمرية. فهذه الدلائل المنظورة التي تشاهدها بعض الأجيال دون بعض تكشف الشبهة وتميطها عمن يستبعد أن يعيد الله سبحانه وتعالى الناس بعد أن ماتوا بعد أن فنوا بعد أن اختلطت عظامهم ولحومهم بالتراب. فالقدرة هي قدرة الله سبحانه وتعالى التي أوجدته في البداية، وهي قادرة على أن توجدهم مرة أخرى، كما أخبر الله سبحانه وتعالى أن ما من أحد أنشأه وخلقه إلا وسيأتيه يوم القيامة عبداً، سيأتيه وحيداً كما أنشأه وكما بدأه قال تعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:94 - 95].

مراحل الرحلة إلى الدار الآخرة

مراحل الرحلة إلى الدار الآخرة

رحلة العبد المؤمن

رحلة العبد المؤمن عندما ندرس القرآن الكريم والأحاديث النبوية نجد فيها تفصيلاً لرحلة ما بعد هذه الحياة منذ أن تنزع الروح؛ لأن هذه أمور غيبية لا نعلمها إلا من طريق الوحي. تبدأ رحلة الإنسان منذ أن يأتيه ملائكة الموت، وللموت ملك موكل بقبض أرواح الناس، وله ملائكة يعينونه في ذلك، فإذا جاء الأجل الذي حدده الله سبحانه وتعالى أرسلت رسل يقبضون روحه، ويكون قبض الروح وأشكال الملائكة بحسب حال الإنسان صلاحاً وتقى، أو فساداً وفجوراً، فالكافر والمنافق والفاجر ترسل له الملائكة بصورة مفزعة، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. هذا في لحظات الموت عندما يأتي الموت المؤمنون تتنزل عليهم ملائكة الرحمة، تقول لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا، أي: لا تخافوا مما هو آتٍ في القبور والمحشر والمنشر، ولا تحزنوا على ما خلفتم من ذرية وأهل {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] ومن كان الله وليه فكيف يخاف ويفزع؟ وهذا بعكس المنافق والكافر، فإنه يتنزل عليه الغضب والتبشير بالعذاب كما أخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الطويل: (إن المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة أتته ملائكة كأن وجوههم الشموس، فجلسوا منه مد بصره). فالإنسان في حال الموت يكشف عنه الغطاء فيشاهد ملائكة يراهم كأن وجوههم الشموس، فيجلسون منه مد بصره، ثم يأتي ملك الموت، ومعه حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، فيقال: أيتها النفس الطيبة! التي كانت تسكن في الجسد الطيب اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، فينتزعها، فتسيل قطرة قطرة كما يسيل الماء من فم السقاء طيبة نظيفة طاهرة. ثم تأخذها الملائكة فتضعها في ذلك الكفن وذلك الحنوط الذي هو من الجنة، وتخرج منها كأحسن نفحة مسك وجدت، فهي طيبة طيبتها أعمالها الصالحة، طيبة الإيمان، طيبتها المسيرة الخيرة في الدنيا، ويصعدون بها إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، ويسيرها من كل سماء مقربوها إلى السماء السابعة، وهناك يقول الله سبحانه وتعالى: (أعيدوا عبدي إلى قبره، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى). تعود إلى القبر فيأتيها الملكان اللذان يختبران العبد في قبره فيسألانه عن منهجه وطريقه في الحياة، ومعتقده في القضايا الخطيرة، فالمؤمن يجيب أنه كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فهذا هو التثبيت، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اسألوا لأخيكم الثبات فإنه الآن يسأل). فإذا نجا الإنسان من هذا الموقف فما بعده أسهل، وإن لم ينج فما بعده أصعب، فهذه بداية الطريق إما شقاء أبدي وإما نعيم أبدي، في بعض الروايات: يسألانه عن دينه، يسألانه عن ربه، يسألانه عن الرجل الذي بعث فيهم، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا الرجل الذي بعث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات يقول: (أنا كنت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوا له قبره من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل طيب الرائحة حسن المنظر، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح) يتمثل العمل الصالح للإنسان رجلاً يؤنسه في قبره، (ثم يكشف له الغطاء فيقال له: ذاك مكانك في النار لو كنت كافراً). كل إنسان له مكانان: مسلم أو كافر، مكان في الجنة ومكان في النار، المؤمن ينجو من النار ويأخذ مكانه في الجنة، فأمكنة الكفار التي في الجنة يرثها المؤمنون، والكفار يخسرون أماكنهم في الجنة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] يخسرون أماكنهم في الجنة، ويرثون أماكن المؤمنين التي في النار، ولذلك سمى ربنا يوم القيامة فقال: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] أين يوم التغابن؟ لأن المؤمن يرث أماكن الكفار التي في الجنة، والكافر يرث أماكن المؤمنين التي في النار، فهذا غبن عظيم ولكن يستحقه الكفار بسبب كفرهم، ويستحقه المؤمنون بسبب إيمانهم. يقال للمؤمن في القبر: (انظر إلى مكانك في النار، فهذا هو المكان الذي كنت ستحل فيه لو كنت كافراً، قد أبدلك الله به ذلك المكان في الجنة، فيرى قصوره وبساتينه وما أعد الله له من نعيم، فيقول: رب أقم الساعة! رب أقم الساعة! رب أقم الساعة! حتى أرجع إلى مالي وأهلي). ثم يصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم رحلة الكافر فيقول: (والعبد الكافر إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة أتته ملائكة - ويصف الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم على أشكال بشعة مفزعة - فيجلسون منه مد بصره، وتأتي الملائكة معها بكفن من النار وحنوط من النار، ويأتي ملك الموت فيجلس عند رأسه، ويقول: أيتها النفس الخبيثة! كانت تسكن في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب من الله وسخط) فملك الموت يشاهده الإنسان عند الموت ويراه. جاء في الحديث أنه عندما يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: (ينادي مناد: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، فيقول: أتعرفون هذا؟ فينظرون إليه، فهم يعرفونه؛ لأنهم رأوه، فيقولون: نعم، هذا الموت) كيف رأوه؟ عندما يموت الإنسان يراه، كل إنسان سيرى الموت، ويشاهده، (يقولون: نعم يا ربنا! هذا الموت نعرفه، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت).

رحلة العبد الكافر

رحلة العبد الكافر فيأتي ملك الموت يعاينه الإنسان قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أنت تشاهد وتبصر ما لم تكن تبصر، الإنسان في العادة لا يبصر الملك، لكن في هذه اللحظات يكشف عنه الغطاء، ويصبح عنده قوة بصر؛ لأنه وضع رجله في أول درجات الآخرة، فيشاهد ويرى وينظر. أما الكافر فيقول ملك الموت: (أيتها النفس الخبيثة! كانت تسكن في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب من الله وسخطه، فتتفرق في جسده، تتفرق وتخاف وتفزع، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبتل) السفود: هو السيخ الذي يشوى عليه اللحم، فتكون عليه نتوءات من بقايا اللحم، فإذا ما أدخل في الصوف المبلول علق الصوف المبلول به، ولا نستطيع تخليص الصوف إلا بصعوبة ومشقة، وكذلك ينتزع هذه الروح لا كما حدث مع المؤمن بسهولة ويسر، وإنما ينتزعها بصعوبة ومشقة، وفي ذلك زيادة عذاب وألم لذلك الكافر. (فإذا انتزع هذه الروح أخذها منه الملائكة وخرجت منها كأخبث رائحة وجدت، فيقولون: روح من هذه هذه الروح الخبيثة؟! فيقولون: روح فلان بن فلان بأخبث أسمائه، فيجعلونها في ذلك الحنوط وذلك الكفن الذي هو من النار، فيصعدون بها إلى السماء فلا تفتح لها أبواب السماء، فتلقى، ويقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم آية الحج: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ويعاد إلى قبره فيسأل كما سئل المؤمن). ولكن شتان بين السؤالين! شتان بين الإجابتين! ذلك كان في حياته ثابتاً على الحق لا يتلجلج، عرف الحق فتمسك به، وثبت عليه، أما هذا فكان ضالاً زائغاً، أو كان متردداً شاكاً. يسألونه عن ربه ودينه، وعن الرجل الذي بعث، فيقول: ها ها لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقال له: لا دريت ولا تليت، أي فأنت لم تعرف ولم تتبع، ولم تبحث عن الناس الذين يعرفون وتتبعهم، فلا أنت من الأئمة الذين يقتدى بهم، وأصحاب العلم الذين يعرفون، ولا أنت من الذين يتبعون أهل الحق، ويتبعون العلماء. (وينادي مناد أن كذب عبدي، فأفرشوا له قبره من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، فيقال له: انظر ذاك مكانك في الجنة لو كنت مؤمناً - فيرى ما كان سيحصل عليه من نعيم وقصور وجنان - أبدلك الله به ذلك المكان في النار) فيرى ما يعد إذا ما قارن نفسه بما هو فيه في ذلك الوقت من عذاب يجده أخف بكثير من ذلك العذاب الذي سيكون في يوم القيامة؛ فيقول: رب لا تقم الساعة! يخشى أن تقوم الساعة، فيصير إلى عذاب أشد، وهول أعظم وأكبر. فيقول: رب لا تقم الساعة! رب لا تقم الساعة! رب لا تقم الساعة!. (ويأتيه رجل خبيث الرائحة، قبيح المنظر، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث) أي: أنا الظلم الذي كنت تفعله، والعقائد الفاسدة التي كنت تعتقدها، والضلال الذي وقعت فيه وأوقعت الناس فيه! قطيعة الأرحام، وترك الصلاة والصيام، وترك الحج وفعل المنكرات تتمثل في إنسان خبيث في ذاته، قبيح في شكله، رائحته منتنة قبيحة تؤذي هذا الإنسان في قبره، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالشر، فيقول: أنا عملك السيئ، أنا عملك الخبيث. هذا الحديث وأحاديث كثيرة جداً تتحدث عن نعيم القبر وعذابه، وتدل على أن رحلة الإنسان التالية لهذه الحياة تكون في القبر وهو ما أسماه القرآن حيث قال الله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، والبرزخ هو الفاصل بين الشيئين، ويعنى به هنا الفترة الفاصلة ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ولذلك قال الله جل وعلا حيث سمى دخولنا المقابر زيارة: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، فدخول القبر ليس نهائياً، إنما هي زيارة، والزائر سيرحل يوماً ما، فهذه الفترة هي المرحلة التالية لحياة الإنسان. قد يقول بعض الناس من الذين لا يوقنون ولا يؤمنون، والذين يعلمون الأمور الظاهرة في الدنيا ولا يعلمون أمور الآخرة: نحن نشاهد الناس بعد موتهم لا يعذبون ولا ينعمون، وقد نفتح قبورهم فلا نشاهد شيئاً! فهؤلاء مساكين، لأنهم لا يعلمون أن الإنسان جسد وروح، والروح سر الحياة، والعذاب والنعيم يقع على الروح، والروح تبع للجسد في الدنيا: فالعذاب والنعيم للجسد، والأرواح تابعة للأجساد، أما في القبر فتنعكس القضية، فالنعيم والعذاب للأرواح والأجساد تابعة لها، وفي الآخرة يشترك الجسد والروح على قدر سواء في العذاب والنعيم، وأقرب ما يمثل العلماء لهذا بالنائم، فأنت تراه نائماً بينما هو في نومه منزعجاً، وقد يصرخ وأنت لا تشعر بما يجري له، وقد يرى شيئاً طيباً جميلاً يفرح به ويسر به، وأنت لا تشعر به. نكتفي بهذا المقدار، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا جميعاً من أهل الجنة، وينجينا من النار، وأن يكتب لنا في هذه الدنيا وفي الآخرة حسنة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

لن نصلح إلا بما صلح به السلف

لن نصلح إلا بما صلح به السلف سورة الحشر فيها كثير من الفوائد والدروس والعبر أهمها: بيان حقيقة اليهود، وبيان أسباب النصر التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بها. والتاريخ يتكرر ويعيد نفسه، وكما قيل: ما أشبه اليوم بالبارحة! فلن يعزنا الله إلا بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ولن يصلح الله آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

ضرورة الاهتداء بهدي السلف

ضرورة الاهتداء بهدي السلف إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أنزل الله تبارك وتعالى هذا الدين ليكون منهجاً للبشرية، وقام محمد صلى الله عليه وسلم -نبي هذه الأمة- بهذا الدين خير قيام، حكم به الحياة، وبلغه إلى العالمين، ومضت الفترة التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لتكون هي النموذج الذي يحتذي المسلمون حذوه، ويسعون دائماً لأن يصلوا بأنفسهم وبجماعتهم إلى المستوى الذي وصل إليه المسلمون في تلك الأيام. كانت الفترة الممتلئة بالأحداث والمشكلات والوقائع التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في أنفسهم ومع أعدائهم هي الفترة المثالية، وكانت دروساً كلها وينزل القرآن ليعالج مشكلاتها ووقائعها وأحداثها. ولم يزل المسلمون يعيشون عبر تاريخهم على تلك الفترة، يستلهمون منها العبرة، ويأخذون منها الأحكام، ويجددون في ضوئها إيمانهم، وينظرون إلى حياتهم من خلالها، ويواجهون أعداءهم كما كان الأوائل يواجهون أعداءهم في تلك الفترة. لقد علمنا الله تبارك وتعالى أن نتعظ من الأحداث التي تمر بمن قبلنا من المؤمنين، وذلك أن الواقعة كانت تقع في زمانه عليه الصلاة والسلام فينزل القرآن يبين ويفصل في أحداثها ووقائعها، فيعلم المسلمين ويبين لهم، ويفتح أبصارهم حتى يدركوا الحقائق كما يريدها الله تبارك وتعالى. وحري اليوم برجال هذه الأمة ومفكريها -والأحداث تكاد أن تعصف بهم- أن يرجعوا مرة أخرى إلى كتاب الله تبارك وتعالى، وإلى الأحداث التي وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فسيجدون من خلال تلك الوقائع، وكذا من خلال بيان القرآن الكريم ما يثبتهم ويفتح أبصارهم وبصائرهم.

غزوة بني النضير

غزوة بني النضير كنت أتلو قبيل الصلاة سورة الحشر، وفيها معان ودروس ينبغي للمسلمين أن يتبينوها في مثل هذه الأيام. لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود عندما قدم إلى المدينة، ومن جملة من عاهد بنو النضير، وهي طائفة من اليهود كانوا يسكنون شرق المدينة، وذلك العهد كان بعد الهجرة بأربع سنوات، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني النضير -وكان بينه وبينهم حلف- يستعينهم في دية رجلين قتلهما أحد المسلمين خطأ، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، سنعطيك ما أحببت، ونفعل الذي تريد، ثم ائتمروا فيما بينهم وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل خالياً على مثل حاله هذه أبداً، وهذه أحسن فرصة تستطيعون فيها أن تتخلصوا من هذا الرجل، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً إلى جدار، ومعه طائفة قليلة من أصحابه، فأراد أحد اليهود أن يصعد إلى السطح فيلقي حجراً فوق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون: إن ما حدث كان قضاءً وقدراً، وهو خطأ غير مقصود، ولكن رب العزة الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] أوحى إليه بما يدبرون ويخططون، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم من مجلسه كأنما يريد حاجة ولم يضمر لهم أنه علم بما يبيتون ويدبرون، ولم يبلغ أصحابه بما بلغه الله تبارك وتعالى به، فلما خرج من ديارهم، اشتد عائداً إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه خرجوا يبحثون عنه، فأخبرهم مخبر أنه رآه يشتد عائداً إلى المدينة، فعادوا فأخبرهم بما بيت بنو النضير، وانطلق المسلمون يحاصرون بني النضير، فأرسل إليهم المنافقون الضالون مع المشركين واليهود الذين يعيشون في وسط المسلمين أن اثبتوا، وطلبوا منهم أن يصبروا، وأنهم سينصرونهم ويحمونهم، ولكن الله تبارك وتعالى الذي يؤيد رسوله صلى الله عليه وسلم والذي أخبر أن رسوله منصور بالرعب مسيرة شهر، ألقى الرعب في قلوبهم، فاستسلموا وخرجوا من ديارهم، ونزلت الآيات تفصل وتوضح هذه الحادثة وهذه الواقعة التي وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبدأ السور بالتسبيح: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحشر:1]. وفي كثير من الوقائع العظيمة يسبح الله تبارك وتعالى فيها نفسه، دلالة على أهمية الواقعة، كما سبح نفسه بإسرائه برسوله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم بين كيف فعل بهذه الطائفة التي كانت مغرورة بنفسها، كانوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذه الواقعة: يا محمد! لا يغرك أن لقيت قوماً -أي: في بدر أو في أحد- ليس عندهم علم بالحروب، لو لقيتنا لعلمت أننا القوم، يقول رب العزة: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].

عبرة ودرس من غزوة بني النضير

عبرة ودرس من غزوة بني النضير عبرة ودرس ينبغي أن يعيه المسلمون في هذه الأيام. وهو: أن العالم كله يصور اليهود أنه لا يمكن أن يقهروا، ولا يمكن أن يغلبوا، فلقد ملكوا السلاح والطائرات والقنابل الذرية والمال والإعلام، ويضخم هذا، ويتكلم فيه رؤساء الدول، والصحف العالمية، بل تنقله إذاعاتنا وتلفزيوناتنا وصحافتنا وهي لا تدري ما تفعل، قائلين: اليهود لا يغلبون ولا يقهرون. هكذا يصور اليهود اليوم، انظر! ماذا يقول الله: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو الله، وليس المؤمنون، هو الله تبارك وتعالى، (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) هم أهل كتاب وهم كفار، (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي: أخرجهم من المدينة إلى بلاد المحشر إلى الشام، (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي: ما كان يظن المؤمنون أن هؤلاء سيخرجون من ديارهم، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) وذلك أن القوة كانت تتمثل في تلك الأيام في الرمح، والسيف، والنبال، وحصون تحيط بهم، فلا يستطيع الأعداء أن يخترقوها، فظنوا أن هذه الحصون التي تحيط بهم ستمنعهم من قوة المسلمين، فلا يستطيعون أن ينفذوا من خلالها، وأن يحتلوا أرضهم، ويصلوا إلى مقاتليهم. (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من أين؟ من قلوبهم، وذلك أن النصر جاء بإلقاء الرعب في القلوب، وإذا ألقي الرعب في قلوب المقاتلين فلن ينتفعوا بأنفسهم. قوله: (وَقَذَفَ) الفاعل هو رب العزة تبارك وتعالى، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) فكانت النتيجة ما شاهدتم وما رأيتم، وهي: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وذلك أنه كان من شروط الاتفاقية أن يحملوا من أثاثهم ومتاعهم ما تطيقه الجمال، إلا السلاح من السيوف والرماح والدروع، فكان الرجل منهم ينقض بيته؛ ليأخذ خشبة في الجدار، أو ليأخذ باب الدار، والمؤمنون خربوا بعض بيوتهم عندما كانت المعركة جارية بينهم وبين اليهود، فهذا معنى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)، قوله: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: انظروا نتيجة الذين يحادون الله ورسوله ماذا فعل الله بهم. فهذا درس عظيم، فمهما فعل البشر، ومهما أعدوا لحرب الله تبارك وتعالى، وحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الذين يسلكون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم الخاسرون؛ لأنهم يحاربون الله عز وجل، فإذا وضع المسلمون أنفسهم في صف الله، واعتمدوا على الله واستنصروا به تبارك وتعالى، وأعدوا ما يستطيعون من عدة؛ فإن الله يكون نصيرهم. وما ذكره الله عن هؤلاء اليهود بقوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} [الحشر:2] فهي حادثة واحدة، ومعارك الرسول صلى الله عليه وسلم كلها هكذا، يبذل المسلمون فيها ما يستطيعون من إمكانات، من سلاح وجهود، ورجال وتخطيط، ثم يستعينون بالله تبارك وتعالى فينزل عليهم النصر سبحانه. وفي معركة بدر فعل المسلمون ذلك فأمدهم الله بملائكة السماء، وفي معركة حنين عندما غشيهم المشركون وأحاطوا بهم، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب، ورمى بها وجوه الأعداء، فانهزموا، فقال رب العزة مسجلاً ذلك في كتابه: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. وعلى المسلمين أن يدركوا أن إمكانات البشر لا تساوي بالنسبة لقدرة الله وقوته شيئاً، لكن لابد من شرطين: الأول: أن يكون المسلمون مع الله، بأن يقفوا في الصف الذي يريده الله، وينصروا دينه، ويُعلوا كلمته، ولا يوالون أعداءه الله تبارك وتعالى، وأن لا يحكموا إلا دينه. والثاني: أن يأخذوا بأسباب القوة والمنعة، وأن يعملوا بمقدار ما يطيقون، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فلا يكلف الله تبارك وتعالى فوق الاستطاعة.

من ينصره الله فلا غالب له

من ينصره الله فلا غالب له وهناك درس عظيم ينبغي أن يعيه المسلمون، وهو 1أن الله تبارك وتعالى إذا شاء نصراً لأحد وعزاً له فإنه يقهر أعداءه، وقوة الأعداء مهما بلغت فلن تساوي شيئاً بالنسبة لقوة الله، ألا نقرأ في تاريخ المسلمين معارك بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة سنة أو بمائتين أو بخمسمائة، فنرى قدرة الله تتدخل لنصر المؤمنين. مثلاً في سنة 1450م فتحت القسطنطينية، واقرءوا كيفية فتح القسطنطينية تروا قدرة الله تبارك وتعالى، فنصر الله يتنزل على المسلمين الذين أعدوا كل ما يمكنهم لفتح المدينة، وكان هدفهم إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى، ذكر المؤرخون أن الصواعق كانت لا تكاد تنقطع في سماء القسطنطينية حتى وقع الرعب في قلوب الأعداء، أحداث يشاهدها الناس عندما يخلصوا دينهم لله تبارك وتعالى، درس لا يجوز للمسلمين أن ينسوه، والإعلام العالمي والدنيا كلها تضخم من حفنة من اليهود؛ لتلقي الرعب في قلوب المؤمنين، ولتثبت في قلوب الناس أن اليهود لا يقهرون، لا يغلبون، أنهم الآن يملكون من الطائرات كذا وكذا، ومن الدبابات كذا وكذا، وانظروا إلى حروب المسلمين مع اليهود، أحياناً تكون ست ساعات، وأحياناً ثلاثة أيام، وأحياناً يوم، ثم يفرون كالجرذان! هم يريدون أن يلقوا في نفوس المسلمين الرعب، وهذا جزء من التطبيع المرفوع شعاره في ديار المسلمين اليوم، حتى يذل المسلمون وتذل نفوسهم، ثم يستسلمون ويقولون: رضينا بيهود سادة وحكاماً وزعماء وخبراء ومستشارين ورجال فكر. الخلل أننا لم ننتسب إلى دين الله حقاً، ولم نعد العدة، وما جرى من حروب فلا نعترف بأنها حروب، بالله عليكم هذه الحروب التي تجري بين العراق وإيران لماذا تستمر سنوات وهي بين المسلمين،؟ وإذا كانت بيننا وبين اليهود لا تستمر إلا أياماً أو ساعاتٍ معدودة؟ هل لا يوجد معنا سلاح ولا رجال ولا قادة؟ لا، الأمر ليس كذلك فهذه الحرب في أفغانستان مستمرة منذ عام 1979م إلى الآن، والشعب الأفغاني شعب أعزل، ويحارب دولة كبرى، لماذا لا نستطيع أن نقف أمام اليهود؟! فهذا درس مهم ينبغي أن نعيه من هذه الآيات: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} [الحشر:2 - 3]-أي: في الأزل كتب عليهم أن يخرجوا من ديارهم- {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر:3] وذلك أن الله تبارك وتعالى كان قد أذن لرسوله أن يقتل رجالهم، وأن يسبي نساءهم وأطفالهم، ثم قال سبحانه: {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:3 - 4]، أي: إنما فعل الله ذلك بهم لأنهم شاقوا الله ورسوله، فالله ورسوله في شق، واليهود في شق، الله ورسوله في جانب، وهؤلاء يحاربون الله ورسوله من جانب آخر، ومن حارب الله فإن الله يغلبه. والمسلمون اليوم -وللأسف- كثير منهم شاقوا الله ورسوله، فسلط الله عليهم عباد الصليب، وسلط عليهم اليهود الشيوعيين؛ لأن المسلمين شاقوا الله ورسوله، وليسوا كلهم، لكن فئة منهم، وخاصة الفئة التي تتولى مقاليد الحكم في ديارنا، فقد شاقت الله ورسوله، ولم تحكم شرعه ودينه، ولم ترفع راية الجهاد، رضيت بقوانين الشرق والغرب، وبالولاء لهم، أتريدون أن ينزل الله علينا نصراً في مثل هذه الأحوال؟! أي: إذا جعل العباد أنفسهم في شق مقابل لله تبارك وتعالى، فلا يوالونه، ولا ينصرون دينه، ولا يعلون كلمته، ولا يحكمون كتابه؛ فهذه مشاقة له ولرسوله، وقد قال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:4].

فيء بني النضير

فيء بني النضير كان القرآن يبين أحكام الوقائع والأحداث عند وقوعها، ويفصل ما يحتاج إليه المسلمون، فبين الله مصرف الفيء، وهذه المسألة ينبغي أن يدركها المسلم ليعلم قيمته عند ربه، هذه الدنيا وما فيها من نعيم، وما فيها من خير، وما فيها من طعام وشراب وما فيها من طيبات؛ إنما خلقها الله للمؤمنين، لم يخلقها لكافر يقول: عيسى ابن الله، أو يعبد الصليب، أو يعبد الشمس والقمر، أو ينكر وجود الخالق، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]. والكفار يشاركوننا في هذه الطيبات وفي زينة الحياة ظلماً وعدواناً؛ ولذلك سيحاسبون على ذلك يوم القيامة، سيسأل رب العزة العباد يوم القيامة عن هذا النعيم الذي تمتعوا به، فإن كانوا آمنوا وشكروا وحمدوا ربهم تقبل الله منهم، وإلا فإنه يعذبهم بذلك، قال الله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]. ومن أعظم النعيم الذي يسأل عنه العباد يوم القيامة ما في قول رب العزة للرجل: ألم نصح لك بدنك؟! ألم أروك من الماء البارد؟! ماذا عملت لي؟! هذا أكبر النعيم الذي يسأل عنه، فالمؤمن يكون شاكراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)، فالطيبات والخيرات في الدنيا للمؤمنين وليست للكفار، والكفار يشاركوننا ظلماً وعدواناً، وسيحاسبهم على هذا رب العزة يوم القيامة. أما الطيبات في الآخرة فتكون خالصة للمؤمنين، ولا يشارك الكفار المؤمنين في الطيبات يوم القيامة، بل يقول الكفار الذين في النار للمؤمنين الذين في الجنة: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] فهذه محرمة على الكافرين، وفي الحديث (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)، أما الآخرة فهي خالصة للمؤمنين. إذا غنم المسلمون من الكفار أموالاً فإنها تكون فيئاً، ومعنى فاء -أي: رجع- لأصحابه الحقيقيين، فالغنائم التي يكسبها المسلمون من الكفار هي فيء تعود لأصحابها، وقد سماها القرآن فيئاً في قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر:6]، ثم بين الله حكمها بقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، فمصرف هذا المال جزء منه للرسول صلى الله عليه وسلم، وجزء منه لذي القربى وجزء لليتامى، وجزء للمساكين، وجزء لابن السبيل، ولا يعطى للأغنياء منه شيء، لماذا؟ أجاب تعالى بقوله: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، هذه قاعدة من قواعد التشريع العظيمة، نص الله تبارك وتعالى عليها في هذا الموضع، وهي: أن الله تبارك وتعالى لا يريد أن يبقى المال دولة بين فئة قليلة من البشر، وإنما يريد أن يتوزع حتى يسري في المجتمع كله، وحتى ينتفع به الناس كلهم؛ ولذلك منع الأغنياء من بعض مصادر المال، فالفيء لا يستحقه الأغنياء، ومن ذلك الجزية والخراج وكل ما يأتي من مال لم يقاتل عليه المسلمون، وإنما غنموه بغير قتال، فهذا لا يستحق الأغنياء منه شيئاً، إنما يستحقه الذين ذكرهم الله في هذه الآية. ولتحقيق هذه القاعدة فرض الله الزكاة، فتؤخذ من أغنيائهم -أي: المسلمين- وترد على فقرائهم، ومن أجل ذلك حرم الإسلام الربا؛ حتى لا تكثر أموال الأغنياء بسبب استغلال الفقراء، وحرم الاحتكار، وفرض الميراث، وهذه الثروات يجب أن تتوزع بين الناس ولا تبقى متكدسة: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)). ثم يقول رب العزة: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) أي: في تشريعك وفي نظم حياتكم، وفي القوانين التي ينبغي أن تحكم مجتمعكم. لا كما يفعل المسلمون اليوم، فيأخذون نظريات الغرب والشرق في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والأخلاق والتشريع، وأهملوا ما أمرهم الله به بقوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)! أي: خافوه؛ لأن ((اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) أي: إن أنتم لم تأخذوا ما آتاكم الله ولم تتركوا ما نهاكم عنه فإن الله تبارك وتعالى سيعاقبكم، وهذا واقع في الأمة هذه الأيام؛ لأنها أهملت ما أمر الله تبارك وتعالى به، وارتكبت ما نهى عنه، وهذا ليس من التقوى، فالتقي: هو الذي يخاف النار، والذي يعمل بأمر الله، ويجتنب نهيه الله تبارك وتعالى، فيعمل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه، كل هذا ابتغاء ثواب الله وخوفاً من عقابه، هذا هو التقي، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

فضل المهاجرين والأنصار

فضل المهاجرين والأنصار الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله ورسوله. عندما ذكر الله تبارك وتعالى الفيء الذي أفاءه على رسوله، وأن الذي يستحقه هم الفقراء والمحتاجون، بين الذين يستحقونه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعد عهده فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، فهذا صنف من الناس يستحقون الفيء، وهم المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، تركوها لينصروا الله ودينه ورسوله، فهؤلاء الصادقون يستحقون من الفيء. وكذلك الفقراء من الأنصار الذين ذكرهم بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:9]، فأحبوا المهاجرين، وفتحوا لهم ديارهم، وآثروهم بأموالهم وما عندهم. وكذلك الذين جاءوا من بعدهم أي: من بعد الأنصار والمهاجرين، وهم التابعون وتابعوهم، وكل من سار على دربهم إلى يوم الدين، وهم الذين عرفوا للمهاجرين والأنصار فضلهم، وأحبوهم ودعوا لهم بظهر الغيب، كما ذكرهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: من بعد المهاجرين والأنصار {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. فالمؤمنون يد واحدة، وهم كالجسد الواحد، مهاجروهم وأنصارهم ومن جاء من بعدهم، فيمثلوه أمة واحدة، وقد علمنا الله تبارك وتعالى ذلك حتى نعرف لأهل الفضل فضلهم، ونذكر مآثر من سبقنا، فالسلف الذين كانوا قبلنا نذكرهم بفضلهم، وندعو لهم ونستغفر لهم، فنعرف الفضل لأهله. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات. أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.

محاولات التدجين

محاولات التدجين إن ما نراه ونشاهده في واقعنا من إهانة للمسلمين، وتقتيل وتشريد ينزل بساحتهم، ما هو إلا لأنهم تركوا سبب عزتهم، وسرّ كرامتهم، وهو الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، وكم ترعب هذه الكلمة الكفار في كل زمان؛ لأنهم يعلمون ماذا تعني للمسلمين.

كثرة الابتلاء والمحن على هذه الأمة

كثرة الابتلاء والمحن على هذه الأمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إن الله تبارك وتعالى يري عباده في كثير من الأحيان آياته؛ لتكون دليلاً على قدرته، وليتعرف الناس على ربهم تبارك وتعالى، فالعباد في كثير من الأحيان يغفلون عن الله، فيذكرهم الله تبارك وتعالى به. ومن الآيات المحزنة في هذا العصر أن المسلمين قد ذلوا وهانوا، حتى ظن الظانون أنها لن تقوم للمسلمين قائمة، فلقد لعب بهم أعداؤهم، واستطاعوا أن يدجنوهم ويركعوهم، ثم يأتي يوم يظن الأعداء -الذين يتمثلون اليوم في دول كبرى تحكم العالم، وتملك من القوى ما لم يملكه غيرها- أن المسلمين أصبحوا صيداً سهلاً، وأن ديارهم أصبحت حلالاً، فإذا بهم يغزون جزءاً من بلاد المسلمين يظنونها متعة، فتتم العملية في يوم، أو في أسبوع، أو في شهر، ثم يعودون غانمين إلى ديارهم من غير أن يخسروا شيئاً من جيوشهم أو من عتادهم، إذ يكفي في ظنهم أن اسمهم دولة كبرى ودولة عظمى، وأن هذا وحده كفيل بأن يجعل الرعب يملأ القلوب، فيستسلم الذين غزيت ديارهم، ويسجدوا مطأطئين هاماتهم لأعدائهم. وكانت آية من آيات الله في هذا القرن، وهي أن قوماً ضعافاً لا يملكون من المال الكثير، ولا يملكون من القوة الكثير، ولكنهم أعلنوها مدوية أن حربهم إنما هي لله، وإنما هو جهاد في سبيل الله، غزت روسيا أفغانستان منذ سنوات، ومر على القضية زمن طويل فقام فئة من المسلمين ما كنا نسمع بهم، ولا نعيرهم التفاتاً قبل أن يقوموا، وما كنا نعرف مدنهم وقراهم وطبيعة بلادهم وحالهم، فقد كانوا نسياً منسياً من المسلمين، ثم تغزو روسيا هذا البلد، ويظنون أنهم سيضمونها إلى بلادهم، أو سيضمونها إلى ما ضموا من ديار المسلمين في الماضي، ففي روسيا عشرات الملايين من المسلمين يعيشون أذلاء لا يملكون من أمرهم شيئاً، بل إن تاريخ روسيا مع المسلمين تاريخ أسود.

عداوة روسيا للإسلام والمسلمين

عداوة روسيا للإسلام والمسلمين

الكفر ملة واحدة

الكفر ملة واحدة أنا هنا لست مع أمريكا، أمريكا كروسيا، فلا يغضب غاضب، ولا يقل قائل، فأمريكا كروسيا، كلتاهما تريدان بالمسلمين شراً، ولا تريدان بدار المسلمين خيراً نقول: هذا لا مرية فيه فالكفر ملة واحدة، وهناك عشرات الملايين من المسلمين تحت ظل الحكم الشيوعي، اقرءوا تاريخ المسلمين في روسيا، لقد كانت تزهق في ثلاثة أيام أو في خمسة أرواح مليون من المسلمين، إن هناك أحداثاً في روسيا معروفة للعالم كله، مصائب أنزلت فوق رءوس المسلمين، إن تاريخ هذه الدولة تاريخ مؤلم موجع. في بعض الأحيان يكون الضحايا مائة ألف، أو نصف مليون، أو مليوناً، أو بضعة ملايين في شهور، في الوقت الذي حافظت فيه روسيا على أرواح اليهود، فقد كان كل يهودي في روسيا تحت الحماية الكاملة، إلى أن أقيمت دولة اليهود في ديارنا، فأخذت تورد لنا من اليهود الذين حافظت على دمائهم، وأموالهم ومعتقداتهم، من الأطباء والعلماء، ورجال الحرب؛ حتى يسفكوا دماءنا كما سفك الروس دماء المسلمين. ولا يزال يتشدق الجهلاء من هذه الأمة بأن روسيا نصير لنا، وعون لنا، ومؤيدة لحقوق المسلمين، وتحافظ على حقوق الشعب الفلسطيني، وهي الدولة الثانية في العالم كله التي أعلنت اعترافها بإسرائيل يوم أن وجدت إسرائيل. ثم بعد ذلك -وللأسف- يوجد بين أبناء المسلمين من لا تزال على عينيه غشاوة، فنجده إلى اليوم يسبح بحمد هذه الدولة الكافرة الشيوعية التي تنكر وجود الخالق. إن أول مبدأ عندنا نحن المسلمين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأول مبدأ عندهم: لا إله والحياة مادة، ليس للكون خالق! والرسل دجالون كذابون! والكتب هذه مفتراة! والدين أفيون الشعوب! هذا دينها وتلك عقيدتها، ومن كان كذلك فلن تجد كعداوته عداوة، إلا أن يجتمع عداء اليهود مع عداء المشركين الملحدين، وقد يتساويان ولا ندري أيهما أشد، قد يكون مكر اليهود وعداء اليهود أشد، وقد يكون هؤلاء، ولكنهما كفرسي رهان في حربهم على الإسلام والتنكيل بأهله.

جرائم الروس في بلاد الأفغان وبسالة المجاهدين

جرائم الروس في بلاد الأفغان وبسالة المجاهدين قامت روسيا -هذه الدولة العظمى- تريد أن تأخذ جزءاً من ديار المسلمين، وبعشرات الألوف من رجالها؛ من جيوشها المدربة، ودباباتها، وطائرتها، عدد ضخم هائل، حتى كنا نسمع صدى المعارك ونشاهده، وكثير من أبناء المسلمين العرب وغيرهم ذهبوا إلى تلك الديار ودخلوا في معارك خاضها المجاهدون، وبعضهم ذهب لينقل للمسلمين صورة مما يجري، يشاهد ويصور ثم يكتب، يرسل للمسلمين أخبار ما يجري هناك، وكانت -كما قلت في البداية- آية من آيات الله تبارك وتعالى، وهي أن هذا الشعب الأعزل الذي ليس عنده من السلاح الكثير، وليس عنده من الطعام الكثير، تحول بفضل الله إلى أمة مجاهدة، تعرف لماذا تقاتل، وتعرف من تقاتل، وتعرف مع من هي، وتعرف أنها يجب أن تكون مع الله تبارك وتعالى، وأن تستنصر بالله عز وجل، وأن تجاهد أعداء الإسلام الذين يريدون اغتيال الإسلام واغتيال ديار المسلمين، وهم يعرفون أن الثمن ضخم هائل من الشهداء -رحمهم الله- والأسرى والجرحى والمشردين. لقد بلغت أعداد المشردين الذين لجئوا إلى الدول المجاورة لبلادهم أربعة ملايين! والنساء اللواتي ليس لهن عائل فقدن الأب والأخ والزوج لسن بالألوف بل العشرات الألوف! والأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم عشرات الألوف إن الثمن ضخم هائل، لقد هدمت المدن! وهدمت القرى! الزرع الذي يأكله البشر والحيوان أحرق في تلك الديار! ولكن هكذا تكون ضريبة الجهاد، كما قال المولى سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11].

فضل الجهاد في سبيل الله

فضل الجهاد في سبيل الله

كرامة الشهيد عند رب العالمين

كرامة الشهيد عند رب العالمين إن ضريبة الجهاد أن تبذل نفسك التي بين جنبيك؛ لكنك تعيش إن كنت مخلصاً صادقاً عند مليكٍ مقتدر، إن مت صادقاً مقاتلاً في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ليس ثوابك الجنة فقط، بل بمجرد أن تموت في سبيل الله تحيا عند الله كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. فإذا مات المسلم مقاتلاً في سبيل الله فهو لا يموت في الحقيقة، نحن نشاهده قد مات، ولكنّ هناك بعد الموت حياة أخرى: حياة كريمة، حياة عظيمة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في رياض الجنة، تأكل من ثمارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في سقف عرش الرحمن)، وعندما استشهد فوج من المجاهدين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من الأخيار الأطهار اطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال: عبادي! تريدون شيئاً أزيدكم؟ قالوا: وما نريد يا رب؟ حاورهم ربهم مرة بعد مرة، وفي المرة الأخيرة طلبوا أن يعيدهم الله إلى الحياة الدنيا مرة أخرى؛ ليقاتلوا أعداءه ويقتلوا في سبيله؛ لما شاهدوا بأعينهم في الجنة من عظيم الثواب للشهداء. وطلبوا أن يبلغ ربنا قومهم من خلفهم -أي: المسلمين- بحالهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170] فكانت بحق رسالة خالدة جاءت من الأموات حملها الوحي من عند الله تبارك وتعالى، يبلغنا الله تبارك وتعالى فيها بما أعده للشهداء.

لا عزة للأمة إلا بالجهاد في سبيل الله

لا عزة للأمة إلا بالجهاد في سبيل الله إن هذه الأمة لن تفنى إذا ما جاهدت وقذفت بلفذات أكبادها إلى أرض الوغى، فيذهب أقوام ويبقى أقوام، أقوام يذهبون إلى الجنة، وأقوام يعيشون أعزة، لا يعيشون تدوسهم النعال، ويركلون ويدفعون في ظهورهم، وتسحب نساؤهم وأطفالهم كما نشاهد في فلسطين وغيرها، تسحب وتهان وتذل في كل يوم أعراض المسلمين إنها مناظر تبكي. أليس خيراً لنا أن نقاتل، وأن نجاهد، وأن نكون أمة مقاتلة، وأن نكون رجالاً أعزاء بالجهاد في سبيل الله، لا نريد الرجال الأذلاء فقد سئمنا ذلاً وهواناً، تذهب أموالنا، وماذا نريد بالمال: نشبع به بطوننا ونكثر به شحومنا، وتكثر بيوتنا وسياراتنا، ونحن نعيش أذلة مهانين؟! لقد عرف الأفغان أن السبيل إلى العزة هو ما أمر الله تبارك وتعالى به أن يكونوا مقاتلين، وأن يكونوا مجاهدين، قال الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وإنما التهلكة في ترك الجهاد، إنما التهلكة في ألا تبذل في سبيل الله، تريد أن تحافظ على جسدك، وتريد أن تحافظ على مالك، فإذا بك تذل نفسك، وإذا بالعدو يقوى فيسيطر عليك، وإذا به يمتص خيراتك وأموالك غصباً عنك! منذ أن تحولت هذه الأمة إلى أمة مسالمة فقدت الكثير، لقد فقدت عزتها، وكرامتها، وطمأنينتها، وأصبحت لا تدري من أين تأتيها السهام، ومن أين يأتيها الموت، ومن أين يأتيها الهوان. لقد فقدت الأمة في زماننا أعز ما تملك، وهي العزة التي قال الله تبارك وتعالى فيها: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] أين عزة المؤمنين بالله عليكم في زماننا؟ هل المؤمنون في هذه الديار أعزة؟ هل هم في بلاد العرب أعزة؟ هل هم في بلاد المسلمين اليوم أعزة؟ كلا والله، المسلمون اليوم يركلون ويهانون ويداسون، الحرمات تنتهك في ديار المسلمين ولا نكير، أين العزة؟ إِن العزة عندما تصبح هذه الأمة أمة مقاتلة، عندما تعرف لماذا تقاتل ومن تقاتل؟ لا يقاتل فيها المسلم المسلم ظلماً وعدواناً، وإنما يقاتل المسلم الكافر، وعندما يرتفع بأسها من بينها ليتحول إلى أعدائها -عند ذلك تغنم الأمة غنماً كبيراً، وتعرف طريقها عند ذلك يصبح المسلمون إخوة عند ذلك يزول هذا الخبث الذي يعشش في قلوب المسلمين، وفي بيوت المسلمين، وفي ديار المسلمين، يتلاشى بإذن الله بالجهاد الذي يطهر القلوب والنفوس.

نماذج جهادية خالدة

نماذج جهادية خالدة عندما فتح صلاح الدين فلسطين إنما فتح قلوب المسلمين، وفتح ديار المسلمين التي لم يحتل أعداء الإسلام قلوب أهلها، لكن الشر كان قد احتلها. أما العداوة والبغضاء التي بين المسلمين فإنها تزول عند أن تكون الأمة أمة مقاتلة، أمة محاربة، قد وحدت صفوفها، ووحدت وجهتها، وعرِّفت بغايتها، فعرّفها صلاح الدين رحمه الله بنفسها، وأصبحت الأمة تحسن صناعة الموت؛ فهابها أعداؤها، ولم يستطع أن يقف في وجهها من جيوش أوروبا مجتمعة أحد. إن ملوك المسلمين لم يجتمعوا، ولو اجتمعوا بملوكهم ما انتصروا، إنما اجتمعت الأمة تحت راية قائد يحارب لله تبارك وتعالى، ويريد ما عند الله عز وجل، فهزم ملوك أوروبا مجتمعين. فقد اصطفت جيوش أوروبا كلها وأمامها ملوكها وقادتها وهزموا في حطين، وكان يوماً من أيام الله، وكان بداية النصر المؤزر الذي تلاحق بعد ذلك حتى طرد المسلمون آخر صليبي، فعرف صلاح الدين كيف يعيد للمسلمين عزتهم، وكيف يرفع رءوسهم بالإسلام، فتوجهوا إلى الله تبارك وتعالى خالق الوجود رب الكائنات الذي له ملك الأرض والسماوات، وله جنود السماوات والأرض، وعندما يتوجه المسلمون إليه مرة أخرى ويطلبون ما عنده فسنرى من هذه الأمة عجباً، ونصر الله لا محالة ملازم لأوليائه، وسنرى العزة والكرامة بعون الله تعالى. والذين نفقدهم لن يكونوا جيفاً، ولن يكونوا نسياً، بل سيكونون شهداء يختارهم الله ويصطفيهم، أترانا أيها المسلم لن نموت؟! أيها المسلم إن لم نمت في ميدان القتال فسنموت في غيره، فكل حي مصيره إلى الزوال، وكل حي مصيره إلى الفناء، لكن الذين يموتون في ميدان القتال شهداء هم الذين يعيشون أعزة كرماء، فلن تذلنا يهود، ولن يذلنا عباد البقر ولا عباد الصليب، ولن يذلنا أعداء الإسلام الشيوعيون الذين ركبوا ظهور عشرات الملايين من المسلمين في ديار الشيوعيين الذين يكفرون بالله تبارك وتعالى ويذلون المسلمين صباح مساء، حتى غيرت أسماؤهم الإسلامية، وغيرت شعائرهم، وأجبروهم على أن يكونوا كفاراً، أننتظر مصيراً كمصيرهم؟ لن يكون هذا كله إن غرس في قلوبنا حب الشهادة في سبيل الله؟!

آيات وعبر من جهاد الأفغان

آيات وعبر من جهاد الأفغان إن ما فعله المجاهدون الأفغان آية تقول للمسلمين: إن رب الإسلام، وإن رب هذا الدين، وإن رب محمد صلى الله عليه وسلم حي قوي قادر، وهو الذي قال للمسلمين: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] وهذا في بدء الرسالة. عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً قالها للمسلمين إلى أن تقوم القيامة: إنه ربهم وسيدهم، فإن استنصروا به نصرهم، فليس كذباً، وليست أخباراً ملفقة: إن المجاهدين الأفغان يرون من الآيات ما يثبت الله به قلوبهم، ويعيد للنفوس الثقة بهذا الدين. فترى أحياناً طلقات لا تؤثر في سيارة وفي أحيان أخرى تفجر دبابة، وترى مدفعية لا تكاد تسقط طائراً تسقط طائرات، ويأتي الرصاص على المجاهدين بل والأسلحة الفتاكة التي لم نسمع بها فيذهب الله أثرها عنهم. أترى الله تبارك وتعالى خاذلهم؟! هؤلاء قوم فعلوا ما يستطيعونه، ألا يستطيع رب العزة أن يرد عنهم كيد أعدائهم؟! بلى والله! إن الأسرى من الروس في بعض الأحيان يقولون لهم: أين الخيل التي كنتم تركبونها؟ فقد كانت تقاتلنا! إن الله ينزل ملائكة يقاتلون، ولم يقل الله: إن الملائكة نصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمجاهدين معه فقط، بل ينزل الله جنده على المسلمين أينما كانوا بشرط أن يصدقوا الله تبارك وتعالى، ولا أقول: إنهم قد انتصروا، فالنصر بيد الله، لكن ثباتهم هذه المدة الطويلة لا شك أنه نوع من أنواع النصر، وآية من آيات الله تبارك وتعالى، فعلى المسلمين أن يفكروا فيها، وعلى الذين يريدون تحرير فلسطين أن يفكروا فيها، وعلى الذين يريدون أن يحرروا ديار الإسلام أن يفكروا بأن هناك طريقاً آخر لاسترجاع العزة والكرامة، وهو غير طريق التوجه إلى الشرق والغرب، وغير طريق المناداة بمبادئ غير مبدأ الإسلام، فهناك طريق الإسلام، طريق الله، وطريق الجنة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب.

من جاهد فإنما يجاهد لنفسه

من جاهد فإنما يجاهد لنفسه الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد عبد الله ورسوله، وبعد: فأذكر منذ سنوات أنه مر أحد قادة المجاهدين إلى الكويت وكنت أخطب في بعض المساجد، فظننت أنه يريد أن يجمع شيئاً من المال يعين به المجاهدين، فتكلمت في هذا المعنى، فقال -وهو يحسن العربية-: أنا لم آتِكم لأتسول منكم، ولا أريد أن أجمع مالاً، ومن كان منكم يريد أن يدفع شيئاً من المال للمجاهدين فهناك لجان كثيرة تجمع للمجاهدين، ولكن الذي أريد أن أقوله لكم: إن ما تدفعونه فإنما تدفعونه لأنفسكم، وأنتم محتاجون إلى المال الذي تدفعونه، ولسنا نحن الذين نحتاجه. ومعنى كلامه صحيح؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت:6] فالله غني عنا، وغني عن جهادنا، وغني عن أموالنا، فينبغي للإخوة الذين يعينون إخوانهم أن يستشعروا هذا المعنى، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261]. فأنت إنما تزرع لتحصد، فأنت بحاجة إلى ما تزرعه، وعندما تعطي لتستثمر أموالك عند الله تبارك وتعالى فأنت بحاجة إلى ذلك، وأنت بحاجة إلى أن تنفقها في سبيل الله؛ ليكون لك ذلك ذخراً عند الله تبارك وتعالى. وبعض اللجان يقوم عليها رجال أخيار، وهي تجمع للمجاهدين لتؤوي نساءهم وأطفالهم ومرضاهم، والذين أصيبوا في المعارك مع أعداء الإسلام يحتاجون إلى عناية وأدوية، ويحتاجون إلى أطباء، فهم يحتاجون إلى شيء تقدمه في هذا المجال، سواء كان ما تقدمه لنفسك قليلاً أم كثيراً، ودرهم سبق ألف درهم، ودينار سبق ألف دينار، وقد يعطي الإنسان ديناراً فينال من الأجر ما لا يناله من ينفق ألفاً، فقد يكون هناك غني عنده ملايين، وأنت ليس عندك مئات، أو ليس عندك ألوف، فهذه القلة إذا قارنها الإخلاص عظم الثواب والأجر عند الله تبارك وتعالى؛ لأن الله تبارك وتعالى يجزي على الذرة. إن هذا الإنفاق في سبيل الله جهاد، فالجهاد عندنا جهادان: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، فإذا لم يقدر الله لك أن تكون مجاهداً بنفسك فلا أقل من أن تجاهد بشيء من مالك، وستجده عند الله تبارك وتعالى عندما يبعث العباد ويقفون لرب العالمين، فتجد ما قدمت بين يديك يقيك لفح النار، وغضب الجبار، وقد يستنزل رحمة الله تبارك وتعالى عليك، وقد يقيك من أهوال يوم القيامة. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريبٌ مجيبٌ سميع الدعوات.

ذكرى نزول القرآن

ذكرى نزول القرآن شهر رمضان المبارك يذكرنا بأعظم نعمة، وهي نزول هذا القرآن الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وصنع من هذه الأمة أجيالاً تعيش في الأرض وأرواحهم في السماء. وإن هذا الشهر محطة للمراجعة والمحاسبة وتجديد العلاقة بين الإنسان وربه.

القرآن سبب العزة والرفعة

القرآن سبب العزة والرفعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إن في عمر البشر، وفي عمر الأفراد، وفي حياة الأمم عبر تاريخها مناسبات غالية على النفوس، يحاول البشر أن يحيوا هذه المناسبات بأشكال مختلفة تعبيراً عن فرحتهم بهذه المناسبة. ومن هذه المناسبات: ذكرى انتصار في معركة، أو ذكرى قائد فذ في تاريخ الأمة، أو ذكرى حادثة معينة، وكل أمة تحتفل في أعيادها بما يناسب توجهاتها. وإن في تاريخ هذه الأمة ذكريات لها أثر كبير، ومناسبات عظيمة من أعظمها إن لم يكن أعظمها تنزل هذا الكتاب الذي صنع هذه الأمة، فصحح عقيدتها، وزكى فكرها، وأصلح سلوكها، وأقام علاقاتها. إن تنزل هذا الكتاب من أعظم الأحداث، لا أقول في تاريخ الأمة فحسب، بل في تاريخ البشرية أجمع، فرب الكائنات ينزل كتاباً هو كلامه، على رجل من البشر يختاره، لكي يصنع هذه الأمة، بل ليكون رسالة للبشرية جميعاً؛ ولذلك حمد الله تبارك وتعالى نفسه، وأثنى على نفسه؛ لأنه أنزل هذا الكتاب فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، إنها نعمة تستحق أن يحمد الله تبارك وتعالى عليها. وأخبر أن هذا الكتاب هو عز هذه الأمة فقال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] أي: فيه عزتكم. أترون أن هذه الأمة التي كانت تعيش في مجاهل الصحراء الشاسعة في الجزيرة العربية، كان سيكون لها ذكر لو لم ينزل عليها هذا الكتاب؟ هل رعاة الإبل الذين كانوا يتصارعون على لقمة العيش يخرج منهم القواد الذين دوخوا العالم، ورفعوا هذا الكتاب عالياً لتهتدي به البشرية؟ ((لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)) أي: فيه عزتكم ورفعتكم في الدنيا وفي الآخرة. من تلك الأمة المشتتة أخرجت خير أمة أخرجت للناس، تحكم الأرض بميزان السماء، وتقيم من البشر أنموذجاً ينافس ملائكة السماء، وإن الله تبارك وتعالى في كثير من المواقف كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم يباهي ملائكة السماء بأفراد من البشر.

شهر التغيير

شهر التغيير لقد جعل الله تبارك وتعالى الشهر الذي أنزل فيه هذا الكتاب خير الشهور، والليلة التي أنزل فيها خير الليالي. قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فكان شهر رمضان خير الشهور؛ لأن الله أنزل فيه كتابه، بل كما في الحديث أن جميع الكتب السماوية أنزلت في هذا الشهر: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن. وكانت الليلة التي أنزل فيها القرآن خير الليالي: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3]. إن هذا الشهر الكريم يذكر المسلمين بعزهم الذي فقدوه، ومكانتهم التي هبطوا عنها، وبدورهم الذي تنكبوا عنه، فمناسبة هذا الشهر الكريم تأتيهم لتقول لهم: اغسلوا ذنوبكم، اغسلوا آثامكم، ارتبطوا بكتابكم، ارتفعوا إلى المستوى الذي يريده ربكم. هذا الشهر لا نفرح فيه كما يفرح البشر بأعيادهم: يطلقون الصواريخ، ويلعبون، ويرقصون، ويهزجون، إنه نمط آخر من الأفراح، إنها أفراح الروح يلجأ فيها المسلمون إلى ربهم، ويهذبون هذه النفوس التي رانت عليها أقذار الذنوب، وغشتها المعاصي، يتبتلون إلى الله بالصيام، ويتبتلون إلى الله بالقيام، ويتبتلون إلى الله بقراءة القرآن، ويصلون ما انقطع بينهم وبين الله من حبال، ويرتفعون مرة أخرى. يأتيهم هذا الشهر ليذكرهم بكل شيء، يذكرهم أنهم هم الأمة التي أنقذها هذا الكتاب، ليذكرهم أن منهج هذا الكتاب غير منهج روسيا وأمريكا وهيئة الأمم ومجلس الأمن، بل فيه أحكام إلهية، وتشريعات ربانية، غير ما جاء به علماء الشرق وعلماء الغرب والفلاسفة من قوانين ونظريات فاسدة كالنظريات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، التي هي كموج البحر تغشى عقول المسلمين وتغطي قلوبهم. هذا كتاب من نمط فريد، ضيعه المسلمون وجعلوه وراء ظهورهم، يأتي هذا الشهر ليقول: ابتعدتم كثيراً، نسيتم الله فأنساكم أنفسكم، نسيتم الله فضاعت دياركم، وانتهب الأعداء بلادكم وأرضكم وأموالكم، يا مسلمون! هذا كتاب ربكم أنزل في هذا الشهر فاستمدوا منه الهداية، وعودوا مرة أخرى، اغسلوا هذه الذنوب التي وقفت حوائل وحجباً وحواجز بينكم وبين الله تبارك وتعالى. وفي هذا الشهر الكريم يضاعف الله أجر العبادة وثوابها وخيرها وعطاءها، وتغل فيه أيدي الذين يبعثون الشر من الشياطين المردة، فيتدفق النور والضياء إلى قلوب البشر لعلهم يهتدون، وهذه فرصة قد لا ندركها مرة أخرى، كم من رجال كانوا معنا في رمضان الفائت، ثم اليوم قد طواهم الردى وهم تحت التراب، ولعل بعضنا قد لا يدرك هذا الشهر في سنة أخرى، فعلى المسلم أن ينتهز هذه الفرصة. ومن هنا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بالخسران على من أدرك رمضان ثم خرج رمضان ولم يغفر له فقال: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه)، وأحد الثلاثة الذين رغمت أنوفهم (من أدرك رمضان ولم يغفر له) وقال صلى الله عليه وسلم: (رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا ما اجتنبت الكبائر)، فهو كفارة لما بينهما، أجر عظيم تحدثت عنه النصوص، وثواب جزيل قد لا ندركه مرة أخرى. فليعزم المسلم على أن ينتهز هذه الفرصة فيستغل أيام هذا الشهر ولياليه وساعاته وأوقاته في التقرب إلى الله تبارك وتعالى، في أن يحط عن ظهره الذنوب والآثام والخطايا التي أثقلت ظهره، ويتخفف منها كي يجوز عقبات الطريق وهو يغادر الدنيا إلى الآخرة، وهو يبعث من قبره، وهو يقف بين يدي ربه، وهو يجوز الصراط، ليتفكك من ذنوبه وآثامه، ويكثر من حسناته ويقلل من سيئاته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم إنه هو الغفور الرحيم.

شهر الرحمة

شهر الرحمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. إن هذا الشهر ينبغي أن يكون انطلاقة لإصلاح النفس الإنسانية وتهذيبها، وتدريبها على فعل الخير، وإحياء شعور المسلمين بأنهم كالجسد الواحد، فينظر إلى مآسي المسلمين وأحوالهم، وينظر إلى هذا الغثاء الذي يعشش هنا وهناك في نفوس المسلمين؛ فيوطن النفس على أن يكون دائماً صوت إصلاح وصوت هداية وشعلة خير. لا تدري ما الذي يرجح في ميزان حسناتك يوم القيامة؟ قد يرجح بها تمرة، أو شق تمرة، وقد يرجح بها درهم، أو فعل خير، أو كلمة تقولها، أو دعوة تدعو بها، أو هداية لضال، أو سد جوعة لجائع، وحث الناس على أن يتحاضوا على الخير، يحض بعضهم بعضاً، ويتواصوا به، فيحض بعضهم بعضاً على إطعام المسكين والفقير، ويكونوا إخوة فيما بينهم يمثلون جسداً واحداً وبناءً واحداً متلاحماً، وهذه صفة المسلمين إذا كانت فيهم حياة، وإذا كان فيهم بقية خير، وبقية إيمان، واعتزاز بهذا الدين، وتلبية لنداء القرآن، فلتكونوا كذلك أمة واحدة، قد فرقتنا الرئاسات، والزعامات، والسياسة، فلتبق شعوب المسلمين تشعر فيما بينها بالصلة والأخوة، والمودة، والمحبة. والله تبارك وتعالى يثيب بالنيات، ويثيب على ما في القلوب، فإذا طبق العباد دينهم، وعرفوا طريقهم، وقصدوا الخير دائماً؛ فالله معهم، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم

المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم إن المرأة اليوم تحتل موقع الصدارة في اهتمامات الباحثين والسياسيين والإعلاميين وغيرهم، وما هذا إلا بسبب القناعة المتأصلة في النفوس بأهمية المرأة في المجتمع، ويشترك في هذا التصور دعاة الخير والفضيلة الذين يحرصون على صيانة المرأة والحفاظ على المجتمعات، ودعاة الشر والرذيلة الذين يريدون للمرأة أن تكون معول الهدم الذي يقوضون به بنيان المجتمع

مبشرات العودة إلى الله في المجتمعات الإسلامية

مبشرات العودة إلى الله في المجتمعات الإسلامية إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في هذا الجمع، وأن يجعل هذه الخطوات في سبيله سبحانه وتعالى، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا ويغفر لنا سيئاتنا وذنوبنا، وأحب أن أنبه إلى قول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). أيتها الأخوات المؤمنات! حديثنا في هذا اليوم عن المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدمية. نحمد الله سبحانه وتعالى فإن ديار الإسلام في هذه الأيام تشهد عودةً إلى الإسلام الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على خاتم رسله وأنبيائه محمد صلوات الله وسلامه عليه، هذه العودة لم تقتصر بفضل الله وبرحمته على الطبقة الفقيرة العاملة، أو الطبقة الدنيا من الأمة، بل شملت الشباب المثقفين، والأساتذة والمعلمين في المدارس وفي الجامعات، والأطباء والمهندسين، ورجالات الفكر والصحافة، فكثير منهم بدءوا يتجهون إلى الإسلام، وأصبحنا نرى في قاعات العلم في المعاهد والجامعات شباباً يدرسون الهندسة والطب والذرة وقد اتجهوا إلى الإسلام، وفتيات مسلمات اتجهن إلى الإسلام بصدق وإخلاص، لا كما يتجه غيرهن للرقص والفسق والفجور، إنما لطلب العلم وأداء واجب الله سبحانه وتعالى في الأرض الذي كلف به المرأة كما كلف به الرجل. وفي مصر عندما سُمِحَ للشباب المسلم في الجامعات أن يخوضوا الانتخابات، فقد حصلت الجمعيات الإسلامية على نصيب الأسد، ولم يستطع أحد أن ينافسها في ذلك المجال. وفي السودان عندما كانت انتخابات نزيهة استطاع الشباب المسلم أن يفوز بجميع المقاعد بدون استثناء. وفي الباكستان فاز الشباب المسلم بأربعة أخماس مقاعد اتحادات الطلبة هناك، تلك الدولة التي تعدادها ثمانين مليون مسلم، ففي كل مكان أصبحنا نرى الشباب المسلم والفتيات المسلمات في مجالات الخير والعطاء والنماء، لا نرى فيها فساداً ولا إفساداً وكان ذلك خيراً كبيراً، فأن يعتز الشباب بإسلامهم وتعتز المرأة بإسلامها ذلك خير كبير، فأصبحت الفتاة المسلمة مثل مريم بنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وعائشة بنت أبي بكر، ليست مثل السفيهات من بنات هذه الأمة اللائي يقتدين بالممثلات في باريس وغيرها. فهذه عودة إلى الإسلام، وعودة إلى الشمس المشرقة، وإلى نور الله الذي أنزله على خاتم رسله وأنبيائه، فهذه عودة طيبة مباركة. أما الذين يغيظهم أن يروا نور الشمس أن يشرق، ونور الحق أن يتلألأ، فإنهم لا يرضون بمثل هذه الصحوة.

مفهوم الحرية والتقدم عند دعاة الاختلاط والسفور

مفهوم الحرية والتقدم عند دعاة الاختلاط والسفور نحن نعلم أن اليهود هم الذين يسيطرون على وسائل الإعلام في الدول الأوروبية، فأخذوا يقولون لشعوبهم التائهة: أدركوا العالم الإسلامي قبل أن يفلت من أيديكم، فالشباب الذين تربوا على أيديكم، والفتيات اللواتي اتجهن إلى واشنطن وباريس، بدءوا يرجعون إلى مكة، ويحنون إلى المدينة ويذكرون الصحابة والصحابيات. وهناك انحراف في المسيرة في العالم الإسلامي، فتركيا تسير على الحضارة الغربية، ومصر تتململ من هذا السيل الذي أغرقت به شعبها وأمتها، أحاديث كثيرة نشرت في صحافتنا العربية نقلاً عن التلفزيون البريطاني والأمريكي والفرنسي أنهم يتآمرون فيما بينهم على الدول العربية، فبدأ علماؤهم يخططون مرة أخرى كي يفسدوا هذه العودة إلى الإسلام. أما زعماء اليهود والنصارى والشيوعيين الذين رضعوا من لبان الكفر، وتسممت قلوبهم وعقولهم، فقد صاحوا وضجوا من عودة المسلمين إلى الإسلام. قرأنا ذلك وسمعنا في صحافة وتلفزيون الكويت، وقرأنا في صحافة مصر وغيرها من صحافة الدول العربية، أن التقدميين والمتحضرين المتمدنين يعيبون علينا ويقولون: هل يعقل أن شباباً في الجامعات وفي المعاهد العليا وأساتذة الذرة والاقتصاد ورجال دولة ورجال قانون لهم لحى؟ وهل يعقل أن فتيات يملأن الشوارع يلتزمن بدينهن فيتحجبن؟ فهذا عودة إلى الجاهلية الأولى والقرون الوسطى. فارحموا أنفسكم أيها الشباب! وارحمن أنفسكن أيتها النساء، فحرام عليكن أن تضعين شبابكن في الالتزام، والبعد عن مباهج الحياة وفتنها، فهذا كلام الذين يسمون أنفسهم بالتقدميين، ويصفوننا بالرجعيين المتأخرين المتحجرين، وأخذوا يعللون ظاهرة من مظاهر التدين، وهي ليست ظاهرة بل هي حكم شرعي، وهي الالتزام بالحجاب الإسلامي، فيقولون: إن المرأة تتحجب لتخفي عيوبها عن زوجها الذي يريدها، فهؤلاء أقوام رأوا في أوروبا الحضارة والمدنية والرقي، فظنوا أن المرأة كانت مستعبدة لا تملك من أمرها شيئاً، فجاءت الحضارة والمدنية الحديثة وأعطت للمرأة شيئاً من حقها، ولكنهم لم يقفوا عند مرحلة الاعتدال، فظنوا أن من الحرية أن تختلط المرأة بالرجل والرجل بالمرأة، ومن العدالة أن تتمرد المرأة على تعاليم السماء، ومن المساواة أن تعمل المرأة عمل الرجل والرجل عمل المرأة، فكانوا بين إفراط وتفريط. وانتصر أصحاب الحضارة الأوروبية علينا في مجال القتال والحرب واحتلوا ديارنا ودرّسوا أبناءنا، وعلمونا علمهم، وأفهمونا ثقافتهم، وتربى على أيديهم رجال ونساء، وقالوا: الحضارة ما عليها أوروبا بحسناتها وبسيئاتها، فإذا شئنا أن نكون متحضرين ومتمدنين فلنعش حياتهم، ولنكن كرجالهم ونسائهم.

أقسام المقتدين بحضارة الغرب من أبناء المسلمين

أقسام المقتدين بحضارة الغرب من أبناء المسلمين وهؤلاء المتحضرون المتمدنون في ديارنا فريقان: فريق يظن أن هذا هو الحق ولا حق غيره، وأن ما أنزله خالق السماء والأرض إنما هو جمود وتأخر ورجعية وهمجية، ويظنون أن التقدم والرقي عند كارتر وأشباهه، أما محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفقه في الحضارة شيئاً، وأبو بكر وعمر جاهلان، وهكذا ظنوا المدنية، وما هم إلا جهلاء. وفريق آخر ليس جاهلاً بالإسلام وحضارة الإسلام وما قدمه الإسلام من مدنية ومجد ولكنه ماكر وعدو وحاقد، يريد أن يفهم المسلمين غير الحقيقة، وأن يغرس الشبهات والشكوك في نفوس المسلمين. فنحن نريد أن نكشف الشبهات، والدجل الذي يحيط بهذه الحقائق، وأن نوضح للناس الحق. وبعد أن أنعم الله علينا بنعمة البصر أيكره أحد منا الشمس؟ لا والله، فلو كنا نعيش في الظلام لكنا نخشى نور الشمس، أما وقد أعطانا الله بصراً، ورأينا الشمس واستمتعنا بنورها فإننا لا نخشى الشمس أبداً. وكذلك الذين نعموا بنور الإسلام وبنعمة الإسلام، فإن حب الإسلام سيدخل في سويداء قلوبهم، وسيتغلغل في أعماق نفوسهم، فلو وضع السيف على رقبة المسلم فلن يرجع عن دينه؛ لأنه يحبه حباً يملك عليه نفسه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان الرجل ممن قبلكم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه، ويقال له: ارجع عن دينك فلا يرجع عن دينه حتى يسقط شقاه، وكان يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه فلا يرجع عن دينه)، وحفرت الأحافير وخدت الأخاديد لأصحاب الأخدود وجيء بهم جماعات وفرادى، وقيل لهم: ارجعوا عن دينكم وإلا نلقيكم في النار فلا يرجعون، وتأتي امرأة بوليد لها فترتجف من النار فينطق الله الوليد ويقول: يا أماه إنك على الحق فلا تخافي.

أثر الإيمان في حياة المؤمن والمؤمنة

أثر الإيمان في حياة المؤمن والمؤمنة إن للإيمان حلاوة يجدها المؤمنون في صدورهم وفي نفوسهم، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان فإنه يقدم روحه وماله ونفسه ولا يتراجع عن دينه وإسلامه وعقيدته، وما أخبار المجاهدين والمجاهدات في صدر الإسلام، وفي التاريخ الإسلامي، وفي أيامنا هذه منا ببعيد، فالأبرار الأطهار استشهدوا في ميدان القتال، وتحت سياط التعذيب في مكة. إن سمية هي أول شهيدة في الإسلام، وفي العصر الحاضر ذاقت الحاجة زينب الغزالي العذاب ألواناً وأشكالاً في سجون الطغاة، وصبرت كما لم يصبر الرجال، ومن أراد أن يشهد نموذجاً من جهاد المرأة في العصر الحديث فليقرأ كتاب: أيام من حياتي، للحاجة زينب الغزالي؛ ليرى ماذا يفعل الإيمان إذا ما دخل في النفوس. نحن نريد أن نقدم الإسلام للذين لا يعرفون الإسلام، والذين يظنون أن الحضارة والتقدم والرقي في هوليود وفي واشنطن وفي باريس. فإذا عرف الناس الإسلام لم يتركوه ولم يحيدوا عنه، وعند ذلك ستسقط الأقنعة عن الذين يتباكون على الإسلام، والذين يزيفون الحقائق. فهؤلاء الذين يزعمون التقدم والحضارة والرقي نقول لهم: رويدكم، رويدكم فقد جاوزتم حدكم وخرجتم عن طوركم، من أنتم حتى تطاولوا بأعناقكم السماء؟ ومن أنتم حتى تنازعوا الله في حكمه؟ أنتم عبيد مقهورون مربوبون، أنتم بشر مخلوقون من ماء مهين، وأصلكم قبضة من طين، إن جهلكم أكثر من علمكم، وخطأكم أكثر من صوابكم، أنتم تقولون قولاً والله يقول قولاً، فقولكم مخالف لقول الله، وقول الله هو الحق، ونحن مع الحق حيث دار، نحن مع العليم الخبير الحكيم، الذي لا يكذب في قوله ولا يجور في حكمه.

منهج دعاة الشر وإشاعة الرذيلة في الترويج لباطلهم

منهج دعاة الشر وإشاعة الرذيلة في الترويج لباطلهم إن الله سبحانه وتعالى بين للرجل والمرأة حضارة المجتمع الإنساني، ونحن مع هذا الرقي الرباني والحضارة الإلهية لا مع الحضارة البشرية النتنة، فهؤلاء يشوهون لنا الحقيقة، ويزيفون التاريخ والواقع، وأنا أقول: إن أستاذهم في ذلك هو إبليس اللعين، الذي شوه الحقيقة لأبينا آدم وأمنا حواء، فقد خلق الله آدم وخلق منه زوجه وأسكنهما الجنة، وقال لهما: كلا من الجنة، ولكما فيها ألا تجوعا ولا تعريا ولا تظمأا ولا تضحيا، فكلا من كل شيء وتمتعا بكل شيء إلا شجرة واحدة إن أكلتما منها أخرجتكما من الجنة، وهذا عدوكما إبليس يريد أن يخرجكما من الجنة، وليس له سبيل عليكما إلا إذا أطعتماه فأكلتما من الشجرة. فإبليس أغواهما وحسن لهما أكل الشجرة المحرومة، ولم يقل لهما: كلا من الشجرة ليغضب الله عليكما ويطردكما من رحمته، وإنما قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، أي: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا خشية أن تكونا ملكين، ومن مصلحتكما أن تأكلا منها فإذا أكلتما منها صرتما ملكين أو كنتما من الخالدين، وأقسم لهما بالله أنه ناصح أمين، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:21 - 22]، فأكلا من الشجرة فكانت النتيجة أنهما عصيا ربهما، فتساقط عنهما لباسهما {َفبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]. فأخرجهما الله من الجنة جزاء عصيانهما، فإبليس شوه الحقيقة، وجعل الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ وأدعياء التقدمية والحضارة والمدنية اليوم يفعلون فعل إبليس، فيقولون للمتدينين والمتدينات: لماذا تتحجرون وترجعون إلى العهود البائدة المنصرمة، وتضغطون على حريتكم، وتمتنعون من الانطلاق والتمتع بالحياة والبهجة وو؟ وكل هذا من وساوس الشيطان، فالإسلام لا يحجر علينا ولا يحرم علينا مباهج الحياة وطيباتها، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، والإسلام يريد للمرأة أن تكون عبدة لله لا للرجل، والرجل عبداً لله لا للمرأة، ويريد أن يكون الرجل والمرأة جناحين في هذه الحياة، يعمر بهما الكون وفق منهج الله، ويريد أن يتسامى بعواطفهما وبمشاعرهما وعقائدهما، لا ليدورا حول نفسيهما كالحمار يدور برحاه. فالإسلام إنما يرينا عبيداً لخالق الكون، لا عبيداً للقمة طعام وقطعة لباس وشهوة يسعى الإنسان لأجلها ليله ونهاره، فنحن نتمتع بالطعام والشراب، والله سبحانه وتعالى أباح لنا ما جبلنا عليه من شهوات، ولكن ضمن منهج وحدود.

دعوات في الغرب إلى العودة للفطرة السوية

دعوات في الغرب إلى العودة للفطرة السوية إن دعاة الحضارة والمدنية اليوم متأخرون جداً، فأوروبا التي يزعمون أنها أم الحضارة والرقي تصرخ اليوم، فالمرأة هناك التي يسمونها متحضرة تبكي صارخة مولولة لأنها فقدت سعادتها وأمومتها وبيتها، وهذا الكلام نقل في الصحف والمجلات من مصادر علمية موثقة. وهنالك مشروع لقانون وزع على الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، في عام 1975م فيه حق وباطل، لكن ما جاء فيه من الحق يعتبر انعطافاً خطيراً في الفكر العالمي الحديث، فهو ينظم قضايا المرأة، وكما نعلم أنه في عام 1975م عقد مؤتمر المرأة العالمية، والذي انعقد في الأمم المتحدة، فقالوا فيه: إن أي مشروع لوضع القوانين في بلاد العالم ينظم قضايا المرأة ويحدد علاقتها بالرجل يجب أن يراعي الواجب الأساسي للمرأة في الحياة الاجتماعية، وهو الأمومة وتربية الأطفال وتهيئة الجو لإنشاء البيت السعيد. وهذه قاضية سويدية تسمى برجيت أور كلفتها الأمم المتحدة بزيارة البلاد العربية لدراسة مشاكل المرأة في العالم العربي وأوضاعها الاجتماعية والقانونية، فتحدثت هذه القاضية الباحثة عن المأساة التي خلفتها أوضاع الحرية المزعومة في السويد أرقى بلاد الحضارة الغربية، والدول الاسكندنافية هي أرقى دول العالم ومنها السويد، ورغم ذلك فإن الإحصائيات أثبتت ازدياد نسبة الانتحار سنة بعد سنة في السويد، وقد قدمت هذه الباحثة تقريراً لهيئة الأمم المتحدة بينت فيه زيادة نسبة الانتحار بين النساء. ثم تقول الباحثة بعد ذلك: إن المرأة السويدية اكتشفت فجأة أنها اشترت وهماً هائلاً - وهو الحرية التي زعم الرجال أنهم سيعطونها للمرأة- بثمن مفزع وهو سعادتها الحقيقة، فهذه أخصائية في حقوق المرأة في سن الخامسة والسبعين تحن إلى حياة الاستقرار المتمثلة في الحياة العائلية المتوازنة جنسياً وعاطفياً ونفسياً، فهي تريد أن تتنازل عن معظم حريتها في سبيل كل سعادتها. تقول الباحثة أيضاً: والنتيجة على مستوى الأمة مذهلة حقاً، ففي تقرير رسمي خطير لوزارة الشئون الاجتماعية السويدية أعلنت الدولة أن 25% من السكان يصابون بأمراض عصبية ونفسية، وأن 30% من مجموع المصروفات الطبية في السويد تنفق في علاج الأمراض العصبية والنفسية، وأن 40% من مجموع الأشخاص الذين يحالون إلى التقاعد قبل سن المعاش بسبب العجز التام عن العمل هم من المرضى المصابين عقلياً، مع العلم أن الأمراض الجنسية لا تدخل في هذه الإحصائيات.

المرأة في المجتمعات الغربية سلعة تجارية

المرأة في المجتمعات الغربية سلعة تجارية إن المرأة اليوم في الغرب تعمل وتكدح وتتعب في سبيل التحرر الاقتصادي، وهذا إنما يكون على حساب طبيعتها وأنوثتها وفطرتها، ثم بعد هذا التعب والكد تنفق ما جمعته من مال على الزينة؛ لترضي شهوة الرجال هناك. نشرت إحصائية في الصحف البريطانية عام 1962م أو عام 1963م مفادها أن النساء في بريطانيا ينفقن تسعين مليون جنيه استرليني على شراء مستحضرات التجميل، ومائتي مليون جنيه على تسريح الشعر والباروكات، فيا ترى كم صرفن على الملابس والعطور وشرب الخمور ومخالطة الرجال؟ ولم يكتف الرجال هنالك بالزج بالمرأة في هذا العالم الموبوء وتسخيرها - باسم الحرية والمدنية والحضارة - بل حاولوا أن يستغلوا المرأة للحصول على الكسب المادي، ونحن نرى ونشاهد حتى في الكويت كيف يستغل التجار والشركات وأصحاب الأموال المرأة في الدعايات؛ لأن ذلك يجر عليهم أرباحاً كبيرة، أما في البلاد الأوروبية فإن الأمر أكثر من ذلك، فعلى سبيل المثال عندما أراد منتجو السيارات العالمية عرض أحدث ما توصلوا إليه في صناعة السيارات، جاءوا بعشرات الفتيات وهن شبه عاريات ليقمن بعرض السيارات؛ لأنهم يعلمون أن في ذلك جني الكثير من الأرباح. فأصبح أسلوب المتاجرة بالمرأة أسلوباً عاماً في مظاهر الحياة التجارية كلها وبشكل خطير سواء كان ذلك في المجلة، أو الكتاب أو وسائل الإعلام الأخرى، والرجال المتحضرون في أوروبا اليوم يأخذون من المرأة كل شيء ثم يتركونها جثة هامدة، ودعاة التقدمية والحضارة الذين يريدوننا أن نتأسى ونقتدي بهم إنما يريدون لنا أن ننحدر إلى الحضيض الذي وصلوا إليه، ونترسم خطى حضارة تمردت على التقاليد والنظم، فتمادت في غيها، وانتقلت من خطأ إلى خطأ، ومن ضلال إلى ضلال.

ماذا يريد دعاة الإسلام من المرأة؟

ماذا يريد دعاة الإسلام من المرأة؟ إن الإسلام ليس كغيره من المذاهب والأديان، فنحن لسنا كالنصرانية ولا اليهودية، إن النصرانية واليهودية في أصلها دينان سماويان لكنهما حرفتا وبدلتا، فنظرة الديانة اليهودية الموجود الآن إلى المرأة نظرة سيئة، فهم يصورون أن الآلام والأحزان والأوجاع كلها من حواء، هكذا تقول الأسطورة اليهودية، أما المرأة في عقيدة النصارى فهي ينبوع المعاصي، وأصل السيئة والفجور، وهي للرجل باب من أبواب جهنم؛ لأنها المصدر الذي تحركه وتحمله على الآثام، ومنها انبثقت عيون المصائب الإنسانية جمعاء، أما العلاقة بين الرجل والمرأة فهي عندهم رجس وقذارة، ولذلك الرجل الفاضل عندهم هو ذلك الراهب الذي يهرب إلى المغارة والصومعة ولا يتزوج ولا يولد له؛ لأن الزواج عبارة عن علاقة آثمة. أما الهندوسية فإنها ترى أن المرأة ملك لأبيها عندما تكون بكراً، وملك لزوجها عندما تتزوج، وملك لأولادها إذا أنجبت، بل إنهم كانوا إذا مات الزوج يحرقون جثته ثم يأتون بالزوجة فيحرقونها فوقه. والإسلام ليس كما يزعم بعض علماء المسلمين الذين لم يفقهوا الإسلام فقالوا: المرأة لا تخرج إلا من بيت أبيها إلى بيت زوجها ثم إلى قبرها، فلا تخرج إلى دور العلم، ولا تقرأ ولا تكتب، ولا تشارك في أي نشاط اجتماعي، فقول هؤلاء ليس هو قول الإسلام، وفهمهم ليس هو فهم الإسلام، بل هم مخطئون، أما قول الإسلام الذي أنزله الله سبحانه وتعالى فهو المتمثل في قولة الرسول صلى الله عليه وسلم في النساء في الحديث الصحيح: (إنما النساء شقائق الرجال)، كلمات صغيرات قليلات، ولكنها تبين الحقيقة وتكشفها. والإسلام يقول لنا: إن المرأة خلقت من أجل المهمة التي خلق لها الرجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، خلق الله آدم من قبضة من طين، ومن ضلع آدم خلق زوجه حواء، ((وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا))، أي: خلق حواء من آدم، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل:72]. والله عز وجل يذكر المسلمين والمؤمنين والقانتين، ويذكر في مقابلهم المسلمات والمؤمنات والقانتات والصادقات والصابرات والصائمات والذاكرات، فكما يذكر الرجال الذين اتصفوا بهذه الصفات يذكر النساء المتصفات بها. والإسلام كلف المرأة بنفس التكاليف التي كلف بها الرجل، فالرجل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وكذلك المرأة، والرجل كلف بالصلاة والصوم والزكاة والحج والذكر والاستغفار وغير ذلك، والمرأة كذلك كلفت بكل ذلك، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. وقد استثني من كل ذلك الجهاد رحمة بالمرأة وتكريماً لها؛ ولأن لها مهمة عظيمة وهي بناء البيت المسلم فإذا ما كلفت بالجهاد فإنها ستشغل عن تلك المهمة. وقد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء كما بايع الرجال في بيعة العقبة، وقد جاء في كتاب الله ذكر بيعة النساء خاصة وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة:12]، فالمرأة في الإسلام ليست كما تقول النصرانية واليهودية: رجس ولا نقص، إنما هي مخلوق كريم كالرجل تماماً.

ذكر المرأة في الكتاب والسنة

ذكر المرأة في الكتاب والسنة إن الله عز وجل أثنى على نساء كريمات في كتابه، وأثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على نساء كريمات في أحاديثه، فقد أثنى الله على امرأة فاضلة وهي آسية امرأة فرعون، فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] آمنت بموسى وهي ملكة مصر، فخلد الله ذكرها في كتابه، وذكر الله مريم في كتابه فقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12]، وبرأ الله الصديقة بنت الصديق من فوق سبع سماوات عندما اتهمت بالفحشاء، حيث أنزل براءتها في القرآن في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، وجاءت امرأة تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها فاستمع الله إلى كلامها من فوق سبع سماوات، وأنزل في شأنها قرآناً يتلى، حيث جاءت خولة بنت ثعلبة تجادل رسول الله صلى الله عليه: (يا رسول الله! إن زوجي أوس بن الصامت في حال الغضب قال: أنت علي كظهر أمي، يا رسول الله! إن لي منه صبية صغاراً، إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا، فيقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت: أشتكي إلى الله ما نزل بي وبصبيتي، فأنزل الله من سورة المجادلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:3]) إلى آخر الآيات، فالله عز وجل ما قال: هذه المرأة لا قيمة لها، وإنما أنزل قرآناً في شأن النساء كما أنزله في شأن الرجال، واعتبر الذين تلفظوا بكلمة على امرأة عفيفة -وهي عائشة - بهتاناً عظيماً. فالإسلام لا ينظر إلى المرأة نظرة مختلفة عن الرجال كما يزعم المرجفون، والإسلام لم يأت ليرفع طبقة على طبقة، ولم يأت لتكون العزة للعرب، أو لبني هاشم أو لقريش على غيرهم، أو لأمة على أمة، أو لجنس على جنس، أو للرجل على المرأة، أو للمرأة على الرجل، وإنما جاء الإسلام بشعار، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

التحذير من الاغترار بالدعوات التي تجر على المرء الندامة يوم القيامة

التحذير من الاغترار بالدعوات التي تجر على المرء الندامة يوم القيامة إن المرأة في الإسلام بانية أمة ومؤسسة حضارة، يتخرج من بيتها رجال ونساء أتقياء بررة، فكم من قائد غير مسار التاريخ، وجد أنه كان وراءه أم غرست فيه البطولة والشجاعة والمبادئ. فشتان بين نظرة أدعياء التقدم، ونظرة دعاة الإسلام، فهما نظرتان متخالفتان فأولئك يريدون أن يدوسوا كرامة الإنسان وأن يمتهنوا الإنسان؛ ليرضوا شهواتهم وأطماعهم ونزواتهم، ونحن نريد أن يحق الله الحق بكلماته، ونريد سعادة وحياة طيبة في الدنيا لكل من الرجل والمرأة، ونريد سعادة في الأخرى. إن حياتنا ستنتهي وأيامنا وأعمارنا ستتلاشى، وسيأتي يوم نفارق فيه الحياة، بل سيأتي يوم تندثر فيه الحياة، وسيأتي يوم يفنى فيه كل شيء ولا يبقى إلى الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وسيأتي يوم ينفخ فيه في الصور، ويقوم الناس لرب العالمين، ويجمع الله الأولين والآخرين، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، يجمع الله فيه الأولين والآخرين فيحاسبهم على ما قدموا، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]، يوم طويل مهول، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:4 - 10]، وينادي مناد يوم القيامة: (يا أهل الجنة! خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت). إن سعادتنا في الآخرة متوقفة على مسيرتنا في الدنيا، أما أدعياء التقدمية فإنهم يريدون الشقاء لهذه الأمة، ماذا يغني عنا هؤلاء إذا ألقينا في النار، عندما ينادي الإنسان: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:28 - 32]؟ ماذا يغني عنا هؤلاء إن تمردنا على حكم الله وشريعته؟ ماذا يغني عنا هؤلاء إذا نحن لم نلتزم بأمر الله؟ هؤلاء المخلوقون الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ماذا يغنون عنا في ذلك اليوم؟ {َيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر:47]، تقول الجماهير التي تسير وراء المفكرين، ووراء الزعماء {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ} [غافر:47]، في الدنيا {تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47] قالوا: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48]. يوم القيامة يسير القادة والزعماء والذين اتبعوهم في الدنيا يسيرون وراءهم، فأولئك يرمى بهم في النار، ثم يلقى هؤلاء في أثرهم، يقول الله عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]. في الختام أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأملي أن تمضي مسيرة المسلمين قدماً إلى الأمام تشق الطريق رغم الصعاب والمشكلات التي تواجه المسلمين، فقدر المسلم أن يحيا للإسلام، وأن يعيش للإسلام، وأن يكون مسلماً رجلاً أو امرأة، في حال الشباب وفي تقدم العمر وفي الشيخوخة، ذلك أملنا، والله سبحانه وتعالى يتولى الصالحين. {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6].

نظرات حول العقيدة

نظرات حول العقيدة لقد وصف الله سبحانه وتعالى والرسول صلى الله عليه وسلم الجنة وصفاً دقيقاً محكماً للصحابة رضوان الله عليهم حتى كأنهم يرونها، فاشتاقت نفوسهم إليها، فأكثروا من السؤال عن كيفية الوصول إليها، فأرشدهم الله ورسوله إليها بالعبادة لله وحده وعدم الإشراك به، وأن يفعلوا الفرائض ويجتنبوا المحرمات، وأن يبتعدوا عن الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وصف الله ورسوله للجنة والنار

وصف الله ورسوله للجنة والنار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد (سأل الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أخبرني عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار)، وفي بعض الروايات أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أريد أن أسألك عن كلمة أمرضتني وأحرقتني، قال: سل عما بدا لك، قال: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار)، تلك كانت اهتمامات كبار الصحابة وصغارهم رضوان الله عليهم. لقد وصف الله سبحانه وتعالى ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين الجنة حتى كأنهم يرونها، ووصفت النار حتى كأنهم يشاهدونها، فوصفت الجنة بنعيمها، وما فيها من خير عظيم لم تسمعه أذن قبل ذلك، ولم يشاهده الناس في واقع حياتهم الدنيا، ولا يمكن أن يشاهدوا شيئاً قريباً منه، ووصفت النار بعذابها، وما يتجرع أهلها من آلام وأوجاع وشقاء دهوراً لا تنتهي وأزمنة لا تنقضي {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:24 - 25]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. ويقول في الجنة: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:12 - 22].

الطريق إلى الجنة يبدأ من الدنيا

الطريق إلى الجنة يبدأ من الدنيا كانت اهتمامات الصحابة ترمي إلى هذا الأمر العظيم، إلى أن يدخلوا الجنة وينجوا من النار {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، ثم ذكر الله بعد الفلاح {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11]. يقول معاذ بن جبل: (يا رسول الله! دلني على عمل -أي: أخبرني- عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار)، إذا ما حصل الإنسان على الجنة ونجا من النار في ذلك اليوم العظيم، فوالله إنه الفلاح الكبير، والفوز العظيم، والنجاة العظمى، والربح الجزيل، وإذا ما وقع العبد في النار كان ذلك هو الخسران الأكبر، أولئك {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]، أفلا يستحق ذلك أن ينحل له البدن، وأن تمرض له النفس، وأن يحترق صاحبه ليعرف الطريق، وليعرف السبيل؟! فسبيل الجنة يبدأ من هنا، والفوز والنجاة من النار يبدأان من الدنيا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فازرع في الدنيا خيراً، تلق في الآخرة خيراً، وازرع في الدنيا شراً، تلق في الآخرة شراً، فما تعمله هنا يحدد المسار هناك. قال: دلني على عمل أقوم به في حياتي الدنيا، ويكون سبباً في دخولي الجنة، فهو سبب وليس عوضاً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يُدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، فالعمل القليل المتواضع ليس ثمناً للجنة؛ لأن الجنة سلعة عظيمة غالية، وحتى عمل محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون ثمناً لدخول الجنة، ولكن يدخل النبي والناس الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى الذي جعل هذه الأعمال القليلة المتواضعة سبباً لدخول جنة الله العظيمة. (دلني على عمل يدخلني الجنة)، وهذا هو محور حياة المسلم الذي يطوف ويدور حوله، فينبغي له أن يكون تفكيره منصباً في: كيف يدخل الجنة؟ وكيف يصل إلى الدار الآخرة؟ وكيف يتجنب وعورة الطريق؟ وكيف يقتحم العقبات حتى يصل إلى جنة الله؟ إذاً: فلا ينبغي أن نيئس من هذا، ولا أن نخجل من هذا، ونلح دائماً في السؤال عليه، ولقد أخطأ قوم الطريق عندما قالوا: نحن لا نعبد الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، فأضلوا عباد الله، وأصبح عوام الناس لا يدرون كيف يقودون أنفسهم إلى الله؟ لأنهم تركوا السبيل الذي دل الله سبحانه وتعالى عليه. لذا قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ) أي: هذه الأدعية الكثيرة التي ترددها ويرددها معاذ لا أعرفها، (وإنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن)، فهذا هو المحور الذي نطوف حوله، فنحن نريد الجنة، والنجاة من النار، وكذلك المؤمن في قوله وعمله، وفي حركته وسكونه، ينبغي له أن يطلب الجنة، فكل خير هو موجود في الجنة، وكل شر فهو في النار، والجنة رحمة الله، مَنْ دخلها نال كل خير، ومن جملة ذلك أنه يرى رب العزة سبحانه وتعالى، فينظر المؤمنون إلى ربهم، وذاك من النعيم الذي أعطاه الله لعباده الذين يدخلون الجنة، ومن الشقاء أن يحرم أهل النار من ذلك.

السبيل إلى الجنة

السبيل إلى الجنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم السبيل لأكثر من صحابي، والقرآن بينه في مواضع كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم سئل عنه أكثر من مرة، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يلوم السائلين على كثرة تردادهم لهذا السؤال؛ لأنه أمر عظيم.

عبادة الله وحده وعدم الإشراك به

عبادة الله وحده وعدم الإشراك به قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه البناء في الحياة الدنيا، وهو: أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً؛ ولأجل ذلك خلقك الله، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، فهو سبحانه لا يريد منك شراباً، ولا يريد منك طعاماً، فالله سبحانه وتعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، وإنما خلقك لتتخذه إلهاً، ولكي يخضع وجهك وقلبك له، وتسلم أمرك له، وتعترف له بالألوهية، وتعترف له بالربوبية، وهذا معنى قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: نشهد يا رب! أنك إلهنا ومعبودنا، فنعبدك وحدك ولا نعبد غيرك، ونكفر بالآلهة والمعبودات والطواغيت التي تنتشر في أرجاء الأرض، ولا نؤمن إلا بإله واحد هو إلهنا وربنا ومعبودنا؛ ولأجل هذا أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وكل رسول يدعو قومه إلى هذه الحقيقة ويبينها ويفصلها، ويصبر على ذلك سنوات طويلة، قد تستمر عشرات السنين، وبعض الرسل بقي مئات السنين وهو يدعو قومه إلى هذه الحقيقة: أن يعبد الناس ربهم وحده لا شريك له، وأن يخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى، وأن تكون صلاتهم ودعاؤهم وحجهم لله، وأن تكون استغاثتهم واستعانتهم بالله سبحانه وتعالى وحده، وأن يكون التوكل على الله عز وجل، وألا تخضع هذه الوجوه إلا لربها، وأن تتوجه القلوب إلى خالقها ومعبودها سبحانه وتعالى، وأن يكون التحاكم إلى شريعة الله، وأن تكون الدينونة لله سبحانه وتعالى، وأن يقوم البشر أنفسهم بكتاب الله وبمنهج الله وبدين الله، وأن يُعبد الله ولا يشرك به. وهذا هو الأساس الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، وإن جئنا إلى الله بأعمال خيرة بنيت على غير أساس التوحيد والإخلاص لله فإنها أعمال مرفوضة. وقد ضرب الله مثلاً في سورة النور لأقوام يظنون أن لهم مكانة عند الله، ولكنهم أقاموا أعمالهم الخيرة على كفر وشرك، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، فالعطشان في الصحراء يرى السراب يلوح من بعيد، فيظنه ماء، فإذا ما اقترب منه لم يجده شيئاً، وكذلك هو حال أقوام يظنون أن لهم عند الله مكانة، وأنهم قدموا أعمالاً خيرة، ولكنها على غير أساس التوحيد، وعلى غير أساس الإخلاص، ثم عندما يأتون إلى الله يوم القيامة لا يجدون شيئاً، وتكون أعمالهم {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]. إذاً: فالأساس الأول هو: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، ولا تشرك بإلهك وربك ومعبودك وخالقك شيئاً، فتتخذه إلهاً تتوجه إليه، وتريد رضوانه وحده، ولا تتخذ معه نداً، ولا تتخذ معه شريكاً، وإنما عبادتك كلها لله سبحانه وتعالى. فالله معبودنا؛ لأنه ربنا وخالقنا سبحانه وتعالى، وهو المستحق للعبادة، وهو المستحق للتأليه جل وعلا. ومن لم يأت بهذا الأصل فليس له عند الله يوم القيامة نصيب، فالذين كفروا لا يدخلون الجنة أبداً، والمشركون لا يلجون الجنة أبداً، فهم مخلدون في نار جهنم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءْ} [النساء:48]، فالشرك لا يغفره الله سبحانه وتعالى، وغير الشرك قد يغفر، فقد يفعل الإنسان معاصي وذنوب، فقد يعذبه الله عليها وقد يغفرها له، ولكن الشرك لا يمكن أن يغفر أبداً، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهذا هو الأساس الأول، وهو التوحيد، والإخلاص، والعبودية لله عز وجل، وهو أساس العمل الذي يدخل الجنة، ومن لم يأت بهذا الأساس فليس له مطمع في أن يلج الجنة ويدخلها، وفي أن يصل إلى الدار الطيبة الصالحة. وقد حرم الله الجنة وطعامها وشرابها ونعيمها على الكافرين. ينادي أهل النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، ليس هناك نصيب في جنة الله للذين أشركوا وكفروا، وليس لهم مطمع في النعيم الذي أعده الله لعباده الموحدين، ولعباده المخلصين.

أداء الفرائض واجتناب المحرمات

أداء الفرائض واجتناب المحرمات السبيل الثاني: أن تقوم بالفرائض التي فرضها الله عليك، وأن تنتهي عن المحارم التي حرمها الله، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أصول الفرائض فقال: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، وفي بعض الأحاديث قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها) أو كما قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فهناك فرائض لا بد من أدائها، وهي الحد الأدنى الذي ينجو صاحبه من النار بدون عذاب، وكذلك اجتناب المحارم حد أدنى، وصاحبه يسمى مقتصداً في دين الله، قال الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32] أي: يفعل الذنوب والمعاصي، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:32] أي: موحد مخلص يأتي بالفرائض، ويجتنب النواهي، ولا يكثر من النوافل، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] أي: يؤدي الفرائض ثم يكثر من النوافل. وفي حديث الأعرابي عندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن التوحيد، وسأله عن الصلاة والصوم والزكاة والحج، ثم قال: (لا أزيد على هذا، فقال: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق)، فالمحافظة على الفرائض واجتناب النواهي هو الحد الأدنى الذي يدخل به المسلم الجنة من غير عذاب، وهذا هو المقتصد، وأما إذا أراد أن يتوسع في الخير فذلك له مجال آخر، وهو مجال النوافل ومجال الطاعات، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ في هذا الحديث: (ألا أدلك على أبواب الخير؟)، إذا أردت أن تزداد خيراً، وأن تزداد منزلة عند الله، وأن تزداد قرباً من الله سبحانه وتعالى، (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة)، أي: أكثر من الصوم، فإنه جُنة في الدنيا يقي صاحبه من المعاصي والذنوب والآثام، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فمن الحكمة من تشريعه ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، فهو جنة يقيك من الذنوب والمعاصي، ويوم القيامة جُنة من النار ووقاية منها. ثم قال: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)، أي: الذي يؤدي الزكاة ويكثر من الصدقة، ويكون كريماً ومنفقاً ومتصدقاً فإن هذه الصدقات تطفئ الخطايا، فالخطايا نار تشتعل تأكل صاحبها وتفسد قلبه وروحه، وتجلب غضب الله سبحانه وتعالى عليه، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يُصب الماء على النار فتنطفئ النار وينطفئ الجمر، وكذلك فعل الصدقات بالخطايا والذنوب. قال: (وصلاة الرجل في جوف الليل)، ثم قرأ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]، فإذا أدى المسلم الفرائض، ثم صلى في جوف الليل -أي: في وسطه أو في آخره كما جاء في بعض الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم- ركعات يؤديها تقرباً إلى الله والناس نيام، ويرجو بها ثواب الله، ويطمع في رحمته، ويخاف غضبه وعقابه؛ فإن هذا الفعل من أعظم القربات التي تقرب العبد من ربه سبحانه وتعالى. فهذه بعض التوجيهات من الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم إذا أراد أن يتوسع في أبواب الخير، أن يعلو عن درجة المقتصدين؛ ليكون في منزلة السابقين الذين يرفع الله مكانتهم ويعلي مقامهم. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم منهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

أخذ الإسلام بشموليته

أخذ الإسلام بشموليته الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. ورد في بعض الأحاديث أن بشيراً -وهو رجل من الصحابة- سأل عن طريق الجنة، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، فقال: (يا رسول الله! أما الصدقة والجهاد فلا طاقة لي بها -أي: لا أستطيع الصدقة فالمال حبيب إلى نفسي، ونفسي لا أفرط فيها- فحرك الرسول صلى الله عليه وسلم يده، وقال: لا صدقة ولا جهاد؟! فبم تدخل الجنة؟ قال: فبايعته على هذه الأمور وعلى الصدقة والجهاد). فبعض الناس يجود بالصلاة والصيام والدعاء وفعل الخيرات، ولكنه شحيح بالمال، وفي مجال الجهاد شحيح بنفسه، فكيف يدخل الجنة من أعظم الأبواب؟! ولذلك في بقية الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشبه هذا الدين بالجمل، فرأسه الإسلام وإذا ملكت رأس البعير ملكته، ولو شددته من رجله أو من ذيله لا ينجر إليك، لكن إذا ما أمسكه الطفل برأسه سار وراءه، وكذلك الإنسان إذا استسلم لربه وخضع له، وعمل بشريعة الله كلها، وعموده الفقري الصلاة، فإذا انكسر العمود الفقري لا يتحرك البعير، وأعلى شيء في البعير سنامه، وذروة سنام هذا الدين الجهاد، فالذين يبلغون القمة هم المجاهدون في سبيل الله. والجهاد هو الذي يحمي للمسلمين دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وهو الذي يمهد السبيل لانتشار دعوة الإسلام في أقطار الأرض، وهو الذي يصد الباطل والطغيان، وهو الذي يرعب أعداء الله، وللجهاد قيمة كبيرة في حياة المسلمين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك قريب سميع مجيب. {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:110 - 111]. {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]. {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:193 - 194]. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].

الأمة الوسط

الأمة الوسط من المتفق عليه أن الخصيصة الأولى والمقوم الأساسي للأمة الوسط هو كونها أمة ربانية، وهذه الخصيصة خاصة بهذه الأمة لا تشاركها فيها الأمم الأخرى، فالأمة الإسلامية أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها؛ لأن هذا كله منزل من عند الله تبارك وتعالى.

موقع أمة الإسلام بين الأمم ومعنى وسطيتها

موقع أمة الإسلام بين الأمم ومعنى وسطيتها إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في جهودكم، وأن يجعلكم طليعة هذه الأمة الوسط، التي تقود البشرية في حاضرها كما قادها أسلافها في ماضيها، وفي ظني أن القائمين على المؤتمر قد وفقوا أيما توفيق في اختيار الموضوع الذي تدور حوله هذه الندوات والمحاضرات: الأمة الوسط. وسر التوفيق في ظني: أنها دعوة للباحثين والمفكرين ولأبناء هذه الأمة ليعيدوا النظر في موقع أمتهم بين الأمم، ونحن اليوم -أيها الإخوة- في ذيل الركب الإنساني، نحن الآن نصنف في العالم المتخلف الثالث، فهذا هو موقع أمتنا، وهذا الموقع الذي تعيشه الآن، هو الموقع الذي شاء الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أن تكونه، لكن انظروا معي نظرتين، انظروا معي في ماضي هذه الأمة، كيف كانت؟ ثم قارنوه بحاضرها، أي: كيف هي الآن؟ ستجدون فرقاً هائلاً وبوناً شاسعاً، وانظروا معي نظرة أخرى إلى واقع هذه الأمة اليوم، ثم انظروا إلى الدور الذي رسمه القرآن لهذه الأمة من خلال نصوص آيات الكتاب، ومن خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتدبروا الآية التي هي شعار هذا المؤتمر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143]، فهذه الآية تحدد دور هذه الأمة وتبين موقعها بين الأمم، قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا))، والوسط في لغة العرب: الخيار والأفضل والأكمل، قال تعالى: ((قَالَ أَوْسَطُهُمْ)) أي: خيرهم {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، وفي الحديث: (الفردوس وسط الجنة وأعلى الجنة)، والوسط في أصله: الجزء بين الشيئين، والنقطة المتوسطة بين طرفين، وكانت النقطة المتوسطة هي أفضل شيء؛ لأنها مركز الاعتدال، ولأنها بعيدة عن التطرف، ولأن العوار والفناء كما يقول الزمخشري إنما يصيب الأطراف أولاً، فلا يصل إلى المركز إلا بعد أن تفنى الأطراف. فهذه الأمة خير وأعدل وأفضل الأمم، وذلك ما قرره الحق تبارك وتعالى، بل إن القرآن يصرح به في آية أخرى وهي قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فهذه أمتنا من خلال كتاب ربنا، وأريد أن تستعيدوا معنى قوله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))، وقوله في الآية الأخرى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، فقوله: (جعلناكم) ما مفهومه؟ أو ما معناه؟ أمعناه خلقناكم أمة وسطاً؟ لا، فالأمة مخلوقة قبل أن تكون أمة وسطاً، وإنما المراد: صيرناكم أمة وسطاً، وبم صرنا أمة وسطاً؟ بهذا الإسلام، وما الذي أخرجها فأصبحت خير أمة أخرجت للناس؟ إنه هذا الدين، الذي رسم عقيدتها ووضع شريعتها، وبيّن أخلاقها وجاء بقيمها وتصوراتها، فعندما استقامت على منهج الله تبارك وتعالى، وحققت الإسلام في أنفسها، واصطبغت بصبغة الإسلام؛ أصبحت هي الأمة الفاضلة والأمة الخيرة، وعندما يتناقص هذا ثم يفنى في الأمة فإنها تنحدر من خيريتها، ويصبح حالها كحالها اليوم، وعندما تسامت هذه الأمة في مطلع الدعوة في عقيدتها وسلوكها ومنهجها أصبحت خير أمة. والوسطية والخيرية ليست لقباً يعطى من غير مضمون؛ إنما هو عنوان لحقيقة تجسدت في الأمة، حقيقة تراها في الرجل الأول في هذه الأمة، في محمد صلى الله عليه وسلم، وتراها في أبي بكر الصديق، وتراها في عمر بن الخطاب، وتراها في جيل الصحابة، وتراها في جيل التابعين، وتراها في العلماء والمفكرين، وفي الدعاة والمصلحين، فأصبحت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

كل أمة تدعي الخيرية

كل أمة تدعي الخيرية الموقع المراد لهذه الأمة هو أن تكون أفضل الأمم، وأن تكون خيرها، وأن تكون قائدة لركب البشرية، ومعلمة لها، وأن تحكم البشرية في عقائدها، وفي تصوراتها، وفي أخلاقها، وفي قيمها. والأمة ينازعها في ذلك غيرها، فكل أمة تدعي ذلك، وتزعم أنها أفضل الأمم، وكل أمة تبذل في سبيل تثبيت خيريتها وأفضليتها، تبذل من وقتها ومالها وفكرها، بل إنها تدفع أبناءها في ميدان الحرب والقتال لتقرر ذلك، وقد واجه الصحابة هذه الحالة في عصرهم، ثم واجهها المسلمون بعد أن قامت دولة الإسلام، متمثلة في الدول الكبرى، وفي الديانات القديمة، وفي الملل والنحل، فالفرس يقولون: نحن خير الناس، والروم يقولون: نحن خير الناس، اليهود يقولون: نحن أفضل الناس، والنصارى يقولون: نحن أفضل الناس، قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة:135]، وقال تعالى: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) -وهم المشركون- {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113]، وهذه هي سنة الله في البشر، أي: أنه زين لكل أمة عملهم، ومن هذا التزيين ينشأ الاختلاف والصراع، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهذا قد يزلزل يقين المسلم في دوره في الحياة، وقد يجعله يهتز ويضطرب، ولا يصلح لقيادة ركب البشرية، وهكذا من لم يوقن بدوره ومركزه في واقع الحياة. هذه الآية ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) هي أول الآية الثانية من الجزء الثاني من القرآن، والجزء الأول أكثره بيان لموقف أمة تزعم أنها خير الأمم، وتدعي أن الذي فضلها هو الله تبارك وتعالى، ألا وهم اليهود، فكانت جولة طويلة مع اليهود الذين يزعمون هذه الدعوى، أي: وأنهم أفضل الناس من أخيرهم، وبين الله لهم أن هذا صحيح إذا استقاموا على خصائص الوحي الإلهي، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]، ثم بيَّن لهم كيف أنهم انحدروا في عقيدتهم وتصوراتهم وأخلاقهم وقيمهم، وانحرفوا عن هذا المركز، وتحولوا عنه؛ لأنهم لم يثبتوا عليه، وكشف نقضهم للعهود والمواثيق، وتحريفهم للكتاب، وسفك بعضهم لدم بعض، وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، واتباعهم للسحر وللشياطين، فعندما فقدوا الخصائص التي تجعلهم خير أمة أخرجت للناس، كأنه قال لهم: لقد تحول الميزان، وتحولت القيادة منكم، وجاءت أمة جديدة تملك هذه الخصائص، أمة لها دينها الغض الحي، ولها قيمها وموازينها وهذه هي الأمة الفاضلة، أما أنتم فقد فقدتم دوركم؛ لأنكم فقدتم خصائص الأمة الصالحة الطيبة. وتأتي هذه الآية في جولة مع اليهود عندما شككوا في هذا الدين، فقد حول الله تبارك وتعالى القبلة من بيت المقدس إلى البيت العتيق؛ لأن الأمة الفاضلة لا يجوز أن تكون تابعة لغيرها من الأمم في قبلتها، فأراد الله تبارك وتعالى أن يخص هذه الأمة بقبلة تميزها: فقال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة:150]، وكان اليهود يقولون: محمد والمسلمون تبع لنا يتوجهون إلى قبلتنا، فخص الله هذه الأمة بقبلة تميزها، هي خير جهة؛ لأنها تتجه إلى البيت العتيق الذي بناه إبراهيم عليه السلام، فشكك اليهود في هذا، فوصفهم الله بالسفهاء، وقال: هذه هي الأمة الفاضلة التي اخترت لها هذه القبلة الطيبة، قبلة إبراهيم عليه السلام. فهذه أمتنا من خلال ما رسمه القرآن الكريم، وهذا واقعنا الذي نعيش فيه، وبين الدور الذي رسمه القرآن والواقع الذي نعيش فيه فرق كبير كالفرق بين الثرى والثريا، وكالفرق بين الأرض والسماء! وإذا ما عادت هذه الأمة إلى خصائصها، وما استقامت على عقيدتها وشريعتها ومثلها وقيمها، فستعود تلك هي الأمة الوسط، وتعود خير أمة أخرجت للناس.

القناعة تورث سلوكا صوابا أو خطأ

القناعة تورث سلوكاً صواباً أو خطأ كلمة الشيخ عبد الله المصلح: أيها الإخوة في الله! أبدأ حديثي إليكم بتحيتكم بتحية الإسلام، تحية أهل الجنة كما قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشكره وحده، فله المنن العظمى المتتالية، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، ويوم أن نتذكر آلاء الله علينا ونعمه السحاء، فلن ننسى نعمة هذا اللقاء المبارك بكم، وأسأل الله أن يجعله لقاءً نافعاً في السير إليه على بصيرة من أمرنا، إنه على كل شيء قدير، وبعد: ليست التصورات الاعتقادية والمناهج الإيمانية مما يفرض على الناس بالأمر، وما كانت هناك عقيدة تعتقدها أمة، ولا منهج إيماني استقر في كيانها تصديقاً وإيماناً واعتقاداً عن طريق الأمر الجبري، بل إنما تعتقد ذلك إذا اقتنعت، وهي لن تقتنع إلا إذا سارت في الدرب الموصل لها إلى القناعة، وكيف لا يصل هذا الدين إلى الطريق الواصل للقناعة الإنسانية في الإنسان؟! والذي أنزل هذا الدين وارتضاه لنا هو من خلق هذا الإنسان وعلم حقيقة تكوينه، قال الله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالعلم هو الطريق الموصل إلى إثبات القناعات، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، ولقد بوب الإمام البخاري باباً قال فيه: بابٌ: العلم قبل القول والعمل، ثم استشهد على ذلك بقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل. فالقناعة أو العقيدة إنما تورثها الأدلة والمعلومات، فيوم أن يأتي علم راشد فيستطيع أن يولد عقيدة راسخة، وهذه العقيدة الراسخة هي بدورها ينبثق منها سلوك الإنسان في حياته، فأنتم ما جاء بكم إلى هذا المقام إلا علم كان قد وصل إليكم، فاستقر قناعة في أعماقكم، وتولد منه هذا السلوك الذي أشهده الآن في هذا الاجتماع المبارك. هذه الحقيقة الأولى، والحقيقة الثانية: أن العالم اليوم لا يخرج عن واحد من اثنين: فريق يرى أن لهذا الوجود خالقاً خلقه، فله رب وإله، وفريق آخر يرى أن ما يشهده ويحسه من الموجودات هي مخلوقات بلا خالق، ولقد نتج عن هذا تساؤلات بدأت تطرق بقوتها على عقول القوم مظهرة أسئلة لم يستطيعوا بعد الإجابة عليها، وهي: من أنا؟ ولماذا جئت؟ وأين المصير؟ وكيف جئت إلى هذه الحياة؟ وما مصيري بعدها؟ قضايا لن تستطيع العقول البشرية أن تجيب عليها؛ لأن الله لم يمكنها من ذلك.

القواعد التي قام بها الدين الإسلامي

القواعد التي قام بها الدين الإسلامي وقضية الإيمان لا يمكن أن تقوم إلا على قاعدة العلم الراسخ، وقد قام هذا العلم على القواعد التالية: القاعدة الأولى: أن الإنسان في أصل تكوينه الفطري واستعداده الجبلي مفطور على الإيمان بالله عز وجل، وعلى أن يعتقد أن الله خالقه، وقد أقام هذا الدين هذه القاعدة على شقين: قضية الفطرة وقضية العقل، فكل مخلوق من الناس مفطور أصلاً على أن يعرف الله عز وجل، ورد في صحيح الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله: لقد خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه). فالإسلام يبني قاعدته الإيمانية على تصور أن هذا الإنسان طبعه الأساسي قابل لها، قال تعالى: ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا))، وهذا القبول هو الأصل في هذا الإنسان، بل إن هذا الدين ليجزم أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً يعيش معاني الإنسانية الحقيقية إلا إذا سار في طريق هذا الدين، وفي طريق هذه العقيدة، وإذا حاد عنها فقد خرج عن كيانه الإنساني ليصبح شيئاً آخر ينتج عنه أشياء أخرى. أما القاعدة الثانية: فهي قضية العلم الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وشهد له الإعجاز، وجاء به الأنبياء بدءاً من آدم وانتهاءً بسيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]. فالتصور الإسلامي عن الأمم السابقة هو: أنه ما من أمة إلا وقد بعث الله لها رسولاً أو نبياً يبلغها عن الله عز وجل مراده من خلقه وهدايته إلى الناس، ثم هؤلاء الرسل أنزل الله عليهم كتباً، وفي هذه الكتب عقيدتهم التي يجب عليهم أن يعتقدوها، وشريعتهم التي يجب عليهم أن ينفذوها، أمراً يستجيبون له أو نهياً ينتهون عنه، ثم إن الله عز وجل أكرم كل رسول بإعجاز ليكون ذلك الإعجاز دليلاً قوياً وقاطعاً على أن ما جاء به ذلك الرسول ليس من عنده، وإنما هو من عند الله عز وجل، وما جاء به يستحيل أن يأتي به إنسان من الذين يشهدونهم من حولهم.

معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله

معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله قضية الإعجاز منحة من الله عز وجل للأمم السابقة عن طريق رسلها، ولنا عن طريق نبينا وحبيبنا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الإعجاز للرسل السابقين إعجازاً مادياً، تمثل فيما شهدوه من خوارق العادات، وإبطال السنن الكونية للأشياء المألوفة؛ فإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كان أكبر من ذلك، لقد وقع على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإعجاز ما كان إعجازاً مادياً عطلت فيه سنن الكون، وشهد بذلك صحابته من حوله.

الإعجاز التشريعي

الإعجاز التشريعي من إعجاز الرسول صلى الله عليه وسلم: الإعجاز التشريعي، والإعجاز البياني، والإعجاز العلمي. سلامة البشرية كلها هو في منهج الإسلام التشريعي، ويستحيل أن تسعد البشرية إلا تحت ظلال هذا الدين، وانبثاقاً من شريعته السمحة الشاملة الكاملة الخالدة، وفي كل قضية من قضاياها. ومن أجل أن يبقى هذا التشريع مكتوباً له الديمومة والخلود والقدرة على حل المشكلات الطارئة في حياة الأمة؛ فقد جعل الله في هذا التشريع قواعد كلية وقضايا عامة، ثم كانت قضية الاجتهاد التي جاءت لنوعية خاصة من الناس، وهم الذين توافروا على هذا العلم فأدركوه لغة وفهماً للقرآن والسنة، ولمقاصد تشريعاته، فيأتي هؤلاء المجتهدون وقد أخذوا وعلموا علم اليقين تلك القواعد فيقيسون عليها الحوادث الجزئية الطارئة المتجددة، فيقولون الحكم في كل قضية تطرأ في حياتهم. وإذا كانت هذه الشريعة قد اتسعت لأمة ضاربة من جاكرتا شرقاً إلى طنجة غرباً في يوم عزها، فإنها تستطيع أن تنقذ البشر اليوم بعد أن جرب ويلات البعد عن هذا المنهج، بل وويلات تطبيق المناهج الأخرى، وسيكون للشريعة قبول أكثر بعد أن جربت الأمم الجاهلية وويلاتها. وما أكثر شهادة العلماء والعقلاء وذوي الحصافة حتى من غير المسلمين لنا في هذا الجانب، حتى أن ذكرها يعتبر من باب الأمور المألوفة التي سمعها الناس كثيراً، واستفاضت في أوساطهم، ولا مانع أن أذكر لكم كلمة بعد حوار أجريناه في مدينة من مدن ألمانيا في قضية الاقتصاد الإسلامي، وخرج معنا نخبة من كبار أساتذة الاقتصاد الإسلامي في العالم الإسلامي كله، خرجنا لنتحاور مع فريق من علماء الاقتصاد الغربيين، وكان على رأسهم عالم اسمه البروفيسور ألبخ، وهو من جامعة كولون في ألمانيا الغربية، وبعد حوار دام عشرة أيام في قضية اقتصادية، وقف هذا الرجل يقول: لست رجلاً شرقياً تحركني العواطف، ولكني رجل يلزمني إقراري بالحقائق العلمية، فأقول لكم: إن إنقاذ العالم من مأساته الاقتصادية هو من عندكم معشر المسلمين، لكني علمت من خلال استماعي لكم أن المنهج الاقتصادي مرتبط ارتباطاً عضوياً بالعقيدة الإسلامية، فكأنكم تقولون لنا: اسلموا لنحل مشكلتكم الاقتصادية. هذا الرجل يفطن لما لم تفطن له كليات التجارة في عالمنا الإسلامي، التي تقرر قضايا الربا وقضايا أخرى فيها انحراف معين.

الإعجاز العلمي

الإعجاز العلمي الإعجاز العلمي لهذا الدين -ولله الحمد- يظهر في كل يوم بجديد، وقد توافر لهذا الأمر نخبة كانوا في جامعة الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية، وسعدت بأن صحبتهم فترة بتمثيل جامعتي في هذه اللجنة، وكنت أستمع إلى الإعجاز العلمي الموجود في القرآن، والتقيت ببعض العلماء في المؤتمرات العلمية البحتة كالشيخ محمد الصالح العثيمين، وذلك في المؤتمر الطبي السعودي الثامن، واستمعنا إلى الحقائق التي اكتشفها العلم، ثم تعرض على العلماء في آيات قرآنية وأحاديث نبوية، فيذهلون منها، وفي آخر المؤتمر الطبي السعودي الثامن أسلم عالم من كبار علماء الأجنة، أعلن إسلامه وقال: يستحيل أن تكون هذه الحقائق التي استمعنا إليها في علم الأجنة قد جاءت بحكم الصدفة أو أنها من عند بشر؛ لأني أعلم أنا ومن معي من العلماء أن علم الأجنة ما أصبح علماً يدرس كعلم يعترف به إلا قبل نحو خمسين أو ستين عاماً، وهذه الحقائق توجد عند المسلمين من قبل ألف وأربعمائة سنة! وقد أثبت المتخصصون في هذا الجانب أكثر من سبعين حقيقة علمية في علوم مختلفة تحدث القرآن أو السنة الصحيحة عنها قبل ألف وأربعمائة سنة! من ذلك قول الله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:15 - 16]، كنت من قبل أتساءل: كيف تكون الناصية -وهي مقدمة الرأس- كاذبة خاطئة؟! وكنت أقول في نفسي: لو قال: لسان كاذب خاطئ، أو يد كاذبة خاطئة؛ لكان ذلك معقولاً، لكن قوله: ناصية أمر غريب! وكنت أقول: آمنا بالله، فإني لم أدرك معنى ذلك لقصوري، حتى التقى أحد إخواننا بعالم من كبار علماء العقل، وإذا به يحدثه عنه فيقول له: إن العقل مقسم إلى عدة فصوص، والفص الجبهوي منه -الذي في مقدمة الجبهة- هو الفص الذي يصدر الأوامر السلوكية لكل الحواس، فهو الذي يأمر اللسان بالكذب، ويأمر اليد بالبطش أو السرقة، فصدق الله إذ يقول عن هذه الناصية التي فيها القيادة العليا، واللجنة المركزية: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16].

المخلوقات آثار دالة على صفات الخالق

المخلوقات آثار دالة على صفات الخالق هناك الحجج العقلية القاطعة التي تدل على أن كل ما نشهده مخلوق لخالق قادر سبحانه وتعالى، فهذه الحجج تتمثل في أن لكل فعل فاعلاً، وأن الفعل مرآة لقدرة فاعله ولبعض صفاته، فأنا أستطيع أن أتصور أن هذا الكأس صنع في مصنع، وهذا المصنع فيه الأدوات الأولية لتصنيع البلاستك، وفيه مجموعة من الكئوس المصنعة الموجودة، ثم جيء به إلينا في هذا المكان، فهذه التصورات استطعت أن أتعرف عليها من خلال معرفتي لهذا الكأس، فأنا أعرف الصانع من خلال مصنوعه. ويوم أن أشهد هذا الإنسان في خلقته السوية، أعلم أن من رحمة الله به أن خلقه في أحسن تقويم، فإنه فجر فيه أنهاراً أربعة في الوجه: دمع في العين، ولعاب في الفم، ومخاط في الأنف، وشمع في الأذن؛ فأعلم أن وراء هذه الحكمة حكيم، وأن هذه الحكمة لا تكون إلا من الله الخالق الرازق المدبر سبحانه وتعالى. كل هذه الأدلة بأجمعها أدلة تشهد بأن الله هو ربنا، وأن المبلغ عن الله عز وجل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن ما طلب منا أن نستجيب له هو هذا الدين الذي نستسلم له. وهي أصول ثلاثة أقام هذا الدين عقيدة المسلم الإيمانية وتصوره الاعتقادي عليها. فهو يشهد أن الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي منبثقاً من شهادته اليقينية أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

الأمة الربانية

الأمة الربانية الأستاذ عمر: أيها الإخوة! لا يشاركنا أحد من غيرنا من الأمم في الوقت الحاضر في أننا أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها؛ لأن ذلك كله منزل من عند الله تبارك وتعالى، حتى ثقافة هذه الأمة إنما هي نتاج تفاعل هذه الأمة مع هذا الدين وهذا التشريع، والأمم الأخرى تصوغ تشريعها ثم يحكمها تشريعها تماماً، كما كان ينحت المشركون الصنم ثم يسجدون للصنم، وكذلك هم الآن ينحتون تشريعاً وقانوناً ثم بعد ذلك يحكمون القانون في رقابهم، {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17]، فمما يخلقه البشر هو هذه التشريعات والقوانين. وفي الماضي كانت توجد أمم لها تشريع إلهي رباني، أما في الوقت الحاضر فلا يوجد ذلك إلا في أمة الإسلام، فاليهودية دينها حرف، والنصرانية دينها حرف، وبقية الأمم لا تزعم أن لها ديناً ربانياً سماوياً، وبقي التشريع الوحيد الصافي الخالص الذي لم يخالطه دخن، والذي لم يتأثر بتشريعات البشر؛ هو ما احتواه كتاب الله تبارك وتعالى وسنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: فالإسلام هو الذي صاغ عقيدتنا، وهو الذي صاغ شريعتنا، وقيمنا، وهو الذي رسم سلوكنا، فنحن أمة ربانية تنتسب إلى الله تبارك وتعالى في ذلك كله، فمن يشاركنا في ذلك؟ ومن يطاولنا أو يفاخرنا فيه؟ الأمم وضع أخلاقها، وقيمها، وتشريعاتها، ومفكروها، وعباقرتها، وأساتذة القانون فيها، والعادات والتقاليد التي ورثوها عن الآباء والأجداد، أما نحن فصنعنا الله تبارك وتعالى بهذا الدين، كما قال لعبده ورسوله موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وهذه الأمة عندما تستقيم على منهج الله يكون الإسلام قد صنعها، وتكون أمة ربانية سماوية.

التفكير في المصير

التفكير في المصير

شروط الزواج من المرأة الكتابية

شروط الزواج من المرأة الكتابية Q ما هي شروط نكاح الكتابيات؟ A من المعلوم شرعاً أن الله تعالى أباح للمسلمين أن يتزوجوا من الكتابيات، والمراد بالكتابيات: اليهوديات أو النصرانيات، وذلك بشروط: الشرط الأول: أن تكون المرأة الكتابية مؤمنة بدينها، فإن كانت كافرة بدينها -الدين الذي هو موجود الآن- فهي ليست من أهل الكتاب، بل هي ملحدة مشركة، ولا يجوز الزواج منها. الشيء الثاني: أن تكون محصنة، والإحصان في الشرع، يطلق على أمرين، الأول: المرأة المسلمة المتزوجة. الثاني: المرأة العفيفة التي لا تمارس الفاحشة، ولا ترضى بها. والمراد به هنا الثاني، لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] أي: حل لكم. الشرط الثالث: أن يكون الزواج وفقاً لمنهج الإسلام، بأن لا تكون كلمتها في البيت هي العليا، وألا تشترط القوامة، لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، وألا تشترط مخالفة أحكام الإسلام في أبنائها وفي زوجها، كأن تشترط أن يكون الأبناء على دينها أو شيئاً من هذا. إذا كان الأمر كذلك فيجوز الزواج منها.

بقاء الزوجية بعد إسلام الكتابية

بقاء الزوجية بعد إسلام الكتابية Q إن تزوجت الكتابية ثم أسلمت، فهل يبقى الزواج، رغم أن الإسلام حدث بعد اقتناع؟ A إذا تزوجت فأسلمت، فهذا خير على خير.

حكم الزواج من الكتابية التي تابت من الفاحشة

حكم الزواج من الكتابية التي تابت من الفاحشة Q ما حكم الزواج من الأمريكية غير المحصنة، والتي تابت عن الفاحشة؟ A إذا كانت توبة صادقة، لا لأجل الزواج، فلا بأس بذلك.

الأمور التي تجب على الزوجة الكتابية

الأمور التي تجب على الزوجة الكتابية Q ما هي الأمور الإسلامية التي يجب على الرجل المسلم أن يلزم بها زوجته الكتابية، وخصوصاً إذا كانت تعيش في مجتمع مسلم؟ A أولاً: الإحصان. أي: لا تمارس الفاحشة، وهذه قضية لا يمكن التساهل فيها. ثانياً: ألا تظهر دينها أمام أبنائها وألا تعلمهم دينها، وألا تظهر شعارها، وألا تضع الصليب في صدر البيت، وهذا كله مرفوض في الإسلام.

حكم الزواج من أجل الإقامة

حكم الزواج من أجل الإقامة Q هل يجوز الزواج من أجل الإقامة، وهو لا يعتبر زواجاً؛ لأنه يتم دفع فلوس للبنت فقط بدون دخول، ولكن عند المحكمة يجب على الشخص أن يُقبِّلها أمام رجل المحكمة؟ A أقول: اتركوا القضايا التي فيها شبهات، فهذه من القضايا ومن الأشياء التي توقع المسلمين في مشاكل.

جواز زواج الرجل بالكتابية

جواز زواج الرجل بالكتابية Q رجل يريد الزواج، ولكن رفض أهله لسبب من الأسباب، فهل هذا يبيح له الزواج من فتاة أمريكية؟ A ليس للوالدين سلطان على ابنهما في أن يتزوج بنت فلان، فالزواج يتم بمجرد إرادته، والمرأة لا بد لها من الولي، وسواء تزوج من بلده أو من أمريكية، فالزواج صحيح، ولكن بالشروط التي ذكرتها. وليس معنى هذا أن نحبب أو نرغب في هذا، فـ عمر بن الخطاب كان يمنع المسلمين من الزواج من غير المسلمة، ولما سئل عن ذلك قال: أنا لا أحرم هذا، ولكن أخشى على المسلمين.

جواز التحية بألفاظ ليست من الدين

جواز التحية بألفاظ ليست من الدين Q إذا كان لا يجوز بدء اليهود والنصارى بالتحية، فهل ذلك يشمل ألفاظهم التي ليست من الدين، مثل: (صباح الخير، مساء الخير، مرحباً) وما هو ردنا على من سلم علينا فهم بيده؟ A إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رسائل إلى أهل الكتاب، وكان المسلمون يمرون على أهل الكتاب ويسلمون عليهم بلفظ: (السلام على من اتبع الهدى)، وهذا إذا أردنا لفظ السلام، وأما التحية بـ (مرحباً، وصباح الخير، ومساء الخير) فإن شاء الله لا بأس في هذا. ولذا لا يمكن للإنسان أن يعيش في مجتمع فيكون أصم أبكم. لا ينطق بكلمة واحدة. والأمر يختلف عندما نعيش في دولة الإسلام، وأما في هذه المجتمعات التي لا نستطيع أن ننغلق على أنفسنا، فإنه وإن كان لا بد من السلام فليكن بصيغة: (السلام على من اتبع الهدى)، لا بتحية الإسلام: (السلام عليكم ورحمة الله).

حرمة حضور المناسبات في الكنيسة

حرمة حضور المناسبات في الكنيسة Q ما حكم تلبية دعوة أحد النصارى إلى حفل زواج في الكنيسة، مع العلم أنه لا يكون هناك أي محرمات من شرب الخمور وما شابهها؟ A لا يجوز حضور ذلك، لأنك ستدخل الكنيسة وأمامك الصليب، ولهم طريقة خاصة في احتفالاتهم، لكن تهنئته أو الذهاب إلى بيته لزيارته أو تقديم هدية له بمناسبة زواجه فلا بأس في ذلك، وكذلك الاحتفال الديني المعروف عندهم لا يجوز حضوره.

حكم حضور الأماكن التي يشرب فيها الخمر

حكم حضور الأماكن التي يُشرب فيها الخمر Q ما حكم حضور اجتماعات عمل أو مؤتمرات يكون فيها شرب للخمر، مع العلم أننا لا نشاركهم في شرب الخمور؟ سؤال آخر: هل يجوز أن نتناول الطعام على مائدة والخمر تشرب على المائدة المجاورة؟ A أما بالنسبة للسؤال الأول: فإنه لا يجوز أن نحضر مؤتمرات فيها شرب للخمور. وأما بالنسبة للسؤال الآخر: فإن كان يحدث شيء من ذلك فإن هذا له حكم الاستثناء، وذلك أن الذي يريد أن يأكل ولا يجد مكاناً غير هذه الأمكنة التي يدار عليها الخمر فلا حرج، لكن إن استطاع أن يتجنب هذه الأماكن التي يدار عليها الخمر فذلك أفضل من أن يحضر هذه الأماكن، ولو أنه اشترى طعاماً وأكله في السيارة -وهو منطلق- كان ذلك أولى وأفضل. ويُعمل في هذه البلاد التي لا يطبق فيها الإسلام، ولا تعرف رائحة الإسلام بقاعدة: اتق الله ما استطعت. وهذه القاعدة العظيمة من القواعد التي نحتاجها في الطعام وفي الشراب وفي اللباس وفي مخالطة الناس وغيرها، ولا يمكن أن نفتي الناس كلهم بفتوى واحدة، فالإنسان الذي لا يجد مكاناً غير هذه الأماكن، فإننا لا نستطيع أن نقول له: لا تأكل في هذه الأماكن، بينما إنسان آخر يستطيع أن يأكل في غير هذه الأماكن، فإننا نقول له: لا تأكل في هذه الأماكن. فالفتوى تختلف من إنسان لآخر. فالإنسان الذي يحضر هذه المؤتمرات التي فيها شرب للخمور، إذا كان هناك ضرورة ولا يمكن أن يسير عمله إلا بحضور هذا المؤتمر، فهذا نقول له: إن حضرت فتجنب الوقت الذي يشربون فيه الخمر قدر الإمكان إذا كان حضورك غير ضروري.

حكم التهرب من الضرائب

حكم التهرب من الضرائب Q ما حكم التهرب من الضرائب؟ A إن الأمور التي يعتبرها الإسلام حقاً لا يجوز التهرب منها، وذلك مثل الخدمات التي يؤديها إليك المجتمع، كالتلفون، والكهرباء، والمواصلات وغيرها، وأما إذا كان الأمر يعتبره الإسلام باطلاً، وذلك مثل الضريبة، فإن استطاع الإنسان أن يتهرب منها دون أن يمسه ضرر فلا حرج في ذلك، بل حتى في الديار الإسلامية، إذا كان مفروضاً على الإنسان شيء من الظلم فله التهرب منه، وليس عليه إثم. والدليل على عدم جواز التهرب من الأمور التي يعتبرها الإسلام حقاً: أمره صلى الله عليه وسلم -في الهجرة إلى المدينة- لابن عمه علي بن أبي طالب برد الودائع التي كانت عنده لقريش، وهذا خلق إسلامي راق، وقد عُرف به المسلمون على مدار التاريخ في أي بقعة وجدوا، وأما بأن يعرف المسلمون بأنهم لصوص، وليس عندهم أخلاق، فإن هذا لم يتصف به المسلمون في الماضي أبداً.

حكم الغش في التعليم

حكم الغش في التعليم Q أنا طالب أدرس الطيران في بلدي، وقد أرسلت للدراسة في الخارج، وهذه الدراسة قائمة على الغش، فما من واحد منا يدخل صالة الاختبار إلا ومعه مفتاح الإجابات، والمسئولون على شبه علم بذلك، وعندما نحدثهم في هذا الأمر يقولون: نحن لا يهمنا كيف حصلت على الشهادة سواء بالغش أم اشتريتها، وإنما المهم أن ترجع إلى بلدك بالشهادة، وهناك سنبدأ معكم دراسة جديدة. والسؤال هو: ما حكم المال الذي يُنفق علينا هنا، وما حكم المرتب الذي سنستلمه هناك، علماً أننا لن نبدأ العمل في بلادنا إلا بعد تأهيل كامل؟ A هذه علامة من علامات سقوطنا نحن المسلمين، فندفع المال ونضيع الأوقات، ثم النتيجة ورقة تؤخذ من هذه البلاد الغربية. وأنا في الحقيقة لا أوافق على هذه الصورة، ولا أظن إنساناً يستريح قلبه لمثل هذه الصورة، وارجع إلى نفسك، ستجد نفسك غير راض عن هذا، وتستطيع أن تكون شيئاً آخر غير هؤلاء، إذا أردت أن تدرس، وأن تنبغ، وأن تكون على المستوى الذي تتطلبه منك الدراسة، وتستطيع أن تأخذ الشهادة بجدك وتعبك.

حكم تعاطي القات

حكم تعاطي القات Q ما حكم تعاطي الأعشاب الخضراء التي تسمى بـ (القات)؟ وسؤال آخر: وما حكم نوع آخر من أنواع المخدرات اسمه حبوب الجمرى، يستخدم للتنويم؟ A إن كل ما هو مخدر أو مفتر قد جاءت النصوص بتحريمه، كالخمر وما يشبهه مما يحدث نوعاً من التخدير أو التفتير، لما جاء في السنة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)، فإذا كانت المادة حبوباً أو شراباً أو طعاماً أو حقناً وتعطي هذا الأثر فهي محرمة في ديننا، والقات واحدة من هذه المواد التي ابتلي بها المسلمون في بعض أنحاء العالم الإسلامي وخاصة في اليمن. وأما المخدر الذي يعطى في العمليات الجراحية، أو لأجل العلاج أو الدواء ولا يقوم مقام هذا الدواء شيء آخر، فإن ذلك للضرورة، ولا تدخل في هذا الباب؛ لأن الإنسان السليم لا يأخذها للهدف الذي يأخذها متعاطي الخمر أو المخدرات.

حكم اللحوم في بلاد أهل الكتاب بالنسبة للمسلمين

حكم اللحوم في بلاد أهل الكتاب بالنسبة للمسلمين Q ما حكم الشرع في اللحوم والدواجن المذبوحة بالنسبة للمسلمين المقيمين في أمريكا، وإذا كانت حراماً فما هو البديل؟ A إن الله تعالى أباح لنا ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذلك بشروط: الشرط الأول: أن يكون الذابح كتابياً، فإن كان لا يؤمن بدينه فهي ليست من طعام الذين أوتوا الكتاب، قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]. الشرط الثاني: أن تكون مذبوحة، فإن لم تكن مذبوحة فلا يحل أكلها، والذبح قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل).

بيان من هم أهل الكتاب

بيان من هم أهل الكتاب Q هل هؤلاء من أهل الكتاب حتى نأكل ذبائحهم؟ A نعم، هم من أهل الكتاب، وليس معنى: عيسى ابن الله، والله ثالث ثلاثة، أنهم ليسوا بأهل كتاب، بل هم أهل كتاب ومشركون لقول الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1]، وقد سماهم الله أهل كتاب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون بهذه المقالة، ولكنهم يتميزون عن الكفار الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بمميزات منها: أنهم يعرفون شيئاً اسمه (الله)، ولهم شريعة، ولهم كتاب، ويعرفون شيئاً من الحلال والحرام، ولهم شيء من التعبد وإن كان مخلوطاً بباطل كثير، وهذا بعكس الشيوعيين والوثنيين الذين لا يؤمنون بشيء من هذا مطلقاً.

حكم الشرع في حالة وجود بديل لمحل يبيع اللحم الحلال

حكم الشرع في حالة وجود بديل لمحل يبيع اللحم الحلال Q ما الحكم في حالة وجود بديل لمحل يبيع اللحم الحلال، لكن بسعر مرتفع؟ A إذا وجد الحلال ولو كان سعره مرتفعاً قليلاً فلا ينبغي للمسلم أن يتوجه إلى غيره.

حكم سؤال الرجل عن طعامه

حكم سؤال الرجل عن طعامه Q إذا كنت مستضافاً عند صديق لا يصلي، فهل تسأله عن الأكل الذي على المائدة، هل هو حلال أم لا؟ A إذا كان الرجل ممن يتحرى في طعامه فإننا لا نسأله، وكذلك الحال لمن هم في ديارنا، أو أن هذا الرجل تقي وورع ولا يأتي بالأمور إلا من أبوابها فإننا لا نسأله، وأما إذا كان كما ذكر السائل: لا يصلي ولا يصوم ولا يعرف شيئاً فإنه لابد من التحري نوعاً ما.

حكم المسح على الخفين والجوربين والحذاء

حكم المسح على الخفين والجوربين والحذاء Q ما حكم المسح على الخفين أو الحذاء أو الجوارب العادية؟ A إن المسح على الخفين من السنن الثابتة عند أهل السنة والجماعة، فإذا توضأ المسلم ثم لبس الخفين -و (الخف): حذاء أسفله من الجلد، وأعلاه من الصوف، وهو شبيه بالجزمة المعروفة اليوم ولكن أعلاه من الصوف- أو لبس الجوربين فيجوز له أن يمسح يوم وليلة إذا كان مقيماً، وابتداء المسح يكون من أول مسحة يمسحها لا من حين يلبس الخف أو الجورب، فلو أنه بدأ اللبس في الصباح وبقي على الطهارة إلى المغرب، ثم ابتدأ المسح من صلاة المغرب، فإنه يمسح يوماً وليلة إذا كان مقيماً، واليوم والليلة فيها خمس صلوات، فيمسح خمس صلوات: المغرب، والعشاء، والفجر، والظهر، والعصر، فإذا توضأ بعد ذلك فينبغي عليه أن يخلع خفيه أو جوربيه. والمسافر يجوز له المسح لمدة ثلاثة أيام بلياليهن. والحذاء إذا كان إلى الكعبين، أي: ساتراً للكعبين فيجوز له أن يمسح عليه. وأما الجوارب العادية -التي نلبسها- فيجوز المسح عليها، إلا إذا كان رقيقاً جداً، كالشبيه بجوارب النساء فإنه لا يعتبر، وأما التي لا يُرى لون الجلد من تحتها، وفيها شيء من السماكة، فهذه لا بأس أن يمسح عليها.

شروط المسح على الخفين

شروط المسح على الخفين Q ما شروط المسح على الخفين؟ A الشرط الأول: أن يكونا ساترين للقدمين. الشرط الثاني: ألا يكونا رقيقين جداً، وهذا أهم شرط في المسح على الخفين. الشرط الثالث: أن يلبسهما على طهارة كاملة.

حكم الصلاة بالنعلين

حكم الصلاة بالنعلين Q ما حكم الصلاة بالنعلين؟ A لقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه، وكان يقول للمسلمين: صلوا في نعالكم، خالفوا اليهود، فاليهود لا يصلون في نعالهم أبداً. وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه منتعلاً، ثم خلعهما بعد دخوله في الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لكم خلعتكم نعالكم؟ قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا، قال: لقد جاءني جبريل فأخبرني أن في نعليّ أذى، فإذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر في خفيه -يعني: في أسفل نعليه- فإن وجد فيهما أذى فليحكهما بالتراب) أي: يمسحهما ويدلكهما بالأرض حتى يزول الأذى منهما، ثم ليصل بهما. ولا يشترط تطهيرهما بالماء، وإنما يكفي التراب لذلك كما في الحديث السابق؛ لكن الآن والمساجد مفروشة بالسجاد، فلو أذن للناس أن يدخلوا بنعالهم المساجد، ويصلوا على السجاد، فإنه بعد يوم أو يومين لا نستطيع أن نصلي في هذا المكان، بينما كانت المساجد في الماضي مفروشة بالحصير أو الرمال فكان يمكن الصلاة فيها، لذلك كان لكل قاعدة استثناءات، والصلاة بالنعلين ليس أمراً واجباً، وإنما هي من السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان واجباً لبطلت صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما خلعوا نعالهم في الصلاة.

أحكام المسافر

أحكام المسافر Q ما هي أقصى مدة للقصر والجمع في السفر، وإذا كان الشخص يعلم أنه سوف يمكث خمسة أيام فقط فهل يقصر؟ وقد سمعت أن أحد المشايخ أفتى بأن للطالب إذا ابتعث أن يقصر ويجمع طيلة مدة البعثة ولم يفصل، رغم معرفة الطالب المبتعث بالمدة التي سيقضيها، والمشكلة أن هناك من يمتنع عن الحضور إلى صلاة الجمعة، وقد سمعت أن المسافر إذا صلى الجمعة في مسجد وهو في طريق سفره فإنه لا يجوز له أن يجمع مع العصر، فما هو السبب في ذلك؟ وهل من دليل على ذلك؟ A إن من الأمور التي يسرها الإسلام لنا: أننا إذا كنا في سفر فيجوز لنا أن نجمع بين صلاة الظهر وصلاة العصر، كما يجوز لنا أن نجمع بين صلاة المغرب وصلاة العشاء، وأيضاً من هدي الإسلام أن نقصر الصلاة الرباعية في السفر، فتصلى ركعتين. إذاً: ما هي المسافة التي يقصر فيها؟ وما عدد الأيام التي يقصر فيها؟ و A أن العلماء قد اختلفوا في هذا اختلافاً كبيراً، فبعضهم يجعل المسافة حوالي عشرة كيلو، وبعضهم يحددها بثمانين كيلو، وبعضهم بخمسة وثمانين كيلو. والأيام التي يقصر فيها قد يحددونها بثلاثة وبخمسة وبسبعة، والمسألة فيها خلاف. ومن المعلوم أن المسافر له وضع معروف، والمقيم له وضع معروف، والنص القرآني لم يحدد أياماً ولا مسافة، فالذي يقصر هو المسافر لقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]. وهنا قد يأتي سؤال، وهو: هل يستطيع أحدٌ أن يعرف المسافر من غير المسافر؟ وهل يستطيع أحد أن يقول: إن جلست ثلاثة أيام فأنت مسافر، وإن مكثت خمسة أيام فأنت لست بمسافر؟ أو يقول: أنت جئت من المدينة على بعد خمسين كيلو فأنت مسافر، وإن كانت المسافة أربعين فلست بمسافر، فهل هذا طريق لتعرف المسافر ممن ليس بالمسافر؟ إن المسافر له وضعية مخصوصة، فأحياناً قد يجلس الإنسان خمسة أيام أو ستة أيام أو سبعة أيام وله حكم المسافر، وأحياناً قد يجلس يوماً وليس له حكم المسافر، وأحياناً قد يجلس عشرة أيام وليس له حكم المسافر، وكذلك المقيم له وضعية مخصوصة يعرف بها. وعلى كل فالمسافر له مواصفات، فإن كان مسافراً، يعني: أنه غير مستقر في بلد، ولا مقيم فيها، ولا استأجر بيتاً، وإنما جاء يقضي عملاً له قد يستغرق خمسة أيام أو سبعة أيام، وقد يجلس عشرين يوماً أو خمسة وعشرين يوماً وهو في أعمال متواصلة وما استقر ولا اطمأن به الحال. وأما بالنسبة لهذه الفتوى التي أفتي بها أخ جاء إلى أمريكا، بأن له القصر والجمع طيلة مدة البعثة، رغم معرفة الطالب المبتعث بالمدة التي سيقضيها، فأقول: هل يعقل أن إنساناً اشترى بيتاً أو استأجر بيتاً ومكث سنوات عديدة يدرس، ثم يصلي الصلاة قصراً وجمعاً بحجة أنه مسافر! إن هذا الكلام لو عرضناه على كل العقلاء في الدنيا صغاراً كانوا أو كباراً، رجالاً أو نساء لردوه، ثم نأتي إلى علماء اللغة وعلماء العربية وعلماء الشريعة فلا نجد أحداً يقول بأنه مسافر، بل لو سألنا إنساناً غير مسلم لأجاب بأنه غير مسافر. فالإنسان الذي جاء وأقام في بلد ما، وأصبح له وضع فيها، وليس عنده نية أن يغادرها لا في شهرين ولا ثلاثة ولا خمسة ولا عشرة ولا سنة ولا سنتين ولا أربع سنين ولا خمس سنين لا نقول عنه إن هذا مسافر!! فالسفر معروف والإقامة معروفة، فالمسافر له طبيعة، وله حالة يمر بها، ولا يحدد طبيعته باليوم والاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة والستة والسبعة، وإنما يحدد بحالته هو، فلو أن واحداً سافر وجلس أسبوعين، ولم يكن عنده نية إقامة، وحالته وظروفه التي تحيط به تدل على أنه ليس بمقيم، وهناك إنسان نوى الإقامة، وطالت إقامته، فإنه لا شك سيتخذ العدة للإقامة ويهيئ نفسه للإقامة. والخلاصة: أن القضية لا تحدد بأيام، وإنما تحدد بحالة: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]. وأما بالنسبة للمسافة، فإن هناك مسافة معروفة عند كل العقلاء أنها ليست سفراً، وهناك مسافة معروفة عند كل الناس أنها سفر، فلو أن إنساناً خرج من حي إلى حي مسافة خمسة كيلو أو سبعة كيلو أو ثمانية كيلو فإن هذا لا يعد سفراً عند العقلاء، وخاصة في عصر السيارات والمواصلات السريعة. وإنسان آخر يقطع مسافة ثمانين كيلو أو تسعين كيلو أو مائة كيلو، فإن هذا يعد سفراً عند الناس. ثم تبقى هناك مسافات تختلف فيها أنظار الناس، كمسافة ثلاثين كيلو أو أربعين كيلو، فهل تعد سفراً أو ليست بسفر؟ أنا أرى الآن في عصر السيارات والمواصلات السريعة أن العشرين كيلو والخمسة وعشرين كيلو والثلاثين كيلو والخمسة والثلاثين كيلو والأربعين كيلو لا تعد سفراً، لأن الإنسان يقطعها في دقائق وإذا هو في مكان على بعد أربعين كيلو، ثم في دقائق يرجع إلى بيته. لكن عندما تطول المسافة فتصل إلى حدود الستين والخمسة والستين والسبعين فممكن عند ذلك أن نعتبرها سفراً، لأن هناك نقاطاً وسطى لا بد أن تختلف فيها الأنظار، ونقاطاً تتفق فيها الأنظار. وأما بالنسبة لأقصى مدة للقصر، فهل هي فقط ثلاثة أيام أم لا؟ أظن المسألة واضحة في أنه لا يحدد بالأيام، فلا نستطيع أن نقول: إن أقصى مدة للقصر والجمع كذا وكذا. نعم عبد الله بن عمر جلس ستة أشهر يقصر الصلاة، لأنه كان في كل يوم يتوقع الرحيل، لكن بسبب الثلوج التي أدت إلى قطع الطريق تأخر عن السفر، فهو كان غير مستقر وهو على سفر، فلا نستطيع أن نحدد ذلك بأيام. وأما بالنسبة للمسافر إذا صلى الجمعة في مسجد وهو في طريق سفره، فله أن يجمع معها العصر، ومن قال إنه لا يجوز له أن يجمع معها العصر فقد قال قولاً غير صحيح.

نظرة حول الجماعات

نظرة حول الجماعات Q هناك الآن حركات إسلامية متعددة في الساحة، وكلها تدعي الحق، فإذا أردت الانتماء إلى جماعة إسلامية فكيف أختار هذه الجماعة، وما هي أحسن الجماعات في رأيكم؟ A إن هناك قاعدة وضعها الله عز وجل في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وآمل أن يستشعر كل مسلم معنى هذه الآية. وقبل كل شيء هذا المسلم الذي يقول الشهادتين، ويصلي ويصوم، له حقوق على المسلمين منها: محبته ومحبة الخير له، وكراهة أن يُنال بسوء وأذى، وهذه قاعدة كبيرة من القواعد الإسلامية التي غفل عنها المسلمون اليوم. إذاً فنحن أمة واحدة، وجماعة واحدة، والإطار الذي يجمعنا هو الإسلام، والواجب أن نسلم وجهنا لله تعالى، وأن نلتزم بالمنهج الذي هو الإسلام، فالإسلام -كما نقول- منهج حياة. والمشكلة أن الخلافة الإسلامية قد ضاعت، وأيقن المسلمون أنه لا يمكن إعادة الخلافة إلا من خلال جماعة، وتعددت وجهات النظر، كيف نحيي المسلمين؟ وكيف نقيم لهم دولة؟ ولو أن كل فرد اشتغل بمفرده لإعادة المسلمين إلى جادة الحق، ولإقامة دولة الإسلام لكان ذلك أمراً صعباً. وعلى هذا لابد أن تضع يدك في أيدي المسلمين، ولو أننا اتفقنا على شروط ينبغي أن تتوافر في الجماعة المسلمة، فأنا لا يضيرني بعد ذلك في أي الجماعة تكون، لكن ينبغي أن تتوفر الشروط، وجمع الأمة المسلمة على جماعة واحدة هو الواجب، لكن لا نستطيع ذلك، فالناس لهم مشارب ولهم اتجاهات، ولا أستطيع أن أقول: إن الجماعة الفلانية على الحق وغيرها على الباطل، لكن أنا لا أرضى أن يكون الإنسان في جماعة همها تحطيم الآخرين، وإيصال الأذى لأي مسلم في جماعة أخرى، فمثل هذه الجماعة أعتبرها جماعة فيها انحراف. وأنا عندما أكون في جماعة فإنه من واجبي أن أحب كل مسلم سواء كان في جماعة أو ليس في جماعة، وأن أحب له الخير، وأن أحرص عليه.

نحو قائد رباني

نحو قائد رباني إننا على يقين بأن النصر قادم، وأن العزة للإسلام وأهله، وأن الطاغي مهما استمر في طغيانه وبطشه فلا بد له من يوم يندم فيه أشد الندم على ظلمه وطغيانه، ولكن لا تعود العزة للإسلام إلا بالجهاد لأعداء هذا الدين.

جراحات المسلمين، وبغي الكافرين

جراحات المسلمين، وبغي الكافرين إن الحمد لله، نحمده ونستعنيه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. أما بعد: فكثير ما يتفكر المسلم في هذه الأيام في أحواله وفي أحوال المسلمين من حوله، فيا ترى لو قدر للمسلمين أن يقوم فيهم ابن الخطاب رضي الله عنه من جديد، أو يأتي صلاح الدين من جديد، أيستطيع أن يبعث الأمة من رقدتها؟ أيستطيع أن يقوّم اعوجاجها؟ أيستطيع أن يدفعها إلى الأمام لتحمل الراية من جديد؟ إنها أسئلة تتوارد على فكر الإنسان المسلم، وهو يرى ما يرى. إننا نرى في هذا العصر أعداء الإسلام قد امتلكوا أسباب القوة، هؤلاء الذين أذلهم المسلمون في الماضي عندما كانوا مقيمين في ديار المسلمين وأرادوها عوجاً، فعلمهم المسلمون كيف يكون الرجال، لقد كانوا يسكنون المدينة وأطراف الجزيرة العربية فكانت ضربات المسلمين ضربات موجعة، فمرة يخرجون على دوابهم لا يأخذون معهم إلا ما تحمل ظهور الدواب، ومرة يحكم فيهم ابن الإسلام بأن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم ونساؤهم، وأن تستلب ديارهم وأموالهم، ومرة يغير عليهم جيش الإسلام وهم خارجون إلى الحقول، كما وقع في خيبر، فيتنادون: محمد والخميس، أي: والجيش العظيم؛ لما رأوا من عظم جيش المسلمين، وما زال يحيط بهم الجيش الإسلامي حتى استسلموا، ثم أخرجهم الفاروق في خلافته، وطهر الجزيرة من رجسهم وقذرهم. إن أعداء الإسلام اليوم يمتلكون قوة بغوا بها، فبالأمس تغير طائراتهم على ديار المسلمين، لقد أغارت على النساء والأطفال والرجال وعلى البيوت والمساجد والمدارس، وكأنما تغير على ثكنات عسكرية، وقد كانت تلقي حملوتها من القنابل والقذائف فتدمر وتقتل نساءً وأطفالاً ورجالاً لا يملكون سلاحاً. ويمر الحدث وكأن المسلمين لا يسمعون، وكنت أود أن أجعل هذه الخطبة حديثاً عن مشكلة اجتماعية، كما طلب مني بعض الإخوة في هذا المسجد، فإنهم قالوا: أنت نسيت مشكلاتنا، مشاكل نسائنا وأبنائنا، فكنت أتمنى أن أتحدث عن ذلك، ولكن تحت المشاهد التي يراها المسلم تنزل بأهل الإسلام لا يستطيع المسلم أن يترك الحديث عنها، فماذا يقول للناس؟ هل يحدثهم عن مشكلة زوجة ومشكلة طفل وأطفال المسلمين يقتلون، والمسلمون يذبحون، والمساجد تدمر فوق رءوس المصلين، والنساء يقتلن بقنابل العدو، والعدو يدخل المساجد بالسلاح، وكلابهم تنهش المسلمين، ولا يملك المسلمون أن يردوا عدوانهم، وأسير نصراني كافر تهتز له أمريكا، وتطلقه دولة تسمى بالإسلام بعد أن تسمح له بأن يقيم حفلة في أعياد الميلاد وهو أسير؟! وبالأمس طائرات هذا الأسير كانت تقذف حمماً فوق رءوسنا، واليوم يذهب معززاً مكرماً! في الوقت الذي تدك طائرات أبناء القردة والخنازير ديار المسلمين، ماذا يفعل قائد لو بعث من جديد؟ ماذا يفعل بالمسلمين؟ ليست المشكلة مشكلة فرد، وإنما هي مشكلة نفوس ينبغي أن تتربى على الإسلام، إن القائد يفعل ما يفعل إذا كان وراءه رجال يعرفون أنفسهم، ويعرفون دينهم، ويعرفون طريقهم، فالطريق أن يبعث الإسلام من جديد في نفوس أهله، فيصلح هذه النفوس، ويغسل منها أدرانها، ويعيد إليها صفاءها، ويصلها بربها تبارك وتعالى.

تفاؤل في زمن اليأس

تفاؤل في زمن اليأس إن ما نسمعه اليوم من الذين يتصدون للعمل الإسلامي، بل والعمل عامة من طرح جديد لم نكن نسمعه من قبل، إنما هو بوادر خير، ففي الأحداث الأخيرة في الأسبوع الماضي كان يتردد في لبنان كلمات لم نكن نسمعها من قبل: خيبر خيبر يا يهود، دين محمد سوف يعود، أو كلمات قريبة من هذا. تذكروا معي فتن (1967م) عندما دخل اليهود القدس، فقد سمعنا من إذاعات دول عربية وغير عربية، وقرأنا في الصحف أن اليهود كانوا ينشدون وهم يدخلون القدس الشريف مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا لثارات خيبر! فهم يقولون: محمد مات وخلف بنات. كانوا يعرفون القضية ويعرفون الماضي، ويعرفون أنها ليست بينهم وبين القومية العربية، وليست بينهم وبين الاشتراكيين، وليست بينهم وبين الذين يسمون أنفسهم بالوطنيين، إنما هي بينهم وبين الإسلام، فلها جذور عميقة في خيبر، وفي قريظة، وفي النضير، وفي غير ذلك من الوقائع التي خاضها المسلمون، فهم يعلمون أبعاد المعركة ويعلمون أبعاد القضية، ولكننا لم نكن نعلم أو كثير منا لم يكن يعلم أبعاد القضية وجذورها وخطورتها، كثير منا لم يكن يعلم هذا، وهناك من يقول: سنعلنها قومية، ونعلنها اشتراكية، ونعلنها وطنية، وغير ذلك من المبادئ.

من المؤمنين رجال

من المؤمنين رجال إن الذين أسقطوا طاغية مصر الذي زار إسرائيل كتبوا بدمائهم عندما كانوا يحاكمون: أيها اليهود! المسلمون قادمون، أيها اليهود المسلمون قادمون. وهؤلاء أيضاً كانوا يعلمون جذور القضية، ويعلمون أن معركتهم إنما هي مع اليهود، وأن الذين علوا على ظهور الطيبين ويكتمون أنفاس الصالحين ويضعونهم في السجون إنما هم عملاء اليهود، وهي تلك الأيدي التي تصافح اليهود من ناحية وتضرب بالخنجر المسلمين من ناحية أخرى، والحمد لله لقد انبعثت في زماننا صيحات ما كنا نسمعها، هذه الصيحات تعبر عن أمل يراود المسلمين في عودتهم إلى أصالتهم، وعودتهم إلى إسلامهم، وأن يطرحوا عنهم شعارات الزيغ والدجل والكفر التي رفعها أناس من السياسيين والمفكرين، فحرفوا المسيرة زمناً طويلاً، وأبعدوا المسلمين عن الحق المكتوم، فضاعت سنوات طويلة في عبث لا طائل تحته. فلا بد أن يعود المسلمون إلى أصالتهم وأن يكون شعارهم الإسلام، وأن يعرفوا عدوهم، وأن يوجهوا حرابهم نحو هذا العدو، لقد كان الذين يوجهون الضربات للعدو في الجنوب اللبناني فئة من الشباب المسلم، وما كانت يهود تدري أن الذي يقوم بهذه العمليات الجريئة هم فئة من الشباب المسلم حتى أمسكت بطرف الخيط منذ أيام قليلة، فجن جنونها، وإذا بها تقوم بحملة اعتقالات واسعة لكل التيار الإسلامي بما فيهم أئمة المساجد والخطباء، والشباب المسلم المتدين، وجن جنونها؛ كيف هذا؟ فقد مضت سنة كاملة وهي لا تدري من الذي يفعل بها الأفاعيل، عندما يتقدم الشباب المسلم الصفوف يكون أميناً على قضيته، فلا يبيعها، ولا يتركها، ولا يهادن، ولا يجامل، ولا يفعل كما فعل الكثير من الذين تصدوا للقضية فباعوها بثمن بخس! يريدون أن يقيموا دولة على شبر من الأرض! وترى بعض من يدعي الإسلام يصافح أبناء القردة والخنازير ويريد أن يبيع الأرض المباركة بثمن بخس تافه لا يساوي ذرة من الأرض المقدسة التي أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم إليها، فما كان ولا يكون للمسلم أن يساوم على أرض هي للمسلمين، أو في أمر مقدس عندهم، وانظروا كيف قبل آخر خليفة للمسلمين أن ينزل عن عرشه وأن يترك ملكه دون أن يبيع فلسطين؛ لأن فلسطين لا يساوم عليها، وليست فلسطين فحسب، بل كل شبر من بلاد المسلمين لا يستطيع المسلم أن يساوم عليها، وإن قطعت عنقه، أو زهقت روحه، فإنه سيذهب إلى الله تبارك وتعالى فيجازيه على عمله أتم الجزاء، وذلك خير له من أن يبيع أو يساوم أو يهادن حين يجب عليه الدفاع عن دينه أو أرضه أو عرضه، فذلك ليس بمنطق مسلمٍ أبداً.

الحذر من الدخلاء!

الحذر من الدُخلاء! لقد قلت كثيراً: إن الذين يتصدون للقضية في مجلس الأمن، وفي هيئة الأمم، وفي ساحات القتال، كثير منهم -إن لم يكونوا كلهم- ليسوا بأمناء على القضية، إن الأمناء على القضية هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه يتقونه تبارك وتعالى، ويعلمون أن ما عند الله خير وأبقى، وهم الذين يقدمون أرواحهم لربهم تبارك وتعالى. لقد منع هؤلاء من الجهاد ومنعوا من تصدر الصفوف من ناحية أخرى، وامتلأت بهم السجون في بلاد المسلمين، فتمنعهم دولهم من أن يحاربوا اليهود، وأن يزلزلوا الدولة التي أقامتها اليهود، ولكن ذلك لن يطول، فعندما يحصر السيل تجتمع السيول فتكثر، ولا بد أن تتحطم السدود مهما كانت قوية. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، استغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخير قادم بعون الله وإرادته التي لا يقف أمامها شيء

الخير قادم بعون الله وإرادته التي لا يقف أمامها شيء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله، وبعد: فإن هذا الذي نشاهده من عودة الإسلام إلى النفوس سينشىء أجيالاً، وينشئ رجالاً، وينشئ قادة، فإذا كثر الغرس الطيب كان من بين الغرس الطيب غراس مثمرة معطاءة، وكان من هذا الثمر الطيب ثمار تسر الناظرين. فمن هذه الأجيال يتخرج العلماء، ويتخرج القادة، ويتخرج رجال الفكر، ويكون في ديار المسلمين خير كثير، وإنما الخطر كل الخطر أن تكون الأرض جرداء ليس فيها نبتة ولا شجرة، وأما إذا ما كانت الأرض خصبة ونزل عليها المطر، وتشققت بالنبات، ثم ظهر غرسها فعند ذلك نؤمل خيراً كثيراً، وعند ذلك يحقق الله تبارك وتعالى لعباده خيراً كثيراً، وهذه سنة الله في هذا الدين، فتجتمع على أهله الأمم، وتوجه إليه المؤامرات، ولكن ما بالكم بمعركة يدير دفتها رب العالمين، مالك الملك القادر على كل شيء، القهار الغالب الذي له ملك السماوات والأرض، والذي له جنود السماوات والأرض، فيا ليت شعري ماذا يملك العباد؟!! إن العباد لا يستطيعون شيئاً، وانظروا كيف عانت الدولة العظمى منذ أيام من لفحة برد أصابها بها رب العزة، ولو زادت وطالت قليلاً لكلفت هذه الدولة تكاليف رهيبة، إن لله جنوداً لا نعرفهم، والبرد واحد من هذه الجنود، والحر واحد من هذه الجنود، فهو سبحانه قادر أن يزلزل العباد، وأن يقصف بهم من فوقهم، وأن يميد بهم الأرض من تحتهم، إنه قادر على أن يرسل عليهم ما يشاء من العذاب فإذا بهم لا يستطيعون شيئاً. إن الله تبارك وتعالى يريد من أوليائه وأحبابه والذين ينتسبون إليه أن يجاهدوا في سبيله، فينصر الله تبارك وتعالى بهم الدين، ويعز بهم ملة الإسلام، ويعز بهم أنفسهم، ثم يكونوا قادة وسادة، وإلا فالله قوي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وما هذا الخير الذي بدأت الدول الكبرى تخافه، وبدأت يهود توجه أنظارها إليه ما هو إلا شيء من هذه العودة الطيبة إلى الإسلام، والتي تنادي بالإسلام، وما هذا إلا هداية وتوفيق من الله عز وجل، وطوبى للذين يكونون في هذه المرحلة جنوداً ينشرون الإسلام، ويعملون للإسلام، ويؤصلون الإسلام، ويبينون التوحيد، وينشئون أجيالاً، ينشئون رجالاً، ينشئون أمة، فهؤلاء هم الأسس التي يقوم عليها البناء، وأجرهم عند الله تبارك وتعالى كبير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب الدعوات.

احفظ الله يحفظك

احفظ الله يحفظك من أراد التمكين والكرامة والتوفيق، فلا يكون له ذلك إلا بحفظ الله سبحانه وتعالى، الذي بيده مقاليد السماوات والأرضين، ونواصي الخلق كلهم بيده سبحانه، فمن حفظ شرعه ودينه فلا شك ولا ريب أنه سينال كل ما يصبو إليه من مقامات الرفعة والعزة والكمال دنيا وأخرى. أما من لم يحفظ أمانة الملك عنده فلا تسل عن حاله المخزية، لإيثاره العاجل على الآجل، والخزف على التبر.

وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس

وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد بعث الله تبارك وتعالى عبده ورسوله محمداً صلوات الله وسلامه عليه؛ ليكون معلماً للبشرية؛ وليكون هادياً وسراجاً منيراً، فكل معلم لا يستمد علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس بمعلم، وكل ما ثبت من طريق هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وما تعلم منه فهو خير وحق وعدل؛ لأنه المعلم الصادق. ولقد كانت كلمات قليلة تصدر من المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فتغير عقائد فاسدة، وأخلاقاً سيئة، وسلوكاً يجري العمل به بين الناس قد استقر في أذهانهم، وكأنما هو دين وشريعة تؤثر في نفوسهم وفي أولادهم تأثيراً سيئاً، وكان صلى الله عليه وسلم يغني بالكلمات القليلة النفوس، وكان يوجه الأمة بكلمات تصدر منه صلوات الله وسلامه عليه وهو جالس في بيته أو في مسجده أو سائر على فرسه أو على دابته، تعجز إمكانيات البشرية اليوم أن تفعل كما فعلت كلماته عليه الصلاة والسلام. من هذه التعاليم التي نحفظها تلك الكلمات التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس وكان غلاماً صغيراً، وذلك أنه كان يسير مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، أو كما قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. فبالله عليكم من منا لا يحتاج لهذه الوصايا؟! ومن منا لا تنفعه ولا تكون دستوراً لحياته؟! ومنهجاً يسلكه ويسير على ضوئه في عمله وفكره؟ أليس في هذه الوصايا توجيه للأمة كلها؟ فلو اتخذت الأمة من هذه الكلمات منهجاً وسبيلاً فإنها ستفلح. فإذا حفظت الأمة الله تبارك وتعالى في عقيدتها، وفي فكرها، وفي قولها، وفي عملها، وفي سلوكها وآدابها، وفي قوانينها، ألا يحفظها الله تبارك وتعالى؟! ألا يعزها سبحانه؟! ألا يدفع عنها أعداءها؟ ويدفع عنها البلاء؟! بلى والله.

معنى الأمانة الربانية ووجوب حفظها

معنى الأمانة الربانية ووجوب حفظها نحن نؤمن بالله تبارك وتعالى رباً وإلهاً وخالقاً وموجداً قديراً يملك كل شيء، فإذا كنا كما يريد سبحانه، فلنحفظه تبارك وتعالى في أمانته عندنا؛ لأن ربنا عز وجل ائتمننا، أي: أوصل إلينا أمانة، وأمرنا بالمحافظة عليها فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72]، وأمانة الله تبارك وتعالى هي تلك التكاليف التي كلفك الله بها، ومن أجلها أنزل إليك كتاباً وأرسل إليك رسولاً، وأوصل إليك أمانة، والأمانة التي أوصلها إلينا قد تضمنها كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فالعقيدة أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والحج أمانة، وكلمة الحق تبطل بها باطلاً وتحق بها حقاً أمانة، والبعد عن الذنوب والمعاصي واجتناب حدود الله تبارك وتعالى وحفظها أمانة، والعمل بهذا الكتاب أمانة، وتحكيم شريعة الله عز وجل أمانة وأي أمانة. فإذا حفظت أمانة الله فإن الله تبارك وتعالى يحفظك، والأمة إذا حفظت أمانة الله عز وجل فإن الله تبارك وتعالى يحفظها، فالصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه يقول: (احفظ الله يحفظك).

حفظ الله للمؤمنين

حفظ الله للمؤمنين استعرضوا ما شئتم من سيرة المهتدين والصالحين الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى في كتابه، فستجدون أن الله يحفظ الفرد والأسرة والجماعة بحفظها أمانة الله تبارك وتعالى. وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة الذين دخلوا الغار، وجاء السيل فانحدرت بسببه صخرة فأغلقت باب الغار، فكيف نجاهم الله تبارك وتعالى؟ نجاهم؛ لأن كل واحد منهم سأل الله بعمل حفظ الله تبارك وتعالى فيه: فأحدهم: حفظ المال الكثير ورده إلى صاحبه، والآخر: أتته فرصة للزنا سهلة ميسرة، ولكنه خاف الله تبارك وتعالى، والثالث: كان يبر والديه، فكل واحد منهم كان يذكر حالة حفظ فيها أمانة الله عز وجل فيتوسل إلى الله بها، فتنفرج عنهم الصخرة قليلاً، حتى إذا ما أتم الثالث دعوته انزاحت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون، لقد قبروا وهم أحياء، ولا يعلم بهم أحد، أو يعرف مكانهم أحد، إلا رب العزة سبحانه وتعالى. وبمَ أنجى الله نوحاً؟ وكيف أنجاه؟ لقد أهلك الله الظالمين الذين رفضوا أمانة الله ورسالته، ورفضوا أن يحفظوا الله تبارك وتعالى في أمانته، وأصروا أن يعيشوا كما يشتهون وكما يحبون، فدمرهم الله، ونجى نوحاً والذين آمنوا معه، كما قال سبحانه: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]. ولو تأملنا كيف نجى الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام والمؤمنين؟ وكيف أهلك الكافرين؟ وعندما رمي ذو النون في البحر فالتقمه الحوت قال الله عنه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] أي: في بطن الحوت، فاجتمعت عليه ظلمة الحوت ثم ظلمة قعر البحر، ومع هذا ينادي رب العزة تبارك وتعالى من أعماق البحار قائلاً: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فقال الله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]، وليست هذه خصوصية لذي النون عليه السلام وإنما هذا يتحقق لكل مؤمن، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]. هذه هي سنة الله تبارك وتعالى في المؤمنين الذين يستقيمون على طاعته سبحانه، والذين يحفظون حدوده، ويحكمون بأمانته تبارك وتعالى في خلقه. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)، كقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3]. إن سنة الله تبارك وتعالى في عباده أن الإيمان يحدث خيراً في نفس الإنسان، وفي واقعة، ويحدث خيراً له بعد أن يبعثه الله تبارك وتعالى عند أن يجمع الأولين والآخرين.

حفظ الله للمؤمنين في أحلك الظروف

حفظ الله للمؤمنين في أحلك الظروف سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير الصحابة وسير الصالحين من هذه الأمة مليئة بالصور التي حفظهم الله فيها، تأملوا معي هذه في الحقيقة، وانظروا إليها بعيون مفتوحة، وبصائر مدققة، فستجدونها قصة تتكرر في كل حين، وفي كل عصر، بل قد تتكرر في كل يوم يقع فيه ظلم أو فساد في الأرض. إن الله تبارك وتعالى ينجي الصالحين، ويأخذ الظالمين المفسدين، فإذا ما أجلت العقوبة في الدنيا فإن هناك عقوبة أكبر للذين يتمردون على هذا الدين وعلى هذه الشريعة، وانظر كيف أنجى الله الرسول صلى الله عليه وسلم من كيد الكافرين في مكة، وكيف حفظه، وعندما خرج من مكة خرج وليس معه قوة تحميه، وإنما معه رجل واحد أعزل من السلاح، فانظر كيف نصره الله، قال عز وجل: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، أي: لا تحزن يا أبا بكر لما تراه من إحاطة الكافرين بالغار. وانظر كيف نجى الله المؤمنين حي تألبت عليهم القوى الكافرة، واجتمعت كل تلك الأحزاب على العصبة المؤمنة في المدينة المنورة، وأحاطت بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، كما قال عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]، فماذا فعل الله تبارك وتعالى؟ قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]. فنصرهم الله تبارك وتعالى، وأيدهم بجنود من عنده، ومن جنوده الملائكة والريح، فإن الله قد يرسل الملائكة يمد بهم المؤمنين، كما أمدهم بهم في معركة بدر، وفي حنين، وفي غيرهما من المعارك، وهذا ليس مقصوراً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هذه حالة دائمة، كما قال الله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم الآنفة الذكر هي لكل فرد في الأمة، وللأمة جميعاً، فقوله: (احفظ الله يحفظك)، أي: عندما تحفظه في نفسك، ومالك، وأهلك، وفي قولك وفعلك، وعندما تحفظه في الأمانة التي أنزلها إليك، وعندما تفعل ما يأمرك به ابتغاء مثوبته، وتترك ما ينهى عنه خوف عقوبته، وعندما تحفظ الله تبارك وتعالى في كل أمورك فإن الله عز وجل سيحفظك، فوصية الرسول صلى الله عليه وسلم للغلام الصغير من المسلمين هي وصيته للمسلمين جميعاً.

إن تنصروا الله ينصركم

إن تنصروا الله ينصركم يستطيع المسلم أن يستقيم على طاعة الله، والأمة تستطيع أن تستقيم على طاعة الله، فعند أن يراد بالمسلم شراً يقول: يا رب! أنا عبدك، وأنا استقمت على طاعتك، فمكني، وعندما يراد بالأمة شراً فتعمل ما تطيق من الأسباب وتلجأ إلى رب العزة ليدفعه عنها، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما توجه إلى ربه في عريش بدر؛ فإنه توجه يدعو الله تبارك وتعالى، فإن المؤمنين كانوا قلة في مواجهة كثرة الكافرين، فكان يستنصر ربه تبارك وتعالى، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بعد دعائه وهو يردد قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]، وجاء نصر الله تبارك وتعالى، وجاءت ملائكة الرحمن، نصره، كما قال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، ومن التثبيت: ما في: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]. فعندما يدير المعركة رب العزة، وعندما يكون هو النصير والمعين والمؤيد يرتاح قلب المسلم وخاطره، ويعلم أنه يلجأ إلى ركن ركين، ويلجأ إلى من قوته أعظم من قوة البشر، وبمثل هذا يستطيع المسلم أن يواجه واقعاً مريراً، وظلماً شديداً، ويواجه أعداء أشداء يريدون به كل شر، فإذا حفظ الله تبارك وتعالى فلن يبالي بهم جميعاً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

المخرج من الفتن والمحن

المخرج من الفتن والمحن الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه. وبعد: في هذه الأيام التي تشتد فيها الخصومة، ويشتد فيها العداء، وتحتار الأمة في رسم طريقها، ويحتار القواد كيف يفعلون، ويحتار رجال السياسة ماذا يصنعون، تأتي كلمات الرسول صلوات الله وسلامه عليه لتبين المنهج والطريق: (احفظ الله يحفظك). يا أمة الإسلام! لا تشرقي ولا تغربي، وإنما سيري إلى الله تبارك وتعالى، واتبعي منهج الإسلام كما أمرك ربك تبارك وتعالى، فليست شرقية ولا غربية، إنما هي ربانية، إنما هي إسلامية، إنما هو طريق القرآن، إنما هو طريق محمد صلوات الله وسلامه عليه، فاحفظ الله أيها الفرد المسلم وأيتها الأمة المسلمة، فالله تبارك وتعالى يدافع عمن حفظوا أمره وشرعه. لقد التجأنا إلى كل الدول وإلى كل القوى فما أغنت فتيلاً! وما أغنت عنا شيئاً، فإن البلاء يصب علينا منهم صباً، والناس لا يجدون حيلة، وليس هناك إلا الطريق الذي رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو: أن تعود هذه الأمة إلى أصالتها، وأن تعود إلى دينها وكتابها، وأن تعرف كيف تأخذ وكيف تسعى في هذه الحياة، ومن تصادق ومن تعادي، ومن توالي ومن ترفض، عند ذلك يكون لهذه الأمة شأن. أما والحالة هذه فالخطر كبير، والمصاب جلل، فالأمة تتردى، ونحن لا نعرف الطريق، ونتلهى بالقشور في كل يوم، تلهينا الإذاعات والتلفزيونات، وتلهينا الصحف والمجلات، ويلهينا الباحثون والكاتبون والسياسيون، الخطر محدق بنا ونحن نعيش فوق بحر خضم من التفاهات والتناقضات في حياتنا! ومن آخر ما يحزن قلب كل مسلم ما تنشره الصحافة في هذه الأيام: أن كتاب الله تبارك وتعالى أصبحت آياته توطأ وطئاً، وتغلف به النعال في أوروبا، كتاب الله يداس بالأقدام عند النصارى الذين نمد لهم في كل يوم يداً، ونستقبلهم في ديارنا! أصبحت آيات الكتاب أضحوكة، وهذا ليس بالشيء الجديد، فقد تحدثت بهذا منذ سنوات عندما جاء إلي أخ بلباس داخلي تلبسه المرأة على فرجها، وقد كتب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحدثت بهذا من فوق هذا المنبر، وقلت لكم: انظروا يا مسلمون! ورأى هذا أناس كثيرون من الإخوة المصلين، رأوه بأم أعينهم، ثم رجالنا ومفكرونا لا يزالون يصلون تجاه واشنطن، وموسكو، ولندن، وباريس، وهم الذين يكرهوننا، ويحقدون علينا، ويسخرون بديننا، ويسخرون برسولنا صلوات الله وسلامه عليه، ويسخرون بكتابنا كما تشاهدون وتسمعون. ومن خبثهم أنهم يسمون الأماكن التي يشربون فيها الخمر والتي يفسقون فيها مكة، باسم أشرف وأطهر بلد فوق ظهر الأرض، أي أمة هذه الأمة التي فقدت الإحساس بالآلام؟! ولكن كما قال الشاعر: من يهن يسهل الهوان عليه مالجرح بميت إيلام يلوموننا لأننا نتجه إلى معاونة المسلمين في أفغانستان، ولأننا نعاونهم في كل مكان، ولأننا نحب الذين يعتقدون عقيدتنا ويشعرون بشعورنا، يلوموننا على ذلك، ولا يلومون أنفسهم عندما يولون وجوههم إلى مجلس الأمن، وإلى هيئة الأمم، وإلى بريطانيا، وإلى أمريكا، ثم تأتي الصفعات، مرة من مجلس الأمن، ومرة من هيئة الأمم، ومرة من أمريكا، ومرة من بريطانيا، ويدوسوننا بالنعال!! يقول الخبيث كيسنجر الذي نعرف خبثه وفساده: العرب كالكلاب كلما ضربتهم على رءوسهم جاءوا إليك، هذا تصوره، وهذا هو واقع، فكم صفعنا؟ وكم ضربنا؟ وكم أوذينا؟ وكم داسوا فوق ظهورنا؟ وأخذوا بلادنا؟ وامتصوا خيراتنا؟ فعشرات الملايين من المسلمين ذبحوا بيد أم الحرية فرنسا، وأم الحضارة أمريكا، والدولة التي كانت العظمى في ذلك الوقت بريطانيا، ولا ننسى إيطاليا، ولا ننسى اليهود الذين تمدهم كل هذه الدول، ثم بعد ذلك يكون لنا عين تتجه إلى هؤلاء ونقبل جبينهم! أما آن لهذه الأمة أن تفهم حقيقة الأمر، وأن تفهم موازين النصر، وأن تفهم طريق العزة؟ لقد لخصها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في كلمتين: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك). فإذا حفظت الله تبارك وتعالى فإنه يحفظك، وإذا حفظته تبارك وتعالى فتجده أينما كنت، بعونه وتوفيقه وتسديده، حتى لو ألقيت في قعر بئر، أو صعد بك إلى السماوات العلى، فإن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو عليم بكل شيء، خبير بكل شيء، فإنه سبحانه مالك الملك القهار الجبار، سبحانه وتعالى. فهذا سبيل النصر، وهذا ميزانه، وبهذا تحفظ الأمة نفسها، ويحفظ المسلم نفسه، وبغير ذلك يضيع كل شيء. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب الدعوات.

نظرات في سورة القصص

نظرات في سورة القصص أخبر الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بقصص الأمم السابقة؛ لتكون دليلاً على صدق رسالته؛ ولتكون عظةً وعبرةً لأمته، وهو تهديدٌ من الله سبحانه وتعالى لمن يكذب رسوله ويجحد رسالته، بأنه سيحصل لهم ما حصل للأمم السابقة. وما أشبه قصة محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه، بقصة موسى عليه السلام مع قومه، وسورة القصص من السور التي تبين ذلك وتوضحه.

اصطفاء الله للعرب بالرسالة المحمدية

اصطفاء الله للعرب بالرسالة المحمدية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن ينبثق النور بعد عصور متطاولة من الظلم والظلام في بقعة نائية من عالمنا الأرضي، فما كان الناس يفكرون يوماً أن قيادة العالم ستنبعث من قلب الجزيرة العربية؛ فالدول المتحضرة والمتمدنة كالفرس والروم والأمم التي عندها بقايا من الحق كاليهودية والنصرانية كانت تتنازع القيادة السياسية والقيادة الفكرية في العالم، ولكن الله سبحانه وتعالى له حكمة، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] تكونت الأمة الإسلامية والجماعة الإسلامية والعصبة المؤمنة في قبائل وأمم متخلفة حضارياً، ليس لها رابط سياسي، وليس لها ملك يوحدها، ثم عند بدء اجتماع الكلمة لتحقيق الخير الكبير في حياة البشر لم يكن الطريق سهلاً، بل كانت هناك عقبات وصعاب في الطريق، فاحتاج المؤمنون بهذه الرسالة أن يبذلوا جهوداً مضنية في هذا السبيل، وكانوا بحاجة دائماً إلى الزاد وإلى تجارب الأمم من قبلهم، وبحاجة إلى أن يتعرفوا إلى سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه وفي عباده، وكان القرآن الكريم يتنزل؛ ليكوِّن الجماعة المؤمنة، وليمدها بالعطاء والخير، وليعرض عليها كيف يجري قدر الله في عباده.

اصطفاء الله سبحانه وتعالى لبني إسرائيل قبل بعثة النبي محمد

اصطفاء الله سبحانه وتعالى لبني إسرائيل قبل بعثة النبي محمد وسأحاول أن أستعرض شيئاً ما من سورة القصص في هذا الجانب. فقد شاء الله سبحانه وتعالى في القديم أيضاً قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكوِّن جماعة على يد موسى عليه السلام، تحمل الحق الذي توالت الرسل في حمله، وكانت الجماعة المؤهلة لحمل المهمة جماعة مستضعفة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:1 - 6]. فقوله: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يستفيد منها المؤمنون في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي كل عصر وخاصة في هذا العصر، حيث دُمِّرَ الكيان السياسي للإسلام، وشُتِتَ المسلمون، وقبضوا في كل مكان، وورثوا أثقالاً من التقاليد بعيدة عن الإسلام، اختلط فيها الحق بالباطل، وهناك رجال من هذه الأمة يحاولون أن ينهضوا بها مرة أخرى، يحاولون أن يرفعوا عنها أغلالها وقيودها، وأن يعالجوا مشكلاتها.

العظات والعبر المستفادة من قصة موسى وبني إسرائيل

العظات والعبر المستفادة من قصة موسى وبني إسرائيل ونحن بحاجة إلى أن نتدبر ما يقصه الله علينا فهو يقصه لنا، وهذه القصص نحن بحاجة إليها اليوم حاجة شديدة جداً، فينبغي أن نفتح أبصارنا وبصائرنا لها، ((لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))، ما القضية؟ ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ))، أي: أن فرعون الطاغية علا في الأرض وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))، واليوم ملوك الأرض يستعلون ويستكبرون، ولا يعترفون بتشريع الله ولا بدينه، بل ويقصون شريعة الله من الأرض، ويعذبون المؤمنين في كل مكان، فقد رفع الشيطان في وسطهم رايته. قوله: ((وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ)) أي: البقية الباقية من ورثة إبراهيم وإسحاق ويوسف ويعقوب، فهي الطائفة التي كانت بقية الخير في الأرض، فيها شر ولكنها بقية الخير، استعبدها فرعون، وكان قد علم من أفواه بني إسرائيل بما تركه الأنبياء من قبل أنه سيولد في بني إسرائيل ولد ثم يبعث، ويكون هلاك فرعون على يديه، فأراد أن يستبق الأحداث، وأن يقضي على سلطانهم من قبل أن يوجدوا، فهو يضعفهم في أنفسهم؛ ثم يريد ألا يولد هذا الذي سيهلك ملكه، فـ ((َجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ))، فإن كان المولود أنثى أبقوها حية، وإن كان ذكراً ذبحوه بالشفرة كما تذبح الغنمة. قوله: ((إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ))، لكن إرادة الله سبحانه وتعالى فوق كل إرادة، {ونريد أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، والإمامة: تعني: القيادة، أي: قيادة البشرية إلى الخير. قوله: ((وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)) أي: يرثون الأرض التي بارك الله فيها. قوله: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} -أي: بقيام دولة-. قوله: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6]، فالله يريد أن يذل هؤلاء الطغاة، ويبين لهم ضعفهم. ثم تبدأ القصة: المنقذ لا يزال في بطن أمه جنيناً، ويولد في وقت المحنة، ولكن الله يريد أن يجعله منقذاً، فلننظر كيف يجري قدر الله، وكيف يجري تدبيره سبحانه وتعالى؟! لقد أوحى الله إلى أمه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] ولكن الجواسيس (الطابور الخامس) سيكتشفون أن هناك وليداً. قوله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، فإنَّّ تدبير الله غير تدبير البشر، فلو كان أحدهم يخاف على ابنه فسيضعه في صندوق ويحفظه في حجرة ويقفل عليه، أو في زاوية من الزوايا، لكن الله قضى أنْ يرمى في البحر، وهو النيل، فإن هذا الماء يأتمر بأمر الله سبحانه وتعالى والأرض كذلك، فتدبير الله غير تدبير العباد. قوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7] أي: سنرجعه إليكِ وهو طفل صغير، وسنجعله رسولاً: {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].

حفظ الله لموسى عليه السلام من القتل

حفظ الله لموسى عليه السلام من القتل ثم بأمر الله يجري النيل بموسى إلى قصر فرعون الطاغية الذي يبحث عن الوليد؛ ليقتله ويسفك دمه. قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، أي: لتكون العاقبة أن يصير لهم عدواً وحزناً، وليكون هلاكهم على يديه. فيأمر فرعون بذبحه، فكيف ينقذه الله سبحانه وتعالى؟! انظر إلى قدر الله كيف يجري، إذا أراد شيئاً؟! قالت امرأة فرعون الملكة التي لها حظوة عند زوجها الملك: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، فلقد ألقى الله سبحانه وتعالى المحبة على موسى، بحيث لا يراه أحد إلا أحبه، قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] فهذا الطفل الصغير يأسر قلب الملكة، فتقول: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، فيجري قدر الله بإبقائه حياً بعد أن أمر الطاغية بقتله؛ لأن الملكة ما قالت لا تقتلوه إلا وفرعون يريد قتله، ثم قالت: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9] فأبقي حياً، تريد أن تتبناه، ثم يصبح ابن الملك والملكة، ويتربى في بيت العز، لا يتربى في بيوت الذل ولا في بيوت المستضعفين؛ لأن القائد لا بد أن يكون شجاعاً، والله يقول: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، كيف يصنع على عين الله؟ يقدر الله له ظروفاً معينة وبيئة معينة؛ لينشأ فيها صالحاً للقيادة والريادة.

كيفية رجوع موسى إلى أمه

كيفية رجوع موسى إلى أمه ثم كيف أعاد الله موسى إلى أمه؟ قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10]، ولو صرخت وقالت: ولدي رميته في النيل، لانكشف أمرها، ولكن الله يربط على قلبها ليتحقق قدره: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]، ثم ماذا؟ {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11]، أي: تتبعي أخبار الطفل وأحواله. قال تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11] أي: كأنها غير مهتمة، وهذا من الذكاء والفطنة، حتى لا يشتبهوا بها. {َقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] يعني: توجد هنا امرأة ترضعه لكم، فأتوا بها فرضع منها ففرحوا، فبعد أن كانوا يبحثون عنه ليذبحوه صاروا يبحثون عمَّن يهبه الحياة ويبقيه حياً، ويأخذون المرأة إلى الملكة وتطلب الملكة منها أن تسكن عندها فأبت، فكانت تأتي إليه وترضعه ثم تعود إلى بيتها، وكانت تأخذ على ذلك أجرة، وأصبح موسى معززاً مكرماً؛ ولذلك أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ من يفعل الفعل ويأخذ عليه أجراً مثل أم موسى، فله ثوابه وأجره عند الله سبحانه وتعالى. {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13].

مراحل نشأة موسى عليه السلام

مراحل نشأة موسى عليه السلام لقد نشأ الوليد في بيت الطاغية الجبار الذي يقتل الأطفال بحثاً عن هذا الطفل الصغير؛ حتى يريه الله سبحانه وتعالى ضآلته وحقارته، وقلة علمه وبصيرته وفهمه، ويتربى موسى على الشجاعة والعزة والكرامة، والوقوف أمام كبار المجرمين الذين كانوا أعواناً لفرعون، وهذا إذا لم يتوافر في القائد، فإنه لا يستطيع أنْ يربي أمة، وإذا كان قائد الدولة أو الجيش ذليلاً مهاناً، فإنه لا يستطيع أن يربي أمة ولا يستطيع أن يخرجها إلى العزة والكرامة. قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14]، وهذه هي فترة التكوين والتربية للقائد؛ لأن الإنسان إذا تربى على النعيم والترف المستمر، فإنه لا يستطيع مواجهة الصعوبات، فلا بد أن يتعود على الخشونة والشدة فيقدر الله قدره، فلابد لموسى أيضاً من مرحلة ثانية ليصنع على عين الله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39].

قصة قتل موسى للقبطي

قصة قتل موسى للقبطي قال سبحانه: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} [القصص:15] أي: أن موسى كان يتشيع لبني إسرائيل؛ لأنه واحد منهم في الحقيقة، وكذلك أمه التي أرضعته منهم، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، وكان رجلاً جلداً قوياً فيه شدة؛ لأن مجرد وكزة خفيفة منه صرعت الرجل، فسقط ميتاً، {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]، وهنا نلمح صفة من صفات القائد المسلم الذي يؤهل لمهمة عظيمة جداً، فالرسل أسوة لنا وقدوة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فهو قال لما قتله: ((هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)) ثم إنه توجه إلى الله يطلب منه المغفرة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:16 - 18]، وفرعون لن يسكت؛ لأنه قتل واحداً من قومه، وهي ليست مسألة سهلة. قوله: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص:18] أي: أن الذي كان يقاتل بالأمس، أحدث مشاحرة مع قبطي آخر، وقال: يا موسى! أدركني، قال: إنك لغوي مبين. {فلما أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19].

قصة خروج موسى من مصر إلى مدين فرارا من بطش فرعون

قصة خروج موسى من مصر إلى مدين فراراً من بطش فرعون قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ} [القصص:20]، والملأ في القرآن تعني: علية القوم، من الوزراء، والأمراء، والحاشية، الذين لهم الأمر والنهي، {يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} [القصص:20] أي: سيصدرون قرار القتل قريباً، وقد يكون الناس في طريقهم إليك، فماذا يفعل؟ هل يرجع إلى البيت يودع أمه وأقرباءه ويأخذ حاجته، ويرتب ملابسه ويأخذ له نقوداً؟ لا، بل يخرج من المدينة مباشرة، {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] {قاَل رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]، وهنا صفة واضحة ظهرت في موسى، خاصة في هذه الآيات، ألا وهي: الاتصال الوثيق بالله سبحانه وتعالى، ويخرج موسى متوجهاً تلقاء مدين ويقول: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، يخرج موسى طريداً ليس معه شيء، ولا يعرف أحداً في المدينة وليس معه نقود، وليس له مركب ولا طعام، فلما ورد ماء مدين وجد أمة من الناس يسقون، فهذا الذي فرَّ من فرعون يصبح له بين لحظة وأخرى بيت وزوجة وعمل، فقد وجد امرأتين تذودان تنتظران الرعاة الغلاظ الشداد الذين يسقون أغنامهم، ثم تقومان هما بالسقي، فيسألهما موسى بكل شهامة ومروءة: ((مَا خَطْبُكُمَا)) ولم يقل: أنا رجل غريب، والغريب ليس له دخل في هذه القضايا، لا بل لا بد أن يتفاعل المسلم مع الحياة دائماً باستمرار، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23]، أي: ليس لنا أحد، وأبونا شيخ كبير، فأخذتْ موسى الرأفة وسقى لهما، وكان رجلاً شديداًً واستطاع أن يسقي أغنامهما وحده، ثم ذهب إلى ظل شجرة وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وما كادت الفتاتان تغيبان حتى رأى واحدة منهما راجعة وقالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]، فلما جاء وقص عليه خبره وقصته مع فرعون وقومه، {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] أي: أن القوم الظالمين ليس لهم سلطان على هذه الديار. قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ استأجره} [القصص:26]؛ فهاتان فتاتان ترعيان الغنم وتسقيانها باستمرار، وقد تعبتا، وكان موسى قوياً أميناً ينبغي أن يُستأجر، وصفة العامل أن يكون قوياً أميناً، وكل بحسبه، فالمحاسب قوي في معرفة المحاسبة وأصولها، والمهندس أمينٌ وقوي في صنعته؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لهدَّم العمارة، والمدرس إذا لم يكن أميناً وقوياً فكيف يدرس الطلاب ويفهمون منه؟! فهي قالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فإذا بالشيخ يعرض عليه العرض ويقول: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27]، فكون الشيخ يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه ويسكنه معه في البيت ويشغله فهو أمر جيد، لكن مقارنة مع ما كان فيه من النعيم فهو أمر صعب، لكن الحكمة تقتضي أن يتفهم القائد الحياة بمختلف أشكالها وألوانها.

خروج موسى بأهله إلى مصر واصطفاء الله له بالنبوة

خروج موسى بأهله إلى مصر واصطفاء الله له بالنبوة في هاتين المرحلتين: مرحلة النعمة والرخاء، ومرحلة الشدة والبلاء صنع الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص:29] وأراد الرجوع إلى موطنه ضل في صحراء سيناء ((قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا)) أي: -انتظروا- {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29]، وكانت الرسالة، وذلك أنه عندما جاء إلى النار ناداه الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:30 - 31] وهذه أدلة وبراهين أن الذي يكلمه هو الله سبحانه وتعالى، ولكي تصحبه هذه الأدلة إلى المرسل إليهم. {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [القصص:31 - 32]، تلمع {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32] أي: من غير أذى، {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص:32]. فالداعية الذي يريد أن يدعو الناس ينبغي له أن يعرف المهمة التي يتحملها، ويحملها إلى البشرية، وينبغي أن يوقن بهذه المهمة، فموسى عرف مباشرة ما هي مهمته، ولذلك ينبغي لنا أن نعرف عندما ندعو الناس كيف نصلهم بالله سبحانه وتعالى، وكيف نجعل قلوبهم متصلة بالله جل وعلا، وينبغي أن نعطيهم من الأدلة والبراهين على صدق المهمة وصدق الرسالة ما تطمئن به قلوبهم، ثم بعد ذلك نرسلهم ليتحملوا الأمانة.

أمر الله لموسى بالذهاب إلى فرعون وقومه

أمر الله لموسى بالذهاب إلى فرعون وقومه لقد أمر الله سبحانه وتعالى موسى بعد ذلك أن يذهب إلى فرعون وقومه، والدعوة تحتاج إلى نوعية خاصة من الرجال، وهناك مشكلات قد يدركها الإنسان قبل أن يدخل في المعمعة والميدان، ولذلك قال موسى: {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا} [القصص:33]، أي: إن ذهبت إليهم فسيقتلونني، {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي} [القصص:34]، فقد يحتاج الإنسان إلى أعوان على الحق، خاصة عندما يكون طريداً وحيداً، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]، أي: وأيدك بالمؤمنين، فلا بد من أعوان يتحملون مع المرء دعوته، حتى الرسل يطلبون هذا، {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} [القصص:35]، أي: إذا رأوا الآيات فسيفزعون وسيخافون، ولن يستطيعوا قتلكما، {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35].

بدء الصراع بين الحق والباطل

بدء الصراع بين الحق والباطل ولما جاء موسى بآيات الله البينات إلى فرعون وقومه قالوا: هذا سحر مفترى وردوا الحق، وحصل صراعٌ بين موسى ومعه المؤمنون وبين فرعون وقومه، فقال الله سبحانه وتعالى مبيناً إعراض فرعون وطغيانه: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص:37]، فماذا كان رد فرعون؟ {َقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وانظروا إلى تجرؤ فرعون وطغيانه، فهو لم يكتف بهذا، بل قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36]، أي: بناءً عالياً مرتفعاً، لماذا؟ قال: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:38]، أي: يريد أن يطلع إلى السماء؛ استخفافاً بقومه وتضليلاً لهم، {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] والتضليل من صفات الحكام الظلمة؛ فالحكام الظلمة تجدهم يتلاعبون بالألفاظ؛ ليغطوا على عقول الناس حتى لا يفقهوا الحقيقة، ولا يفهموها. قال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص:39 - 40]، أهلكهم الله سبحانه، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:41 - 42]. وهكذا جرى قدر الله سبحانه وتعالى في تكوين القائد، وفي تحمله الدعوة، وفي مواجهته للطغاة الظلمة، وفي إهلاكه للظالمين، وهذا دائماً يتكرر في كل عصر وجيل.

العاقبة للمؤمنين في الدنيا والآخرة

العاقبة للمؤمنين في الدنيا والآخرة وقد كانت الفئة التي تتلى عليها هذه الآيات مطلع الدعوة في مكة فئة مستضعفة، تعذب وتجلد، وتقتل بعض النساء، ويهرب بعض الرجال مهاجراً إلى الحبشة، ويحاصرون في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكلوا أوراق الأشجار، والجلود والميتة، فالله تعالى يتلو عليهم هذه الآيات؛ ليحقق سبحانه وتعالى مشيئته بالتمكين لهم؛ وذلك بأن هيأ لهم بلدة تقبلهم وتؤويهم وتنصرهم، وتتكون الدولة وتتكون الأمة، فيحكمون الجزيرة العربية، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً، وينطلقون إلى الدول الكبرى في عصرهم كفارس والروم، والتي تمثل في عصرنا روسيا وأمريكا، فيزعزعوا بنيانها، ويجتاح المسلمون المعمورة في ذلك الوقت، والمسلمون اليوم -وهم تواقون لرفع الراية من جديد- يجب عليهم أن يقرءوا القرآن ويعلموا أن لله قدراً، وأن الباطل لا يمكن أن يستمر دائماً؛ لأنه يخالف سنة الله سبحانه وتعالى؛ ويخالف الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولكن يريد منا أن نعمل بالأسباب؛ ليحقق الله سبحانه وتعالى بنا الخير، ويحمل هذا الخير الرجال، ويأتي من بعدهم ليواصلوا هذه المسيرة. فإنما أنزل الله هذا النور ليستمر وليبقى إلى أن تقوم الساعة، وقد يضعف المسلمون حيناً وقد يقعون حيناً، ولكن الحق باق دائم إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى.

بيان صدق النبي صلى الله عليه وسلم والهدف من إرساله

بيان صدق النبي صلى الله عليه وسلم والهدف من إرساله وهناك تعقيب من الله سبحانه وتعالى على الآيات التي ذكرت قصة موسى، فيه بيان أن هذا القرآن من عند الله، وأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من عند ربه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلمُ بهذه المعلومات الدقيقة عن موسى؛ لأنه كان في صحراء الجزيرة العربية، وكان لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي أخبره بأشياء دقيقة لم تكن موجودة في التوراة، والموجود منها خليط من الحق والباطل، وهذا بلا شك دليل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على صدق القرآن، قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:44 - 46]، فالهدف من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إنزال القرآن، ((لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)) فمهمتنا -أيها الإخوة- إقامة حجة الله على عباده، ثم قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]، فإن مهمتنا الأولى: اتباع الرسل، وتبليغ رسالاتهم للعباد؛ لإقامة حجة الله عليهم، لا أن ندخل الإيمان في القلوب، فذلك لله، ولذلك يقول تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، والهداية نوعان: هداية نملكها، وهداية لا نملكها، فالهداية التي بمعنى: الإرشاد والتوجيه والبيان والوعظ وإقامة الحجة هي التي نملكها؛ لأنها سبب للهداية، والهداية التي لا نملكها: هي إدخال الإيمان في القلوب؛ لأن ذلك لله وحده سبحانه وتعالى. ولذلك يقول سبحانه لنبيه: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] وقال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]، أي: لا تستطيع أن تدخل الإيمان في قلوبهم، ثم يقول: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، يعني: فأنت تهدي بالدلالة والبيان والإرشاد والتوجيه وإقامة الحجة، وقال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، فيوم القيامة لا يقول الله لرسله: لماذا لم تدخلوا الإيمان في قلب فلان؟ ولكن سيقول لهم: لماذا لم تبلغوا فلاناً ولم تقيموا عليه الحجة؟ قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] فقامت الحجة.

حقيقة الدنيا

حقيقة الدنيا وفي هذه السورة -أيها الإخوة- يبين الله لنا حقيقة الدنيا؛ حتى نعطيها مقدارها، {َمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60]، ومتاع الحياة الدنيا: أموالها، أولادها، نساؤها، حرثها، وكل ما فيها من زينة، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14]. وقال سبحانه: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61]، فهل الذي وعده الله وعداً حسناً بأن يدخله الجنة مثل الذي يمتعه في الدنيا وهو من أهل النار؟!

تبرؤ الرؤساء من أتباعهم يوم القيامة وتحسر المتبوعين

تبرؤ الرؤساء من أتباعهم يوم القيامة وتحسر المتبوعين ثم يعرض الله سبحانه وتعالى علينا مشهداً يحرك القلوب، ويجعل الناس يتفكرون في مصيرهم يوم القيامة، فينادي منادي الله سبحانه وتعالى: ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ))، أي: هؤلاء الذين أشركوا وعبدوا أمثال فرعون واتخذوا من دون الله أنداداً، وحكموا بغير شريعة الله {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62]، أين هم؟ اليوم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزال ينادي في سنته: هلموا أيها الناس! إلى الله، وروسيا تقول: تعالوا إلينا، فعندي الحرية والحضارة والمدنية والكفاية، وأمريكا تقول: تعالوا إلينا، والقومية والاشتراكية تنادي، وكل هؤلاء يديرون ظهورهم للإسلام، لكن هؤلاء كلهم سيناديهم ربهم يوم القيامة: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص:62 - 63] من شياطين الجن والإنس والطواغيت الذين كانوا دعاة شر مثل فرعون في الحياة الدنيا: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] أي: هؤلاء كانوا تابعين لنا وطائعين لنا، ونحن الذين أضللناهم، وكم ستكون حسرة الضالين حين يسمعون الذين أضلوهم يقولون هذا الكلام: نحن أضللناكم وضيعناكم؟! {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63]. {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} [القصص:64] أي: نادوهم {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:64 - 65] أي: أرسلت لكم رسلاً من عندي يهدونكم إلى الصراط المستقيم ويدعونكم إلى توحيدي، فماذا أجبتم المرسلين؟ قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ * فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ * وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:66 - 68].

دعوة إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض

دعوة إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض ثم يحرك الله القلوب لتتأمل في ملكوت السماوات والأرض، كنعمة الليل والنهار وغيرهما، حيث قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:71 - 72]، ولو وقفت دورة الأرض، لكان نصف الأرض ليلاً، والنصف الآخر نهاراً بشكل مستمر، ثم إن الجانب الذي عليه الشمس سيحترق، والجانب الذي عليه الليل سيتجمد فيه كل شيء، ولن تصلح الحياة بعد ذلك، قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73].

أنموذج بشري جديد من أهل الكفر والعناد

أنموذج بشري جديد من أهل الكفر والعناد وقبل نهاية هذه السورة يعرض علينا ربنا أنموذجاً بشرياً جديداً غير أنموذج فرعون، ولكنه كان من أتباع فرعون ومثل هذا النموذج نراه أيضاً في مجتمعاتنا وحياتنا، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76]، ترك أمته ورسوله واختار الطاغية ومنهجه، بعد أن أنعم الله عليه، والله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، فقد أعطى سليمان الملك وهو نبي، وأعطى فرعون الملك وهو طاغية، وحرم أناساً صالحين؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب. قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] أي: أن مفاتيح الكنوز تحتاج إلى مجموعة من الناس ليحملوها، {إذ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] أي: يا قارون لا تفرح؛ فإن هذا الشيء عرض زائل لا يدوم، ولا يعني هذا أن نترك الدنيا للكفار، ولكن كما قال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، أي: قدم لآخرتك، واستعمل هذا المال في طاعة الله، واستمتع به، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:77 - 78]، أي: ملكت ذلك بجهدي، وهذا النموذج متكرر في زماننا فمثل فرعون، وقارون، وصاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف، نماذج كثيرة نراها ونشاهدها باستمرار في واقع الحياة، والإنسان الذي يتدبر القرآن بتمعن يرى هذا النموذج دائماً في واقعنا، كذلك ما جاء في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف:17]، وهذه نماذج لأصناف من البشر نجدهم دائماً وباستمرار، ويحدثنا الله عنهم لنتبين صفاتهم. قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] وهذه فتنة، فقد نسي ضعفاء الإيمان أن هذا المتاع سيزول ويفنى فتمنوا مثله، ولكن المؤمنين الثابتين الصادقين الذين عرفوا حقيقة الدنيا قالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]، ويقول الله في سورة الزخرف: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا} [الزخرف:33 - 35]، أي: لو كان الناس كلهم كفاراً، لأعطينا كل كافر في الدنيا بيوتاً مزخرفة ومزينة بالذهب والفضة؛ لنبين لهم هوان الدنيا عندنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) ولذلك فلن ينال الكفار في الآخرة فيها شربة ماء، قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، فإبراهيم عليه السلام يتبرأ من أبيه يوم القيامة، وذلك حين يلقى أباه وعلى وجهه القترة والغبرة، فيقول: يا إبراهيم! إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك، فيقول: أي رب! ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال: انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بذيخ متلطخ -أي: قد مسخ ضبعاً ثم يسحب بقوائمه ويلقى في النار. قال تعالى: {خَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأن اللهَ} [القصص:81 - 82]، فيتعجبوا. وقد كانت هذه القصص وهذه المعاني زاداً للمسلمين في بداية الدعوة، وزاداً للمسلمين على مر التاريخ، تثبتهم، وتقيم الموازين في نفوسهم، وتهديهم للتي هي أقوم، فهي غذاؤهم ونورهم، وما يزال المؤمنون يثبتون بهذه المعاني ويتدارسونها ويتبينونها.

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة قتل موسى للقبطي وحكم قتل الكافر

حقيقة قتل موسى للقبطي وحكم قتل الكافر Q قد عرفنا قتل موسى للرجل، فهل نفهم من هذا أنه لو قتلنا كافراً من غير قصد في ديارنا الإسلامية يغفر الله لنا، حتى ولو لم ندفع الدية لأهله؟ A أولاً: لم يتعمد موسى قتل الرجل، وإنما وكزه ليدافع عن الذي من شيعته؛ فقضى عليه من غير قصد، فيعتبر هذا من القتل الخطأ وليس من القتل العمد. ثانياً: يجب علينا أن نفرق في الحكم الشرعي بين الكافر المقاتل المحارب، وبين الكافر المهادن وأهل الذمة، فالمحارب لو دخل ديارنا خلسة، فإننا نقتله؛ لأنه ليس له ذمة، أما المهادن وأهل ذمتنا فلا بد من دفع الدية له؛ لأنه لا يقتل مسلم بكافر على الصحيح؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر)، ولكن عليه عقوبة شديدة، والرسول صلى الله عليه وسلم تهدد من قتل ذمياً وعليه نصف دية.

معنى الإله لغة واصطلاحا

معنى الإله لغة واصطلاحاً Q ما معنى الإله في مصطلح اللغة والمصطلح الديني؟ A الإله في اللغة وفي الدين هو الإله المعبود؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، قال تعالى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أي: معبودٍ غيري، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، يعني: معبود أهل السماء ومعبود أهل الأرض، فهو الإله المعبود، وكلمة (لا إله إلا الله) تعني: ليس من إله يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى، ومن الممكن أن تكون الشجرة معبوداً، والجدار معبوداً، والإنسان معبوداً فأي شيء يُعبد من دون الله فهو إله معبود. لكن هناك إله حق وإله باطل، وليس من إله حق إلا الله سبحانه وتعالى، ومن الآلهة التي تعبد من دون الله: الأصنام، فاللات صنم، وأصل اللات: رجل صالح كان يلت السويق للحاج ويطعمهم، وكان بالطائف، وفي مرة من المرات جاء الحجيج، وانقطع السمن، فلت لهم السويق بالماء، فصار أطيب مما كان؛ كرامة من الله سبحانه وتعالى، فلما مات عكفوا على قبره واتخذوا له صنماً. وأما العزى: فهي شجرة، وأما ود وسواع ويغوث فهم رجال صالحون، كان قوم نوح يعبدونهم، فهذه كلها آلهة. وقد ذُكر في زمن الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله أنه كان هناك نخلة، وكانت المرأة تأتي هذه النخلة وتقول لها: يا فحل الفحول! أنا أريد منك زوجاً قبل الحول، ومن لم يأتها زوج تأتي إلى النخلة وتحتضنها وتعتقد أنها ستيسر لها أمر الزواج. ولم يزل إلى اليوم أناس يعبدون الأموات والقبور ويستغيثون بهم ويستعينون بهم إلى يومنا هذا، فنقول: إن كل ما يدعى ويستعان ويستغاث به ويسأل فهو آلهة.

صدق التوكل دليل العقيدة

صدق التوكل دليل العقيدة إن المحور الذي تدور حوله الرسالات السماوية هو التوحيد، ومن أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، فليس في هذا الكون إله يعبد إلا الله عز وجل، لأنه رب الكائنات وسيدها، وخالقها ومبدعها، وهو الغني عنها، وهي فقيرة محتاجة إليه. وقد جعل الله هذه الدنيا مزرعة للآخرة، فلابد من إحسان الزرع ليحسن الحصاد، فإن الساعة آتية لا ريب فيها.

بعث الله موسى بالتوحيد

بعْث الله موسى بالتوحيد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. حدثنا الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه عن ذلكم الرجل الذي كان يسير في صحراء سيناء في ظلمة الليل، ومعه أهله، ومعه ماله، ثم أضل الطريق. ذلكم هو نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وحدثنا الله تبارك وتعالى أنه رأى من البعد ناراً {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10] أي: بشيء من النار تستدفئون به، أو أجد على النار هادياً يهدينا الطريق، فوجد عند النار أعظم هداية، فأصبح هادياً للبشرية ومعلماً لها. وأخبرنا الله تبارك وتعالى أنه لما أتى النار سمع صوتاً يناديه، صوتاً لا يشبه الأصوات، إنه صوت خالق الأصوات والكائنات، إنه صوت الله تبارك وتعالى {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12]، وأمره أن يخلع نعليه احتراماً للموقف الإلهي الرباني {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، ثم قال له: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13] أي: اصطفيتك، لكن ليس للمال أو السلطان، ولا للمراكب أو البيوت، ولا للأراضي والحرث، اختاره الله تبارك وتعالى لهذا الدين؛ ليكون رسولاً لرب العالمين، وليعلم البشرية أنه مرسل من عند الله تبارك وتعالى، ثم لخص له القضية، وهي زبدة الرسالات السماوية فقال: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:13 - 16]. فهذه هي القضية الكبرى التي أوجزها الله تبارك وتعالى لنبيه موسى، وهي قضية الرسل جميعاً، وهي المحور التي تدور عليه الرسالات السماوية كلها، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:13 - 14]، يقول رب العزة لنبيه وصفيه وكليمه موسى: إن الذي يخاطبك ويحدثك هو الله تبارك وتعالى. {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14]، ليس في هذا الكون إله يستحق أن يعبد إلا إله واحد هو الذي يخاطبك؛ لأنه رب الكائنات وسيدها؛ وخالقها ومبدعها؛ هو الذي جعلها فقيرة محتاجة إليه، وهو غني عنها. {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} أي: أنا الذي أستحق أن أعبد، وتتوجه إلي الوجوه والقلوب، وتخضع لجلالي وعظمتي وكبريائي، وتستجيب لندائي، وتتوجه حيث أريد، أنا الله خالقكم وموجدكم وربكم، أملككم في الدنيا، وأملككم فيما وراء الدنيا، فأنا الذي أستحق أن أعبد وحدي، وما سواي مخلوق، وإن سماه الناس آلهة. ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا))، فلا ينبغي أن تستشرف القلوب لتبلغ منزلتي فتكون آلهة من دوني، فالزعماء والرؤساء والعظماء كلهم عبادي، لا ينبغي أن يستشرفوا ليكونوا آلهة من دوني، فاعبدني وحدي. ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)) أي: أفردني بالعبادة، ووحدني ولا تعبد معي أحداً، ولا تشرك بي أحداً، أنا وحدي المعبود الذي لا إله إلا أنا، ولا إله سواي، هكذا أمره رب العزة تبارك وتعالى.

وجوب الإيمان باليوم الآخر والاستعداد له

وجوب الإيمان باليوم الآخر والاستعداد له ثم قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:14 - 16]، فأمره الله بإقام الصلاة، وأمره بأن يتذكر دائماً وقوفه بين يدي الله تبارك وتعالى، فالساعة آتية قادمة. إن لكل امرئ نهاية، وإن للبشرية جميعاً نهاية، ولهذا الكون كله نهاية، أفراد البشر سيتساقطون ويأتي غيرهم، أقوام يذهبون، وأقوام يأتون، والمقابر في كل يوم تستقبل وفوداً رجالاً ونساء، وفي كل يوم يأتي إلى الكون أحياء جدد، ومواليد جدد، أقوام يذهبون وأقوام يأتون، ولكن سيأتي يوم يفني الله فيه الجميع، فلا تسمع في هذا الكون حساً، ولا تسمع في هذا الكون صوتاً، البشر يومئذٍ كلهم خامدون. وكذلك غير البشر من الجن والحيوانات والحشرات، الكل سيفنى فلا تسمع صوتاً، حتى الأرض والسماوات ستفنيان، الكل فان، وموعد الساعة خفي، ولكنه آت لا شك فيه {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15]. كل نفس يعطيها الله تبارك وتعالى فترة من الزمان، اختباراً وابتلاء يمتحنها في هذه الحياة الدنيا، ثم يكون عنده الجزاء، يجعل أقواماً ملوكاً لينظر كيف يحكمون، وأقواماً يجعلهم أغنياء لينظر كيف يتصرفون، ويبتلي بالصحة والمرض، ويبتلي بالعلم، ويبتلي الناس بأبنائهم وبأزواجهم، ويبلو بعضنا ببعض لينظر كيف نعمل، ثم يكون نتيجة ذلك كله حصاداً يوم القيامة، فتجني ما زرعته، كل كلمة تتكلمها، وكل خطوة تمشيها، وكل عمل تعمله، وكل تصرف تتصرفه؛ كل ذلك محسوب ومسجل عليك: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15].

من لا يعمل ليوم القيامة فهو يتبع هواه

من لا يعمل ليوم القيامة فهو يتبع هواه قال الله تعالى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] إياك أن يصدك ويمنعك عن التطلع للآخرة والنظر لوقوفك بين يدي الله تبارك وتعالى من لا يؤمن بهذا اليوم، وكان نظره محصوراً بهذه الحياة الدنيا، لا يستطيع أن ينظر إلى أبعد من موطئ أقدامه، ضل عن الآخرة فهو يعمل لهذه الدنيا حبيساً فيها لا يفكر إلا في متاع دنيوي عارض، وشهوة عارضة، حياته هنا، وهنا جنته، وهنا ناره، فإياك إياك أن يصدك عن الإيمان باليوم الآخر وعن العمل لذلك اليوم! وإياك أن يكون سعيك ضائعاً في ذلك اليوم! ((فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)) فكل من لا يؤمن بيوم القيامة ولا يعمل ليوم القيامة فهو محكوم بالهوى، والذي يعمل لذلك اليوم يعلم أنه لا يوصله إلى ذلك اليوم ولا ينجيه في ذلك اليوم إلا أن يتبع وحي الله، وإن لم يتبع ما جاء الله به، فلا سبيل للارتقاء لملكوت ذلك اليوم إلا أن تعمل في هذه الدنيا من خلال الإطار الذي يريده الله لك، ومن خلال المنهج الذي يريده الله لك، فكل من لا يعمل لذلك اليوم فإنه يعمل بالهوى. {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]، هذا الذي أوحاه الله إليك هو زبدة الرسالات السماوية، وهو مفاتيح النفوس البشرية، وهو مفاتيح المشكلات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية وغيرها، من لا يعلمه فقد كل شيء، وعاش في الدنيا ضائعاً تائهاً حائراً، لا يعرف سبيله، قد يكون فرداً وقد تكون أمة، وقد يكون شعباً، وقد تكون البشرية كلها حيرى ضائعة وتائهة، لا تعرف الطريق ولا تعرف السبيل، فمرة تظن القضية أنها صراع طبقات، كما يظنها مئات الملايين من البشر في هذه الأيام، وقد تظنها رفاهية الإنسان كما تعمل لذلك أمريكا وأوروبا وأكثرية الشعوب في هذا العصر الذي نعيش فيه، وقد يظنها بعضهم إنما هي ارتفاع أمة على أمة، وأن تكون أمة فوق أمة أخرى لتكون لها السيادة والعزة، كما حدث في كثير من فترات التاريخ، وتتيه البشرية في صحراء لا تعرف فيها دليلاً، ولا ترى فيها نجماً، فيلفها الشقاء فتضيع.

وصية الله لموسى هي وصية للبشر كلهم

وصية الله لموسى هي وصية للبشر كلهم وصية الله لموسى وصية للبشر كلهم: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وهي قضية لا تحتاج إلى علماء يطيلون الشرح، ولا إلى فقهاء يطيلون الكتابة والتدقيق والتفصيل، قضية أدركها موسى عندما كلمه الله تبارك وتعالى، وأدركها محمد صلى الله عليه وسلم في الجلسة الأولى عندما جاءه جبريل في الغار، عرفها وعرف مدلولها وأدركها الأنبياء جميعاً، وأدركها الذين أرسل إليهم موسى في لحظات، فتغيرت نفوسهم وتغيرت وجوههم، بعد أن كانوا عبيداً للطواغيت إذا بهم يكفرون بالطاغوت، ويرفعون رءوسهم فيقولون: لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه.

قصة موسى مع سحرة فرعون

قصة موسى مع سحرة فرعون عندما نزل موسى إلى ميدان العراك ليثبت صدق رسالته أمام الجماهير المحتشدة التي حشدها الطاغية فرعون وجنده من مختلف البقاع في الميدان الكبير، ووقف موسى وأمامه السحرة: {قَالَ يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:65 - 70]. كم احتاج هذا ليتحول السحرة من أعوان الطاغية الذين يعتمد عليهم لإثبات أن موسى كاذب وليس برسول؟ وأنه لا يوجد إله لهذا الكون غير فرعون، ليصبحوا نموذجاً يحتذى في تاريخ البشرية؟ هذا هو التغيير والتحول المطلوب من الإنسان، أن يصبح مؤمناً بهذا المعنى، أن يتولى الله تبارك وتعالى، ويعترف به إلهاً وسيداً وملكاً، وحاكماً ورباً مطاعاً، يطأطئ رأسه له، ويرفع رأسه أمام غيره، ولا يخضع لغيره إلا بمقدار ما يأمره ربه أن يخضع له، كأن يكون رسولاً يتبعه، أو أن يكون حاكماً يحكمه بكتاب الله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ} [طه:70 - 71]، قال فرعون الذي كان قبل قليل قد جاء بهم ليبطلوا ما جاء به موسى وقالوا له: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، فيقول: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114]، يقولون: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:70 - 72]، أيُّ إيمان حل في قلوبهم؟! وأي سكينة نزلت عليهم؟! ما الذي غيرهم؟! ما الذي بدلهم؟! ما الذي هز كيانهم؟! إنه إيمان تغلغل في أحشائهم، كانوا يعرفون السحر وألاعيبه، فوجدوا أن ما جاء به موسى ليس سحراً، وليس في إمكانية البشر، وليس في قدرة البشر، إنها قدرة من خلق البشر، إنه ليس من النوع الذي يملكه البشر، لقد تغير كيانهم، وهز نفوسهم، فأصبحوا أنموذجاً في تاريخ البشرية {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73].

الصحابة خير أمة أخرجت للناس

الصحابة خير أمة أخرجت للناس هذا النمط من البشر ماذا يفعل في تاريخ البشر؟ عندما يقوم بناء الإنسان على هذا الإيمان، أتبقى مشكلات أخلاقية؟ أيبقى ظلم العباد للعباد، وتجبر العباد على العباد؟ أتبقى مشكلات اقتصادية؟ ألا يرحم هذا الصنف من الناس إخوانه، ويجود بماله وقد جاد قبل ذلك بنفسه؟ هذا هو الصنف الذي بناه محمد صلى الله عليه وسلم تمثل في الرعيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا بشراً لا كالبشر، ورجالاً لا كالرجال، ومجتمعاً ليس كالمجتمعات، كانوا مجتمعاً آخر يخالف ما عهده الناس الذين قاموا على قطعة من الأرض فجعلوها مبدأ، أو قاموا على قوم، أو قاموا على مبدأ ضال، أو قاموا على ألوهية لأصنام، يظلم الناس بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دم بعض، فقطعت الأواصر بينهم، وارتفعت الرحمة من نفوسهم، هذا هو المجتمع الذي تتربى فيه الفضائل، وتسود فيه القيم والأخلاق، إنه مجتمع الإيمان. لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاء لتحرير الأرض من الفرس والروم، ولم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم لمعالجة المشكلات التي أصبحت كالسرطان في أحشاء الدنيا كلها من العرب وغيرهم، ولكنه دعا أولاً إلى المفتاح الكبير الذي يفتح القلوب، الذي يحول كيان الإنسان، الذي يغير ولاءه، الذي يرفعه إلى القمة، ويعرفه بأصله، ويعرفه بهدفه، ويعرفه بغايته، ويعرفه لماذا جاء إلى هذا الكون، ويعرفه صلته بخالق هذا الكون، ثم يعرفه بدوره الحقيقي في الحياة؛ عند ذلك تنحل المشكلات، وتتساقط القيود، ويصبح الإنسان سائراً على الصراط المستقيم، فما أسهل أن تحل بعد ذلك المشكلات! وما أسهل أن يترك الإنسان ما ألفه من عادات: شرب للخمر، ولعب بالميسر، وارتكاب للزنا والفجور، وأكل للحرام، وظلم للناس، وغير ذلك من المشكلات التي تفني الأجيال، ولا يستطيع المصلحون أن ينهوا هذه المشكلات، لكن بهذه الدعوة يمكن حل كثير من هذه المشكلات، وإن بقي لها بقايا فإنها لا تؤثر في المسيرة التي تسعد بها البشرية. هذا هو المفتاح الكبير، وهذا هو السر الكبير، وهو بدهي عند المسلمين، ولكن المسلمين يغفلون عنه! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

بداية طريق الإيمان

بداية طريق الإيمان الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. إن بداية طريق الإيمان معرفة مستيقنة بالله تبارك وتعالى، تملأ النفس، وتملأ القلب، وتتوارد إلى النفوس في هذه الأيام من خلال معايشتها لكتاب الله تبارك وتعالى ولسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، والنظر في هذا الكون الرائع العجيب البديع الذي خلقه الله تبارك وتعالى، كل ذلك يرقق القلوب، ويصفيها، ويطهرها، وينظفها، ويجعلها مثالاً للإيمان، خاصة إذا اقترن بهذا عمل صالح يهذب النفس ويربيها. فالمنهج إيمان قائم على العلم، وعمل مطهر يخلص النفوس من الشوائب، ويجعلها تقترب من الأنموذج الذي ذكره الله تبارك وتعالى في محكم كتابه من الأنبياء، والرسل، والأخيار والصالحين في تاريخ البشرية، الذين حدثنا الله تبارك وتعالى عنهم، فارتفعوا إلى هذا المستوى الراقي الرائع الذي يمثل دين الله تبارك وتعالى ووحي الله عز وجل. الطريق في أيامنا هذه ليبلغ الإنسان هذا المستوى هو أن يعيش تحت ظلال هذا الكتاب، وتحت ظلال هذه السنة النبوية، ويقتدي بالصالحين في أخلاقهم، وفي قيمهم، وأن ينظر إلى الله تبارك وتعالى من خلال كتابه، ويتعرف على الله عز وجل من خلال مخلوقاته، فيحيا الإيمان في نفسه، ويستقر اليقين في قلبه، ويصبح إنساناً يصلح لأن يسمى بعبد الله، يرضى الله تبارك وتعالى عنه، ويرضيه عندما يقدم عليه، ويحقق به في هذه الأرض في هذه الفترة القصيرة التي يقضيها في هذا الوجود خيراً كبيراً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

مع حديث لرسول الله

مع حديث لرسول الله جوامع الكلم من المعجزات التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يتكلم بالكلمات القليلة وهي محتملة معاني كثيرة. وفي كلمات موجزة بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرضاه الله لنا وما يكرهه لنا ومن أهم ما يرضاه لنا التوحيد والوحدة والنصيحة.

ما أحبه الله لنا

ما أحبه الله لنا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهدا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، يرضى الله لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تنصحوا لولاة أموركم، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). معلوم: أن الله تبارك وتعالى لا يرضى لعباده إلا ما يصلحهم، ولا يكره لهم إلا ما يفسدهم، فكل ما رضيه الله تبارك وتعالى لنا ففيه الخير والصلاح والبركة؛ لأن الله تبارك وتعالى رحيم بعباده، لا يرضى لهم إلا ما فيه الخير والصلاح، قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، فالله تبارك وتعالى رضي لنا الإيمان والشكر وكره لنا الكفر، وفي ذلك خيرنا وسعادتنا. يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن ربنا رضي لنا ثلاثة أمور عظيمة: الأول: (أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وهو التوحيد والإخلاص. الثاني: (أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وحدة الأمة بالاستمساك بكتابها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وفي مقابل الاعتصام بالكتاب والسنة: الفرقة والخلاف. فالله تبارك وتعالى يحب من أمة الإسلام أن تكون أمة واحدة مجتمعة على كتاب ربها، وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم. الثالث: (وأن تنصحوا لولاة أموركم) وكذا لخليفة المسلمين وإمامهم، وكذا حكام الدولة الإسلامية يناصحوا بأن يستقيموا على منهج الله، وأن يحكموا شريعته، فإذا ما شذ شاذ نبهه منبه، ونصحه ناصح، ووعظه واعظ. (وكره لنا ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). هذه التي يكرهها الله تبارك وتعالى هي أمراض تضيع وقت الناس في أمور لا تغني، قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، فأما أن يكثر الإنسان من الأسئلة في الأمور التي لا تنفع فهو كما حدث من بني إسرائيل، قال تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108]، وكذلك إنفاق المال فيما لا يحل، أو تبذيراً وإسرافاً، فتضيع ثروة الأمة، وتكون الأمة ذليلة بعد أن كانت عزيزة. وأما قيل وقال، فإضاعتها للأوقات أمر ظاهر، بل قد تكون طريقاً للحرام.

لب الدين وأساسه

لب الدين وأساسه فالقضايا الثلاث التي رضيها الله تبارك وتعالى تمثل في منهج الإسلام أصولاً يقوم عليها المجتمع الإسلامي، ووحدة المسلمين، وذلك عند وحدة المقصد والعقيدة، بأن يعبدوا رباً واحداً، وأن يخلصوا دينهم له تبارك وتعالى، وهذه كما ألمحت في أكثر من خطبة هي القضية الأساسية، لا في هذا الدين الذي أنزل إلينا، بل عند جميع الرسل الذين بعثهم الله تبارك وتعالى. فالله تبارك وتعالى يريد من عباده أن يحققوا الهدف الذي خلقوا من أجله، والله تبارك وتعالى خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، ثم بين لنا كيف نعبده، فأرسل لنا رسلاً، وأنزل علينا كتباً، فضل الناس عن هذه الحقيقة والقضية الكبرى، فعبدوا عبر التاريخ الأصنام والأوثان، وعبدوا الشمس، والقمر، والنجوم والجبال، والأشجار، والأحجار، والرجال والنساء، وما تركوا شيئاً إلا عبدوه، ولا تزال المسيرة إلى الآن، فملايين من البشر يعبدون غير الله تبارك وتعالى، بل أكثر الناس -كما أخبر الله تبارك وتعالى- ليسوا بمؤمنين، وإن زعموا أنهم مؤمنون، فتُعبد من دون الله آلهة شتى، ولا يزال بوذا يعبده مئات الملايين، والشيوعيون وإن زعموا أنهم لا يؤمنون بإله، ولكن واقع الأمر أنهم يعبدون مؤسس المذهب، فيطيعونه، ويحنون رءوسهم عندما يمرون أمام جثته في الميدان الأحمر في موسكو وهذه من صور العبادة. والنصارى -وهم مئات الملايين- يعبدون عيسى من دون الله، وهو الذي جاء ليقول للناس: أنا عبد الله، أنا نبي الله، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ومن المسلمين من سار نفس المسيرة، وهو يزعم أنه يشهد أن لا إله إلا الله، ولكنه يعبد القبور والأولياء والصالحين، ويدعو من دون الله رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ويدعو من دون الله علياً والحسن والحسين، فأقوام ممن يدعون الإسلام يفعلون ذلك، وما أولئك بالمؤمنين. إن القضية الكبرى أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لنا أن نعبده ولا نشرك به شيئاً)، وقال الله تبارك وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وهذا ميثاق أخذه الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، وكل رسول يبعث كان يقول للناس: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. فالقضية مهمة، وهي: أن يكون دينك لله تبارك وتعالى، وأن تقصده عز وجل بإرادتك وحبك ورجائك وخوفك، ورغبتك، ورهبتك، وأن تصلي له تبارك وتعالى لا لغيره، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فتستعين بالله، وإذا دعوت فيكون دعاؤك وطلبك من الله تبارك وتعالى، ولا تدع معه أحداً، قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. فالتوحيد لب الدين وأساسه، والذي لا يحققه فليس له من الإسلام نصيب، وليس من أهل الجنة، فلا يجوز النار ويدخل الجنة إلا موحد، قد أخلص دينه لله، ووحده تبارك وتعالى.

الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق

الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق القضية الثانية: أن نعتصم بحبل الله، كما أمر الله تبارك وتعالى قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]. فقوله: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)) حبل الله: هو كتابه، وطرفه في أيدينا والطرف الآخر عند الله تبارك وتعالى، فمن استمسك به نجا، ونال رضوان الله تبارك وتعالى. وكتاب الله تبارك وتعالى عقيدة المسلمين، وشريعتهم المسلمين، فيه أخلاقهم وصفاتهم وعلاماتهم! كتاب الله تبارك وتعالى يمثل المنهج الذي رضيه الله تبارك وتعالى للمسلمين ولهذه الأمة، فيصبحوا بكتاب الله ربانيين، وعلماء، وموحدين، وإذا استمسكوا به اجتمعت كلمتهم، وتوحدت صفوفهم، واتحدت عقيدتهم، وتوحدت تصوراتهم وأعمالهم وقبلتهم، فهو يوجههم إلى رب واحد، ورسول واحد ودين واحد، ومنهج واحد. وقد ذم الله تبارك وتعالى اليهود لتفرقهم، بعد أن أنزل إليهم كتابهم التوراة، فقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4]، جاءتهم البينة من عند الله في كتابه، ثم اختلفوا، والنصارى جاءهم الإنجيل يقرر التوحيد والحق، ويشرع لهم ما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم فاختلفوا فيه، وجعلوا عيسى إلهاً من دون الله فتفرقوا. وهذه الأمة بيوت الله مليئة بكتابه، والإذاعات تتلوه ليل نهار، وعلماء المسلمين يعظون به، والأمة ممزقة مختلفة: فئة تنادي بالبعثية، وفئة تنادي بالوطنية، وفئة تنادي بالديمقراطية، وفئة تنادي بالشيوعية، ويقولون: نحن مسلمون، وأين كتاب الله؟ دينه وشرعه؟ وأين تحكيم هذا الدين في رقاب العباد ونفوسهم، ومجتمعات المسلمين؟ أين الاعتصام بكتاب الله، امتثالاً لقوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]؟! فيرضى لنا ربنا أن نعتصم بحبله ولا نتفرق، ولا يرضى تبارك وتعالى لنا أن نتفرق ونختلف، ونضع كتاب الله تبارك وتعالى وراء ظهورنا، إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه يشكو في يوم القيامة أمته إلى ربه كما قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فكأنه يقول: إن قومي هجروا كتابك الذي أنزلته ليكون لهم نوراً وضياءً وحياةً، هجروه واستبدلوا به تعاليم فلان وفلان، ونظرية فلان في الاقتصاد، ونظرية فلان في التربية، ومبدأ فلان في المناهج والعقائد، وتفرقوا شذر مذر، كما هو واقع في أمتنا في هذه الأيام.

مناصحة ولاة الأمور

مناصحة ولاة الأمور القضية الثالثة التي يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله رضيها لنا: أن نناصح ولاة أمور المسلمين، كخليفة المسلمين وإمامهم، وحكامهم، فنقول لهم إذا ضلوا: لقد ضللتم، وإذا أخطئوا: لقد أخطأتم، وإذا انحرفوا: لقد انحرفتم، استقيموا على كتاب الله، وحدوا صفوفكم وكلمتكم، وتحاكموا إلى شريعة الله، وإلى دينه فبذلك يثبت ملككم، وحكمكم، وبذلك ترضون عنكم ربكم، وإلا فإنكم إلى زوال، فقد زال من قبلكم من ملوك وحكام، كانوا يملئون الدنيا ضجيجاً وإزعاجاً، فزالوا وزالت آثارهم، وبقيت عليهم آثامهم. ولقد كان علماء المسلمين وفقهاؤهم ووعاظهم ينصحون للأمة عبر التاريخ، وينصحون لحكام المسلمين؛ فاستقامت الأمة دهراً طويلاً وثبتت، على الرغم من الصعاب والمصائب، والأعاصير التي هبت عليها. فهذه ثلاث قضايا تصب في: وحدة العقيدة، ووحدة الهدف -بالاعتصام بكتاب الله- ووحدة التشريع، ووحدة الأمة، ثم وحدة قيادة المسلمين، ووحدة القيادة تكون بمنهج الله، وبدينه، فالتوحيد والاعتصام والمناصحة ثلاث قضايا رضيها لنا ربنا، وتصلح بها أمتنا لو كان في الأمة رجال يعرفون كيف الصلاح، وكيف السبيل إلى العزة والقوة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

الأمور التي كرهها الله لنا

الأمور التي كرهها الله لنا

كراهة إضاعة الوقت بقيل وقال

كراهة إضاعة الوقت بقيل وقال الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله ورسوله، لقد أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فيجمع المعاني العظيمة في الكلمات القليلة، وهذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كما رأينا يتحدث عن قضايا خطيرة في حياة الأمة الإسلامية. في الشطر الثاني من الحديث يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يكره لنا أن تشغل أوقاتنا بقيل وقال، قال فلان كذا، وقالت فلانة كذا، وفلان روى، وفلانة روت، ونتناقل الأحاديث نشغل بها الساعات الطويلة فنبتعد عن القضايا المهمة بالحديث في سفاسف الأمور، كما هو حادث في هذه الأيام، أخبار تنقل من المشرق والمغرب، لا ندري منها الصحيح من الباطل، والقوي من السقيم، نشغل بها أنفسنا ونعيش في دوامة لا ندري ما الصحيح منها وما غير الصحيح، فنتناقل الأحاديث والأقوال نشغل بها أنفسنا.

كراهة إضاعة المال

كراهة إضاعة المال كذلك إضاعة المال بلاء أصيبت به الأمة الإسلامية، نضيع أموالنا في طعامنا وشرابنا، ولباسنا، وإنفاقنا، بل منا من ينفق ماله في الحرام، ويبخل إذا ما طلب منه أن ينفق في الحلال، وهذا إضاعة المال في غير محله، ونحن محاسبون مسئولون عنه يوم القيامة، فستسأل عن مالك يوم القيامة، من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟ فهل اكتسبته من حلال وأنفقته فيه أم تبذرت به وأنفقته في حرام؟ كل ذلك ستسأل عنه الأمة، ويسأل عنه كل فرد منها.

كراهة كثرة السؤال

كراهة كثرة السؤال أما كثرة السؤال فبلاء يصيب في كثير من الأحيان طلبة العلم، بل يصيب في بعض الأحيان عوام الناس، فيسألون عن المتشابهات والأمور الغامضة، ولا يتجهون إلى تعلم الأحكام الشرعية الواضحة، فيشغلون أنفسهم في أمور قد لا تقع، بل قد يشغلون أنفسهم بأمور متخيلة بعيدة. بنو إسرائيل شكوا إلى موسى أنهم وجدوا رجلاً قتيلاً لا يعرفون قاتله، فقال لهم: اذبحوا بقرة، فقالوا كما أخبر الله عنهم: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، كان الواجب عليهم أن يذبحوا أي بقرة كانت، فإذا بهم يسألون ويستفصلون، ويتعنتون: ما لونها؟ ما هي؟ كبيرة أم صغيرة؟ تشتغل أم لا وفي كل سؤال يشدد الله تبارك وتعالى عليهم. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطوف، أو يسعى بين الصفا والمروة، ثم يخطب في المسلمين فيقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فيقوم رجل من المسلمين ويقول: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم مغضباً، وقال: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم). فعندما يقول الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، ويأتي البيان فنلتزم به، وعندما لا يأتي بيان نحو: (كتب عليكم الحج)، ولا يبين لنا عدداً، فإذا حج الإنسان مرة واحدة فإن هذا يكفي، فهذا الصحابي يقول: أفي كل عام؟ لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم في كل عام، لأصبح واجباً على المسلمين جميعاً أن يحجوا في كل عام والناس لا يستطيعون ذلك، ثم قال: (ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم). وقد يكون المقصد من الحديث: سؤال الناس ما عندهم من أموال من غير حاجة، وفي الحديث: (الذي يسأل الناس من غير حاجة، يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)، أي: وجهه كله عظم، كما يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان الناس يتعففون عن السؤال، ولا يسألون إلا عندما لا يجدون سبيلاً. مات رجل كان يسأل الناس من أهل الصفة، وهو فقير لا يجد بيتاً ولا مأوى، وكان يأخذ من الناس، فوجدوا بعد موته ديناراً؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كية) أي: كية في النار؛ لأنه كان يسأل وله دينار واحد، ومات آخر من أهل الصفة وهو فقير يسأل الناس، ويقبل طعامهم، فوجدوا عنده دينارين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كيتان) أي: كيتان في النار يوم القيامة؛ لأنه يسأل وله شيء من المال يغنيه عن ذل السؤال. (وجاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل، فرآه الرسول صلى الله عليه وسلم جلداً قوياً، فأخذ متاعاً للرجل كان على رأسه أو شيئاً من ذلك، وقال: من يشتري هذا؟ فاشتراها صحابي بدرهمين، فقال: أنفق درهماً على عيالك، واشتري بالدرهم الثاني فأساً، ولا أرى وجهك إلى أيام، فذهب الرجل واحتطب في أيام وباع، واحتطب وباع، وجاء بعد أيام عشرة أيام وفي يده بضعة دراهم، فقال: هذا خير من أن يسأل أحدكم الناس أعطوه أو منعوه). هكذا ربى الإسلام أبناءه أن يكونوا رجالاً، وأن يحاولوا قدر طاقتهم أن يتعففوا، ومدح الله تبارك وتعالى المتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافاً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب سميع الدعوات، أقول قولي هذا وأقم الصلاة.

قيمة الاهتمام في زيادة الإيمان

قيمة الاهتمام في زيادة الإيمان إن المتتبع لسيرة السلف الصالح وحياتهم الإيمانية ليجد الفرق الشاسع بين سلفنا وخلف اليوم في الالتزام بدين الله، ووجود الهمة العالية في طلب مرضاة الله والسباق إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. بينما أبناء عصرنا وشباب ديننا اليوم صاروا يلهثون وراء هذه الدنيا، وتدنت هممهم حتى اشترى أحدهم حمامة للهو بثمانية آلاف دينار.

همة السلف الصالح إلى الجنة

همة السلف الصالح إلى الجنة إن الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. مما ترويه كتب السنة أن الصحابي الجليل أبا الدرداء كان جالساً في مسجد دمشق، فجاءه رجل من أهل المدينة، فقال له: يا أبا الدرداء! جئتك من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بي من حاجة إلا أن أسمع منك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً يسر الله له به طريقاً إلى الجنة). رجل يخرج مسافراً يقطع الفيافي والقفار، مسافات شاسعة لا يخرجه من بيته ويجعله يتحمل أعباء السفر إلا أن يسمع أحاديث قالها الرسول صلى الله عليه وسلم ممن سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبشره صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطريق الذي سلكه في خروجه من بيته لطلب العلم إنما هو طريق يوصله إلى جنة الله تبارك وتعالى. وفي حادثة أخرى في إحدى المعارك يخطب الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري في المسلمين قبيل المعركة، فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)، فيقول رجل من المقاتلين يسمعه: أأنت سمعت هذا يا أبا موسى من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم، فيذهب إلى قومه فيقول: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر غمد سيفه، ومشى إلى الأعداء فقاتل حتى استشهد في سبيل الله، وقد فعلها من قبله في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عمير بن الحمام، الشاب الذي قاتل في معركة بدر عندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الجنة تحت ظلال السيوف فقال: بخٍ بخٍ يا رسول الله! قال: وما يحملك على أن تقول بخٍ بخٍ؟ قال: يا رسول الله! لا والله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها)، وكان يأكل تمرات في يده، فقال: لئن عشت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة. ولو ذهبت أحدثكم عن مثل هذه الأحاديث التي تبين نوعية هذه الاهتمامات التي كان يهتم بها المسلمون لطال الحديث، لقد كانت اهتمامات عالية في القمة، ما كان المسلمون يضيعون أوقاتهم في أمور تافهة، ولا يضيعون أموالهم في أمور حقيرة، وإنما كانت همتهم جنة الله تبارك وتعالى، هذا هو الهم الأكبر الذي يسخرون من أجله أموالهم ويسخرون من أجله أنفسهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] هذا هو الثمن، يبيعون النفس والمال ويقبضون الجنة. هذا هو الاهتمام الكبير، والجائزة كانت معروفة عند المسلمين، عندما يقال: فلان عالي الهمة، فيقولون: إذاً: لا يرضى بما دون الجنة، نفوس عالية، وهمة سامية، يبذل الإنسان أعز ما يملك! يبذل ماله ونفسه! إنها همة عالية في القمة لا يهتمون بسفاسف الأمور وتوافهها.

تضييع المال في السفاسف

تضييع المال في السفاسف قرأت اليوم في بعض الصحف أن مزاداً عقد في الكويت بيعت فيه حمامة واحدة بثمانية آلاف دينار، من هؤلاء الذين يعشقون الحمام، يشتري الواحد حمامة ويبذل آلافاً من الدنانير تعيش مئات من الأسر، لا أقول: عشرات، بل في بعض البلاد يحتاجون إلى دراهم يقيمون بها أصلابهم. نفقة الشخص الواحد في باكستان في اليوم أقل من مائة فلس، تكفيه لطعامه وشرابه، فلا يجد مائة فلس، وهذا ينفق على حمامة واحدة ثمانية آلاف دينار. أي اهتمام هذا؟! وأي نفسية هذه في هذا العصر الذي ركبنا فيه أعداء الإسلام، والذي أصبحت ديار المسلمين فيه مباحة، يتصرفون فيها كما يتصرفون في أموالهم؟! تأتي اهتمامات المسلمين في أسفل سافلين، كان المسلم عندما يقال له: أنفق في سبيل الله، إذا بالأثرياء يتسابقون، عثمان بن عفان في غزوة العسرة يعطي من ماله مائة راحلة، يجهزها تجهيزاً كاملاً بكل ما عليها، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) أي: لا يضره شيء فعله بعد اليوم. عندما يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار في بيعة العقبة الثانية يشترط عليهم لربه ولدينه ولنفسه، فيقولون: فما لنا إن وفينا يا رسول الله؟! فيقول: الجنة، هذا هو الذي لكم. اهتمامات المسلمين كانت بالعلم والجهاد في سبيل الله، وبأن يحققوا أوامر الله تبارك وتعالى في أنفسهم وأموالهم، ثم يبذلون من الوسائل في سبيل هذا ما يملكون وما يستطيعون. وهنا صور من اهتمامات غريبة تظهر في ديار المسلمين، هذا المد الكفري الذي يأتينا وافداً من هنا وهنا وبسبب ضعف اتصال المسلمين بدينهم، في عالم الغرب تحفة أثرية تصل قيمتها لا أقول: إلى مئات الآلاف، بل إلى الملايين، لوحة تعلق في الحائط، عندما يوجد طابع قديم مضى عليه خمسون، أو ستون سنة يباع بمئات الآلاف من الدولارات، بل قد يصل إلى الملايين. الممثلة أو الممثل دقيقته في بعض الأحيان عندما يظهر في مسلسل أو في التلفاز في السينما تبلغ إلى مئات الآلاف من الدولارات، وقد تصل إلى الملايين، إنها اهتمامات غريبة، هؤلاء أهل الدنيا هذه جنتهم ونارهم، لكن ما بال المسلمين يفعلون فعلهم؟! ما بال المسلمين تنخفض اهتماماتهم حتى تصبح في الحضيض؟! ألا يذكر المسلم أنه سيقف بين يدي الله؟! بالله عليكم هذا الذي دفع ثمانية آلاف، عندما يأتي في يوم القيامة سيسأله ربه: أين ذهبت هذه الثمانية الآلاف؟ سيقول: يا رب! اشتريت بها حمامة، أيقبل ربه منه؟! الله تبارك وتعالى يقبل أن يبذل ثمناً عظيماً في أمر تافه؟! ما هو أجره لو بذله في حرب وقتال؟ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال: (يا رسول الله! خذها في سبيل الله، قال: لك بها سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة). يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع). ومنها: (وماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟) من أين جئت بهذا المال؟ أجئت به من حلال أم حرام؟ فيم أنفقت هذا المال؟ أنفقته في حلال أم في حرام؟ هل تصرفت به وفق الضوابط الشرعية أم وفق الأهواء النفسية؟!

بين الحرية والعبودية

بين الحرية والعبودية بعض الناس يقول لك: أنا حر! أنت عبد لله، ستسأل عن كل كلمة، وستسأل عن كل فعلة، هذا شأن العبيد الذين يسألون عن كل شيء، ونحن عبيد لله تبارك وتعالى. صحيح نحن لسنا بعبيد للبشر والمخلوقات، نحن أحرار، لكن بالنسبة لله تبارك وتعالى نحن عبيد مقيدون بمنهج الله، إن تمردنا على الله تبارك وتعالى ولم نستمسك بهذا الدين فإن مصيرنا رهيب، وإن العاقبة غير سارة، وهناك حساب شديد، في يوم الحساب يسأل الرسول أن يشفع فيقول: نفسي نفسي! إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي! أنا لا أسأل الله في هذا اليوم إلا نفسي، يقول هذا خليل الرحمن إبراهيم، ويقوله نوح، ويقوله موسى، ويقوله عيسى، ويقوله كل الأنبياء في ذلك اليوم، يقول الواحد منهم: نفسي نفسي! إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فيعتذر أن يشفع للناس في بعض المواقف خوفاً من العاقبة، فنحن أحرى أن نخشى الله تبارك وتعالى ونستقي من المرسلين.

تكفير الذنوب بالبذل في طريق الخير

تكفير الذنوب بالبذل في طريق الخير ذنوبنا كثيرة، وآثامنا كبيرة، وليست لنا مكانة الرسل، ولن ينجي في ذلك اليوم إلا التقوى: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، أن يقدم المسلم لآخرته، وأن يقدم لربه تبارك وتعالى ويتقي غضب الله وناره، ثم يكون فعله منضبطاً بهذا الإسلام ولهذا الدين، لا يتصرف في أفعاله تصرفات خاطئة، ولا يتصرف في أمواله تصرفات خاطئة، إن كان عنده فضل مال فليجد به في الطرق التي شرعها الله تبارك وتعالى، للفقراء، وللمساكين، وفي سبيل الله، وفي إقامة المشروعات النافعة التي تعود على الأمة بالخير، ويتجدد نفعها فيصل إليه في قبره كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا مات فإنه ينقطع عمله إلا من ثلاث: (صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). الصدقة الجارية التي يتركها الإنسان واقفاً إياها في سبيل الله تبارك وتعالى يبقى نفعها للناس متجدداً؛ لأنها قائمة، فكلما استفاد منها العباد فإن الأجر والثواب يصل إليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

النفس التواقة

النفس التواقة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. من سيرة خلفاء المسلمين وحكامهم الخليفة الراشد الأموي عمر بن عبد العزيز، مما يروى عنه من مأثور القول أنه قال: إن لي نفس تواقة، تاقت إلى الإمارة فنلتها، ثم تاقت إلى الخلافة فنلتها، وإن نفسي تتوق إلى الجنة. نفس الإنسان العظيم الكبير دائماً تطلب معالي الأمور، والإنسان الذي يطلب معالي الأمور لا يمكن أن يجد أمراً أعلى من أن يحقق ما يريده الله تبارك وتعالى، يقول: تاقت نفسي إلى الإمارة فنلت الإمارة، فوجدتها ليست بالشيء الذي يملأ نفسي، ثم تاقت إلى الخلافة فنلتها، ولكن لم أجد الخلافة تملأ نفسي، فتاقت النفس إلى جنة الله تبارك وتعالى. المال لا يغني النفس، والمتاع لا يغني النفس، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثاً). عندما يكون الإنسان فقيراً فيحصل على بيت، إذا به يريد بيتاً أحسن منه، وعندما يكون غنياً ويشتري قصراً، إذا به يريد قصراً أحسن منه، عندما يملك الإنسان الشيء من أمور الدنيا بعد ذلك لا يحترمه، لأن نفس الإنسان دائماً تريد الأعلى، ولذلك أدبنا القرآن بأدبين: الأدب الأول فيما يتعلق في أمور الدنيا، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131]، انظر في أمور الدنيا إلى من هو أقل منك صحة وعافية ومالاً، فعند ذلك تحمد الله على نعمته. أما فيما يتعلق بأمر الآخرة فانظر إلى الغني الذي ينفق ماله في سبيل الله، وإلى المجاهد الذي يبذل نفسه في سبيل الله، وإلى العالم الذي يبذل وقته في سبيل الله، وتطلع دائماً لأن تكون واحداً من هؤلاء؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو يسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله علماً فهو يقضي به بين الناس). هذان الاثنان يتطلع إليهما الذي يحسن النية، فيتمنى أن يكون له مثل ذلك الغني المنفق في سبيل الله، ومثل ذلك العالم الذي يعلم الخلق وهو صادق في نيته، ولكنه لا يستطيع أن يحقق ذلك، له مثل أجرهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خير الناس من آتاه الله علماً، فهو يسلطه على هلكته في الحق، ومن آتاه مالاً، ثم الذي يتمنى مثل ما لهذين فإنه ينال مثل أجرهما، (فهما في الأجر سواء) كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. والذي لا يؤتى مالاً ولا يؤتى في هذه الدنيا ما يتصرف فيه، ثم يتمنى أن يكون له مثل مال فلان المجرم السيئ من المال، يفسد كفساده، فهما في الوزر سواء، هذا لم ينل من الدنيا شيئاً يحقق به ما يطلبه من أهواء وشهوات، ثم ينال في الآخرة مثل إثم هذا الإنسان الآثم الفاجر. ففي مجال الدنيا ينبغي للمسلم ألا يشغل نفسه كثيراً، وألا ينظر إلى من هو أعلى منه، وفي مجال الآخرة ينبغي أن تتطلع همته إلى المنازل العالية، (وإن في الجنة تسعاً وتسعين درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله). اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

دراسة حول الملائكة

دراسة حول الملائكة خلق الله سبحانه وتعالى الملائكة من نور، وجعلهم غلاظاً شداداً لا يعصون الله ما أمرهم، ولهم أعمال كثيرة، ومنهم من في السماء، ومنهم من في الأرض، ومنهم من وكلهم الله بحفظ أعمال الإنسان وتسجيلها، ومنهم من يصلون على المؤمنين ويستغفرون لهم، ومنهم من يحفظون الإنسان ويحرسونه، ومنهم من يشهدون مجالس الذكر والعلم، ويتنزلون لسماع القرآن، فيجب الإيمان بهم، وبكل ما أخبر الله ورسوله عنهم.

توكيل الله للملائكة بحفظ الإنسان وأعماله

توكيل الله للملائكة بحفظ الإنسان وأعماله إن الملائكة يحفظون الإنسان، ويأتونه بالوحي، ويحفظون أعماله، فقد وكلهم الله بحفظ أعمال الإنسان، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10]، فالحافظون هم الملائكة، وقال تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:11]، فهم يتصفون بصفتين: كرماء أي: أخيار، وكاتبين، وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]. وقد وكل الله على كل إنسان ملكين حاضرين لا يفارقانه، يأتيانه ويحصيان عليه أعماله وأقواله، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18]، قوله: (رقيب عتيد) يعني: مراقب معد حاضر، لا يفارق الإنسان، يعلم حاله لكثرة ملازمته وحضوره، ويعلم كل ما يؤثر ويصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال، ويبدو من النصوص التي بين أيدينا أن الملائكة تكتب كل شيء يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال، لقول الله سبحانه وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق:18]، وهذه تفيد العموم في اللغة العربية، من قول أي قول؛ لذلك فإن يوم القيامة عندما يرى الكفار كتابهم يقول قائلهم: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. وقد نقل ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] أن الحسن البصري -وكان من خيرة الزهاد والوعاظ، وكان رجلاً صالحاً- تلا هذه الآية وقال: يا ابن آدم! بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ الحسنات، وأما الذي عن يسارك فيحفظ السيئات، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14]، ثم يقول -أي الحسن البصري -: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك. نعم، فهذا قمة في العدل. ويذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه كان يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أتيت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقي سائره، وذلك قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. وذكر ابن كثير عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين، فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله. وما ورد على لسان الحسن البصري من أن صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات ورد في حديث صحيح يرويه الطبراني في معجمه أن صاحب الشمال يرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت عليه.

كتابة الملائكة أفعال ونيات القلوب

كتابة الملائكة أفعال ونيات القلوب استدل صاحب الطحاوية على أن الملائكة تكتب أفعال القلوب بقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]، يقول: هذه آية شاملة للأفعال الظاهرة والباطنة، واستدل أيضاً بالحديث المتفق عليه عند البخاري ومسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً)، فهو يقول للملائكة: (إذا هم)، وما أراد في الهم إلا أقل درجة من الإرادة والنية. كذلك الحديث الآخر أيضاً في البخاري ومسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قالت الملائكة: ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها بمثلها سيئة، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي) يعني: لأجلي خوفاً مني، فهذه النصوص تدل على أن الملائكة تعلم إرادة الإنسان لعلم أعطاهم الله يعلمون به ذلك.

علاقة الملائكة بالمؤمنين

علاقة الملائكة بالمؤمنين علاقة الملائكة بالمؤمنين علاقة قوية تجمعهم رابطة الإيمان، وهم يحبون المؤمنين الصادقين في إيمانهم كما في حديث البخاري ومسلم (إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه -أي: يحبه جبريل- ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض). وهم يصلون على المؤمنين، ويدعون لهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]، وقال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. فالله يذكر العبد في الملأ الأعلى، وإن الملائكة تدعو للعبد الصالح، وقد ذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم نماذج من الأعمال التي تصلي فيها الملائكة على صاحبها، فمن ذلك: معلم الناس الخير الذي يعلمه، فمن الجوائز التي ينالها أن تصلي ملائكة السماء عليه، كما في الحديث الذي رواه الطبراني والترمذي بسند صحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير). وكذلك الذين يقصدون المساجد للصلاة في جماعات، ففي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة تصلي على الذي يأتي المسجد للصلاة، وتقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه ما لم يحدث فيه). وكذلك الذين يصلون في الصفوف الأولى، كما في سنن أبي داود وابن ماجة وفي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)، وفي رواية: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم). وكذلك الذين يمكثون في مصلاهم بعد الصلاة، ففي سنن أبي داود والنسائي عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث أو يقم تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه). وكذلك الذين يسدون الفرج خلال الصفوف، ففي سنن ابن ماجة ومسند أحمد والحاكم عن عائشة مرفوعاً: (إن الله تعالى وملائكته يصلون على الذين يقيمون الصفوف) أي يسوونها، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة. وكذلك تصلي الملائكة على الذين يتسحرون في رمضان، كما في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى وملائكته يصلون على المتسحرين). ومن ذلك صلاة الملائكة على الذين يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما من عبد يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة ما دام يصلي علي فليقل العبد من ذلك أو ليكثر). كذلك صلاة الملائكة على الذي يعود المريض، ففي صحيح ابن حبان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من امرئ مسلم يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح)، وهذا أجر عظيم وثواب كثير يضيعه المسلمون. وفي رواية لـ أبي داود والحاكم: (ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي)، ولكن من المسلمين من لا يعرف قيمة نفسه، ولا قيمة الأعمال التي يوجهه الله إليها، وكم من أناس ينشغلون بالتفاهات من الأمور وبقضايا جزئية، ويستثقل الإنسان أن يفعل أمور الخير التي هي ثقيلة في ميزان الله سبحانه وتعالى.

أثر صلاة الملائكة على المؤمنين

أثر صلاة الملائكة على المؤمنين صلاة الملائكة على المؤمنين لها أثر عظيم كما يقول الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ} [الأحزاب:43]، فاللام هنا لام التعليل، يعني: الصلاة لها أثر، لها قيمة، قال تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43]، فذكر الله لنا في الملأ الأعلى أن دعاء الملائكة له أثر في هدايتنا، وفي إخراجنا من الظلمات، والآية تعني: ظلمات الشرك والكفر والذنوب والمعاصي، وقوله تعالى: ((النُّورِ)) أي: الهداية، وطريق الحق، وطريق الخير، فصلاة الملائكة لها أثر كبير في انتقالنا من الضلال والشرك والظلمات إلى النور والهداية إلى الطريق المستقيم.

الملائكة تستغفر للمؤمنين

الملائكة تستغفر للمؤمنين وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن الملائكة تستغفر لنا، والاستغفار تقريباً هو نفس الصلاة التي ذكرت من قبل، يقول تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى:5]، وفي سورة غافر أخبر الله أن الاستغفار إنما يكون للمؤمنين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9].

شهود الملائكة مجالس العلم وحلق الذكر

شهود الملائكة مجالس العلم وحلق الذكر الملائكة تشهد مجالس العلم وحلق الذكر كما في البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر)، وهؤلاء الملائكة ليسوا بالحفظة الذين يحفظون الإنسان من بين يديه ومن خلفه، وليسوا بالملائكة التي تسجل الحسنات والسيئات، بل هم ملائكة آخرون يلتمسون فقط أهل الذكر ويحضرون مجالس العلم، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى نادوا: هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الأولى. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، وفي مسند أحمد والسنن عن أبي الدرداء مرفوعاً: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب). فالأعمال الصالحة تقربنا من الملائكة مثل زيارة مريض، والصلاة على الرسول، وحضور مجالس العلم تجعل عند الإنسان حالة من السمو الروحي بحيث تقترب منه الملائكة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم إذ خرجتم من عندي تكونون على الحال الذي تكونون عليه لصافحتكم الملائكة بطرق المدينة) أي: لو كان الإنسان في حالة من السمو الروحي عالية فالملائكة تصافحه؛ وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم).

كتابة الملائكة للسابقين إلى أماكن العبادة

كتابة الملائكة للسابقين إلى أماكن العبادة الملائكة في بعض الأحيان يكتبون الذين يقدمون إلى أماكن العبادة، وتثبته الملائكة الحفظة كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول)، هؤلاء ملائكة آخرون جاءوا وقد وكلوا بحفظ أعمال العباد، قال: (فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجلسوا يستمعون الذكر) فالملائكة الحفظة تسجل كل شيء، لكن هناك ملائكة يتتبعون الكلام الطيب، ويسجلونه أيضاً كما في صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: (كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها) أي: أكثر من ثلاثين ملك من غير الحفظة، هؤلاء الملائكة هم الذين يردون علينا، ويسمعون كلام الناس، ويتعاقبون فينا بالليل والنهار، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر). فهناك ملائكة تنزل وقت العصر وتستمر إلى الفجر، وهناك ملائكة آخرون تنزل وقت الفجر وتستمر إلى العصر؛ فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، قال: (ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)، هؤلاء هم الذين يرفعون أعمال العباد الذين يسأل الله سبحانه وتعالى عنهم، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل صلاتي الفجر والعصر أهم من أي صلاة أخرى، ومن الأدلة التي تدل على أنهما أهم من غيرها من الصلوات قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، وقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، قيل: هي صلاة العصر.

تنزل الملائكة لسماع القرآن الكريم

تنزل الملائكة لسماع القرآن الكريم ومن جملة ذلك أنهم يتنزلون لقراءة القرآن، كما في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أسيد بن حضير قال: (بينما هو ليلة يقرأ في مربده)، المربد الذي فيه الحبوب، قال: (إذ جالت فرسه) جالت: يعني أحدثت حركة، قال: (فقرأ ثم جالت أخرى -تحركت حركة قوية فيها عنف وقوة- وقرأ ثم جالت أيضاً، قال أسيد: وخشيت أن تطأ يحيى -أي: كان ابنه نائماً وخشي أن الفرس تطؤه- فقمت إليها، فإذا مثل الظلة فوق رأسي -مثل الغمامة- فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا ابن حضير! قال: فقرأت، ثم جالت أيضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا ابن حضير! قال: فقرأت، ثم جالت أيضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا ابن حضير! قال: فانصرفت وكان يحيى قريباً منها فخشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم).

رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم للملائكة

رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم للملائكة هل يرى الرسول صلى الله عليه وسلم كل الملائكة الموجودين في الأرض كما يرى البشر؟ يبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي قدرة في الإبصار تختلف عن أبصارنا، كما في حديث قال: (أرى الشياطين من خلال صفوفكم كالحذف)، أي: مثل صغار الغنم يمشون بين الصفوف، فيبدو أن له قدرة على رؤيتهم، والله أعلم. وإذا رأى الإنسان الملائكة فهو من الكرامة، كما أنه يبدو أن الرسول لا يستطيع أن يراهم حقيقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما رأى جبريل إلا مرتين، إلا إذا قلنا: إن جبريل له شأن عظيم عند الملائكة، وعلى كل هذه القضايا قضايا غيبية ما نستطيع أن نحكم إلا إذا ورد في ذلك نصوص ثابتة. فالرسول صلى الله عليه وسلم ما شاهد جبريل إلا مرتين، أما الصورة التي تشكل فيها جبريل عندما جاءه في الغار، وهناك مناسبة بين الصورة التي يتشكل بها والصورة الأساسية، وهناك نوع من التشابه، ولم يرى جبريل المرة الأولى على هيئتة الحقيقية، ولكنه رآه مرتين بنص القرآن ونص الرسول صلى الله عليه وسلم.

تشكل الملائكة بصور حسنة

تشكل الملائكة بصور حسنة الملائكة تتشكل بأشكال حسنة، أما قصة ذلك الملك الذي جاء على صورة رجل أعمى، ثم على صورة رجل أبرص، ثم أقرع في قصة الذين ابتلاهم الله وهم الأبرص والأقرع والأعمى، ثم شفاهم الله من أمراضهم، فإنما هو للاختبار فقط، والأصل على وجه العموم في الأحوال العادية أن الملائكة لا تتشكل إلا بأشكال جميلة وطيبة.

إعلام الله الملائكة بخلق آدم

إعلام الله الملائكة بخلق آدم الله سبحانه وتعالى بمجرد أن أراد خلق آدم أعلن ذلك للملائكة، يعني: قبل أن يوجد الإنسان كان عند الملائكة علم بأن هناك مخلوقاً سيوجد في الأرض صفته كذا وكذا، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. وبعد أن خلق آدم وشكله ونفخ فيه الروح أمر سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم، قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71 - 72]، فالملائكة سجدوا جميعاً إلا إبليس رفض أن يكون مع الساجدين، قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص:73 - 74]. وسجود الملائكة كلهم لا بعضهم هو قول عامة أهل العلم، وسجود ملائكة الأرض واضح من قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص:73] فهذا أسلوب في اللغة العربية يعم الملائكة جميعاً، وقد أكد الله ذلك بكلمتين تفيد هذا العموم إفادة كلية شاملة فقال: (كلهم أجمعون)، فلا يجوز الخلاف في ذلك كما يقول ابن تيمية، فلا يجوز لأي إنسان أن يقول: إن الذي سجد نفر من الملائكة؛ لأن اللفظ هنا واضح لا لبس فيه في أن الساجد هم الملائكة جميعاً. ومن الأشياء التي روتها لنا السنة: أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم وأسجد له ملائكته أمر الله سبحانه وتعالى آدم أن يذهب إلى نفر من الملائكة قريبين منه فيسلم عليهم فيقول كما ردوا به عليه، فهي تحيته وتحية ذريته، وهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، قال: فزادوه ورحمة الله).

دور الملائكة في تكوين الإنسان بإذن الله

دور الملائكة في تكوين الإنسان بإذن الله للملائكة دور في تكوين الإنسان، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله تعالى إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: أي رب! ذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك). وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون مثل ذلك علقة، ثم يكون مثل ذلك مضغة، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)، ففي الحديث الأول تشكيل للإنسان، وهنا بعد هذه الفترة ينفخ الملك فيه الروح ليصبح إنساناً قال: (فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد). وفي الصحيحين أيضاً عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكل الله تعالى بالرحم ملكاً فيقول: أي رب! نطفة؟ أي رب! علقة؟ أي رب! مضغة؟ فإذا أراد أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه).

تفاوت رؤية المخلوقات للملائكة والشياطين

تفاوت رؤية المخلوقات للملائكة والشياطين نحن ليس عندنا القدرة على إبصار الملائكة، لكن بعض الحيوانات لها القدرة على إبصار الملائكة كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً، وإذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً)، فالديك عنده قدرة على أن يبصر الملك، ونحن نعلم أن هناك مخلوقات تستطيع أن ترى ما لا نرى، فهناك حيوان يرى الأشعة فوق البنفسجية، ويستطيع في اليوم الغائم شديد الغيم أن يرى الشمس، والبوم عنده القدرة على أن يرى الأشياء الحية في ظلمة الليل، ويرى الفأر في ظلام الليل الدامس، فهو يستطيع أن يرى بالحرارة، فالحرارة المنبعثة من جسد الحيوان تجعل عنده القدرة على الرؤية، هذه الأشعة يسمونها الأشعة تحت الحمراء. فالمخلوقات متفاوتة، وعجائب الله في خلقه لا تحصى ولا تعد، فالديك عنده القدرة على أن يبصر الملائكة، كما أن الحمار يبصر الشيطان، والبشر يستطيعون أن يروا الملائكة في حالة واحدة إذا تشكلوا، ونادراً ما يستطيع البشر أن يرى الملك على حقيقته، وهذا حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين فقط؛ لذلك يعتبر تعنتاً من الكفار أن يطلبوا رؤية الملائكة في الدنيا في وضح النهار، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:21 - 22]، والملائكة تظهر للإنسان في حالة العذاب عندما يعذب الله الناس في الآخرة، ولكن في الدنيا ليس عندنا قدرة على أن نتحمل رؤية الملائكة على صورهم وعلى حقيقتهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى جبريل ذهب مرعوباً إلى زوجته، وذلك حين رآه على صورته الحقيقية. وعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه جبريل يتصل به فيوحي إليه بطبيعته الملائكية كان هذا شاقاً على الرسول صلى الله عليه وسلم وصعباً عليه، فلذلك من رحمة الله بنا ألا نستطيع أن نرى الملائكة، فهم يحيطون بنا، ولو كان عندنا القدرة على إبصارهم لما استطعنا أن نعيش، ومن رحمة الله كذلك أننا نسمع كل هذه الأصوات التي في الدنيا، ولو كان أذن الإنسان كالراديو يستقبل كل الموجات، ويستقبل كل الحركات التي في الدنيا لما استطاع أن يعيش، فهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى ألا يرى الإنسان كل هذه العوالم، وليس هذا عيباً في الإنسان بل كمال في الإنسان أنه لا يستطيع أن يسمع ولا يرى كل هذه العوالم التي تحيط به، ويقول الله سبحانه وتعالى مجيباً على الكفار: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95] أي: نرسل لهم رسولاً من جنسهم ومن طبيعتهم، حتى ولو أراد الله أن ينزل ملائكة لا ينزلهم بصورتهم الحقيقية، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8 - 9]، فول أنزل الله ملكاً لجعله بصفات الرجال حتى يستطيع أن يؤدي ما يريد ويتفاهم مع الناس. والحقيقة كما أخبر الله أن هؤلاء الذين كانوا يطلبون هذا الإعجاز بأن تأتي إليهم الملائكة تكلمهم وتخاطبهم هو تعنت منهم، ولا يريدون من ورائه الحقيقة؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111].

حراسة الملائكة للإنسان وحفظه

حراسة الملائكة للإنسان وحفظه من العلاقة التي بين الملائكة وبين الإنسان أن هناك ملائكة يحرسون الإنسان ويحفظونه، كما يقول الرب سبحانه وتعالى في سورة الرعد: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10]، كل ذلك سواء في علم الله، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، قال ابن عباس: المعقبات هم الملائكة، جعلهم الله ليحفظوا الإنسان من أمامه ومن ورائه، فإذا جاء قدر الله الذي قدر عليه ترك، فالمعقبات من الملائكة، غير الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات، والإنسان لا يدرك قيمة نفسه في ميزان الله سبحانه وتعالى، فقد جعل الله له ملكين يسجلان الحسنات والسيئات، وجعل له ملائكة من أمامه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، وأي شيء لا يقدر الله أن يصل إليه لا يجعلهم يقدرون أن يصلوا إليه، فهؤلاء الملائكة تحفظه، له معقبات من بين يديه ومن خلفه، من أمامه ومن ورائه، يقول مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس، يحفظه من الجن كما يحفظه من الإنس، وما من شيء يأتي على الإنسان إلا أبعده الملك عن هذا الإنسان حتى لا يؤذيه، حتى الحجر يسقط ويكون الملك أمامه أو خلفه فيحرسه فلا يصاب إلا بشيء أذن الله أن يصيبه، وقال رجل لـ علي بن أبي طالب: إن نفراً من مراد يريدون قتلك، فقال علي: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حصينة أي: وقاية، فليس الأمر فوضى، بل هناك تقدير، فالمعقبات المذكورة في سورة الرعد هي أيضاً مذكورة في سورة الأنعام، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [الأنعام:61] أي: يحفظونه إلى لحظة معينة إلى أن يكتبه الله من الموتى قال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. فالحفظة الذين يرسلهم الله هم المعقبات المذكورون في سورة الرعد. وليس الأمر كذلك فقط، بل حفظ الإنسان من الناحية العقدية بحفظ الوحي من السماء، وهذه من جملة أعمال الملائكة أيضاً، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة:97]، وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194] والروح الأمين هو جبريل، فلا يأتي بالوحي ملك غير جبريل؛ أو لأن جبريل هو المتخصص بالوحي، كما في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه -أي: جبريل- فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)، فهذا وحي من الله لم يأت به جبريل، إنما جاء به ذلك الملك الذي لم ينزل من قبل إلى الأرض، وهذه عناية من الله سبحانه وتعالى. وجاء عن ابن عباس بإسناد صحيح عن حذيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ملك فسلم علي، نزل من السماء لم ينزل قبل فبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة). وفي مسند أحمد والترمذي والنسائي عن حذيفة بإسناد صحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ هو ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه عز وجل أن يسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة). أيضاً مما يدل على أن بعض الملائكة قد تأتي محمداً صلى الله عليه وسلم غير جبريل بالوحي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث يرويه الترمذي: (أتاني جبريل وميكائيل فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: يا محمد! اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده فقلت: زدني قال: اقرأه على ثلاثة أحرف، فقال ميكائيل: استزده، فقلت: زدني، كذلك حتى بلغ سبعة أحرف وقال: اقرأه على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ)، والعلماء مختلفون في معنى سبعة أحرف، لكن حديث سبعة أحرف حديث صحيح متواتر، وأسانيده تزيد على أربعين، وليس هذا مجال القول في تفصيل ما المراد بسبعة أحرف.

الملك قد يأتي لغير نبي

الملك قد يأتي لغير نبي من الممكن أن يأتي الملك لإنسان ولا يكون رسولاً كما جاء لمريم، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:17 - 18]، والصحابة رأوا جبريل، فعن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر)، ثم أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه جبريل، كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي أرسل الله إليه ملكاً لأنه كان ذاهباً يزور أخاً له في قرية، فقال الملك: إن الله أرسلني إليك لأخبرك أن الله يحبك. فليس ضرورياً أن كل من جاءه الملك أن يكون نبياً، فقد يرى الإنسان الملك، لكن ليس على صورته الحقيقية، بل متشكل بصورة أخرى.

كيفية إتيان جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم

كيفية إتيان جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم سأل أحد الصحابة وهو الحارث بن هشام الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أحياناً يأتي مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه)، وهذا يكون عليه شديداً؛ لأن الملك يتصل بالبشر بصفته الملائكية، قال: (فينفصم عني -يذهب الوحي- وقد وعيت عنه) ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان في الليلة الشاتية شديدة البرد يعرق ويحمر وجهه، وهذا دليل على أن الذي كان يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ليس جناً ولا شيطاناً، فإن الجن عندما يتلبس بالإنسان يخف وزنه، ويصفر لونه، بينما اتصال الملك نماء وقوة، وحيوية، واحمرار في الوجه، بخلاف الذين تتلبس بهم الشياطين. قال: (وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول)، ولا يتصل به، بل يتحول إلى الطبيعة البشرية، أو إلى شيء يشابه الطبيعة البشرية، وكما قلنا: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتصل به جبريل بطبيعته الملائكية، لكن لا يراه على صورته الملائكية، إنما الاتصال بطريقة لا نعرف ولا ندري كيف ذلك، أما الرؤية التي رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته فكانت مرتين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري: (بينما أنا أمشي قرب مكة إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني)، والمرة الثانية عندما عرج به إلى السماء، وهاتان المرتان هما المذكورتان في سورة النجم، قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] أي: جبريل، {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا} [النجم:6 - 8]، أي اقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9]، ما بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا قوسان، قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]، فأوحى جبريل إلى عبد الله الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:11 - 13]، أين؟ قال تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:14 - 17]. وهذا هو الصحيح لا كما يقول بعض الناس: إن هذه الرؤية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، وهذا خطأ كبير، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه رؤية عين ببصره.

إتيان جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم بمهمات غير الوحي

إتيان جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم بمهمات غير الوحي جبريل كان يأتي بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحياناً كان يأتيه في مهمات غير الوحي، كان يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم فيدارسه القرآن خلال رمضان، يعني: الآيات التي أوحيت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن، كان خلال رمضان يدارسه إياها، يعني: في كل سنة يدارسه القرآن مرة في رمضان، وفي العام الذي توفي فيه دارسه القرآن مرتين، ومعنى يدارسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه، ثم يتدارس هو وإياه فيما أوحي إليه، فكان يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم تعليماً عملياً؛ لأنه لا يكفي التعليم النظري، فلا بد أن يتنبه الناس إلى ذلك، خاصة الذين يدعون إلى الله، قد يعلم الإنسان الصلاة والوضوء وفرائضها وشرائطها ولكنه لا يفقه كيف يصلي، كيف يتوضأ، ولذلك حتى نعلم ما يريده الله سبحانه وتعالى تماماً أرسل جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلى به وتوضأ أمامه وهو في صورة بشر ثم صلى به الصلوات في يومين، يوم في أول الوقت ويوم في نهاية الوقت كما في الحديث الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزل جبريل فأمني) يعني: جبريل هو الإمام والمعلم، قال: (فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ويحسب بأصابعه خمس صلوات) يعني: خمس صلوات في اليوم الأول. وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك)، والشراك: النعل، يعني: الظل بعد الزوال كان قليلاً، يعني: في أول وقت الظهر، قال: (وصلى بي العصر حين كان ظل الشيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظل الشيء مثله -يعني في آخر وقت الظهر-، وصلى بي العصر حين كان ظل الشيء مثليه -يعني: والشمس لم تصفر- وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم)، فصلى به المغرب في وقت واحد دلالة على أن المغرب له وقت واحد، قال: (وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل)، وليس آخر الليل عند الفجر، فالصحيح أن وقت العشاء إلى نصف الليل، وليس إلى الفجر، وهذا الحديث يدل على أن وقت صلاة العشاء إلى ثلث الليل، لكن هناك أحاديث صحيحة تدل على أنه إلى نصف الليل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي وقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين) أي: بين هذا وهذا صلوا. وفي مستدرك الحاكم ومسند أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه) أي: أخذ غرفة من الماء فنضح الفرج حتى لا يبقى للشيطان شيء يتعلق به، فيشرع بعد الوضوء أن تنضح فرجك حتى لا يبقى للشيطان شيء يدخل فيه. فكان يقوم بالأمور العملية ليس فقط للتعليم، وإنما للعمل كذلك، عندما كان يمرض الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتيه جبريل فيرقيه كما في حديث مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل وقال: يا محمد! اشتكيت؟ قلت: نعم. قال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل نفس وعين حاسد باسم الله أرقيك، والله يشفيك)، ومن ذلك أيضاً أنه حارب مع المسلمين في معركة بدر والخندق وفي غيرها.

القساوة

القساوة لا شك ولا ريب أن للرقائق دورها في تزكية النفوس، وتهذيب المشاعر، وتليين القلوب، ولو تصفحت كتاب الله عز وجل، فستجد أن القرآن مليء بهذه المعاني، فهو يصور لك الآخرة تصوير المعاين لها، وما عليك إلا أن تعيره سمعك وقلبك، وتستحضر عظمة الله تبارك وتعالى لكي تستفيد من ذلك.

أهمية الرقائق في تزكية النفوس

أهمية الرقائق في تزكية النفوس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: اعلموا أيها الإخوة! أن القلوب قد تقسو، وأن الأرواح قد تجف، وإذا قست القلوب وجفت الأرواح فقد المرء خيراً كثيراً؛ ولذلك سمى علماؤنا من السلف الصالح الأبواب والكتب التي تجمع الآيات والأحاديث التي تزيل قساوة القلوب وترقق الأرواح: (بالرقائق). فقلما تجد كتاباً من كتب الحديث إلا وتجد فيه باباً للرقائق، فيذكرون فيه قيمة هذه الدنيا وسرعة زوالها، ويذكرون فيه الموت وأهواله، والقبر وفتنته وعذابه، ويذكرون البعث والنشور والجنة والنار، وما جاء في ذلك من الأخبار الصادقة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يديم تذكير أصحابه بهذه الحقائق، فترق قلوبهم، وتدمع أعينهم، وتخشع أنفسهم، ويخبتون إلى ربهم تبارك وتعالى. وقد وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً يحدث أصحابه فقال: (أيها الناس! إنكم تحشرون حفاةً عراةً غرلاً)، ثم قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]. أيها الناس! اذكروا يوماً ترجعون فيه إلى الله تبارك وتعالى، فتبعثون فيه من قبوركم كما ولدتكم أمهاتكم، فقد جئتم إلى الدنيا لا تملكون ثوباً أو نعلاً، بل جئتم فرادى، وكذلك تبعثون، فتبعثون حفاةً ليس في أرجلكم نعال، عراةً ليس على أجسادكم ما يواري سوءاتكم، غرلاً كما خلقكم الله غير مختونين. ثم قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، فمصير هذه الدنيا إلى زوال، ومصير البشر إلى فناء، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].

أهوال يوم القيامة

أهوال يوم القيامة ثم بعد الفناء بعث ونشور، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، بل إن هذه الأرض الثابتة الراسية، وتلك الجبال الشم الشامخة، وهذه النجوم التي تنتثر في صفحة السماء، وهذه الشمس التي تشرق في كل يوم، وهذا القمر الذي يضيء سماءكم، كل ذلك يصير إلى زوال. أما الأرض والجبال فتحملان وتدكان دكة واحدة، كما قال تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14] فتصبح الجبال كثيباً مهيلاً كالرمل الناعم بعد أن كانت صلبةً قاسيةً لا تؤثر فيها المعاول ولا الفئوس. ثم تنسف وتزول فتصبح هباء منثوراً، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:105 - 108]. ((يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)) ثم تصبح الأرض مستوية، فلا ترى فيها جبالاً عاليةً ولا وديان ووهاداً، بل تصبح أرضاً مستوية بارزة ظاهرة، وعندها لا يستطيع الإنسان أن يختفي تحت صخرة أو تحت شجرة أو في غار، قال تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم:21] فالجميع ظاهرون وبارزون. أما الشمس فإنها تكور وتلف ويذهب ضوءها، وتنكدر نجوم السماء فتنتثر نجومها وينفرط عقدها، كما قال سبحانه: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2] فتنتثر كواكب السماء وتتساقط، فينفرط هذا العقد الذي يربطها، وتطمس النجوم ويذهب ضوءها. حدث عظيم، وأهوال مرعبة، وليس الخبر كالمعاينة، فنحن عندما نسمع الحديث قد يؤثر فينا تأثيراً قوياً أو تأثيراً ضعيفاً، ولكن الذين يشاهدون الحدث يذهلون كأنما هم سكارى، كما أخبر الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. مع أن الأم أحن ما تكون على طفلها إذا كان رضيعاً، ومع ذلك فهي تذهل عنه، وتسقط الحامل حملها لشدة الرعب والفزع، ويشيب الطفل الصغير الذي لم يبلغ السنة من عمره، كما قال تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:17 - 18]. وفي ذلك اليوم يجمع الله الأولين والآخرين، فينادي إسرافيل في الصور كما قال سبحانه: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41] فيقول: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة إن الله يأمركن أن تجتمعن، فتجتمع العظام ثم تكسى لحماً، ثم تخرج كما قال سبحانه: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:44]. فعندما ينادي المنادي ترى العجب الأعظم حينما ينبت إنسان من هنا كالنبات بل أسرع منه، كما قال تعالى: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51]، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ} [طه:108] فيجيبونه لا يتخلف أو يعتذر منهم أحد كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]، كتاب عند الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأعدها. حتى إن الإنسان الذي مات في الصحراء فأكلت لحمه الطيور، وأخذت منه السباع، وغيبت بقيته الأرض، يعيده الله تبارك وتعالى إذا شاء حياً كما كان، فيعيده جسداً سوياً، ثم ينفخ في الصور فتعود إليه الروح كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. فصعقة تميت، وصعقة تحيي، ثم ((يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) ويجمع الله الأولين والآخرين: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ} [الواقعة:49 - 50] فيجمع الأولون من آدم إلى آخر رجل وجد على ظهر هذه الأرض، ثم يوقفون بين يدي الله تبارك وتعالى فيحاسبهم على ما قدموا، أذلاء، ناكسي رءوسهم، خاشعين، خائفين، جاحظة عيونهم، {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43]، فلا يدرون ماذا يراد بهم، ولا يستطيعون نطقاً أو كلاماً، فالحقيقة فوق كل شيء. وكلنا ذلك الرجل الذي سيكون هناك، وكلنا سيقف ذلك الموقف، وكلنا سيمر بيوم عسير، قال الله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52]، ويقول الكافرون في ذلك اليوم وهم يخرجون من الأجداث: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] أي: هذا يوم شديد، فمهما كانت الدنيا حلوةًً، وزهرتها جميلةًًًًًًًًًً، وأيامها طويلةًًً، فلن تساوي في ذلك اليوم شيئاً. فيظن الناس أنهم ما لبثوا فيها إلا أياماً أو يوماً، ويظنون أنها لمحة بالنسبة لذلك اليوم الطويل الرهيب، فلمثل ذلك اليوم فليعد الناس، يوم يحتاج فيه إلى الزاد، فإما أن يكسوك إيمانك وعملك الصالح وينجيك وإما أن يوبقك.

يبعث المرء على ما مات عليه

يبعث المرء على ما مات عليه جاء في الحديث: (إن كل إنسان يبعث على ما مات عليه)، فإن مت على الإيمان والتقى والصلاح والجهاد والصبر والطاعة بعثت كذلك، فمن مات في الحج مثلاً فإنه يبعث من قبره ملبياً، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يموت على المعاصي يبعث عليها، كذلك قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]. ومن منع زكاة ماله فإنه يعذب به، فتجعل له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره ويقال له: هذا ما كنزت، وهذا الذي بخلت به وهو حق الله تبارك وتعالى، فيعذب به في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وكذلك الجبابرة الطغاة الظلمة الفجرة الذين يسفكون دماء العباد ويتكبرون عليهم، ويستكبرون عن اتباع الحق الذي أنزل من السماء، يحشرون أمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الذين يديمون المشي إلى الصلوات في الظلمات فإنهم يحشرون ولهم نور عظيم، كما يخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك الذين يتحابون في الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والذين ينفقون على العباد ويفرجون كرباتهم يفرج الله كرباتهم في ذلك اليوم: (ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل قد جاء في الحديث: (أن رجلاً كان يداين الناس، فسئل يوم القيامة: هل لك من حسنة؟ قال: يا رب! كنت أداين الناس فأقول لعمالي: تجاوزوا عن هذا لعل الله أن يتجاوز عنا يوم القيامة، فيقول الحق: أنا أحق من يسر؛ تجاوزوا عنه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وكذلك الذين يعدلون وينصفون من أنفسهم في أولادهم وأزواجهم وجيرانهم وأهليهم ومن تحت يدهم، على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين. وأما الذين يغدرون ولا يوفون فإنه لكل واحد منهم لواء ويقال: هذه غدرة فلان في يوم كذا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك اليوم يظهر المخفي ويفضح المستور. ويؤتى بآكلي أموال المسلمين حاملين ما غلوه وأكلوه، كما يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرجل يأتي بالبعير على رقبته وله رغاء فيقول: يا محمد! أغثني أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. وكذلك الذي يحمل فرساً على رقبته وله حمحمة، والذي يحمل بقرة ولها خوار، والذي يحمل شاةً، وكذلك الذي يغل الذهب والفضة فإنه يحمله على ظهره، كما قال تعالى: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31]. فهؤلاء الذين يتصرفون في أموال المسلمين من غير قيد أو ضابط، ومن دون خشية لله تبارك وتعالى، يعذبون يوم القيامة بهذه الأموال التي اكتسبوها وأخذوها بغير حق. ولو ذهبت تتصفح كتاب الله فلن تجد صفحةً خاليةً من ذكر الآخرة، ولو تصفحت الكتب التي جمعت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فلن تجد باباً إلا وفيه حديث أو أحاديث تحدثك عما سيكون لك في قبرك وفي بعثك ونشورك، ثم المصير النهائي. وحسبك بهذا ذكرى لمن كان له قلب، ولمن كانت نفسه حية، ولمن كان يخشى أن يقف بين يدي الله تبارك وتعالى. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الرقائق

الرقائق خلق الله عز وجل الخلق ليبتليهم وليختبرهم، فأمرهم بأوامر ونهاهم عن منهيات، فمن التزم أمره فأدى الواجب وانتهى عن الحرام عليه فسيجازيه عز وجل بالحسنى، ومن لم يلتزم أوامره وينتهي عن نواهيه فهو معرض لعذاب الله وعقابه.

عدل موازين الله عز وجل

عدل موازين الله عز وجل الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله، وبعد: جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو عبيده فقال: (يا رسول الله! إن لي غلماناً يعصونني ويخونوني ويكذبون علي، فأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم يعني: ما حالي وحالهم؟ قال: يُحسب ما خانوك وعصوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل، فجلس الرجل يبكي ويقول: يا ويلي! ما لي ولهم؟! ثم قال: يا رسول الله! أشهدك أنهم أحرار). فكل شيء بميزان، وموازين الله عز وجل عادلة، فهناك موازين للذهب والمعادن الثمينة يسمونها في هذه الأيام موازين حساسة، لكن الموازين عند الله أعدل وأدق. فيوزن الرجل وتوزن أعماله، ويؤتى بالرجل السمين الضخم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، ولا يزن شيئاً، ويأتي الرجل بحسنات أمثال الجبال فيأخذها الناس؛ لأنه ظلم الناس وافترى عليهم، ففي ذلك اليوم يقتصون منه فيأخذون من حسناته. فهناك أناس يأتون بحسنات أمثال الجبال من صلاة وصيام، لكن يذهب الله بحسناتهم هذه؛ لأنهم كانوا كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا خلو بمحارم الله انتهكوها) أي: يعتدون على حرمات الله في السر، ولا يحفظون حقوق الله، فهؤلاء سيئاتهم تذهب حسناتهم. فهناك يوم يوزن فيه العباد وأعمال العباد وفق مقاييس عادلة، كما قال عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وفي الحديث القدسي: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). أتراك تزرع حنظلاً وشوكاً ثم تريد تمراً وعنباً وزبداً؟ كلا والله! فازرع قمحاً تحصد قمحاً، واغرس زيتوناً تجن زيتوناً، واغرس تمراً تجد تمراً. وكذلك إذا كنت تريد عند الله مكانة، وتريد عند الله رفعة، وتريد نجاة، فاعمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق النار ولو بشق تمرة).

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل

وجوب الاستعداد ليوم القيامة

وجوب الاستعداد ليوم القيامة اعمل لغدك فإنك لا تدري متى يأتي الأجل، وقدم لنفسك؛ فإن هذا الذي يذهب طعاماً وشراباً يزول، وأما ما قدمته لله فيبقى ويدوم، فالصلات التي تقيمها بينك وبين الآخرين على أساس من تقوى الله تدوم وتتصل، كما قال عز وجل: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. فالمتقون تبقى صلتهم، والصلات الأخرى تتقطع بين البشر، فتتقطع بين العابدين والمعبودين، وبين السادة والأتباع، وبين رجال الفكر الذين يضادون شريعة الله ومن يتبعهم، وبين الفلاسفة وأصحاب المبادئ الضالة ومن يتبعهم، بل يتحول الود والمحبة بينهم إلى خصام وعداء يوم القيامة، فهل تريد أن تعرف أين مكانك في ذلك اليوم؟ اعرض نفسك على كتاب الله؛ فإذا وجدت نفسك منضبطاً مع القرآن، ومع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، تقوم بأوامر الله وتنتهي عن نواهيه، وتعظم ما عظم الله، وتسعى إلى تحقيق ما ندبك الله إليه؛ فأنت على خير، وإلا فصحح المسار، فإنك لا تدري متى يأتي الأجل، وقبل أن تندم حيث لا ينفع الندم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

صراع الحق والباطل

صراع الحق والباطل خلق الله تبارك وتعالى عباده ليبتليهم ويختبرهم، ومن ألوان الاختبار والإبتلاء أن يكون لعباد الله عدو من غيرهم أو من أنفسهم، ثم يقوم الصراع بين الذين انتسبوا إلى الله تبارك وتعالى والذين انتسبوا إلى أعداء الله وتمردوا على إلههم وسيدهم. واليهود في طليعة الذين عادوا المسلمين حسداً وكرهاً لأمة الإسلام، فينبغي لأمة الإسلام أن تعاديهم وتعادي كل حلفائهم.

ابتلاء الله لعباده بالصراع مع أهل الباطل

ابتلاء الله لعباده بالصراع مع أهل الباطل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. خلق الله تبارك وتعالى عباده ليبتليهم ويختبرهم، ومن ألوان الاختبار والابتلاء التي يختبر الله به عباده أن يكون لهم عدو من غيرهم أو من أنفسهم، ثم يقوم الصراع بين الذين انتسبوا إلى الله تبارك وتعالى، وبين الذين انتسبوا إلى أعداء الله الذين تمردوا على إلههم وربهم وسيدهم. خلق الله آدم بيده وأسجد له ملائكته، ومن اللحظة الأولى التي فتح فيها آدم عينيه وجد عدواً يتربص به، وذلك عندما أمر الله ملائكته أن يسجدوا لآدم عندما ينفخ فيه الروح، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:30 - 31] واستكبر عن أمر الله، وحسد آدم على ما فضله الله به، وكان قبل ذلك يعبد الله مع ملائكة السماء مكرماً معززاً، فطرده الله تبارك وتعالى من رحمته وجنته، ومنذ أول لحظة قال الله لآدم: ((يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا)) الذي يقف أمامك وتراه {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]. وانتقل الصراع من الجنة إلى ظهر هذه الأرض بعد أن نجح الشيطان في إغواء آدم، حيث زين له أن يعصي ربه، فأهبطه الله تبارك وتعالى من الجنة، وانتقل الصراع بين الشيطان وذرية آدم إلى أن تقوم الساعة. واتخذ الشيطان من بني آدم جزءاً، وهم فريق كبير ممن اتبعه من بني آدم، (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] وفريق قليل هم الذين لم يتبعوا الشيطان، وهم الرسل وأتباعهم. أما بقية بني آدم من هذه الجموع الهائلة في الشرق والغرب، فالشيطان هو قائدهم، وموجههم، فبعضهم زين لهم أن يعبدوا الأصنام من دون الله فعبدوها، وبعضهم زين لهم أن يعبدوا الشمس والقمر والنجوم فعبدوها، وبعضهم عبدوا الأحجار والأشجار، وبعضهم عبدوا الجبال والبحار، وبعضهم عبدوا أهواءهم وملذاتهم، وبعضهم عبدوا حكامهم من دون الله، وكل ذلك يرضي الشيطان. فكل من عبد شيئاً من دون الله فقد عبد الشيطان؛ لأنه هو الذي يأمر بذلك ويحبه ويرضاه، وكان عداء الشيطان على مسيرة البشرية عبر تاريخها ينصب على الرسل وأتباعهم، فكان الصراع بين نوح وبين عبدة الأصنام، وبين إبراهيم وعبدة النجوم والكواكب والأصنام والشمس والقمر، وبين موسى وفرعون الذي كان يأتمر بأمر الشيطان، وهكذا على مدار التاريخ يوجد صراع بين الحق والشر، وبين الخير والباطل، ينحاز فيه فئة من البشر إلى الرسل. وأتباع الرسل يسيرون في الحياة بمنهج الله تبارك وتعالى، ويتحاكمون إلى شرع الله، ويرفعون راية التوحيد وراية الإيمان، ثم يحدث في أتباع الرسل الانحرافات التي تقربهم من الباطل، وتبعدهم عن الحق، كما حدث في تاريخ بني إسرائيل، فقد اختارهم الله تبارك وتعالى واصطفاهم، إذ استقاموا على طاعة الله {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، ((وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ)) أي: بني إسرائيل اختارهم الله واصطفاهم عندما كانوا موحدين مسلمين مخلصين دينهم لله، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:47]. ثم بدأ مسلسل الانحرافات في تاريخ بني إسرائيل من عبادة للعجل، وعبادة للأصنام والأوثان، وتمرد على شرع الله، وقتل للأنبياء وللصالحين الذين يأمرونهم بالحق، وينهونهم عن الشر، ولم يزل هذا المسلسل (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]. وانتهى الأمر ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حصل الانحراف الرهيب، من تحريف لدين الله، وكتمان للحق، وابتعاد عن الله، وجاءت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فجراً جديداً للبشرية، تضيء الظلمات التي في النفوس والقلوب، التي غطت العقول، وتخرج البشر من الجاهلية إلى الإسلام، وإلى الهدى وإلى النور، وإلى معرفة الله الحق، وإلى الابتعاد عن ظلمات الشيطان وخطواته.

أهمية معرفة من نعادي

أهمية معرفة من نعادي سنة الله في الدعوات أن يكون هناك عداء، ولكن ينبغي للمسلم أن يعرف من يعادي، فتلك قضية مهمة، فإن لم تعرف عدوك عاديت أخاك، وعاديت أباك، وعاديت الذين يحبونك ويريدون لك الخير. ومن مهمات دعوة السماء أن تعرفنا بأعدائنا، ومن مهمات الدين الذي أنزل من عند الله أن يعرفنا من نحن، ومن نكون، ومن أعداؤنا، حتى يكون حبنا لإخواننا الذين هم على مبدئنا وطريقتنا، والذين يريدون لنا الخير، وحتى يكون بغضنا وسيوفنا ورماحنا وبنادقنا للذين يستحقون ذلك من أعدائنا. فإذا غابت المعرفة بذلك تلججت بنا الدروب، وأصبحنا حيارى، يعادي الإنسان من ينبغي أن يحبه، ويوالي ويحب من ينبغي عليه أن يكرهه ويعاديه، كما هو واقع في أيامنا.

اليهود أشد وأخبث أعداء المسلمين

اليهود أشد وأخبث أعداء المسلمين وفي طليعة الذين عادوا هذه الدعوة، وأرادوا بها شراً: الذين كانوا أتباع الرسل، والذين كانوا يوماً هم المصطفون الأخيار، الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، الذين قال الله لهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] لقد انقلبوا أعداء للرسول الجديد، وللمسلمين الجدد الذين يهتدون بهدي السماء مصدر رسالتهم من عند الله تبارك وتعالى الذي أنزل الوحي على نبيه موسى، وعلى نبيه عيسى، انقلب هؤلاء إلى أعداء، وكانت عداوتهم في المقدمة؛ وذلك لأنها ليست نابعة عن جهل، وإنما هي عن علم واستكبار، ومن كانت عداوته عن علم واستكبار لا يرجى من وراء عداوته خير. يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث من السماء، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] ولكنهم كفروا به، {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89] بعد أن جاءهم الحق الذي كانوا يتمنون أن يصل إليهم ليعزوا به، كفروا به، حسداً وبغياً وظلماً. وقد عرفنا الله الحقيقة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145]. وكانت العداوة الكبرى في تاريخ هذه الأمة نابعة من اليهود، فقد حاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، فسمموا طعامه، وأرادوا أن يلقوا عليه حجراً يجعله طحيناً، وألبوا المشركين على المسلمين، ونقضوا عهودهم مع المسلمين، ومن يقرأ مسلسل العداء لهذه الأمة الباغضة للأمة الإسلامية يجمع في ذلك مجلدات ضخمة، إنه عداء لا يمكن أن يغسله الإحسان، ولا يمكن أن تنهيه المودة، والله لو كان يمكن أن ينهيه ذلك لانتهى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة ما أحسن إليهم، وأراد بهم خيراً، وفي كل مرة ينقضون العهود والمواثيق، ثم جاء هذا الزمن الذي نعيش فيه، فتلججت بالقوم الدروب، وأصبحنا لا نعرف ولا نحسن أن نعرف من عدونا، إننا نراهم يذبحون رجالنا، ويحتلون ديارنا، وينتهكون حرماتنا، ويثيرون القلاقل والفتن في بيوتنا، وفي دولنا وفي شعوبنا، ويفعلون ما يفعلون، ثم تجد من حكام المسلمين من يصافحهم ويأخذهم بالأحضان، وتجد الدعوة إلى السلام تنطلق من أبواق إذاعات الدول العربية والإسلامية كأنهم لا يعرفون من عدوهم، وما هي طبيعة هذا العدو، وماذا يريد بهم! إن عدونا لا يريد فلسطين وحدها، ولا يريد بلاد الشام وحدها، ولا يريد العراق ومصر وأجزاء من الجزيرة العربية ومنابع البترول، بل يريد أكثر من ذلك، إنه يريد أن يحطم هذه الأمة، وأن يجعلها غثاء، وأن يستعلي عليها، وأن يكون الصوت صوته، والقول قوله، والأمر أمره، ونحن نكون خدماً في ركابه، لا يرضى بأقل من ذلك، لكن هناك شيء واحد يرضون به عنك وهو أن تتبع اليهودية، وقد لا يرضون بيهوديتك، فهم يعتبرون اليهودية شرفاً لا يستحقه غيرهم، فهم يريدون أن نكون عبيداً وديداناً في الأرض يطئونها بأقدامهم، وحشرات يدوسونها بأرجلهم. إن اليهود يعرفون إمكاناتهم، وأنهم أضعف من أن يقفوا في وجه المسلمين، ولذلك ألبوا علينا القوى العالمية: مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا، ألبوا العالم كله وأقنعوه بمصالحهم، فأصبح العالم يحميهم ويحمي وجودهم، لو كان اليهود بضعة ملايين فليواجهوننا. كما قال غاندي عندما كان يستثير قومه من الهنود على البريطانيين، وكان الهنود سبعمائة مليون، فكان يقول لهم: لو كل واحد منكم بصق بصقة على الإنجليز لأغرقهم، الإنجليز الذين حكموا العالم عددهم اثنان وخمسون مليوناً، ولكن اليهود أذكياء، فاستطاعوا أن يفعلوا ما عرفناه في عصرنا الحاضر، فحمتهم الدنيا، وجاء دور كثير من الحكام العرب الذين انضموا إلى القافلة التي تحمي اليهود في عصر البؤس والشقاء، وأصيب المسلمون في ديارهم إصابات متفاوتة في العمق، فقد أصيب المسلمون في فلسطين، وفي بلاد الشام نالهم شر كبير، وفي مصر، وحلقت طائرات العدو سابحة في العالم العربي، بل وتهدد العالم الإسلامي، ويهدد اليهود بأن يضربوا المفاعل النووي الباكستاني كما ضربوا المفاعل النووي العراقي، وسفنهم تبحر قريباً من شواطئنا، وطائراتهم تضرب البؤساء الفقراء في مخيماتنا كما تضرب في عمق العالم الإسلامي، وأصبحت لهم صولة وجولة، ونحن ما زلنا لا نعرف حقيقة هذا العدو! إن هذا العدو ليس كالعدو البريطاني، فقد كان الجندي البريطاني يأتي إلى ديارنا وقلبه معلق ببلده وبيته، ينتظر متى يعود، وكذلك المستعمر الفرنسي عندما كان يأتي إلى الجزائر أو يأتي إلى بلادنا في سوريا وغيرها، كان يعيش وقلبه معلق هناك في فرنسا، أما اليهودي فيعتبر الأرض أرضه، والبيت بيته، والبلد بلده، ويعتبرنا غاصبين لأرضه وتاريخه وتراثه! إن الصراع الحقيقي اليوم يتمثل بين المسلمين وبين اليهود الذين ألبوا العالم علينا لإذلالنا حتى نركع أمامهم، ثم يمتصون خيراتنا ويعبدونا لأهوائهم. والمخطط الرهيب عندما يدرسه الإنسان بدقة وبتفصيل فإنه يقشعر بدنه لهول ما يراه، وما أكثر المذابح والمآسي والمؤامرات التي وقعت والتي يخطط لتكون في عالمنا العربي والإسلامي! وكثير منا يعلم عن هذا لأنه أمر واقع ومشهود. هذا هو العدو الأول الذي يضعه الله تبارك وتعالى في مستوى المشركين مثل: أبي جهل وأبي لهب، ولينين واستالين وروسيا والصين، هذه قمة العداء للأمة الإسلامية، إذا لم نؤمن بذلك ضيعنا أنفسنا وضعنا، إذا اتخذنا من روسيا صديقاً ينصرنا على إسرائيل، ومن أمريكا ولياً ينصرنا على إسرائيل، وإذا حاربنا بالقوى التي تكفر بالخالق أو تشرك به؛ فإننا نظلم أنفسنا، إن هناك قوة عليا ينبغي أن يمد لها المسلمون أيديهم، ويرفعوا أيديهم لرب العزة تبارك وتعالى الذي له ملكوت السماوات والأرض، العليم الحكيم الخبير، الذي يأمر الأمر فكلٌ بأمره، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو ولي المؤمنين إذا هم والوه بالإيمان والعبادة والطاعة، وينبغي أن يعرفوا أن هؤلاء الذين نستنصر بهم في الشرق والغرب وهيئة الأمم ومجلس الأمن لا يريدون بنا خيرا ً. وحكام المسلمين لم يدركوا أو لا يريدون أن يدركوا هذه الحقيقة، ولذلك في كل عام تتعمق المأساة، وتزيد المأساة، وفي كل عام نزداد يأساً وبؤساً، وفي كل عام نزداد فرقة، وننشغل بأنفسنا؛ لأننا لم نعرف بعد عدونا بصورة يقينية، مع أن الله أخبرنا، ولكن لا نزال نتلمس الطريق بعقولنا الضعيفة الكليلة! مشكلة هذه الأمة أنها لا تعرف من هي، وما هو انتماؤها، وما هي عقيدتها، ينبغي للأمة أن تعرف عدوها، وأن تعرف أن الناصر والمعين هو الله تبارك وتعالى، فلنتحد مع المؤمنين الذين يتابعوننا على عقيدتنا وإسلامنا، ينبغي أن نعرف من نحن، وأن نعرف أعداءنا، فإن شبابنا حائر ضائع لا يعرفون من هم، ولا يعرفون هويتهم، ولا يعرفون شخصيتهم، كم من انتماءات كثيرة ترفق، ورايات كثيرة ترفع، رايات وطنية وقومية، ومبادئ تقوم في عالمنا العربي، ثم سرعان ما تنطفئ كالشمعات الصغيرة، ثم يقعد الناس في الظلام حيارى لا يعرفون طريقهم، ولا يعرفون سبيلهم. ينبغي لنا أن نعرف أننا -نحن المسلمين- أتباع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وحملة هذه الرسالة العظمى، وحملة دين الله في الأرض. كما يجب أن نعادي أعداء الله من اليهود والمشركين والنصارى، فمن كان على مثل عقيدتنا فإنه منا، ومن لم يكن على ذلك فإنه ليس منا، حبنا لربنا، وحبنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، وحبنا للمؤمنين الذين آمنوا بالله وآمنوا بالرسول، ووالوا الإسلام وناصروا الحق، المؤمنون الذين يسعون في الأرض بقلوب معلقة بالسماء، نحن -المسلمين- كذلك، وعدونا نعرفه، فمن كان كذلك فقد عرف طريقه وعرف سبيله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

كثرة مآسي المسلمين

كثرة مآسي المسلمين الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. إن الضعف الذي تعيشه الأمة، والقوة التي يعيشها أعداؤها؛ سبب مآسي كثيرة في ديار المسلمين وأوجاعاً وآلاماً، ففي أفغانستان أكثر من ثلاثمائة مليون لاجئ يعيشون في باكستان، وعشرات الألوف من المعوقين، وبيوت خربت، ومدن هدمت، وتحولت الأمة إلى أمة مقاتلة تقدم في كل يوم ضحايا. وفي الهند في كل يوم تثور مآس للمسلمين من قبل عباد الأبقار، وفي الحبشة وفي غيرها. ومن أعظم المآسي المعاصرة ما فعله اليهود بالمسلمين في بلدنا القريب منا، في فلسطين، إنه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الأمل إذا لم يستطع المسلمون أن يحموا ديارهم، وأن يحموا بلادهم وإخوانهم، أن يمدوا لهم يد العون، كي لا ينشأ هؤلاء الناس حاقدين حتى على المسلمين، ماذا تنتظرون من إنسان لا يجد لقمة الطعام ولا يجد اللباس والمسكن؟! كيف يكون تصوره وهو يرى البذخ في كثير من العالم الإسلامي؟ أقوام يموتون شبعاً، وأقوام يموتون جوعاً، فماذا تنتظرون من شباب يرون هذه المناظر بأعينهم في أنفسهم وفي غيرهم؟ في كل يوم نسمع الأخبار أن العدو يقصف المخيمات المستضعفة، ورجال يتسمون بالإسلام يضربون هؤلاء المساكين، والصوت العربي والإسلامي ساكن وخامد، وما يسمونه بالصوت العالمي لا يتحرك ولا يتكلم، وأصبح الحمى مباحاً لليهود، لا أحد يتكلم ولا يتظاهر ولا يحتج، حتى الدموع جفت في المآقي، فلا أحد يبكي على المساكين الذين يعذبون في كل يوم. إذا قصرت الحكومات فأين شعوبها؟ وعبر التاريخ عندما كان الحكام يختلفون تبقى الشعوب فيها نبض من حياة، فتحس بآلام إخوانها، وتعينهم وتقدم لهم الخير، وأنا لا أنكر أن في الأمة رجالاً قدموا الكثير ولا يزالون يقدمون، ولكن هذه القضية ليست قضية آنية، بل هي قضية دائمة مستمرة، فالمسلمون كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. كثير من الذين يحضرون الصلاة يعرفون أحوال الذين شردوا وابتلوا بفعل عدونا الأكبر وهم اليهود، يعرفون بيوتهم ومساكنهم وآلامهم، يعرفون جراحهم ومواردهم المالية يعرفون المآسي، ويمكن لأي إنسان منكم أن يتجول في ربوع الوطن العربي، ليذهب إلى الأردن أو إلى سوريا، أو إلى لبنان حتى يرى بأم عينيه المآسي والأوجاع والآلام. قامت في الكويت لجان لمعاونة المسلمين في أفغانستان، وهذا عمل طيب، وقامت لجنة لإغاثة المسلمين في أفريقيا وهذا عمل طيب، وأخيراً أفاق بعض المسلمين فأقاموا لجنة لمناصرة الشعب الفلسطيني واللبناني. هذه القضية نسيها المسلمون، وكان الواجب أن تكون هذه القضية في المقدمة؛ لأن قضيتها قديمة، ولأن المعاناة قائمة منذ عشرات السنين، وأقل ما يمكن أن تشبع البطون الجائعة، ويساعد المرضى المحتاجون، فهذا أقل واجب على المسلمين، وأن يمدوا يد العون لمن هم إخوانهم في الدين، ويضمهم اسم الإسلام، واسم العروبة، واسم الأخوة. وبعض هؤلاء الناس استوعبتهم الدول العربية ووجدوا لهم مجالاً للعمل، وأصبحوا أغنياء، وكثير منهم نسوا حياتهم وبلادهم وإخوانهم ومآسيهم، وكثير منهم نرى صورهم في الحفلات، وفي الفنادق، وفي البذخ، وأنا لا أنكر وجود بعض الناس من هذا الصنف، ولكن هذا صنف يعيش على هامش الحياة، لا تهمه إلا نفسه، وإن تشدق بالوطنية والثورية والسلام، ولكن واقعه يكذب ما يقول، لكن بقي كثير من هؤلاء بحاجة إلى العون، وكثير من هؤلاء يحملون القضية في قلوبهم لا على أنها قضية وطن، وإنما على أنها قضية دين، وقضية إسلام وقضية صراع بين الخير والشر. إذا انتهى الشعب الفلسطيني ولم يبق شعب فلسطيني أتضيع القضية؟ أيرضى المسلمون بأن تضيع فلسطين وأن يضيع مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيرضون أن تضيع الأرض المباركة من أيدي المسلمين؟ لا يرضون بذلك، فهذه القضية متصلة بالعقيدة. لقد حدثني بعض الناس أنه عندما سقطت فلسطين في سنة 1948م ثم في سنة 1967م، وفي حادثة إحراق المسجد الأقصى؛ كان أول من يثور هم الشعب الباكستاني والإندونيسي، مع أنه ليس لهم صلة بالعربية، لكن عقيدتهم هي التي تربطهم بالمسجد الأقصى، إنهم يقرءون في كتاب الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، ويذكرون فتوحات المسلمين، ومسير عمر بن الخطاب إلى فلسطين، والشهداء الذين سقطوا من الصحابة وغيرهم على أرض فلسطين وحول أسوار القدس. هذه قضيتكم، وإذا نسيها أهلها -على فرض ذلك- فأنتم مسئولون عنها، فلسطيني أو عربي أو مسلم، وليست بقضية الصين وروسيا وأمريكا، هذه قضيتنا، وعندما تحولت قضيتنا إلى قضية شرق أوسط، وقضية العرب، وقضية دولية؛ ضاعت قضية المسلمين، والذين يعيشون في المآسي من الفلسطينيين هم إخوانكم سواء كنتم فلسطينيين أو عرباً أو مسلمين، تلك قضيتكم، وغداً أنتم مسئولون عنها عندما تقفون بين يدي الله تبارك وتعالى. هذا العمل الذي قامت به الكويت وهو لجنة المناصرة جزء يسير مما كان ينبغي أن يعمله المسلمون من قبل، فكيف يتركون إخوانهم للكفار يغيثونهم، إن وكالة غوث اللاجئين تتصدق عليهم مما يلبس الفرنسي والبريطاني، وأموال المسلمين أنهار تجري في بلاد العالم لا ندري كيف نصرفها والناس محتاجون للباس وللطعام! هذه قضيتكم أنتم، والذين قاموا على هذا العمل الخير كان ينبغي أن يكونوا أسبق من ذلك، وعملهم وإن تأخر عن وقته فينبغي أن يكون المسلمون عوناً لهم، وإذا لم يستطيعوا أن يحاربوا وأن يقاتلوا فلا أقل من أن يعينوا اليتامى والمعوقين والمحتاجين والجائعين والأرامل، وأعدادهم لا تحصى في مختلف بقاع العالم العربي. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع عليم.

توجيهات تربوية

توجيهات تربوية الإيمان الحقيقي هو الراسخ في القلب رسوخ الجبال العالية، إنه الخوف والخشية من الله التي تستقر في أعماق القلب فتلقي بظلالها على بقية الأقوال والأعمال. إن صاحب الإيمان المستقر في حنايا فؤاده يسبق في كثير من الأحيان أصحاب الأعمال التي لا يرشدها الإيمان وإن كانت كثيرة.

أهل الإيمان الصادق يفوقون أهل العبادات الكثيرة

أهل الإيمان الصادق يفوقون أهل العبادات الكثيرة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثبت عن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (وزنت بالأمة فرجحتها، ووزن أبو بكر بالأمة لست فيها فرجحها، ووزن عمر بالأمة لست فيها وليس فيها أبو بكر فرجحها). يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مكانته وفضله وأجره وثوابه عند الله سبحانه وتعالى عظيم، فالأمة الإسلامية من أول رجل فيها وهو أبو بكر أفضل رجل بعد النبيين إلى آخر رجل فيها وضعت في كفة والرسول صلى الله عليه وسلم في كفة فرجح الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمة كلها، رجل واحد يرجح بملايين الملايين من المؤمنين الصالحين بأعمالهم وفضائلهم وأجورهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يرجح عليهم. كذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوزن بالأمة وفيها عمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وخالد بن الوليد والصالحون والأخيار من هذه الأمة يوزن بهم، وليس فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ميزان أبي بكر أرجح من ميزان الأمة كلها. ثم يأتي عمر رضي الله عنه فيكون الحال كذلك. لقد كانت هذه المكانة العظيمة لـ أبي بكر كما في الأثر: ما سبقكم أبو بكر بكثير عمل إنما هو شيء وقر في قلبه، أبو بكر الصديق لم يسبق الناس بكثير عمل، إنما هو إيمان استقر في قلبه، إيمان راسخ قوي، وصلة عظيمة بالله سبحانه وتعالى أوجبت له الأجر العظيم والثواب الجزيل مع سابقة في الإسلام وحرص على التقوى. الناس يتفاضلون عند ربهم بما وقر في قلوبهم، وبالإيمان الذي يستقر في هذه القلوب، وحب الله سبحانه وتعالى، وخشيته عز وجل، وتعظيمه سبحانه وتعالى، فعندما تستقر هذه الأمور في القلوب تصبح القلوب نظيفة طاهرة طيبة، بل يصبح بينها وبين الله سبحانه وتعالى صلة، هذه المعاني التي استقرت في القلب تلقي آثارها على عمل الإنسان أو على أفعاله أو على أقواله، فلا تسمع منه إلا طيباً، ولا تلقى منه إلا خيراً، تلقي ظلالها على أعمال العبد فإذا بها تستمد من مشكاة النبوة أو من نور الإسلام، فإذا بالعبد يستقيم على منهج الله وطاعته ويأخذ من دين الله سبحانه وتعالى، ويصبح عند المسلم حساسية تجاه هذه الشريعة والأقوال والأعمال. بعض الناس يتهاون في أمور يظنها حقيرة، وبعضهم في عينيه أمور يظنها عظيمة والأمر ليس كذلك؛ لأنه لا يستقي من شريعة الله سبحانه وتعالى، فيأخذ الأمر بهواه، والله سبحانه وتعالى عنده الميزان يقيس به الأعمال ويوزن به البشر يقول تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].

خطر اللسان

خطر اللسان رب كلمة يقولها العبد يرفعه الله سبحانه وتعالى بها في الجنة درجات عالية، ورب كلمة يقولها العبد يهبط بها في دركات جهنم. وفي الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً -لا يظن أنه سيكون لها أثر عظيم- يرفعه الله بها في الجنة درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)، أي كلمة يقولها العبد لا يهتم لها ولا يلقي لها بالاً ولا تأخذ من نفسه وفكره شيئاً، ولكنها تغضب الله سبحانه وتعالى غضباً شديداً. يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أحد السابقين وهو رجل صالح يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يرى أخاً له في الله يفعل الموبقات من المعاصي والذنوب، فينهاه ويبين له ويرشده مرات ومرات، وفي يوم وجده على معصية فيشتد عليه فيقول له: دعني وربي، أنت لست برقيب علي، فيقول: (والله! لا يغفر الله لك)، انظر إلى هذه الكلمة التي صدرت بنية طيبة فقال الله جل وعلا: (من ذا الذي يتألى علي؟ -من الذي يحلف أنني لا أغفر؟ - قد غفرت له وأحبطت عملك)، كلمة لم يلق لها ذلك الرجال بالاً، ولا يظن أنها ستبلغ هذا المبلغ، فيغفر الله سبحانه وتعالى بها لذلك المذنب العاصي ويحبط أجر هذا الرجل العابد؛ لأنه تكلم بكلمة في ميزان الله تعتبر كبيرة. كان يخطب الرسول صلى الله عليه وسلم فيأتي إليه رجل فيقول له: (يا رسول الله! هلكت العيال وضاع كذا، ادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فيغضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ويسبح قائلاً: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! ويقول: ويحك، أتدري ما الله؟ إنه لا يستشفع لأحد على الله)، لا يستشفع بالله على أحد، فلا تجعل الله شفيعاً للرسول. بعض العامة في بلاد الشام يقولون عبارة أشنع من هذه، فعندما يريد إنسان أن يؤكد أمراً على إنسان آخر يقول: أدعوك وعليك الله! فهي كلمة عظيمة يقولها الناس ولا يلقون لها بالاً، والله سبحانه وتعالى لا يقدم ليشفع عند أحد، الناس يشفعون عند ربهم فيقبل شفاعتهم أو يردها كما يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة والشهداء والصالحون. وأما أن يستشفع بالله على فلان فهذا خطأ عظيم غضب الرسول صلى الله عليه وسلم من ذكره. بعض الأعمال يفعلها العباد وهي خطيرة؛ لأن ميزان التقوى وتعظيم الله سبحانه وتعالى قد اختل في النفوس، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي نعرفه: (دخلت امرأة النار في هرة) وفي المقابل امرأة زانية غفر لها بصبة ماء أسقتها لكلب، فبعض الناس يبخسون الحيوان وهو ذو روح، تحبسه امرأة لا تطعمه ولا تسقيه ولا تسمح له بالانطلاق في فجاج الأرض ليأكل من أرض الله الواسعة فتدخل النار بهذا الفعل. وامرأة تمر على كلب يأكل الثرى من العطش بجانب بئر فتأخذ بنعلها ماء فتسقيه فيغفر الله لها ويدخلها الجنة. فالناس لا يلقون بالاً لهذه الأعمال، وميزان الله سبحانه وتعالى غير ميزان البشر. وبعض الناس وهم يضحكون في مجالسهم يريدون النكات لكي يضحكون وقد تمس رسول الله أو الصلاة، وقد تمس الإمام الذي يقرأ القرآن وتضحك الناس من أمر من أمور الدين، هذا خطر كبير يقع فيه كثير من المسلمين الذين يرجون خيراً ويرجون الله سبحانه وتعالى، ولا يلقون للكلمة بالاً، فعندما استهزأ بعض الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالصحابة رضوان الله عليهم سمى الله ذلك كفراً بقوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] ويحبط العمل، فينبغي للمسلم أن يتنبه إلى مثل هذه الأمور.

خطر الربا

خطر الربا بعض المسلمين يأتون إلى بيوت الله يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، ولكن يأكلون الربا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لدرهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية) أشد من أن يزني الرجل ستاً وثلاثين مرة. كثير من المسلمين يتعاملون بالربا في البنوك ولا يهتمون، ثم يعطون الفوائد بعض المساكين، وهذا خطأ فادح، فالله سبحانه وتعالى لا يقبل هذا، فهذا عندما يضع ماله في الحرام أغضب ربه، وعندما أخذ المال الحرام أغضب ربه، فهو آثم إذا أعطى المال، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من مثل هذا؛ لأنه يعلم أن الناس سيفتتنون بها، فالزنا عند الناس كبيرة وهو في دين الله جريمة كبرى من الموبقات، ولكن الربا الذي تقوم عليه البنوك والتجارة والمعاملة اليوم في ديار المسلمين وفي غيرها، أصبح الناس يتهاونون به من خلال الدعايات له في التلفزيون والصحافة ليدخلوا بذلك إلى النفوس بطرق مختلفة سهلة ويعطونهم عليها فائدة، وهذا إثمه كبير، قال الله سبحانه وتعالى في الذين لا يتركون الربا: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، فالربا يخرب الديار ويهلك العباد ويحل سخط الله سبحانه وتعالى، فكثير من الناس يظن نفسه على خير وعشرات ومئات الآلاف والملايين من ماله تعمل في الربا، ويظن نفسه من الصالحين، وهو على خطر عظيم، فينبغي أن يتنبه لأمره. إن الإيمان إنما هو حب لله، والخوف من الله، والخشية من الله عز وجل التي تستقر في نفوس العباد، ثم تلقي ظلالها على كلام العبد، وعلى فعله، فإذا بكلامه مستمد من مشكاة النبوة، وإذا بفعله تظلله آيات الكتاب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ليعلم ما يفعل ويعلم ما يترك، وإذا به دائماً ذاكراً لله سبحانه وتعالى، عاملاً بطاعة الله عز وجل؛ لأنه يعلم ما يريده الله وما لا يريده الله سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحريم الإكراه على الزواج

تحريم الإكراه على الزواج الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد عبد الله ورسوله. هذه رسالة وصلتني وأنا أصعد المنبر يشكو فيها كاتبها من أنه يريد الزواج وأن والده لا يسمح بزواجه إلا من قريبة له ابنة عمه أو ابنة خاله أو ابنة خالته أو شيء قريب من هذا، وهو يتساءل: هل من حق الوالد أن يمنع الابن أو أن يجبر الابن على الزواج من امرأة معينة؟ A الابن والبنت كذلك لا يستطيع أبوها في الشريعة الإسلامية أن يجبرها على أن تتزوج من قريب ما، فلها الحق أن ترفع أمرها للقضاء، ويجب على القاضي أن يفسخ العقد. (جاءت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تقول: يا رسول الله! إن أبي زوجني لابن أخيه -يعني: ابن عمها- ليرفع بي خسيسته- أي: هو شاب طائش ليس برجل، فأراد أن يحفظ هذا الشاب فزوج ابنته من ابن أخيه- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت أحق بنفسك، فقالت: يا رسول الله! أمضيت ما فعل أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من أمرهن شيئاً). صحيح أن البنت في الشريعة الإسلامية لا تزوج نفسها بل يجب أن يوافق الولي على تزويجها، فإذا رغبت في شاب وأبوها لم يرغب بزواجه ينبغي أن تتفق إرادتها وإرادة وليها، وعند ذلك يمكن أن يعقد الزواج، أما إذا رفضت هي فلا زواج، وإن وافقت هي ورفض الأب فلا زواج إلا إذا كان الأب يريد الإضرار بابنته، فعند ذلك ترفع أمرها للقاضي، فإذا ثبت للقاضي أن والدها يضر فيكون القاضي هو وليها ويعقد العقد. ولو تزوج رجل بدون رضا والده فالعقد صحيح ولا يشترط رضا الأب مثل الفتاة، لكن من باب البر بالوالد الذي أمر الله سبحانه وتعالى به ينبغي أن يستشار ولا ينبغي أن يخرج عن إرادته، لكن في مقابله لا ينبغي للأب أن يصر على أن يتزوج ابنه من فلانة من الناس؛ لأن الابن هو الذي سيتزوج، وليس على الأب إلا أن ينصحه ويرشده ويوجهه، فإن لم يصلح الزواج فهو الذي يتحمل ذلك؛ لأنه هو الذي اختار الزوجة، أما إذا اخترتها أنت، ثم لم يصلح الزواج بعد فالأب هو الذي يتحمل القضية، فهو الذي اختار وهو الذي زوج وهو الذي أكره، ولا بأس أن يستشار الأب، وأن يستشار الأقارب، وعليهم أن يشيروا، لكن الرأي الأول والأخير في ذلك ينبغي أن يكون للرجل الذي يريد أن يتزوج، ولا ينبغي للشاب أن يصر على رأيه إذا كانت الفتاة التي يريد أن يخطبها غير مسلمة وغير تقية، فيجب أن تكون معروفة سيرتها، ومعروفة أخلاقها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يتزوج من ذات الدين المرأة الصالحة التي تتقي الله سبحانه وتعالى وتخاف الله عز وجل وتقوم على بيتها وتحفظ زوجها في حضوره وفي غيبته. خلاصة الأمر أن الرأي الأول والأخير في ذلك للشاب إلا أنه من باب البر بالوالدين ومن باب أن يستشارا توضع مشورتهما في الاعتبار، لكنها غير ملزمة، ولا ينبغي للآباء أن تأخذهم عصبية الجاهلية، فيقول لابنه: كيف تتزوج من فلانة وهي ليست قريبة؟ أو قريبتك أولى؟ ففي قضية الزواج يستوي هذا وذاك، الزواج من امرأة ليست بقريبة قد يكون أصلح في بعض الأحيان، وقد يكون الزواج بالمرأة القريبة في بعض الأحيان أصلح، ولكن هذا نتركه لتقدير الرجل الذي سيتزوج. اللهم! اغفر لنا ذنوبنا، اللهم! كفر عنا سيئاتنا. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

الميزان المقلوب

الميزان المقلوب لقد وضع الله سبحانه وتعالى موازين ربانية لتفاضل الناس بعضهم على بعض، ورسخ هذه الموازين في نفوس المؤمنين، فالمؤمن بالله ورسوله خير من ملء الأرض من الأمريكان الكفار، والمؤمن التقي خير من المسلم الفاسق دون نظر إلى البلد الذي ينتمي إليه هذا أو ذاك.

الميزان الشرعي للتفاضل بين الناس

الميزان الشرعي للتفاضل بين الناس

أكرم الناس عند الله أتقاهم لله تعالى

أكرم الناس عند الله أتقاهم لله تعالى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فقد ورد في بعض الأحاديث: (أن رجلاً مر بالرسول صلى الله عليه وسلم فسأل صحابياً عنده: ما تقول في هذا؟ -وكان رجلاً وجيهاً في قومه، وصاحب مال، وله مكانة في نفوس أهل الدنيا- فقال: هذا حري إن خطب أن يزوج، وإن شفع أن يشفع، ثم مر رجل آخر فقير فسأله عنه فقال: هذا حري إن خطب ألا يزوج، وإن شفع ألا يشفع، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل ذاك) أو كما قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. فالرسول صلى الله عليه وسلم يضع في هذا الحديث ميزاناً لأهل الدنيا يختلف عن الموازين التي يقيسون بها، ويزنون بها، فمن موازين أهل الدنيا مثلاً: أن هذا أفضل من ذاك؛ لأنه من أسرة معروفة مشهورة؛ ولأنه صاحب مال وسلطان؛ أو لأنه يملك الدنيا؛ ولأنه في أهله وفي عشيرته وفي أهل بلده آمر مطاع، فهذا ميزان ومكيال يقيس به بعض الناس، لكن هناك موازين شرعية يتفاضل بها العباد والناس، فهذا صاحب دين، وهذا صاحب الصلاة، وهذا قارئ للقرآن، وهذا من الذين يقومون بالليل، وهذا من الذين يقولون الحق ولو كان مراً، وهذا من الدعاة إلى الله تبارك وتعالى، فهذه موازين أخرى يتفاضل بها الناس إذا كانوا مسلمين. والرسول صلى الله عليه وسلم يقرر للناس أن يكونوا مستقيمين مع موازين الإسلام. فهذه قضية من أخطر القضايا في شريعتنا وفي ديننا، وهي أن يقيس المسلم الأمور بالمقاييس والموازين الشرعية، فالأحكام التي يصدرها الإنسان تؤثر على سلوكه وأفعاله وتوجهاته تأثيراً كبيراً، وليس تأثيراً سهلاً. ولذلك ينبغي للمسلم وهو في سلم الأولويات وفي سلم القيم والموازين أن يتنبه كثيراً وهو يلقي الأحكام، حتى في الأعمال: فهذا فاضل وهذا أفضل، وحتى في الأشخاص: فهذا حسن وهذا قبيح.

التسوية بين الخالق والمخلوق من الجور

التسوية بين الخالق والمخلوق من الجور وقد وجه الله تبارك وتعالى أنظار عباده إلى أمور كثيرة في هذه القضية، فأصل الشرك: هو التسوية بين الخالق والمخلوق، وهذا لا يليق {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:17] فالخالق والمخلوق لا يستويان، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]. وينبغي للإنسان ألا يسوي بين من سوى وخلق وأبدع، فهو القادر القاهر العليم الخبير الحكيم، وبين آلهة لا تملك لنفسها شيئاً، ولا تملك نفعاً ولا ضراً، فلا تعطي ولا تمنع، ولا تخفض ولا ترفع، فالله تبارك وتعالى هو الإله الحق، فلا يجوز أن يسوى بخلقه، ولذلك أنكر الله تبارك وتعالى على المشركين الذين اتخذوا أنداداً من دون الله يحبونهم كحب الله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] أي أنهم سووا بينهم وبين الله في المحبة، أي: محبة العبودية، فسووا بينهما في هذه المحبة، فالله تبارك وتعالى أنكر عليهم ذلك، وبين أن المسلمين المؤمنين الصالحين تميزوا بأن محبتهم لله تبارك وتعالى أعظم؛ لأنهم يحبون الله وحده، ولا يحبون معه شريكاً، ولا يحبون معه نداً، بل يخلصون له الدين، ويخلصون له العبادة، ومن جملة ذلك المحبة لله تبارك وتعالى، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].

تفضيل بعض الأعمال على بعض عند الله تعالى

تفضيل بعض الأعمال على بعض عند الله تعالى وفي تفاضل الأعمال أنكر الله تبارك وتعالى على الذين فضلوا عملاً على عمل هو في ميزان الله أفضل، ومن ذلك قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19]، فالله ينكر على طائفة جعلت سقاية الحاج وعمارة المسجد أفضل من الإيمان به واليوم الآخر، والمفسرون مختلفون في الذين قالوا ذلك، فقيل: إنهم فئة من المؤمنين، وقيل: بل هم المشركون، والمهم أن هناك مقولة تقول: إن عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج أفضل من الإيمان بالله، وأفضل من الجهاد في سبيل الله، فالله تبارك وتعالى أنكر ذلك؛ لأنه حكم يخالف حكم الله تبارك وتعالى، وهذا من جانب. وجانب آخر: أن الإنسان كما يقال: أسير أفكاره ومعتقداته، فإذا اعتقد هذا فسيتجه إلى بناء المساجد وعمارتها، وسيترك الجهاد والعمل، مع أن عمارة المسجد الحرام فضيلة وعمل خير، وسقاية الحاج عمل طيب كذلك، ولكن هناك ما هو أفضل في ميزان الله وأكمل، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:19]، فهما عملان فاضلان لكنهما في ميزان الله لا يستويان. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20]، وهذا صنف من الناس متميز في ميزان الله تبارك وتعالى، فالذي يترك معتقداته وموروثاته، ويخالف ما عليه الناس، ويؤمن بالله تبارك وتعالى، ويترك أهله ووطنه مهاجراً إلى الله ورسوله، ويجاهد في سبيل الله بماله ونفسه راغباً فيما عند الله تبارك وتعالى، هذا الصنف في ميزان الله أعظم درجة عند الله، وهذا هو الصنف الفائز في ميزان الله تبارك وتعالى. وقال تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177]. وهذه فئة من الناس تهتم بالأمور الشكلية في موازينها وفي أحكامها وتصرفاتها، كما ناقش اليهود والمشركون المسلمين عندما حولت القبلة، بقولهم: كنتم تتجهون إلى جهة الشمال إلى بيت المقدس ثم توجهتم إلى جهة الجنوب إلى مكة، فالله تبارك وتعالى قال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. فهذه هي حقيقة البر، وهذه هي الأعمال الفاضلة في ميزان الله تبارك وتعالى، وهنا تناقشوا في اتجاه الإنسان أثناء صلاته إلى الشمال وإلى الجنوب، فعندما يأمر الله تبارك وتعالى بأن تتجه إلى بيت المقدس فسيكون البر الحقيقي أن تطيع الله تبارك وتعالى وتتجه إلى بيت المقدس، وعندما يأمر الله تبارك وتعالى أن نتجه إلى المسجد الحرام فسيكون البر أن تطيع أمر الله تبارك وتعالى، فالقيمة ارتبطت بالأمر الإلهي الرباني، وارتبطت القيمة بأمر الله تبارك وتعالى بهذا الفعل فأصبحت الاستجابة لهذا الفعل بر وخير؛ لأنك تعبد الله تبارك وتعالى، ومن هذا المنطلق ما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خاطب الحجر الأسود: والله! إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. فالقيمة الحقيقية أن هذا أمر إلهي رباني، وتشريع إلهي، فنحن لا نعبد الأحجار عندما نطوف بالكعبة، ولا نعبد الحجر الأسود عندما نقبله، وإنما نعبد الله تبارك وتعالى بالاستجابة له إذ أمرنا أن نطوف بالكعبة ونتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به عندما نقبل الحجر الأسود. فالقيمة الحقيقية إنما هي في طاعة الله وطاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فالبر هو: عمل الخير الحقيقي والذي يتمثل في هذا، فليس هو في جوانب شكلية كالاتجاه إلى المشرق أو المغرب، فالمشرق لله والمغرب لله، فإذا وجهنا إلى المشرق نتجه، وإذا وجهنا إلى المغرب نتجه. إذاً: هناك أحكام ينبغي أن يتنبه الإنسان لها عندما يصدرها، وألا يسوي بين الأمور المتناقضة أو يفرق بين الأمور المجتمعة، وأن يصدر في موازينه وفي أحكامه عن قواعد الشريعة الإسلامية، وعن القيم التي تقرها الشريعة الإسلامية، وقد أنكر الله كما رأينا في كثير من آياته على الذين يسوون بين الأمور المختلفة، ويسوون بين الخالق والمخلوق، أو يفضلون أعمالاً على أعمال. وكذلك في الحكم على البشر قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:35 - 38]. فيقرر الله تبارك وتعالى أن الإنسان المؤمن الصالح والمجرم الكافر الذي يعادي الله لا يستويان في ميزان الله تبارك وتعالى، لكي يتبين المسلم هذه القضية في الأحكام وفي سلم الأولويات حتى لا يضل، فالضلال قد يكون كبيراً إذا سوى الإنسان بين الخالق والمخلوق مثلاً، وأحياناً يكون أقل إذا ما فضّل عملاً على عمل فإن له نتائج سلبية في واقع الأمور والحياة. فالبعد عن هذه المفاهيم ألقى الضلال على نفوس المسلمين في كثير من القضايا، وليس في قضية واحدة. والإنسان الفاضل عند المسلمين: هو من يفقه دينه، لكن صاحب العقيدة المشوشة، والمفاهيم المغلوطة، يعتقد أن الكافر أعظم من المسلم، فالبريطاني والأمريكي والفرنسي في نفسه عظام، مع أن ميزان الله تبارك وتعالى يقول عنهم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]. فالإنسان المسلم الخير الفاضل يساوي ملء الأرض من الكافرين، بل هؤلاء كما يخبر الله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98].

وجوب تفضيل ما فضله الله وعدم مخالفته

وجوب تفضيل ما فضله الله وعدم مخالفته إذاً: هناك أحكام ينبغي أن يتنبه الإنسان لها عندما يصدرها، وألا يسوي بين الأمور المتناقضة أو يفرق بين الأمور المجتمعة، وأن يصدر في موازينه وفي أحكامه عن قواعد الشريعة الإسلامية، وعن القيم التي تقرها الشريعة الإسلامية، وقد أنكر الله كما رأينا في كثير من آياته على الذين يسوون بين الأمور المختلفة، ويسوون بين الخالق والمخلوق، أو يفضلون أعمالاً على أعمال. وكذلك في الحكم على البشر قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:35 - 38]. فيقرر الله تبارك وتعالى أن الإنسان المؤمن الصالح والمجرم الكافر الذي يعادي الله لا يستويان في ميزان الله تبارك وتعالى، لكي يتبين المسلم هذه القضية في الأحكام وفي سلم الأولويات حتى لا يضل، فالضلال قد يكون كبيراً إذا سوى الإنسان بين الخالق والمخلوق مثلاً، وأحياناً يكون أقل إذا ما فضّل عملاً على عمل فإن له نتائج سلبية في واقع الأمور والحياة. فالبعد عن هذه المفاهيم ألقى الضلال على نفوس المسلمين في كثير من القضايا، وليس في قضية واحدة. والإنسان الفاضل عند المسلمين: هو من يفقه دينه، لكن صحاب العقيدة المشوشة، والمفاهيم المغلوطة، يعتقد أن الكافر أعظم من المسلم، فالبريطاني والأمريكي والفرنسي في نفسه عظام، مع أن ميزان الله تبارك وتعالى يقول عنهم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]. فالإنسان المسلم الخير الفاضل يساوي ملء الأرض من الكافرين، بل هؤلاء كما يخبر الله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98].

مقياس التفاضل في ميزان الإسلام هو التقوى

مقياس التفاضل في ميزان الإسلام هو التقوى ومن الأخطاء التي وقع فيها المسلمون: المفاضلة بين المسلمين على غير الموازين الشرعية، فيفضله عندما يكون الإنسان مواطناً في بلد كالكويت، أو كالأردن أو كمصر، لأن المواطنة تجعله أفضل من غيره ولو كان لا يفقه ولا يعلم شيئاً، بل ينبغي أن يكون التفاضل في ميزان الإسلام بالتقوى والصلاح والخير، وأن تزال القيم الدنيوية: هذا غني وهذا ثري، وهذا وجيه، وهذا ابن فلان، فتجعله في أعين الناس أفضل من غيره، ثم أضيف إلى ذلك المواطنين، فهذا أفضل؛ لأنه كويتي، أو لأنه عند الفلسطينيين فلسطيني، ولأنه عند المصريين مصري. فهذه كلها من العصبية الجاهلية التي ما أنزل الله تبارك وتعالى بها من سلطان قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. والأخوّة يتفاضل الناس فيها بالإيمان والعمل الصالح، ومن أجل ذلك حثنا الإسلام عندما يكون الخاطب صالحاً أن نزوجه مهما كان جنسه أو لونه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه)، فقال: (دينه وأمانته) وما قال: إذا كان فلسطينياً وإذا كان كويتياً وإذا كان مصرياً، فهذه تقسيمات جغرافية، أما البشر فهم البشر، عقولهم وأفكارهم ومكوناتهم وأصولهم كلها واحدة، وإنما التفاضل عند الله: (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). وقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، وما قال: أن يكون جنسها كذا، أو لونها كذا، أو من البلد الفلاني. فـ أبو جهل من مكة، وأبو لهب من مكة، وهل هناك مكان أفضل من مكة؟ ومع ذلك فهما حطب جهنم كما قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2]. وعبد الله بن أبي من المدينة رأس المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وهو من المدينة. وسلمان من فارس وهو من خيرة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبلال من الحبشة ولونه أسود وهو من خيرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. فينبغي أن نتنبه لذلك، وخاصة المسلمون الذين يأتون إلى المساجد ويقيمون الصلاة ويذكرون الله ويعظمونه، فينبغي أن يتنبهوا لهذه القضايا، وهذه عصبيات جاهلية تذبح الإسلام في نفوس المسلمين، وتضعف الإسلام في نفوسهم، فينبغي أن تكون موازيننا وقيمنا وأحكامنا نابعة من إسلامنا وعقيدتنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الالتزام بأوامر القرآن وتطبيقها عمليا

الالتزام بأوامر القرآن وتطبيقها عمليّاً الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثالاً لهذا القرآن الكريم، فقد كان قرآناً يتحرك ويمشي؛ لأنه جسَّم هذا القرآن في نفسه، ولذلك فإن أحكامه صلوات الله وسلامه عليه وتصرفاته كانت مجسمة لهذه المعاني التي ذكرتها، وعندما كان يغفل في بعض الأحيان كان يأتي القرآن لينبهه وليذكره. ومن جملة ذلك: عندما لم يلتفت إلى الأعمى وهو عبد الله بن أم مكتوم عندما جاءه يسعى ويقول: يا رسول الله! علمني، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً بسادة قريش يرجو إسلامهم لعل الله يعز بهم الإسلام، فلم يلتفت إلى الأعمى وهو يقول له: يا رسول الله! علمني، فنزل القرآن معاتباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس:1 - 11]. ولذلك فقد جاءت جماعة في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب وهم خليط من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن سادة قريش الذين آمنوا من الطلقاء وغيرهم، فأذن لهؤلاء الفقراء المساكين بلال وعمار وصهيب وغيرهم ولم يأذن للسادة إلا متأخراً فغضبوا، فقال أحدهم: والله! ما فاتكم من الأجر أعظم. وهذا تفضيل في الدنيا، أما التفضيل عند الله فشيء آخر، فعليكم بالجهاد. فقد انطلق عمر أيضاً من فهمه لهذا الميزان، فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لهم مكانة ومنزلة خاصة عند المسلمين، وينبغي للمسلم كذلك أن يتبين أمره في مثل هذه الأمور وألا تأخذه عصبية جاهلية، أو قيمة دنيوية فيضل أو يضل. اللهم! اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقناً اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

وحدة العمل الإسلامي

وحدة العمل الإسلامي بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التناحر إلى التآلف، ومن التفرقة إلى الاجتماع، وقد سار الصحابة والقرون الأولى على هذه الأخوة والوحدة والتآلف الإيماني، حتى ظهرت الفتن والشقاق، وبعد الناس عن الدين الصحيح، فكثر الجهل، واختلفت القلوب، وحلت الفرقة والتنازع بين المسلمين، ولذا كان على المسلمين أن يراجعوا حساباتهم، ويتقوا الله ربهم، ويوحدوا قلوبهم وعملهم للدين.

أهمية الوحدة في العمل الإسلامي

أهمية الوحدة في العمل الإسلامي الحمد لله وحده، فهو صاحب الحمد تبارك وتعالى، فله الحمد، وله الأمر، وله الحكم، لا معقب لأمره، ولا راد لحكمه تبارك وتعالى، سبحانه ما أعظمه وما أحلمه وما أكرمه! خيره إلى العباد نازل، وشرهم إليه صاعد، يتحبب إلى عباده بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي، أنزل إليهم ديناً ليس كمثله دين، وأرسل إليهم رسولاً ليس كمثله رسول، فأضاع العباد دينه وهجروه، وعصوا رسوله واتبعوا من دونه أولياء. وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد المصطفى المختار الذي جاءنا بهذا النور، وبهذا الخير؛ فأصبحنا خير أمة أخرجت للناس عندما تمسكنا بما جاءنا به، فلما تركناه أذلنا الله. وأصلي وأسلم على صحبه الأخيار، وآله الأطهار، وعلى من اتبع هديهم، وسار على سبيلهم إلى يوم الدين. أما بعد: فأشكر كل من حضر لهذا الأسبوع، وأقبل على بيوت الله يطلب زاداً باقياً دائماً لا ينفد ولا يزول: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، فهذه الساعات التي تقضى في بيوت الله، والتي تقضى مع كتاب الله، والتي تقضى في جلسات العلم، هي الساعات الباقية الدائمة التي يفرح صاحبها عندما يلقى الله تبارك وتعالى، وهي التي يذكر الله أصحابها إذ يجتمعون في الله ولله، فيبتغون ما عند الله ويطلبون رحمة الله تبارك وتعالى، لا يجتمعون لعرض من الدنيا زائل يتقاتلون عليه فتختلف منهم القلوب، ثم تتناثر منهم الأجسام، وإنما يجتمعون على هذا الخير الذي يؤلف القلوب ويجمعها، قال تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63].

وحدة العمل الإسلامي في الخلافات الإسلامية السابقة

وحدة العمل الإسلامي في الخلافات الإسلامية السابقة أيها الإخوة! إن وحدة العمل الإسلامي أنشودة يتغنى بها المسلمون، وحلم يراود خيالهم، فعندما يذكر في المجالس والمحافل تهفو إليه القلوب، ونتذكر أيام أن كنا دولة واحدة وأمة واحدة، نتذكر عهد الراشدين، وأيام ما كان المسلمون أمة واحدة متحابة متآخية، نتذكر أيام الدولة الأموية أيام الدولة العباسية عندما كان يخاطب الرشيد السحابة التي يراها في السماء قائلاً لها: إمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك، وعندما كان الخليفة المسلم يتكلم بالكلمة فترتج الدنيا من تحت قدميه، وتطير في المشارق والمغارب ويكون لها صدى. وحدة العمل الإسلامي أمل عندما يذكر تتشقق له القلوب، وتشتاق إليه النفوس؛ ذلك أنه يذكرهم بأمجاد ماضية خالدة كانوا فيها أعزة، وعندما تفرقوا أصبحوا أذلة، وصاروا إلى الحال التي نراها ونشاهدها اليوم من آلام وأحزان وأوجاع ومآسي، وأصبح الأعداء يعبثون بنا كما يعبث اللاعبون بالكرة، ويسوموننا سوء العذاب، فيقتلون رجالنا ويسفكون دماءنا، ويهتكون أعراضنا لا بالآحاد ولا بالعشرات بل بالمئات تحت سمعنا وبصرنا ونحن لا نفعل شيئاً، ولا نحرك ساكناً، أطفال صغار ونساء ورجال ونحن لا نفعل شيئاً، ولا تتحرك بيوت الإسلام ولا ترتفع راية الجهاد، ولا ينادي المنادي: كي ننصر المسلمين ونزيل العار!

فرضية وحدة العمل الإسلامي

فرضية وحدة العمل الإسلامي إن فرقة المسلمين بلاءٌ كبير، بلاء دونه كل بلاء، ووحدة المسلمين والعمل الإسلامي ليس أمراً مستحباً نأخذه متى ما شئنا، وندعه متى ما أردنا، إنه واجب إسلامي فرضه رب العزة تبارك وتعالى، فنجد في كتاب الله أن الله يتحدث عن هذه القضية مرة، وكأنها حقيقة مسلمة ليس فيها جدال لا في هذه الأمة فحسب، بل كل مؤمن وجد على ظهر هذه البسيطة منذ عهد آدم إلى آخر إنسان كلهم أمة واحدة، عندما تحدث الله عن الأنبياء من قبلنا، وذكر من شأنهم قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، وفي آية: {فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، ومرة يأمر الله بها ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، ومرة ينهى عن الفرقة والاختلاف كما في الآية السابقة، وكما في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31]، {من الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:32]، ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ليصور حال المسلمين والمؤمنين في اجتماعهم ووحدتهم فيقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، تلك صورة المسلمين، المؤمن في الأمة كالخلية في الجسد، وتلك الخلايا مترابطة فيما بينها، فإذا ما شيك الإنسان بشوكة في أي جزءٍ من جسده أحس الجسد كله بالألم، وفي حديث آخر يصور المؤمنين كالبنيان المرصوص. إن وحدة المسلمين ووحدة العمل الإسلامي أمر قرره خالق الوجود تبارك وتعالى، الله رب العزة هو الذي قرر أن المسلمين شيء واحد، وأنهم جسد واحد، وقال فيهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ولا يمكن للمسلمين أن يعزوا إلا إذا اجتمعوا، ولا يمكن لهم أن يعزوا إلا بالإسلام، فقدر الله أن حملهم أمانة الرسالة، فإذا ما حيوا بهذه الرسالة وبلغوها للعالمين فإن الله سبحانه وتعالى سينصرهم ويؤيدهم، وإذا ما اختلفوا فإنهم كما أخبر الحق سيفشلوا، وتذهب ريحهم وقوتهم، ويتغلب عليهم أعداؤهم، وآثار الفرقة في عالمنا اليوم واضحة ماثلة للعيان، فهذه الوحدة التي نادى بها الدين ليست كالوحدة العربية أو الأوربية، والأحلاف في (الكمنولث) البريطاني وغيرها من الوحدات التي يتحدث عنها الناس في الحديث والقديم، فهذه وحدة قائمة على أصول راسخة قوية، أولها: أننا على ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

أهمية الوحدة العقائدية

أهمية الوحدة العقائدية قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالت العرب: نحن خير منكم، وكل أمة تدعي أنها هي الأفضل، وكل أمة تدعي أنها على طريقة إبراهيم، العرب يقولون: أبونا إبراهيم باني الكعبة، وابنه إسماعيل نحن من سلالته فنحن أفضل الناس، واليهود يقولون: نحن على طريقة إبراهيم، والنصارى يقولون: نحن على طريقة إبراهيم، والله تبارك وتعالى كذَّبهم في ذلك، فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران:67]، قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم أي: العرب، {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135]، خلاف بين الأمم على قضية من هم المهتدون والأمة الفاضلة؟ فالله قرر الحق بأن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 133]. فهذا هو ميراث محمد صلى الله عليه وسلم من أبيه إبراهيم: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68]، فنحن على ملة إبراهيم، وكانت ملته التوحيد وعبادة الله تبارك وتعالى وحده، فهذه الأمة التي استقامت على أمر الله أمة واحدة؛ لأنها تعبد إلهاً واحداً تعرفه وتتوجه إليه، ولا تشرك به شيئاً، لا تقول كما قالت اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، ولا كما قالت النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، ولا كما قالت العرب: الملائكة بنات الله، فاختلفوا في دينهم وافترقوا، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بفرقتهم، اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة فيما بينهم وكفر بعضهم بعضاً، وظلم بعضهم بعضاً، وابتعدوا عن الحق، وورثنا نحن من ربنا تبارك وتعالى بهدي منه الحق وعرفناه، عرفنا ملة إبراهيم أنه دين الحنيفية والتوحيد، فكانت تلك وحدة، فوحدة العقائد والقلوب أهم من وحدة الأجساد، نحن نعرف ربنا، ونعرف صفاته، وكيف نعبده، وكيف نستقيم على أمره، ونعرف رسولنا صلى الله عليه وسلم، ونعرف كتابنا، ونعرف أن الذي جاء بهذا الكتاب من عند الله هم الملائكة، ونعرف اليوم الآخر، وعندنا تصور عن هذا الكون، هذه هي الوحدة الأولى.

الاستقامة على شريعة القرآن أهم أسس وحدة العمل الإسلامي

الاستقامة على شريعة القرآن أهم أسس وحدة العمل الإسلامي الوحدة الثانية: أننا مستقيمون على شريعة الله تبارك وتعالى، فالله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، وخصنا بشريعة هي شريعة القرآن، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18]، فميزتنا من بين الأمم، وجعلت لنا منهجاً وسبيلاً، فمن ذلك أنه خصنا بقبلة دون بقية الأمم، قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة:144 - 145]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] وخصنا من بين الأمم بشريعة ميزتنا، وأصبحت لنا منهجاً وطريقاً وسبيلاً، وخالفنا بها اليهود في طريقتهم ومنهجهم، وأصبحنا بها أمة متميزة عن بقية الأمم، وكان من أمر هذه الوحدة أن أخبرنا ربنا بأن أصلنا واحد، (كلكم لآدم وآدم من تراب) لا فضل لعجمي على عربي، ولا لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، أنت بلونك لا تفضل أخاك، وبعروبتك لا تفضل غيرك، فهذه المقاييس جعلها الله ليتعارف الناس فيما بينهم، هذا من تميم! وهذا من قريش! وهذا من بني مخزوم! هذه للتعارف فقط، أما حقيقة البشر فهي حقيقة واحدة ليس فيها تصادم، وليس هناك أناس أصلهم ذهب، وأناس أصلهم فضة، وآخرون أصلهم حديد، لا، البشر أصلهم واحد، فلا ينبغي لأحد أن يفخر على أحد إلا بالتقوى والإيمان والعمل الصالح، ورسالة الله هي إلى البشرية كلها، والبشرية كلها يمكن أن تجتمع كمجتمع واحد تظللنا هذه الشريعة، وهذا معنى قولنا: إن الشريعة عالمية، وإن الدين عالمي، أما قوانين البشر ومناهجهم فكل يضع له منهجاً وسبيلاً، وشريعة الله هي للبشرية كلها، وحدة قائمة على أصول وحدت بين الناس فاصطنعت مجتمعاً، فأي مجتمع هذا الذي صنعته؟! صنعت المجتمع الإسلامي الأول في المدينة، فـ أبو بكر عربي وعمر وعثمان وعلي كلهم من قريش، ورجال من المدينة من الأوس والخزرج، وأقوام من قبائل مختلفة، وبلال حبشي، وسلمان فارسي، ودخل أناس في دين الله وأصبحوا يتآخون فيما بينهم، ويتآلفون ويتحابون ويتناصرون ويتراحمون ويجاهدون في سبيل الله.

بداية افتراق الأمة ومراحلها إلى اليوم

بداية افتراق الأمة ومراحلها إلى اليوم ثم لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، أراد الذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم أن يصدعوا هذه الوحدة؛ ليفرقوا جماعة المسلمين، فكانت الردة، ولم يقل المسلمون: نسكت عن هؤلاء ونهادنهم، لا، وإنما قاتلوهم حتى عادوا إلى الحق، والوحدة لا تكون على باطل، وإنما على الحق وعلى دين الله، فهؤلاء الذين امتنعوا من دفع الزكاة والذين تنبئوا هم أصحاب فرقة وشقاق، والجماعة القليلة في المدينة -الصحابة ومن استمر معهم الذين هم أصحاب الوحدة- حاربوهم حتى أعادوهم إلى الإسلام، والتأم شمل المسلمين، لا على قومية ولا على نقصان من الإسلام، وإنما على كلمة الإسلام وعلى دين الله. واستمرت المسيرة إلى أن سار من وسط المسلمين أناس شقوا صفوف المسلمين، وكانت الفتنة في عهد عثمان التي فرقتهم وجعلتهم معسكرين يتقاتلون فيما بينهم، ولكن الله رحم المسلمين فالتأم شملهم مرة أخرى في عام (41) للهجرة، واجتمعوا مرة أخرى فسمي ذلك العام بعام الجماعة. ثم بدأ ما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر عهد الصحابة، حيث بدأت الفرق الضالة تطل برءوسها، وقد أخبرنا أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فبدأت الفرق تطل برأسها هنا وهناك، من خوارج، ومعتزلة، وروافض وفرق كثيرة يعرفها من درس تاريخ الإسلام -ولكن الغلبة لأهل الحق- حيث شوشوا على المسلمين وأتعبوهم، ودارت حروب بين المسلمين، ولكن بقيت وحدة المسلمين، وأول انشقاق حدث عندما تحطمت الخلافة الأموية، وجاءت الخلافة العباسية، وأقام عبد الرحمن الداخل خلافة في الأندلس، ولكن كان الشرق ليس بكبير، واستمرت الدولة قوية، وفي منتصف القرن الرابع الهجري تفرقت الدولة العباسية وأصبحت دولاً وأمماً، وبقي الخليفة في بغداد يدعى له على المنابر وتؤخذ له البيعة وليس له من الأمر شيء، وبقية الأمة تتجزأ، ولكنها تحكم بالإسلام، وتنادي بالقرآن، وتعمل بشريعة الله. ثم جاءت الخلافة العثمانية فقويت شوكة الإسلام، وبقيت إلى أن قضى عليها الصليبيون في أوائل هذا القرن العشرين، حيث أزالوا الخلافة من الوجود، وألغوا شريعة الإسلام، وقسموا بلاد المسلمين إلى دويلات هزيلة، وجعلوا لكل دولة حاكماً، ولكل دولة بيتاً، وقطعوا ما بين المسلمين، وأغروا بينهم العداوة والبغضاء، ونفخوا في كل طائفة منهم، أنتم كويتيون! أنتم عراقيون! أنتم فلسطينيون! أنتم مصريون! وقبل ذلك كنا أمة واحدة، فكلمة هذا مصري وهذا فلسطيني وهذا كويتي وهذا مغربي ما كانت تساوي شيئاً في الماضي، ووقع الخصام والفرقة والعداء بين المسلمين، وزال الحكم بالإسلام من ديار المسلمين، وذهبت الجيوش التي كانت تتوضأ في الصباح الباكر، وتقوم تصلي قبل أن تأخذ تدريباتها، والتي كانت تقرأ القرآن، وتجلس لدروس الوعظ، وتدخل القتال باسم الله، وتهجم وهي تعرف آداب الإسلام وتطلب جنة الله، زال كل ذلك إلا قليلاً من ديار المسلمين، فرقة! دعوات! مرة إلى القومية، فتظهر القومية العربية فيقولون: نحن عرب، والعربي أخو العربي كما في مصر والعراق، والبربر في شمال أفريقيا يقولون: نحن بربر، وقسموا بلاد المسلمين، وأطلت الأفاعي برءوسها هنا وهناك في بلاد المسلمين، وجاءنا البلاء أكثر وأكثر، حتى جاءنا أقوام اقتنعوا بمبادئ ماركس ولينين، وقالوا: نحن شيوعيون ولا يصلحكم إلا الشيوعية أيها المسلمون! وجاءنا أقوام آخرون بدعوات ما عرفناها وقالوا: نحن بعثيون، والنصارى يرسلون المبشرين إلى ديارنا؛ لينصروا أبناءنا، وتقام في الجزيرة العربية كنائس عليها صلبان، ويتنصر في أندونيسيا في العام الواحد ربع مليون مسلم، وجيوش من الطائرات والسيارات والمبشرين والرهبان في السودان، وفي الجزيرة، وفي بلاد الشام، وفي مصر، وفي أندونيسيا ألوف من أبناء الذين قتلوا في لبنان أخذهم المبشرون النصارى؛ ليجعلوهم نصارى، ونحن غافلون أو ساهون لاهون!

نداء أبناء المسلمين الغيورين

نداء أبناء المسلمين الغيورين وقام بعض المسلمين الذين احترقت قلوبهم ينادون بالإسلام ويقولون: يا مسلمون! عودوا إلى دينكم! عودوا إلى كتابكم! عودوا إلى ربكم! اعرفوا من أنتم، لقد ضيعتكم المبادئ، وفرقتكم العصبيات والقوميات! وفرقتكم الوطنيات والشيوعية، كل ذلك ضيعهم كثيراً، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة:130 - 132]، أوصوا أبناءكم كما وصى إبراهيم ويعقوب بنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}. اصطفى لكم الإسلام، شعاركم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذا شعار الدين، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يعرفها أبناء المسلمين، وأن يربى عليها أبناء المسلمين، قال تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة:132 - 133]، وهو يموت وروحه تنزع يوصي أبناءه! الرسول صلوات الله وسلامه عليه وهو يفارق الحياة يقول للمسلمين: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، حافظوا على الصلاة، آخر ما يترك المسلم من دينه الصلاة، قام في المسلمين من ينادي: يا مسلمون عودوا إلى الله! تخلقوا بأخلاق الإسلام، واعرفوا عقيدة الإسلام، واعرفوا شريعة الإسلام، واهتدوا بهدي الإسلام، ولا يزلنكم الشيطان، وقامت جماعات هنا وهناك تنادي بالعودة إلى الله. وقدر الله تبارك وتعالى أن تؤتي هذه الدعوات ثمارها، وقد جئت إلى الكويت في سنة ألف وتسعمائة وخمسة وستين هجرية وكنت آسى وأنا أمر على مساجد الكويت فلا أرى إلا كهولاً ليس فيهم شاب، وليس فيهم طفل، والمساجد مهجورة! وكنت أتعجب حتى وقفت مرة في أحد المساجد، وقلت لهم: يا ناس! أليس لكم أولاد؟! قالوا: لنا أولاد، قلت: أين أولادكم؟! لماذا لا يعرفون المسجد؟! لماذا لا يأتون إلى المساجد؟! ومرت السنوات وإذا -بحمد الله- بيوت الله تمتلئ بالناس، فهذا خير كثير، ورحمة من عند الله تبارك وتعالى وبشرى، وهذا ليس في الكويت وحدها، وإنما حيثما سرت في ديار الإسلام وجدت المساجد، ورأيت الناس يقبلون على الله، لقد تكشف للمسلمين الخداع والكذب والزور، هؤلاء الذين جاءونا قالوا لنا: اتركوا الإسلام تعزوا وتصلحوا، كذبوا علينا فاكتشفنا الكذب والخديعة، وعرفنا أننا حطمنا بيوتنا بأيدينا، وذلك عندما حاربنا الإسلام في الماضي، فعلمنا أنهم كذبوا علينا، وجربنا كل الطرق فما وجدنا فيها طريقاً واحداً سليماً، في كل مرة هزيمة، وفي كل مرة خديعة، وفي كل مرة كذب، فأيقن الناس أنه ليس لهم سبيل إلا إذا رجعوا إلى الله، ووجهوا وجههم شطر البيت العتيق، وتركوا وجهتهم نحو موسكو وواشنطن ولندن، وعادوا إلى كتاب الله لا إلى كتب الكفر والضلال، لكن الذي نطمع فيه أن يشد المسلمون الذين فهموا الإسلام بأيدي العاملين للإسلام.

لزوم فهم الإسلام وحقوق المسلمين

لزوم فهم الإسلام وحقوق المسلمين فكما قلت في بداية كلمتي: المسلمون أمة واحدة، وجماعة واحدة، وجسد واحد، وبنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، لا ينبغي للمسلم أن يخذل أخاه المسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، ولا يزال في المسلمين والعاملين في الإسلام من لا يفهم هذه الحقيقة: أن للمسلم على المسلم حقوق، وأنه لا يجوز للمسلم أن يغتاب أخاه، أو أن ينم أخاه، أو أن يؤذي أخاه في عرضه، قال صلوات الله وسلامه عليه: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ويحب المرء لا يحبه إلا لله). أن تحب أخاك في الله، وأن تحب لأخيك الخير، ومن محبة الخير له ألا تغتابه، وألا تطعن في عرضه ولكن تنصحه، فإذا ما رأيته على أمر سيئ فبالتي هي أحسن، وهذا أدب الإسلام وخلقه، فنحن لا نقر بالباطل في أنفسنا، ولا نقره في إخواننا ولا مجتمعاتنا، ولكننا ننصح: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، نسي المسلمون هذه الأخلاق، وأصبح كثير من المسلمين لا يتأدبون بأدب الإسلام. التعاون على البر والتقوى بين المسلمين خلق من أخلاق الإسلام: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فمن خلق المسلمين: أن يعين أخاه على الخير إذا ما احتاج إلى معونة جسدية إلى معونة فكرية إلى معونة مادية وهو يستطيع أن يعين، فعلى المسلم ألا يقصر في هذا السبيل، عليه أن يمد أخاه ويحسن إليه، فذلك من خلق الإسلام. نرى بعض المسلمين والعاملين في الإسلام لا يحسنوا هذه الأخلاق، ويظن أنه لا ينتصر الإسلام إلا إذا أعمل لسانه في الآخرين، ومنع رفده وإحسانه عن الآخرين، وهذا خطر كبير، ومما يفسد العمل الإسلامي ويشوهه أن بعض المسلمين يتعالمون وهم لا يعلمون. فينبغي للمسلمين أن يطلبوا العلم الشرعي، فبدون علم لا تكون مسيرة، والجهل لا يربي النفوس، ولا يصلح الأفراد ولا الجماعات، والعلم الشرعي له سبيله وطريقه، وينبغي على المسلمين أن يحسنوا طلب العلم، وأن يحرصوا على ذلك لا أن يعيشوا جهلاء، بعض الذين لم يتقنوا العلم الشرعي والذين يستعجلون يفسدون بجهلهم في فتاويهم ودعاواهم وفي مسيرتهم، هؤلاء الناس -كثير في ديار الإسلام- يستعجلون الأمور قبل أوانها، كان طلبة العلم لا يتصدرون للفتوى والتعليم والتدريس إلا بعد أن يبلغوا مبلغاً حسناً، وبعد أن يشهد لهم من عند الذين يعلمون من العلماء حتى لا يفسد هؤلاء بجهلهم، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. أدعو إلى الإخلاص لله وحده لا إلى غيره تبارك وتعالى، وهذا أساس في العمل، {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي: على نور وعلم، وأعظم النور وأكبر العلم هو هذا الكتاب، كتاب الله تبارك وتعالى، ثم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ما سار عليه العلماء، فهذه هي البصيرة الحقيقية، قال تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. والجهل بدين الله يسبب مشكلات، ما البدع والخرافات التي انتشرت بين المسلمين إلا بسبب الجهل، عندما تصدر أقوام للدعوة إلى دين الله تبارك وتعالى وهم لا يعلمون، ولا يحسنون أن يقودوا الأمة الإسلامية، فنشأت الخرافات، ونشأت البدع، والتصوفات والعقائد الفاسدة بسبب الجهل، وشفاء هذا المرض بالعلم، والجهل يسبب فرقة بين الناس، لكن العلم يجمع الناس على الحق، وعندما يلتقي المسلمون مرة أخرى على هذا الكتاب وعلى هذا الدين فسيكون للمسلمين بإذن الله شأن، ولكن ينبغي أن يعلم المسلمون أنهم قبل أن يتسلموا الراية من جديد -ويأذن الله تبارك وتعالى بعودة الحق إلى نصابه- أنهم سيبتلون ويختبرون. فالله سبحانه وتعالى لم يسلم الريادة للصحابة إلا بعد أن اختبرهم وابتلاهم، فإذا ما صبر المسلمون على ما ابتلوا به -وقد بدأ ابتلاء المسلمين من وقت ليس بالقصير، فقد سجنوا وعذبوا وأوذوا في كثيرٍ من ديار الإسلام -واستمر ثباتهم، فإن الله تبارك وتعالى ينصرهم ويؤيدهم قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:38]، فهو سبحانه لا يعطي هذا الحق، ويعطي مرتبة الصدارة إلا لمن ثبت في المحنة والبلاء، وعلم أنه أهل لأن يتسلم المهمة التي يريد الله تبارك وتعالى أن يسلمه إياها. في الختام أسأل الله تبارك وتعالى لي ولكم الاجتماع على هذا الحق، وأن يبعث لهذا الدين رجالاً يعيدون له شبابه، وينجزون عنه ما ناله من أوليائه وما ناله من أعدائه، وأن يهيئ للمسلمين رجلاً حكماً رشيداً يعز به الإسلام، ويذل به الشرك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيكم خير الجزاء، وأن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه.

النجاة من الفتن

النجاة من الفتن خلق الله الإنسان في هذه الدنيا ليبتليه بأنواع من البلاء، مما هو خير ومما هو شر، لينظر الله من هو أحسن عملاً. ومن أنواع البلاء الفتن، وهي ترجع إلى شيئين: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات. فعلى المسلم أن يعرف الفتن ليحذرها، وليعتصم بالله وبكتابه حتى ينجو منها، وليستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وليعمل بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته عند الفتن التي أخبر بوقوعها.

أنواع الفتن

أنواع الفتن الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن الإنسان الصالح هو ذلك المسلم المستقيم على طاعة الله تبارك وتعالى، والأمة الصالحة في ميزان الله تبارك وتعالى هي الأمة المسلمة المستقيمة على طاعة الله تبارك وتعالى، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. إن الانحراف عن مسار الإسلام سبب في الهلاك والدمار، والحياة التي نحياها ونعيشها دار ابتلاء وامتحان واختبار يُبتلى الإنسان فيها ويختبر، فقد تكون الفتنة صغيرة، وقد تكون ضخمة كبيرة، وقد تكون الفتنة في المال أو الأهل أو الولد، وقد تكون الفتنة فرقة وخصومة، وقد يصل الخصام إلى أن تسل الأمة سيوف بعضها على بعض. والمسلم في كل ذلك يبتلى ويمتحن ويختبر، يبتلى عندما تكون الفتنة نابعة من الأهل والمال والولد، ويبتلى عندما تكون الفتنة نابعة من الأمة، ويبتلى عندما تعصف الفتن بالأمة الإسلامية من خارجها، فالفتن أحياناً قد تكون من الأعداء الذين لا يريدون بالأمة الإسلامية ولا بالإسلام خيراً. فقد تسفك الدماء، وتزهق الأرواح، وتستباح الحرمات، وتكثر الذنوب والمعاصي، والمسلم الصادق هو الذي يستقيم على طاعة الله مهما اشتد البلاء، ومهما اشتدت الفتن والمحن، والمسلم الصالح هو الذي لا يكون لديه نزعة شرور ولا فتنة، ولا تكون الفتنة نابعة منه؛ ولذلك جاء في وصف الصالحين أنهم مغاليق شر، مفاتيح خير، فالمسلم الصالح هو الذي يكون مفتاحاً للخير، ولا يكون مفتاحاً للشر، فبعض الناس لديه نزعة للشرور، ونزعة للفتن، فهو يثيرها ويؤجج نارها، فيصطلي بنارها كثير من الناس. ومن صفة العبد الصالح أنه يخمد الفتنة في نفسه، ويخمد الفتنة فيمن حوله، ولا تكون عنده نزعة شر ولا نزعة فتنة.

تحذير النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الفتن

تحذير النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الفتن لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على آخر هذه الأمة كحرصه على الذين وجدوا في عصره، ولذلك حدث الأمة عن الشرور والفتن التي ستقع في آخر الزمان، يروي مسلم في صحيحه عن أحد الصحابة يقول: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم صعد المنبر فخطبنا حتى صلاة الظهر، ثم نزل فصلى بنا الظهر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى صلاة العصر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى المغرب، فما ترك شيئاً مما يكون إلا أخبر به أصحابه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، يقول: فأعلمنا أحفظنا). وهذا الحديث يشير إليه العالم بالفتن من الصحابة وهو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قائلاً: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فما ترك شيئاً إلى قيام الساعة إلا أخبرنا عنه) أي من الفتن، فالرسول صلى الله عليه وسلم ناصح للأمة، ورحيم ورفيق بها، فهو يخبرها بالشرور والآثام حتى تتجنبها، وحتى لا يقع المسلم فيها، فإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم فيه عصمة للأمة. ومما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم) أي: سارعوا قبل أن تأتي فتن كقطع الليل المظلم، قال: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل)، فلا يصبح هناك ثبات على الحق ولا على الإسلام، فتعصف الفتن بالناس فلا يدرون كيف يسيرون، فيصبحون محتارين في أمورهم، بسبب مبادئ ودعوات، وذل وسفور، وسفك للدماء، وانتهاك للحرمات، والناس ضعفاء في دينهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (قبل يوم القيامة يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الهرج، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟! قال: القتل القتل)، وفي حديث آخر قال: (ليس قتلكم الكفار، ولكن يقتل بعضكم بعضاً)، فيقتل المسلم جاره وعمه وابن عمه! وفي حديث آخر صحيح: (لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قُتِل)، أي: أنه قتل بدون هدف، ولا أسباب، أو قتل لأتفه الأسباب، وأقل الأمور. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر) أي: تكثر الذنوب والمعاصي، والآثام، وتمر الفتنة على الإنسان عاصفة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تمر، ثم تأتي فتنة أخرى فيقول: هذه مهلكتي، كما في بعض الأحاديث، وفي الصحيحين أن الفتنة تبلغ إلى أن يتمنى الرجل الصالح الموت، قال عليه الصلاة والسلام: (يأتي على الناس زمان يمر الرجل بالقبر فيقول: يا ليتني مكانه! وليس به الدين) أي: ليس مديناً ولا قليل المال، فليس به إلا البلاء، فالفتنة قد تعصف بالإنسان وتهلك دينه، وتلقي به في النار، فيتمنى المسلم في تلك اللحظات الموت؛ حتى لا تعصف به الفتنة.

المخرج من الفتن

المخرج من الفتن أحس الصحابة بخطورة الفتن وفداحتها، فكانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن المخرج من الفتن عندما تأتي، كما في حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، أو كما قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. وفي حديث حذيفة عند البخاري قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني -أي: كان يسأله عن الشر حتى يتجنب الشر ولا يقع فيه- فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم -أي: ستأتي شرور بعد هذا الخير-، قلت: يا رسول الله! فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن -أي: ليس خيراً صافياً-، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي)، فالناس على الإسلام ولكن هناك أناس لم تتضح لهم معالم الطريق، فيدعون إلى شيء يظنونه إسلاماً وليس بإسلام، ويخلطون السنة بالبدعة، والخير بالشر، والحق بالباطل، (قلت: يا رسول الله! فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها)، وهذا شر كبير، ومن هؤلاء دعاة الشيوعية، والاشتراكية، والقومية التي سماها الرسول صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية وقال (دعوها فإنها منتنة)، فهم يدعون إلى دعوات سافرة وباطلة، وقد يصل الأمر إلى الشرك الصراح الذي كان عليه أهل الجاهلية، جاء في الحديث الذي في الصحيحين: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة)، وذو الخلصة: صنم كان يعبد في الجاهلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الساعة لا تقوم حتى يرتد جزء من قبيلة دوس ويعبدون ذي الخلصة مرة أخرى، ففي هذا الحديث أن كثيراً من العرب في آخر الزمان يرتدون ويعبدون الأوثان، فيصل بهم الأمر إلى الردة الواضحة البينة. قال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)، وقد حصل الاختلاف، وحصلت الفرقة، وحصلت الأهواء، فما المخرج من ذلك كله؟ قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، فهذا هو المخلص عندما يكون دعاة على أبواب جهنم، ونحن لا نقبل بالإسلام بديلاً، قال الله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86]، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك). قال حذيفة: (يا رسول الله! فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك). هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة كي تخرج من الفتن، وقد تثور الفتنة فيكره عليها الإنسان، فماذا يفعل المسلم الصادق اليوم عندما يدعى إلى هذه الفتنة القائمة؟ فإن قتل آخر فقد يقتل مسلماً، وإن لم يقتل فقد يُقتل! وفي الفتنة الكبرى التي وقعت في عهد الصحابة رضوان الله عليهم عبرة وعظة، وقد كان عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فسأل من عنده فقال: من يحفظ حديث رسول الله في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا يا أمير المؤمنين! (فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والزكاة، قال: لست عن هذا أسألك، وإنما أسأل عن الفتنة التي تموج كموج البحر، قال: يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها باباً مغلقاً، قال: أيفتح أم يكسر؟ قال: بل يكسر، قال: إذاً لا يغلق أبداً، فسألوه: أكان عمر يعرف الباب؟ قال: نعم، قال: فهبنا أن نسأله: من الباب؟ فأمرنا مسروقاً -وهو أحد علماء التابعين- فسأله، فقال: الباب عمر)، فالباب المغلق على الفتنة هو عمر، فقد كان قابضاً على الأمور، لا يدع رجلاً في رأسه فتنة يظهرها إلا وضربه على رأسه، فكان يخمد الفتنة، فلما جاء عثمان كان هيناً ليناً، فظهرت رءوس الفتنة في العالم الإسلامي، وأطاحت بالخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تدور رحى الإسلام بعد خمس وثلاثين)، فبعد مقتل عثمان بدأت الحروب بين المسلمين كما في الحديث الآخر: (تقتتل فئتان عظيمتان من المسلمين دعواهما واحدة)، والصحابة -وهم خيار أهل الأرض- شقت صفوفهم فتنة عمياء، فانقسموا إلى قسمين. وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة ماذا تفعل في مثل هذه الأمور؟ الحق غير واضح تماماً لكثير من الناس، فيضطرب الإنسان ولا يدري ماذا يفعل وكيف يتصرف في مثل هذه الفتن التي تعصف بالأمة الإسلامية، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المرء غنيمات يتتبع بها شعف الجبال)، أو يأخذ سيفه على عاتقه فيقاتل به الكفار كما في الحديث الآخر. فعلى المسلم أن يهرب من الفتن، ففي الحديث: (تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي)، وقد فعل هذا كثير من الصحابة في تلك الفتنة، ومنهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأبو بكرة ومحمد بن مسلمة، وكثير من الصحابة فلم يشاركوا في الفتنة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! كيف تفعل إذا غرقت أحجار الزيت بالدماء؟)، وأحجار الزيت موضع معروف في المدينة، وهذا حدث في عصر التابعين، عندما استبيحت المدينة، وكثر القتل في أهل المدينة. وكذلك أرشد صلى الله عليه وسلم إلى النجاة من الفتن كما في الحديث الآخر: (من كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له حرث فليلحق بحرثه)، حتى أن بعض المهاجرين من الصحابة مثل سلمة بن الأكوع خرج إلى البادية؛ ليخلص من الفتنة. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر أن يبتعد عن الفتنة وقال له: (اجلس في بيتك، قال: أرأيت -يا رسول الله! - إن لم أُترك؟ قال: إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق رداءك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك)، أي: ليكون كخير ابني آدم عندما اختار القتل على أن يرفع سيفه في وجه أخيه، فلذلك اعتزل كثير من الصحابة الفتنة فانقضت لا لهم ولا عليهم. إن هذه الفتن تتكرر بين المسلمين باستمرار، فقد يكون بين المسلمين مشاكل في المجتمع الصغير، أو في المسجد الواحد، أو في البلد الواحد، فتثور فتن وفرقة وخصام في الدولة الواحدة وفي مجتمع المسلمين الكبير على مر التاريخ، ويصل الأمر بالفرقة والخصام والنزاع إلى أن يسل بعضهم السيوف على بعض، وأن تسفك دماء المسلمين! فعلى المسلمين أن يعتصموا بكتاب الله، وأن يكونوا مفاتيح خير، مغاليق شر، وألا يسعوا في الفتنة ولا يذكروها. إن الفتنة ليست في محاربة البدع، أو الكفر، أو الباطل، فهذا هو الإسلام، وهذا هو الجهاد، ولكن الفتنة التي تثور بين المسلمين هي التي تقسي القلوب، وتعصف بالأخوة، فهذه هي الفتنة التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الاستعاذة بالله من الفتن

الاستعاذة بالله من الفتن الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الفتن ويقول: (أعوذ بالله من فتنة المحيا والممات)، فالمحيا فيه فتنة، والممات فيه فتنة، فالمرء يفتن عند خروج روحه، فإن الشيطان يأتيه فيفتنه، ويفتن المسلم في قبره عندما تأتي ملائكة الرحمن تسأله، وهذه آخر فتنة يتعرض لها المسلم. إن خير ما يعيذ الله به عبده من الفتن أن يوفقه ويهديه لمعرفة الخير، وأن يستقيم على الخير، وتلك هي الهداية العظمى. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يقول: (اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، ونحن نقرأ في كتاب الله في كل ركعة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]. فنسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى الصراط المستقيم، وأن يجعلنا مفاتيح خير مغاليق شر، وأن يوفقنا إلى كل خير، وأن يعصمنا من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.

عظمة القرآن

عظمة القرآن كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض، جعله الله هدى للمتقين ونوراً للمسترشدين، من أخذ به واستمسك كان على الهدى، ومن هجره ضل. ومن صفات عباد الله المتقين أنهم يتلونه حق تلاوته، ويتدبرونه ويعملون بما فيه، ويتذكرون به ما يصلح في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم.

فضل القرآن وعظيم قدره

فضل القرآن وعظيم قدره إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يحدثنا أحد الصحابة رضوان الله عليهم وهو أسيد بن حضير أنه كان في ليلة من الليالي يقرأ القرآن، وكانت فرسه قريباً منه، قال: فقرأت فجالت الفرس، فلما سكت سكنت، ثم قرأت فجالت أي: تحركت حركة شديدة، ثم سكت فسكنت، قال: وكان ابني يحيى قريباً منها، فخشيت أن تطأه، فلما أبعدته نظرت إلى السماء فإذا ظلة فيها كأمثال المصابيح، ثم صعدت في السماء حتى اختفت، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان منه وما رأى، فقال: (اقرأ يا ابن حضير قال: يا رسول الله! قرأت ولكن خشيت أن تطأ يحيى فقال: أتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة نزلت لقراءتك)، وأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لو استمر في القراءة لبقيت الملائكة إلى الصباح حتى يعاينها الناس لا تختفي منهم؛ وهذا حديث صحيح وهو مصداق الحديث الآخر الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). هذا الكتاب كلام الله تبارك وتعالى، أنزله إلى البشرية هدى ونوراً وفرقاناً وضياءً، فيه خيرهم، وفيه سعادتهم إذا هم أخذوه، وفيه شقاؤهم وهلاكهم إذا هم تركوه. خير كتاب على وجه الأرض هذا الكتاب، خير كتاب منذ خلق الله الأرض، وإلى أن يرث الله الأرض، لم يوجد كتاب كهذا الكتاب قط، ولو اجتمع علماء الغرب وعلماء الشرق، وعباقرة الجن والإنس على أن يخرجوا كتاباً كهذا الكتاب لا يستطيعون أبداً، فما تخرجه المطابع، وما تنتجه القرائح لا يمكن أن يساوي شيئاً من هذا الكتاب.

قسم الله لبيان عظمة القرآن

قسم الله لبيان عظمة القرآن أقسم رب العزة قسماً وهو الصادق تبارك وتعالى فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:75 - 80]. (فَلا أُقْسِمُ) يقسم رب العزة بمواقع النجوم أي: منازلها في السماء ثم يقول: إن هذا القسم ((لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)) أي: هذا الذي أقسم الله تبارك وتعالى به وهو مواقع النجوم قسم عظيم. اليوم نحن نعرف شيئاً من عظمة هذا القسم، بعد أن اخترعت هذه المكبرات والمناظير التي نرى بها نجوم السماء، ونعرف أبعادها، فقد تبين للعلماء أن في هذا الفضاء الشاسع مجرات لا تعد ولا تحصى، وكل مجرة فيها مئات الملايين من النجوم تسبح في هذا الفضاء الواسع الشاسع {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76]. على ماذا يقسم رب العزة؟ {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} لا كما يقول أهل الإفك والضلال: إنه سحر وكهانة وافتراء وكذب واختراع. {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أصله في كتاب عند الله تبارك وتعالى أنزله منه. {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} لم تتنزل به الشياطين، ولم تأت به الجن، {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212].

شرف القرآن

شرف القرآن هذا الكتاب هو عزنا، وكان نزوله حدثاً عظيماً، ولذلك عندما شرع الله لنا الصيام قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] لما كان نزول القرآن في هذا الشهر الكريم كان هذا شهراً عظيماً، فله مكانة خاصة بين الشهور، {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، قال العلماء: فيه عزكم ومجدكم إن أنتم أخذتم بهذا الكتاب.

وصف القرآن الكريم

وصف القرآن الكريم وقد جاء في وصفه ما يروى حديثاً، ويروى أنه من كلام علي بن أبي طالب: (كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل) أي: كله حق، في أخباره وفي أحكامه كما قال تبارك وتعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، أي: في أخباره، فليس فيه خبر كاذب، وَعَدْلًا في أحكامه، فليس فيه حكم جائر. قال: (هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله)، يعني: الجبابرة الذين يتمردون على دين الله وشرعه يمد الله لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. (ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله) أي: الذي يريد الهدى من عند روسيا، ويريد منهجاً شيوعياً هادياً للبشرية، والذي يريد الهدى من عند أمريكا من نظرياتها وفلسفاتها، أضله الله. قال: (وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم)، فمن استمسك به لا ينقطع به أبداً، فالقرآن كما جاء في بعض الأحاديث: (حبل طرفه بيدك، وآخره عند الله تبارك وتعالى)، إذا استمسكت به رضي الله عنك، وأدخلك جنته. وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، فمن سار عليه كان على الصراط المستقيم، ولم يذهب يميناً ولا شمالاً حتى يصل إلى جنة الله تبارك وتعالى. قوله: (هو الفصل ليس بالهزل) أي: أنه كلام لا هزل فيه بل هو جد كله. (لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم). هذا وصف كتاب ربنا ممن فقه ما في هذا الكتاب، والغاية من إنزاله، وكيف يعمل به، ولذلك كان تقويم الرجال في ديننا ليس بأجسامهم، وطولهم وعرضهم، ولا بما يعرفون من أمور الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه يحفظ كتاب الله، ويرتله آناء الليل وأطراف النهار ويعلمه الناس، فهذا هو خير الناس. ولذلك يقال يوم القيامة للذي كان يرتل القرآن بعد أن يدخل الجنة: (اصعد في درجات الجنة، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت ترتلها)، كم ترتل القرآن في الدنيا: مائة مرة، ألف مرة، مائة ألف مرة، بمقدار ما رتلته في الدنيا تصعد وتصعد وتصعد ثم تكون منزلتك عند آخر آية كنت ترتلها. (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). الذي يفهم هذا الكتاب ويحفظه فقد جمع النبوة في صدره، هذا هو الوحي الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الحياة التي أحيا الله بها قلوب عباده، وهذا هو الريح الطيب الذي كان ينشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، هذا قوام الأمة وحياة الأمة وعز الأمة وخيرها.

أجور عظيمة مترتبة على قراءة القرآن

أجور عظيمة مترتبة على قراءة القرآن عندما تقرأ الحرف من القرآن، فلك عشر حسنات، الفاتحة فيها مائة وخمسون حرفاً، فعندما تقرؤها فلك ألف وخمسمائة حسنة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا أقول: ((الم)) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، ويقول: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران). ولذلك عنيت الأمة بهذا الكتاب، فدرسوه، وفقهوه، وحكموه في أنفسهم، وتخلقوا بأخلاقه، وتأدبوا بآدابه، ونشأت أمة الإسلام على هذا الكتاب؛ فصنع أفرادها رجالها ونساءها وأطفالها وشبابها وشيوخها وحكامها، وكان إطاراً لحياتهم، فكانت هذه الأمة هي أمة القرآن. هذه الأمة كانت تنظر بكتاب الله، وتنظر من خلال آياته، وتحقق الأهداف التي رسمها كتاب الله تبارك وتعالى، وتتعلم عقيدة الإسلام من هذا الكتاب، فقد كان حياتها ونورها، فكانت هذه الأمة أمة القرآن، هذا الكتاب حياتك وعزك وخيرك إن أنت أخذت به، وهذا الكتاب هو كتاب الأمة الأول ونورها الهادي، إن أخذت به عزت، وإن تركته ذلت. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

التحذير من هجر القرآن

التحذير من هجر القرآن الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. مما حدثنا الله تبارك وتعالى به أن رسولنا صلى الله عليه وسلم يشكو أمته إلى ربه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، وهذا حصل في كثير من فترات التاريخ، ومنها أيامنا هذه حيث هجرت الأمة كتاب الله تبارك وتعالى، وأصبح القرآن لوحات تعلق على الجدران، وزينة تزين بها المكاتب، وملصقات توضع على السيارات، أما أن يكون القرآن دستوراً، وشريعة، وإطاراً لحياتنا فقد تركنا ذلك وهجرناه. هذه شكوى قائمة في أيامنا من كثير من المسلمين، أصبح القرآن يقرأ في المآتم وفي المقابر، أما أن يكون القرآن حياة للقلوب، وحكماً في الوزارة وفي الدائرة وفي السوق وفي كل مكان، ويكون منهجاً في التربية والتعليم، وضابطاً لمختلف العلوم؛ فهذا بعيد إلا من رحم الله. هذه شكوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحدث رب العزة تبارك وتعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، وتلك جريمة. فإذا كان الذي يؤتى آية من كتاب الله ثم ينساها تعد هذه جريمة في ميزان الله تبارك وتعالى فكيف بالأمة إذا تركت هذا الكتاب؟! يقول رب العزة تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99] أي: القرآن، {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه:100] أي: يأتي مثقلاً بآثامه وأوزاره يحملها فوق ظهره، ثم تكون النتيجة أن هذا الوزر يلقيه في نار جهنم فيخلد فيها، {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:101 - 102]. ويقول رب العزة في الذي يعرض عن الهدى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، وذكر الله فينا هو كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [طه:124 - 127] أي: مثل هذا الجزاء نجازي به من أسرف على نفسه بالكفر والشرك والذنوب والمعاصي. هذه نتيجة الإعراض عن كتاب الله في الدنيا: معيشة ضنك، يشقى بنفسه وبأهله وبولده وبماله، كثير من الناس النعمة تتحول النعمة في حقه إلى نقمة؛ لأنه نسي الله فأنساه الله تبارك وتعالى نفسه، وحاله يوم القيامة كما قال الله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} [طه:124 - 125] بصيرتك عميت في الدنيا عن كتاب الله ونور الله وهدى الله، فيحشره ربه تبارك وتعالى أعمى، فالجزاء من جنس العمل. أما الذين اهتدوا فزادهم الله هدى، أما الذين استناروا فلهم النور التام يوم القيامة، {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12]، الذين استناروا في الدنيا بهذا الكتاب، اطمأنت نفوسهم، وهدأت قلوبهم، وتوكلوا على ربهم تبارك وتعالى، وعاشوا في الدنيا بقلوب متعلقة بالله، وبما عند الله تبارك وتعالى، فيكون قدومهم على الله تبارك وتعالى هو يوم الفرح الأكبر، والحظ العظيم، والبشرى التي لا بشرى بعدها. جعلني الله وإياكم من الذين يفقهون هذا الكتاب، ويتدارسونه بينهم، ويعنون به علماً وعملاً وفقهاً وتعليماً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

فتاوى عن الجماعات الإسلامية والجهاد

فتاوى عن الجماعات الإسلامية والجهاد يكثر السؤال عن الخلاف بين الجماعات الإسلامية والجهاد وما يتعلق به، والموقف الصحيح تجاه الحكام، والناس في هذه المسائل بين طرفي نقيض، وخير الأمور أوسطها، وهو التمسك بما دل عليه الدليل في هذه المسائل من غير إفراط ولا تفريط.

كيفية إزالة الحواجز النفسية بين العاملين في الدعوة

كيفية إزالة الحواجز النفسية بين العاملين في الدعوة Q كيف نزيل الحواجز النفسية بين العاملين للإسلام مع بعضهم بعضاً؟ A ينبغي أن أحرص على أخي وإن رأيت فيه عيباً، لا أفضحه ولا أشهر به، ينبغي أن أطرق بابه وأقول له: يا أخي! ينبغي أن تكون المسألة بالشكل الفلاني وبالطريق الفلاني وبالأمر الفلاني. وبهذا تزول الحواجز بين العاملين للإسلام، ونحن نعتبر هذه الجماعات ليست فرقاً منحرفة، هؤلاء لهم عقيدة وهؤلاء لهم عقيدة، وهؤلاء لهم شريعة وهؤلاء لهم شريعة، لا، بل العقيدة متقاربة، والشريعة هي الشريعة، وكثير من الخطوات هي الخطوات، أو نختلف في بعض الوسائل، أو نختلف في الفهم، وهذه أمور تتنوع حتى في إطار الدولة الإسلامية، فهذا عالم، وهذا مجاهد، وهذا عابد، وهذا كذا وكذا. فهذا أمر لا يرفضه الإسلام، فإذا اتجهت جماعة للعلم، وجماعة اتجهت للدعوة، وجماعة اتجهت لكذا، فلا بأس، لكن الجماعة المثلى هي التي يكون فيها نوع من الشمول والتكامل، هذه هي الجماعة التي فيها نوع من المثالية، فتعطي العلم حقه، والدعوة حقها، والجهاد حقه، لا تنسى مجال التربية، ولا تنسى العلم، ولا تنسى الجهاد، فيكون فيها نوع من التكامل. بوجود شيء من هذه القواعد أظن أن التعدد الموجود في الساحة لن يكون بأمر خطير، لكن أن أقول: أنا وحدي على الحق وأنت على الباطل، ويصل الأمر إلى أني أنا المسلم وحدي وأنت كافر، أعوذ بالله! فلو أن جماعة قدرها خمسون مثلاً وتعتقد بأنها هي المسلمة، وبقية الأمة كلهم كفرة مجرمون! أو أنا جماعتي هي الجماعة، والجماعات الأخرى كلها ضالة! هذا خطأ في الفهم. نحن بحاجة أن نحطم هذه الحواجز التي أصبحت بين المسلمين، وأحياناً يصل الأمر إلى الكراهية والحقد، فينبغي أن نحاربها، أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله، وأنت تشهد أن لا إله إلا الله، كلانا يعتقد أن الله واحد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حق، وشريعتنا واحدة، ونجل سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة، ونرى أن جيلهم هو الجيل الفاضل، وتاريخنا واحد، فلماذا الاختلاف؟! الأصول التي نلتقي عليها مئات، لا توجد أمة تجتمع فيها أمور كثيرة تجمعها كالأمة الإسلامية، ثم مع هذا أكل همك أن تحطمني وتكسر رأسي؟! إذا وضعنا بعض الأصول والتقى عليها العاملون في الإسلام فستصبح الفروق سهلة. أنا يمكن أن يأتيني فرد من جماعتي فأقول له: اذهب إلى المجموعة الأخرى الفلانية الذين ليسوا من جماعتي؛ لأن عندهم علم، فادرس عندهم الحديث، وادرس عندهم التفسير، وادرس عندهم كذا؛ لأن هؤلاء عندهم شيء ليس عندي، وهم يقولون: اذهب إلى إخواننا هؤلاء حتى يعلموك التربية؛ لأننا لا نحسن التربية، وهكذا يكون تعاون بين الجماعات. فلماذا هذه الشدة الموجودة عند بعض إخواننا؟! لا يجوز أن نكون جماعة وكأننا أمة مستقلة عن الأمة الإسلامية! نحن مسلمون يعني: استسلمنا لله، وانقدنا له، فالإسلام: مشتق من أسلم يسلم إسلاماً إذا انقاد وخضع لله تبارك وتعالى، فإذا كنت مسلماً لله وأنا مسلم له، والإسلام الصحيح موجود عندك وعندي، فلماذا نتعادى؟! قد يكون فينا بعض النقائص فيكمل بعضنا بعضاً، أنصحك وتنصحني من منطلق الحب والإخاء.

الخلاف السائغ بين الجماعات الإسلامية والمذموم

الخلاف السائغ بين الجماعات الإسلامية والمذموم Q الجماعات الإسلامية كثيرة، وكلها تدعو إلى الإسلام، فإلى أي حد يمكن أن نقبل الخلاف بينهم في مجال العمل الإسلامي؟ A الاختلاف لا نستطيع أن نلغيه في عالم البشر، وهناك اختلاف لا نرضاه، وهو الاختلاف الذي سببه البغي والعدوان والكبر، فهذا خلاف مذموم، فالخلاف الذي سببه بغي بعض المسلمين أو إنكار الحق أو الاستكبار عنه؛ لا يقبل بين اثنين من المسلمين، ولا بين جماعتين منهم، وهذا الخلاف سببه البغي واتباع الهوى، فتأتي له بالدليل من الكتاب أو السنة فيرفضه؛ لأن الدليل يخالف رأيه وهواه! يوجد هناك قواعد سارت عليها الأمة الإسلامية على مر التاريخ في عقيدتها وشريعتها ومنهجها، قواعد وأصول معروفة، مثلاً: لا أرضى أن أحد المسلمين يقول: الخمر حلال، فهذه قضية لا يختلف فيها، أو يقول: المرأة يمكن أن تصير خليفة للمسلمين، أيضاً هذا نقبله؛ لأن هذه القضايا هي منهج عند الأمة الإسلامية من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فما كان المسلمون على غير هذا. وهناك خلاف يأتي ممن تصدر للفتوى قبل أن تكون له حصيلة علمية، فيتعلم كلمتين ويصبح شيخ الإسلام، يفتي في الطلاق وفي الزواج والحلال والحرام، يقول: يقتل فلان، ويضرب فلان، وهو لم ينل حصيلة من العلم! وهناك الخلاف في الوسائل فمثلاً: أنا أرى أنه يمكن دعوة المسلمين في هذه البلاد بالطريقة الفلانية، كأن أقدم له شريطاً أو كتاباً، والأخ الآخر يرى أنه لابد أن يصحح له الإسلام بنفسه، فأقول: يا أخي! أنت على خير وأنا على خير، وهذا اختلاف تنوع. وهناك اختلاف بين العلماء في فهم النص، وذلك إذا كان النص غير واضح مثلاً، وهذا اختلاف في نوع من الاجتهاد، وهذا الخلاف لم يكن الصحابة يخافون منه، ولا الأئمة، ولا كان العلماء.

حكم الجماعات الإسلامية التي لا تهتم بالجهاد

حكم الجماعات الإسلامية التي لا تهتم بالجهاد Q هناك بعض الجماعات الإسلامية لا تتعرض لقضية الجهاد في الوقت الحالي مع العلم بجهدها الصادق في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وترى أن الحكمة تقتضي ذلك، وأنه سيكون هناك يوم يدعى فيه للجهاد، فهل تعتبر هذه الجماعة معطلة لشرع الله؟ وهل هناك إثم في اتباعها وبذل الجهد معها؟ A هذا يمكن أن يكون في أفراد، ويمكن أن يكون في جماعة، والتاريخ الإسلامي يدل على ذلك حتى في ظل الدولة الإسلامية، فأحد العلماء كان مشهوراً في مكة بعابد الحرمين، يعلم الناس العلم، وزميله في العلم كان عالماً كبيراً وقائداً في الميدان العسكري، فأرسل له القصيدة المعروفة: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب فهذا حبب إليه الجهاد، وهذا حبب إليه العلم، ما ذم الإسلام هذا ومدح هذا، ولا ذم هذا ومدح هذا، أحياناً تضع العالم في ميدان الجهاد ويكون ضعيفاً، ولو تركته في ميدان العلم فإنه يخرج لك أجيالاً، لكنه ضعيف لا يستطيع أن يقاتل. مثلاً: شيخ الإسلام ابن تيمية عالم كبير، فإذا نزل إلى ميدان الحرب والقتال يكون أسداً هصوراً، يبث الروح الجهادية في كل الأمة، وهذا شيء طيب، ويوجد إنسان يصلح للجهاد فقط، وآخر للعلم، وآخر يستطيع أن يجمع بين العلم والجهاد، فإذا اتجه مجموعة من الأمة إلى العلم وما خذلوا عن الجهاد، فلا بأس، لكن هناك أناس يرون أنه ليس هناك جهاد! يقولون: اترك القتال، اترك الجهاد، فمنهجهم التخذيل عن الجهاد، فهذا غلط، لكن لو قال: نحن فئة من الناس نستطيع أن نصحح العقائد، ونعلم الأمة الشريعة، والعقيدة، ونذكر، ونريد أولاً أن نحيي الأمة حتى تفيق، فلا بأس بهذا، لكن لا يقول للذي يجاهد: أنت على خطأ! كذلك على المجاهدين، لا ينكروا على العلماء. ثم هناك ظروف ينبغي أن تتحول الأمة كلها إلى الجهاد، وأحياناً تكون المعركة فيها من المسلمين ما يكفي، فينبغي أن يتحول المسلمون الآخرون إلى أمور أخرى. فعلينا أن نوسع آفاقنا، ولا تكون بهذا الضيق، وفي وقتنا الحاضر لا شك أن الأمة ينبغي أن تتجه إلى الجهاد فأوضاعها مقلوبة في ديار المسلمين، لكن قد لا يستطيع الإنسان أن يجد المجال الذي يجاهد فيه، لأن المسلمين مقيدون، يمنعون من الجهاد من هنا وهناك، ولكن مع ذلك لو أن إنساناً قال: لا بد أن أجاهد، ولا بد أن أذهب إلى بلاد الأفغان، أو إلى فلسطين، فنقول: جزاك الله خيراً، وباب الجهاد ليس مغلقاً، حتى لو لم يكن منه إلا أنه أفزع الكفار.

حكم الجهاد في أفغانستان

حكم الجهاد في أفغانستان Q ما حكم الجهاد في أفغانستان؟ A الجهاد في بلاد الأفغان مشروع، وهو تحت راية إسلامية بلا شك، ولقد قدم المسلمون هناك نماذج وأمثلة رائعة، ولا يمكن أن يفسر ثبات إخواننا المجاهدين في أفغانستان إلا بتفسير واحد: وهو تأييد الله تبارك وتعالى لهم، وقفوا خمس سنوات أمام دولة عظمى! واستطاعوا أن يثبتوا وأن ينالوا من العدو نيلاً، ويحدثنا الثقات بما تمتلئ به قلوبنا إيماناً، وعملهم هذا كأنه يقول للمسلمين: يا مسلمون! هناك قوة وراء قوة البشر، الدبابات والطائرات والمدافع تؤثر، ولكن القوة القليلة إذا كان معها الإيمان فإن الله تبارك وتعالى ينزل عليها النصر، ويحقق بها في الأرض المعجزات. وإذا احتاج المجاهدون الأفغان إلى جهود المسلمين فينبغي للمسلمين أن يقدموا لهم ما يحتاجون إليه، وعلى الأغنياء أن يقدموا من أموالهم ما يكفي المجاهدين، والمسلم الغني الذي عنده فضل من المال ولا يقدم لإخوانه المجاهدين هناك آثم، وينبغي أن تسد حاجة المجاهدين من السلاح والعتاد والطعام والشراب، وكل ما يحتاجون إليه، وعلى المسلمين أن يقدموا الكفاءات التي يحتاجها المجاهدون، مثل: الكفاءات العسكرية المدربة، والكفاءات العلمية في الإعلام والتوجيه، وكل الكفاءات التي يحتاجها المجاهدون الأفغان يجب أن توفر لهم. أيضاً: ينبغي أن يوفر للمجاهدين المقاتلون، لكن لا نذهب ونكون عبئاً عليهم، مثلاً: وصل إلى بلاد الأفغان في شهر من الشهور خمسون ألفاً من المجاهدين، وليس معهم من الطعام ما يكفيهم، ولا من العتاد ما يكفيهم، ولا من الشراب ما يكفيهم، وإذا جاء ثلاثة أضعاف الجيش مدد، ولم يأتوا معهم بطعام، ولا بشراب، ولم يأتوا بعتاد، فماذا سيحدث للجيش؟! الطعام الذي كان سيكفيهم شهراً انتهى في ثمانية أيام، وأصبحوا عبئاً بعد ذلك! إذاً: فالقضية تحتاج إلى شيء من التنظيم، ولابد أن يسأل القائمون على العمل الجهادي: ماذا تريدون؟ فإذا كانوا ليسوا بحاجة إلى الرجال فلا أخرج فتوى أقول فيها للمسلمين: كل مسلم عليه أن يأتي إلى أرض الأفغان، إلى الآن اللاجئين من الأفغان الذين في باكستان لا نجد لهم الطعام والشراب، فلو ذهب إليهم خمسة ملايين من المسلمين فإنهم سيأكلون قوت الأفغان الموجودين هناك، ويموت الجميع من الجوع! المقاتلون الأفغان الذين يستطيعون أن يصنعوا ما لا نستطيع أن نصنعه كثيرون ومتوافرون، لكن تنقصهم كفاءات، فممكن أن يقولوا: أرسلوا لنا مائة طبيب أو مائتي طبيب، أرسلوا علماء وموجهين، أرسلوا خبراء ومدربين عسكريين، أرسلوا مالاً نشتري به السلاح وهكذا. إذاً: فالجهاد لا يكون بدون تخطيط وتنظيم، نعم الجهاد واجب، والجهاد قد يكون فرض عين، لكن فرض عين على الكفاءات التي يحتاجها المجاهدون، فإذا كان الميدان يحتاج إلى الجنود والضباط والقادة الحربيين المخططين؛ فيجب عليهم الجهاد، ويتم إرسالهم عبر قنوات، ما يذهب الأخ بلا ترتيب، وعندما تخرج فتوى: يجب أن تذهبوا! وبعد أن نذهب إلى هناك سنجد أنهم ما استفادوا من طاقاتنا، وأننا أصبحنا عبئاً عليهم! إذاً: فلا بد أن تصدر الفتوى الشرعية بعد أن يتبين للمفتي كيف تسري في واقع الحياة.

حكم عمل العلماء في دولة لا تحكم بالشريعة

حكم عمل العلماء في دولة لا تحكم بالشريعة Q ما حكم الشرع في العلماء الذين يشاركون في نظام لا يحكم بشريعة الله؟ A هذا سؤال عام لا يمكن الإجابة عليه هكذا، فهم أخيار فضلاء أو مجرمون أشقياء، فإذا كان عالم شريعة يدرس في جامعة أو يؤم الناس في مسجد أو يخطب الجمعة؛ فلا بأس، أما عالم شريعة يمكن للطاغوت في الأرض؛ فلا، فتختلف الصورة من حالة إلى حالة، ومن مكان إلى مكان، ومن عالم إلى عالم، فالذي همه أن يثبت أركان الباطل ويكون من علماء السلطان، ويعبد الناس للسلاطين، فهذا جريمته معروفة، أما الذي يصارع في هذه المجتمعات ليفهم المسلمين دينهم، ويبين لهم الحقيقة، ويرشدهم إلى الله، ويعلمهم، ويؤذى في سبيل ذلك؛ فهذا إن شاء الله من المجاهدين.

حكم مشاهدة التلفاز

حكم مشاهدة التلفاز Q كثير من الناس يشاهدون البرامج التلفزيونية التي فيها مشاهد خليعة، ما الحكم في ذلك؟ وإلى أي حد نستطيع فيه متابعة التلفزيون هنا في أمريكا مع ما فيه من الإباحية المطلقة والمثيرة، ولا أستثني من البرامج شيئاً، حتى نشرة الأخبار؟ A الحال في أمريكا وفي بريطانيا وفي جميع دول الغرب أشد مما هي عندنا في بلادنا، وإن كان في بلادنا أيضاً شيء من هذا، ولكن في هذه الديار المسألة أخطر بكثير مما هي عليه في بلاد الشرق. والنظر إلى المشاهد المخزية والعارية والفاضحة التي تدعو إلى الفاحشة أمر خطير، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فيجب على المسلم أن يضبط نفسه، وهذه قضية تحتاج إلى جهاد، فالنفس تدعو إلى الباطل، والباطل سهل، فينبغي أن تضبط هذه المسألة إلى أكبر قدر، ولا شك أنها تؤثر في النفوس تأثيراً سيئاً. وأنا أقول لكم بصراحة: لا يوجد ضبط للمسألة إلا بالبديل، نحن لا ينبغي أن نكون كالنعامة تضع رأسها في الرمال عندما ترى الصياد كما يقول المثل! لا بد من مشاهدة التلفاز شئنا أم أبينا، يعني: خيرة الناس وأتقى الناس إذا كان التلفاز في بيوتهم بعد سنة وسنتين وثلاث وأربع في ظني أنه يمكنهم أن يغيروا، وحبذا لو أن دولة إسلامية تنتج للمسلمين الأشرطة الطيبة، ويمكن أن نعمل مكتبة تلفزيونية في كل مدينة، وفي كل بلد، وفي كل مكان، ولا يتطلب ذلك منا الشيء الكثير، أنا ما أدعوا أن نخترع الآن شريطاً من البداية، لكن ممكن أن نختار من التلفزيون الأمريكي ومن التلفزيون البريطاني في خلال شهر مثلاً خمسة أشرطة سليمة، نحن ما نريد أن نبيعها ونتاجر من ورائها حتى يقال لنا: خالفتم قانون النشر. وأيضاً في الدول العربية لو تتبعنا البرامج الطيبة التي تبث للأطفال، أو البرامج العلمية، أو التي للنساء، أو على مستوى الشعب كله من كل دولة، نستطيع أن نأخذ عشرة أو خمسة عشر شريطاً. إذاً: عندنا بديل، بالإضافة إلى ما بدأ ينتجه بعض المسلمين في بعض البلاد، وأنا قليلاً ما أرى التلفاز، لكن في بعض الأحيان أشاهد برامج طيبة، لا أقول: إنها سليمة مائة بالمائة لكن الفكرة فكرة إسلامية، والأدوار أدوار جيدة فعلاً، تستحق أن تعبر عن قضية وعن مشكلة، وعن عصر من العصور في التاريخ الإسلامي. أنا أدعو الإخوة المفكرين القادرين على العمل في هذا المجال أن يصنعوا شيئاً للمسلمين، فالفيديو مثلاً بدأ ينتشر، وأنت تستطيع أن تتحكم فيه، وتستطيع أن تعرض في ساعتين لأهل بيتك من خلاله في قضية علمية أو قضية هامة. أصبح التلفزيون الآن يجري في دماء الناس، فهو مدرسة، فإما أن تحول الناس إلى مجرمين أو تحولهم إلى أخيار. وحفل السمر الذي سيقام هنا ينبغي أن يصور تصويراً تلفزيونياً، فنأتي بأناس يحسنون التصوير على مستوى راق ثم يوزع هذا الشريط، تذهب نسخة إلى بريطانيا، ونسخة إلى ألمانيا، ونسخة إلى أمريكا، ونسخة إلى الكويت، ونسخة إلى الأردن، ونحن في الكويت نعمل عملاً مثل هذا ونرسل لكم منه نسخة، ونتبادل هذه الأمور، ثم يكون عندنا بعد ذلك من كل مكان أشرطة كثيرة تغذي البيوت بمادة ثمينة. نحن نستطيع أن نقيم برنامج، وأن نقيم دولة، أو إذاعة، أو محطة تلفاز. فالحاصل: أن هذا الجهاز يمكن أن يشتريه أكثر الناس، وقد انتشر انتشاراً كبيراً جداً، فالقضية مختلفة، فليست قضية تحريم أو تحليل، وينبغي أن نكون إيجابيين.

حكم حلق اللحية وتقصيرها

حكم حلق اللحية وتقصيرها Q ما حكم حلق اللحية وتقصيرها؟ A بعض العلماء يرى أن اللحية سنة مؤكدة، وبعض العلماء يرى أنها واجبة، والحقيقة أن الأحاديث التي تأمر باللحية تدل على الوجوب. أما تقصير اللحية فإذا كانت اللحية وافرة طويلة وعندما يخفف منها المسلم تبقى على وفرتها؛ فليس هناك مانع لو أخذ المسلم شيئاً منها، لكن أن تجعل اللحية خطاً دقيقاً، أو تجعل اللحية دائرة على الذقن فقط، أو تقصرها حتى لا ترى لحية؛ فهذه ليست لحية، أما إذا لم تزل كثة فلا بأس.

حكم أخذ الربا من البنوك وإرساله للمجاهدين

حكم أخذ الربا من البنوك وإرساله للمجاهدين Q هل يجوز أخذ الربا من البنوك وإرساله للمجاهدين وغيرهم؟ وسؤال آخر في نفس الموضوع وهو: أن بعض الناس يأخذون قروضاً من البنوك فيتزوجون بها، فما حكم من يتزوج بقرض ربوي مع العلم بأن البنك المقرض يتعامل بالربا، ويأخذ فائدة على هذا القرض؟ وهل هذا الزواج حرام؟ وإن كان حراماً فما حكم الأطفال الذين يولدون من هذا الزواج؟ A قال الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فالربا حرام، والذي يتعامل به ثم يتصدق بالفائدة مثل اللص الظريف في الروايات البوليسية، لا يسرق إلا من المجرمين ليعطي الفقراء والمساكين! هذه طريقة مرفوضة في ديننا، ومثل ذلك أن يعمل في القمار، أو امرأة تتاجر بعرضها ثم تأخذ هذا المال وتتصدق به، هذه طريقة مرفوضة غير مقبولة؛ لحديث (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). ولو أن إنساناً وضع ماله في البنوك الربوية ثم تاب، فهل يأخذ الفوائد الربوية التي قد تبلغ عشرات الآلاف أو الملايين؟ في هذه الحال نقول له: خذ المال، لكن ابتداءً لا تعطي البنك المال ليأخذ منه ربا، ولو بقصد أن ترسله للمجاهدين. لكن لو أن إنساناً وضع ماله في البنك، وبعد ذلك تاب، وكانت الفائدة ملايين، فإن أبى هذا الرجل أن يأخذها قد تحول إلى الكنائس. ففي هذه الحال نقول: لا تتركها للبنك؛ لأن البنك ليس صاحبها، ولا تأخذها أنت فأنت لست صاحبها، والمال الذي ليس له صاحب يذهب إلى بيت مال المسلمين، فإن لم يكن للمسلمين بيت مال فيذهب إلى المستحقين من الفقراء والمجاهدين وغيرهم. ولا يجوز للإنسان أن يأخذ قرضاً ربوياً من البنك ليتزوج، والربا حرام، لكن الزواج ليس له دخل في هذه القضية، الزواج ما دام أنه عقد على التراضي وإن كان المهر في أصله حراماً، فهو صحيح، والمرأة لا تملكها بالمهر، فلو دفعت لها خمسمائة دينار هل تكون قد ملكتها؟ لا، أساس الزواج في الإسلام التراضي، هذا هو الأساس الأول؛ ولذلك لو أن امرأة قالت لك: أنا أريد مهراً نصف دينار فقط، فالزواج صحيح، جاء اثنان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في زواج وكان المهر نعلين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة: (أرضيت من نفسك بنعلين؟ قالت: نعم، رضيت يا رسول الله)! فأقر الزواج. وفي الحديث الآخر: (زوجتكها بما معك من القرآن) فالقضية الأساسية هي التراضي، لكن كونك تتزوج من الربا فهذا حرام، لكن الزواج صحيح، ولا يبطله الربا، والأولاد ليسوا بأبناء زنا.

أنواع الجهاد

أنواع الجهاد Q ما هو الجهاد الذي يجب أن يستخدم في إقامة الدولة الإسلامية؟ A الجهاد أنواع: فمنه الجهاد بكلمة حق عند سلطان جائر، والمجاهدة لتغيير الحكم الباطل وإقامة دولة إسلامية، والجهاد في ميدان الحرب والقتال، فالجهاد ألوان كثيرة.

حكم الخروج على الحكام

حكم الخروج على الحكام Q كيف أبريء ذمتي أمام الله حينما يسألني عن منكر الحكام في بلادي ولم أكن قد غيرت المنكر؛ لأن العلماء يقولون: لا يجوز مناهضة الحاكم حتى تروا كفراً بواحاً؟ وما هو الكفر البواح؟ A تغيير المنكر مراتبه ثلاثة كما في الحديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية أخرى: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). أخي الكريم! أنت في أمريكا، فلماذا لا تغير الباطل الموجود في أمريكا؟ لماذا لا تقيم دولة الإسلام في أمريكا؟ لماذا لا تغير الشارع في أمريكا؟ A أنك لا تستطيع، وهل سيحاسبك الله تبارك وتعالى لأنك ما استطعت هذا؟! لن يحاسبك على هذا، لكن هل ترضى بهذا الباطل؟ إن رضيت به فلست بمسلم، لكن هل تستطيع أن تبين؟ نعم تستطيع، فبين وأقم الحجة، عندما أتينا من المطار كانت امرأة عجوز تقود بنا السيارة، فقلت للأخ الذي معي: كلمها حتى نعرض عليها شيئاً من الإسلام، فأنا مهمتي أن أبين لها الدين، وبعد ذلك هي يوم القيامة تأتي وقد بينت لها، وفعلاً استطعنا أن نفهمها ما هو ديننا وإسلامنا، وما هي عقيدتها، ومن هو عيسى، وهي امرأة عجوز في الستين من عمرها، وظهر منها نوع من الاستجابة، وإن كانت استجابة شكلية، أي: (مجاملة)، لكن المهم أنني أقمت عليها الحجة في تلك اللحظات التي كنت معها في السيارة. كذلك أي إنسان منكم يستطيع أن يبين الإسلام في الطائرة، وفي السيارة، وفي كل مكان فليفعل، أحد الإخوة الباكستانيين قال لي: ماذا تصنع؟ وماذا تعرض على هؤلاء؟ قلت له: القضية سهلة، أقول له: أنا مسلم، وأرسل له رسالة تبين الإسلام ببساطته، وأعرض عليه القضايا الأساسية وليس الفرعية، فأقول: هناك رسول اسمه محمد صلى الله عليه وسلم، أرسل من عند الله، وأنزل عليه القرآن، وأنت عبد لله ينبغي أن تطيع الله، وإن أطعت لك الجنة، وإن لم تطع فلك النار. ولو سألنا: الرسول صلى الله عليه وسلم كيف أقام الحجة على كسرى وعلى قيصر؟ أرسل رسالة فيها: من محمد رسول الله، وفيها: أسلم تسلم، فإن أبيت فإن عليك إثم رعيتك، وبهذه الرسالة أقيمت الحجة عليه. فأنت إذا كنت لا تستطيع القول فعلى الأقل أنكر بقلبك. كذلك عندنا في ديارنا إذا كنت تستطيع أن تفعل ما تشاء، وتصول وتجول في ديارنا، وتستطيع أن تغير الفساد، وتجعلها دولة إسلامية؛ فهذا واجب عليك، وإذا كنت لا تستطيع فعليك أن تضع يدك في يد العاملين، وتعمل معهم بقدر استطاعتك، أما أن تقول: أنا إذا ما غيرت الباطل في أمريكا فالله يعاقبني يوم القيامة؟ لا، كان حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً، والرسول صلى الله عليه وسلم بقي ثلاث عشرة سنة في مكة وما غيرها، وعندما جاء أوان التغيير وكان له القدرة على التغيير كسرها وقرأ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، فكل شيء له أوانه.

نصيحة للشباب الذين في أمريكا

نصيحة للشباب الذين في أمريكا Q أنا مسلم وأحرص دائماً على الالتزام بالإسلام، ولكن بسبب كوني غير متزوج تكون عندي أحياناً ثورة جنسية، ولا أستطيع الزواج حالياً، فبماذا تنصحني؟ A نحن عندما نرى هذا الجو الذي يعيش فيه إخواننا ندعو لهم دائماً بالثبات، فهو جو كنار مستعرة، من يثبت في مثل هذا الجو نرجو أن يكون من خيار الناس، وأن يتقبله الله تبارك وتعالى، وأن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وما من شك أن الزواج من امرأة صالحة هو الحل الذي يعالج كثيراً من المشكلة. ومن كان لا يستطيع الزواج، فلا بد أن يعيش في بيئة إسلامية، والإخوة هنا يفعلون ذلك، لكن أدعو إلى مزيد من التجمع في أماكن يلتقي فيها الإخوة؛ ليشد بعضهم بعضاً وفي الحديث: (وإنما تأكل الذئب من الغنم القاصية)، فالإنسان عندما يعيش وحده يمكن أن تفترسه الذئاب، ويمكن أن ينحرف، ودائماً في الاجتماع قوة. وعلى الإنسان دائماً أن يكون معتصماً بالله تبارك وتعالى، يراقب الله عز وجل، وكلما كان في الإنسان حياء فإنه يستشعر أن الله تبارك وتعالى معه، سواءً كان في أمريكا أو في مكة، فيستشعر أن الله تبارك وتعالى معه وأنه محاسبه، وأن الدنيا اختبار وابتلاء، فأنت تبتلى وأنا أبتلى، أنت تبتلى بنوع وأنا أبتلى بآخر، فالعلم الذي يحمله العالم بلاء، يعني: اختبار، وفي الحديث: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: -وذكر منهم- العالم الذي يتعلم العلم لا يريد به وجه الله)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فالقضية عظيمة جداً، وأنا مبتلى بهذا، وإذا كانت نيتي في علمي هذا الدنيا، فالعلم سيدخلني جهنم والعياذ بالله! فإذا كنت شاباً وقدر لك أن تتعلم في هذه الديار؛ لأن ديار المسلمين التي تسيل ذهباً وفضة ما استطاع ولاة أمرها أن يوفروا الجامعات حتى نتخلص من هذا البلاء، فأنت ابتليت بهذا وتريد أن تستقيم على دينك، وأنت تعاني مما ذكرت، وإذا سقطت فلن يكون هذا كالسقوط في جامعة، فالسقوط في هذا السبيل أحياناً قد لا يستطيع الإنسان معه العودة. فلا بد من مراقبة الله تبارك، وتعالى واستشعار أن الله حي لا يموت، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، والله يعلم بكم إذا كنتم في أمريكا، أو كنتم في المدينة المنورة، أو في مكة، أو في أي بقعة من الأرض، وسيجازيكم كما قال الله على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] فهذا الاستشعار يجعل عندك ضابطاً وعاصماً من المحرمات، وهو الذي عصم نبي الله يوسف، وهذا هو البرهان الكبير الذي حماه الله به، فإذا كان عند المرء هذا العاصم وهذا الحافظ كان على صلة بكتاب الله، ويدعو الله لنفسه بالثبات دائماً. وأحياناً لا يطيق الإنسان الصبر، ولكن في لحظة من لحظات الصبر ينزل الله تبارك وتعالى عليه سكينة وطمأنينة فيجد في نفسه قوة، ويجد في نفسه عاصماً يعصمه، ويجد حماية ما كان يستشعرها من قبل، ولا كان يعرفها. وأيضاً: فلا بد من الإرشادات التي أرشد إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أن يشغل الشاب نفسه بطاعة الله، لا سيما الصيام، وكذلك لا بد من غض البصر. أسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

منهج المسلم عبودية دائمة

منهج المسلم عبودية دائمة عبودية المسلم لله تبارك وتعالى ليست محدودة بزمان أو مكان، بل هي باقية ما بقيت الروح في الجسد، وما دام حياً على وجه الأرض. والعبودية لا تكون بحسب أفعال الناس وأقوالهم، بل يجب على المسلم أن يوطن نفسه على الاستقامة، ومما يعين المسلم على الاستقامة الاعتصام بكتاب الله، فهو نور وهدى وشفاء لما في الصدور.

العبودية لله دائمة ما دامت الروح في الجسد

العبودية لله دائمة ما دامت الروح في الجسد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد خلق الله تبارك وتعالى العباد لعبادته، وعبادة الله تبارك وتعالى باقية في عنق العبد ما بقيت فيه حياة تتردد، وما دامت الروح في هذا الجسد ولم تسل منه بعد، ولم يتحول إلى ميت هامد لا حركة فيه ولا فكر ولا حواس، فما دام أنه حي فهو يعبد الله تبارك وتعالى، وهو مطالب بأن يعرف ربه، وأن يعرف منهجه، وأن يستقيم على أمر الله تبارك وتعالى، فشعار المسلم: أن يعبد الله حتى يتوفاه الله تبارك وتعالى كما أمر بذلك رب العزة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، واليقين هو: الموت، أي: واعبد ربك دائماً، وكن مواظباً على ذلك حريصاً عليه حتى يأتيك الموت، وهذا شعار ينبغي للمسلم أن يرفعه، وينبغي للأمة الإسلامية أن ترفعه، وأن يجعله الإنسان نصب عينيه دائماً وأبداً، أن يكون عبداً لله في كل أحواله، وفي كل شئونه، وأن يمضي رافعاً راية العبودية إلى أن يلقى الله تبارك وتعالى وهو مستمسك بهذا الدين، ومستمسك بالإيمان، مستعلٍ على الباطل. فينبغي للمسلم أن يكون عبداً لله مادام حياً، فليس هناك تقاعد في حياة المسلم تجاه إسلامه، وليس هناك وقت يأتي فيه ويقول: قد توقفت ويكفي ما عملت، فقد قدمت ما فيه الكفاية، فإن هذا منطق مرفوض بالنسبة للمسلم والمسلمين، بل هي عبودية، وحمل للراية، واستمساك بالحق إلى أن نلقى الله تبارك وتعالى. ولقد فهم بعض المسلمين من أوائل هذه الدعوة أنه يمكن أن يتقاعدوا ويتوقفوا كما في الحديث الصحيح أن الأنصار عندما انتصر الإسلام وأعز الله دينه، وأعلى كلمته، وأذل الشرك والباطل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، قالوا: آن الأوان لنرجع إلى أموالنا وأعمالنا، لأنهم كانوا قد تركوا بساتينهم وأعمالهم، ففسدت بسبب انشغالهم بالجهاد في سبيل الله، والعمل لرفع راية الإسلام. فقالوا: نحن قد قدمنا ما علينا، والآن جاء الدور لنلتفت إلى أعمالنا، فأنزل الحق تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فالجهاد والإنفاق في سبيل الله والبذل لهذا الدين لا يتوقف عندما يكبر الإنسان، أو عندما ترتفع راية الإسلام، وإنما هو شعار مستمر، وعبودية حتى الموت. ولذلك فقه الصحابة معنى هذا القول الإلهي الكريم، ونفذوه، فقد استمر الصحابة يجاهدون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وتوفي أكثرهم في أقاصي الأرض بعيداً عن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقبور الصحابة متناثرة في أرجاء هذا العالم، فعندما تزور القسطنطينية فستجد هناك قبر أبي أيوب الأنصاري، فقد مات وهو يجاهد في سبيل الله على أسوار عاصمة دولة الروم الشرقية بيزنطا، ودفن هناك. ولقد وعى المسلمون هذا الدرس، فاستمروا في عطائهم، واستمروا في جهادهم، ولم يمنوا على ربهم ولم يتوقفوا، ذلك أن المسلم ما دامت فيه روح وما دام حياً، فهو عبد لله تبارك وتعالى، فلا تتوقف العبودية والاستمساك بهذا الحق وهذا الدين. إن الإسلام منهج لحياة الإنسان في تفكيره وعقيدته وتصوره وأعماله، فعليه أن يذوب في هذا المنهج، وأن يقضي حياته كلها ملتزماً بهذا الدين، وملتزماً بهذا المنهج، فإن نقض هذا اعتبر مرتداً عن هذا المنهج وهذا العطاء. فالله تبارك وتعالى أخذ على الإنسان المواثيق، فالرسل جميعاً وأتباع الرسل وأنت في كل صلاة تقطع لله عهداً، وتقول له: يا رب! {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، في كل ركعة تقطع لله عهداً، فكيف تتحلل من عهودك ومواثيقك التي تعقدها مع الله تبارك وتعالى؟! وقد يحصل مني ومنك قصور، فينبغي أن تعالج هذا القصور بالتوبة والاستغفار، والإنابة إلى الله تبارك وتعالى، ولكن أن تترك المنهج وأن تتقاعد وتتخلى، ثم تصبح في بقية حياتك تتفاخر بما قدمت، وبما عملت، وأنك عملت كذا وعندما كنت في كذا عملت كذا وكذا؛ فهذا أسلوب لا يرضاه الإسلام، فهذه مواثيق سيسألك الله تبارك وتعالى عنها. والإسلام يصور القضية بيعاً وشراء، فأنت تبيع نفسك لله، وتبذل مالك لله، وتشتري رضوان الله وجنته، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، ماذا يفعلون؟ (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111]، أي: يبذلون أنفسهم وأموالهم. فأنت تقدم النفس والمال لتحصل على رضوان الله تبارك وتعالى وجنة الله عز وجل، وهذا ما وعد الله تبارك وتعالى به، ولا يتم بذلنا إلا إذا انقضت الأيام والسنون ونحن كذلك.

العوائق في طريق العبودية

العوائق في طريق العبودية وهناك أمور كثيرة تحاول أن تبعدنا عن الهدف الذي ينبغي للمسلم أن ينذر نفسه له، وأن يكون عبداً لله حتى يتوفاه. فالمال يشد الإنسان في كثير من الأحيان ويعمي ناظريه، فتتلجلج الدروب. والزوجة والأولاد كذلك؛ ولذلك فقد أخبر الحق أن الزوجة والأولاد -في بعض الأحيان وليس دائماً- يكونون أعداء للإنسان؛ لأن الله يدعوك إلى جنته ورضوانه، وتلك بالنسبة لك قضية كبرى، فليست قضية صغرى أن تدخل جنة الله وأن يرضى الله عنك، بل هي قضية خطيرة، فإذا وجد من يصرفك عن هذه القضية الخطيرة إلى قضية جزئية هامشية فهذا ليس بمحب لك، بل هو عدو لك، فقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [التغابن:14]، فقال: (من) وليس كل الأزواج، بل بعضهم {وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] فبعض الأزواج والأولاد عدو، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الولد: (مجبنة مبخلة) فالولد يجعل الإنسان جباناً، ويجعل الإنسان بخيلاً، فيخشى الأب على ابنه ألا يجد له طعاماً، وألا يجد له كساءً، وألا يجد له مسكناً، فيقبض يده عن البذل في سبيل الله، ويقبض يده عن العطاء، فلا يبذل في سبيل دينه، ولا يبذل في المجالات التي أمر الله بالبذل فيها، فيجبن ويبخل. ففي بعض الأحيان يكون الأولاد والزوجة أعداءً؛ ولذلك أمرنا الله تبارك وتعالى أن نحذر من هذا الصنف الذي يصرفنا عن طاعة الله تبارك وتعالى، وليس معنى ذلك أن تقتلهم لأنهم أعداء، أو أن تطردهم فالعداوة هنا في قضية جزئية، فهم يحبونك ويحبون لك الخير، ولكنهم يجهلون سبيل الخير ودروبه، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} [التغابن:14] فينبغي لك أن تستمسك بإسلامك، وأن تمضي على منهجك، وأن تقوم هؤلاء لا أن تنحرف معهم، وليس السبيل أن تعاقبهم، ولكن السبيل أن تفقههم، وأن تمضي بهم إلى الجنة، لا أن تجعلهم يمضون بك إلى النار. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] أي: ابتلاء واختبار، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].

المسلم ثابت على المنهج وإن ابتعد الناس عن الطريق

المسلم ثابت على المنهج وإن ابتعد الناس عن الطريق إذاً: فهناك أمور تصرفنا عن مهمتنا الكبرى، وهي: تحقيق العبودية لله في أنفسنا، وأن نحقق هذا الدين في حياتنا، وأن يصبح واقعاً نعيشه، فهناك ما يصرفنا عن المهمة الكبرى، والذين يحاولون أن يصرفونا عن المهمة الكبرى لا يريدون لنا الخير، وإن كانوا جهلاء، ولكن نحن ينبغي لنا أن نستعصم، وأن نستمسك ونحمل الناس على الحق، لا أن ننحرف عن الحق لنوافق الناس في أهوائهم، وفي الأثر: وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم، فليكن هذا الأثر على بالك دائماً، فإن هناك مواقف كثيرة جداً ستعرض لك، فستجد الناس يخالفونك والحق في خلافهم، فلا تحتج بالناس، ولا تقل: إن الناس يريدون هذا، والناس يعملون هذا، والموضة في الناس هكذا، إياك أن تفعل ذلك! بل وطن نفسك إن أحسن الناس أن تحسن، وإن أساء الناس ألا تسيء معهم، فإساءة الناس ليست حجة لك عندما تلقى الله تبارك وتعالى؛ ولذلك تكون حجة الخاطئين الذين يستحقون النار عندما يقف العباد بين يدي الله: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [الزخرف:22]، أي: هكذا وجدنا آباءنا وأجدادنا، هكذا وجدنا الناس من حولنا، فقد كانوا يسيرون هذا المسار، {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] أي: على طريقة ومنهج {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، أي: سائرون، فنحن نقتدي ونتأسى بهم، فهم بذلك ألغوا عقولهم التي أعطاهم الله إياها، وأغلقوا منافذ العلم في نفوسهم، وعميت بصائرهم عن معرفة الحق الذي أنزله الله تبارك وتعالى، فعاشوا كما عاش الآباء والأجداد، وكما تعيش قطعان الماشية يسيرها الراعي حيثما يشاء. فإذا كنت مؤمناً فلابد أن تستخدم عقلك، فأنت خيرة الله في الكون، ففي الإنسان خصائص تميزه عن الحمار والبقرة والجماد والنبات، فهو شيء متميز في الكون، يعرف ويعلم ويرضى ويكره ويرفض، فأنت كيان خاص في هذا الكون، ولذلك أسجد الله الملائكة لأبينا آدم عليه الصلاة والسلام. فلا تخطئ لأن الناس مخطئون، ولا تزل لأن الناس قد زلوا، ولا تبتعد عن المنهج لأن الناس قد ابتعدوا، ففعل الناس ليس هو الصواب دائماً، وإنما الحق في موافقة الحق، وفي موافقة الله تبارك وتعالى. ولذلك عندما كتب معاوية بن أبي سفيان إلى عائشة يطلب وصيتها، أوصته بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) فيجب أن تطلب رضوان الله تبارك وتعالى وإن سخط الناس عليك، فإن الله يوشك أن يرضيهم عنك ما دمت ترضي ربك تبارك وتعالى. وخلاصة القول: أن منهج المسلم عبودية دائمة إلى أن يلقى الله تبارك وتعالى، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. فاثبت على المبدأ، وإن ابتعد الناس عن المنهج والسبيل، وإن أخطأ الناس وزلوا، وإن حاول الأصدقاء والأعداء أن يبعدوك عن المنهج، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الثبات في اللحظات الأخيرة من الحياة سبب لدخول الجنة

الثبات في اللحظات الأخيرة من الحياة سبب لدخول الجنة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله ورسوله. أما بعد: فقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه (عن رجل قتل مائة نفس، ثم تاب إلى الله، وقال له العالم: إن لك توبة، فهاجر إلى أرض كذا، فإن أرضك أرض سوء، فهاجر إلى تلك الأرض التي فيها قوم يعبدون الله؛ ليعبد الله معهم، وأدركه الموت في منتصف الطريق، ولشدة رغبته في التوبة والإنابة إلى الله، بعد أن فعل الجرائم الكبار، وفي لحظات الموت وملك الموت يسل روحه، وآلام الموت يشعر بها في جسده كله؛ كان ينوء بصدره إلى الجهة التي يقصدها، ففي أثناء سكرات الموت استطاع أن يتحرك شبراً إلى الأمام، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فملائكة العذاب تقول: إنه قتل مائة نفس، فهو إلى جهنم، وملائكة الرحمة تقول: إنه قد جاء تائباً، ومهاجراً إلى الله، والتوبة تجب ما قبلها، والهجرة كذلك تجب ما قبلها كما في الحديث، فأرسل الله ملكاً يتحاكمون إليه، فقال لهم: قيسوا ما بين الأرضين، فإذا وجدتموه إلى الأرض السيئة أقرب فهو لملائكة العذاب، وإذا وجدتموه إلى الأرض الطيبة أقرب فهو لملائكة الرحمة، فوجدوه قد اقترب من الأرض الطيبة شبراً، وهو الشبر الذي تحركه وهو ينازع في الاحتضار). ففي بعض الأحيان يكون حرصك على أن تبقى إلى اللحظات الأخيرة ثابتاً على الحق هو الذي يرجح دخولك الجنة، فإن حرص الإنسان على أن يبقى ثابتاً إلى أن يتوفاه الله تبارك وتعالى فلابد أن يكون دائماً في عمليتين: عملية الاغتسال من الذنوب والآثام وهي: (التوبة)، وعملية التقدم للأمام لتحصيل مزيد من الأجر والثواب، ولتحقيق مزيد من العبودية لله تبارك وتعالى، فقد تكون الساعات والأيام الأخيرة هي التي ترجح ميزان أعمالك فتدخل بها الجنة. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار! ولو بشق تمرة) وربنا يحاسب على الذرة، فكم في نصف التمرة من ذرات؟ فالموازين عند الله تبارك وتعالى ليست كموازين البشر، فالتمرة عند البشر لا قيمة لها، لكنها في ميزان الله تبارك وتعالى لها قيمة كبيرة، فالاستمساك بالحق، والاستعلاء على الباطل، والمسير إلى الأمام إلى أن يلقى الإنسان ربه؛ هو السبيل إلى أن تحقق لنفسك عند الله مكانة ومكاناً في جنة الله تبارك وتعالى. اللهم! اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم! اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

ندوة حول الوسطية في الإسلام وملاءمته للعصر

ندوة حول الوسطية في الإسلام وملاءمته للعصر الوسطية وصف أطلقه الله عز وجل على هذه الأمة، وقد فُسرت بمعنى الخيرية التي اختص الله بها هذه الأمة دون غيرها من الأمم. ولكي نحافظ على وسطيتنا في عصر العولمة والتكنولوجيا، يجب علينا ألا نتخلى عن شيء من مبادئنا، بل علينا أن نستخدم وسائل العصر الحديثة في نشر إسلامنا وتبيين وسطيتنا للعالم بأسره.

شمولية هذا الدين

شمولية هذا الدين Q كثير من المسلمين يقولون: إن الإسلام دين شامل وكامل، ولكن مسألة الشمولية أمر قد يحتاج إلى إلقاء مزيد من الضوء عليها، فما هو مفهومكم لهذه الشمولية؟ A أولاً: أريد أن أنفي مفهوماً خاطئاً قد يظن بالإسلام، فعندما نقول: الواقعية، خاصة عندما نقرن هذا بالأدب الواقعي الذي يهبط بالناس إلى مستوى الحضيض ولا يرتفع بهم إلى الآفاق وإلى القمم، فليس هذا هو المراد بالواقعية، وإنما هي: أن الإسلام يعالج الإنسان من حيث هو إنسان فيه الصفاء والنقاء، وفيه الدخن والزيغ والانحراف، فيعالج نفسه ويسمو بروحه، فإذا ما تعثر فلا يتركه في الوحل، وإنما يأخذ بيده، ويقوده خطوة خطوة، ويفتح له باب الأمل، وهذا هو المراد بالواقعية، وليس المراد بها المصطلح العام الشائع على ألسنة الناس. أما بالنسبة للشمولية التي تقترن دائماً بالكمال في هذا الدين، فالإسلام دين الله تبارك وتعالى، أنزله ليحكم الحياة في كل الأزمنة وكل الأمكنة، وجعله الله تبارك وتعالى كاملاً لا يحتاج إلى شريعة سابقة، فهو لا يحتاج إلى الإنجيل أو التوراة، بل ولا يحتاج إلى شريعة لاحقة. ويتبدى هذا الشمول من أمور كثيرة، منها: أن الإسلام يعنى بالإنسان في كل أطوار حياته، سواء كان طفلاً أو شاباً أو شيخاً. بل إنه يعنى بالإنسان قبل أن يوجد، فيطالب الرجل أن يختار الزوجة الصالحة التي سيكون بطنها وعاءً لابنه، وسيرضع حليبها، ويتربى على يديها. ويعنى بالإنسان بعد أن تخرج روحه، فهناك هدي للإسلام في الموتى: ماذا نفعل بهم، وكيف نتصرف معهم، وكيف نصلي عليهم، وكيف ندفنهم، وكيف نقسم مواريثهم، فكل هذا من شمول الإسلام. من جانب آخر: فالإسلام يعنى بالإنسان من حيث روحه، ومن حيث جسده، لا كما تفعل المادية فهي تعنى بالجسد فقط دون الروح، فيقع الناس في البلاء الذي نشاهده في هذه الأيام، ولا يقف عند العناية بالروح فقط كما تفعل البوذية والنصرانية المغرقة في الرهبانية، إنما الإنسان روح وجسد، والإسلام وضع من التشريعات ما يكفل الصلاح لجسد الإنسان ولروحه. أمر ثالث: وهو أن الأدلة على الشمولية والكمال كثيرة جداً، فهذا الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى يحوي جميع القوانين التي تحتاج إليها الأمة، فلو نظرت إلى حقيقة القوانين الوضعية، مثل القانون العام، والقانون الخاص، ثم أقسام القانون العام وأقسام القانون الخاص كما يعرفها رجال القانون؛ فستجد أن الأحكام التي جاء بها الإسلام أحكاماً تغطي كل جوانب التشريع، ولذلك استخلص علماؤنا هذه القوانين في مؤلفات، فلو رفعنا العناوين القديمة ووضعنا عليها الاصطلاحات الجديدة في القانون فسنجد أن الكتاب هو الكتاب، فعندما تنظر مثلاً إلى كتب السير التي تبين القانون الدولي عند المسلمين في السلم وفي الحرب، أو ما يسمى اليوم بالقانون الدولي؛ لأن في القديم كان يسمى بالسير، وقد ألفت فيه عدة مؤلفات، فارفع كلمة (السير) وضع كلمة (القانون الدولي) وستجد أنهما لا يختلفان عن بعضهما. كذلك في الأحوال الشخصية، وفي القانون المدني، وفي القانون الجنائي، فكل هذه القوانين موجودة عندنا وإن كانت هذه المصطلحات والأسماء الجديدة لم يستعملها علماؤنا؛ لأن القضاء في الماضي كان قضاءً كلياً، فالقاضي أو الحاكم هو الذي يفصل في كل المشكلات والمنازعات، وهذا من شمولية الإسلام وكماله.

التوازن والمواءمة بين الحقوق والواجبات

التوازن والمواءمة بين الحقوق والواجبات Q منجزات الأمة الوسط في صدرها الأول كثيرة، وهذه المنجزات لا يمكن أن نقول: قد تمت، إذا كانت هذه الأمة خير أمة، فهل لكم أن تلقوا بعضاً من الضوء على الجدية كمقوم أساسي لقيام الأمة الوسط؟ A قضية التوازن والمواءمة بين الحقوق والواجبات: هي قضية احتار العاملون في الإسلام في كيفية المواءمة بين هذه الحقوق والواجبات، فكثير من المتعبدين إذا ما توجه إلى الله تبارك وتعالى يغرق في التعبد حتى ينسى بقية الواجبات المكلف بها شرعاً، وهذه قضية عانت منها البشرية معاناة هائلة جداً، وخاصة النصرانية، ثم بعد ذلك المتصوفة في تاريخنا، فالمتصوفة في تاريخ هذه الأمة عانت من هذه المشكلة، فعندما يجد أحدهم لذة العبادة والمناجاة فإن ذلك يدفعه لأن يقضي ليله ونهاره في التعبد، بل قد يلجأ إلى غار في جبل ينقطع فيه عن الناس، فلا يتزوج، ولا يريد أولاداً، ولا يريد تجارة، ولا يريد أي شيء، وإنما يقتصر فقط على التعبد لله تبارك وتعالى، وهذه قضية خطيرة. ثم كلما طال الزمن اتسعت الزاوية فيحصل انفراج كبير جداً، ويظن فيما بعد أن هذا هو الدين، فقد وصل الحال بالنصرانية أنه لا يمكن للإنسان أن يبلغ ملكوت الله تبارك وتعالى إلا إذا عذب هذا الجسد، وأهمله وتركه وسخاً قذراً، فكان الراهب منهم يفتخر بأنه جلس ثماني سنوات لم ير فيها ضوء الشمس ولم يغتسل! وهذه تعتبر فضيلة عندهم. لكن الإسلام جاء بعملية توازن بين الواجبات التي تؤدى لله تبارك وتعالى، والواجبات التي تؤدى تجاه النفس، وتجاه الضيف، وتجاه الزوجة والأولاد، وتجاه المجتمع. والرسول صلى الله عليه وسلم رفض هذا التوجه من هذه الأمة، فقد أراد بعض الصحابة أن يغرق في التعبد، وأن يقوم الليل ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وألا يتزوج النساء، وألا يأكل اللحم، بل يريد أن ينقطع عند عيينة ماء في جبل من الجبال بعيداً عن الحياة، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (أنا أتقاكم لله، وأخشاكم له، أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء). الإسلام عندنا يقول لك: أمط الأذى عن الطريق، وأحسن إلى الناس، وفي غير الإسلام يقول لك: أنا لا دخل لي في أن أرفع الزجاجة من الطريق، فأنا لم أرمها، ولا أن أعين هذه الأسرة؛ لأن هذا عمل الحكومة، فهذا مفهومهم، ولكننا إذا كنا نظرنا إلى أنفسنا من خلال كتاب ربنا، فإن المسألة مختلفة تماماً.

قضية التكفير بالذنوب

قضية التكفير بالذنوب وأحب أن ألقي بعض الأضواء الخفيفة على بعض هذه الفرق التي لا تزال آثارها وتفسيراتها وكتبها موجودة ومؤثرة في حياة المسلم، مثل قضية التكفير بالذنوب. فلا توجد فرقة الآن تسمى فرقة الخوارج كما كان في السابق إلا بعض الفرق التي ليس لها اعتبار، فهي محصورة في مكان ما، ولكن هذه الأفكار تثور بين الفينة والفينة، فيوجد بين المسلمين من إذا رأى رجلاً يفعل معصية فإنه يكفره، ومنهج الأمة الوسط الذي قرره القرآن، وقررته السنة، وكان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هو أن الإنسان لا يكفر بالذنوب، فجاء الخوارج فكفروا الصحابة، وكفروا علياً بن أبي طالب، وكفروا كثيراً من الصحابة الذين كانوا مع علي بن أبي طالب، وكفروا الذين كانوا مع معاوية، بسبب أنهم رأوا أن المسلمين يقتتلون أو يفعلون بعض الذنوب، فكفروا القمم من سادة المسلمين. وهذا منهج خطير لا يزال يثور بين الفينة والفينة، وما زلنا نرى رجالاً وأقواماً يقولون بهذه المقالة، مع أن النصوص صريحة صحيحة في هذا، فهناك أمور في ديننا هي كفر، وهناك أمور هي ظلم وفسق، فكل إنسان كافر فهو فاسق وظالم، وليس كل إنسان ظالم وفاسق كافراً، فإنكار وجود الله كفر وظلم وفسق، والكذب أو الزنا أو السرقة هي ظلم وفسق وليست كفراً، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.

مفهوم الوسطية

مفهوم الوسطية Q نرجو توضيح معنى الوسطية في الإسلام؟ A الوسطية في لغة العرب تأتي بمعنيين: الوسط بمعنى الأفضل والأحسن والأكمل، وهذا معناها في اللغة العربية، كما تقول العرب: قريش أوسط العرب نسباً أي: خير العرب نسباً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان وسطاً في قومه، أي: في نسبه يعني: أن نسبه خير نسب في قومه، فتأتي الوسطية بمعنى: الأفضل، وبمعنى: الأكمل، وتأتي بمعنى: الأحسن، والله تبارك وتعالى قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: جعلناكم خير الناس وأفضلهم وأكملهم، والعلماء يقولون: خير ما يفسر القرآن هو القرآن، فيفسر هذا قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، فالوسطية هي الخيرية المذكورة في الآية الأخرى في آل عمران. وإلى هذا المعنى جنح المفسر ابن كثير رحمه الله، وشيخ المفسرين الطبري فإنه يقول في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]: الوسطية عندي هو الجزء الذي بين شيئين، وهذا هو الذي جنح إليه الزمخشري أيضاً؛ لأن الأمة معتدلة في كل أمورها، فهي وسط بين اليهودية والنصرانية في عيسى، فاليهودية تجعل عيسى ابن زنا، والنصرانية تقول: هو ابن الله، ونحن نقول: هو عبد الله ورسوله. وكذلك في كل أمورها، وقال بعض المفسرين: إنه لا تنافي بين الأمرين، وهذا هو الصحيح، فهذه الأمة وسط من الجزء الذي هو بين الشيئين، ووسط الشيء هو أفضل ما يكون، كما جاء في الحديث: (الفردوس وسط الجنة، وأعلى الجنة) فجمع بين قضيتين، والقلم له وسط، وهو مركز الاعتدال، فعندما تمسكه من وسطه لا يميل إلى أي جهة، فليس هناك تطرف في أحد جوانبه، ولا غلو ولا تقصير، وهذه هي الوسطية، فالوسطية بمعنى الأفضل والأكمل، ثم هي من الوسط الذي بين شيئين، فبينهما تلازم، وليس بينهما تعارض.

كيف نعرض إسلامنا وكيف ندعو الكفار إلى الإسلام

كيف نعرض إسلامنا وكيف ندعو الكفار إلى الإسلام Q هناك ثلاثة أسئلة يبدو أنها تدور حول محور واحد، هناك فئة من المسلمين تقول: إن علينا أن نعرض إسلامنا بشكل يتلاءم مع العصر؛ لأن الإسلام دين واقعي، وفئة أخرى تقول: علينا أن نلتزم بنصوص هذا الدين قرآناً وسنة؛ لأنه بهذا فقط يتحقق ما نريد، وليس علينا أن نتلاءم مع العصر. فما هو التصور الصحيح لهذه المسألة الخطيرة التي ما زال الدعاة يختلفون حولها مما يؤدي إلى تشتت الجهود، وانقضاء العمر دون تحقيق ما نصبو إليه؟ وسؤال مشابه له: كيف نقدم الإسلام للنصارى الأمريكان ونوضح لهم طبيعة الأمة الوسط؟ A كلمة الواقعية ليست مصطلحاً إسلامياً، وهذه الكلمة لا يصح أن نصف بها هذا الدين؛ لأن كثيراً من هذه المصطلحات تحتمل أكثر من معنى، فلا بد أن نحدد المعنى المراد من هذه الكلمة، وإلا وقع أبناء المسلمين في لبس، وهذه مشكلة كثير من المصطلحات التي جاءتنا من الفلسفات والمناهج والمبادئ المختلفة، والتي أطلقها بعض الناس على الإسلام أو على مفاهيم إسلامية؛ فأوجدت شيئاً من الغبش في فهم الإسلام. فإذا أردنا بالواقعية: أن نعيش عصرنا كما هو، وأن نطبق الإسلام بنصوصه ومفاهيمه، مع استخدام وسائل العصر، فلا بأس، كالميكرفون والشاشة والمسرح، والذي يستخدمها الشياطين كذلك في بث عقائدهم. ففي الماضي كنا نركب إلى المؤتمرات وإلى مكان الدعوة الجمال والحمير، واليوم نركب طائرة تسير بنا في يوم واحد ما لا تسيره الإبل في عام كامل. كذلك المسجلات والتلفزيون، فهذه وسائل أنا أستخدمها في بث الحق ونشره. لكن أن أطوع الإسلام للواقع الذي أعيشه هذه قضية أخرى، وهي مرفوضة، فلا أطوع الإسلام لمفاهيم العصر وأخجل من إسلامي، وأخجل من ديني. ولا أطوع هذا الإسلام ليتفق مع الثقافة والحضارة والفكر الغربي، ولا أوائم بين الإسلام وبين هذه الثقافة فآخذ من الإسلام ما يتفق معهم كما هو الحال بالنسبة للمؤتمرات النصرانية الإسلامية التي تريد أن تقرب بين الإسلام وبين النصرانية، وكما هو الحال في الذين يريدون أن يقربوا بين الفلسفة وبين الإسلام، وكذلك رجال القانون الذين عقدوا أكثر من مؤتمر في ديارنا ليوائموا بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، فهذا أسلوب مرفوض، وهذا ليس واقعياً، بل هذا تحريف وتشويه للإسلام. فنحن نعيش عصرنا بأصالتنا، ونعيش عصرنا بإسلامنا، وميزة هذا الإسلام أنه لا يوقف الحياة الإنسانية، بل يسمح للحياة الإنسانية بأن تمضي وأن تشق طريقها، ولكنه يبقي إطاراً يحكم الحياة الإنسانية بكل تصرفاتها، ويحكم عليها بالصواب وبالخطأ، ولكن لا يضعها في قوالب جامدة؛ لأن الأحكام الجزئية الدقيقة تأتي بأمور لا تتغير عبر الزمان ولا المكان، فالطعام والشراب واللباس منه الحلال ومنه الحرام، وهذا لا يتغير باختلاف العصور. لكن الأحكام الشرعية في قضايا المعاملات جاءت بثوب فضفاض، ففيها قواعد ومبادئ وضوابط يستطيع المسلمون في ظل هذه المبادئ والضوابط أن يقلبوا أمورهم، وأن يسوغوا حياتهم بما يتناسب مع عصرهم، بحيث لا يخرجون عن الإسلام، فالقضية في ظني ليست هي هذه أو تلك، إما أن ننسلخ عن عصرنا بحلوه ومره، وإما أن نغرق فيه بحلوه ومره، فالقضية ليست كذلك، بل علينا أن نأخذ من عصرنا وسائله المباحة في نشر الإسلام، لكننا في مجال الحياة نطبق هذا الدين ولا نرضى به بديلاً. أما بالنسبة لمناقشة النصارى ونشر الإسلام بالحقائق العلمية، فقد كنا في الطائرة مع شاب باكستاني يعرض هذه القضية، وكان عرضه لهذه المشكلة أن يقنع الناس في بلاد الغرب بأن الخنزير ضار، فكان جوابي: أنك لو أقنعتهم بأنه ضار فقد لا يسلمون، ألا تراهم يقتنعون بأن الخمر ضار ثم لا يسلمون؟ فهل سيسلمون إذا اقتنعوا بأن الخنزير كله ضرر؟! فلو بعث محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر، ولو جاء أبو بكر وعمر، ولو جاء دعاة الإسلام الأوائل، وقابلوا أناساً من هؤلاء فماذا سيفعلون بهم، وماذا سيقولون لهم؟ لاشك أنهم سيدعونهم أولاً إلى التوحيد، وإلى الإيمان، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح، وإذا صلح العباد أصلح الله البلاد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

أضواء العمل الإسلامي

أضواء العمل الإسلامي لقد حمل الله تعالى الإنسان أمانته التي هي دينه وهديه وشريعته فكان في ذلك ظلوماً جهولاً، وإنما أراد الله تعالى من حملة أمانته أن يصلوا بها إلى الناس أجمعين، وأن يسود دينه في العالمين، وأن يعودوا بالبشرية إلى تاريخها الصحيح، ولن يتم هذا إلا بأخوة إسلامية ووحدة بين العاملين وعنايتهم بأنفسهم تزكية وتطهيراً وتربية، وتجديداً منهم لإيمانهم بين الفينة والفينة بأنواع الأعمال الصالحة.

حمل الإنسان أمانة الله وظلمه فيها وجهله بثقلها

حمل الإنسان أمانة الله وظلمه فيها وجهله بثقلها إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن هذا الكون الذي نعيش فيه بأرضه وسمائه معبد يتجاوب بالتسبيح والخضوع لله سبحانه وتعالى، وليس هناك شيء في هذا الكون إلا وهو خاضع لعظمة الله وجبروته، ثم هو ينطق بالتسبيح والتحميد لخالقه سبحانه وتعالى. وقد خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون وسخره لأمر، فلا يتمرد على طاعة ربه سبحانه وتعالى بحال من الأحوال، بل يقوم بهذا الأمر بلا عناء ولا جهد، كالآلة التي تعمل بدون تفكير وبدون وعي وبدون عقل، بل بطبيعتها. وخلق في هذا الكون مخلوقاً فريداً هو هذا الإنسان، فقد خلقه الله سبحانه وتعالى بصفات فذة ليس لها شبيه أو مثيل، وليس لها نظير في المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، خلقه ليتحمل شيئاً لا تحمله الأرض أو السماء، ولا تحمله الجبال، وليقوم بهمة فذة تتناسب مع خلقته وصفاته، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]. فالحمل الذي تحملناه -معشر البشر- عرضه الله على السماء الواسعة الشاسعة القوية المتينة، وعلى هذه الأرض التي ندب عليها، وعلى تلك الجبال الراسيات، فأشفقت كلها من حمل هذه الأمانة وقالت: ربنا! لا نستطيع أن نتحملها، وخفن من النتيجة، وتحملناها نحن بني آدم! ثم عقب الله سبحانه وتعالى على هذا التحمل الإنساني الآدمي بقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]؛ لأنه لا يعلم عظم الأمانة التي تحملها، ولا يعلم ثقلها، ولذلك يفرط فيها ويهملها كثيراً.

تاريخ البشرية الصحيح

تاريخ البشرية الصحيح فنحن في الحقيقة على ميراث من أبينا آدم تتابع عليه الرسل والأنبياء في هذا الوجود، وهذا الميراث في حقيقته يمثل تاريخ البشرية، والذين يؤرخون البشرية بعيداً عن هذا الميراث إنما يأخذون من البشرية الجانب التافه الذي لا قيمة له، فيجعلون تاريخ البشرية تاريخ العمران والصناعة والزراعة، ويبحثون عن تاريخ الإنسان في كهوف أثرية، وفي مصنع قام في التاريخ السحيق، وفي رسم على جدار أو تمثال وجد في الحفريات، فهؤلاء لم يفهموا تاريخ البشرية أبداً. إن القرآن الكريم يصور تاريخ البشرية تصويراً حقيقياً يتمثل في الاستجابة لما أنزل الله من كتب، ولما أرسل الله من رسل، ويتمثل في الانحراف والبعد عن هذا المنهج، ويتمثل في أولئك الأفذاذ من الرسل وأتباع الرسل الذين حملوا الأمانة وأوفوا بالعهود لربهم سبحانه وتعالى، والذين تمردوا على الله عز وجل وعلى كتبه ورسله. هذا هو تاريخ البشرية، يعرضه الله سبحانه وتعالى من خلال رسله، وما قالوا لأقوامهم، وما قال لهم أقوامهم، وما حدث من صراع بين الرسل وأتباع الرسل وبين المعارضين لهم، وكيف جرى قدر الله سبحانه وتعالى لتكون العاقبة للمتقين، والنصر لحزب الله في الدنيا، ثم في الآخرة يعرض الله مصير المؤمنين ومصير الكافرين، مصير الذين حملوا الأمانة، والذين تخلوا عن حمل الأمانة.

مهمة المسلم حامل أمانة الله تعالى

مهمة المسلم حامل أمانة الله تعالى ونحن اليوم قد عرفنا هذا القبس الإلهي والنور الرباني الذي وصل إلينا، فقد وصلت إلينا أمانة الله عبر الأجيال، وحفظها الله سبحانه وتعالى فلم يطرأ عليها تغيير ولم يطرأ عليها تبديل، وصلت إلينا كما أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وتحملناها وليس هناك خيار في أن يتحملها المسلم أو يرفضها، فليس لنا خيار في ذلك، بل إن رفضناها خسرنا كل شيء، وإن قبلناها ربحنا كل شيء، ولكن هذه الأمانة لا يكفي أن نحققها في قرارة أنفسنا، وأن نحققها بسلوكنا وعملنا، بل ينبغي أن نقررها في واقع الحياة. فالله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يسود في عالم عباده دين يهيمن على الحياة في مختلف نواحيها إلا دينه الذي رضيه هو سبحانه وتعالى، أليست الأرض أرضه، والسماء سماؤه، والعباد عباده، وهو أعلم بما يصلحهم وما يفسدهم؟! فلماذا لا يحكم دينه؟ ولماذا لا يهيمن في واقع الحياة؟ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]. إذاً: مهمة الذين آمنوا بدعوة الحق وتحملوا أمانة الله سبحانه وتعالى أن يقرروا الحق في واقع البشرية، وأن يصلوا به إلى الناس جميعاً؛ حتى يهيمن على الحياة وعلى الأحياء، وهذا لا يتأتى بأفراد يرفع كل منهم الراية وحده، ويسير في الطريق وحده، بل يحتاج هذا إلى تكاتف وتعاون، ولا يمكن لبناء الإسلام أن يقوم بأفراد متناثرين متباعدين كل منهم يسعى في سبيل ويضرب في طريق، بل إن هذا لا يتم به عمل دنيوي، فلو أردنا أن نبني عمارة وليس هناك مهندس ولا مخطط ولا مشرف، وجاء مائة شخص ليبنوا العمارة، وكان كل واحد منهم يتصرف كما يشاء، ويتصرف كما يريد، فكيف سيكون شكل هذه العمارة؟ وكيف سيكون بناؤها؟ إنني أجزم بأنها لن تصلح لشيء؛ لأن كل إنسان سيتصرف كما يشاء وكما يحلو له، فلن يستقيم أمرها. وبناء الإسلام كذلك يحتاج أن يجتمع عليه المؤمنون، وأن يعيش الذين آمنوا بهذه الدعوة وحدة فيما بينهم، فبعد ذلك يصبح لهم في واقع الحياة وزن، ويصبح لهم في واقع الحياة ثقل، ويستطيعون أن يؤثروا بما لهم من مكانة وبما لهم من قوة وما يبذلونه من جهد في واقع البشر، وهذا مأخوذ بجلاء من سيرة الأنبياء والمرسلين لا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم فرد آمن به رجال، فكون جمعاً استطاع أن يؤثر به في الحياة، ولو بقي فرداً فكيف سيتحقق الإسلام واقعاً؟! ولذلك قال الله تعالى له: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:62 - 63]. وموسى عليه السلام عندما كلفه الله بحمل الرسالة وحمل الأمانة قال: {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص:33 - 34]، فهو يطلب على الحق أنصاراً وأعواناً، يطلب من الله أن يؤيده بأخيه ليعينه ويناصره في واقع الأمر، ولذلك فالله عز وجل يقول لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]، فهذه فئتك، ومقامك في وسط هذه الطائفة الطيبة الخيرة، فاصبر نفسك مع هؤلاء.

بيان العلاج القرآني لفتنة الحياة الدنيا

بيان العلاج القرآني لفتنة الحياة الدنيا والإنسان في دنياه دائماً يتطلع إلى أمور كثيرة، إذ الحياة بزخرفها وزينتها في بعض الأحيان تأسر قلب الإنسان؛ فتصرفه عن الحق، وذاك شيء مغروس في أعماق النفس الإنسانية، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:14 - 15]. فهذه الأمور حبيبة إلى نفس الإنسان مزينة له، ولا يمكن للإنسان أن يستعلي عليها إلا إذا فهم قيمة الحياة ووزنها في ميزان الله، وقارنها بما عند الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك يستعلي عليها، يقول تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:60 - 61]. فالله تعالى يقول: إن كل شيء أوتيتموه إنما هو متاع يُتمتع به ثم يزول، وهو زينة، والزينة لا تدوم، أما الباقي الدائم مما عند الله فهو خير مما في الدنيا في النوعية والكيفية، وهو أبقى، فمتاع الدنيا زائل، والآخرة باقية لا تنتهي مسراتها ولا أفراحها، ولا يزول شبابها ولا تنتهي أيامها، أكلها دائم وظلها، تلك الحياة الآخرة، فأين عقولكم؟ قال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61]. ونفس الإنسان تتطلع إلى الدنيا، وذلك مرض قاتل يصيب الناس في الصميم، ومنهم الذين يحملون دعوة الله فيتعثرون فيسقطون فيخسرون أنفسهم وتخسرهم دعوتهم. وليس هذا دعوة إلى الرهبانية والتصوف، وإنما هي دعوة إلى أن نقدم الآخرة على الدنيا، كما قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، فهي دعوة إلى ما دعا الله إليه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى له: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132]. فليقاتل المسلمون اليوم هذه الدنيا، خاصة في الخليج والبلاد التي فتحت عليها الدنيا، فكثير من الناس قتلوا وهم أحياء، وماتوا وهم في عالم الأحياء، قتلتهم هذه الدنيا، وقتلتهم الشهوات، فضاعوا وضيعوا، وصدق فيهم قول الله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]. وما قام الصحابة والمسلمون بما قاموا به إلا عندما استعلوا على دنياهم وآثروا أخراهم، عند ذلك اختلت الموازين عند أعدائهم، فقد كانوا لا يعرفون كيف يقومون هؤلاء الذين يقاتلونهم، فإن وزنوهم بموازين الدنيا فلا تنطبق عليهم؛ إذ أن عشرة آلاف يغلبون خمسين ألفاً، وهذا الأمر في موازين الدنيا أمر بعيد، ولكن قلبت الموازين؛ لأن هؤلاء العشرة الآلاف حريصون على الموت حقيقة، ويتمنونه حقيقة، ويرون سعادتهم في أن يأتي الواحد سهم أو ضربة سيف تأخذ روحه ليصبح من الأحياء الذين هم عند ربهم يرزقون، فاختلت الموازين عند أعدائهم لأنهم يقيسون بمقاييس الدنيا. ونحن اليوم نحمل أمانة الله، ونريد أن نحققها في واقع الحياة، وهذا يقتضي منا أن نفهم هذه الأمانة والرسالة، ثم نعرف العوائق التي تقف حجر عثرة في طريقنا، وقد ذكرت واحدة منها، ألا وهي هذه الدنيا بزينتها وشهواتها، والتي كثيراً ما غرق فيها الصالحون ورجال عملوا للإسلام كثيراً، تأخذهم الدنيا فتسأل عنهم فإذا بهم لم يبق بينهم وبين الإسلام ألا شعرة واحدة، وقد تنقطع هذه الشعرة. فالواحد منهم غرق في دنياه بعد أن كان مثال الحيوية والنشاط والشباب والقوة والعزيمة، ثم ملأت عليه دنياه نفسه فإذا به يغرق.

الأخوة الإسلامية ودورها في أداء أمانة الله تعالى

الأخوة الإسلامية ودورها في أداء أمانة الله تعالى إخواني! إن هذه الأمانة لتحقيقها في واقع الحياة تحتاج -كما أشرت- إلى جهود متكاتفة من المسلمين الذين فهموا ثقل الأمانة، فهي أمانة كبيرة ثقيلة تحتاج إلى جهود، والذي يجمع هذه الجهود هي الأخوة في الله، فإن المسلمين اليوم قصروا في حقوق الإخوة، فالإخوة في الله واجبة لكل من انتسب إلى هذا الدين وكان صادقاً في انتسابه على تفاوت فيما بين المسلمين، والإسلام يقرر هذه المسألة حقيقة بدهية، حيث يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وذلك أن الروابط بين المسلمين روابط قوية، فالله ربهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسولهم، والقرآن كتابهم، وآدم أبوهم، وحواء أمهم، وتجمعهم قبلةٌ واحدة، ويصومون في شهر واحد، ويؤدون أعمالاً مشتركة في أموالهم، وفي أقوالهم، في وحدة ليس لها نظير أبداً. ولذا كانت النتيجة المنطقية أن يكونوا إخوة فيما بينهم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة تشبيهات رائعة، حيث جعلها كالجسد الواحد، وإذا نظرت إلى خلايا الجسد فستجدها مترابطة مع بعضها، فخلايا الجسد متماسكة فيما بينها من قمة رأس الإنسان إلى أخمص قدميه، وأجزاء الجسد مترابطة فيما بينها، فاليد بعيدة عن الرجل ولكنها تشعر بشعورها. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وشبههم النبي صلى الله عليه وسلم ببنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، ويصفهم ربهم سبحانه وتعالى في كتابه بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. فالمسلمون تجمعهم أخوة، والأخوة لها حقوق فيما بين المسلمين، أما أن ينتسب المسلمون إلى الإسلام ثم يأكل بعضهم بعضاً، ويطعن بعضهم في بعض، ويجرح بعضهم بعضاً، ويغتاب بعضهم بعضاً ويقولون: نحن الذين نرفع راية الإسلام فهذا الانتساب دعوى لا برهان عليها. واليوم نحتاج إلى أن يعيد المسلمون النظر فيما هم عليه، فالمسلم ليس بمغتاب ولا نمام ولا مفسد ولا قاطع لما أمر الله به أن يوصل، وإنما هو ناصح كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وهكذا المسلمون فيما بينهم، ينصح بعضهم بعضاً، ويحققون أمر الله في أنفسهم وفي إخوانهم، فصحيح أننا نحارب الباطل، وهذا أمر مطلوب، لكن بالتي هي أقوم وأحسن، فلا أكتم الحق، وفي نفس الوقت أحافظ على كرامة أخي المسلم، وأحافظ على عرضه، وأحفظه في غيبته، وقد أختلف معه في أمر ما، وقد أختلف معه في حكم ما، ولكن تبقى له حرمته، فحرمة المسلم عظيمة، والكثير منا يستهين بحرمة أخيه المسلم. وأنا أقول -ولعلي لا أجاوز الحقيقة-: إن الأخوة تذبح بين المسلمين في هذه الأيام ذبحاً وتهدر، وقد يلاقي المسلم اليوم من إخوانه عنتاً أكثر مما يلاقيه الكفار من المسلمين، وقد لا يتصدى المسلم للكفار بمقدار ما يتصدى للمسلمين، وهذا من سوء التصرف، والعياذ بالله. فينبغي للمسلمين أن يراجعوا أنفسهم في هذا الأمر، وأن يحسنوا التعامل فيما بينهم، وقد يخطئ المسلم وقد يؤذي، وهذه أمور تعالج فيما بين الاثنين، لكن أن يصل الحال بين المسلمين إلى قطيعة وهجران، وأن يصل بين المسلمين إلى عداوة وبغضاء فذلك ما لا يجوز. فلكي يستطيع المسلمون حمل الأمانة لابد من أن يحيوا معاني الأخوة فيما بينهم، وأن يحيوا حقوق الأخوة فيما بينهم، وأن يتجنبوا ما يقطع جذور الأخوة ويهدمها، وينبغي أن يحيوا معاني الإخاء الكريم الذي عاشه المسلمون في الماضي، ينبغي أن يحيوه من جديد، وأن يطهروا أنفسهم من الخيلاء والغرور والكبرياء، فهذه أمراض قاتلة تهدم الإسلام في نفوسهم وتقطع ما بين المسلمين من صلات، وتهدم بناء الأخوة، وتجلب العداوة والبغضاء. وهناك حقوق للأخوة بينها الإسلام، ومنها: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأن تكره لأخيك ما تكرهه لنفسك، وأن تكون حريصاً على أخيك وعلى ماله وأهله كما تكون حريصاً على ذلك بالنسبة لك. ومنها أن تسلم عليه، وتزوره، وتشاركه أفراحه وأحزانه، وتعينه، وتتجنب ما يقطع الأخوة معه من الحسد والتكبر عليه وغيبته، وما أشبه ذلك مما بينه الإسلام.

صفات المستحقين لنصر الله

صفات المستحقين لنصر الله وإذا قيل لنا اليوم: من الذي سيقيم الدولة الإسلامية؟ فسنجيب: بأنه الخليفة المسلم. فمن الذي سيأتي بالخليفة المسلم إلى الدولة الإسلامية؟! إن هذا يحتاج إلى رجال أطهار أخيار أبرار، ويحضرني في هذا المقام أنه روي أن رجلاً قال لـ علي بن أبي طالب: يا علي! إن الدنيا خربت في خلافتك، فأين أيام أبي بكر وأيام عمر؟! فقال له علي بن أبي طالب: إن أبا بكر وعمر كانا أميرين على أمثالي، وأنا اليوم أمير على أمثالك. يعني: قلة الرجال. فينبغي أن نحسن الحديث في ندواتنا ومحاضراتنا، وينبغي أولاً أن نسعى إلى تحقيق الإيمان في أنفسنا، وأن نسعى لتطهير مجتمعاتنا، وأن نعيد معاني الإسلام حية في النفوس، وأن تحيا النفوس بروح الله وبنوره وبوحيه، وأن تتمثل المعاني التي أنزلها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأن تحارب الباطل وتجتثه من جذوره؛ فإن الباطل اليوم يملأ نفوسنا وبيوتنا وشوارعنا، ويعشعش في أفكار شبابنا وفتياتنا، فهناك دعوات تسود وأفكار تطرح يتغذى بها فريق من أبنائنا، فالباطل كثير وكثير، فافتح الراديو لتسمعه، وافتح التلفزيون لتسمعه، وافتح الصحيفة لتسمع الباطل، واذهب إلى النوادي وشواطئ البحر، واذهب إلى أي مكان لتسمع وترى الباطل. وهذه أقذار ونجاسات نحتاج إلى أن نزكي وأن نطهر أنفسنا منها ومن هذا الباطل وهذا الفساد حتى نستطيع أن نقيم جماعة يرضى عنها الله سبحانه وتعالى، ويبارك في أقوالها وفي أعمالها. فنصر الله تعالى إنما يتنزل على الأخيار، وثقوا -معاشر المسلمين- من أننا -والله- لا نستطيع أن نكون شيئاً في الحياة ما لم يكن بيننا وبين الله صلة، وما لم يكن بيننا وبين الله عمار، فقد قضي بالحكم على هذه الأمة أنه لا يكون لها شأن ولا مجد ولا عز إلا بهذا الدين. وقد نودي من قبل بالاشتراكية وبالقومية ولم تحصل فائدة، وأتى أولئك بمذاهب الدنيا إلى بلاد المسلمين فلم يزدد المسلمون إلا فرقة، ففي كل فترة تزداد الدول، وفي كل يوم تزداد المشاكل، وفي كل يوم يقتص الأعداء جزءاً من أرضنا، وتقوم إسرائيل في وسطنا، ويطحن النصارى من جانب آخر المسلمين في بعض البلاد، والبوذيون كذلك، ولا يكاد يعرف المسلمون من أين تأتي الضربات، ففي كل ساعة نسمع حدثاً تدمع له العين ويحزن له القلب، فبالله عليكم! كيف سيتنزل نصر الله سبحانه وتعالى على أمة لم تطهر نفسها، ولم تزك نفسها، ولم تجاهد لإقرار الحق في ديار الإسلام؟! فلو كنا نحن أهل بدر فهل سيتنزل علينا نصر الله، وهل ستتنزل علينا ملائكة الله، وما الذي يعيق ملائكة الله عن أن تنزل على المحاربين المقاتلين عندما خاضوا حرباً في عام ثمانية وأربعين، وفي عام ستة وخمسين، وفي عام سبعة وستين، وفي عام ثلاثة وسبعين؟! إنهم ليسوا أهلاً لأن تتنزل عليهم الملائكة، فيكفينا أنه في ليلة المعركة في سنة سبع وستين كان ضباط الجيش يسكرون ويعربدون، فضُربت الطائرات وهي جاثمة على الأرض، والضباط سكارى! فهل هؤلاء يستحقون نصراً؟! وفي وقتها أرسل إلى الجنود ثمانون ألف صورة للمغنيين والممثلين عليها توقيعاتهم ليتباركوا بها! وأما اليهود فكان الواحد منهم يدخل سيناء والتوراة على ركبتيه، بل عندما دخل جنود اليهود سيناء كانوا يقبلون تراب سيناء! فهل نصر الله رخيص إلى هذه الدرجة؟! وهل الملائكة تقاتل مع أناس لا يعرفون الله، وإنما يعرفون شادية وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش؟! وهل هؤلاء يستحقون أن تتنزل الملائكة عليهم ويتنزل نصر الله عليهم؟! ولقد زارنا في الكويت الشيخ محمد يونس من أفغانستان من المجاهدين فقال: همنا الأول أن نحارب الفساد في أنفسنا، وأن نحسن صلتنا بالله سبحانه وتعالى؛ لأننا نرجو من الله ما لا نرجوه بأسلحتنا، وما لا نرجوه بأسلحة أمريكا وفرنسا. وقد حصلت مقابلة في التلفزيون الفرنسي مع مراسل صحفي زار أفغانستان وشهد معركة، فقالوا له: ماذا رأيت؟ فقال: رأيت شيئاً لن تصدقونني فيه، لقد رأيت الطائرات الروسية تضرب معاقل الفدائيين، فكنت أرى طيوراً تأخذ هذه القنابل فتبعدها فتنفجر بعيداً عن مرابط الفدائيين أو المقاتلين المسلمين المجاهدين. ولم يصدقه الفرنسيون؛ لأنهم لا يفهمون مثل هذه الأمور ولا يصدقونها. ونحن نعلم أن المسلمين إذا جاهدوا في سبيل الله سبحانه وتعالى فسينصرهم الله ويؤيدهم، فلله جنود السماوات والأرض، وبيده الأمر كله سبحانه وتعالى.

دعوة إلى تطهير النفوس وتزكيتها وتجديد الإيمان

دعوة إلى تطهير النفوس وتزكيتها وتجديد الإيمان فعلينا -معشر المسلمين- إحسان الصلة بالله سبحانه وتعالى، وتطهير النفس ومباركتها بالإسلام، وهذه هي أخطر قضية، ويدل على ذلك سبعة أقسام يقسم الله سبحانه وتعالى بها على حقيقة واحدة في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:1 - 10]، فقد أفلح من زكى نفسه بالإيمان والعمل الصالح. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقي ذلك من درنه شيئاً؟ فقالوا: لا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا). فالذنوب والمعاصي تؤثر في الأرواح فتفسدها، وإذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل القلب، وإن لم يتب وأذنب ثانية وثالثة ورابعة عند ذلك يكون حاله كما قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. فالقلوب تحتاج إلى تزكية، والرسول صلى الله عليه وسلم سمى الذنوب والمعاصي قاذورات، وأعظم القاذورات الشرك، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:116]؛ لأن النجاسة الشركية لا تزول، ولو جلس صاحبها في النار مليون سنة لبقيت النجاسة تلازمه. فالقلوب تحتاج إلى عملية تطهير بالإيمان والعمل الصالح، فالإيمان يغسل هذه الذنوب، وهذه الأوساخ، فعندما جاء عمرو بن العاص مهاجراً هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (بايعوا) فبايع خالد وعثمان، وقبض عمرو يده، فقال: (ما لك يا عمرو! فقال: أشترط أن يغفر لي، فقال له: يا عمرو! بايع؛ فإن الإسلام يجب ما قبله -أي: يزيل ما قبله من الآثام ويغسلها- وإن الهجرة تجب ما قبلها). فعندما يهاجر المسلم مفارقاً أهله ودياره ووطنه لله وفي الله تغسل ذنوبه، (فإن التوبة تجب ما قبلها)، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفي الحديث: (الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهن، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). فالنفوس تحتاج إلى تطهير دائم، ولا بد من تجديد الإيمان في النفوس؛ لأن الإيمان يخلق كما يخلق الثوب فيحتاج إلى تجديد، وقد كان الصحابة يقول بعضهم لبعض: تعال نؤمن ساعة. فيجلسون يذكرون نعمة الإسلام، ويقرءون آيات القرآن، ويتفكرون في آلاء الله ليتجدد إيمانهم. إخواني! لابد من أن نحسن صلتنا بربنا سبحانه وتعالى، فنحن بحاجة إلى أن نجدد هذا الإيمان مرة بعد مرة حتى لا تقسو قلوبنا فيذهب الخير عنا، فقد ذم الله بني إسرائيل بهذا، فقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فقد تقسوا القلوب أحياناً ولا تتأثر بكلام الله جل في علاه، وعندئذٍ نحتاج إلى أن نجدد إيماننا. والذي يحدد الإيمان: الأعمال الصالحة، فالصلاة تجدد إيماننا، والصيام يجدد إيماننا، وذكرنا لربنا سبحانه وتعالى وتفكرنا في آلائه ونعمه كل هذا يبني أرواحنا من داخلها، فنحس أن للحياة طعماً، وأن للإيمان أهمية، ونحس بأهمية الرسالة التي نتحملها، وبالتالي لا نكون عبئاً على دعوتنا، ولا تكون دعوتنا عبئاً علينا. وتصبح معاني الإيمان والإسلام لها طعم خاص في نفوسنا، وندرك كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: في حلاوة الإيمان، فللإيمان حلاوته في نفوس المؤمنين، حلاوة يشعر بها الذين عانوا في سبيل الإسلام، والذين جاهدوا في سبيل الإسلام، والذين حققوا ما أمر الله سبحانه وتعالى به. فالرسول صلى الله عليه وسلم يذكر ثلاث علامات يجد الإنسان بها (حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ نجاه الله منه كما يكره أن يلقى في النار). فإذا نحن حققنا الإيمان في أنفسنا، وحققنا الأخوة فيما بيننا، وتحملنا الأمانة نريد بها وجه الله ولنجاهد بها الباطل، فعند ذلك سنجد طريقنا ونحن نمضي في مسيرتنا، وعند ذلك سينصرنا الله سبحانه وتعالى، وعند ذلك سترتفع راية الإسلام من جديد، وعند ذلك سيعلم الناس أن هناك ديناً غير الشيوعية، وغير الرأسمالية، وسيتحقق للناس الأمن والرخاء، والسعادة والهناء. وها قد بدأت الحضارة الأوروبية اليوم في الانهيار، فأمراضها تفتك بها، وما يحدث في بريطانيا في أيامنا هذه دليل كالشمس في رابعة النهار واضح للعيان، فهم يدمرون بيوتهم، ويهلكون أنفسهم، ويخربون متاجرهم، ويحرقون العمارات التي بنوها بأيديهم. وهذه بداية الانهيار، وهذه علامة واحدة من علامات كثيرة، وأنا لا أقول هذا من عندي، بل فلاسفتهم وكتابهم ومفكروهم يقولون هذا، فهم يتوقعون سقوط الحضارة الأوروبية، فستنهار الحضارة الرأسمالية، وقد يكون في انهيارها دمار لكثير من الأقطار؛ لأنها قامت على دعامات فاسدة، فتجاهلت روح الإنسان وحقيقته، وأرضت الجسد، اعتنت بالجسم وأهملت الروح؛ ولذلك فلا يمكن لها أن تثبت. فهي لم تعرف من الدنيا إلا عالم المادة ونسيت عالم الروح، فلا يمكن أن تقوم، لأن الإنسان روح وجسد. فإذا فهمنا، ديننا وجددنا الإيمان في نفوسنا، وأحسنا صلتنا بربنا سبحانه وتعالى، وحققنا الأخوة فيما بيننا، وكونا عالم الإسلام في ديارنا، فسيتحقق لنا النصر بإذن الله تعالى. فقد أنزل الله الإسلام لينتصر، وإن لم ينتصر بأيدينا فسيقيظ الله له أقواماً ينصرونه ويرفعون لواءه، ولكن الخاسر هو من ترك هذا الدين. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضى، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وتولنا برعايتك، وتقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وتجاوز عن زلاتنا وخطايانا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإسلام واحة آمنة

الإسلام واحة آمنة الإسلام واحة آمنة، وقوة كامنة، وشريعة كاملة، وهكذا كان، وسيكون كذلك، ولكن بتطبيق وتحكيم شرع الله، وبصلاح الراعي والرعية. إن الإسلام جاء ليبني لا ليهدم، ففيه الاقتصاد والسياسة، والأحكام والهداية، فلا نحتاج إلى شرق أو غرب بأن يصيروا أوصياء علينا، ولا أن نمشي تحت مظلتهم، فمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً ومنهجاً، وبمحمد نبياً وقدوةً، فليرض بهم، وليرفض التوجه بتوجيهات غير توجيهاتهم، وليعلم أن الإسلام منهج حياة وسبيل نجاة.

الوعد النبوي بتحول الجزيرة إلى واحة آمنة يتحقق

الوعد النبوي بتحول الجزيرة إلى واحة آمنة يتحقق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: يذكر الصحابي الجليل عدي بن حاتم رضي الله عنه: أنه كان جالساً يوماً في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجال يشكون ما يجدون من بلاء عندما يسافرون ويرحلون، حيث يعتدي عليهم الناس فيأخذون أموالهم، وقد يجلدون ظهورهم ويسفكون دماءهم، فقد كانت الجزيرة العربية قبل الهجرة النبوية أشبه بغابة، يتسلط القوي فيها على الضعيف، والأقوياء يسلبون أموال الناس، حيث كانت بعض القبائل تغير على بعض وتقطع الطريق. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم: (يا عدي! أتعرف الحيرة -بلد في العراق-؟ قال: لم آتها وقد حدثت عنها، قال: لئن طالت بك حياة لترين الظعينة -المرأة التي تركب جملها- تسير من الحيرة إلى مكة لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها) ومعنى ذلك أن هذه الجزيرة التي هي أشبه بغابة في ذلك الوقت ستتحول إلى واحة آمنة، فلا يأمن الجيش أو الجماعة أو الرجل القوي المسلح فحسب، بل تأمن المرأة الضعيفة التي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، فتسير هذه المسافات الشاسعة لا تخشى أن يعتدي عليها معتد، ولا تخشى أن يقطع الطريق قاطع، وإنما تخشى الله تبارك وتعالى، وكذلك تخشى الحيوان المفترس، لأن الحيوانات المفترسة لا يحدها أو يمنعها مانع عن العدوان. قال عدي: فقلت في نفسي: فأين دعار طيء؟ أي: لصوص طيء، وكيف ستسير هذه الظعينة هذه المسافات الشاسعة ولا يعترضها اللصوص! فهو رضي الله عنه يتحدث عن قبيلته؛ لأن فيها لصوصاً. ولا يمنع هذا أن يكون في القبائل الأخرى لصوص أيضاً، قال: (ولئن طالت بك حياة لتفَتحن -أو لتفُتحن- كنوز كسرى وقيصر، قلت: يا رسول الله! كسرى بن هرمز؟ قال: نعم، كسرى بن هرمز، قال: ولئن طالت بك حياة ليخرجن أحدكم زكاة ماله فلا يجد من يتصدق عليه، وليبعثن أحدكم يوم القيامة ليس بينه وبين الله ترجمان، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا). يقول عدي بن حاتم عندما كان يحدث بهذا الحديث: فهأنذا أرى الظعينة تنتقل من العراق إلى مكة، وتسير في أرجاء الدولة الإسلامية، فلا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، أي: أنه كان أحد الجنود الذين فتحوا بلاد كسرى وقيصر، وأخذوا تلك الكنوز الهائلة التي كانت في خزائنهم. قال عدي: ولئن طالت بكم حياة لترون الثالثة، أي: إذا طال بكم العمر سترون أن الثالثة ستقع، وقد وقعت الثالثة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد كان الرجل يخرج زكاة ماله فلا يجد أحداً فقيراً يقبضها. قال المؤرخون: لقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس فلم يوجد فقير، وتسير في طول المدينة وعرضها تبحث عن فقير فلا تجد.

طرق الإسلام في إصلاح الحياة

طرق الإسلام في إصلاح الحياة إن الإسلام جاء كي يرضى الله تبارك وتعالى عنا، ويبين لنا طريقاً ندخل به الجنة، وليس ذلك فحسب، بل الإسلام أيضاً يصلح الحياة الدنيا، فيجعلها واحة آمنة لا غابة وحوش، فالقوي يريد أن يستبد، والحاكم كذلك، والناس يثور بعضهم على بعض. فسلك الإسلام في ذلك طريقين: الطريق الأول: تربية النفوس وإصلاحها، وتعريفها بربها وخالقها تبارك وتعالى، ووصلها بالله عز وجل، وإشعارها بأن الله يراقبها وينظر إليها ويطلع عليها، وعند ذلك يصبح في النفوس وازعٌ، فيراقب الإنسان نفسه، ويحد من جهله ومن ظلمه، فالإنسان خلق جهولاً ظلوماً، فهو كثير الجهل كثير الظلم، والإسلام يحد من هذا الجهل من هذا الظلم. إن هذه الأنوار الربانية التي جاء بها القرآن والسنة النبوية؛ لتملأ النفوس نوراً وصلاحاً وحياة، وعند ذلك لا يعتدي الإنسان على غيره ولا يظلم، وإن ظلم فإن نفسه تلومه، وكثيراً من الأحيان يتوب وينيب، ويرجع بنفسه الحق إلى صاحبه. الطريق الثاني: أن الإسلام جاء بشريعة وقانون يحكم بين العباد، وهذا القانون قانون عادل؛ لأنه من عند العليم الخبير الحكيم سبحانه وتعالى، الذي ألزم الأمة بأن تقيم رجالاً يقومون على هذا القانون، من حكام وقضاة يحكمون به، فإذا لم تفلح التربية النفسية في إصلاح النفوس، وبقي ظلم العباد بعضهم لبعض؛ فإن سلطان الله تبارك وتعالى الذي يتمثل في شريعته والقضاة الذين يحكمون به، يعيدون الحق إلى نصابه، فتصلح حياة البشر، وعند ذلك فإن المظلوم ليس بحاجة إلى أن يثور؛ لأن هناك من يأخذ له بحقه، وكذلك الفقراء ليسوا بحاجة إلى الثورة؛ لأن حقوقهم ستصل إليهم، فلهم في مال الأغنياء حق، ولا يستطيع الأغنياء والأقوياء أن يعتدوا عليهم؛ لأن هناك من يحاسب في الدولة الإسلامية: (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف منكم قوي عندي حتى آخذ الحق له) فالقوي فيكم ضعيف، والضعيف قوي، فهذا يأخذ الحق منه، وهذا يأخذ الحق له، وهذا جزء من الخطبة التي افتتح بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه خلافته، عندما نصب خليفة للمسلمين. فمهمة الحاكم أن يمنع هذا الظلم، وعند ذلك لا يحس الفقير بحاجة إلى أن يثور، وإلى أن يفسد في الأرض؛ لماذا؟ لأنه يرى أن حقه سيصل إليه، فليس له حاجة في أن يثور وأن يفسد ويخرب.

صور من الفساد المعاصر

صور من الفساد المعاصر وانظروا إلى ديار المسلمين اليوم ماذا يحدث بها؟ فقد زعموا أن الشريعة الإسلامية كانت عقبة في سبيل تقدم المسلمين، فحطموا دولة الخلافة زاعمين أنهم يريدون الرقي والحضارة، ثم غيروا القوانين الشرعية وأحلوا محلها القوانين الوضعية، بحجة أنهم يريدون بنا رقياً وحضارة وتقدماً، ثم ماذا كان؟ كان أن تجزأت الديار الإسلامية وضعفت، واعتدى عليها أعداؤها وأذلوها، ثم كان الفقر والجريمة، والإفساد في الأرض أينما توجهت في ديار المسلمين، ولم يزدنا هذا التقدم الذي يسمونه تقدماً وحضارة إلا فساداً وإفساداً. وما نقلته الصحف في هذه الأيام، ووكالات الأنباء والإذاعات، مما يجري في مصر، وماذا يحدث أو ماذا حدث؟ مئات من الناس سقطوا قتلى، وأضعاف ذلك سقطوا جرحى، وخرج الناس يحطمون ويخربون ويفسدون، لماذا؟ A أمران، حسبما تناقلته وكالات الأنباء: الأمر الأول: جوع البطن، فأصبح رغيف الخبز لا يوجد، وأقل الأطعمة شأناً في بلادنا -الأرز والعدس- لا توجد، فماذا يملك الفقير عندما يجد نفسه جائعاً وزوجته جائعة وابنه جائعاً، وهو لا يستطيع أن يفي بالحاجات الدنيا؟ ثم أين تذهب الأموال؟ فبين فترة وأخرى تكشف فضيحة في مصر وفي غيرها، وهذا ليس وقفاً على مصر، بل في أكثر البلاد الإسلامية، فضيحة مالية لا تقدر بالألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف، ولا ملايين وعشرات الملايين، بل تصل إلى مبالغ خيالية جداً، عصابة من الموظفين أو المتنفذين يأخذون ثروات الأمة، وفرد يسلب عشرات الملايين ومئات الملايين، بينما عشرات الملايين من البشر لا تجد طعاماً تأكله، وهذا ليس بالأمر الخفي، بل هو أمر قد انتشر في كل مكان، وفضائح في كل مكان. وهذا الذي أخذ الملايين نفسه عفنة قذرة خربة، فلم يلامسها نور الوحي، ولم يعلم أن هذه الدنيا زائلة، وأنه غداً سيقف بين يدي الله فيحاسبه عما قدم، فيظن نفسه أنه أخذ غنيمة وخيراً، وفي الحقيقة هو أخذ شراً، ثم النتيجة الأخرى أنه ظلم غيره في هذه الحياة الدنيا وحرم غيره من لقمة العيش. الأمر الثاني: أن هذه الشعوب وإن حرمت من تحكيم شريعة الله، فهي لازالت شعوب إسلامية للإسلام صدى في نفوسها، فهي ترى هذا الفساد من السينمات والمسارح التي تنتهك فيها الفضيلة والحرمات، وتهدر فيها أموال الأمة، فاتجهت إلى تخريب هذه الأماكن المفسدة في الأرض؛ لأنهم مسلمون، ويشعرون بأن هذا من المنكر الذي فرض عليهم تغييره. وليس هذا في مصر فحسب، فهذه عدن قد سقط فيها ألوف من الناس، لتحكم الشيوعية عليهم، وحتى انقسم الرفاق على بعضهم. وهذه الحروب بين العراق وإيران يسقط فيها كل يوم ألوف الضحايا، فما السبيل؟ الله تبارك وتعالى جعل الإسلام طريقاً إلى جنته ورضوانه، وجعل الإسلام في الدنيا قانون شريعة، إذا رضي الناس به وحكموا به عند ذلك تصلح حياتهم، والله تبارك وتعالى عندما أهبط آدم من الجنة وضع له ولذريته قانوناً يحكم البشر منذ عهد آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]. فهذا قانون: من اتبع هداي فلا يضل في هذه الحياة ولا يشقى، لا في دنياه ولا في أخراه، والشقاء قد يكون في داخل النفس الإنسانية، وقد يكون في داخل الأسرة، وقد يكون في داخل المجتمع، وإن كان المال وفيراً والخير كثيراً؛ لكن الإنسان يكون شقياً، قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، أي: في الحياة الدنيا. وبلاد المسلمين من أكثر بلاد العالم خيراً وثراءً، ومع ذلك فالناس يموتون جوعاً وآخرون يشقون بأموالهم، ولا يستطيعون التصرف في أموالهم تصرفاً حكيماً يذهب البلاء الذي يحيط بهم. إن العليم الخبير قد شرع لنا تشريعات تصلح النفوس وتصلح المجتمعات، وليست هذه نظريات خيالية، فهذا أمر طبقه المسلمون عبر تاريخهم زمناً طويلاً، وقد يكون التطبيق كاملاً مائة في المائة كما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وقد يكون ناقصاً، وبمقدار تطبيق هذا الإسلام تصلح حياة البشر وتصلح نفوس البشر. فعجيب أمر المسلمين، فالبلاء يصب من فوقهم، وفي مجتمعاتهم، وربهم يقول لهم: هذا هو العلاج، وهذا هو البلسم والدواء، ومع ذلك نأبى إلا أن نتغنى بحب أمريكا، وبحب روسيا، ومجلس الأمن، وهيئة الأمم، وأن نتغنى بالنظريات التي جاء بها الشرق والغرب، ونأتي بالخبراء من هنا وهناك، والدواء عندنا في خزائننا، وليس دواءنا فحسب، ودواء العالم بأسره، ونأبى كل الإباء أن نتخذ هذا الدين منهجاً ودستوراً وقانوناً يصلح. والمشكلة أن الذين بيدهم هذه الأوضاع يعلمون أن المسلمين في ديار المسلمين يريدون دين الله وشريعة الله تبارك وتعالى، ولكنهم يأبون إلا أن ينفذوا شرائع البشر وأفكار البشر وقوانين البشر. أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله،،،

شرع الله هو سبيل النجاة

شرع الله هو سبيل النجاة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. لن يخسر المسلمون إذا أصروا على تطبيق شريعة الله، وأن يكون تأثير الدين الإسلامي في مدارسهم ومجتمعاتهم كبيراً، ومهما بذلوا في سبيل ذلك من التضحيات فلن يخسروا كثيراً؛ لأن الخسارة في الجانب المقابل أكثر وأعظم بكثير من الخسارة التي يبذلها المسلمون إذا أرادوا تطبيق شريعة الله ودين الله تبارك وتعالى، وأعظم خسارة -كما تشير آيات القرآن- أن غضب الله تبارك وتعالى ينزل بالأمة التي تعرض عن شريعة السماء، وخاصة إذا كان العلم عندها، وكتابها يحدثها، وعلماؤها يخبرونها ويحثونها، ثم تأبى الأمة ذلك؛ فعند ذلك ينتقم الله من عباده بنفسه، أو ينتقم منهم بأعدائهم، أو بالفتن التي تهب في صفوفهم، وهي كافية لأن تجعل غضب الله وانتقامه واقعاً بينهم، وهذا الذي نشاهده من العدوان من أعدائنا علينا في كل مكان، فتجد عدواناً في الهند، وفي الفلبين، وفي كل ديار الإسلام، ثم تجد الفرقة والخصام والنزاع في الأمة، وتجد سقوط الضحايا من المسلمين، فكم سقط من المسلمين بين العراق وإيران؟ وهل كان ذلك بأيدي روسيا وأمريكا واليهود؟! لا، ولكن بأيدي المسلمين أنفسهم. وكم سقط في اليمن من أناس ينتسبون للإسلام، ويتسمون باسم الإسلام؟! فقبل خمس عشرة سنة سقطت ألوف مؤلفة، وبالأمس القريب أيضاً سقطت ألوف مؤلفة، والمسلم الذي يتسمى بالإسلام يقتل المسلم أيضاً، وهذه الخسائر بأيدي المسلمين أنفسهم، فهذه فتن كما قالت عائشة: (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث). فهذه الفتنة لا تقف على طائفة قليلة من الناس، وإنما تعم الصالح والطالح؛ فتصيب هؤلاء وتصيب هؤلاء، فإذا ما بذل المسلمون جهودهم وأفكارهم وأنفسهم لرفعة هذا الدين وتحكيم شريعة الله -مهما كانت الخسائر- فلن تكون أكثر مما يفقده المسلمون بسبب عدم تطبيقهم لهذه الشريعة ولهذا الدين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

العقيدة الصحيحة وما يضادها من العقائد الفاسدة

العقيدة الصحيحة وما يضادها من العقائد الفاسدة إن العقيدة هي الأساس الذي قامت عليه المذاهب والأديان والملل والنحل، وقد تكون عقيدة صحيحة أو فاسدة، ولذا فلابد من الحرص على سلامتها؛ لأنها الزاد الروحي للإنسان، وبها يعرف خالقه بأسمائه وصفاته، فيشعر الإنسان بقرب أكثر تجاه مولاه.

العقيدة أساس الأديان والمذاهب والمبادئ

العقيدة أساس الأديان والمذاهب والمبادئ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فما انتدبت إلى الحديث في أي موضوع من الموضوعات إلا وأحسست أن من حق الذين ينتدبونني ويستمعون إلي أن أعطي الموضوع حقه، فأنا أعلم كم من الوقت والجهد يبذله الذين يحضرون لمثل هذه المؤتمرات والمحاضرات، وأعلم أن وقت الذين يحضرون هذه المحاضرات ثمين، فالوقت هو الحياة، وقد ازداد إحساسي بثقل المسئولية في هذا الموضوع الذي سأحاضر فيه، لأنه من أخطر الموضوعات، فالعقيدة هي الأساس التي تقوم عليها الأديان والمذاهب والمبادئ، وقد قيل قديماً: إن الإنسان أسير أفكاره ومعتقداته، ولا زالت عقائد البشر هي التي تسيرهم، ومن خلالها ينظرون إلى الوجود والحياة والمجتمعات الإنسانية، وعلى أساسها يصيغون الأنظمة والقوانين ويضعون القواعد والقيم والموازين، ولم يزل المستبدون والطغاة يتلاعبون بعقائد الناس ليتيسر لهم السيطرة عليهم. وقد كتبت في موضوع العقيدة عدة مؤلفات، إلا أن خطورة الموضوع الذي أتناوله فرضتْ علي أن أعود إلى التفصيل فيه مرة أخرى، ونعود للنظر في التراث العقائدي من مصادره، ولقد نظرت في هذا التراث بنظرتين: نظرة في التراث الإنساني، ونظرة في التراث الإسلامي، وقد عشت مع المؤلفات التي تعرضت للعقيدة في هذين التراثين وقتاً ليس بالقصير، ولقد رأيت وأنا أجول بنظري وفكري في كتب التراث وكأني رجل يقف فوق قمة جبل على شاطئ بحر لجي مخيف، فكنت أتساءل وأنا أنظر في عقائد أهل الملل والنحل في القديم والحديث: كيف نشأت وتفرعت! ثم كيف تلاشت وفنيت! وأتخيل أنني ذلك الرجل الذي يشاهد أمواج البحر فإذا هي لا تحصى كثرة، فتنشأ ثم تتلاشى، وتتعارض وتتصادم، وهي في ذلك كله لا تتوقف لحظة، ثم يحدث أن البحر قد يهدأ في بعض الأحيان فتكون الأمواج هادئة، وقد يثور فإذا بالأمواج كالجبال. إنني لا أبالغ في الوصف، ومن طالع ما كتبه الكاتبون في تاريخ العقائد، وما كتبوه في تاريخ الفكر الإنساني، وما كتبوه في الملل والنحل يعلم صدق ما أقوله.

كثرة العقائد الفاسدة

كثرة العقائد الفاسدة لكثرة المذاهب والعقائد والنحل والفرق فإن الفكر الإنساني لا يدري أين يسير؟ وماذا يأخذ؟ وماذا يدع؟ فالعقيدة لا تقوم كما نعلم على الحيرة والتردد، بل إن العقيدة تحتاج إلى اليقين الصادق الذي يقوم على الأدلة والبراهين التي لا تجد النفس لها مدفعاً، والتي تأثر في النفوس وتخضع لها العقول، والفكر الإنساني لا يستطيع أن ينقل لنا من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تاريخ الإنسان وواقعه أصولاً توقفه على اليقين المنافي للشك، وأنى يصل الإنسان إلى اليقين والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يجوز للعقل الإنساني النظر فيه؟! إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه؛ لأنها نفسه، ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كلما زاد بحثه فيها، فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها، والروح ليس لها وزن ولا لون ولا حجم، ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية، فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها؟! قال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فهذا شأن الإنسان في الروح التي تسري في كيانه، وهي سر حياته، فما بالكم بالبحث العقلي المجرد عن خالق الوجود؟! والعوالم التي لا نراها ولا نشاهدها، والتي سيصير إليها الإنسان بعد الموت، كالبرزخ واليوم الآخر، فالإنسان لا يمكن أن يصل في أمرها إلى قرار، ولا يمكن أن يصل إلى حقيقة أمرها، ولا يمكن أن يقف الإنسان فيها على أرض صلبة، وسيبقى طيلة عمره يعيش حائراً متردداً. ولذا نجد الفلسفي يجتهد في معرفة الحقائق التي يمكن أن يقيم حياته عليها، والتي يمكن أن تفسر له وجوده، وترسم له مساره في الحياة، وغايته التي يسعى إليها، وتوضح له علاقته بالقوة التي أوجدته، وأوجدت الكون؛ فلا يصل إلى معرفة ذلك بعقله المجرد، فيعيش في شقاء، ويظن في بعض الأحيان أنه بلغ الغاية، وشارف على المقصد، وأوشك أن يصل، ولكنه يستدرك ما توصل إليه، ويعلم أنه وهم من الأوهام، ويفاجأ بالأجل وقد أدركه، فينظر فلا يجد أنه قد حقق في رحلته ما كان يصبو إليه. إنني لا أريد أن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي السماء من الفلاسفة والمفكرين، ولكني أحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئاً ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا وراءه طويلاً. فهذا الإمام الرازي أحد هؤلاء الذين يعلن في نهاية المطاف أنه لم يصل إلى شيء، لابتعاده عن المنهج القرآني النبوي، ولجريانه وراء نتائج العقول الإنسانية، فكانت النتيجة أنه لم تقده هذه الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ولقد أدرك في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب. إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه: (أقسام اللذات) أشم منها رائحة النواح الحزين الصاعد من قلب محزون مكلوم؛ إنه النواح على النفس: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من أجسادنا وغاية دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أن أقرب الطرق هو طريق القرآن، فأقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ثم يختم حديثه قائلاً: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويصور لنا عبد الكريم الشهرستاني -وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علمه بالملل والنحل- تخبط أصحاب الكلام في علوم العقائد في مقدمة كتابه: (نهاية الإقدام في علم الكلام) فقال: لعمري! لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وهذا الجويني الذي كان يدعى بـ إمام الحرمين، وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، لما حضره الموت نظر في مساره في الحياة، ونظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، لإضاعته الكثير من عمره في مسار لم يوصله إلى الشاطئ، فلقد كان يخوض في بحر خضم من الأفكار والعقائد والموازين، لا يقر قلب من خاضها على قرار، واسمع إليه وهو يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في العلم الذي نهينا عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي. وهذا عالم آخر من علماء الكلام يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئاً، فيقول لمن حوله: اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدم، فلم أعرف شيئاً!

حاجة الإنسان الشديدة لمعرفة العقيدة الصحيحة

حاجة الإنسان الشديدة لمعرفة العقيدة الصحيحة إن الله العليم القدير الحكيم الذي خلقنا، هو أعلم بنا من أنفسنا، ويعلم أننا بحاجة إلى معرفته؛ لأنه خالقنا ويعلم أن نفوسنا لا يمكن أن يقر لها قرار ما لم تعرف من خلقها وفطرها، وتعرف الطريق الموصل إليه، والعقل الإنساني الذي وهبه الله لنا لا يمكن أن يصل بنفسه إلى خالقه وإلهه، ولا يعلم كيف يعبده لذا فقد تكفل الله لأبينا آدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض أن يمد ذريته من بعده بالنور والهدى الذي يعرفهم بربهم وبالحقائق الكبرى التي لا بد لهم منها، وتكفل لمن اتبع نوره وهداه بالخلاص من الضلال الذي يعيش فيه البشر، والنجاة من الشقاء الذي تتردى فيه القلوب والنفوس، وتوعد الرافضين لوحيه وهداه بالحياة الضنكة الدنسة الشقية في الدنيا، ثم في الآخرة بالعذاب الأكبر، فقال سبحانه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127].

صور من المعتقدات البشرية الباطلة

صور من المعتقدات البشرية الباطلة لقد بقيت البشرية على التوحيد بعد أن هبط آدم إلى الأرض وتكاثرت ذريته، وكان الناس أمة واحدة، ولكن البشر ضلوا في إلههم ومعبودهم فعبدوا من دونه أولياء، فاتخذوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وكانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، فأرسل الله لهم أول رسله وهو نوح، فأنذرهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده، وترك ما يعبد من دونه، فآمن له قليل، واستكبر منهم الكثير فأهلكهم الله تعالى. وكثير من الأمم عبر تاريخ البشرية عبدوا الأصنام، ولهم في ذلك فلسفات وضلالات، فبعضهم كان يزعم أن هذه الآلهة تتلبس بها الأرواح، وبعضهم ليس له حجة إلا أن الآباء كانوا يمجدونها ويقدسونها. والصابئة الذين كانوا يسكنون في أول أمرهم في وسط العراق، ثم سكنوا شماله يدعون أن الله خلق الأفلاك والكواكب، ووكل إليها تدبير أمر العالم من الخير والشر والصحة والمرض؛ ولذا فإنه يجب على البشر تعظيمها وعبادتها، ومنهم من كان يزعم أن الكواكب التي في الفلك هي ملائكة، وبنوا لهذه الكواكب بيوتاً لعبادتها، وجعلوا فيها الهياكل، وقد جادلهم إبراهيم عليه السلام فيما يعبدونه من أصنام، كما ناقشهم في عبادة الشمس والقمر والنجوم، قال الله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:51 - 56]. وفي موضع آخر يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:69 - 82]. وفي بلاد الهند عبد الناس الأشجار والأحجار والثعابين والفئران، وقال فلاسفتهم بوحدة الوجود، وعندهم الديانة البرهمية التي تزعم أن طبقة البراهمة خلقوا من رأس الإله برهمان، وطبقة الجن خلقوا من منكبيه وذراعيه، والزراع والتجار والعمال من فخذيه، والأرقاء من قدميه، ومنعوا ارتفاع الإنسان إلى طبقة فوق طبقته، وقال فلاسفتهم أيضاً بالتناسخ، أي: أن فروح الإنسان بعد الموت قد تحل في ابنه أو أخته أو أخيه أو إنسان آخر أو في خنزير أو كلب، ولهم في ذلك فلسفات يضيق الوقت عن ذكرها. وأله الناس البشر وعبدوهم من دون الله، وزعموا أن الآلهة تحل في بعض البشر، أو أن بعض الملوك من نفس الآلهة، فملوك المصريين القدامى كانوا ينصبون أنفسهم آلهة، وتقدم لهم الهدايا والقرابين ويعبدون في المعابد، وقد قال فرعون لأهل مصر: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. وهناك ديانات كثيرة، ومن أقدمها عبادة زرادشت في القرن السابع قبل الميلاد، وقد ادعوا أنه إله، وعقدوا حوله الأساطير. ثم جاء مان بعد ميلاده بأكثر من مائتي عام، وقال بقدم النور والظلمة فهما إلهان، وادعى مان أن الجسد سجن للروح، ولا بد من تخليص الروح من سجنها بإبادة الجنس البشري، وهذه فلسفته! فما كان من الملك وقد سمع بدعواه إلا أن أمر الجلاد بقطع رأسه ليخلص روحه من سجنها. وجاء مزدك في فارس بالشيوعية، فلا ملكية ولا زواج، بل تباح النساء والأموال من غير ضابط، ونادى بإلغاء القوانين بحجة أنها تحول بين الإنسان وما يشتهي، وقال بألوهية النور والظلام، وكانت النيران لا تخبو من معابد الفرس، وكانوا يسجدون لها.

فشل الفلاسفة في إضاءة الطريق للبشرية

فشل الفلاسفة في إضاءة الطريق للبشرية برز على مر العصور فلاسفة كثيرون بهروا الناس بسعة علمهم، وبقدراتهم العقلية الرائعة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من البيئات الوثنية التي كانوا يعيشون فيها، ولم يستطيعوا أن يضيئوا الطريق للبشرية، ومن أبرز الفلاسفة: أفلاطون الذي قال بوجود أرباب من دون الله، وقد أراد بنظريته الشركية هذه أن يعلل ما هو موجود في العالم من شر ونقص وألم، فالخير عنده كله من العقل المطلق، والعدل كله من الهيولي -مادة الخلق- والوجود عنده طبقتان متقابلتان، فالعقل المطلق هو الخالق للخير، وبين العقل المطلق والهيولي -مخلوقات هذه المواد- كائنات على درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل المطلق، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي، وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب، وبعضها أنصاف أرباب، وبعضها نفوس بشرية، وقال أيضاً بتناسخ الأرواح. وادعى كثير من الفلاسفة أن العالم قديم أزلي، فلم يحصل البشر على الهدى والنور من الفلاسفة.

تكذيب الأمم للرسل

تكذيب الأمم للرسل إن الضلال في تاريخ البشرية كثير ومتشابك تشابك الطرق في صحراء ليس لها حدود، وهو ضلال متداخل ملتوٍ معوج، وقد استمر الوحي السماوي يواكب البشرية والحياة الإنسانية {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، والرسل الذين أرسلهم الله أوصلوا صوت الحق إلى جميع الأمم، ولكن البشر في كل العصور يرفضون الاستجابة للرسل، فنجدهم يقفون منهم موقف المعاند المكابر، ويكذبونهم ويتمردون على وحي السماء، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} [المؤمنون:44] أي: متتابعة {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [المؤمنون:44]. فلقد كان موسى من أعظم الرسل الذين أرسلهم الله إلى بني إسرائيل، وأنزل عليه شريعة التوراة، ولم يستطع كثير من بني إسرائيل أن يرتفعوا إلى مصاف المؤمنين، ولم يطيقوا إظهار الحقيقة بعيداً عن الخرافات والضلال والأوهام، فأنجاهم الله من فرعون، فما كادت تخرج أقدامهم من البحر الذي شقه الله لهم حتى جاءوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لنبيهم: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] أي: اجعل لنا صنماً نعبده. ونسبوا إلى الأنبياء الكبائر والفواحش، وأضاعوا العقيدة الصافية التي هي سمة العقيدة الإلهية التي تصل الناس بربهم، وكتب علماؤهم التلمود، وقد سبقوا بتلمودهم أهل الشرك والوثنية، فلقد صوروا الله تبارك وتعالى في تلمودهم إنساناً يلطم ويبكي ويستغفر ويذنب ويكفر عن ذنبه. وقد حدثنا الله عن تلاعب بني إسرائيل بالتوراة، فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، وقال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]. ثم جاء عيسى بن مريم بالإنجيل فيه هدى ونور يدعو إلى عبادة الله وحده، والكفر بما يعبد من دونه، ولكن النصارى اختلفوا من بعده، ولم يمض وقت طويل حتى اختلفوا في كتابهم، فعدت الأناجيل فإذا هي تزيد على السبعين في ذلك الوقت! واختلفوا في طبيعة المسيح، فمنهم من قال: هو عبد الله ورسوله، ومنهم من قال: هو الله أو ابن الله، ثم اختلفوا فمن قائل يقول: له طبيعتان: طبيعة إلهية وطبيعة بشرية، وبينهما وحدة، ومن قائل يقول: إن له طبيعة واحدة وهي الإلوهية، وتجسده في الصورة البشرية لا ينافي ألوهيته. وقد عقد قسطنطين الذي تنصر مجمعاً في عام 325 للميلاد قرر فيه ألوهية عيسى، وعلى الرغم أن الذين قالوا بألوهية المسيح كانوا قلة إلا أنهم هم الذين غلبوا؛ لأن الحاكم يريد هذا، وكفروا من لا يقول بذلك. وفي عام 381م اجتمع المجمع القسطنطيني الأول وقرر ألوهية روح القدس، ولعن الذين لا يقولون بألوهيته، وصارت الألوهية عند النصارى في ثلاثة أقانيم متداخلة: الأب والابن وروح القدس، وما مقالتهم هذه إلا مباهاة لقول الذين كفروا من قبل، فألهوا البشر والمخلوقات وعبدوها من دون الله.

انبلاج النور الذي أضاء الطريق للبشرية

انبلاج النور الذي أضاء الطريق للبشرية قبيل البعثة النبوية المحمدية لم يبق في فجاج الأرض من نور الوحي إلا شموع قاتمة وباهتة لا يكاد الناس يعرفون في ضوئها معالم الطريق، ولا تصلح لهدايتهم إلى الحق الخالص من الشوائب، وكان العالم كله كذلك، ولا سيما الجزيرة العربية التي انتشرت فيها عبادة الأصنام والأوثان، وكانت العرب تعبدها لتقربهم إلى الله زلفى، فجاء رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنور المبين، والصراط المستقيم، والحق الأبلج، وفتح الله به العيون العمياء، والآذان الصماء، وأنار به القلوب، وأظهر الله به الحق، وعرف الناس بربهم، وأقام العباد على الحنيفية ملة إبراهيم، وبين للناس ما اختلفوا فيه، وبين الضلال الذي وقع فيه اليهود، وقال كلمة الحق في عيسى. ثم توفي الرسول صلى الله عليه وسلم فحفظ الله كتابه الذي أنزله، وهيأ صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فجمعوا الكتاب في المصاحف، ونشروه في الآفاق وجمعوا عليه الأمة، وحفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورثوها لمن جاء بعدهم، وبلغوا دعوة الله للعالمين، ونشروا هذا الدين، ولم يجد عدوهم إليهم سبيلاً.

بداية دخول العقائد الضالة على المسلمين

بداية دخول العقائد الضالة على المسلمين حدثت الفتنة في عهد الصحابة، وانقسمت الأمة إلى قسمين، وعلى الرغم من الشمل، واجتمع أمر الأمة على رجل منها، إلا أن الخلاف لم ينته، وعلى الرغم أن الخلاف ابتدأ سياسياً إلا أن الأطراف المتنازعة أوصلت الخلاف إلى هذا الدين، فوجدت العقائد الكفرية والفلسفات الضالة -التي كانت سائدة قبل الإسلام- باباً تدخل منه إلى المسلمين حال تفرقهم واختلافهم. فلقد غلا بعض الناس الذين يريدون إضلال العباد في علي بن أبي طالب، وجعلوه أحق بالنبوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من زعم فيه الألوهية، واتخذوا هذا باباً لهدم الإسلام وسب الصحابة ومعاداتهم، وانقسم هؤلاء إلى فرق كثيرة، بعضها قريبة من الحق وبعضها بعيدة، وبعضها بين ذلك، وأصبح لكل فرقة أصولها وعقائدها ومناهجها. وسخط آخرون على علي بن أبي طالب، ومعاوية ومن معهما فكفروهم، ونسبوا فعلهم هذا إلى الدين، فقالوا: كل من ارتكب كبيرة فهو كافر، واستباحوا دماء مخالفيهم وأموالهم ونساءهم، فقاتلهم الصحابة، وهؤلاء هم الذين عرفوا في التاريخ باسم الخوارج، ولهم عقائد ومناهج، ولا تزال أفكارهم تثور بين الفينة والفينة، وفي نهاية عهد الصحابة خرج قوم يزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف، فقام لهم من بقي من الصحابة، ودحضوا مقالتهم، وأبطلوا شبهتهم. ثم بدأت المقالات الضالة المتلقاة من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئة تنتشر في أوساط المسلمين، ومن أوائل من عرف عنه ذلك الجهم بن صفوان، فقد أخذ مقالته عن الجعد بن درهم، وهذا أخذ مقالته -كما يقول ابن تيمية - عن أبان بن سمعان، وأخذها هذا عن طالوت ابن أخت لبيد الأعصم اليهودي، وهذا أخذها عن لبيد بن الأعصم. وكان الجعد بن درهم من أرض حران، وحران موطن الصابئة، وفيها بعض فلاسفتهم، وقد ذكر الإمام أحمد أن الجهم أخذ مقالته أيضاً من بعض فلاسفة الهند. والجهم كان صاحب ضلالة تنسب إليه، وأتباعه يسمون بالجهمية، وهم ينفون صفات الرب وأسمائه، وشيخه الجعد بن درهم الذي زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وأعمل في النصوص التي لا توافق رأيه مقاييس التأويل الذي يصل إلى درجة التحريف. ثم لما دخلت الفلسفات الرومية واليونانية في أوائل المائة الثانية زاد البلاء، وكثرت التيارات العقائدية والفكرية، وغزت عقول طوائف من المسلمين، مثل واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، ونشأت فرق مختلفة، ومن أشهرها المعتزلة الذي ابتدأ أمرها واصل بن عطاء، ويزعم المعتزلة أنهم يريدون أن يدافعوا عن الدين ضد الملحدين والنصارى والفلاسفة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، بل تبنوا نظريات وآراء أحدثت فرقة بين المسلمين، وتبنى بعض الخلفاء العباسيين وجهة نظرهم، فابتلي المسلمون في عصور هؤلاء الخلفاء الذين تبنوا الاعتزال، وقام علماء المعتزلة -الذين يسميهم المستشرقون اليوم برجال الفكر والأحرار- بالحجر على فكر المخالفين، وتكفير من لم يتبنَ أصولهم، وقد زعموا أن التوحيد يقتضي نفي الصفات، خشية الوقوع في التشبيه، وقالوا: لا يكون التوحيد إلا إذا نفينا صفات الخالق، وزعموا بناء على ذلك أن القرآن ليس بكلام الله. وهذه الفتنة حدثت في عهد المأمون والخلفاء الذين من بعده، وقد وقف في وجههم الإمام أحمد كما هو معروف. كما زعموا أن العدل يقتضي أن العبد هو خالق فعله، وأن الله ليس الخالق لأفعال العباد، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر في الدنيا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وفي الآخرة هو كافر مخلد في النار، وقد وقف في وجههم العلماء الأجلاء، ولكن المعتزلة تركوا لنا تراثاً ضخماً ليشرحوا أصولهم ونظرياتهم، ومن أوسعها كتاب: (المغني) للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وكتاب: (شرح الأصول الخمسة) للقاضي عبد الجبار أيضاً، وهما مطبوعان. ولقد انخفضت المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المتوكل، ولكنهم صبغوا الفكر الإسلامي بكثير من نظرياتهم ومعتقداتهم، ومن الذين هدموا مذهب المعتزلة بعض الذين نشئوا على الفكر المعتزلي، أمثال: أبي الحسن الأشعري المتوفى في سنة 324هـ، وقد بقي معتزلياً أربعين عاماً، ثم رجع إلى مذهب السلف، وعلى الرغم من أن أبا الحسن الأشعري اقترب إلى مذهب السلف إلى حد كبير إلا أنه لم يتخلص من أساليب المعتزلة وقواعدهم العقلية ومصطلحاتهم، وهذه الطريقة تؤدي بصاحبها إلى نتائج مخالفة لعقائد الأوائل مهما ادعى أصحابها أنهم يسيرون على نهج السلف. ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقبل المعتزلة والأشاعرة وبعدهم نشأت فرق كثيرة كالمرجئة والماتريدية والكلابية وغيرها. وكل فرقة من هذه الفرق لها بعض المعتقدات التي تخالف بها غيرها، ووراء كل معتقد من هذه المعتقدات فلسفات وتأويلات، وكل الفرق المخالفة لمنهج السلف غالت في تقدير العقل، وقدمت حكمه على حكم الشرع، واستعملت الموازين والمقاييس العقلية في محاكمة القضايا الغيبية، وابتعدت هذه الفرق عن الكتاب والسنة بنسب متفاوتة، ولجأت كثير من هذه الفرق إلى تأويل النصوص التي لا توافق آراءها ومعتقداتها، وقد غاب عن كثير من هذه الفرق كثير من حقائق الإسلام. وقد اختلف علماء الكلام في الصفات الإلهية، وفي الصلة بينها وبين ذات الله، وفي إمكان رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة، وفي مسألة العدل والجور، والقضاء والقدر، ولم يغادروا مسألة كبيرة أو صغيرة إلا واختلفوا فيها اختلافاً كثيراً أو قليلاً، وقد جعل المتكلمون صفات الله كما لو كانت صفات الإنسان!

حفظ الله الدين بالعلماء الربانيين

حفظ الله الدين بالعلماء الربانيين ونحن اليوم ورثنا عن المدارس الفكرية والعقائدية شيئاً كثيراً من الأفكار والمعتقدات، ووجدتْ في أيامنا هذه معتقدات جديدة في الشرق والغرب، وقد غزت ديارنا وعقولنا ومناهجنا فماذا نفعل؟ وكيف نتصرف؟ لقد كان من فضل الله علينا أن حفظ لنا قرآننا وسنة نبينا، فلم يحدث لنا كما حدث للأمم من قبلنا الذين ضلوا بعد أن ضاعت أو حرفت كتبهم، وكان من فضل الله علينا أيضاً أن أبقى معالم الحق واضحة في هذا الدين في معتقداته وشرائعه، وهدى في كل زمن طائفة التزمت بالحق وأظهرته، وقد قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، وقد تمثلت هذه الطائفة في سلف هذه الأمة، من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم من العلماء الذين ساروا على دربهم واهتدوا بهديهم، أمثال الأئمة الأربعة وغيرهم، كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، والليث بن سعد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم كثير. وحال سلفنا الصالح وأقوالهم وعقيدتهم كل ذلك مدون، وطريقهم ليس فيه خفاء، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، وعندما سئل عن الفرقة الناجية المنصورة قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). ومنهج هذه الفرقة الناجية المنصورة هو المنهج الإيماني القرآني النبوي، ويقابل هذا المنهج السلفي المنهج الكلامي، والمنهج الفلسفي الصوفي، فالمنهج الإيماني القرآني يقابله منهجان: منهج الفلاسفة المتكلمين، ومنهج الصوفية. ويختلف المنهج القرآني النبوي عن المنهج الفلسفي في مصادره ومنابعه، وفي طريقه وسبيله، وفي قوة تأثيره وسيطرته، وفي الأسلوب وطريقة الاستدلال، وفي الغاية التي يرمي إليها. وقد حارب أئمة السلف الاتجاه الفلسفي الكلامي والصوفي الذي يريد أن يأخذ الأمة بعيداً عن المنهج الإيماني القرآني النبوي، فحارب هذا الاتجاه الإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام ابن خزيمة، والإمام البخاري وغيرهم من أئمة الهدى. وفي كل عصر يظهر الله من العلماء والأئمة من يظهر هذا النهج القويم الذي يحيي النفوس ويهدي للتي هي أقوم، ومن أعظم الذين قيضهم الله لنصرة هذا المنهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد كان ذا عقل ثاقب وفكر راجح، وقد أحاط بأحوال العلماء، ووفق للصواب، ونفع الله به البلاد والعباد، وتتلمذ على يديه علماء أعلام، كـ ابن القيم وابن كثير. ومن العلماء الذين هدوا للمنهج الإيماني القرآني النبوي في العصور الأخيرة: الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي ظهر في القرن الثاني عشر الهجري في وسط نجد، فحارب الشرك والباطل ونصر الحق، وقام بنشر كتب العلم الأصيلة، ومنهم محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف بالأمير الكحلاني صاحب سبل السلام، ومنهم العلامة الشوكاني صاحب نيل الأوطار، وهما من علماء اليمن الأخيار. وقد ورثنا عن أصحاب المنهج الإيماني القرآني النبوي كثيراً من الكتب التي توضح معتقد أهل السنة والجماعة، وتحارب المنهج الفلسفي الكلامي، وتبين معايبه، ومن خير هذه الكتب: العقيدة الطحاوية، ومؤلفها هو: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصري الحنفي، المتوفى في سنة 321هـ، وقد شرحها شرحاً قيماً رائعاً صدر الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي. واليوم والأمة الإسلامية تحاول أن تنهض من كبوتها، وتقوم من عثارها، تتلفت إلى الماضي لتبني نهضتها على أساس من عقيدتها وتراثها.

التراث فيه الغث والسمين والحق والباطل

التراث فيه الغث والسمين والحق والباطل يجب أن يعلم أولو الرأي والمفكرون أن تراثنا فيه الغث والسمين، وفيه الخير والشر، وفيه الهدى والضلال، وأن تراثنا يمثل تراث المدارس المختلفة، وكثير من هذه المدارس لم تكن على المنهج الواضح، ولذلك فإن السبيل لنهضة صادقة هو: أن نعود إلى المنهج القرآني النبوي الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهو واضح المعالم، وكتبه ظاهرة بينة ليس بها خفاء، وإنني ألفت نظر رجال الفكر إلى خطورة ما يقوم به المستشرقون، وبعض الذين غرر بهم من أبناء المسلمين من إحياء الفكر المعتزلي الكلامي هنا وهناك، وتهديد الناشئة من أبناء المسلمين به، وهناك فريق آخر يحاول أن يحيي الفكر الفلسفي الذي ينادي بوحدة الوجود، والمتمثل في كتب ابن عربي، والحلاج، وابن الفارض، وابن سبعين وغيرهم. إن المنهج الفلسفي الكلامي والمنهج الفلسفي الصوفي لم يستطع كلاهما أن يقيم الأمة من عثارها، بل كان من نتيجة منهجهم البلاء الذي أصاب الفكر الإسلامي، وحدوث شرخ هائل في هذا الفكر، وقد أحدث علماء الكلام في الماضي من الخلاف والفرقة والانقسام ما يكفي بعضه لهجر هذا المنهج، وقد أقعد المنهج الصوفي المسلمين عن الجهاد ومحاربة الشرك، وكان من أسباب الضياع الذي أصاب المسلمين، ولم يفلح المنهجان في إصلاح حال الأمة، ولم يستطيع أحدهما أن يصد هجمات الخصوم الفكرية والعقائدية، فحري بهما ألا يستطيعا إصلاح حال الأمة في الحاضر، وألا يستطيعا مواجهة العقائد التي يموج بها القرن العشرين في شرق العالم وغربه. إن الذي يحارب المنهج الإيماني القرآني النبوي الذي يتمثل في المنهج السلفي هو أحد رجلين: إما جاهل بهذا المنهج لا يعلم حقيقته، وإما عدو حاقد لا يريد بالأمة خيراً، وبعض هذين الصنفين لجأ إلى تحريف المنهج الخير إذ بدأ يكتب في المنهج ليحرفه ويفسده، وظهرت كتب ظاهرها أنها كتب سلفية، والحقيقة أن فيها انحرافاً وعودة إلى المنهج الاعتزالي، ولكن باطل هؤلاء لا يروج على من عرف المنهج والسبيل. وفي الختام أقول كما قال إمام دار الهجرة أنس بن مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأقول كما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

بيان منهج الأشاعرة ومدى قربه من منهج أهل السنة

بيان منهج الأشاعرة ومدى قربه من منهج أهل السنة Q ما موقف أهل السنة والجماعة من الأشاعرة؟ وما مدى صحة القول: بأن الأشاعرة من أهل السنة والجماعة، وجزاك الله خيراً؟ A أنا ذكرت أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله كان معتزلياً، ثم اقترب جداً في نهاية أمره من أهل السنة والجماعة، وفي كتابه: مقالات الإسلاميين، وفي كتابه: الإبانة، نجد فيهما عقيدة إسلامية جيدة واضحة، ولكنه لم يتخلص من الاعتزال تماماً، وخاصة أنه يذكر المصطلحات الفلسفية والكلامية التي تجري على أسلوبه، وكان يدافع عن ذلك. والمشكلة أن بعض أتباعه يرفض أن يكون أبا الحسن الأشعري رجع إلى هذه العقيدة الصافية التي نجدها في كتابه الإبانة، فلم يلتزم بما صار إليه في آخر حياته، وبقي قسم من الأشاعرة لهم منهج يخالف نوعاً ما منهج أهل السنة والجماعة.

حاجة المسلمين للعقيدة الصحيحة وبيان ضوابطها

حاجة المسلمين للعقيدة الصحيحة وبيان ضوابطها Q هناك شبهات تثار حول الفرق العقائدية وهي: أن الوقت الآن ليس وقت دعوة إلى عقيدة؛ لأن الدعوة إلى تفاصيل العقيدة كالأسماء والصفات تشغل المسلمين وتفرقهم، وبالتالي يغزون في عقر دارهم من قبل الشيوعيين وغيرهم من الكفار، وهذه التفاصيل في العقيدة لم يطالب بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة، فما مدى صحة هذا القول؟ A العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي يقوم عليه الدين الإسلامي، فالعقيدة الإسلامية في غاية السهولة واليسر، وهناك أمران في العقيدة: أمر في غاية الصعوبة، وأمر في غاية السهولة، فالوصول إلى العقيدة الصافية من خلال الاختلافات العقائدية أمر صعب، إلا على من وفقه الله إليه، لكن الحق الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من العقيدة سهل ميسر، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بها الناس ويتعلمونها في جلسة، ولا زلنا إلى اليوم يستطيع الرجل العادي منا أن يفهم العقيدة السليمة في جلسة واحدة أو في جلستين، لكن الصعب هو أن تصل إليها من خلال هذا الاختلاف الضخم من الفلسفات والتناقضات التي تركت لنا من ميراث المدارس المختلفة. وأما أن العقيدة لا نحتاج إليها في البناء فهذا كلام خاطئ، نعم، نحن لا نحتاج إلى عقيدة المعتزلة، ولا نحتاج إلى عقيدة ابن عربي، والحلاج، والفرق الضالة، لكن العقيدة الصافية المأخوذة من الكتاب والسنة السهلة الفطرية لا بد منها. وأحب أن أبين هنا أن هناك فرقاً بين العقيدة وبين ضوابط العقيدة، فالعقيدة تكون بالإيمان بالله تبارك وتعالى وبمعرفة صفاته من خلال النصوص، فمن صفات الله سبحانه وتعالى: الرحمة، والعلم، وهذا جزء من العقيدة، وهو أن يعرف المسلم سعة علم الله، وعظم رحمة الله تبارك وتعالى من خلال ذكر القرآن لهذه الصفات، وهذا أمر لا بد منه، وهذا هو الذي يحيي النفوس ويحيي القلوب، ونحن نتصل بالله ربنا من خلال صفاته ومن خلال أسمائه، فالله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا، فهو غيب في الدنيا، وهو الذي عرفنا بنفسه، ولب القرآن هو معرفة الله، فنحن نعرف الله من خلال أسمائه وصفاته، فكيف يحجر على المسلمين أن يعرفوا ربهم ومعبودهم وفاطرهم؟! وأعظم قضية أن تعرف صفات الله تبارك وتعالى وأسماؤه، فهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة)، عبثاً؟! وهل ختم آيات القرآن بسميع بصير، وعليم حكيم، وخبير، عبث. وهناك ضوابط للعقيدة ذكرها العلماء حتى لا يضل الإنسان وهو يسير في حياته إذا جاءته فكرة خارجية، أو فكرة معتزلية، فقد وضع علماء السلف هذه العقيدة السهلة في صفحات معدودة، بينما تجد كتب المعتزلة كبيرة جداً، مثل كتاب عبد الجبار المعتزلي المطبوع في عشرين مجلداً! لكن العقيدة الإسلامية الصحيحة كثير من علماء المسلمين كتبها في صفحات، وهي عقيدة كافية؛ لأنها ضوابط لمعرفة الله تبارك وتعالى من خلال النصوص القرآنية، والنصوص الحديثية، وهكذا معرفة الملائكة تكون من خلال القرآن والسنة، ومعرفة اليوم الآخر تكون من خلال القرآن والأحاديث، ووصف الجنة والنار تكون كذلك من خلال الآيات والأحاديث، فهذه هي العقيدة التي يتحدث عنها القرآن. بعد ذلك هناك ضوابط للعقيدة نحن بحاجة إليها حتى لا نضل، وهذه الضوابط لا تملأ قلبك إيماناً، ولكنها تمنعك عن الانحراف، والذي يملأ قلب الإنسان إيماناً هو أن تعرف صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه وأفعاله، وتعرف ربوبيته من خلال آيات القرآن الكريم، يقول الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:30 - 33]، فتأمل في معاني الآيات، وبعد ذلك انظر كيف يكون قلبك، ومدى قربه من الله تبارك وتعالى.

القرآن الكريم والحديث الصحيح هما مصدر العقيدة

القرآن الكريم والحديث الصحيح هما مصدر العقيدة Q ما مدى ارتباط صحة الحديث وضعفه بالعقيدة؟ A مصادر العقيدة عند أهل السنة وعند الأئمة الأربعة مثل الإمام أحمد، والإمام الشافعي، وأئمة أهل الحديث هي: القرآن وصحيح الحديث، وقد خالفت المعتزلة في هذا وقالوا: لا نقبل من الحديث غير المتواتر، سواء في العقيدة أو في غير العقيدة، ثم جاء بعض علماء الأصول المتأخرين، فقالوا: العقيدة لا تؤخذ من أحاديث الآحاد ولو كانت صحيحة، ولا بد أن يكون الحديث متواتر، وهذا كلام غير صحيح، لأن القرآن وصحيح الأحاديث هما مصدرا العقيدة، والعقائد توقيفية، أي: أنها لا تؤخذ إلا من القرآن وصحيح الحديث. وكثير من المتأخرين أخذوا برأي المعتزلة في العقائد فقط، فقالوا: الأحاديث الصحيحة التي ليست متواترة هي حجة في الأحكام فقط، ولا يصلح أن تكون حجة في العقائد، وقد نسب هذا للأئمة القدامى، وهذا كذب، فالإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام مالك وغيرهم لم يقولوا هذا القول، ولا نجد لهم في هذا قولاً. وأما الصوفية فيقولون: لا حاجة للقرآن والأحاديث، لكن حدثني قلبي عن ربي، وأنا أعرف بقلبي ما يعرف ربي!

بيان عقيدة الإمام الغزالي

بيان عقيدة الإمام الغزالي Q ما عقيدة الإمام أبي حامد الغزالي التي مات عليها؟ A الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تقلب كثيراً، فهو يصلح لأن يكون انموذجاً لما كان يعانيه المسلم في تلك الفترة من الصراعات الفكرية والعقائدية، فتجده مرة مع المعتزلة، ثم تجده مرة مع الأشاعرة، ثم تجده مرة مع الفلاسفة، لكن ذكر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه رجع في الأخير إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، ويقال: إنه مات وصحيح البخاري على صدره. وكثير من العلماء بعد مرحلة طويلة يرجع إلى الصواب مثل الرازي، والجويني، والشهرستاني وغيرهم، ونرجو أن يكون الغزالي من طلاب العقيدة، لكن في مسيرته تعثر كثير، ويوجد صفحات مشرقة في كتبه وصفحات مظلمة، ونرجو للرجل أن يكون من أهل الخير، لكن نحن نحكم على الخطأ أنه خطأ، وعلى الصواب أنه صواب.

حكم من يؤول الصفات

حكم من يؤول الصفات Q ما قول العلماء فيمن يؤول الصفات؟ A تأويل الصفات خطأ، وقد حكم العلماء على من فعل ذلك بالضلال، ثم إن هذا التأويل يتفاوت من جماعة إلى جماعة، ولكنه كمنهج مرفوض من علماء أهل السنة والجماعة. والجهمية الذين يؤولون التأويل الشديد قد كفرهم العلماء، لأنهم نفوا كل صفات الله تبارك وتعالى، وقالوا: لا يثبت التوحيد إلا إذا نفينا الصفات. وأما بالنسبة لبقية الفرق فهم في ضلال بنسب متفاوتة، لأن الإنسان في نفسه إذا كان مجتهداً أمثال بعض العلماء الكبار، مثل ابن حجر العسقلاني وغيره الذي يؤول في بعض الأمور، فهؤلاء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم: نرجو أن يكون لهم عذراً عند الله؛ لأن هذا مبلغ اجتهاده، وهذا الذي عرفه، لكن التأويل كمنهج مقابل للمنهج الإيماني القرآني النبوي لم يعرف عن الصحابة ولا عن السلف ولا عن الأئمة، إلا في بضع مواضع يستحيل إجراؤها على ظاهرها، وأما المنهج العام عند المسلمين فهو فهم النصوص كما جاءت عن الله تبارك وتعالى من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، بل يؤمنوا بها كما وردت عن الله تبارك وتعالى.

أمثلة للكتب التي تتسمى بالسلفية وليس لها أي علاقة بها

أمثلة للكتب التي تتسمى بالسلفية وليس لها أي علاقة بها Q ذكرت أن هناك كتباً باسم السلفية، ولكنها تؤدي إلى الانحراف عن المنهج، فهلا سميت لنا بعض هذه الكتب على سبيل المثال؟ A يوجد كتاب وهو رسالة دكتوراة قدمت إلى الأزهر بعنوان: المدرسة السلفية ورجالها، وهو للدكتور محمد عبد الستار، وقد تعرض فيه لفكر ابن تيمية رحمه الله، ويقول: إن نهاية ما وصل إليه أحمد بن تيمية ليس على منهج السلف، وما كان عليه الإمام أحمد رحمه الله ليس كما يظن أهل السنة والجماعة، أو الذين يسمون أنفسهم بالسلفيين في هذه الأيام. ويقول: ليس هناك فرق بين المعتزلة وبين الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن إلا اختلاف شكلي. وقد وصل إلى نتائج أثبتها في آخر كتابه، ولو سمى بحثه بعنوان آخر غير هذا العنوان لكان أفضل بكثير، أما هذا العنوان فلا. وهناك كتب كثيرة في هذا الاتجاه، وهذا أمر خطير؛ لأن هؤلاء الناس يخطئون كثيراً باسم العلم والمنطق والفهم.

معنى المتشابه من الصفات

معنى المتشابه من الصفات Q هل نصوص الأسماء والصفات من المتشابه الذي لا يجوز الخوض فيه؟ A إذا كان المراد أنها من المتشابه؛ لأننا لا نعرف حقيقة الصفات فهذا الكلام صحيح، أي: نحن نعرف أن الملائكة لهم أجنحة لكن لا نعرف حقيقة أجنحة الملائكة، وكذلك نعرف أن في الجنة ثماراً وعنباً ورماناً وفاكهة ذكرها الرحمن ولكننا لا نعرف حقيقتها. وإن كان المراد أننا لا نعرف معنى الصفة، فلا نعرف معنى الرحمة، ولا نعرف معنى القدرة، ولا نعرف معنى العلم، ولا نعرف معنى الحكمة، فهذا خطأ، لأن صفات الرحمن نعرف معناها، قال الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، قال: الاستواء معلوم، أي: معلوم معناه والمجهول هو كيفيته، والإيمان به واجب؛ لأن الله أخبر بذلك، والسؤال عنه، أي: عن الكيفية بدعة، فلا تسأل عن الكيفية، فالله موجود ومعنى الوجود نحن نعرفه، لكن كيف هو موجود؟ لا نعرف، فالكيفية نجهلها، والله سبحانه وتعالى له سمع ونحن نعرف المعنى، لكن كيف السمع؟ لا نعرف الكيف، فنحن نؤمن بالمعنى ونفهم المعنى؛ لأن هذا كلام باللغة العربية. فإذا أراد من قال: إن صفات الله من المتشابه أننا لا نعرف كيفيتها فلا بأس بذلك، أما إذا أراد أننا لا نعرف معناها فلا. وكثير من الناس يحسبون أنها من المتشابه فلا نعرف معناها، إذاً فلا فرق عندهم بين قدير وعليم وخبير وسميع، وهذه كلها ليس لها معنى، وهي كلمة واحدة، وهذا يعود إلى قول الجهمية القدامى، فإنه لا فرق عندهم بين صفة وصفة!

بيان مذهب الإمام الشوكاني

بيان مذهب الإمام الشوكاني Q هل صحيح أن الإمام الشوكاني كان فترة من الزمن على غير منهج السلف؟ A العلماء في اليمن هم من الزيدية، والإمام زيد رحمه الله من الشيعة الذين لم يغلوا غلواً كبيراً في علي بن أبي طالب، بل هو أفضل من غيره، وتولية المفضول مع وجود الفاضل لا بأس بها لاعتبارات معينة، ولكن لم يكن يسب الشيخين أبا بكر وعمر وبقية الصحابة، وحتى أن كثيراً من أتباعه عندما سمعوا منه ذلك رفضوه فسموا بالرافضة. والزيدية في اليمن على مذهب زيد، لكن مع الأسف الشديد حصل منهم غلو في العصور الأخيرة كما يذكر الإمام الشوكاني في كتابه: (آداب الطلب) فيذكر أهوالاً كانت في عصره من كثير من الزيدية، لكن مع ذلك بقي الحق موجود في المذهب الزيدي، وكثير من علماء المذهب الزيدي أئمة مجتهدون وفقهاء، فقد يكون في بداية النشأة يتأثر الواحد منهم، والإمام الشوكاني كتب سيرته بنفسه في كتابه البدر الطالع، والمسألة عنده كانت واضحة وضوحاً شديداً فيما أعلم، والله أعلم.

الواجب على المسلم إحياء التراث الإسلامي

الواجب على المسلم إحياء التراث الإسلامي Q ماذا يجب على المسلم في هذا العصر أن يفعله لإحياء التراث الإسلامي في مجاله الشخصي وفي مجاله العام طوال السنة حتى نكون عمليين؟ A لا بد من العمل، مثل: أن يتجمع المسلمون من كل مكان فينشئون جمعيات ومكتبات لنشر التراث، ثم يُنتقى التراث على درجات متفاوتة، ما بين كتب كبيرة وصغيرة ومتوسطة، ثم ينشر ويقرر في الجامعات والمدارس، ويُعرَّف بكتب في النشرات والإعلانات تتحدث عن التراث الإسلامي. والآن في هذا العصر نقرأ في الصحف أحياناً إعلاناً فنظنه عن كتاب نافع فإذا به إعلان عن كتاب سيء! فوسائل الإعلام الآن لها طرق كثيرة لجلب الناس لقراءة الكتب والصحف، فينبغي للمسلمين أن يستخدموا هذه الوسائل، وأن يكون عندهم علم ليحيوا هذا التراث. والكثير من الناس يريد أن ينشر الإسلام فينشر كتاباً سيئاً قد يهدم الإسلام، فلا بد من تبصير الناس بالأصول وبالمفاهيم وبالعقائد السليمة وبالعقائد الزائغة، وبالكتب السليمة والكتب غير السليمة، وهذا أحد الأمور، ثم بعد ذلك الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة، وإنشاء المؤسسات التي تعتني بالتراث، وتبصر الناس بالكتب النافعة، وهذه أسباب تؤدي -إن شاء الله- إلى نتائج طيبة.

عداء اليهود للمسلمين

عداء اليهود للمسلمين إن العداء اليهودي للإسلام وأهله عداء أزلي، فمنذ القدم وهم يكيدون ويمكرون بأمة الإسلام، ولن ينتهي هذا العداء وتنتهي آثاره إلا بوحدة الصف الإسلامي، وإعادة البناء المرصوص على أساس التوحيد، والدفاع عن الدين ومقدساته، وبوضع ورمي الشعارات والمناهج الزائفة التي لم تحصد الأمة من بعدها إلا الذل والمهانة.

حقيقة عداء اليهود للإسلام وأهله

حقيقة عداء اليهود للإسلام وأهله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: تمكن المسلمون من فتح الأندلس، ثم خرجوا منها وليس ذلك بسبب قوة أعدائهم، وإنما بتفرق كلمتهم وتجزئهم وانقسامهم، فأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم، وخرجوا من تلك الديار بعد أن عمروها مئات السنين، وبعد أن كان يرتفع فيها صوت الأذان، ويحكم فيها بشرع الله سبحانه وتعالى، فلما تفرقوا وتجزءوا وأصبحوا دولاً؛ أزال الله سبحانه وتعالى دولتهم، وتخلى نصر الله سبحانه وتعالى عنهم، وهذه حال كل من فعل هذا الفعل وسار في هذا الطريق. واليوم في وسط بلاد المسلمين تقوم دولة لليهود اغتصبت جزءاً من ديار المسلمين في أول الأمر، ثم زادت عليه فأخذت فلسطين كلها، وأخذت أجزاء أخرى من بلاد المسلمين، وهي تطمع غداً في احتلال الأردن وسوريا ومصر والعراق، وتصل إلى منابع النفط، وإلى المدينة المنورة، وإلى خيبر حيث كان يقيم آباؤهم وأجدادهم في الماضي. فهذه مطامعهم ولا يخفونها، وهذه خارطتهم يوزعونها على أبنائهم في مدارسهم، ورفعوها شعاراً لهم فوق مجلس الأمة الذي يسمى بالكنيست، وينادون بها في محافلهم ويكتبونها في كتبهم، ثم بعد ذلك نجد الذين يحكمون بلاد المسلمين يمدون أيديهم إلى اليهود يريدون أن يفاوضوهم، ويريدون أن يجتمعوا بهم، ويرضوا بأن يتقاسموا معهم فلسطين! والمنظمة التي قاتلت أكثر من خمسة عشر عاماً يقول زعماؤها اليوم: إننا نرضى بشبر من فلسطين نقيم عليه دولة الفلسطينيين! يريدون قطعة أرض يقيمون عليها دولة فلسطين، وليس هناك حاكم من حكام الدول العربية إلا وقد صرح بأنه إذا قبل اليهود بالتقسيم ورضوا بأن تقام دولة للفلسطينيين في جزء من فلسطين فإنهم سيسالمون اليهود وسيعقدون معهم صلحاً. فهذه قضية خطيرة نأمل ألا تسري إلى نفوس المسلمين، فالعداء بيننا وبين اليهود ليس على شبر أرض، فمنذ أن قامت دولة الإسلام نصب اليهود أنفسهم معادين لهذه الدولة، ومكروا ودبروا وخططوا حتى يقضوا على دولة الإسلام في أرضه وفي مهده، وانتصر الإسلام؛ لأنه منزل من عند الله، واستمر الكيد اليهودي إلى اليوم، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن اليهود لا عهود لهم ولا مواثيق، والواحد منهم لا يؤمن جانبه، واليهود كما أخبرنا الله -ومن أصدق من الله قيلا- أنهم يعلمون أن ديننا حق، وأن محمداً مرسل من عند ربه، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله، بل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك يعادون الإسلام، والمسلمين، ويكفرون بالقرآن، ويكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأخبرنا الله بأن قلوبهم قست، وأن نفوسهم جفت فيها منابع الخير، وأنهم نقضوا عهودهم ومواثيقهم مع ربهم سبحانه وتعالى، فغضب عليهم ولعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، فكيف بعد ذلك يُؤمن جانبهم ويؤمن مكرهم؟ فالقضية عند اليهود واضحة، وهدفهم واضح محدد لا يرضون به بديلاً، وإنما يلاينون ويجاملون في بعض المراحل حتى يتمكنوا، ثم بعد ذلك يقفزون قفزات أخرى حتى يحققوا أهدافهم. وهذا غباء من المسلمين الذين يظنون أنهم يستطيعون أن يهادنوا اليهود ويسالموهم، أو أن يعيشوا وإياهم في دولة واحدة يجمعها سلطان واحد، أو أن يكون لكل منهما دولته وجيشه وسلطانه، فكل هذا لا يمكن أن يتحقق في واقع الأمر أو واقع الحياة. ثم إن المسألة مسألة دين، وإرضاء لله سبحانه وتعالى قبل أن تكون مسألة أرض، فالأرض تعود، ولكن إذا أغضبنا الله سبحانه وتعالى فمن ينجينا من غضبه وعقابه؟ فالله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يذل المسلمون وأن تنتهك حرمات الإسلام، فلا يجوز أن يرضى المسلمون بالدنية في دينهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى ذلك أبداً، بل إنه يريد للإسلام العزة، ويريد للمسلمين النصر على فئة لا يبلغ تعدادها بضعة ملايين، فما أشبه الحال هنا بالحال في الأندلس!

أول خطوة في طريق النصر

أول خطوة في طريق النصر لو كانت دول الإسلام الآن دولة واحدة تخفق رايتها في هذه البلاد الشاسعة، وجيشها جيش واحد، وحكومتها حكومة واحدة، وماليتها مالية واحدة، أيستطيع أن يقترب منهم اليهود؟ أتستطيع أن تناصبهم العداء أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو روسيا؟ لو كان تعداد دولة الإسلام ثمانمائة مليون مسلم فإنهم يستطيعون أن يشكلوا جيشاً يبلغ تعداده عشرون مليوناً، وعندهم هذه المالية الضخمة، والإمكانات الواسعة، والعقيدة الواحدة التي تؤلف نفوسهم وقلوبهم، وعندهم هدف واحد إما النصر وإما الشهادة، فكيف يستطيع أحد أن يعتدي على حماهم؟ وكيف يستهين بهم أعداؤهم؟ لا يمكن أن يتحقق ذلك. وكنا نأمل من لقاء زعماء المسلمين في مكة، في مؤتمر إسلامي كبير يضم رؤساء الدول الإسلامية أن يقرروا أول خطوة في الطريق نحو النصر، وهي: أن يشكلوا خلافة إسلامية، أو حكومة إسلامية تجمع شتات الدول الإسلامية، وتوحد أمة الإسلام، وتحكمها شريعة القرآن، ويحكمها كتاب الله سبحانه وتعالى، وأن يكون لها جيش واحد، عند ذلك ستحل مشكلات المسلمين في بلاد الإسلام، ويزول ما يعانيه المسلمون، كل ذلك سينهي مشكلاتهم ومعضلاتهم، والأعداء الذين يناوشونهم من كل جانب، والذين يريدون بهم شراً، كل ذلك سيتوقف؛ لأنهم أصبحوا قوة يحسب لها ألف حساب، فتخطب ودها أمريكا، ولن ترضى أن تساوم اليهود لتكسب عداء دولة كبيرة عظمى كهذه الدولة. عند ذلك تعود للمسلمين عزتهم ويعود لهم مجدهم، وعندها سيسير المسلم في أرض الله الواسعة، ويتنقل في بلاد المسلمين رافع الرأس، فلا يطأطئ رأسه إلا لربه سبحانه وتعالى، عند ذلك سنجد جموع الإسلام تتجه إلى القدس لتحرير مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك تنتهي مشكلة الفلبين، ومشكلة أرتيريا، وتنتهي مشاكل المسلمين الاقتصادية، وكل ذلك سيتلاشى وينتهي. كانت تلك أول خطوة على الطريق نحو النصر، ونحو العزة والكرامة، ونحو دولة تحقق للمسلمين خيراً كبيراً، وتحقق لهم العزة في الدنيا والخير عندما يلاقون ربهم سبحانه وتعالى. هذه أول خطوة في الطريق، وهي: أن لا يتجزأ المسلمون، وألا يبقوا منقسمين، وإلا فسيسهل الانتصار عليهم، ويسهل أن تمتص دماؤهم وخيراتهم. لقد بكى الباكون على فلسطين دهراً طويلاً، جعلوها مثل قميص عثمان، وذلك أن بعض الناس شارك في قتل عثمان ثم تباكى طويلاً عليه. وكذا قضية فلسطين، فقد تباكى عليها المتباكون طويلاً، وكتبوا، وخطبوا، وتكلموا في مجلس الأمن، ولكن الحالة تزداد كل يوم سوءاً، واليهود يبنون دولتهم ويعدون عدتهم ويهيئون أنفسهم، ويشترون السلاح من كل مكان، ويبنون المصانع، بل صاروا يبيعون السلاح في هذه الأيام، ونحن لم نزل بعيدين عن الطريق، لا نصنع شيئاً ولا نجهز شيئاً بل لا نعمل شيئاً!

أهمية العقيدة لتحقق النصر

أهمية العقيدة لتحقق النصر لو هجم اليهود اليوم على الأردن أو على سوريا أو على مصر ماذا سيفعلون؟! أين السلاح وأين الرجال وأين العقيدة وأين الهدف الذي يحمله المقاتلون؟! وقد جربنا معارك خضناها بعيداً عن إسلامنا وعن عقيدتنا فما جنينا منها إلا العلقم كما يقولون، لم نجن خيراً؛ لأننا لم نقاتل كما يريد الله سبحانه وتعالى، قاتلنا في سبيل أهداف قريبة سطحية، أو قاتلنا ونحن لا نعرف ما الهدف من القتال، وقاتل الضابط وهو مخمور، ومعارك قامت ورجال الجو فيها -أي: الذين يقودون الطائرات- سكارى، والمعركة مشتعلة في عام 1967م! فليس هناك إلا الحل الذي يبينه الله سبحانه وتعالى، ولا نصر إلا بعودة إسلامية صحيحة طال الأمد أم قصر، فلابد أن يعود المسلمون إلى دينهم، ولابد أن تجتمع كلمتهم، وأن تتوحد دولتهم، وأن يعودوا مرة أخرى أمة واحدة لها دولتها ولها تشريعها، وليكن تشريعها هو قرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولتكن دولة تقوم على سواعد أبنائها، لا يؤتى لها بالخبراء من أمريكا، ولا من فرنسا، ولا من روسيا، لا تميل نحو الشرق ولا نحو الغرب، دولة تقوم على الإسلام باسم الإسلام، وباسم الله، تتبع منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقق ما يصبو إليه المسلمون من خير. فإن تقاعس المسلمون، فسيهز اليهود عروش حكام المسلمين، كما هو الحال، فاجتاح الكفار بلاد المسلمين، وامتصوا خيراتهم، فمن كان يصدق بأن الأقصى سيفرط فيه المسلمون، وأنه سيضيع من أيديهم، فعمَّان ليست بأغلى من الأقصى، والكويت ليست بأغلى من الأقصى، واليهود يحلمون بالكويت، وبالمدينة المنورة، ويحلمون بالقاهرة، ويحلمون بعمان، ويحلمون بالدول العربية كلها، فأين نخوة المسلمين؟! ألا تذكرون عندما كان يصفق اليهود طرباً عندما دخلوا القدس وهم يقولون: محمد مات وخلف بنات؟! أين رجال المسلمين عندما فعل اليهود ذلك؟! إنها أيام مريرة ورثناها في عصرنا هذا، حال المسلمين في مثل هذه الأيام لا يسر أبداً، فلابد للمسلمين من عودة مرة أخرى إلى هذا الدين، وإلى هذا الكتاب، وبدون ذلك لن ينتصروا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه.

رفع لواء الدين يكون على يد من أراد ذلك وعمل لأجله

رفْع لواء الدين يكون على يد من أراد ذلك وعمل لأجله الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. نحن نؤمن بما أخبرنا الله به، وبما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم: من أن المسلمين أمرهم باق منتصر إلى أن تقوم الساعة، وتمر على المسلمين لحظات وسنوات يضعفون فيها، ولكن الله سبحانه وتعالى يحفظ دينه وييسر له من يقوم به، ويرفع لواءه ويعلي مناره، نؤمن بذلك كله، ولكن لكل أمر سبب. هناك أسباب لكل ما يقدر الله، فالله يقدر النتيجة ويقدر السبب الذي يوصل إليها، ونحن نريد المسلمين اليوم أن يعودوا ليكونوا هم السبب في عزة الإسلام وأهله، فإذا ما تخلف أمثالنا عن نصرة الإسلام فسيرفع الله لواء الإسلام في الهند، وقد يرفعه في أمريكا، أو في أي دولة. فمن كان يظن أن المدينة التي استعصت على الصحابة، أي: لم يستطع الصحابة أن يفتحوها، وهي: (القسطنطينية) ستصبح عاصمة الإسلام مئات السنين؟! من كان يظن أن دولة الإسلام ستكون عاصمتها هناك في تركيا، التي كانت يوماً ما عاصمة تحارب الإسلام؟! فقد كانت جيوش الأعداء تنطلق منها لتحارب الإسلام، فإذا براية الإسلام ترتفع في سمائها مئات السنين، وتحمل راية الإسلام مشرقة ومغربة، وتحكم العالم الإسلامي وتحكم بغداد، التي كانت عاصمة للدولة الإسلامية في الخلافة العباسية، وتحكم دمشق التي كانت عاصمة للدولة الأموية، وتحكم المدينة ومكة، من هناك في تركيا من القسطنطينية! فالله سبحانه وتعالى قادر أن يرفع راية الإسلام في عاصمة أخرى، وفي دولة أخرى تحارب الإسلام وتعاديه، ولكننا سنخسر القضية ونحن نريد أن نربحها، ونريد عزة الدنيا ورفعة الآخرة ورضوان الله سبحانه وتعالى، وأن يتحول المسلمون مرة أخرى إلى قوم يعملون لهذا الدين ويحرصون عليه، وعلى رضوان الله سبحانه وتعالى، وينبذون الشرك والكفر عن أنفسهم وعن إخوانهم، ويبصرون الناس بدينهم، ويدعون إلى الإسلام، ويبينون للناس هذا الدين، ويأخذون بأنفسهم وبإخوانهم كي يصلوا إلى الهدف الذي يريده الله سبحانه وتعالى، عند ذلك يتحقق للمسلمين عزهم، يكون لهم النصر. اللهم! اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب سميع مجيب الدعوات.

قيمة الجهاد

قيمة الجهاد إن الموت حقيقة لا بد منها، والحياة مصيرها إلى الزوال، فجدير بالمسلم ألَّا يحرص على الدنيا الفانية حرصاً يؤدي به إلى أن يضيع الآخرة الباقية. وعندما ترك المسلمون الجهاد وحرصوا على دنياهم، أصبحوا في ذيل الأمم وفي مؤخرتها، إذاً فلا نصر للمسلمين إلا إذا آثروا الباقية على الفانية، وضحوا بأنفسهم في سبيل نصرة دين الله.

الموت حقيقة لا بد منها لكل إنسان

الموت حقيقة لا بد منها لكل إنسان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى ذم بني إسرائيل في محكم كتابه أنهم كانوا يؤثرون هذه الحياة الدنيا ويحرصون عليها أشد الحرص فقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96]، فكان أحدهم يود أن يعمر العمر الطويل، وألّا يفارق هذه الدنيا، وألا يأتيه الموت، وقد أصاب هذه الأمة ما أصاب بني إسرائيل من قبل فخسرت كثيراً. ومن أراد أن يعلم نهاية الحياة فليذهب إلى القبور، وليعلم أن مصيره هناك، فليذهب يوماً ما وليقف على قبور الذين أفضوا إلى ربهم، وليعلم أن مصيره سيكون مثلهم، وأن الموت سيأتيه، وأنه سيلاقي ربه شاء أم أبى، فالأمر ليس إليه. لقد جئنا إلى الحياة وليس لنا إرادة، وسنفارق هذه الحياة وليس لنا اختيار، فنحن نجيء بقدر الله سبحانه وتعالى، ونمضي بقدر الله عز وجل، وليس لنا إرادة في المجيء، وليس لنا إرادة في الذهاب فكل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى. فمحمد صلوات الله وسلامه عليه المصطفى المختار جاءه الموت، ونزعت روحه من بين جنبيه، ودفنه أصحابه في التراب وأفضى إلى ربه، فمن أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالكل ماض على الدرب. إنها حقيقة نتناساها ونتجاهلها، لكنها عندما تستقر في نفس المؤمن الحية عند ذلك يصنع كما صنع المسلمون، فعندما أيقنوا بهذه الحقيقة قلبوا معادلات كثيرة في هذه الحياة وفي الصراع بين الحق والباطل. فعندما واجه زعماء الكفر والشرك جيوش الإسلام بأعدادها القليلة، والتي قد تصل إلى بضع ألوف مقابل عشرات الألوف ومئات الألوف في المعارك الكبرى التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم؛ كان المسلمون دائماً قلة، وكان أعداؤهم يواجهونهم بالحشود الضخمة والجموع الهائلة ويقولون لهم: ماذا تستطيعون أن تفعلوا بهذه الأعداد القليلة؟ ولكنهم بهذه الحقيقة غيروا معادلات ضخمة. فكان يقول قائلهم في المفاوضات التي تجري: جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، قوم لا يخشون الموت بل إن أمنيتهم الموت، وأمنيتهم أن يموت المسلم شهيداً في سبيل الله لينال حياة دائمة عند ربه؛ لأنه يستشعر قول الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169 - 170]، ويذكرون قول نبيهم المصطفى المختار صلوات الله وسلامه عليه: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في رياض الجنة تأكل من ثمارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن) ويذكرون قول الله سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]. كانت هذه الحقيقة دائماً أمام أعينهم، فكانوا يبذلون من أموالهم، وأوقاتهم، وأنفسهم؛ طلباً لرضوان الله سبحانه وتعالى، فلماذا يفرون من الموت؟ ولماذا يهربون من الموت والموت حق؟ كانوا يعلمون أن الشهيد عندما يسقط في حومة الوغى فإنه لا يفتن في قبره، وذلك أنه فتن في الدنيا في ميدان الحرب والقتال فصبر على البأس والأذى، ولقد رأى الموت بعينيه فلم يتراجع؛ ابتغاءً لما عند الله سبحانه وتعالى، فحسبه بذلك فتنة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. فعندما استقرت هذه المعاني في نفوس المسلمين لم يقف في وجوههم أحد، وعندما استقرت هذه المعاني في نفوس المسلمين استطاعوا أن يحاربوا الباطل في مجتمعاتهم وأن يجتثوا جذوره، وأن يكون فيهم رجال يستطيع الواحد منهم بموقف أن يغير اتجاه أمة، وأن يقف في وجه تيار جارف يريد استئصال الإسلام. فلقد وقف أحمد بن حنبل في وجه تيار مستغرب جاء ليجتث جذور الإسلام، وليدخل في عقائد الإسلام ما ليس منها، إنه رجل واحد وقف في وجه الحكام الذين كانوا يملكون الدولة ويملكون السيادة، ولكنه وقف بإيمانه، فضُرب، وأوذي، ولكنه لم يلن، ومضى الذين كانوا يحملون هذا الفكر الفاسد، وبقي فكر الخير يسري في هذه الأمة، ويصل ما قبل الإمام أحمد بما بعده؛ ليستمر النهر الفياض إلى أن تقوم الساعة. فعندما يوقن المسلمون بهذه الحقيقة فسيتمكنون من تغيير كثير من الأمور والأحوال، وعندما ينسونها فلن تتغير الحقيقة؛ فسيمضي الناس، وسنمضي إلى الله سبحانه وتعالى، فالموت آتٍ لا محالة. وينبغي لهذه الحقيقة أن تنتج نتيجة وهي: أن تصبح هذه الأمة كما كانت أمة مقاتلة ومجاهدة، فالجهاد يحيي هذه الأمة ويفجر طاقاتها، ويغسل أدرانها وأوساخها وأقذارها. إن هذا الترهل الذي نعيشه في أيامنا: من الشهوات، والملذات، والنعيم الذي يتردى فيه الناس، يخدر أعصابهم ويقتل طاقاتهم. ونحن نحتاج إلى أن نعود مرة أخرى إلى معاني الجهاد والبطولة والفداء الذي يحول هذه الأمة إلى أمة مجاهدة تغسل أدرانها وتفجر طاقاتها، فعند ذلك تتحول مسيرة هذه الأمة.

الهلاك في ترك الجهاد

الهلاك في ترك الجهاد لقد خسر المسلمون كثيراً عندما تركوا الجهاد، فخسروا خسراناً مبيناً، وتحقق فيهم قول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. فعندما خرج من صفوف المسلمين -في معركة وقعت في تركيا- رجل من صفوف المسلمين في عهد الصحابة وانطلق حتى دخل في صفوف المشركين وحيداً، قال المسلمون: سبحان الله! لقد ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري وهو صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تحملون هذه الآية على غير وجهها، فلقد نزلت هذه الآية عندما انتصر الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الأنصار: لقد ضاعت أموالنا وبساتيننا ونحن نجاهد، والآن انتصر الإسلام، فلنجلس لنرعى أموالنا وبساتيننا وأعمالنا؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فكانت التهلكة في ترك الجهاد. فالهلاك إنما هو في ترك الجهاد وليس في البذل والعطاء، وليست التهلكة في أن يلقي المسلم نفسه في وسط الأعداء ويقاتلهم، إنما هي في توقفه عن القتال وعن العمل، وعن البذل والدعوة، فيقول المتكاسل: لقد شبت، وكبرت، وجاهدت، وعملت، فإن هذا التوقف موت وهلاك ودمار، فعندما يتوقف المسلم فإنه يدمر نفسه، وعندما تتوقف الأمة فإنها تفقد إيجابيتها وخيريتها فكانت التهلكة -كما يقول أبو أيوب الأنصاري - في ترك الجهاد. لقد تركت الأمة الجهاد في أيامنا فتسلط عليها أعداؤها، فكانت التهلكة بسبب تركنا للجهاد، وتفرقت الأمة وتركت الجهاد، فأصبح أعداؤها أقوياء وتغلبوا عليها فهلكنا؛ وكل ذلك بسبب تركنا للجهاد. فلو كانت هذه الأمة أمة مقاتلة لما كان لليهود وجود في ديارنا، ولما استطاع الأعداء أن يقسموا بلادنا، ولما استطاعوا أن يدحروا الدولة الإسلامية العثمانية، وقد كان ذلك بسبب تركها للجهاد، وضعفها في آخر أيامها، ولو كنا أمة مقاتلة مجاهدة لما استطاعت الدول في الحرب العالمية الثانية أن تجزئ بلادنا وتأخذ ديارنا. لقد أصبح عندنا شح في النفوس، وأمراض في القلوب، وأصبح الإنسان يفكر في الدنيا، وفي المال، وفي البيوت، وفي السيارات، وفي الجاه، ولا يفكر في هذه الأمة، بل ولم يعلم أنه إذا تسلط عليه أعداؤه فقد يفقد البيت والأرض والمال! فماذا ترك اليهود للمسلمين في حيفا؟ ماذا تركوا لهم في يافا؟ ماذا تركوا لهم في عكا؟ ماذا تركوا لهم في القدس؟ لقد حفروا الآن تحت المسجد الأقصى، وأخذوا كل شيء، فلقد أخذوا المال، وأخذوا الأراضي والخيرات، فكل بلد يستولون عليها يفعلون بها ذلك. فالتهلكة إنما هي في ترك الجهاد، وعندما يحسن المسلمون -كما يقول أحد المعاصرين- صناعة الموت وصناعة الجهاد عند ذلك يتغير حالهم ويتبدلون. فعندما يفهم المسلمون الغاية من الجهاد، والخير الذي يأتي به الجهاد في الدنيا، والخير الذي يأتي به في الآخرة؛ فستتغير نفسياتهم، وسيصلح منهم المعوج، ويستقيم منهم الزائع، وعند ذلك تتحول هذه الأمة إلى خير أمة أخرجت للناس. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه.

وجوب الإعداد لمواجهة الكفار

وجوب الإعداد لمواجهة الكفار الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. ومما ينبغي أيها الإخوة! أن نكون على ذكر إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بفتح باب الجهاد، فتعود الأمة الإسلامية إلى طبيعتها المجاهدة المقاتلة كي تصد أعداءها، وتنفي خبثها، وتحارب الباطل فيها، وتزيل المنكر من ديارها، وحتى يأذن الله بذلك الحين فينبغي على المسلمين أن يربوا أنفسهم على معاني الجهاد، وعلى معاني الإيمان، وأن يعدوا أنفسهم لهذا الطريق، فإعداد النفس ليس بالأمر السهل، ومن لم يعد نفسه لهذا فلن يستطيع إذا ما جاء الوقت وفتح الباب أن يسير في هذه المسيرة؛ لأنه لم يعد نفسه لهذا الطريق. فعندما فتح الباب لبني إسرائيل في أن يجاهدوا بعث الله لهم ملكاً كما طلبوا، ولكن كثيراً من الذين كانوا يطالبون بالجهاد تخلوا عنه وتركوه، وكذلك بعض المسلمين في مكة كما قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] فلما فتح باب الجهاد نكص بعضهم على عقبيه {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء:77]، فيحتاج المسلمون إلى أن يعدوا أنفسهم، وأن يربوا أنفسهم وأولادهم وبيوتهم على معاني الجهاد، ويأخذوا أنفسهم بذلك ويحذروا، فقد أخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن الذي لا يجاهد ولا يحدث نفسه بالجهاد فإنه يموت على شعبة من شعب النفاق، فإذا كان الإنسان لا يجاهد ولا يحدث نفسه يوماً بالجهاد فهو إنسان غير مخلص في إسلامه وإيمانه. اللهم! اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

الانحراف عن المسيرة الإسلامية

الانحراف عن المسيرة الإسلامية لقد أكرم الله البشرية بهذا الدين الخاتم، فقد حقق لها الأمن والاطمئنان يوم أن التزمت بالسير على مقتضى أوامره، وعندما بدأت تتنكب عن صراطه المستقيم، وبدأت تتنازل عن أجزاء منه حقت عليها كلمة الله في أمثالها من الأمم، فتسلطت عليها من الأمم، وفرضت عليها الأنظمة والقوانين لتسير عليها بدلاً من منهج الله القويم.

الإسلام هو الطريق الصحيح

الإسلام هو الطريق الصحيح إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. موضوعنا اليوم هو: باب الانحراف في المسيرة الإسلامية ونتائجه. إن المسيرة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي هي الأمل الذي ينعقد عليه الرجاء في إعادة الحياة الكريمة لهذا العالم، وعليه ينعقد الرجاء لحل مشاكل العالم الذي دمره القلق والصراع، وتسلط عليه شياطين الجن والإنس. ولقد جرب عالمنا الإسلامي مختلف الأنماط في عصره الحاضر، وتسلطت على رقابنا جماعات وأحزاب وعدتنا بأنها ستعيد إلينا عزتنا ومجدنا، وأنها ستنهي مشاكلنا الاقتصادية، وأنها ستجمع شملنا وتوحدنا، لكنا إذا نظرنا اليوم إلى حالنا فإننا لا نرى إلا فرقة وانقساماً، نرى الأمة الواحدة أصبحت أمماً، والدولة الواحدة أصبحت دولاً، وازداد الفقر والتعاسة في كثير من ديار المسلمين هنا وهناك، لقد فشل دعاة الوطنية والقومية، وفشل من بعدهم الاشتراكيون والبعثيون، ولم يبق إلا الإسلام. لقد نجح الإسلام في الماضي عندما حكم هذه الديار في إيجاد مجتمع مثالي في عالم البشر، ولقد أوجد كياناً سعدت به البشرية، وترعرعت في جنباته الفضائل والقيم الصالحة، وتناسى المسلمون في ظله العصبيات للأقوام والأجناس والأوطان، وكان ولاؤهم فيه للحق، ثم ضيع المسلمون دينهم وتركوه إلى عادات موروثة، وفلسفات وتوجيهات وافدة، فكانت ضياعاً ودماراً، وكانت فرقة وشتاتاً، وكان التسلط من الأعداء، وحصلت الهزائم العسكرية والفكرية والاقتصادية. ثم صحا المسلمون من جديد في هذا العصر، فحاولوا أن ينظموا صفوفهم، ويلتمسوا طريقهم؛ ليحملوا الراية من جديد، ولكن الطريق مليء بالصعاب، ومحفوف بالمخاطر، فالأعداء المتربصون بنا من كل جانب يرقبون حركاتنا، ويقرءون كتاباتنا، ويدرسون فكرنا، ثم يأتمرون ويخططون، فيرسلون إلينا سهامهم، وبعض سهامهم رجال من هذه الأمة، كي يفرقوا ويقتلوا ويدمروا، وقد أصيبت جموع كثيرة من رجال الدعوة بسهام الأعداء ومكرهم وخديعتهم، وكذلك الجهل والمرض الذي يعاني منه المسلمون في مختلف بقاع العالم الإسلامي، فإنه يؤخر المسيرة، ويضعف الصف، ويجعلنا نعاني معاناة هائلة ونحن نشق طريقنا إلى الأمام، وأخطر من ذلك كله الانحراف الذي يصيب المسيرة من داخلها، فذلك أخطر ما تعاني منه المسيرة الإسلامية.

شروط نجاح المسيرة الإسلامية في قيادة الأمم

شروط نجاح المسيرة الإسلامية في قيادة الأمم إن نجاح المسيرة في أن تتبوأ مركز القيادة والتوجيه، وتعيد للأمة دورها في عالمنا، مرهون باستقامتها على المنهج الصحيح، فانحرافها عن الطريق المرسوم يجعلها لا تصل إلى الهدف المنشود، وإذا وصلت فإنها ستصل بعد زمن طويل؛ بسبب طول الطريق الذي سببه الانحراف. إن نجاح المسيرة يتحقق بأمرين: الأول: الهداية إلى الصراط المستقيم، وذلك يكون بالتعرف عليه، ومعرفة حدوده وأبعاده، وقد شرع الله لنا أن ندعوه دائماً أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، فنحن دائماً نردد في صلاتنا وفي خارج صلاتنا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، وكان المعصوم صلوات الله وسلامه عليه عندما يقوم من الليل يسأل ربه الهداية قائلاً: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). الثاني: اتباع هذا الصراط المستقيم وعدم الميل عنه يميناً أو شمالاً، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، والاستقامة على الطريق أمر في غاية المشقة والصعوبة؛ ذلك أن النفس الأمارة بالسوء، والدنيا المليئة بالمغريات، وشياطين الجن والإنس، كل أولئك يحاولون أن يحرفوا المسيرة، وأن يحرفوا العاملين بها عن الدرب القويم، ولذلك كانت أشق آية أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس هي: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112].

المزالق التي تحرف عن الطريق المستقيم

المزالق التي تحرف عن الطريق المستقيم إن المزالق التي تحرف عن الصراط المستقيم كثيرة، فطرق الباطل لا تحصى ولا تعد، وقد خط الرسول صلى الله عليه وسلم في الرمل خطاً، وخط عن يمين ذلك الخط وشماله خطوطاً، ثم أشار إلى ذلك الخط المستقيم وقال: (هذا صراط الله مستقيماً)، وأشار إلى تلك الخطوط المنحرفة ذات اليمين وذات الشمال وقال: (هذه السبل على كل سبيل فيها شيطان يدعو إليه)، ووصف هذا بمثال آخر فقال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور ملقاة، وداع يدعو من فوق الصراط يقول: أيها الناس! ادخلوا الصراط ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط كلما أراد أحدهم أن يفتح باباً من تلك الأبواب يقول: ويحك لا تفتحه؛ إنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والأبواب محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم). فانحراف المسيرة يأتي من أحد هذين الأصلين: إما من جهل الصراط المستقيم وعدم العلم به، وهذا هو الضلال، ومن هنا أُتي النصارى الذين سماهم الله بالضالين؛ إذ عبدوا الله على جهل، وإما أن يأتي من عدم الاستقامة عليه واتباعه مع العلم به، وهذا حال اليهود الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه، ولذلك سماهم الله بالمغضوب عليهم. وأما حال الذين أنعم الله عليهم فهو معرفة الحق واتباعه، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. إنّ من نعمة الله علينا أن الصراط المستقيم الذي ينبغي أن تسلكه المسيرة الإسلامية واضحة معالمه معروفة حدوده، محصور في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي). وقد حفظ الله دينه من التغيير والتبديل والضياع فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وهذا الدرب لن يخلو من السالكين؛ مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم إلى أن يأتي أمر الله وهم كذلك). فالصراط المستقيم تعاليمه محفوظة في الكتب وفي الصدور، وهو متمثل في رجال وجماعات متناثرة في جنبات عالمنا اليوم، فإذا طلبنا السير في هذا الطريق القويم فإننا سنهتدي بحول الله وقوته، وسنصل إلى الهدف المنشود إن شاء الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].

أثر التنازل عن شيء من الدين والركون إلى الظالمين في انحراف المسيرة

أثر التنازل عن شيء من الدين والركون إلى الظالمين في انحراف المسيرة إن التنازل عن شيء من الإسلام يعد انحرافاً، فالصراط المستقيم هو الإسلام، والإسلام هو دين الله الذي أنزله ليحكم بين عباده، وليهيمن على حياة البشر في كل شأن من شئونهم: في الحكم، والتشريع، والتربية، والتعليم، والإعلام، والاقتصاد، والعلاقات بين الأفراد، وبين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم. إنّ طائفة من البشر يريدون أن تكون كلمتهم هي العليا في ذلك كله، ويريدون من دعاة الإسلام أن يقصروا جهودهم على أجزاء من الإسلام كالعبادات والأمور الأخلاقية، ويرفضون أن يمتد الإسلام ليهيمن هيمنة كاملة على الأفراد والمجتمعات، وبعض الذين يتصدون للعمل الإسلامي قد يساومون في هذه القضية، ويرضون بصفقة تعطيهم الحق في دعوة الناس إلى شيء من دينهم، وبالتالي سيسكتون عن أشياء كثيرة، ومع مرور الزمن ينسون أن هذه الأشياء التي تركوها هي من الدين، وبذلك تنحرف المسيرة الإسلامية. وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من هذا المنهج، وسمى الذين لا يريدون هيمنة الإسلام على الحياة بالظالمين؛ لأنهم ظلموا أنفسهم وظلموا البشر معهم عندما عارضوا منهج الله تعالى، ومنعوا الناس من هذا الخير والنور، وجلبوا لهم الدمار والخراب الذي يحل بالظالمين، وقد حذر الله دعاة الإسلام من الركون إلى الظالمين فقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113]. يقول صاحب (الظلال) في تفسير هذه الآية: لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا من الجبارين والطغاة الظالمين أصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبّدونهم لغير الله من العبيد، لا تركنوا إليهم؛ فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم في إثم ذلك المنكر الكبير.

بعض الصور التي يستخدمها الأعداء في إغراء أصحاب الدعوات

بعض الصور التي يستخدمها الأعداء في إغراء أصحاب الدعوات يحاول أصحاب السلطان دائماً إغراء أصحاب الدعوات؛ كي يتنازلوا عن شيء من دعوتهم، وذلك بالترغيب حيناً وبالترهيب أحياناً، وقد عرضت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم المال والنساء والملك؛ كي يخفف من دعوته، ويتخلى عن شيء من مبادئه ورهبته بالقتل والإخراج من الأرض. وقد يحاول بعض أصحاب السلطان التوصل إلى حل وسط مع أصحاب الدعوات، فقد عرضت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم يوماً ويعبدوا إلهه يوماً، وقد يطلبون بعض التعديلات الطفيفة على منهج الداعية وأسلوبه، وقد يعرضون عليه التخلي عن بعض أتباعه؛ كي يجالسوه ويتبعوه ويسيروا معه، والجواب على هذا واضح لا غموض فيه وهو: أننا لا نتخلى عن شيء من الحق، ولا نهادن في الباطل، ولا نستجيب للمطالب الظالمة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. إن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، ويقبل إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف حيث سلم أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء، وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها، والتسليم في جانب ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها هو هزيمة روحية؛ لأن فيه الاعتماد على أصحاب السلطان في نصر الدعوة، والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في دعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في أعماق القلوب فلن تنقلب الهزيمة نصراً. لقد امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن ثبته على ما أوحى إليه وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه الركون إليهم ولو قليلاً، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهي العذاب في الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين والنصير، {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75]. لقد وقع في هذه الفتنة رجال كانوا يتصدرون العمل الإسلامي، كانوا ملء السمع والبصر، فبعضهم أغراه الترغيب والمغنم العاجل القريب، وبعضهم أخافه الترهيب، وبعد سنوات من سقوطهم في الفتنة أصبحوا طبولاً جوفاء تسبح بحمد الظالمين، وأرادوا أن يجروا المسلمين إلى مسارهم المظلم، ولكن الدعوة سارت في طريقها وخلفتهم وراءها، واليوم هناك رجال يبدو من فلتات لسانهم ركون إلى الذين ظلموا، وذلك في حديثهم اللين مع الظالمين -نسأل الله لنا ولكم العصمة- ولكن دعوة الله سائرة، وكل ما يحدث أننا سنحزن على الذين يسقطون في المسيرة، ولكننا لن نرضى أن تنحرف المسيرة.

غاية الدعوة في هذه الحياة

غاية الدعوة في هذه الحياة إن غاية هذه الدعوة أن يهيمن الإسلام على هذه الحياة في الحكم والتشريع، وفي التعليم والتربية والاقتصاد والسلم والحرب، ونحن لا نرضى بغير ذلك، ولا نساوم أبداً في هذه القضية، فإن استجاب الحكام لهذا فوالله إن في ذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإن أبوا إلا الأخرى صبرنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم، ولكن لن نلتقي في منتصف الطريق، ولن نتنازل عن شيء من دعوتنا، فقد حذرنا الله من ذلك، ونخشى إن فعلنا ذلك أن تمسنا النار، قال الله تعالى محذراً من ذلك: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وقال: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75].

الإسلام طريق الهداية الحقة

الإسلام طريق الهداية الحقة لا توجد الهداية إلا في الإسلام، وأصحاب المبادئ الظالمة الجائرة، وأصحاب الأديان المحرفة يزعمون أنهم يملكون الهداية، وأنهم يملكون تخليص الناس من الشقاوة والحيرة، فالفلاسفة في القديم والحديث يدعون ذلك، واليهود والنصارى يدعون ذلك، ورجال الفكر والتربية وعلماء النفس في الغرب والشرق يدعون ذلك، ونحن نقول في مواجهة ذلك كله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]. فلا هداية للبشرية من ضلالها وشقوتها إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والبشرية في أثناء مسيرتها فقدت الهداية، واستمداد الهداية من غير دين الله الخاتم كفر وضياع، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:100 - 101]. وإذا صُنَّا هذه الحقيقة التي صرح بها كتاب ربنا ((إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)) فقد فرنا على أنفسنا جهوداً كثيرة في تلمس الهداية في الكتب السماوية المحرفة، وفي نظريات البشر وأفكارهم المتضاربة المتعارضة، وسرنا في الطريق المرسوم ندعو البشرية إليه، ونحاكم علومهم وعقائدهم إليه، وإذا ما جاءونا يعرضون علينا بضاعتهم رفضناها بعنف؛ لأننا نعلم أن في بضاعتهم دخن، وهم لا يرضون منا إلا أن نأخذ بها، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120]. وقد أوقف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الانحراف بعنف، وقال فيه كلمة الفصل بلا غموض ولا لبس، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن ثابت قال جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن ثابت فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناًَ، وبمحمد رسولاً، قال: فُسريَ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفس محمد بيده! لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين).

موقفنا من مؤتمرات التقريب بين الأديان

موقفنا من مؤتمرات التقريب بين الأديان إننا نرفض ما يسمى بمؤتمرات التقريب بين الأديان التي تعقد في شتى أنحاء العالم، ويحضرها علماء مسلمون يبحثون في الالتقاء والتقارب بين الإسلام والنصرانية، ويبحثون في إزالة سوء التفاهم بين الإسلام والنصرانية، إننا نرفض هذه المؤتمرات؛ لأنها تضع الإسلام الدين الحق والنصرانية الدين المحرف الباطل في مرتبة سواء، نرفضها لأن الإسلام جاء مهيمناً على النصرانية وغيرها من الأديان، وليس هناك مجال للتقريب بين دين محرف مغير مبدل وبين الدين الحق. إننا نقف في مجامع النصارى لا لنبحث في دينهم الباطل؛ وإنما لنقول لهم: دعوا هذا الدين الباطل المحرف، ودعوا الشرك والكفر بالله، وتعالوا إلى الدين الذي بشر به موسى وعيسى، وهو دين الله الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إننا نعد قبول علماء المسلمين لعقد مثل هذه المؤتمرات انحرافاً يضر بهم وبدينهم وبعقيدتهم، ولا يستفيد منه إلا الذين قالوا اتخذ الله ولداً، لأنهم بذلك يجرونا إلى باطلهم، ويوقعونا في شباكهم، ففي عام واحد عقدت ثلاثة مؤتمرات للبحث في الالتقاء والتقارب بين الإسلام والنصرانية، وقد أمَّ هذه المؤتمرات مئات من علماء المسلمين. ففي شهر إبريل سنة 1974م عقد مؤتمر من هذا النوع في باريس التقى فيه علماء دين سعوديون ورجال فكر أوروبيون؛ للبحث في التقارب بين الإسلام والمسيحية، وزار الوفد السعودي الفاتيكان وألقى هناك محاضرتين، وقد مهد لهذا المؤتمر منذ عام 1972م، وقد وصفت الصحف هذا المؤتمر بأنه مهم. وفي شهر سبتمبر من العام نفسه 1974م انعقد المؤتمر الإسلامي المسيحي في مدينة قرطبة، وقد كانت مهمة هذا المؤتمر تقريب وجهات النظر بين العالمين المسيحي والإسلامي، ودراسة تزايد موجة الابتعاد عن الدين التي يواجهها الشباب المسلمون والمسيحيون، وكذلك السعي من أجل إزالة الخلافات وسوء الفهم الذي قد يكون قائماً بين الدينين بالنسبة للمعنيين بالأمر والرأي العام. وفي شهر نوفمبر من هذا العام أقيم المؤتمر المسيحي الثالث في مدينة تونس، وقد عقد مؤتمر إسلامي في مدينة لاهور في باكستان في شهر فبراير في هذه السنة 1974م، ومع كونه مؤتمراً إسلامياً خالصاً إلا أنه حضره ممثلون مسيحيون من لبنان، وقد أشاد المؤتمر بالتعاون الإسلامي المسيحي، وهذه المؤتمرات لم تكن الأولى ولا الأخيرة فقد عقدت قبلها مؤتمرات وبعدها مؤتمرات على النمط نفسه، وقد تحدث عن شيء من بلايا هذه المؤتمرات الباحث المجيد محمد محمد حسين في كتابه: (حصوننا مهددة من الداخل) عندما كشف عن الزيف والدجل في المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي دعت إليه إحدى الجامعات الأمريكية ومكتبة الكونجرس الأمريكي في صيف عام 1953م، ونشرت قسماً من بحوثه مؤسسة (فرانكلين) الأمريكية، كما كشف الأهداف الخبيثة لذلك المؤتمر. إن بعض الذين يؤمون تلك المؤتمرات لا يدركون الدسيسة والمكيدة التي أوقعهم أعداؤهم فيها، وآخرون يعلمون ذلك لكنهم يريدون للإسلام والمسلمين شراً، وعندما يوجه إليهم اللوم لا تكون إجابتهم إلا كإجابة إخوانهم من قبل. ومما يعصم العبد في تصرفاته وأعماله في حياته الدنيا: أن يكون خائفاً من ربه سبحانه وتعالى، فيراقب الله جل وعلا في أعماله وتصرفاته؛ لأنه يعلم أن الله ينظر إليه ويراقبه؛ فيخشى غضبه وانتقامه، ويحذر أن يقابل ربه سبحانه وتعالى بمعصية أو إثم فيستحق عذاب الله سبحانه وتعالى. إن المؤمن الصالح التقي دائماً يراقب الله سبحانه وتعالى في كل تصرفاته، ولا يراقبه في صلاته وصيامه وزكاته فحسب؛ وإنما يراقبه في كل عمل من الأعمال، أقول هذا بمناسبة ما يدور في الكويت اليوم حول انتخابات مجلس الأمة، وما تشغل به الصحافة نفسها، وما يشغل الناس به أنفسهم في هذه الأيام. وفي مثل هذا ينبغي للمسلم الذي يؤم بيت الله، والذي يوجه وجهه إلى الله سبحانه وتعالى أن يكون مراقباً لله سبحانه وتعالى، خائفاً منه عز وجل.

نظرة الإسلام فيمن يقدم نفسه لتولي منصب معين

نظرة الإسلام فيمن يقدم نفسه لتولي منصب معين وبمناسبة ما يدور في الكويت حول الانتخابات أؤكد على قضيتين: القضية الأولى: أن كثيراً من الذين يتقدمون لهذا ليسوا أهلاً له، وفي الإسلام لم يكن الناس يتقدمون ويطلبون المناصب، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرد كل من جاء يطلب منصباً، ويقول له: (إنا لا نولي عملنا هذا من طلبه ولا من حرص عليه) وهذه قاعدة في الإسلام. والديمقراطية التي يتغنى بها المجتمع الأوروبي جعلت الناس يتقاتلون على المناصب، ويبذلون في سبيل ذلك أموالاً طائلة، ويهدرون أوقاتاً كبيرة، وأما في الإسلام فإن الناس يتعففون عن المناصب، فلا يطلبونها ولا يحرصون عليها، فإذا طلبوها وحرصوا عليها كان ذلك نقطة سوداء في تصرفاتهم وفي أعمالهم، وتجعل قيمتهم تنخفض في المجتمع الإسلامي وعند المسلمين. لكن إذا كان لا بد من أن يتقدم الناس على الطريقة التي يسير الغرب عليها فينبغي ألا يتقدم إلا رجل مؤمن يسير على المنهج الذي يريده الله سبحانه وتعالى، وفق ما يشاء الله عز وجل؛ لتحقيق الخير للإسلام والمسلمين. ثم هو في تصرفاته وأعماله لا يصدر عنه ما يسوء، فبعض الناس الذين يتقدمون يدعون لأنفسهم ما ليس فيهم باسم الدعاية الانتخابية، مع أنها لا تؤثر، وهذا أمر سيسألهم الله سبحانه وتعالى عنه، فهم يزكون أنفسهم، والله سائلهم عن تزكيتهم لأنفسهم. وبعضهم يدفعون أموالاً لمن يصوت لهم وينتخبهم، وهذه رشوة، وهذا مال حرام وسحت يدفعونه باطلاً، فسيحاسبهم الله سبحانه وتعالى عليه. وتجدهم يغتابون زملاءهم ويحطون من قيمتهم وينشرون فضائحهم وأخبارهم، وهذه غيبة تنافي الخُلُق الإسلامي، وتنافي الأحكام الإسلامية التي ينبغي أن يلتزم بها المسلمون.

أداء الأمانة إلى أهلها

أداء الأمانة إلى أهلها القضية الثانية: أن الذين سيتقدمون ليدلوا بأصواتهم إذا كان الذي يدفعهم لذلك العصبية للقبيلة أو للأسرة أو للمنطقة، أو لهوى أو لمال، أو لمنصب يتوقعونه من هذا وذاك، فنقول لهم: هذه أمانة ستسألون عنها عندما يعرض العباد على رب العباد، وسيقال لكل واحد منكم: كيف قدمت فلاناً؟ فإذا قلت: هذا الذي أعتقد أنه أتقى هؤلاء الذين نزلوا لهذه المهمة، وكانت نيتك وقصدك كذلك نجوت، وإن لم يكن الأمر كذلك فستحاسب. وقد قلت في البداية: إن الرجل الذي يتقدم لأي منصب أول شرط فيه أن يخاف الله ويخشاه، وأن يلتزم بشريعة الله سبحانه وتعالى، وأن يريد الخير للإسلام والمسلمين، فإذا كانوا كلهم بهذه الصفات فإننا نفاضل بينهم: من الأقوى ديناً وأمانة، فإذا كان الأقوى هو فلان قدمناه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. فهناك صفتان ينبغي أن يتوفرا فيمن يتقدم لذلك وهما: القوة والأمانة، والقوة هنا تتمثل في فهم الأمور، ومعرفة التصرفات، ومعرفة كيف تجري أمور الدولة وشئون السياسة، وما الذي ينفع الإسلام وما الذي لا ينفعه، فعلى المرء أن يضبط لسانه، فيعبر به عما يريد، فلا يريد إلا الحق، ولا يميل مع الهوى ولا يميل لدنيا، وإنما يقول كلمة الحق؛ لأنها ترضي الله سبحانه وتعالى، فيختار الرجل الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بالقوة والأمانة، فالله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. قال علماء التفسير: معنى ((أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا))، هو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فوضع الرجل في غير مكانه خيانة للأمانة. فالوظيفة والمنصب أمانة فأعطوا ذلك من يستحقه، ولا تعطوه من لا يستحقه فإن الله سائلكم عن ذلك، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]، فاختيار الأتقى والأورع هو لمصلحتك ولمصلحة الناس، وإن لم يكن من الأسرة أو العشيرة أو المنطقة، فاختياره لتقواه وورعه ينال بذلك المسلم أجراً يدوم خيره ويستمر، فسيجد الإنسان أجر ذلك عند ربه يوم القيامة، وإلا فسيكون كمن يسعى إلى حتفه بظلفه، فيجلب لنفسه بلاء وإثما. ً فالقضية تحتاج إلى تقوى وورع وما أصاب المسلمين اليوم إلا أنهم خالفوا أمر الله سبحانه وتعالى فأدوا الأمانة إلى غير أهلها، وقد سأل سائل الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). فإذا كان الأمر موكلاً إلى المسلمين الذين يؤمون بيوت الله وكان لهم في ذلك خيار، فينبغي عليهم أن يختاروا الأتقى والأقوى والأكثر أمانة، وينبغي للمسلم أن يتجرد لله في اختياره فلا يدخل في اختياره هوى، ولا مصلحة دنيوية، ولا قرابة دم أو نسب، ولا صداقة، وإنما يختار الأورع والأتقى، ولو كان المرشح أباً أو أخاً أو ابن عم، فالقضية قضية إيمان وتقوى وحرص على طاعة الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى سائلنا عن ذلك. وأما أن يدعى الإسلام، والكلام فيه، والحديث عنه ثم عندما يأتي المحك لا يستطيع أن يخالف رأي قريبه في طاعة الله عز وجل فالقضية لا تكون بهذا الشكل. وإذا تقدم رجل قريب لهذا المنصب ويكون أخاً أو أباً وهو لا يتوضأ ولا يصلي لله ولا يتوجه إلى بيوت الله، ولا يتوجه شطر البيت الحرام، ولا يفتح كتاب الله، ثم تضعه في هذا المكان فماذا تنتظر منه؟ وماذا ينتظر من مثل هذا الرجل إلا أن ينادي غداً بإباحة الخمر والاختلاط بين الرجال والنساء، وأنت تتحمل هذه الجريمة، وعندما يوافق على إقصاء شريعة الله عن الحكم، وأنت تتحمل هذه الجريمة، وتنال شيئاً من وزره، ويحاسبك الله سبحانه وتعالى على ذلك؛ لأنك أنت الذي تسببت في حصوله على هذا المنصب، فإذا كنت مسلماً فقل من البداية لا أفعل ذلك ولا أختارك، فهناك من هو أتقى منك، وهذا حكم ينبغي أن يكون في جميع تصرفات المسلمين. في حياتهم، فإذا ما رضي رضي لله سبحانه وتعالى، وإذا ما غضب غضب لله، وإذا ما أحب أحب لله سبحانه وتعالى، وإذا ما أبغض أبغض لله، وهذا أساس الدين: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]، وكما يقول ابن عباس: وهل الإيمان إلا الحب في الله والبغض في الله. فهذا هو أساس الدين الذي يسير عليه المسلم، فعندما يفعل الفعل فإنه يفعله لأن الله يحبه، وعندما يحب فلاناً إنما يحبه لأنه يحب الله سبحانه وتعالى ويحب الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك الأعمال والأقوال، فهذا مبنى حياة المسلمين وطريقتهم، إلا أن بعض المسلمين متناقض، فإنه يأتي بيت الله يقرأ القرآن ويذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا جاءت الأمور العملية التي يخالف فيها رأي فلان حكم الله إذا به يختار رأي فلان وما يحبه ويريده فلان، سبحان الله العظيم! فهذا التناقض قائم في حياة الناس، ومشكلة المسلمين اليوم أن حياتهم مليئة بالتناقضات في تصرفاتهم وفي أعمالهم، وهذا شر ومرض ينبغي أن يتخلصوا منه، وهو جزء من النفاق العملي الذي يعيشه المسلمون، فهناك نفاق عملي، فهناك فارق بين ما يقوله المسلمون وما يتحدثون عنه وما يعتقدونه وبين تصرفاتهم وأعمالهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

حكم الكلام أثناء الخطبة

حكم الكلام أثناء الخطبة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: هناك بعض التنبيهات أريد أن أنبه عليها، فقد شكى بعض الإخوة في خطبة الأسبوع الماضي أن أصوات الأخوات اللواتي كنا معنا في الأسبوع الماضي كانت مرتفعة، بحيث يسمعها الرجال الجالسون في المسجد، فقد كان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر به، وكان المسلمون يلتزمون به، وكان في جملة الحضور نساء، فكان يأمر ألا يتكلم متكلم في أثناء الخطبة. كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلام حتى ولو كان إسكاتاً لمن بجانبك، فإذا تكلم رجل بجانبك فلا تستطيع أن تقول له أنصت، كما في الحديث: (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت)، فهذا يعد لغواً نحاسب عليه، فمن آداب الاستماع في يوم الجمعة ألا يتحدث متحدث في أثناء حديث الخطيب إلا أن يكون حديثاً معه، فإذا عرض شيء يحتاج معه أن يتحدث المستمع مع الخطيب فلا بأس، وقد حدث مثل ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كلم أناس الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على المنبر، وكلم الرسول صلى الله عليه وسلم رجالاً في بعض المسائل، ودخل رجل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فخاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا سليم -وكان اسمه سليم الغطفاني - هل ركعت ركعتين؟ يعني: تحية المسجد، قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما)، فإذا دخل الرجل المسجد فلا ينبغي له أن يجلس حتى يصلي ركعتين، ثم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، وهذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه.

أطفال الأنابيب وبنوك الحيوانات المنوية

أطفال الأنابيب وبنوك الحيوانات المنوية سألني بعض الإخوة في الأسبوع الماضي حول ما نشر في بعض الصحف عما يسمى بطفل الأنابيب، وعن البنوك التي تنوي بعض الدول الأوروبية إقامتها، فقد كتب في بعض الصحف أن بعض الدول الأوروبية تنوي إيجاد بنوك للحيوانات المنوية التي تكون في الرجال، ثم تختار النساء منها ما يلائمها؛ لغرض تحسين النسل. فأما طفل الأنابيب فهذا شيء لم يسمع به الجميع، وكل ما هنالك أن البويضة التي تكون في رحم المرأة تلقح ثم تترك في هذه الأنبوبة فترة ما؛ لأن الرحم لا يقبلها أو لأنها لا تلقح إذا بقيت في الرحم، ثم ترجع إلى الرحم مرة ثانية فتنمو فيه كما كانت تنمو من قبل، فهنا الطور فيه مرض أو مشكلة، فهم عالجوا هذه الفترة الزمنية إلى أن تستطيع أن تستقر البويضة في الرحم. وأما هذا الفعل الذي يفكر فيه بعض الأوروبيون، فهو فعل من أفعال الجاهلية وإن اختلفت الصورة، فقد كانت صورته معروفة عند أهل الجاهلية، وكان يسمى بنكاح الاستبضاع، فقد كان الرجل إذا أراد أن يكون له نسل جيد وحاضت امرأته فإنه يمتنع عنها ولا يجامعها ولا يعاشرها، ثم يقول لها اذهبي إلى فلان -لرجل قائد أو زعيم أو عظيم أو شجاع- فاستبضعي منه، أي: تزني معه؛ كي يأتي نسل جيد، ثم يعتزلها حتى يظهر حملها، ثم إن شاء بعد ذلك عاشرها وإن شاء لم يعاشرها إلى أن تضع حملها. وهذا النكاح، وهو زنى، واليوم لا يريدون أن يكون الأمر بهذا الشكل حتى لا يظهر أنه زنى، وإنما يأخذون نطفة فلان ويحفظونها في مكان، فإذا جاءت امرأة تطلب نوعاً خاصاً من هذا الماء أو ذاك الماء من رجل معين، وله صفاته معينة أعطوها منه فحملت بهذا الصبي، وأبوه هو الذي خرجت منه هذه النطفة، فهذا نوع من الزنى، وهو حرام لا يجوز وإن تغيرت الطريقة التي كان يمارسها أهل الجاهلية. فهؤلاء الذين يعيشون هناك ليس عندهم دين ولا شرع منزل من عند الله سبحانه وتعالى يتحاكمون إليه، وأما نحن فهذا حرام لا يجوز في شرعنا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، واستر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

التوكل على الله

التوكل على الله التوكل على الله سبحانه وتعالى عبادة، وقد أمر الله عز وجل نبيه بالتوكل والاعتماد عليه سبحانه في كل شئونه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بذلك، ولابد أن تعلم هذه الأمة أنه لا مخلص ولا مخرج لها من الفتن والمصائب إلا الرجوع إلى الله والتوكل عليه، وذلك لا ينافي الأخذ بالأسباب المادية والشرعية، إذ لابد من الأمرين معاً.

أهمية التوكل والاعتماد على الله

أهمية التوكل والاعتماد على الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة! كنا عندما خلق الله تبارك وتعالى أبانا آدم في جنة من دخلها ينعم ولا يشقى، كما قال رب العزة لآدم عليه السلام: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119]، ليس فيها جوع ولا عري، ولا حر ولا برد، ليس فيها عناء ولا شقاء، قال الله لآدم: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، فأهبط إلى الأرض، فكانت هي دار الشقاء، لا ينال الإنسان لقمة العيش إلا بعد تعب شديد، يحرث ويبذر، ثم يرعى ما زرع إلى أن يستحصد، ثم يحصد ويدرس ويطحن ويعجن ويخبز إلى أن ينال لقمة العيش، وكذلك لباسه وبيته. ومن اجتماع البشر مع بعضهم مشكلات، وفي المشكلات تعب وعناء وشقاء، يظلم الإنسان الإنسان، وقد يكون الإنسان ضعيفاً فلا يستطيع أن يحصل على لقمة عيشه، وفي مواجهة المشكلات يختلف الناس اختلافاً بيناً كبيراً، فمن الناس من يكون في القمة، ومن الناس من يكون في الحضيض، ومن الناس من يكون بين هذا وذاك. فبعض الناس يظنون أنه يمكنهم أن يخوضوا غمار الحياة بأنفسهم اعتماداً على سلطان، أو اعتماداً على مال، أو اعتماداً على عشيرة وقبيلة، ومن الناس من يشعر بضعفه فيستسلم للمذلة والهوان، ولا يقارع ولا يصاول. والمنهج الذي علمنا الله تبارك وتعالى إياه أن نلجأ إلى ربنا تبارك وتعالى، وأن نعتمد عليه فيما واجهنا من مشكلات في حياتنا، وهذا هو الذي سماه الله تبارك وتعالى بالتوكل على الله عز وجل، أي: اعتماد القلب على الله تبارك وتعالى في أموره كلها، ليسأل الله تبارك وتعالى وهو يخوض غمار الحياة، ويواجه مشكلات الحياة. بعض الذين فقدوا عقولهم في القديم والحديث كانوا يعتمدون على حجارة صماء، أو شجرة، أو على الشمس والقمر، أو على النجوم فيما لا يستطيعه، وكان هذا هو الحضيض الذي وصلت إليه البشرية في كثير من فترات التاريخ.

التوكل وفعل الأسباب

التوكل وفعل الأسباب علمنا الله تبارك وتعالى أنه مالك السماوات والأرض، وقيوم السماوات والأرض، بيده ملكوت كل شيء، الأمر أمره، والقول قوله، والحكم حكمه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، له جنود السماوات والأرض، وعنده خزائن السماوات والأرض، فهو المستحق أن يعبد، وأن يتقى، وأن يستسلم له، وأن يخضع له، وأن يتوكل عليه، وأن يسأل وحده تبارك وتعالى؛ لأنه المالك لذلك كله. تطلب من الله تبارك وتعالى طعامك وشرابك، وأن يعينك فيما يواجهك من مشكلات، ذاك أمر لا بد منه، وأيضاً هدايتك وتوفيقك لما يحبه الله تبارك وتعالى لك، أن يوفقك ويهديك لما يحبه ويرضاه، كما فعل الصالحون من قبلنا والأنبياء والرسل وهم يواجهون أقوامهم. ثم في نصرهم على عدوهم والعصبة المؤمنة تواجه عدوها، تواجه الباطل والشر في صراعها، ليس لها ملجأ إلا أن تعتمد على الله تبارك وتعالى، وأن تتوكل على الله عز وجل، لم يكونوا يفعلون كما فعل المتأخرون أو بعض المتأخرين عندما وصلت جيوش نابليون إلى مصر، اجتمع علماء الأزهر في ذلك الوقت يقرءون صحيح البخاري وصحيح مسلم، لعل ذلك يدفع الجنود الفرنسيين عن بلاد الإسلام، ولكن بعد معركة أحد عندما ظن المسلمون أن المشركين قد يعودون إليهم ليستأصلوهم، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين جرحى متعبين، خرج إلى حمراء الأسد على بعد سبعين كيلو متر من المدينة، وعندما مر بهم قوم لقنهم أبو سفيان أن يقولوا للمسلمين: إن أبا سفيان وقومه عائدون إليكم ليستأصلوا شأفتكم، وليزيلوكم من الوجود، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم خليل الرحمن عندما ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] امتثالاً لقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: أن الله تبارك وتعالى كافيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بذل الأسباب، فأخذ ما يستطيع من قوة من أصحابه وما معهم من سلاح، فبذل السبب الذي يمكن أن يبذل، ولكنه لم يعتمد على السبب، وإنما اعتمد على رب السبب، اعتمد على الله تبارك وتعالى، فعندما كان يهاجمه المشركون ما كان يجلس في بيته ليقرأ القرآن، ويتلو آيات الكتاب، ويعظ الناس في المسجد، وإنما كان يجمعهم ويحثهم على أن ينفقوا في سبيل الله، فيشتري السلاح وآلات الحرب، ويشتري الخيل والجمال، ويخرج للعدو، وينظم صفوفه. خرج في يوم أحد وقد ظاهر بين درعين، الواحد فوق الآخر، وكان سيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه، فهذه أسباب ولكن قلبه معلق بخالق الأسباب. حكمة الله تبارك وتعالى إذا جعت أن تأكل، وإذا عطشت أن تشرب، وإذا رأيت أفعى أن تقاتلها، وإذا جاءك عدو أن تستعد له، فلا بد من اتخاذ الأسباب، ولكن فوق الأسباب رب الأسباب، بيده النصر، وبيده ملكوت كل شيء، يعينك ويسددك ويوجهك.

فضل التوكل والمتوكلين على الله

فضل التوكل والمتوكلين على الله علمنا الله تبارك وتعالى أنه مالك السماوات والأرض، وقيوم السماوات والأرض، بيده ملكوت كل شيء، الأمر أمره، والقول قوله، والحكم حكمه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، له جنود السماوات والأرض، وعنده خزائن السماوات والأرض، فهو المستحق أن يعبد، وأن يتقى، وأن يستسلم له، وأن يخضع له، وأن يتوكل عليه، وأن يسأل وحده تبارك وتعالى؛ لأنه المالك لذلك كله. تطلب من الله تبارك وتعالى طعامك وشرابك، وأن يعينك فيما يواجهك من مشكلات، ذاك أمر لا بد منه، وأيضاً هدايتك وتوفيقك لما يحبه الله تبارك وتعالى لك، أن يوفقك ويهديك لما يحبه ويرضاه، كما فعل الصالحون من قبلنا والأنبياء والرسل وهم يواجهون أقوامهم. ثم في نصرهم على عدوهم والعصبة المؤمنة تواجه عدوها، تواجه الباطل والشر في صراعها، ليس لها ملجأ إلا أن تعتمد على الله تبارك وتعالى، وأن تتوكل على الله عز وجل، لم يكونوا يفعلون كما فعل المتأخرون أو بعض المتأخرين عندما وصلت جيوش نابليون إلى مصر، اجتمع علماء الأزهر في ذلك الوقت يقرءون صحيح البخاري وصحيح مسلم، لعل ذلك يدفع الجنود الفرنسيين عن بلاد الإسلام، ولكن بعد معركة أحد عندما ظن المسلمون أن المشركين قد يعودون إليهم ليستأصلوهم، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين جرحى متعبين، خرج إلى حمراء الأسد على بعد سبعين كيلو متر من المدينة، وعندما مر بهم قوم لقنهم أبو سفيان أن يقولوا للمسلمين: إن أبا سفيان وقومه عائدون إليكم ليستأصلوا شأفتكم، وليزيلوكم من الوجود، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم خليل الرحمن عندما ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] امتثالاً لقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: أن الله تبارك وتعالى كافيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بذل الأسباب، فأخذ ما يستطيع من قوة من أصحابه وما معهم من سلاح، فبذل السبب الذي يمكن أن يبذل، ولكنه لم يعتمد على السبب، وإنما اعتمد على رب السبب، اعتمد على الله تبارك وتعالى، فعندما كان يهاجمه المشركون ما كان يجلس في بيته ليقرأ القرآن، ويتلو آيات الكتاب، ويعظ الناس في المسجد، وإنما كان يجمعهم ويحثهم على أن ينفقوا في سبيل الله، فيشتري السلاح وآلات الحرب، ويشتري الخيل والجمال، ويخرج للعدو، وينظم صفوفه. خرج في يوم أحد وقد ظاهر بين درعين، الواحد فوق الآخر، وكان سيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه، فهذه أسباب ولكن قلبه معلق بخالق الأسباب. حكمة الله تبارك وتعالى إذا جعت أن تأكل، وإذا عطشت أن تشرب، وإذا رأيت أفعى أن تقاتلها، وإذا جاءك عدو أن تستعد له، فلا بد من اتخاذ الأسباب، ولكن فوق الأسباب رب الأسباب، بيده النصر، وبيده ملكوت كل شيء، يعينك ويسددك ويوجهك.

التوكل سبب لدخول الجنة بغير حساب

التوكل سبب لدخول الجنة بغير حساب التوكل على الله يترقى فيه المسلم ليكون قمة المسلمين، وخيرة البشرية عندما تجتمع البشرية يوم القيامة، وهذه الأمة هي الأمة الكبرى التي يدخل منها الجنة ما لا يعلمه إلا الله، وفي مقدمة صفوفها منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آخر رجل يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فهؤلاء صفوة هذه الأمة، وخيرة هذه الأمة، وزبدة هذه الأمة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم -أي: كيف تأتي يوم القيامة - فرأيت النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل -آمن معه رجل واحد! - والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، إذ عرض لي سواد كثير، فظننت أنهم أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه -الذين آمنوا مع موسى جمع كبير-، ثم عرض لي سواد كبير سد الأفق، فقيل: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً)، فلما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء السبعين ألفاً: من هم؟ أهم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أم هم السابقون إلى الإسلام؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) قمة الإيمان قمة العبودية قمة التقوى: أن تتوكل على الله تبارك وتعالى. والتوكل ليس كلمة تقال: توكلت على الله! اعتمدت على الله! وإنما هي حقيقة تتمثل في القلب ويرتبط القلب بها، فيتعلق القلب بربه وخالقه؛ لأنه يعرف ربه، وقدرته، وقوته، وغناه، وملكه، وأمره ونهيه، فيتوكل عليه تبارك وتعالى.

التوكل على الله هو العصمة من مشاكل الحياة

التوكل على الله هو العصمة من مشاكل الحياة التوكل على الله هو العصمة لمواجهة مشكلات الحياة، فهموم الحياة وأوجاعها ومشاكلها التي يواجهها العباد لن يجدوا الأمن الحقيقي منها ولو ذهبوا حتى إلى شركات التأمين، وكنزوا الأموال، وفعلوا ما فعلوا، فلن تجد البشرية الأمن، ولن يجد الإنسان الأمن ما لم يمتلئ قلبه توكلاً على الله تبارك وتعالى. فعندما يمتلئ قلبه بالتوكل على الله يجد الأمن والاطمئنان، وييسر الله تبارك وتعالى له أمره، ويحيي ذكره، ويجعل له نوراً يمشي به، ويجد حياته سهلة لينة ولو كان يأكل الخبز الجاف، ويسكن البيت المظلم، فإن لم يكن كذلك لا يجد الأمن. الناس يبحثون عن الأمن ولا يجدونه وهو يهرب منهم؛ لأنه ليس هناك اعتماد وتوكل على الله، بعض التوكل يكون واضحاً، وفي بعض الأحيان تنقطع الأسباب والعلائق، فلا يجد الإنسان سبباً يستمسك به، فهذا هو المضطر، فإذا لجأ إلى الله بصدق ففي غالب الأحيان يستجيب الله له، مثل سفينة في لجة البحر انكسرت ألواحها، أو تقاذفتها الأمواج في يوم عاصف، من الذي ينجيها؟! طائرة عطل محركها وأخذت تتأرجح بأهلها وركابها، فراكبها هو المضطر، ومثل إنسان ألقي في بئر لا يسمع صوته أحد، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62].

التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب

التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب إذا توجه العبد إلى الله بصدق وكان مضطراً ينجو؛ لأن الله تبارك وتعالى يجيب المضطر إذا دعاه، وفي حال الأمن يلجأ كثير من الناس إلى الأسباب، ولا ينظر إلى خالقها، يلجأ إلى أصحاب السلطان والمال وفلان وفلان ولا يتوكل على الله. وبعض الناس يزعم أنه متوكل على الله ولا يلجأ إلى الأسباب، وكلا الفريقين ليس على صواب. الولد مريض، أنت مريض، ما طالبك الله بأن تجلس في بيتك ولا تتعاطى العلاج. والذي يذهب إلى الطبيب وهو يعتقد أنه يملك الشفاء أيضاً هذا مخطئ. والذي يتعالج ويعلم أن هذا سبب وأن الشافي هو الله تبارك وتعالى هذا هو الذي أخذ بالمنهج الحق. والذي يستنصر الله على عدوه -كما يفعل المسلمون الآن- من غير أن يتخذ سبباً فقد أخطأ الطريق. والذي يقاتل ويظن أنه بقوته سينتصر على عدوه وينسى أن له رباً قوياً قادراً مخطئ. والذي يقاتل عدوه ويطلب ما عند الله تبارك وتعالى ويسأل الله عز وجل الاستقامة على أمره هو الذي أصاب الطريق، ونصر الله تبارك وتعالى ينزله عليه إذا صدق مع الله عز وجل. قمة العبودية في ميزان الله تبارك وتعالى أن تتوكل على الله، وأن تعتمد عليه، وأن تلجأ إليه في أمورك كلها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

المخرج من مآسي المسلمين

المخرج من مآسي المسلمين الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. وبعد: لن تتخلص هذه الأمة مما يحيط بها من بلاء إلا إذا عرفت ربها، وعرفت دينها، وعرفت كيف تسلك طريقها في حياتها. من هذا البلاء الذي تعيش فيه الأمة من كل الجهات، أعداؤها يحيطون بها أعداؤها يمزقون أبناءها، ويهتكون أعراضها، ويحتلون أراضيها آلام ومآسٍ في فلسطين في لبنان في أفغانستان في الفلبين في الهند أينما وليت وجهك تجد مآسي يعيشها المسلمون في مثل هذه الديار، في مصر في بلاد الشام في الخليج، مشكلات اقتصادية، ومشكلات اجتماعية، وتمزقات، كل هذا يحتاج إلى علاج، وقد وضعه الله تبارك وتعالى في كتابه، فعلى المسلمين أن يأخذوا هذا العلاج، وأن يعتمدوا على الله تبارك وتعالى. وضياع المسلمين إنما جذبهم بسبب أخذهم من الشرق والغرب، ومن النظريات والفلسفات، ثم ماذا بعد؟! لا نزال حيث نحن، بل نتأخر إلى الوراء، أما آن للمسلمين أن يعرفوا ربهم، وأن يلجئوا إليه، وأن يستمدوا من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يتوكلوا عليه في أمورهم، في معالجة نفوسهم، ومشكلاتهم، ودفع أعدائهم. ومن أعظم ذلك أن يواجهوا أعداءهم، ففي ذلك حياتهم، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] فعلى المسلمين أن يعرفوا ربهم، وأن يتوكلوا على الله تبارك وتعالى، وأن يتوجهوا إلى الله تبارك وتعالى عله أن يرحمهم، وأن يزيل ما بهم. هذا سبيل واحد ينبغي أن يلجأ إليه المسلمون، فيطهروا أنفسهم، فهذه الأنفس يجب أن تتطهر ثم تتجه إلى الله تبارك وتعالى ليكون في ذلك الخير والسعادة. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا. اللهم كفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

جريمة إقصاء الشريعة

جريمة إقصاء الشريعة عادة ما يسير الأعداء وفق خطط مدروسة للنيل من أمة الإسلام، وفي هذه المرة كان الصيد ثميناً، فقد تمكنوا من تنحية الشريعة من حياة الناس العملية، وحاصروها من الناحية العلمية قدر المستطاع، حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه من التلويح بالسيف لكل من يريد إعادة الشريعة إلى مكانتها، كل ذلك تم عبر تاريخ بدأ به نابليون ثم ازداد بمؤامرات الاستعمار وأذنابه.

خطوات نقل الأحكام الوضعية إلى بلاد المسلمين

خطوات نقل الأحكام الوضعية إلى بلاد المسلمين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: أيها الإخوة! في سنة 1882م أقصيت الشريعة الإسلامية عن بلد مسلم له الصدارة بين البلاد العربية ألا وهو مصر، وفي ظني أن المسلمين أو الكثير منهم لا يعرفون هذا التاريخ؛ لأنه عام مأساة، فلقد نجح الكفار بعد جهد طويل في تحقيق هدف من أهدافهم الكبيرة ألا وهو إبعاد الرابطة الإسلامية التي تجمع المسلمين وتوحد كلمتهم، وتربط فيما بينهم، الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى لتكون ذكراً لنا ومجداً وعزاً. لم تحدث هذه الجريمة من قبل في تاريخ الإسلام بهذه الصورة أبداً، فلقد كان بعض حكام المسلمين يتفلتون من الشريعة في بعض الأحيان، لكن أن يحدث أن تأتي دولة فتلقي بالشريعة في سلة المهملات، وتستبدل بها قوانين وضعها البشر، وتقول لخالق البشر رب العزة سبحانه وتعالى: حكمك لا يصلح لمجتمعاتنا، ولا لقرننا، ولا لحضارتنا، إنما الذي يصلح هو حكم نابليون، وقضاء وفقه لمبير، وما وضعه الدكتور السنهوري؛ لم يحدث هذا في تاريخ المسلمين أبداً. ذكر ابن تيمية رحمه الله أن بعض حكام المسلمين كانوا يخرجون عن بعض أحكام الشريعة الإسلامية في بعض الجزئيات، ويسمون هذا بالسياسة، ولكن ما كانوا يجرءون أن يقولوا: إنهم يتبعون قانوناً أو تشريعاً غير تشريع الله.

محاولة التتار حكم المسلمين بقانون الياسق

محاولة التتار حكم المسلمين بقانون الياسق حدث مرة واحدة أن حاول أعداء الإسلام أن يغيروا قانون المسلمين في ديار الإسلام، ذلكم عندما اجتاحت جحافل التتار ديار المسلمين، وقضت على مركز الخلافة في بغداد سنة 656هـ، وكان التتار يتحاكمون إلى قانون سموه بـ (الياسق)، كما يذكر ذلك المقريزي وابن كثير، وهو قانون كانوا يتحاكمون إليه، وقد نقل ابن كثير في كتابه البداية والنهاية جملة من أحكام ذلك القانون، وهو قانون ظالم أخذه هولاكو من اليهودية والنصرانية والإسلام وما تبدى له من آراء. وحاول أن يفرض ذلك القانون على الأمة الإسلامية فما وجد عندها قبولاً، ولم يمض فترة طويلة من الزمان حتى داس التتار قانونهم بأرجلهم، وأخذوا شريعة الإسلام، وتغيرت وثنيتهم ليصبحوا جنداً من جند الإسلام، فالذين جاءوا ليحكموا بالياسق رفضوه، وإذا بدين المغلوبين يغلبهم ويأسرهم، وإذا بهم يتحولون إلى جيوش جرارة تقاتل لحساب الإسلام.

محاولة نابليون فرض قانونه على المسلمين

محاولة نابليون فرض قانونه على المسلمين تبدأ قصتنا مع القوانين الوضعية في العصر الحديث، وما سأذكره لكم هو عن دراسة لم تلجئني إليها هذه المحاضرة، وإنما هي دراسة بدأت بها منذ وقت، تتبعت فيها خطوط الجريمة النكراء التي أصيب بها المسلمون في عصرنا، فوجدتها بدأت في القرن الماضي، وبالتحديد في سنة 1798 - 1799م، عندما اجتاحت جيوش نابليون بونابرت مصر، وأراد أن يمكن للفرنسيين والصليبيين في دار الإسلام، وبدأ يضع الخطوط الأولى للمؤامرة في مصر، ولكن ما قابله من مواجهة في مصر وبلاد الشام، ثم تكتل الدول الكبرى كبريطانيا وغيرها ضده، لم يمكنه من أن يتابع أو ينفذ المخطط الذي في رأسه، ولكن المخطط كان قد اتفقت عليه الدول الكبرى، ومن يقرأ الوصية التي تعرف بوصية بطرس الأكبر في روسيا يرى المخطط الذي ينفذ في أيامنا واضحاً في وصيته. إلى سنة 1857م كانت الأحكام الشرعية لا تزال تنفذ في القارة الهندية على الرغم من احتلال بريطانيا للهند قبل ذلك بفترة، وكانت بريطانيا تلغي الأحكام الشرعية واحداً واحداً، حتى استطاعت طمس الشريعة في سنة 1857م كما يذكر ذلك العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله في حاشيته على كتاب القانون الإسلامي وطرق تنفيذه.

المحاكم المختلطة وأثرها في بداية تغيير حكم الشريعة في مصر

المحاكم المختلطة وأثرها في بداية تغيير حكم الشريعة في مصر في سنة 1867م كانت هناك مفاوضات تجري بين مصر، ويمثلها وزير خارجيتها في ذلك الوقت -وهو نصراني كـ بطرس غالي اليوم، واسمه: نوبار باشا - وبين الدول الكبرى حول الخلخلة التي سوف تجري في القضاء في مصر بسبب تدخل قناصل الدول الكبرى فيما يجري من أحكام تخص رعاياهم، ثم كانت النتيجة: أن اتفقت تلك الدول مع مصر على إنشاء المحاكم المختلطة، والمحاكم المختلطة مكونة من مجموعة من القضاة ثلاثة منهم من غير المسلمين، واثنان من المصريين، وقد يكونون من المسلمين وقد يكونون من الأقباط، وكلف نوبار باشا محامياً نصرانياً فرنسياً بأن يضع له قانوناً للمحاكم المختلطة، فنقل القانون الفرنسي الذي وضع في سنة 1804م من قبل نابليون ليحكم به فرنسا، نقله بنصه ليكون حكماً في رقاب المسلمين، وأقر في سنة 1873م أن هذا القانون يحكم به في القضايا التي يكون فيها علاقة بين مصر وغير مصر، وكانت تلك خطوة. وفي سنة 1883 نقل قانون المحاكم المختلطة إلى ما سمي بالمحاكم النظامية التي حكمت مصر من ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، وجعلت تلك القوانين والأحكام التي وضعت للحكم في فرنسا للمحاكم المختلطة سنة 1875م، ثم بعد ذلك عممت ليحكم بها في سنة 1883 في جزء من القطر المصري، وما بين عام 83 و 89 عممت على جميع القطر المصري، وقام ضدها علماء المسلمين، وصرخوا وصرخ معهم الناس، ولكن كانت بريطانيا قد دخلت بعد أن واجهها عرابي واحتلت مصر في (سنة 1882)، وأقرت تلك القوانين. وابتدأ الكفار يقطفون ثمار تخطيط طويل منذ ذلك الوقت، وأخذت تنحصر وتضيق الأحكام الشرعية على الأحوال الشخصية: الزواج، والطلاق، والميراث.

تغيير الحكم بالشريعة في تركيا

تغيير الحكم بالشريعة في تركيا تركيا أصيبت أيضاً بما أصيبت به مصر، مع أنها كانت الدولة التي تحمي الإسلام وتقوم على الشريعة الإسلامية، ولقد ظن بعض حكام الدولة التركية أنهم يستطيعون أن ينقذوا دولتهم من الضعف، وأن ينهضوا بها عندما يسيروا مسيرة الأوروبيين، ويسلكوا منهجهم، والحقيقة أن الخلافة العثمانية لم تنته في سنة 1923م بعد الحرب العالمية الأولى، بل انتهت قبل ذلك بكثير، عندما قبل الحكام الأتراك أن يغيروا الشريعة الإسلامية، وهذه مسألة لا تذكر في المحاضرات التي يذكر فيها العمومات ولا يذكر فيها التفاصيل.

إصدار مجلة الأحكام العدلية

إصدار مجلة الأحكام العدلية في سنة 1839م صدرت لائحة في تركيا لتنظيم القضاء، كان من نتيجتها أن انفتحت الدولة التركية على القوانين الأوروبية، وأخذت بعض القوانين لا بنصها وإنما فيها بعض الأحكام المخالفة للشريعة الإسلامية. وأخذت في ذلك الوقت الأحكام المدنية أو القانون المدني من فقه الإمام أبي حنيفة في مواد متسلسلة مرتبة كالقوانين الوضعية، لكنه كان مأخوذاً من فقه أبي حنيفة، وسمي ذلك القانون بمجلة الأحكام العدلية، وطبقت في تركيا وفي الولايات التي كانت تتبع تركيا كسوريا والعراق ولبنان والحجاز وغيرها من الولايات. ثم بدأت تصدر قوانين متوالية في جانب العقوبات والتجارة وغيرها تؤخذ من القانون الفرنسي ثم النمساوي وهكذا بدأ التغيير شيئاً فشيئاً، حتى لم يبق في القانون العثماني من قانون الأحكام الشرعية في العقوبات والقوانين الأخرى إلا قليل، ثم إن مجلة الأحكام العدلية التي أخذت من الفقه نسخت؛ لأن القوانين الأخرى التي كانت تصدر من هنا وهناك كانت تنسخ هذه الأحكام شيئاً فشيئاً، لكن كانوا يخافون من ثورة الناس، فكانوا يعملون بالخفاء.

مضحكات مبكيات

مضحكات مبكيات من المضحكات المبكيات: أن بعض الحكام في مصر عندما نقلوا قانون نابليون أتوا ببعض المشايخ، وقالوا لهم: نريد منكم أن تبينوا لنا كيف يمكن أن نطبق قانون نابليون على الطريقة الإسلامية، فأخرجوا كتاباً مؤلفاً يبينون كيف أن هذه الأحكام التي وضعها نابليون مأخوذة من الفقه الإسلامي ومستمدة من الأحكام الشرعية، وكان اسم الكتاب: تطبيق قانون نابليون على مذهب الإمام مالك. نحن لا ننكر حقيقة يتغافل عنها الكفار وأثبتها البحث العلمي وهي: أن نابليون لما جاء إلى مصر سنة 1798 أخذ كتب المذهب المالكي واستفاد منها في وضع القانون الذي صدر في سنة 1804، ولم أر رجلاً من رجال القانون الغربي يشير إلى هذه الحقيقة أبداً، وهذه الحقيقة مطموسة، ولكنه أخذها ووضعها بعدما نسخها، وغير كثيراً من أحكامها، فهناك تشابه، ولكننا نأخذ قانون الله على أنه حكم من عند الله سبحانه وتعالى، ولو أن أمة من الأمم أخذت هذا القانون ليصلح حياتها، ولم تعترف بأنه منزل من عند الله، وأنها تتحاكم إلى الله لم ينفعها ذلك. في تركيا ومصر كان العمل يجري في الخفاء، والمسلمون يتألمون وليس في أيديهم عمل شيء، وكل ما يستطيعونه هو أن يرفعوا أصواتهم ويتكلموا في المساجد ليعارضوا ما يجري في ديارهم من تغيير لرابطة قامت عليها دولتهم، وبها عزوا، ولكن ليس في اليد حيلة خاصة وأن الجهل كثير، والعلم قليل.

طمس معالم الشريعة في تركيا

طمس معالم الشريعة في تركيا في سنة 1914 دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى، وانتهت بالهزيمة، وكان الذين خططوا لهذه القضايا جاءوا بأناس يعملون على أعينهم، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى ألغيت الخلافة الإسلامية، وألغي منصب شيخ الإسلام، وألغيت الشريعة الإسلامية، ومنع من قراءة القرآن باللغة العربية، ومنع من التأذين باللغة العربية في تركيا، وبقي دين الدولة الإسلام شكلياً، وفي سنة 1924 لما تمكنوا ألغوا هذه الكلمة الموجودة في دساتير الدول العربية الآن ذراً للرماد في العيون، وصارت تركيا دولة علمانية، وهي التي قادت العالم الإسلامي منذ منتصف القرن الرابع عشر الميلادي أو الخامس عشر الميلادي، وفتحت جيوشها معقلاً من أكبر المعاقل الصليبية، واستولت على تركيا، وجعلتها منارة تشع على الكون، وكانت هي الدولة الكبرى التي إذا قال حاكمها تسمع الدنيا صوته، وإذا حرك حاكمها جيوشه اهتزت أوروبا لصولته، وقد وصلت جيوشها إلى أعماق أوروبا، وصلت إلى النمسا وإلى أسوار فيينا.

جوانب الخلل التي مكنت لتنحية الشريعة في تركيا

جوانب الخلل التي مكنت لتنحية الشريعة في تركيا هذه الدولة في طرفة عين أصابها ما أصابها، كيف حدث هذا؟ كيف جرى هذا؟ هناك جانبان: الجانب الأول: ما يتعلق بنا نحن، فالذي يدرس الفترة الأخيرة من حياتنا، يجد فينا الخلل، فرغم أن تركيا من حوالى خمسة أو ستة قرون كانت قوية باسم العالم الإسلامي الكبير، كانت هناك أمراض خطيرة موجودة. الجانب الثاني: ما فعله الأعداء، فقد خططوا لهذه القضية، ومن يراجع أقوالهم ويقرأ أخبارهم في القرون الثلاثة الأخيرة، يجد نصوصاً صريحة تدل على أنهم يخططون للقضاء على الأمة الإسلامية بعد أن فشلت الحروب الصليبية في القضاء على الأمة الإسلامية، وعرفوا أنه ينبغي أولاً حتى يستطيعوا أن يسيطروا علينا -والعداء بيننا وبينهم مستحكم- أنه لا بد من أن يبعدونا عن ديننا وعقيدتنا. عرفوا أن الأمة الإسلامية إذا كان رجالها ونساؤها وأبناؤها ملتصقين بالإسلام فلن يبيعوا هذا الدين، ولن يبيعوا أمتهم، ولن يبيعوا أوطانهم، ولا يمكن أن يضعوا أيديهم في أيدي أعدائهم؛ لأن القضية فيها جنة ونار، فيها غضب الله ورضوانه، تذكرون كلمة غلادستون في مجلس العموم البريطاني عندما رفع المصحف في يده وقال: ما دام هذا القرآن يتلى في الشرق فلن نستطيع أن نفعل شيئاً، والحاكم العسكري في الجزائر عندما وقف بعد مرور مائة سنة على احتلال فرنسا للجزائر قال: لا يمكن أن نسيطر على هؤلاء في هذا البلد حتى نزيل القرآن من قلوبهم، وحتى ننهي اللغة العربية من هذه الديار، كانوا يعرفون أن هذا هو المقتل الذي يجب أن يصيبونا فيه. ثم حدثت الهزائم العسكرية التي تصيب الإنسان بنوع من الإحباط، ويظن الجهال أن الأعداء انتصروا لأنهم يزنون، ولأن نساءهم عاريات، كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: المغلوب مولع بتقليد الغالب، ويظن أن كل ما يفعله الغالب هو سبب انتصاره، ولو كان يفجر ويفسق ويزني، لظن أن هذا هو سبب النصر، وفينا من يقول: ينبغي أن نقلد أوروبا في كل شيء، وخرج هذا الجيل المهزوم بعد أن هزمنا عسكرياً ثم هزمنا نفسياً، خرج أناس من هذا الجيل ينادون بأن علينا أن نأخذ بالحضارة الأوروبية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها! ركز الكفار على هذا الجانب من خلال هزيمتنا، وجئنا بما يسمى بنهضة الأمة الإسلامية، فلم نزدد إلا تأخراً ولم نزدد إلا هزيمة، وما تقدمنا إلى الأمام أبداً. حرص الكفار أن يأخذوا رجالاً منا من القرن الماضي، ويدرسوهم على أعينهم، ويغرسوا فيهم أفكارهم، ورجع إلينا هؤلاء أساتذة، وباحثين وخبراء، ولكن بفكر أعدائنا، كان يركز عليهم تركيزاً شديداً جداً، فإذا هم بوق من أبواقهم في ديارنا، ثم سلمت إليهم المراكز العليا في الجامعات والمدارس ووزارات التربية والتعليم، بل من الحكام من أثر عليهم في هذا المجال، وخاصة في المؤسسات التي يتخرج أصحابها ليكونوا قضاة، ففي كليات الحقوق وضعت لها مناهج بعيدة عن الشريعة الإسلامية، ووضع لها مدرسون ابتداءً من غير المسلمين، ثم المدرسون الذين تخرجوا من الجامعات الأوروبية رجعوا ليدرسوا في مدرسة الألسن في القاهرة التي أصبحت فيما بعد كلية الحقوق. وخرج أجيال لا يفقهون الشريعة الإسلامية، ولا يفقهون القضاء الإسلامي، اقرءوا مقدمة الشيخ عبد القادر عودة في كتابه: التشريع الجنائي، وكتاب: الإسلام وأوضاعنا القانونية، وكيف أنه كان جاهلاً بالشريعة الإسلامية ولا يعرف عنها شيئاً، وكان قاضياً يقضي بما تعلمه في مدرسة الحقوق، وكان الذي لفت نظره ذكريات كان يعرفها من قراءته في السيرة: أن الحاكم الفلاني فعل كذا، والحاكم الفلاني فعل كذا، والقاضي الفلاني فعل كذا، فلما رجع إلى كتب الفقه وجد ثروة ما كان يعرفها ولا سمع بها، ولا قرأها، وكانت مسيرة مباركة قرأ فيها الفقه الإسلامي، وتحول إلى الإسلام تحولاً عن قناعة وعلم، وأخرج لنا هذا الكتاب الذي لم يكتب مثله -في غالب ظني-، وكان من أسباب قتل عبد القادر عودة كتابه: الإسلام وأوضاعنا القانونية، وأوصي بأن يقرأ هذا الكتاب قراءة متفحصة؛ لأنه أعلن الثورة على القوانين الوضيعة بشكل سافر، فهو يريد أن يهدم بالصراحة بناءً بناه الكفار في قرون.

قادة تغيير الحكم بالشريعة

قادة تغيير الحكم بالشريعة أخذ الكفار أبناءنا وعلموهم فأفسدوهم، وجاءوا بهم باحثين في جامعاتنا ومدارسنا، مادة واحدة أو مادتين تدرس في كلية الحقوق، ثم يتخرج من كلية الحقوق أبناء المسلمين وأبناء النصارى، ويدرس فيها أناس أوروبيون، أو نصارى بل يدرس فيها كل من هب ودب؛ لأن هذا ليس شريعة إسلامية بل قانون وضعي، وأشرب أبناء المسلمين حب هذه القوانين، وصارت فقهاً وتشريعاً، وصار الإنسان لا يؤلمه قلبه عندما يدرس هذه القوانين، ولا يتألم عندما يحكم بها ويتحاكم إليها. في البداية نحن الآن أصبحت لدينا نغمة إسلامية، يقول لك: يا أخي التدرج والتدرج والتدرج، وهذا كلام قد يكون له نصيب من الصحة، لكن بالله عليكم الكفار عندما سنحت لهم الفرصة هل تدرجوا؟ لا، بل في سنوات قليلة في قطر مثل مصر ينقل من حكم الشريعة الإسلامية إلى الحكم بالقوانين الوضعية. من الذي يضع القوانين؟ يضعها الكفار بأيديهم؛ لأنهم لم يكن لديهم رجال فقهاء بالقانون الفرنسي مثلما أصبح في أيامنا هذه، فكان أول قانون وضعه مانوري أفغانسي، وهو محام كان موجوداً في مصر، ولا يعرف اللغة العربية، وكما يقول سنهوري وغيره: رجال القانون المصريون مسخوا القانون الفرنسي، يعني: لم يتركوه على ما هو عليه، ثم بعدما وضع المحامي القانون لمصر ترجم، وكتب على النسخة العربية بعد الترجمة على أنه النسخة الأصلية، انظر إلى الضحك على العقول! فهم وضعوا القانون الفرنسي وترجموه، وبعدما ترجموه إلى العربية كتبوا على النسخة العربية: هذه هي النسخة الأصلية، والنسخة الفرنسية هي المترجمة، واللغة العربية هي الأصل، وهذا كذب. وهذا أيضاً حدث في القانون العراقي الجنائي، فقد كان مكتوباً باللغة الإنجليزية ثم ترجم إلى العربية، وكتب على النسخة المترجمة أنها هي الأصل! وهذا كذب ودجل يصنع كلما غيرت هذه القوانين وبدلت. وفي سنة 1883م أتى إيطالي اسمه مرندو فجلب قانون المحاكم المختلطة بعد أن ظهرت عيوب القانون الفرنسي، وزاد الإجرام، وزادت الفضائع والزنا والفساد، فبدءوا يفكرون في التغيير، وكلما كان يفكر في التغيير يؤتى بلجان كافرة لا تفعل سوى أن تعيدنا مرة أخرى إلى القوانين التي يحكم بها في أوروبا. أقرأ عليكم بعض أسماء الذين قادوا حركة التغيير القانوني حتى نعرف حجم المصيبة التي أصابت هذه الأمة، وقد أرادوا أن يجعلوا القانون متقارب مع الأوضاع في مصر، وشكل مجلس الوزراء المصري في ذلك الوقت لجنة لتعديل القانون مكونة من صليب سامي باشا ومسولينان ديبلهون، وهو ليس مصرياً وحسب، ولكنه لا يعرف اللغة العربية، ومستر مري جريهان، ومسيو لنناد ديفي، ومسيو ألفرد وصبولي، هذه لجنة تعديل القانون للأمة المصرية! ثم غيرت هذه اللجنة بلجنة أخرى فيها نفس الأسماء وأسماء أخرى كلهم على نفس النمط. وفي سنة (1938م) أسندوا وضع القوانين لاثنين: واحد من كبار رجال القانون في فرنسا اسمه: جانبير، والسنهوري، وقد اجتهد في وضع هذا القانون فظل في إعداده منذ سنة 37 إلى سنة 38، وهذا هو القانون الذي نفذ في سنة (1949م). وكان من شروط ألا تحتل الدولة الأوروبية تركيا في معاهدة (كلنتن) في سنة (1923م): أن تلغى الشريعة الإسلامية! وفي سنة (1936م)، جرت معاهدة بين مصر والدول أصحاب الامتيازات لإلغاء المحاكم الشرعية، والمحاكم المختلطة، وتوحيد القضاء المصري، وتم ذلك سنة (1946م)، وكان من شروط المعاهدة: ألا تعود مصر لأحكام الشريعة الإسلامية، وأن تأخذ بالقوانين الأوروبية! والدكتور السنهوري شرح القانون المصري في كتاب سماه: الوسيط، وهو في مجلدات ضخمة كثيرة، ويقول: إنه أخذ هذا القانون من عشرين قانوناً، ولم يأخذ من أحكام الشريعة إلا الشيء القليل، بل يقول في مقدمة الكتاب: إن هذا القانون مستقل، ولا يجوز أن يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية، مع أن كثيراً من الناس يحسن الظن بالدكتور السنهوري، والحقيقة أن هذا الرجل من أخطر الناس الذين أفسدوا في هذا العصر إفساداً ليس له حدود، وكان حريصاً على أن يغير الأحكام الموجودة في كل بلد إسلامي، فهو الذي وضع القانون العراقي، وخلط فيه بين أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية. وفي سنة (1956م) عندما استقلت ليبيا كما استقلت كثير من الدول العربية ظاهراً أول عمل عملوه أن أحضروا الدكتور السنهوري إلى ليبيا، وبسرعة البرق وبدون تروي نقل القوانين المصرية التي وضعها في مصر لليبيا، بل من السرعة والعجلة نقل أحكاماً بنصها تتعلق بطمي النيل ووضعها في القانون الليبي! وأحكاماً تتعلق بمحافظة القاهرة بنصها ووضعت في القانون الليبي! وأشياء أخرى مضحكة. وفي سوريا عندما حصل انقلاب حسني الزعيم فأول عمل قاموا به هو تغيير الأحكام الشرعية، فكان الناس في عجلة، فإذا وصلوا إلى الحكم في الديار الإسلامية فأول قضية كانوا يحرصون عليها هي أن تغير البقية الباقية من ديننا! وفي سنة (1923م) أرادوا أن يغيروا قانون الأحوال الشخصية، فقامت ثورة في مصر، ثم غيرت بعضها حكومة الثورة في الخمسينات بدون أن يقيموا عليها ثورة، وألغت البقية الباقية من الأمور الشرعية، وبعض الأحكام الشرعية كانت ولا تزال موجودة في الأحوال الشخصية، لكن ألغي الاسم وأزيل كل شيء اسمه محاكم شرعية.

نماذج القوانين الشرعية عبر التاريخ

نماذج القوانين الشرعية عبر التاريخ من المصائب الكبيرة في دراسة هذا الموضوع والتي تلفت نظر الباحث والتي أدركتها أخيراً عن بعض حكام الدولة العثمانية، فلقد كانت الدول الأوروبية تجرجرنا كما تشاء، ومن أعجب ما يقف عليه الباحث في تاريخ هذه الدولة أن سليمان القانوني حكم الدولة العثمانية في قمة توسعاتها، وبلغت غاية قوتها وغاية توسعها في عهد سليمان القانوني، ومع ذلك أعطى سليمان القانوني للدولة الفرنسية أخطر وثيقة، وهي ما يسمى بالامتيازات الأجنبية النجم، فصار لدولة كافرة مثل فرنسا الحق في رعاية الذين هم على دينها ومن رعاياها في داخل الدولة الإسلامية، فكان لا يجوز أن يحاكم رجل ولا يعتدى على رجل من رعايا الدولة الفرنسية، ولا تستطيع الحكومة أن تدخل بيته، وكادت فرنسا أن تقيم معركة بينها وبين تركيا عندما جاء حاكم بعد فترة وألغى الامتيازات الأجنبية، فحشدت فرنسا قواتها لتحارب تركيا، وفعلاً عندما ضعفت تركيا كانت الامتيازات الأجنبية من أخطر ما أذلت هذه الأمة، واقرءوا مذكرة السلطان عبد الحميد وهو يعترف بهذا فيقول: إن الامتيازات الأجنبية منافية لكرامتنا، ولقد أذلتنا. يعترف بهذا في مذكراته فالشريعة الإسلامية لا تقبل أن حاكماً يعطي للدولة الكافرة حق التدخل في شئون الدولة الإسلامية الداخلية، فهذا الحاكم المسلم وقع في خطأ، وأعطى السبيل على نفسه للكفار ليفسدوا في ديارنا، ثم تكون النتيجة ما رأينا في النهاية. مأساتنا وصلنا نحن الآن بعد مسيرة طويلة إلى المصاب الذي نحن فيه الآن، كانت الشريعة الإسلامية ملغاة، ومن يطالب الآن بالشريعة الإسلامية تحز رقبته، ويصير متطرفاً، والمتعقلون يقولون لك: المهم أن تصلي وتصوم وتزكي، نحن هنا في فرنسا، وبريطانيا، وأمريكا نصوم ونصلي ولا أحد يقول لنا: لا. إذا كانت المسألة قضية عبادة ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حارب، وقد وجدت جماعة اسمهم الحنفاء، كانوا يوحدون الله قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان أحد من الناس يتعرض لهم، لكن لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا عبادة الأصنام، ويقول لهم: الحكم لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، اختلف الأمر، في تركيا الدولة العلمانية إذا شئت أن تصلي لا أحد يمنعك، لكن أن يكون الله هو الحاكم الذي يحكم الكون، ويحكم الإنسان لأنه خلق الإنسان، ولأن حكمه هو الذي يصلح للإنسان، لا، وهي صورة متكررة في جميع مراحل تاريخ البشرية، إذ كل رسول يأتي يقول للناس: الله إلهكم ومعبودكم، اعبدوه وحده وتحاكموا له وحده، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، ويقول لهم: الأمر أمره والخلق خلقه، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. أنت الله خلقك وأوجدك، وصورك، وسواك، فله الخلق لا شريك له، وله الأمر وحده، فليس لغيره أمر، فإذا خالف أمره أمر غيره فلا اعتبار له، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]. قبل (سنة 2000) قبل الميلاد وضع حمورابي قانوناً، ولا يزال موجوداً محفوظاً في المتحف الفرنسي، وهو مكتوب على حجر طوله تسعة أمتار ونصف، يشتمل على (320) مادة، وقانون مانو في الهند موجود، والقانون الروماني في آخر صورة له عندما كانوا يتحاكم إليه في بيزنطة في القسطنطينية لا يزال موجوداً بين أيديهم، هذه قوانين وضعها البشر، وشرائع الله التي أنزلها على رسله حدثنا الله بها، فكانت هذه القوانين مضاداة للشرائع التي أنزلها الله، ونحن اليوم نعيش صراعاً بين الذين آمنوا بالله ورضوا به رباً يعبدونه وحده لا شريك له، وبين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى أفكارهم وقادتهم وزعمائهم ورؤسائهم، ويريدون أن يكون الأمر لغير الله، وأن يكون الحكم لغير الله، ومن سنة الله أن ينشأ الصراع. هذا الصراع نجح فيه الكفار في القرن الماضي، وكانت الجولة لهم لضعف في النفوس ولأسباب استطاع أن ينفذها الكفار بدقة، ولكن بعد أن نشأ في المسلمين من يعرف القضية لا بد من جولة أخرى، نحن بدأنا هذه الجولة ونحن نقدم في كل يوم ضحايا، ونقدم جهداً ومالاً، ولكن هذا هو لب المعركة، وسيستمر الصراع إلى أن يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة من يرفع الراية مرة أخرى، وأن يلم شعث المسلمين، وأن يعيد بهم للإسلام عزته، ويرفع بهم رايته، لترتفع الشمس من جديد، وتشرق على القلوب والعباد، فيرضى بذلك رب العباد سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

مضمون وصية بطرس الأكبر ضد المسلمين

مضمون وصية بطرس الأكبر ضد المسلمين Q ما هي وصية بطرس الأكبر الموجهة ضد الإسلام التي ذكرتموها في محاضرتكم؟ A يمكنك أن تطلع على هذه الوصية في كتاب تاريخ الدولة العلية في تاريخ الدولة العثمانية، وهو كتاب في مجلد واحد، نقل هذه الوصية بنصها، وفيها مخطط يبين كيف يمكن للدولة في ذلك الوقت في روسيا أن تقتحم معاقل المسلمين، وما هي الخطوات التي ينبغي أن يسلكوها حتى يصلوا إلى أهدافهم. ولا تزال روسيا الشيوعية إلى اليوم تستفيد من هذه الوصية، وفي هذه الوصية: لا بد أن يجد الروس منفذاً لهم على البحار التي في بلادنا. وإلى الآن روسيا الشيوعية تستفيد من هذه الوصية؛ لأن روسيا قبل ذلك كانت نصرانية، وهذه وثيقة تبين لنا وجود تخطيط عام مسبق، وهناك بعض النصوص الموجودة عندي عن هذه القضية وفيها أقوال وتخطيطات بعض الرؤساء القدامى في أوروبا حول هذه القضية.

التعريف بعبد القادر عودة

التعريف بعبد القادر عودة Q من هو عبد القادر عودة؟ A عبد القادر عودة أحد رجالات الحركة الإسلامية الذي أفضى إلى ربه بعد أن قاوم الظلم والطغيان وألف مؤلفات كثيرة، وكان له باع طويل في الجهاد في مصر، وهو أحد رجال حركة الإخوان الكبار في مصر، أعدم في الاضطهادات الأولى التي أقامتها الثورة في مصر ضد الإخوان المسلمين.

حكم مزاولة المحاماة والأعمال المحرمة

حكم مزاولة المحاماة والأعمال المحرمة Q ما هو الحكم الشرعي في مزاولة العمل كمحامي؟ A هذه القضية لا أستطيع أن أحكم فيها بحكم قاطع، لكن أنا لا أستريح قلبياً إلى أي مسلم يعمل قاضياً ويتقاضى إلى القوانين الوضعية، أو محام يترافع إلى القوانين الوضعية؛ لأن هذا القانون قانون كافر، معارض للشريعة الإسلامية، فلما أحتج أنا بنصوصه فمعنى ذلك أنني أقره حتى ولو كنت أريد أن أخفف بعض مصائب المسلمين، ورضا المسلم بهذه القوانين معناه أنه مسلم بها، وأقل درجة من الدرجات أن يبغض الباطل. بعض المسلمين لهم وجهة نظر في هذا، لكن هذا الذي أنا أستريح إليه، ولا أقول: إن هذا الأمر نهائي، لكن أنا أنقل مشاعري فقط، أنا لا أستريح إلى أن المسلم يعمل قاضياً أو يعمل محامياً، فمعنى ذلك أنك تؤمن به أصلاً، والذي ينبغي أن تحاربه وترفضه. أنا عندما يقول لي رجل: أنا أضع أموالي في البنك الربوي وآخذ فائدتها وأعطيها للمسلمين، أقول له: لا. كانت هناك مصيبة وقعت في الكويت بسبب الأسهم، ودمر فيها ناس كثير، ففي هذه الفترة اتصل بي أحدهم وقال: يوجد بنك ربوي فيه أسهم، بمجرد أن يساهم الإنسان فيه فبعد أسبوع ممكن أن يبيع ما اشتراه بدينار بعشرة دنانير، وقال: ولا أنتظر البنك حتى يشتغل، أنا فقط آخذ الأوراق هذه وبعد أسبوع أو أسبوعين أبيعها، فالمائة دينار تأتي لي بألف دينار، قلت: ليست هذه القضية، أنت مسلم أم لا؟ قال: مسلم، قلت له: هل تقبل أن تقام خمارة في بلاد المسلمين، أو أن نعمل مزرعة خنازير في ديار المسلمين؟ قال: لا، قلت له: وكذلك الربا أشد من الزنا، أشد من الخمر، أشد من تربية الخنازير، معنى ذلك أنك راض بهذا، وينبغي أن ترفع صوتك، وتقول: هذا حرام، لا تبنوا بنكاً في ديار المسلمين، حولوا هذه البنوك إلى بنوك تتعامل بالشريعة الإسلامية، فإذا أنت رضيت بهذا، فيوم القيامة سيسألك ربك: كيف رضيت بهذا؟ كذلك بالنسبة للقوانين الوضعية، المفروض أننا نطالب بإلغائها وإزالتها، لا أن نكون سدنة لهذه القوانين، ويصير القاضي مقدساً، ولما يدخل يقوم له الناس، ومعه شرطة تحميه على الباب، والذي يخالف نص القانون يا مصيبته. فأنا أقول: ينبغي التفكير في القضية هذه أكثر من هذا، والمسألة ليست بهذه السهولة.

طرق محاربة القوانين الوضعية

طرق محاربة القوانين الوضعية Q كيف نلغي القوانين الوضعية؟ وكيف نحارب القوانين الوضعية؟ A سأضع لك النقاط على الحروف: أولاً: أن نكره هذه القوانين، ونبغضها، ونعتقد أنها بلاء وليست خيراً، وهل الإيمان إلا الحب في الله والبغض في الله، أنت تحب الإنسان لما فيه من الخير لأنه مسلم، وتكرهه لأنه كافر، فتحب الأخلاق التي يحبها الله، وتبغض الأخلاق التي يبغضها الله، فتحب شريعة الله وتبغض قوانين الكفر. هذه أول قضية. ثانياً: أن تعلن هذا بلسانك كلما استطعت، وأن تبين هذه القضية. ثالثاً: أن تقوم حركة منظمة للمسلمين تسعى لإقامة حكم الله في الأرض، وأن ينخرط فيها المسلمون؛ لأن إعادة بناء الدولة الإسلامية لا يقوم به أفراد، وإنما يقوم به جماعات.

خطط الأعداء في امتصاص مطالب تطبيق الشريعة

خطط الأعداء في امتصاص مطالب تطبيق الشريعة Q تكونت لجنة في السودان لإعادة أحكام الشريعة الإسلامية برئاسة الشيخ حسن الترابي، وبقرار من الحاكم بغير شرع الله جعفر محمد نميري، فما رأيك في جدية هذه اللجنة تحت حكم وظلم هذا الحاكم؟ A هناك ضغوط في العالم العربي والإسلامي لإعادة حكم الله في الأرض، وجريدة الأخبار قبل عشرين يوماً عملت استفتاء دخل فيه حوالى ثلاثة آلاف من عينات مختلفة من الشعب المصري، وكانت النتيجة أن 96% من الشعب المصري يريد حكم الشريعة الإسلامية. في كل مكان توجد ضغوط من المسلمين يريدون أن يتحاكموا إلى الشريعة الإسلامية، ولا بد أن أعداء الإسلام يمتصون هذه المشاعر الفياضة، فيجعلون الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع؛ أو من المصادر الشريعة الإسلامية، وتقوم معركة حول هذه القضية. في باكستان الآن يطبقون أحكام الشريعة، الزاني يجلدوه حتى يكرهوا الناس بشيء اسمه إسلام، يحدثني أحدهم فيقول: يؤتى بالزاني، ويربط من يديه ورجليه، ويؤتى برجل مفتول العضلات، ومعه عصا غليظة طولها حوالى أربعة أو خمسة أمتار، ويذهب إلى بعيد ثم يأتي وهو يركض وبأقوى قوته يضرب الزاني خمس جلدات أو ست جلدات حتى يموت المجلود، وجلدوا ثمانية فماتوا! بالله عليكم: هل هذا هو حكم الشريعة الإسلامية؟! هذا فيه ضغط على المسلمين الذين يريدون الشريعة الإسلامية، وينقلون هذا بالتلفزيون! أعوذ بالله، أهذا هو حكم الإسلام؟ هل هذه الطريقة التي يحكم الإسلام بها؟! فقهاء الإسلام قالوا: الجلد يكون بسوط ليس بالطويل ولا بالقصير، وليس بالجديد ولا بالقديم، الجديد يجرح، والقديم لا يؤذي، والجلد ليس أعلى شيء ولا أخف شيء بل وسط، وإذا كان الإنسان مريضاً لا يقام عليه الحد حتى يبرأ ويشفى، وهم يطبقون الحد بهذه الطريقة حتى ينفر الناس من الإسلام، لا من أجل إقامة أحكام الشريعة الإسلامية. كذلك في كل البلاد الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وضع هذا النص وماذا تغير؟ لم يتغير شيء، وكلما انتفض المسلمون انتفاضة امتصوا غضبهم، في أحد البلاد قريباً وضعوا لجنة من أربعة، ثلاثة قالوا: الشريعة الإسلامية لا تنفع في هذه الأيام، وقالت الحكومة: أنا لا ذنب لي، اللجنة ما وافقت، يعني: كأن اللجنة لو وافقت سيطبقون، وما علموا أن رب العزة يريد هذا، فيجعلون رأي اللجنة مقدماً على رأي رب العزة وعلى حكمه! هذا واقع الأمر، فهذه من جملة المغالطات على المسلمين هنا وهناك. وفي سوريا في مطلع الخمسينات أرادوا أن يلغوا دين الدولة الإسلام من الدستور، ولولا أن الثورة قامت والناس قاموا بضجيج لما أبقوا الكلمة. في مصر وقف السادات وقال: أنا أعرف أن السياسة من الدين، لكن أنا أقول: لا سياسة في الدين، فلا أحد يتكلم، ويقول: الدين له دخل في السياسة! وأضله الله على علم، القضية ليست قضية عالم أو غير عالم، يا أخي لو أن شخصاً يعرف الوضوء والصلاة، هل تقول له: تعال أعلمك الوضوء حتى تصلي، هو لا يريد أن يصلي أصلاً؟! فما يجري في السودان هو من هذا القبيل. ما وصلنا إليه من شقاء ومصائب ومآس على أيدي هؤلاء المجرمين الأوروبيين ألا يحق للمسلم أن يحمل في قلبه دوماً حقداً وبغضاً؟ فيجب أن نكرههم ونبغضهم في الله. أيها الإخوة! نحن نحب الله، والذي يبغضه الله نبغضه، والذي يحبه الله نحبه، المسألة في غاية البساطة، فـ أبو جهل لو قلت له: يا أخي يا حبيبي، يقول الله: كيف هو أخوك وحبيبك وأنا أبغضه؟! وإذا سببت عمر بن الخطاب، يقول ربنا: كيف سببته وأنا أحبه؟ القضية في هذه السهولة، أفرق بين الحب والعمل، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبغض اليهود ويحسن إليهم، قال الله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، وقال الله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، نحن نبغضهم ولا شك في هذا؛ لأنه لا يجتمع في قلب مسلم حب الله وحب أعداء الله، كيف يجتمع هذا؟! نحن نبغض كل كافر وكل مشرك، وإن كنا نحب لهم الخير بأن يسلموا، وفرق بين أننا نبغضهم لأنهم على الشرك كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، تلبسوا بأكبر قذارة وهو الشرك، الذي لا يمكن أن تغسله إلا نار جهنم، فنحن نبغض كل مشرك وكل كافر؛ لأن الله يبغضه، ولأنه لا يستقيم على أمر الله، لكن يمكن أن نحسن إليهم إذا كانوا لا يقاتلوننا في الدين، ونحب لهم الخير والإسلام، فالتفريق بين هذه النقاط الثلاث ضروري: محبة المؤمن، وبغض الكافر، والكافر مع كوننا نبغضه يمكن أن نحسن إليه، ونتمنى له أن يسلم ونحب له ذلك، إذا وضحت هذه النقاط الثلاثة لا توجد مشاكل. فكيف أن تحب الكافر، وهم كما قال الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:88 - 91]، ثم تقول لمن اتخذ للرحمن ولداً: أنت حبيبي، وأنت أخي، وأنا أخوك؟! لا يمكن هذا.

وصف البلاد الإسلامية وبلاد الكفر

وصف البلاد الإسلامية وبلاد الكفر Q هل البلاد الإسلامية اليوم بلاد إسلام أو بلاد كفر؟ A بلاد الإسلام هي التي تطبق الشريعة الإسلامية، وبلاد الكفر هي التي أهلها كفار، فالبلاد الإسلامية اليوم لا ديار إسلام ولا ديار كفر، فيها مسلمون، لكن ليس فيها تطبيق للشريعة الإسلامية؛ لأن هذه أحكام جاءت لتفصل القضايا.

إقامة الأحكام الشرعية مقام القوانين الوضعية

إقامة الأحكام الشرعية مقام القوانين الوضعية Q هل هناك دستور أو قانون إسلامي ممكن أن نقارن فيه الأنظمة الوضعية؟ A أحكام الشريعة الإسلامية مدونة عندنا في الكتاب والسنة، وعندنا اجتهادات الفقهاء، صلب القانون الإسلامي هو الأحكام الشرعية، وتكملة القانون الإسلامي في الأحكام الاجتهادية، والأحكام الشرعية المنصوص عليها بالكتاب والسنة لا اختلاف فيها.

إقامة الحدود لا تكفي في إقامة الشريعة

إقامة الحدود لا تكفي في إقامة الشريعة Q هل تطبيق الحدود وحدها يكفي؟ A لا، الحدود جزء من أحكام الشريعة الإسلامية، يقول العلامة المودودي رحمه الله: كيف نطبق على الناس أحكام الزنا والمرأة في الشارع عريانة، والأفلام الفاسدة منتشرة؟! لا بد أن يكون التطبيق متناسقاً، ولا بد أن الحكومة وكل الأمة تسير في اتجاهها إلى التطبيق، لا بد من منع الفساد والشرور، وقضايا الخير الموجودة في الشريعة الإسلامية التي تمنع من السرقة والزنا، لا بد أن يتناسق هذا مع هذا.

استسلام التتار لحكم الإسلام

استسلام التتار لحكم الإسلام Q ذكر فضيلتكم أن التتار حين غزوا الدولة الإسلامية، أخذوا بالشريعة الإسلامية، والمشهور أنهم دمروا الخلافة العباسية؟ A هم في بداية أمرهم أفسدوا وحطموا، ولم يكن هناك في تاريخ البشرية فعل كأفعال التتار، ولكن في النهاية أسلموا، وهذا معروف تاريخياً.

حكم التحاكم إلى محاكم القوانين الوضعية

حكم التحاكم إلى محاكم القوانين الوضعية Q ماذا يفعل المسلم الذي يضيع حقه في بلد لا يحكم بغير الإسلام، فهل يحاكم خصمه في المحاكم أم يصبر؟ A هذه من المشاكل، لكن أقول: إذا كان حكم الحاكم له بأكثر من حقه الذي تحكم به الشريعة الإسلامية لا يأخذه، بل يأخذ مقدار ما تعطيه الشريعة الإسلامية، فإذا ظلمته هذه القوانين يحتسب عند الله سبحانه وتعالى، لكن الخطورة أن يكون الإنسان قاضياً وحاكماً، أو يرضى بهذه الأحكام، لكن يضطر إلى أخذ حقه في بعض الأحيان، وإذا كان هذا الحق قليلاً وتافهاً فمن الممكن أن يبتعد عن هذه الأمور.

مقاتلة المسلمين لليهود

مقاتلة المسلمين لليهود Q من الذي سيحارب اليهود والصهاينة إذا لم تكن مصر وحكام مصر في الصف العربي وهي الدولة الكبرى في العالم العربي، فهل توجد أمة عربية تحرر فلسطين وغير فلسطين؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله)، الذي سيحرر فلسطين هم عباد الله المسلمون، وهم في مصر كثير، وفي بلاد الشام كثير، وفي باكستان كثير، وهم الآن يمنعون من حرب يهود، وعندما تحين الفرصة، ويسمح للمسلمين أن يجاهدوا في فلسطين فلن تبقى يهود، فلن يحرر فلسطين أناس يرفضون التحاكم إلى شريعة الله، والتقاضي إلى القرآن الكريم، إنما تحررها السواعد المؤمنة التي ترتل آيات الله في الليل وأطراف النهار، وتقيم الحق، هذه هي الأيدي التي ستحرر فلسطين، أما الأيادي القذرة فلن تحرر فلسطين.

حكم التعاون مع أصحاب القوانين الوضعية

حكم التعاون مع أصحاب القوانين الوضعية Q هل يجوز التعاون مع من لا يحتكم إلى شرع الله سبحانه وتعالى؟ وما هي حدود ذلك، وكذلك الحدود الشرعية في حالة الاتحاد معهم؟ A التعاون مختلف، وهذه كلمة مطاطة، لا يجوز التعاون في إقضاء الأحكام الشرعية وعدم تحكيم القوانين الشرعية، مع بقاء التعاون في نشر الخير في الأمة الإسلامية، وفي تعليم الإسلام كل بحسبه، فالتعاون في الخير خير، والتعاون في الشر شر.

حكم شراء الأسهم

حكم شراء الأسهم Q شراء الأسهم والاستفادة منها مستقبلياً ما حكمه في الشريعة الإسلامية؟ A إذا كانت الشركات تتعامل بالحلال، فلا بأس من شراء أسهمها وفق الضوابط الشريعة، فهناك ضوابط شرعية في البيع والشراء، فيشتري الأسهم وفق هذه الضوابط الشرعية. وإذا كانت الشركات لا تتعامل بالأحكام الشرعية فلا يجوز بحال من الأحوال أن يتعامل المسلم معها، فالشركة القائمة على الربا مثل البنوك أو الشركات التي تقوم بتصنيع الخمر، هذه لا يجوز التعامل في أسهمها بحال من الأحوال، أما الشركات التي تتاجر في الحلال فلا بأس أن تشترى أسهمها، ولكن وفق الضوابط الشرعية.

حكم مدرسي كليات الحقوق

حكم مدرسي كليات الحقوق Q ما حكم الذين يدرسون في كليات الحقوق؟ A ما منعنا من دراسة الطلبة المسلمين في كليات الحقوق، ولكن ليهدموا هذه القوانين، وتكون نيتهم بالدراسة هذا، ففي أثناء الدراسة وهو يدرس هذه المواد لابد أن يتضلع من الشريعة الإسلامية والفقه والأصول بحيث يكون عالماً بدينه، ثم بعد ذلك يكون أقدر على أن يعرف مقاتل ومعايب القوانين الوضعية، وعندما يتحدث يكون أخبر من غيره بها، فلا مانع من الدراسة فيها بهذه النية إن شاء الله.

وجوب السعي حتى يحصل النصر

وجوب السعي حتى يحصل النصر Q كلما ذهب ظالم جاءنا رجل أظلم، كلما يذهب فاسد يأتي رجل أفسد، فما نفعل؟ A لا تدري متى ينطلق الينبوع من الأرض، نحن نسعى لنجاهد، ونحن نتعامل مع رب العباد لا مع البشر، الحركة التي يتحركها الإسلام مع الله سبحانه وتعالى، كيف ومتى نصل؟ الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم متى سيصل، كان يوقن بأن النصر آتٍ، ويوقن بوعد الله سبحانه وتعالى، ولكن الله أعلم كيف ومتى.

مراتب إنكار المنكر

مراتب إنكار المنكر Q في الحديث: (من رأى منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ولكن رتبتم خطوات محاربة المنكر بعكس تسلسل الحديث؟ A أنا لم أرتب قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنا أجبت على سؤال: كيف نحارب القوانين الوضعية؟ فأقول: القضية الأساسية للمسلم أن أقل درجة من القضايا أن يكون منكراً لهذا في قلبه، ثم إن كان يستطيع أن ينكر بلسانه ينكر، والترتيب إما تنازلي وإما تصاعدي، يعني: إما أن ترتبها من الأعلى وتنزل، أو ترتبها من الأسفل ثم تصعد بها إلى الأعلى.

حكم الالتحاق بالمؤسسات القضائية للتغيير

حكم الالتحاق بالمؤسسات القضائية للتغيير Q هل يجوز الالتحاق بالمؤسسات القضائية من أجل التغيير؟ A بعيد أن يلتحق المسلم بالمؤسسات القضائية حتى يغير، وماذا تغير؟ أصلاً الذي يقفز داخل القفص وهو مغلق عليه لا يستطيع أن يخرج منه، كيف تغير؟ وكيف تعمل للتغيير؟ لو جاءتك قضية زنا، فالقانون الوضعي يلزم القاضي أن يسأل الزاني: كم عمرك؟ فيقول: خمسة وعشرون سنة، ثم يقول للزانية: وأنت كم عمرك؟ فتقول: ثلاثة وعشرون سنة، فيقول: أنت راضية؟ فتقول: أنا راضية، فيقول: انصرفا، مع السلامة! هكذا القانون الوضعي، هل ستقول له: يا فلان! اتق الله، ربنا حرم هذا، بينما القانون الوضعي على العكس. أنت ما موقفك؟ ولو قلت: اجلدوهم، من الذي سيجلدهم؟! ولو برأتهم، كيف تبرئهم؟ القضية مشكلة، وليست بهذه السهولة التي يتصورها السائل.

التدريج في إقامة الأحكام الشرعية

التدريج في إقامة الأحكام الشرعية Q ما رأيكم في الاتجاه الذي يقول: نطبق الأحكام الشرعية تدريجياً فنجلد الزاني أولاً عشر جلدات وهكذا تدريجياً؟ A لا يوجد تدرج في هذه القضايا، المهم أن يستلم المسلمون الحكم، ثم ينفذوا أحكام الإسلام، وفي حال عدم استلام المسلمين للحكم فلا تطبيق للأحكام الشرعية، أقصد أحكام القضاء التي تطبقها السلطة، أما الأحكام الشخصية فيما يتعلق بين العبد وربه فلابد للمسلم أن يلتزم بها. وأقول: لا تدرج في الحكم، فالحكم الشرعي لا نجعله خمس جلدات، ثم عشر جلدات، لا تدرج في هذا، لكن أقول: الآن تطبيق هؤلاء الحكام لبعض الأحكام الشرعية بهذه الصور مصيبة من المصائب، وتناقض، يعني: هذا إفساد للأحكام الشرعية.

أثر محمد عبده في الترويج للحضارة الغربية

أثر محمد عبده في الترويج للحضارة الغربية Q هل هناك من دور لـ محمد عبده في ترويج أفكار الحضارة الغربية والمساعدة على إيجاد قبول لدى المسلمين لهذه الأفكار؟ A الحقيقة أن ما يعرف الآن بعملية التجديد في الفقه الإسلامي عند بعض المستغربين هي أثر من الآثار التي فعلها محمد عبده ومن قبله، وهذه العملية ما زالت تتسع إلى الآن، وليس معنى ذلك كما يقول بعض الناس: إن محمد عبده كان خائناً، فأنا لا أظن به هذا الظن، ولكنه تأثر وفتح ثغرة بانفتاحه على المنهج الغربي، وهذه ما زالت إلى الآن تتسع وتتسع وتتسع حتى وصلت عند بعض الذين يدعون إلى الإسلام إلى درجة أنه يحاول أن يصور الإسلام بغير الصورة التي هو عليها.

نوع الشريعة التي يطبقها حكام إيران الشيعة

نوع الشريعة التي يطبقها حكام إيران الشيعة Q هل نستطيع أن نسمي إيران أقرب دولة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي؟ A لا، الصورة غير واضحة عند حكام إيران في تطبيق الشريعة الإسلامية، لأن التطبيق ينبني على الفهم، فهم يؤمنون بالقرآن لكن ما هو تفسير القرآن عندهم؟ نحن تفسير القرآن الأساسي عندنا هو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، المشكلة الآن أن الشيعة في إيران ما عندهم تطبيق للقرآن، نحن عندنا حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، والدولة الأموية فيها ممارسات عبر تاريخ طويل في تطبيق الأحكام الشرعية، وهم يتنكرون لكل هذا التاريخ، ما عندهم تاريخ طبقت فيه الشريعة الإسلامية إلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالصورة عندهم غير واضحة في كيفية تطبيقه؛ لأنهم يرفضون النصوص والوثائق العلمية التي تبين كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم طبق الشريعة، وكل كتب السنة لا يقبلونها!! وبعد ذلك يؤمنون بفترة وجيزة من حياة علي بن أبي طالب من سنة 35هـ إلى 40 هجرية، ويؤمنون أن هذه الفترة طبق فيها الإسلام، وغير ذلك لا. أما نحن فالصورة واضحة عندنا، يعني: كل قضية من قضايا الحكم فيها عشرات المؤلفات، ولنا فيها تجربة طويلة، ليست قليلة، عندما نعود إلى الحكم الإسلامي، عندنا الدستور المالي للدولة الإسلامية في مؤلفات، أو القانون التجاري للدولة الإسلامية في مؤلفات، في كل مجال من المجالات عندنا مؤلفات كثيرة وعندنا تجارب كثيرة، لكن الشيعي يقول: أنا لا أؤمن بكتب السنة، ولا يوجد وقت طبقت فيه الأحكام الشريعة إلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد علي بن أبي طالب، وبقية العصور لا يعتبرونها ولا يستفيدون منها. وصلاة الجمعة عندهم صلاة غريبة جداً، صلاة يتعجب الإنسان منها، صورة غريبة من أغرب ما يراه الإنسان، ما عندهم الطريقة العملية المنهجية التي نسميها السنة، فالسنة هي الطريقة، سنة الرسول صلى الله عليه وسلم طريقته في تنفيذ الأحكام، الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله، كان جبريل يتوضأ أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في صورة بشر، والرسول يتوضأ مثله، يصلي ويصلي مثله، أشياء عملية يأخذها عن جبريل، فإذا رفض الإنسان كل هذه النصوص من السنة، يصبح فقهه للقرآن ضعيفاً. على ما هناك من انحرافات في العقيدة والتوجهات، كل هذه تجعلهم غير مؤهلين، ولذلك الآن حتى كثير من الإيرانيين يقول: نحن ما كنا نعلم أن الإسلام بهذا الشكل، كثير من المسلمين الآن يتنكر ويقول لك: إذا كان هذا الإسلام فلا نريده، كما يحدث في الباكستان أقرب دولة من الشيعة؛ لكن هذه الصورة السيئة في التطبيق تكره ملايين الناس من الباكستانيين أنفسهم بالإسلام. كذلك بالنسبة لما يجري في إيران نفس القضية، الآن في مصر يقال للإنسان العادي: هل تكره الشيوعية؟ فيقول: أعوذ بالله من الشيوعية والاشتراكية، الأمريكان والبريطانيون مهما كانوا فهم أحسن منهم مليون مرة، لم؟ لأن الشيوعيين الروس جاءوا إلى مصر، وطبقت الشيوعية على ما فيها من سخافة تطبيقاً سيئاً، وهي ممسوخة مثل القوانين، ثم مسخت أكثر من ذلك عندما طبقت في بلد فأصبح المصري العامي الذي كان لا يعرف ما هي الشيوعية يقول: روس أعوذ بالله، لا يمكن. أنا مرة زرت الأهرام فكان معنا الدليل، فقلت له: هل رأيت الروس؟ قال: الروس لا يعطونا فلساً؛ لكن الأمريكان والبريطانيين يدفعون بسخاء، هذا على مستوى الإنسان العادي، وما كان هؤلاء الحكام في مصر خارجين عن إرادة أمريكا لكن يعرفون أن النتيجة في النهاية ستصب في بركة غيرهم. كذلك نفس القضية، عندما يطبق الإسلام تطبيقاً سيئاً يتضرر به المسلمون أصحاب الحركة النظيفة تضرراً كبيراً جداً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

عبودية مستمرة

عبودية مستمرة شهر رمضان أفضل شهور العام، وأفضله العشر الأواخر، وفيه تضاعف الحسنات ويكثر الخير، فينبغي للمسلم أن يستغله في الطاعات والعبادات المختلفة، وأن يتعلم منه الدروس النافعة.

الدروس المستفادة من رمضان وما ينبغي من العمل بعد رمضان

الدروس المستفادة من رمضان وما ينبغي من العمل بعد رمضان

الاهتمام بإخراج صدقة الفطر

الاهتمام بإخراج صدقة الفطر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: لقد بقي من هذا الشهر أيام ثم ينقضي، فعلى المسلم أن يبادر في استغلال البقية الباقية من هذا الشهر، خاصةً إذا كان قد قصر أو فرط؛ لعل الله تبارك وتعالى أن يتوب عليه، وأن يجعله من عتقاء هذا الشهر، وأن يجزل له الأجر والمثوبة والخير، خاصة وأن البقية الباقية من هذا الشهر فيها ليلة عظيمة، وأرجح الأقوال في ليلة القدر أنها في ليلة السابع والعشرين، فيرجى أن تكون هذه الليلة ليلة السابع والعشرين هي ليلة القدر، ففيها أجر عظيم، وثواب جزيل لمن قامها، وأكثر فيها من ذكر الله تبارك وتعالى وقراءة القرآن. ومما ينبغي أن يلتفت إليه الصائم أن من مكملات صيامه أن يخرج في نهاية هذا الشهر أو قبل نهايته بقليل صدقة الفطر، وهي حق واجب على المسلم عن نفسه، وزوجه، وأولاده الصغير والكبير، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراجها، وأخبر أنها طعمة للمساكين، وطهرة للصائم من الرفث. وهذه الصدقة تطهر الصائم، لأنه مهما كانت استقامته في رمضان فلا بد أن تصدر منه الهفوات والزلات والأخطاء، فمما يكفر عنه ذلك هذه الصدقة الطيبة التي يطهر بها المسلم نفسه، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه أن يخرجوها صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من بر، وفي مثل أيامنا هذه يجزئ أيضاً الصاع من الأرز. وقد كان الصاع في القديم يساوي أربعة أمداد، والمد: هو ملء اليدين المتوسطتين قمحاً أو غيره، فإذا وزنت ذلك الآن فإنه يقارب كيلوين أو يزيد قليلاً، وينبغي إخراجها قبل صلاة العيد، ويأثم من يؤخرها عن صلاة العيد. ووقتها الحقيقي هو يوم العيد قبل الصلاة، ولكن الله خفف على عباده فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراجها قبل أن ينتهي هذا الشهر بأيام، فهي حق واجب على المسلم أن يخرجها، وأن يهتم بذلك ولا يقصر فيه.

الاهتمام بالصيام بعد شهر رمضان

الاهتمام بالصيام بعد شهر رمضان ينقضي شهر الصيام ولكن الصيام لا ينقضي، فقد شرع الله تبارك وتعالى صيام أيامٍ فيها أجر عظيم، وفضل كبير، ومن ذلك صيام ستة أيام بعد رمضان في شهر شوال، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر). وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم سر ذلك، وهو أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فإذا صام العبد ثلاثين يوماً أو تسعاً وعشرين يوماً -وهي عدة شهر رمضان- فكل يوم بعشر حسنات، فيصير مجموع ذلك ثلاثمائة، فكأنه صام ثلاثمائة يوم، أو صام مائتين وتسعين يوماً، فإذا أتبع ذلك بصيام ست من شوال -وهي ستون حسنة- فكأنما صام السنة كلها؛ لأن العام إما أن يكون ثلاثمائة وبضعاً وخمسين يوماً وقد يزيد أو ينقص قليلاً، فإن صام شهر رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله، أي: العام كله. ومن الأيام الفاضلة التي صيامها يكفر الذنوب، ويمحو الخطايا، ويرفع الدرجات: صيام يوم عرفة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والسنة الآتية). وكذلك صيام عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر المحرم، وهو يكفر ذنوب وخطايا سنة ماضية، إلا أنه يستحب أن يصام يوم بعده أو يوم قبله. وهناك صيام الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من أول كل شهر أو من أوسط كل شهر، فإذا أحب الإنسان أن يزداد من الحسنات صام يوماً وأفطر يوماً، أو صام يوماً وأفطر يومين، كل ذلك شيء طيب، وليس الصيام هو الشيء الوحيد الذي يقربك إلى الله تبارك وتعالى، فميادين الخير كثيرة، وأبوابها مشرعة، والطرق إلى الله تبارك وتعالى الموصلة إليه كثيرة منها: الصيام والصلاة والزكاة والحج، ومنها الدعاء وقراءة القرآن، فأبواب الخير كثيرة وليست باباً واحداً.

الاعتناء بالصلاة في أوقاتها في الجماعات

الاعتناء بالصلاة في أوقاتها في الجماعات الصلاة من أعظم ما يقرب إلى الله تبارك وتعالى، وخاصة الصلاة في وقتها، والصلاة في جماعة بالنسبة للرجال أجرها عظيم، وثوابها جزيل، فهي تحط الخطايا والذنوب، وتغسل الإنسان من أدرانه، وتقربه إلى الله تبارك وتعالى. وهذا شيء طيب أن يعتاد المسلمون أن يؤموا بيوت الله في رمضان، فترى المساجد عامرة في الليل وفي النهار، فتراهم يصلون النوافل، ويقومون الليل، ويقرءون القرآن. ولكن اعلموا أن هذا كان ديدن المسلمين الأوائل طيلة العام وذلك عندما كان المسلمون ملتزمين بطاعة الله تبارك وتعالى، يقول بعض الصحابة: (كنا -أي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم- ولا يتخلف عنها -أي عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق، فقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين رجلين -أي: أنه مريض، فكان يمسك به رجل عن يمينه ورجل عن يساره وهو يتهادى بينهما؛ لتعبه ومرضه- حتى يقام في الصف). وجاء رجل أعمى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يبصر الطريق -وهو ابن أم مكتوم - فشكا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن بيته بعيد، وأنه ليس له قائد يقوده إلى المسجد، وأن بينه وبين المسجد حفراً، وقال: (يا رسول الله! أنا رجل أعمى، ومن صفتي كذا وكذا، أتجد لي عذراً فيَّ ألا أشهد صلاة الجماعة؟ قال: نعم، فلما ولى دعاه وقال: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة). فكان شأن المسلمين أن يعتنوا بهذه الصلوات، وأن يحافظوا عليها في أوقاتها وفي الأماكن التي ينادى بها فيها، وهي المساجد.

إحياء سنة الاعتكاف

إحياء سنة الاعتكاف ومن العبادات التي نسيها المسلمون وبدأ بعض الناس يحييها -خاصة في رمضان- سنة الاعتكاف في المساجد الجامعة التي تقام فيها الجمع والجماعات، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتكف خاصة في العشر الأواخر من رمضان، واعتكف الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً في غير رمضان. والاعتكاف أن يلازم الإنسان المسجد يوماً على الأقل، والاعتكاف أقل من يوم لا يقبل، ولا حد لأكثره، فيدخل المسجد ولا يخرج منه مدة معينة، سواء كانت يوماً أو يومين، أو ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، أو أسبوعاً أو عشرة أيام، فإذا نوى الاعتكاف فإن كل ثانية يقضيها ملازماً للمسجد -سواء كان مصلياً أو قارئاً أو نائماً أو ساكتاً- يكون مأجوراً عليها. وملازمة المسجد في ذاتها عبادة، فإذا قرأ القرآن فله أجر أكثر، وإذا صلى فله أجر أكثر، فملازمة المسجد عبادة وقربة إلى الله تبارك وتعالى، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى الاعتكاف في آخر آيات الصيام فقال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]. إذا اعتكف الإنسان في مسجد فإنه لا يجوز له أن يخرج منه، ولا يجوز له أن يعاشر النساء، ولا يخرج منه إلا لضرورة، كأن يقضي حاجته، أو يذهب لإحضار طعامٍ لا يجد أحداً يحضره له، فالاعتكاف من شرائع الإسلام، وهو من القربات التي تقرب إلى الله تبارك وتعالى.

استمرار العبودية لله تعالى

استمرار العبودية لله تعالى ومن القربات أيضاً عبادة الحج، وقراءة القرآن، وتدبر المسلم فيما يقرأ. ومن ذلك ذكر الله تبارك وتعالى، فبعض العبادات تكون في فترة من الزمان كالصيام وكالحج، وبعضها مستمر كالصلاة، فهي في كل يوم وليلة خمس صلوات فرائض، ثم تأتي بعد ذلك النوافل، فالعبودية لله تبارك وتعالى مستمرة، فمنذ أن يعقل الإنسان، وإلى أن تخرج روحه من بين جنبيه وهو يستمر في عبادة الله تبارك وتعالى، وسيجد أثر ذلك عندما يقدم على الله تبارك وتعالى.

الدروس المستفادة من الصوم

الدروس المستفادة من الصوم إن الدرس الذي يستفيده المسلم من الصيام هو أن يزداد طاعة وقرباً من الله تبارك وتعالى، فينبغي أن يحافظ على هذا المسار بعد رمضان، فإذا قدم على الله تبارك وتعالى وجد خيراً كثيراً. وفي الجانب المقابل ينبغي أن يكون للصيام أثر في الحد من الشر، فالصيام تربية، والصلاة تربية، فالمؤمن الذي تربى على مائدة القرآن، وتربى في شهر الصيام، وربته الصلوات، والذي يراقب ويعلم أن الله ينظر إليه، ينبغي أن يلجم نفسه بلجام التقوى، وأن يبتعد عن الذنوب والمعاصي، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]. فالصيام طاعة وصلاح للنفس، فهو يبعد المرء عن الذنوب والمعاصي، ولذلك نجد الله تبارك وتعالى في كتابه بعد أن بين لنا وجوب الصيام، وبيّن بعض أحكامه، أتبع ذلك بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]، فذكر هذه الآيات بعد آيات الصيام؛ لأن الصائم لا يأكل أموال الناس بالباطل، والمصلي لا يأكل أموال الناس بالباطل، فأنت يا من صمت لله عن الطعام والشراب وهو حلال كيف تأكل الحرام؟ بل كيف تأكل أموال اليتامى؟ وكيف تسرق أموال الناس؟ وكيف تسرق بيت مال المسلمين؟ وكيف تأخذ الرشوة؟ فالمسلم لا يأكل الحرام؛ لأنه يعرف أن له رباً سيحاسبه، وأن الدنيا زائلة فما هي إلا معبر وطريق، فيبقى الإثم، وتبقى حقوق الناس في ذمتك لا تسقط، فلا يأكل الإنسان الحرام: ((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ))، تأتي هذه الآية بعد آيات الصيام لتقول: يا صائمين! اتقوا الله واتركوا هذه الأعمال المحرمة. وليست المسألة فقط أن تصوم ثم بعد ذلك تفطر على ما حرم الله، وتأكل أموال الناس بالباطل، ففعل الخير يحدك من الشر، ويبعدك عنه، وهذه هي التقوى، فلا تغتب الناس، ولا تنمهم، ولا تقع في أعراضهم، ولا تضرب أبشارهم، ولا تأكل أموالهم، ولا تهتك أعراضهم؛ لأنك تخشى الله تبارك وتعالى، وأنتم تعلمون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). فهذا الذي يزني لو استحضر أن الله ينظر إليه ويراه فإنه لا يزني، ولو استحضر أن هذه المرأة زوجها حاضر، أو أبوها حاضر، فإنه لا يستطيع أن يزني بها، فكيف لو استحضر أن رب العزة حاضر؟! ما كان ليزني، فإيمانه في هذه اللحظة قد تلاشى، وكذلك عندما تمتد يدك إلى أموال الناس فتأخذها. وقد روي عن رجل صالح أن امرأة راودته عن نفسه، فقال لها: أغلقي الأبواب حتى لا يرانا أحد، فأغلقت كل شيء، فقال: أغلقي الأبواب، قالت: قد أغلقت كل الأبواب، قال: لا، فإن هناك من يرانا، فالتفتت يميناً وشمالاً فلم تجد أحداً، فقال لها: إن الله يرانا، ثم وقع مغشياً عليه من خشية الله تبارك وتعالى. فالله تبارك وتعالى إذا كان حاضراً في قلوبنا في شهر الصيام وفي غير شهر الصيام، فهذا يجعل المسلم في مراقبةٍ دائمة لله، فلا تمتد يده إلى الحرام، وعينه إلى الحرام، وأذنه لا تسمع الحرام، ورجله لا تمشي إلى الحرام، ويده لا تأخذ الحرام، كل ذلك وهو مستقيم على طاعة الله تبارك وتعالى، وهذا هو الإحسان، بأن يبلغ المسلم القمة، بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

فضل الزكاة والصدقة في شهر رمضان

فضل الزكاة والصدقة في شهر رمضان الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. أيها الإخوة! في هذه الأيام الطيبة تضاعف الأعمال، ومن ذلك تضاعف الصدقة، ففي شهر الصيام يتضاعف العمل، فالصلاة أجرها عظيم، وإخراج الزكاة أجره جزيل، ولذلك كان أكثر المسلمين يؤدون زكاة أموالهم في هذا الشهر، فهو شهر الصيام وشهر الزكاة. وليس ذلك واجباً، ولكن المسلمين كانوا يؤدون زكاة أموالهم في هذا الشهر طمعاً في أن يكون أجرها أعظم وأكثر مما لو أدوها في غير هذا الشهر. ولا شك أن الكثير من الإخوة في هذا المسجد قدموا خيراً في كل جمعة، وقد يكون في غير الجمعة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يأجرنا وإياهم، وأن يثيبنا، وأن يتقبل منا ومنهم صالح الأعمال. ويزورنا في هذا اليوم الإخوة في لجنة المناصرة لفلسطين ولبنان، وهذه لجنة أنشئت منذ فترة وجيزة، ومهمتها أن ترعى أولئك الذين أصيبوا في ديارهم، والذين تعلمون ما أصابهم في لبنان، وما أصابهم في فلسطين قبل ذلك، وماذا يحدث في المخيمات التي في الأردن. وهي تعمل على مد يد العون للمحتاجين، وللأرامل، ولليتامى، وللفقراء، وللمساكين، وللمصابين، وقد اطلعت على شيء من أعمالها، فرأيتها قد قدمت خيراً كثيراً، والقائمون عليها رجال طيبون يسعون جاهدين يبتغون في ذلك الأجر والثواب، ولا يأخذون مرتبات ولا أموالاً لأنفسهم، فهم يقضون أوقاتهم في معونة هؤلاء المحتاجين، وهم يزورون مسجدكم في هذا اليوم طالبين من إخوانهم أن يمدوهم بشيء من المال فيه أجر وصلاح لهم، وفيه عونٌ لإخوانهم، وهو أمر ينبغي أن يتواصى المسلمون فيه بالخير، وأن يتواصوا فيه بالحق، لعل الله تبارك وتعالى أن يصلح هذه النفوس، وأن يأجرها، وأن يثيبها. ثم هو واجب علينا تجاه إخواننا، وهذا البلد فيه خير كثير، ففيه لجان تعمل لأفغانستان، ولجان تعمل لبعض أقطار العالم الإسلامي، وهذه اللجنة كان ينبغي كما قلت في أكثر من مناسبة: أن تكون أول اللجان لبلد يعتبر تاجاً أو درة في جبين العالم الإسلامي، إذ هو مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يعنى المسلمون بشأن هذا البلد، جهاداً وجهداً وبذلاً وعطاء وتفكيراً، وألا يفرط المسلمون مرة أخرى كما فرطوا من قبل وأضاعوا بلداً من بلاد المسلمين، وسيحاسبهم الله تبارك وتعالى عليه. فالمسلمون اليوم مطالبون بأن يرعوا هذا الجانب، فإذا ما قامت لجنة تقدم العون والخير فينبغي أن يعتنى بهم، والله تبارك وتعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. اللهم اغفر ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

ذم الترف والتبذير

ذم الترف والتبذير المال نعمة من الله على الناس ليقيموا به الحياة ويستعينوا به على طاعة الله، ولكن كثيراً من المسلمين اليوم يبذرون بالمال في غير الطاعات وينفقونه في المعاصي والشهوات، بينما يوجد ملايين من المسلمين لا يملكون قيمة الغذاء والكساء، فيجب علينا أن نأخذ على أيدي السفهاء وأن نجعلهم يصرفون المال فيما يرضي الله.

الغاية من خلق الإنسان

الغاية من خلق الإنسان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: لقد خلق الله العباد لعبادته وطاعته، فيحنون جباههم لله ربهم، ويوجهون قلوبهم لمعبودهم سبحانه وتعالى، وقد أمرهم ربهم بذلك في كتبه المنزلة، وعلى ألسنة رسله، وورث الصالحون من بني البشر دعوة الرسل ليدعوا إلى الله عز وجل، ولكن في الإنسان جهالة وظلم وطغيان واستعلاء، فبعض البشر ينسون أنهم عبيد، فإذا ملك الواحد منهم شيئاً من السلطان أو المال ظن نفسه إلهاً ورباً يخضع الناس لأمره، ويتحركون بإشارته، {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]. الإنسان الذي لم يحن جبهته لله، ولم يخلص دينه لله سبحانه وتعالى، فيطغى خاصة عندما يرى نفسه على شيء من المال أو السلطان فعند ذلك يصيبه الطغيان، وعند ذلك يخالف أمر الله ودينه، ويتصرف في عباد الله وكأنهم عبيد له، ويتصرف في ملك الله سبحانه وتعالى وكأنه صاحب السلطان، وكأنه لن يقف يوماً بين يدي الله سبحانه وتعالى فيحاسبه عما قدم. لقد وجد من هذا الصنف نماذج كثيرة، ففرعون أصابه هذا الطغيان، فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى الملك فإذا به يعلن للناس أنه ربهم الأعلى، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] وسبب هذا الطغيان والاستعلاء أنه أوتي الملك والقصور والمراكب، وأن الناس يطيعون أمره، والأنهار أجراها إلى قصره تملؤه بالبهجة والسرور، فمادام كذلك فإنه يستحق أن يأمر فيطاع، وأن يقول فيستمع قوله ولو كان أمره يخالف أمر الله سبحانه وتعالى وقوله يخالف قول الله عز وجل، ونسي المسكين أنه عبد، وأن هذه نعم من خالقه يختبره بها أيشكر أم يكفر، وأن المصير إلى الله سبحانه وتعالى، فأهلكه الله عز وجل ودمره، وجعله عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين.

طغيان وفساد االمترفين سبب في دمار الشعوب

طغيان وفساد االمترفين سبب في دمار الشعوب وتتلاحق الأجيال والبشر ويصيبهم نفس المرض، وإذا شاء الله سبحانه وتعالى بقوم هلاكاً، إذا بالمترفين يتأمرون في الأمم، فيصيب الأمة الهلاك والدمار، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] فتلك سنة الله سبحانه وتعالى التي خلت من قبل في الأمم، والتي ينص عليها في كتابه أنه إذا شاء هلاك أمة جعل الأغنياء -وهم الحكام والملوك- يتصرفون بأهوائهم لا بشرع ربهم، وعند ذلك يحق عليهم الهلاك والدمار. إن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره وغالب على حكمه، والعباد ليس لهم نصيب، إنما هم مخلوقات صغيرة تظن أنها تملك من نفسها شيئاً، وفي واقع الأمر لا تملك من نفسها شيئاً، فالله سبحانه وتعالى مالك الملك، ومصرف الأمور فيقلب الليل والنهار، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وله جنود السماوات والأرض فإذا شاء أمراً قال له كن فيكون كما يريد الله سبحانه وتعالى. إن الدنيا تمضي بالناس وتجري والكل في النهاية مصيره إلى الله سبحانه وتعالى، فنفوسنا ليست لنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأموالنا ملك لربنا وإننا في حاجة إليها، وأبصارنا وأسماعنا وألسنتنا نحن محاسبون عنها يوم القيامة، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. فليست الأمور كما يظن الناس، ومنذ سنوات قريبة وقع في منطقة الخليج عرس أنفقت فيه عشرات بل ومئات الملايين! والله ليحاسبن الله الإنسان عن كل درهم قدمه، وفي الكويت في هذه الأيام وقع عرس أنفق عليه مليون دينار! وهناك العشرات ومئات الألوف بل والملايين من المسلمين يموتون جوعاً، وفي ديارنا الكلاب والقطط تربى وتطعم أفخر الطعام وفي أمتنا من لا يجدون الطعام، ونرى صور الأفغان وهم يحاربون بالبنادق القديمة التي صنعت منذ عشرين سنة أو من ثلاثين سنة، فلم يجدوا مالاً ليشتروا به سلاحاً حديثاً وفي أمتنا من ينفق الملايين على التافه من الأمور. إن الله سائل العباد عن هذه الأموال من أين أتوا بها، وفيما أنفقوها؟ وهل قاموا بحق هذا المال؟ قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26 - 27]، وهذا الخطاب ابتداء يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يوجه إلى هذه الأمة تبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم. ويقول الله لهذه الأمة: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، والله! إن السرف يقتل هذه الأمة في طرف من أطرافها أو في جانب من جوانبها، والفقر يقتل طرفاً آخر، فمن الأغنياء من يقتلهم غناهم، وتبذيرهم وإسرافهم، فالمال ينفق بدون حساب عند بعض الناس من الذين يتسمون باسم الإسلام، فينفقون الأموال في غير حقها وبغير وجهها، وبعض الناس في بعض ديار المسلمين لا يجدون طعاماً، هذا ظلم سيحاسب الناس عنه، قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] في يوم القيامة يقول المؤمنون لأصحاب النار: ما الذي أدخلكم جهنم؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] هذه الجريمة الأولى، {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] وهذه الجريمة الثانية، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:45] وهذه الثالثة، {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:46] والجريمة الرابعة {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47]، فأنكر الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة ألا تطعم المسكين، وألا يحض بعضها بعضاً على إطعام المسكين، وعندما يصل الأمر إلى هذه الدرجة فهو دليل على فساد كبير في النفوس.

انتقال الدنيا وتغير الأحوال

انتقال الدنيا وتغير الأحوال على أصحاب المال وأصحاب السلطان أن يتذكروا أن الدنيا لا تسير على وتيرة واحدة، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]، فالله بيده كل شيء، فهناك أغنياء بين يوم وليلة صاروا في الحضيض، وبعض الفقراء صاروا في القمة، فالدنيا تتقلب بأهلها. يحدثنا التاريخ عن أسرة بلغت مجداً عظيماً في التاريخ، فقد كان للبرامكة الملك والهيمنة في عصر الرشيد، فكانوا يتصرفون في أمور الدولة، ثم بطش بهم في ساعة واحدة فإذا بهم في السجون، وإذا بهم في الشوارع يتسولون، تقول أم جعفر وقد دخلت على قوم في يوم عيد لهم لتدبغ جلد كبش تلبسه، وتستر به جسدها: والله لقد دخل علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة قائمة، وأزعم أن جعفراً عاق لي! ثم إذا بها في يوم وليلة تسأل وتتسول. وتذكر لنا كتب التاريخ عن الدولة الطولونية أن أخت أحمد بن طولون، وهي أخت الملك والحاكم، زوجت لعبة من لعبها وأقامت فرحاً كلف مائة ألف درهم، ثم مضت سنوات وإذا بها فقيرة لا تجد ما تأكله وتسأل الناس في الأسواق، فالدنيا تتغير. ويقول بعض العرب: مررنا في عهد أبي بكر الصديق في طريقنا إلى اليمن، فرأينا عرساً وفيه فرح وبيوت شامخة وزروع ومواش، وقائلة تقول: معشر الحساد موتوا كمداً كذا نكون ما بقينا أبداً يقول: ثم مررنا في عهد معاوية فإذا البيوت خراب، والزروع يابسة، وليس هناك مواش، وعجوز تأوي إلى نقب في تلك البيوت المتهدمة، فقالوا لها: مررنا في عام كذا وكذا فرأينا كذا وسمعنا كذا، فقالت: كان العرس عرس أختي، وأنا التي كنت أضرب بالدف، لقد ذهب كل ما هنالك، وانتهى كل ذلك. إن الدنيا متقلبة لا تدوم، وهي لا تسير على حال واحدة ووتيرة واحدة، فعرس يقام فتنصب له خيمة بأربعين ألف دينار! فتستعمل مرة واحدة فقط! فكم بطن جائع تطعم بقيمة هذه الخيمة! ولقد وصل الترف وللأسف إلى المسلمين الذين يؤمون المساجد، ولعل بعض الإخوة الحاضرين من هؤلاء، يقيمون الحفلات في الفنادق الضخمة، وينفقون على ذلك الألوف من الأموال التي تذهب إلى جيوب السفهاء الذين يضيرون أمة الإسلام، وكذلك بعض المسلمين الذين يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء بدءوا يسرفون في المال، فهذا المرض أصاب حتى الدعاة الذين يلتزمون بدعوة الإسلام، فهذا مرض حذر الله منه رسوله والمؤمنين وهذه الأمة، وحذرهم أن يكون حالها كحال الأمم الماضية.

قيمة المال بالنسبة للأمة

قيمة المال بالنسبة للأمة إن لهذا المال قيمة، فقد جعله الله قياماً لهذه الأمة، وإذا تسلط عليه السفهاء فقد أمر الله بأن يؤخذ على أيديهم، وليس في دولة الإسلام أن يقوم واحد صاحب ملايين ويقول: أنا حر في مالي أفعل به ما أشاء، فإذا أخذه يبذره ولو في الحلال يمنع من التصرف في ماله ويسمى سفيهاً، قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، ويصدر أمر من القاضي بالحجر على ماله؛ لأنه سفيه، ويكون عمه أو أخوه أو أبوه أو ابنه قيِّماً على هذا المال، فينفق على صاحب المال بمقدار ما يحتاج إليه، ويمنعه من التصرف في ماله، لماذا؟ لأن الله جعل هذا المال قياماً للأمة، نعم هو مالك لكن مجموع الأموال التي عند المسلمين تقيم الأمة الإسلامية، وينبغي أن تسير هذه الأموال وفق المخطط الذي أرشد الله سبحانه وتعالى إليه، وأما أن يتصرف المسلمون بأموالهم كيف شاءوا فهذا حرام، وسيسأل الإنسان عن الدرهم الواحد من أين جاء به وكيف أنفقه، (لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها: وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه). فتخيل عندما يقول يوم القيامة: أنفقت مليون ريال في زواج! فمن الذي أذن لهم أن ينفقوها بهذه الصورة، فالإنسان مسئول عنها يوم القيامة. وينبغي أن نتآمر بالمعروف ولا نكون كما قال الله عن بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78]، لعنهم الله على لسان نبيين من أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا لا يتناهون عن المنكر الذي يفعلونه، وهذا منكر فينبغي أن يتناهى عنه المسلمون فيما بينهم، وينبغي أن يخلصوا أنفسهم من هذا المرض، فعقاب الله إذا نزل يعم، والسفينة عندما تغرق لا يغرق بعضها وإنما تغرق كلها، وعندما ضرب الله مدينة الأصنام في مقاطعة الأصنام في الجزائر أخذ مع الفاسدين والعاصين كثيراً من الصالحين، وفي خليج البنغال عندما طغت المياه وضرب البحر الخليج وصل طوفانه إلى الدور السابع والثامن، فذهب صالحون كانوا يمرغون وجوههم في التراب. قالت عائشة: (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، فإذا كثر الخبث والفساد في أمة فإن الله سبحانه وتعالى يأخذ مع العصاة أخيارهم، ويبعثهم على نياتهم يوم القيامة. فاتقوا الله عباد الله! وانظروا لأنفسكم وبينوا لغيركم، فإن الله سبحانه وتعالى سائلنا عما استرعانا، وسائلنا عن كل كلمة ننطق بها أن نبين الحق، ونهدي إلى سبيله الأقوم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

نظرة الإسلام إلى المال

نظرة الإسلام إلى المال الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ محمد عبد الله ورسوله، وبعد: إن المال خير وليس بشر، ولكن الذي يجعل المال شراً هم الناس أنفسهم، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: (أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزل الوحي من السماء يجيب على السؤال، وأخذ الرسولَ صلى الله عليه وسلم الرحضاء -وهو العرق الشديد- الذي كأن يأخذه عندما ينزل عليه الوحي، فقال: أين السائل؟ ثم قال: إن الخير لا يأتي بالشر)، فالخير لا يأتي بالشر ولكن الإنسان هو الذي يجعل الخير شراً، وقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك بمثال فقال: (إن مما ينبت الربيع ما يقتل أو يلم إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت مطلع الشمس، فثلطت وبالت ثم رفعت، وإن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه من حقه وأداه في حقه فنعم المعونة هو). فالرسول صلى الله عليه وسلم يشبه المال بما ينبته الربيع -وهو الينبوع المتدفق- فالنبات الذي ينبته الربيع فيه خير وفيه شر، يعني: فيه العشب السام وفيه العشب الطيب، فالدابة إذا أخذت من العشب القاتل ماتت، وإذا أخذت من العشب الطيب امتلأت بطنها، فتستقبل مطلع الشمس وتجتر، ثم تصرف ما أكلته فترجع فتأكل مرة أخرى، وكذلك المال تأخذه من حلال وتأخذه من حرام، فالخير كثير كالمراعي التي ترعى فيها الدواب، فقد ترتع طيباً وقد ترتع خبيثاً، ثم إذا أخذته من حلال فإنه يبقى، وأما الذي يفكر بالمال في الليل والنهار فالمال يفسده، ولا يبقى وقت لصلاته ولا لصيامه، ولا لطعامه. ويذكرون عن بعض الذين يلهثون وراء الدنيا في سوق البورصة أنه لا يكاد يأكل غداء، فهو يجري ويفكر ومشغول في ليله ونهاره يريد المال، فهو كالبهيمة التي تأكل وتأكل وتأكل، فعند ذلك ستمتلئ بطنها وتنتكس فيفسدها، وهذا سيحرق قلبه وأعصابه وفكره ولا يبقي شيئاً لنفسه ولأهله ولراحته ولطعامه ولشرابه. فيشبه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المال كالربيع الذي ينبته الماء أو المطر أو الينبوع، فمنه النبات الطيب، ومنه النبات الخبيث، ففيه حلال وفيه حرام، فالنبات الطيب مثل يضربه الرسول صلى الله عليه وسلم للحلال، والنبات الخبيث يضربه مثلاً للمال الحرام، فالإنسان يعمل والله تعالى أرسل له رسولاً وقال له: هذا حلال وهذا حرام، وخذ من الحلال واجتنب الحرام، فبعض الناس يأكل من الحرام، وبعض الناس يأكل من الحلال أو من حرام، ولا يتوقف همه عن المال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم). فهذه المشكلة حلها الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، وهذه ضل فيها فريقان: ففريق استرقوا في الدنيا وسلختهم الدنيا عن طاعة الله، وقليل هربوا من الدنيا وذهبوا إلى الصوامع والجبال، فالرسول صلى الله عليه وسلم حل المشكلة ليس برأيه، وإنما بوحي جاءه من عند الله، فقال: (إن الخير لا يأتي بالشر)، لكن خذ الخير من الحلال، وخذ الحلال بمقدار، واصرف الحلال في طاعة الله، وإياك أن تكون كآكلة العشب تأكل سامه وطيبه، ترتع بين الحلال والحرام، وإياك أن يطغى عليك المال فلا تفكر إلا فيه، وإياك أن تحبس المال عن أصحاب الحقوق. إنّ كثيراً من الدعاة اليوم لا يفهمون هذه القضية، فهم يظنون أن المسلمين ينبغي أن يتركوا المال ويكونوا فقراء، بينما نجد أقواماً آخرين يتركونهم ويذهبون إلى الدنيا، والأمر ليس كذلك ولا كذلك، فالأمر كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هناك من خير إلا وقد دل الرسول صلى الله عليه وسلم أمته عليه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب الدعوات.

وقفات في العقيدة

وقفات في العقيدة إن دراسة العقيدة دراسة متأنية مستبصرة أمر مهم، حتى يبني المسلم عقيدته في الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله على أسس ثابتة متينة، وحتى ينال ثمرة ذلك رسوخاً ويقيناً في قلبه، فيجد لذة ذلك وحلاوته، فتثمر تلك العقيدة ثمرة عظيمة في سلوكه وعمله وتوجهه.

ضرورة اجتماع الجانب العقدي مع الجانب العملي في الإيمان

ضرورة اجتماع الجانب العقدي مع الجانب العملي في الإيمان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. موضوع حديثنا في هذه الليلة هو ذكر بعض التنبيهات الهامة في بعض قضايا العقيدة. فالجانب الاعتقادي هو جزء من الجانب الإيماني، والاعتقاد جزء من الإيمان، وهو المعرفة القلبية التي تتعلق بالقضايا الأصول من الإيمان، والقضايا الأصول من الإيمان هي: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، فمنها ما يتخذ جانباً عملياً، ومنها ما يتخذ جانباً اعتقادياً. والجانب الاعتقادي أمر هام بالنسبة للإيمان، ولكن ليس هو الإيمان كله، فليس كل الإيمان اعتقاداً، أو بمعنى آخر: إن الذي يأتي بالعقيدة الصحيحة وحدها لا تغني عنه عند الله سبحانه وتعالى، ولا تكفيه العقيدة السليمة أو العقيدة الصحيحة وحدها عند الله تعالى، فالاعتقاد هو معرفة علم، لذلك نسميه بالمعرفة والإثبات، فنثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي عن الله ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فنثبت له أسماءه وصفاته وأفعاله، وندلل على ربوبيته سبحانه وتعالى وقدرته. وهذا الجانب الاعتقادي أو العلمي لا ينجي عند الله سبحانه وتعالى وحده؛ بل لا بد معه من أمور عملية، ومن هذه الأمور العملية قصد القلب وإقراره، أي: أن يقر القلب ويرضى بالله سبحانه وتعالى رباً، فيقصده سبحانه وتعالى بحبه ورجائه وخوفه ورغبته ورهبته، فهذه أمور قلبية ولكنها ليست أموراً اعتقادية، فحب الله سبحانه وتعالى ليس أمراً اعتقادياً وإنما هو أمر عملي قلبي، ولذلك فالمعرفة وحدها أحياناً لا تساوي شيئاً عند الله سبحانه وتعالى، فإبليس مثلاً كان يقر ويعلم علماً يقينياً أن الله سبحانه وتعالى هو المعبود، ويعرفه بأسمائه وصفاته، وكثير من المشركين الذين أرسل إليهم الرسل كانوا يقرون ويعترفون بقلوبهم بالله سبحانه وتعالى، وبصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لا يغنيهم عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، فقد وصل الأمر عندهم إلى درجة العقيدة اليقينية بأن هذه من عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك لم ينفعهم ذلك؛ لعدم وجود التصديق والإقرار، وهو الذي يقول فيه الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رضي الله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً)، فالرضا القلبي غير متوفر. ثم هناك مع الرضا القلبي أمور عملية قلبية، ومن جملتها حب الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر مكمل وأساسي، والخوف منه، والرهبة منه، والرغبة إليه، ورجاؤه سبحانه وتعالى، ثم تأتي بعد ذلك الأمور العملية سواءً كانت قولية أو عملية. والإقرار باللسان هو الإقرار بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم العمل، وكل ذلك أيضاً لا بد منه حتى يكتمل الأمر الذي ينجي عند الله، ولذا لم ترد هذه البحوث في القرآن الكريم أو في السنة النبوية باسم العقيدة، أي: لم يأتِ أن الأمور التي تنجي عند الله هي الأمور الاعتقادية كذا وكذا وكذا وكذا، بل إن كل ما جاءنا في كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيمان، ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى أصول الإيمان وفصّلها. فهذه قضية أولى، وهي أن الأمور الاعتقادية جزء من الإيمان، وأنها لا تنفع ولا تغني وحدها عند الله سبحانه وتعالى، فلا بد معها من أمور أخرى: أمور قلبية، وأمور قولية، وأمور عملية. وهنا أيضاً أمر أساسي ننبه عليه، وهو أنه في كثير من الأحيان يصبح الاعتقاد عند الناس -إذا كان مجرد اعتراف ومعرفة أمراً باهتاً بارداً لا يؤثر في حياة الإنسان، ولا يؤثر في سلوكه، وقد يكثر بعضهم من البحث والدراسة والتنقيب ليتعرف على أمور العقيدة، ثم يبقى الأمر عنده محصوراً في جانب المعرفة والعلم فقط، ولا يتعداه إلى أطوار أخرى، فلا يتعداه إلى جانب الإقرار والتطبيق، ولا إلى جانب الأمور العملية: القلبية والقولية والجسدية، فيعيش في دائرة باهتة ويظن أنه قد وصل إلى القمة وهو لا يزال في أول الطريق. فالجانب العلمي جانب مهم وجانب خطير، لكن لا بد أنه تتبعه خطوات على الطريق حتى تكتمل الصورة التي يريدها الإسلام من المسلم الحق، فالجوانب العلمية وحدها لا تغني، فلابد أيضاً أن تتبعها أمور أخرى مهمة حتى يكون المرء من الذين يستحقون أن يكونوا رجالاً مسلمين مؤمنين كما سماهم الله سبحانه وتعالى.

الغرض من كتب العقيدة التي وضعها السلف وأهمية دراسة العقيدة ذاتها

الغرض من كتب العقيدة التي وضعها السلف وأهمية دراسة العقيدة ذاتها بحوث العقيدة التي كتبت في كتب العقيدة كثير منها إنما هي قواعد يراد منها أن يُحمى المسلمون من الانحراف في باب الاعتقاد؛ وذلك أنها كتبت في عصر كثرت فيه البدع والانحرافات الاعتقادية، فوُضعت قواعد تحمي من يسير عليها من أن ينحرف في هذه الطرق الملتوية التي انبثقت من هنا وهناك، وهذه القواعد ضرورية؛ حتى لا ينحرف المسلم ويزل، فلا بد من دراستها. وهذه القواعد في ذاتها إذا اقتصر عليها المسلم فإنها لا تعطيه العقيدة المتكاملة، ولا تعطيه التصور الضخم الواضح الذي يدفعه إلى العمل بالإسلام، فوضع العلماء القواعد في باب أسماء الله وصفاته حتى تفهم هذه الأسماء والصفات في ضوئها، ليست هذه القواعد هي العقيدة، وإنما هذه هي الضوابط التي تحكم هذه العقيدة، وتجعل الإنسان يفهم هذه العقيدة فهماً لا زلل فيه ولا زيغ ولا انحراف عن الطريق السوي، وأما العقيدة نفسها فتحتاج إلى خطوة أخرى متقدمة. فهذه القواعد هي الضوابط التي تفهم على أساسها العقيدة الصحيحة، ولكن نفس العقيدة تحتاج إلى أن تدرس دراسة أخرى من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. إن بعض الناس يدرس هذه القواعد التي وضعها السلف في كتبهم، ولكنه يحس أن نفسه ما زالت عطشى، وأنها لم ترتو فعلاً، وهذا حق، ولقد قصر العلماء -حسب علمي- كثيراً في هذا الجانب؛ اعتماداً منهم على أن كتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهما الغنية، فتعميق مفهوم العقيدة في الله، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الملائكة، وفي الرسل، وفي اليوم الآخر يحتاج إلى دراسة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبحث في هذا المجال، فتدرس تفاصيل الآيات التي تتحدث عن الله، وتتحدث عن اليوم الآخر، ويدرس ما فيها من علم، ويُكثَر من ترديدها والتدبر والتأمل فيها، فينشأ عند الإنسان التصور الاعتقادي السليم. وأما القواعد والضوابط التي وضعت في الاعتقاد لوحدها فإن العقيدة لا تزال غير متركزة في نفس الإنسان الذي لا يدرسها.

دراسة أمور العقائد تقوي العقيدة عند المسلم

دراسة أمور العقائد تقوي العقيدة عند المسلم وهذا يجعلنا نتبين السبل التي ينمي بها المسلم عقيدته، وقد ذكرت جانباً واحداً منها وهو الدراسة، وهذا هو أعظم جانب في ذلك، وهو أن يتبين المسلم ذلك من خلال الآيات والأحاديث، فليس هناك سبيل أربح من هذا السبيل، ولا أكثر عطاءً وخيراً منه، وهو أن يدرس المسلم العقيدة من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وذلك بعد أن يلم إلمامة كافية بالضوابط التي تحكم الاعتقاد؛ حتى لا يزل ولا يزيغ فيما بعد. وهذه الآيات بما تعطيه من علم وعاطفة، وما تعطيه من نظرات، ثم ما ينتج عنها من تأثيرات؛ تسكب في نفس المسلم العقيدة سكباً، بحيث تتوارد على قلبه معانٍ وعلوم لا تحتاج إلى أدلة وبراهين؛ لأن الآيات في ذاتها تتضمن الأدلة والبراهين والعلم؛ فتسيل المعاني، ويسيل العلم، ويسيل النور من خلال هذه الآيات والأحاديث إلى نفس المتدبر المتأمل فيها، فكأن هذا العلم يُلقى في قلبه إلقاءً، فعند ذلك يحس بانشراح نفس، ويحس بطمأنينة قلب وبراحة، ويحس بأن إيمانه ينمو. وهذا موافق لما يعتقده أهل السنة والجماعة من أن الإيمان يزيد وينقص، وزيادته تكون بالطاعة، ومن جملة الطاعات أن يصدق بكتاب الله، وأن يتدبر كتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فيزداد بذلك إيماناً، ويزداد بذلك هدىً ويقيناً، وهذا أعظم وأهم سبيل: أن تدرك العقيدة من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

توفيق الله تعالى ينمي عقيدة المسلم

توفيق الله تعالى ينمي عقيدة المسلم السبيل الثاني: توفيق الله سبحانه وتعالى، فهذا أمر لا يجوز أن يهمله المسلم، فالله سبحانه وتعالى يوفق عبده بل ويهبه من علمه؛ لقصده الهداية والخير، ولبحثه عن الهداية والخير، وإرادته لذلك دائماً وباستمرار. فلابد من دعاء الله سبحانه وتعالى والتذلل والخضوع بين يديه، ورجائه والاستغاثة به؛ لِيهبنا الهداية والتوفيق، ويوفقنا للسير في الطريق المستقيم، وهذا أمرٌ لا بد أن يسعى المسلم فيه سعياً حثيثاً، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم -كما تعلمون- يقوم الليل فيدعو ربه، ومن أوائل ما يدعو به: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وأعظم ما اختُلف فيه قديماً وحديثاً أمور العقائد، فقد وقع الخلاف في ذلك منذ فجر البشرية وإلى اليوم. فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ربه سبحانه وتعالى أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، ولقد كان الصالحون إذا عرضت عليهم مشكلة عويصة وحارت بهم السبل لجئوا إلى الله سبحانه وتعالى يسألونه أن يلهمهم الرشاد، وأن يوفقهم إلى الخير، وأن يبين لهم الحق.

التأمل في ملك الله ينمي عقيدة المسلم

التأمل في ملك الله ينمي عقيدة المسلم ومن المهمات أيضاً في جانب الاعتقاد ما وجهنا إليه الكتاب الكريم من التأمل في ملكوت السماوات والأرض وفي مخلوقات الله سبحانه، فقد وجه الله سبحانه وتعالى أنظارنا لنتأمل ونتفكر في السماء؛ نجومها وشمسها وقمرها وقوتها واتساع بنائها، وفي الأرض وما فيها من جبال وسهول وأنهار وبحار وحيوان وجماد ونبات؛ لأن مزيداً من النظر والتأمل في هذه القضايا يزيد المؤمن إيماناً، فهذه المخلوقات صنعت بعلم وحكمة وقدرة عظيمة، فمن تأمل فيها فلابد أن تدله على أن وراءها خالق مبدع عليم خبير. فهذه ثلاث طرق ذكرتها الآن، فلابد للمسلم لكي ينمي عقيدته وإيمانه أن يتأملها وأن يسلكها؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يهبه العقيدة الصحيحة، وأن يزيد في إيمانه، وعلى العبد أن ينمي هذا الإيمان حتى يكون حافزاً له على فعل الخير، فيقربه ذلك إلى الله سبحانه وتعالى.

الاهتمام بدراسة وتأمل توحيد الربوبية

الاهتمام بدراسة وتأمل توحيد الربوبية

توحيد الربوبية يؤدي إلى توحيد الألوهية

توحيد الربوبية يؤدي إلى توحيد الألوهية التنبيه الثالث الذي أحب أن أشير إليه: أننا نقرأ في كتب العقيدة أن الكفار الذين بُعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، ولكنهم كانوا ينكرون توحيد الألوهية، وأن توحيد الألوهية هو الأمر الذي حدث فيه الصراع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الذين دعاهم، بل بين الرسل والذين دعوهم جميعاً. وهذا أمر حق، وقد دلت عليه آيات القرآن، لكن الذي أريد أن أنبه إليه: أن هذا المعنى كانت له آثار سلبية سيئة نوعاً ما عند بعضنا، مع أنه في ذاته حق لا ينكر، فنريد أن نبتعد عن الأمر السلبي الذي أثره هذا المعنى، فبعضنا أصبح لا يهتم بدراسة الجانب الأول، ويقول: ما دام أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وهو أمر فطري لا تختلف فيه العقول فسأوجه غالبية همي إلى دراسة الجانب العبادي (توحيد الألوهية)، وليس هناك حاجة إلى أن أدرس توحيد الربوبية، وهذا خطأ عظيم. فالقرآن مليء بالحديث عن قضايا توحيد الربوبية: وهو أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهو البارئ، وهو الذي أنشأ هذا الكون بما فيه، وهو الذي يقوم عليه فيدبر قضاياه، ويصرف شئونه إلى غير ذلك، فعندما يستمع المسلم إلى الآيات التي تتحدث عن هذا الجانب تخشع نفسه، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:30 - 34]. فهذا نموذج من الحديث عن بعض أفعال الله سبحانه وتعالى، وهو من جملة معاني توحيد الربوبية، فأفعال الله سبحانه وتعالى من خلقه لهذا الكون وتدبيره وإنشائه بعض ما يتضمنه توحيد الربوبية. فالحديث عن هذا الأمر يقر في النفس الإنسانية عظمة الله سبحانه وتعالى وخشيته، ولذلك فعلماء التوحيد يقولون: إن توحيد الربوبية يلزم منه توحيد الألوهية، فالذي يقر بتوحيد الربوبية يلزم منه أن يقر بتوحيد الألوهية، بمعنى: أن إقرار هذا التوحيد في نفس الإنسان يدفعه ويحثه إلى أن يعبد الواحد الأحد الفرد الصمد، لذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، لماذا نعبده؟ {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22].

سبب الاهتمام بتوحيد الربوبية

سبب الاهتمام بتوحيد الربوبية ومرة أخرى أقول: إن هذه القاعدة حق في ذاتها، فالمشركون كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا شريك لله سبحانه وتعالى في ربوبيته، فهو رب السماوات والأرض، ويخالفون في توحيد الألوهية؛ وأن العبادة لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له. لكن هذا لا ينبغي أن يجعلنا نتغاضى عن دراسة توحيد الربوبية، فينبغي أن يعتنى به وأن يدرس، خاصة وأنه قد أصبح هناك صراع في العصر الحاضر حول هذه القضية الأولى التي لم يكن هناك صراع حولها في الماضي، فأصبحت هناك فئات كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها تنكر أن يكون لهذا الخلق خالقاً، وأن يكون لهذا الوجود موجِداً، فهذه المشكلة لم يعانها السلف رضوان الله عليهم كما نعانيها نحن اليوم، لذلك فلا بد من دراسة أبعاد هذه المسألة الأولى لأمرين: الأمر الأول: لإقرارها في نفس المسلم، فالمسلم بحاجة إلى أن تقر معاني توحيد الربوبية في نفسه، لا أن يكون هناك مجرد اعتراف، ولكن كما يثيرها القرآن في النفس الإنسانية. الأمر الثاني: ففي مسائل الاعتقاد كانت هناك شبهات ترد على المسلمين في وقتهم، هذه الشبهات شبهات في العقيدة وردت إلى المسلمين من تقصيرهم فيما أنزل إليهم، أو وردت إليهم من خارج بلادهم من الميراث الذي ورثته الأمم التي دخلت في الإسلام، فقد ورثت عقائد وتصورات. فكثير من الناس دخلوا في الإسلام بعقائدهم وتصوراتهم، فتركوا بعضاً منها وبقي في أذهانهم بعضها، وبعضهم دخلوا في الإسلام مغرضين، ووجَد بعض المسلمين كتباً قرءوها عن تصورات الأمم لمعبوداتها، فاختلطت عليهم الأمور، فالمسلمون كانوا يتعرضون لمشاكل العقيدة التي حدثت ووُجِدت في عصرهم.

المشكلات العقدية في العصر الحاضر

المشكلات العقدية في العصر الحاضر ونحن أيضاً تنشأ في عصرنا مشكلات بعضها هي تكرار لما حدث في الماضي، لذا فينبغي أن نعتني بالمشكلات الماضية؛ لأنها لا تزال تتكرر، وأقرب مثال على ذلك ما حدث في مصر في هذه الأيام وأثير حوله ضجة إعلامية ضخمة، فالذين يسمون جماعة التكفير والهجرة عقيدتهم شبيهة بعقيدة الخوارج إن لم تكن هي هي بل أكثر، فقد غلوا أكثر مما غلا الخوارج، فهم يرون أن الذي يرتكب الكبيرة كافر خارج من ملة الإسلام، بل إن كل من لا ينضم إلى جماعتهم فإنه ليس من المسلمين، فكل مسلم ينبغي أن ينضم إلى جماعتهم، وهذه القضية هي تكرار لقضية الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية رضي الله عنها في معركة صفين، فقد خرجوا من جيش علي وقالوا: يا علي! لِمَ قبلت تحكيم الرجال؟ فقد كفرت وكفرنا معك، فنحن نعترف بكفرنا ونستغفر إلى الله ونتوب إليه، فاعترف بكفرك ثم آمن، وكل من رضي بهذا الفعل فهو كافر. ثم بعد ذلك أصلوا أصولهم: أن كل من ارتكب معصية فهو كافر يخرج من ملة الإسلام، ونشأ عن ذلك جماعة أخرى قالوا: ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وصارت هذه مشكلة اعتقادية، فوضع لها علماء السلف قواعد وضوابط حتى يعرف الناس أن هناك كفراً يخرج من ملة الإسلام، وهناك معاصي وذنوباً لا تخرج من ملة الإسلام. فهذا أمر مكرر، وليس شيئاً جديداً، ولو كان هؤلاء الذين قالوا بهذا القول درسوا مثل هذا الجانب ما وقعوا فيما وقعوا فيه إن شاء الله تعالى. فعندما ندرس المشكلات التي حدثت في التاريخ الإسلامي في هذا الجانب دراسة صحيحة فإن ذلك يكون لنا حماية ووقاية، فنعرف الخطأ ونعرف الإجابة عليه، لكن لا يصح أن نقتصر على دراسة هذه الجوانب وحدها، بل لا بد من دراسة المشكلات العقائدية التي تحدث اليوم، فالإسلام قادر على رد كل جوانب الانحراف في كل العصور، فلا بد للمسلم أن يدرس هذه الجوانب التي يحدث فيها الانحراف، خاصة هذه المذاهب الضالة؛ المادية والشيوعية والرأسمالية، فلها أصول عقائدية تقوم عليها، فلابد من دراستها وتبينها. والمسلمون اليوم على ثلاث فرق، فهناك فرقة تقول: يكفينا أن نعلم المشكلات العقائدية التي حدثت، ويقصرون أنفسهم على هذا الجانب. وفي مقابل هؤلاء فرقة أخرى عندها علم ضخم جداً في الأمور العقائدية الشيوعية أو الرأسمالية، فيتبينون ذلك ويفهمونه فهما جيداً، لكن عندما ترد عليهم قضية مثل قضية هؤلاء الذين قالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر إذا بهم يتلجلجون ولا يعرفون أين الحق. فكلا الجانبين معه حق ومعه باطل، فالذي درس القضايا القديمة معه حق في هذا، فهذه لا بد من دراستها؛ لأنها تتكرر دائماً، والذين قاموا بدراسة القضايا العقائدية التي وجدت الآن محقون في ذلك؛ فهي مهمة، بل هي أهم من الأمور العقائدية الماضية؛ لذلك لابد من دراستها، فهي مهمة في ذاتها؛ لأنها مشكلات حاضرة موجودة، والأمر الصحيح هو أنه لا بد من دراسة القضيتين، وكلا الدراستين لها أهمية كبيرة. فحتى نستطيع أن نعيش في وسط نعرفه وندركه ونعرف مشاكله وقضاياه لا يجوز أن نغلق أعيننا، ولقد رأينا بعض إخواننا من الذين كانوا يلتزمون بمنهج الكتاب والسنة في مصر لا يعرف إلا قضايا الشرك القديم، وقضايا البدع التي وجدت في القديم، ولكنه لا يعرف من أمور هذه الحياة وقضاياها ومشكلاتها الاعتقادية كبير شيء، فهو يعيش في القرون الماضية وليس عنده إلا كيف أنه يناقش القبوريين والمخرفين فقط، وهذا جانب لا اعتراض لنا عليه، فهو جانب مهم وخطير، لكن الجانب الآخر أيضاً مهم وخطير. ونجد في المقابل بعض الناس اليوم يدعون إلى الإسلام في بقاع الأرض وليس لهم حظ ونصيب من دراسات السلف رضوان الله عنهم، فقصروا أنفسهم على مشكلات الحكم ودراسة العقائد المادية الموجودة الآن كالشيوعية والرأسمالية، ونبغوا في ذلك وبرعوا فيه، ولكن إذا اعترضت لهم مشكلات من قضايا العقيدة التي كانت قديماً تلجلجوا ولم يتضح لهم الحق فيها. والحق أن نجمع ما عند هؤلاء وما عند هؤلاء فنعتني بالأمرين سوياً، ولا نقلل من دراسة الجانب الأول ولا نقلل من دراسة الجانب الثاني، بل كلا الأمرين مهم، فلا بد من العناية بهما.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم بغير ما أنزل الله

الحكم بغير ما أنزل الله Q ما هو الراجح في الحكم بغير ما أنزل الله تعالى؟ A الحكم بغير ما أنزل الله نصّ الله في كتابه على أنه كفر، فالقاضي أو الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله نص الله سبحانه وتعالى على أن فعله كفر. وبعض العلماء يفرق بين الإنسان الذي يعتقد والإنسان الذي لا يعتقد، ولكن من لم يطبق الشريعة، فالذي يظهر والله أعلم أنه يدخل في جملة النص وأنه ليس بمسلم، فالحكام والقضاة الذين يطبقون التشريع الوضعي بكليته وليس في مسألة جزئية فهؤلاء -وإن كانوا يدعون أنهم مسلمون- فالظاهر أن النص يشملهم.

حكم الامتناع عن أداء الزكاة

حكم الامتناع عن أداء الزكاة Q من امتنع عن أداء الزكاة فهل يكون مرتداً؟ A المرتدون كانوا أقساماً ولم يكونوا قسماً واحداً، فمن المرتدين من ارتد عن الإسلام كلية وقال: ذهب محمد وانتهى كل شيء، ومن المرتدين من انكر وجوب الزكاة، وهؤلاء هم الغالبية العظمى، وقد امتنعوا وأنكروا الوجوب، وهناك فرق بين القضيتين، فالإنكار قضية والمنع قضية، فمن أنكر كلمتين من آية يعتبر كافراً؛ لأنه أنكر أمراً اعتقادياً، وكذب الله سبحانه وتعالى، أما الذي يمتنع عن أمر من الأمور العملية فقط غير الصلاة وهو مقر به، فهذه معصية وليست كفراً.

حكم من أنكر وجود الله لشبهة عرضت له

حكم من أنكر وجود الله لشبهة عرضت له Q ما حكم الذي ينكر وجود الله سبحانه وتعالى لشبهة طرأت عليه؟ A من أنكر وجود الله تعالى من أجل شبهة طرأت عليه لم يكفره علماء المسلمين، وحتى المعتزلة لم يقولوا: إنهم كفار، والذي ينكر بعض القضايا لشبهة عرضت له لا يكفر بذلك، ولو كان يعلم الحق ثم أنكره فهو كافر، وأما من أنكر الحق لأجل شبهة عرضت له فهذا لا يعتبر كافراً وإن كان ضالاً؛ لكنه لا يصل إلى درجة الكفر.

هل مجتمعاتنا جاهلية؟

هل مجتمعاتنا جاهلية؟ Q هل يقال عن مجتمعاتنا: إنها مجتمعات جاهلية؟ A إذا كان المجتمع مثل مجتمع أمريكا أو مجتمع روسيا أو مجتمع فرنسا فهو مجتمع جاهلي وكافر، أما إذا كان كمجتمع الكويت فبالنسبة إلى نظمه وقوانينه فهو مجتمع جاهلي؛ لأنه لا يحكم بالإسلام، وأما بالنسبة لأفراده فمنهم المسلمون ومنهم الكفار، فلا نقول عن الأفراد: إنهم جاهليون، فهؤلاء الموجودون والحمد لله غالبهم ليس بجاهلي، ومن الناس من هم جاهليون، وأما النظم فهي نظم جاهلية في غالبيتها.

عدم تكفير الخوارج

عدم تكفير الخوارج Q هل نقول بكفر الخرواج؟ A لا نقول بكفر الخوارج، وأما الأحاديث التي فيها أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فهي من أحاديث الوعيد، فطريقة أهل السنة والجماعة عدم تكفيرهم.

صحة ما ينسب إلى جماعة التكفير

صحة ما ينسب إلى جماعة التكفير Q هل حكمكم على جماعة التكفير التي في مصر أخذتموه من خلال ما ينشر في الجرائد؟ A بالنسبة لجماعة التكفير والهجرة نحن لا نؤاخذهم من خلال الجرائد، فمعرفتنا بهم قبل ذلك، ونحن نعرفهم من قبل أن ينشر عنهم في الجرائد، فعندنا معلومات كافية عنهم، فنحن لم نحكم عليهم في القضية الأخيرة وهو قتلهم للشيخ الذهبي، لأننا لا نعلم عن هذه القضية حتى الآن شيئاً، وأما عقيدتهم فنحن نعرفها، فنعلم علم اليقين أنهم يكفرونك ويكفروني ويكفرون أي شخص لم يدخل معهم، وأي إنسان ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفعل ما فعل من الطاعات، إذا ارتكب ذنباً كشرب خمر فإنه يكفر، فنحن نعرف عنهم هذه القضية، ولم نأخذها عن الجرائد.

حكم مقولة إن الله تعالى في الأرض

حكم مقولة إن الله تعالى في الأرض Q ما حكم من قال: إن الله تعالى في الأرض؟ A هذا الكلام كفر، وهناك فرق بين القضيتين، أعني بين قولنا: إن هذا القول كفر، وبين قولنا: إن قائل ذلك كافر، فهذه المقولة كفر، لكن الذي يقول بها أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نكفره. فالذي يقول: إن الله سبحانه وتعالى في الأرض، أو: إن الله في كل مكان أو: إن الله ليس في السماء، مقالته هذه ليست توحيداً وليست إيماناً، بل هي كفر، لكن هناك فرق بين أن نقول: هذه الكلمة كفر، وبين أن نكفر كل من قال بها، فالذي قال بها لا بد أن نقيم عليه الحجة والبرهان، فقد تعرض له شبهة، ولذلك لم يكفر العلماء المتكلمةَ، وحتى الخوارج لم يكفروهم ويخروجهم كلهم عن ملة الإسلام، وإنما قالوا: إن في أقوالهم كفراً. فإن استبان له الأمر ورد الأدلة على علم فإنه يكفر، وإذا ردها جهلاً لعدم تبينها له فلا نكفره.

أسئلة حول رمضان

أسئلة حول رمضان

النهي عن الغلو والتشدد في الدين

النهي عن الغلو والتشدد في الدين Q متى يبدأ وقت الصيام؛ حيث إن الله عز وجل يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] لكن نشاهد أن الإعلام في بلدنا يؤذن فيه قريباً من الليل فما الحكم؟ A قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] يعني: يتضح بياض النهار من سواد الليل. والمسلمون اليوم تشددوا، فبعض الناس يؤخر الإفطار بعد أن تغيب الشمس بخمس دقائق أو عشر، وبعضهم يتشدد في الصباح فيمتنع عن الطعام والشراب قبل أن يطلع الفجر، وهذا أصبح صفة عامة عند كثير من المسلمين في كثير من البلاد، بل قد يؤذن المؤذن قبل أن يتبين ضوء النهار، وهذا خطأ. إذ يجب أن نلتزم بالمطلوب، فعندنا تغيب الشمس أفطر الصائم، ويباح الطعام والشراب إلى أن يطلع الفجر، والقيد الشرعي هو أن يتبين النهار من الليل، وهذا هو القيد الذي تباح فيه الصلاة، ويشاهد بعض الإذاعات تحتاط فيؤذن المؤذن قبل الفجر بعشر دقائق أو ربع ساعة، وهذا بلاء ومصيبة؛ لأن بعض الناس يكون تاعباً في الليل، فإذا أذن المؤذن امتنع عن الطعام والشراب وصلى هناك، وإن كانت امرأة فلم تذهب إلى المسجد، وأطال في الوقت صلت قبل أن يدخل وقت الفجر. والشريعة الإسلامية تمنع هذا، وتوجب التزام أمر الله، سواء أفراداً أو حكاماً أو دولاً. فنرقب الوقت حتى نتبينه، وعندما يتبين يمتنع الصائمون عن الطعام، ويؤذن المؤذن للفجر، أما قبل ذلك فلم يكتب الله سبحانه وتعالى علينا أن نؤذن احتياطاً قبل الوقت بخمس دقائق، أو بعشر أو بربع ساعة، فهذا خطأ ينبغي أن يغير، أما إذا كان يؤذن المؤذن عند التبين فنتبعه.

عدد ركعات التراويح

عدد ركعات التراويح Q اختلفت أنا وأبي حول عدد ركعات التراويح، حتى كان يغضب علي، فأنا أقول: هي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة، وهو يقول: صلاة التراويح ثلاث وعشرون ركعة، فما القول الصحيح؟ A الثابت في البخاري ومسلم وغيره أن عدد ركعات التراويح إحدى عشرة ركعة، وهذا ثابت بنص عام، فحديث عائشة رضي الله عنها نص عام، تقول فيه: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة). وعلى هذا كان المسلمون، وإنما ينقل عن عمر أنه صلاها عشرين ركعة أو أمر بصلاتها عشرين. وهذا النقل عن عمر له روايتان: رواية تقول: إنه صلى بثلاث وعشرين، وأمر بذلك، ورواية أخرى تقول: إنه صلاها أو أمر أن تصلى إحدى عشرة ركعة. والرواية الأصح هي رواية إحدى عشرة ركعة، ولذلك تكون الرواية عن عمر موافقة للرواية الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الأصل، والله سبحانه وتعالى إنما كلفنا بشيء يريد منا إتقانه، فالمسألة ليست مسألة عدد ركعات. فالتقيد بما ثبت عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة بإتقان خير وأفضل بمراحل كثيرة من هذه الصلاة التي يصليها الناس، أي: عشرين ركعة لا إتقان فيها.

حكم الإسراع في الصلاة

حكم الإسراع في الصلاة Q ما حكم السرعة في الصلاة من ركوع أو سجود أو القراءة؟ A أحياناً قد تبطل الصلاة، يعني: رأينا من الناس من يصلي التراويح كنقر الديك، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، معنى كنقر الديك أو نقر الغراب أنه لا يتم ركوعها، ولا سجودها، ولا يطمئن فيها، ولا يرتل القراءة بل يقرأ قراءة سريعة، فالصلاة إذا كانت بهذه الصورة فقد تكون باطلة، سواء في ذلك الإمام والمأموم. وأحياناً: يقتصر الإمام على القدر الضروري من الاطمئنان. وصلاة التراويح ينبغي أن يكون فيها طول، فالأيام لأجل أن يوفر لكي يؤدي فيه عشرين ركعة يحتاج إلى أن يسرع في صلاته، ولو جعل هذا الوقت الذي يؤدي فيه العشرين ركعة لصلاة إحدى عشرة ركعة بشيء من الاطمئنان لكان قد جاء بالصلاة على الوجه المطلوب المرغوب. ويوجد بعض الناس يعللون سرعة صلاتهم بأنه يصلي وراءهم أطفال وشيوخ، والجواب عن هذا: إذا صلى الإمام إحدى عشرة ركعة بوقت معقول وبدون مشقة على الناس فهذا هو المطلوب. أما إذا صلى عشرين ركعة بسرعة خوفاً من جلب المشقة عليهم فهذا قد أذهب الخشوع، ولم يأتِ بالمطلوب. إذ ليس المقياس أن يرضي الناس في الصلاة، بل المقياس هو رضا الله سبحانه وتعالى، والناس إذا تعودوا على هذه الصلاة سهلت عليهم، فأول الأمر يكون فيه مشقة على الناس، لكن عند ما يألفوها ويذوقوا حلاوة العبادة والطاعة فلن يستطيعوا أن يتركوها. لكن عندما يراعي الأئمة رغبات الناس فيفعلون ما يريده الناس، فسيترك الناس الشريعة كلها. فالصلاة السريعة ليست هي الصلاة التي كان يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو التي ينبغي أن تفعل في رمضان.

حكم الاستمرار على قراءة سورة الإخلاص في الركعة الثانية

حكم الاستمرار على قراءة سورة الإخلاص في الركعة الثانية Q ما حكم الاستمرار على قراءة سورة الإخلاص في الركعة الثانية من صلاة التراويح؟ A الاستمرار عليها ليس من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من هدي الصحابة.

حكم تخصيص يومي الإثنين والخميس بالإطعام والصدقة

حكم تخصيص يومي الإثنين والخميس بالإطعام والصدقة Q هناك كثير من الأسر الكويتية تطعم الطعام في يومي الإثنين والخميس، فما رأي الإسلام في هذا؟ A ليس في الشريعة الإسلامية حث في أن يكون يومي الإثنين والخميس فيها أعمال خيرة معينة إلا الصوم، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن يصوم الاثنين والخميس؛ لأن يومي الإثنين والخميس تعرض الأعمال فيهما الله سبحانه وتعالى، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب أن يعرض عملي وأنا صائم). أما إطعام الطعام وصلة الأرحام والقيام وما أشبه ذلك، فما كان هاذان اليومان يخصان به، وهما يومان عاديان كأي يوم آخر. فتخصيص هذان اليومان بالإطعام قد ينشأ في أذهان الناس أنهما يومان مفضلان على غيرهما من الأيام، فيظن فيهما الفضيلة والخيرة على غيرهما. ونحن لا ننشئ عبادة ولا طاعة لم ينشئها الإسلام. وإن أعظم الجنايات فعل ما لم يحببه الإسلام. فالإطعام يكون يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، بلا فرق بين هذا وهذا.

زمن النية في رمضان

زمن النية في رمضان Q قرأت لبعض العلماء أن تجديد النية كل يوم في رمضان واجب، وبعضهم قال: تكفي نية أول يوم في رمضان، فما رأي الإسلام؟ A هذه مسألة اختلف العلماء فيها: فالإمام مالك رحمه الله يرى أنه تكفي نية من أول الشهر للشهر كله. فلرمضان وحده نية واحدة. والإمام أبو حنيفة يقول: لا يحتاج أن ينوي رمضان، فسواء نوى رمضان أم نافلة أم غير ذلك صح صومه. وبقية الأئمة -والحق معهم في هذه المسألة إن شاء الله- وهم الإمام أحمد والشافعي وغيرهما من العلماء يقولون: يجب أن ينوي لكل يوم، لأن كل يوم يشكل وحدة مستقلة مثل الصلاة، فصلاة الظهر تشكل وحده، وصلاة عصر تشكل وحدة واحدة وهكذا، والدليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل) فصوم رمضان لابد له من نية قبل الفجر أو في الليل، ولا تصح من نهار اليوم السابق، ومع ذلك ينبغي ألا نشق على أنفسنا في النية، إذا البعض يعزم أن يقوم ليتسحر، ثم يتسحر، وعند ما يأتي الأذان يمتنع عن الطعام، وبعد الفجر يشك هل نوى أم لا؟ فهذا يحدث من بعض الناس، وهو جهل بالنية. فلا يلزم في النية أن يقول: إني نويت أن أصوم يوم غد، وإنما النية قصد القلب وعهده على أن يصوم ذلك اليوم، بمعنى: أن يخطر في ذهنه ويعزم في قلبه أن يصوم يوم غد، فهذه هي النية. فإذا قال في نفسه عند النوم سأقوم لأتسحر ثم لم يتسحر فقد نوى، وليست عليه أي مشكلة. أما إذا نام إنسان قبل الغروب إلى بعد الفجر، أو أغمي عليه قبل الغروب إلى أن طلع الفجر وهو مغمى عليه فلم ينو من الليل فهنا تكون مشكلة. فإذاً: النية واجبة، ولا بد منها لكل يوم كما هو رأي الإمام أحمد والشافعي، فلا يجزئ صيام الشهر بنية واحدة؛ لأن كل يوم وحدة واحدة، والدليل على ذلك أنه لو صام خمسة أيام، أو أفطر خمسة أيام من الشهر، لم يبطل الشهر كاملاً. وكذلك إذا حاضت المرأة في أثناء الشهر لأدى إلى الانقطاع، فلو كان الشهر وحدة واحدة لبطلت جميع الأيام، وهو مخالف للنصوص. وكذلك مما يدل على أن كل يوم وحده: أننا عند ما يأتي الغروب نتناول منافيات الصيام، من أكل وشرب وجماع، فلو كان الشهر وحدة واحدة لكان الواجب صيام لياليه، فلا يأت مسلم المفطرات ليلاً ولا نهاراً. أما صيام النافلة فالعلماء مختلفون فيها، لكن الصواب: أن الإنسان لو لم ينو من الليل، ثم نوى بعد الفجر وقبيل الظهر، ولم يتناول طعاماً ولا شراباً فصيامه صحيح. وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل على نسائه فيقول: أعندكم طعام؟ فيقال: لا، ما عندنا طعام، فيصوم، فينشئ الصيام بنية النهار. وبعض العلماء يخالف في هذا فيقولون: لا يجوز إنشاء الصوم بنية من النهار؛ لكن هذا هو الصحيح والنية محلها القلب.

حكم إرغام الأطفال على الصيام

حكم إرغام الأطفال على الصيام Q قرأت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعود الأطفال على الصيام، فيعطيهم لعباً لينسوا الجوع فهل هذا صحيح؟ A نعم، هذا ثابت في صحيح البخاري وغيره عن امرأة تسمى الربيع بنت معوذ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها بصيام عاشورا قبل أن يكتب رمضان، قالت: قد صمناه، ثم تقول: إنهم كانوا يصومون الصبيان، ويجعلون لأحدهم من العهن أو الصوف، فإذا بكى أعطوه إياها يتسلى بها حتى يكون وقت الإفطار. وقدرات الأطفال على الصيام تختلف، فلا يصوم من الصبيان إلا الذين لديهم القدرة على ذلك، فلا نثقل على ابن أربع سنين أو خمس، ونمنع هذا الطعام ولو بكى، فبعض الصبيان يكون عنده ثمان سنين أو تسع سنين ولا يقدر على الصوم؛ لضعف بنيته، أما الأولاد الذين عندهم القدرة على التحمل فهؤلاء يصومون. فلا ينبغي أن نشدد مع الأطفال كما نشدد مع الكبار، فيمكن مثلاً أن نكتفي من ابن ثمان سنين أو تسع بيومين أو ثلاثة، ثم نزيده في العام الثاني أربعة أيام أو خمسة حتى يتعود. وليست المسألة في تعويد الصبيان على الصيام مسألة تعويد فقط، بل صيامهم حال الصبا يجر عليهم صلاحاً وأجراً، فلهم أجر الثواب عند الله سبحانه وتعالى، وإن كانوا لا يؤاخذون على المعصية.

حكم صيام يوم العيد، والست من شوال

حكم صيام يوم العيد، والست من شوال Q هل يجوز صيام يوم العيد؟ ومن متى يجوز صيام الست من شوال؟ A أول يوم من أيام شوال هو يوم عيد، ويحرم صيامه، ومن صامه فقد ارتكب معصية. ويجوز صيام الست من شوال بعد يوم العيد، فالأيام التي يحرم صيامها في شوال ليست ثلاثة أيام، بل هي يوم واحد وهو أول أيام العيد، ومن صام اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس فلا بأس عليه، أما اليوم الأول فلا يجوز بحال من الأحوال.

سنن العيد

سنن العيد Q ما هي السنة في الخروج لصلاة العيد؟ A بالنسبة لعيد الفطر فأول السنن فيه: أن يخرج قبل أن يصلى العيد صدقة الفطر. وثانيها: أن يتناول شيئاً من الطعام قبل صلاة العيد، وهذا في عيد الفطر، أما في عيد الأضحى فلا يتناول طعاماً إلا بعد الصلاة، فيأكل عيد الفطر؛ لأنه خرج من صيام فناسب أن يأكل شيئاً قبل الصلاة؛ ليسارع إلى طاعة الله سبحانه وتعالى الذي أمره بالفطر. وثالثها: أن يكبر التكبير المشروع، لكن وقته في عيد الفطر -على الصحيح من أقوال العلماء- يبدأ من فجر يوم العيد وينتهي بانتهاء صلاة العيد. وصيغته: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله بكرة وأصيلاً. ورابعها: أن ينطلق إلى الصلاة من طريق ويرجع من آخر، ثم يلقي السلام. وخامسها: أن تكون صلاة العيد في الصحراء، لا كما يفعلها الناس اليوم في المساجد. وسادسها: أن يسلم المسلمون على بعضهم، ويدعو بعضهم لبعض بأن يتقبل الله الطاعة. والثابت في التهنئة: تقبل الله طاعتكم. وسابعها: أن يخرج المسلم أولاده وأهله في صلاة العيد حتى المرأة الحائض، إلا أنها لا تصلي مع المسلمين، بل تشهد دعوة الخير، فقد أمر رسول صلى الله عليه وسلم أن نخرج النساء حتى ذوات الخدور اللاتي لسن متزوجات. وثامنها: لباس الثياب الجديدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخصص ثياباً لهذه المناسبة. وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل صلاة العيد، لكن إذا ذهبنا إلى المساجد العادية فنصلي ركعتين، وهاتان الركعتان ليستا للعيد إذ ليس للعيد سنة قبلية ولا بعدية.

بيان مصارف الزكاة

بيان مصارف الزكاة Q ما هي مصارف الزكاة؟ وهل تصرف الزكاة في أعمال الخير كنشر الكتب مثلاً؟ A مصارف الزكاة رتبت في الآية القرآنية وأصحابها: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين، وفي سبيل الله وابن السبيل. والفقير والمسكين هناك اختلاف بين العلماء في أيهما أشد حاجة، والعاملون عليها: هم الذين يجمعون الزكاة من الناس. والمؤلفة قلوبهم: هم من نتألف قلوبهم للإسلام لعلهم أن يؤمنوا، أو يحسن إسلامهم. والغارم: هو الذي غرم مالاً للإصلاح بين الناس. والذين في سبيل الله: هم الناس الذين يجاهدون ويقاتلون ويحاربون، وابن السبيل: هو المار المنقطع على السبيل، الذي ضاع ماله أو انتهى، فنعينه من الزكاة. وكل من يدور فمن هؤلاء جاز إعطاؤه، ومن خرج عنهم لا يجوز إعطاؤه، مع ملاحظة أن في سبيل الله يقصد به الحرب ومقدماته، من إعداد الجيوش، وشراء السلاح، والإنفاق على رواتب الجند، فكل هذا يدخل في سبيل الله، وبعض العلماء وهذا صحيح عن بعض الصحابة يلحق في سبيل الله الحج، وطلب العلم، أما ما عدا ذلك مثل بناء المساجد، ورص الطرقات وبناء المستشفيات، فهذا عمل خير، ولكن لا يدخل في الآية، وإلا لم يصر هناك فائدة من تحديد الثمانية الأصناف، فالمقصود بسبيل الله في الآية الحرب والقتال، وألحق به الحج بنصوص ثابتة عن الصحابة رضوان الله عليهم، أما أن ندخل كل أعمال الخير في سبيل الله، فما جعلنا لتحديد الثمانية الأصناف فائدة.

حكم إخراج الزكاة إلى بلد آخر

حكم إخراج الزكاة إلى بلد آخر Q هل يجوز إخراج الزكاة إلى بلد آخر إذا كان الفقراء فيه أحوج من بلدنا؟ A لا بأس بذلك، إذا كان فقراء البلد الآخر محتاجون حاجة أكثر وأشد من فقراء بلدنا، فالمسلمون وحدة واحدة، لكن إذا كان الفقر شديداً والحاجة ماسة في بلد الزكاة فلا ينبغي أن تنقل إلى بلد آخر، بل توزع في نفس المكان، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل بقول في الزكاة: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، أو إلى فقرائهم).

حكم صلاة الجمعة إذا كانت يوم عيد

حكم صلاة الجمعة إذا كانت يوم عيد Q إذا اجتمع عيد وصلاة الجمعة فهل تسقط صلاة الجمعة؟ A وردت أحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندما تجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يكتفي بصلاة العيد عن صلاة الجمعة، كان يقول: (وإنا مجمعون) أي: عيدان اجتمعا في يوم فتكفي صلاة واحدة. ومع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيد والجمعة، ليس أنه إذا صلى العيد لم يصل الجمعة، لكن من باب جواز الترك؛ لأنه وقت الجمعة على الصحيح، فالصحيح في وقت الجمعة: أنه يبدأ من وقت العيد وليس من الزوال، فنقول: نحن صلينا ركعتين في وقت الجمعة، وخطبة في وقت الجمعة، فتغني صلاة العيد عن صلاة الجمعة، ولكن ينبغي للإمام أن يجمع، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويقول: (وإنا مجمعون) أما سقوط صلاة الظهر فهذا خلاف بين العلماء، فبعضهم يسقطها ويكتفي بصلاة العيد، والبعض لا يسقطها.

بيان زمن إخراج الفطرة، ومقدارها، ومن تجب عليهم

بيان زمن إخراج الفطرة، ومقدارها، ومن تجب عليهم Q متى يخرج المسلم زكاة الفطر؟ وكم مقدارها؟ وعلى من تجب؟ A زكاة الفطر تخرج في آخر رمضان، وبعض الناس يظن أنه يجوز إخراج زكاة أو صدقة الفطر في جميع الشهر، والصحيح أن وقت إخراج الفطر إنما هو يوم العيد قبل الصلاة. أما إخراج الفطرة مالاً أو طعاماً فهو خلاف بين العلماء، لكن المتأمل يجد في إخراج الفطرة طعاماً حكم كثيرة، فمن جملتها: أن بعض البلاد لو أعطيت الفقير بها مالاً لخزنه ولم ينفقه على أولاده، ويبقى الحال هو الحال. ومنها: أن المال يخرج من يدك إلى يد الفقير، ولا يشعر به أحد. ومنها: من أن تظهر هذه الشعيرة وتبرز، فتتجسم هذه الأموال في كمية ضخمة من الطعام تنقل وتحمل ويطاف بها للفقراء، فتراها الزوجة والأولاد، فيعرفون أن لهم إخواناً، فيشعرون بشعورهم، ويحسون بإحساسهم، والبلاد التي عندها فقر عند ما يأتيهم الزبيب، والتمر، والأقط، والطحين، ويرونه بأعينهم، فيفرحون به فرحاً كبيراً، وقد يكونون لا يشاهدونه هذا ولا يشاهدوه إلا في هذه الأيام، فالرجل البخيل لا يستطيع بعد أن يري أهله الطعام ويقر بين أيديهم ثم يخرجه من البيت، وهذه حكمة من الحكم. ومنها: أن للإسلام هدفاً في تنشيط العلاقات التجارية، فعند ما يشتري كل رجل قادر على الإطعام تزيد بذلك التجارة، فمثلاً في الكويت يشترى حوالي مليون صاع خلال يوم أو يومين أو ثلاثة، وهذا يحدث نشاطاً للتجار في البلد، وفي مصر يشترى ثلاثين مليون صاع، وهذه الأمور تقوي العلاقات التجارية، فهناك حكم عظمية قد لا نعلمها فلا أن نستدرك على الإسلام وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول: الأنفع للفقير والمسكين أن نخرجها مالاً، فالمال كان موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أمر بإخراجها طعاماً. والزكاة يخرجها الإنسان المسلم عن نفسه وعن من تلزمه نفقته، كزوجته وأولاده وخادمه الصغير والكبير، ولو ولد قبل رمضان ثم بقي بعد رمضان يوماً واحداً، فيخرج عنه زكاة، ويخرجها عمن يصوم لا يصوم ممن تلزمه نفقتهم. وهناك أمر آخر بالنسبة للذين يخرجون زكاة الفطر وهو أنه لا يشترط في المخرج أن يكون غنياً، بل الغني والفقير عليهما الإخراج، بشرط أن يفضُل على ما يكفيه اليوم والليلة صاع، فأي إنسان عنده فائض عن كفايته وكفاية أولاده وأسرته في يوم وليلة فينبغي أن يخرج زكاة الفطر. والفقير الذي عنده كفاية يوم وليلة، أو كفاية أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين، وليس عنده ما يكفيه السنة، فيجوز أن نعطيه زكاة الفطر، ويجب عليه أيضاً أن يخرج صدقة الفطر إذا كان عنده الفائض عن قوت يوم وليلة.

بيان المباح من الألعاب يوم العيد

بيان المباح من الألعاب يوم العيد Q ما هي الألعاب التي تباح في العيد؟ A جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فوجد الأنصار لهم يومان يلعبون فيهما فقالوا: هذا كنا نلعب فيه في الجاهلية، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبدلنا الله خيراً منهما: عيد الفطر، وعيد الأضحى) وكان المسلمون في العيد يرون الحبشة يلعبون بالحراب والطبل، وسبق عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه جائز، فالأمور المباحة ذلك الوقت هي ليست كوقتنا الحالي من الرقص الفاضح، والخلاعة، والفسق، والفجور المعروف بين الناس، فهذا لا يبيحه الإسلام، وإنما الأمور المباحة هي بعض الألعاب التي ليس فيها قمار، أو قلة حياء، أو غير ذلك مما نهى عنه الشرع. أما الملاهي التي لا تخلوا من القمار، أو الفاحشة، أو يرى فيها النساء يلعبن، وهن مظهرات لمفاتنهن فلا يجوز دخولها. أما إذا كانت الألعاب مهذبة وتتفقا مع الإسلام، فلا بأس أن يشاهده بعض الناس خاصة الأطفال، لكن الأشياء التي تخالف الإسلام لا يجوز أن نبيحها في العيد، لا بهذا التوسع المذموم الذي يفعله بعض الناس، وإنما التوسع يكون في الأمور المباحة.

حكم صيام الست من شوال

حكم صيام الست من شوال Q نرى كثيراً من الناس يصومون ستة أيام قبل رمضان، فما حكم ذلك؟ A الستة الأيام من شوال هي التي تثبت فيها أحاديث صحيحة عن رسول صلى الله عليه وسلم ورغب بها، وهي من صوم التطوع، فهناك صوم واجب وهو رمضان، وهناك صوم تطوع كالست من شوال، ويوم عاشورا، أي: اليوم العاشر من محرم، واليوم التاسع من شهر ذي الحجة وهو يوم عرفة، ومن جملة ذلك مما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صيامه ستة أيام من شوال، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستة من شوال فكأنما صام الدهر)؛ لأن صيام رمضان ثلاثين يوماً أو تسعة وعشرين يوماً، والحسنة بعشر أمثالها فتصبح مائتين وتسعين يوماً أو ثلاثمائة يوم. وعند صوم ستة أيام من شوال والحسنة بعشر أمثالها تصبح ستين يوماً، فتضاف إلى ما قبلها فتصبح ثلاثمائة وخمسين، أو ثلاثمائة وستين يوماً، والسنة الهجرية هي وسط بين هذه وبين تلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الذي يصوم ستة من شوال فكأنما صام السنة كلها؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها. وهذه الأيام الست يجوز صومها متفرقة، ومتتابعة، ويجوز أن يصومها المسلم من ثاني أيام العيد، ويجوز بعد ذلك إلى نهاية شهر شوال، لكن لا يجوز أن يصومها في أول أيام العيد، إذ صيامه حرام ويكون الصيام فيه باطلاً. وأيام العيد ليس من السنة قيامها؛ لأن هذه الأيام ليست لها مزية على غيرها من الأيام حتى تفضل عليها وتخص بها، فصيام هذه الأيام الست مرغب فيه ومن لم يفعله فليس عليه شيء، وليس في ذلك حكم.

الإسلام في مواجهة أعداء الداخل والخارج

الإسلام في مواجهة أعداء الداخل والخارج إن المتأمل والناظر فيما يجري للمسلمين اليوم من قتل واضطهاد وتشريد، وتكالب أعداء الله عليهم، ليجد أن الأمة الإسلامية أضحت مستباحة لإخوان القردة والخنازير، وذلك يدل على مدى الحقد والكراهية لهذه الأمة، لكن تدبير الله فوق تدبير البشر، ونصر الله آت لا محالة، فليكن المسلم بنفسه وأهله وأولاده من الغرباء الذين يعيدون للإسلام عزه.

قدرة الله وتدبيره فوق قدرة وتدبير البشر

قدرة الله وتدبيره فوق قدرة وتدبير البشر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الذي ينظر في أحوال المسلمين ويسير في ديار الإسلام لا بد أن يوقن أن دين الإسلام منزل من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه حق؛ وذلك لأن أعداء الإسلام لم يتركوا سبيلاً من السبل لهدم الإسلام وإزهاق أرواح المسلمين وبث الشكوك والشبهات إلا وسلكوه، ومع ذلك إذا بالإسلام في كل مكان ينمو حتى في ديار أعداء الله، وتحت سطوة الظالمين وجبروت الظالمين ينبت الإسلام ويترعرع؛ مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فأعداء الإسلام يدبرون ويخططون: الشيوعيون من ناحية، واليهود من ناحية أخرى، والصليبون بدولهم القوية كأمريكا وبريطانيا وأذنابهم الذين يسجدون لهم، ويتوجهون في صباحهم ومسائهم إلى قبلة الكفر إلى واشنطن أو لندن أو موسكو، كل هؤلاء يعملون على هدم الإسلام وتفتيت المسلمين، ثم تكون النتيجة أن الله سبحانه وتعالى يهيئ لهذه الأمة رجالاً يقولون كلمة الحق، فتكون نوراً يتردد في جنبات العالم الإسلامي، في أرض فلسطين التي احتلت منذ ثمان وأربعين سنة، هذه البلاد كنت أشبهها بالنسبة للإسلام بديار قاحلة جرداء ليس فيها نبتة، والله يا إخوة لو دخلت مسجداً من عشر سنوات في بلد عدد المسلمين فيها ثلاثون ألفاً لا تجد إلا بعض رجال قد بلغوا الشيخوخة، فعمر الواحد خمسون سنة، ستون سنة، سبعون سنة، وهؤلاء أيضاً قد رأيت واحداً منهم يخرج من المسجد وهو يسب الدين، وهذا قبل عشر سنوات، وقد قدر لي في هذا الصيف أن أزور تلك الديار وأن أتجول في بعض تلك المدن التي يسكنها مسلمون فرأيت عجباً، لا يصدق الإنسان نفسه أن هذه البلدة التي كانت قاحلة جرداء صحراء محرقة ليس فيها نبتة خير، وإذا بالخير ينتشر في جنباتها، وإذا بنبتة الإسلام تترعرع فيها، وتحت حكم السفهاء الظلمة الطغاة من اليهود، فاليهود حريصون على أن يقتلوا روح الإسلام في نفوس المسلمين، وأن يجهلوهم بدينهم وبعقيدتهم، وذلك عبر جيوش من المغريات التي تفتك بأبناء المسلمين، ومع ذلك كله تصل كلمة الحق وقدر الله غالب، فالله سبحانه وتعالى يقدر أن تجد كلمة الحق قبولاً، فتتقبلها نفوس كالأرض العطشى، فهذه النفوس تتقبل الخير وتتقبل كلمة الإسلام وتتقبل آيات القرآن وأحاديث المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فالمساجد التي كانت خراباً أصبحت عامرة بالرجال وبالشباب الذين يجاهرون بكلمة الإسلام ويرفضون الكفر، ويرفضون ما رضي به حكام العرب، وهم تحت نيران اليهود يقولون لهم: نحن لا نريدكم وسنحاربكم إلى آخر رجل فينا، الكلام الذي لا يستطيع أن يقوله المسلمون في مصر الآن يقوله المسلمون وهم في أرض يسيطر عليها يهود، ذلك والله ليس بذكاء وفطنة من المسلمين وإنما هو قدر الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، كذلك لا نسمع من أمريكا وروءسائها غير سموم ناقعة تدل على مدى الحقد والكراهية لهذه الأمة، ولكن أمر الله فوق ذلك، وتدبير الله سبحانه وتعالى فوق ذلك، يفتحون السجون والمعتقلات في ديار المسلمين الذي التي يتزعمها من يسبحون بحمد أمريكا وبحمد الكفر والباطل، ويقابلون اليهود بالأحضان، أما دعاة الإسلام فالعذاب والسجون والقتل والتجويع والتشريد، من أجل خاطر عيون اليهود الذين يريدون بالإسلام والمسلمين شراً، ولكن أمر الله نافذ وماض يشاهده المسلم في كل مكان وفي كل سبيل. يا إخوة! لقد كان أبناء المسلمين في حفلاتهم وأفراحهم لا يقدمون إلا الخمر، وليس على مستوى خمسة أو ستة أو عشرة أو عشرين، بل يجتمع أبناء المدينة في الحفل فتدار كئوس الخمر التي تكلف عشرات الألوف، ووصل الحال بالمسلمين في تلك الديار إلى هذا، ثم يتغير الحال، فلا تجد فرحاً جاهلياً، ولا تجد كلمة نابية، كل ذلك بإرادة الله وتقدير الله، واليهود يحسون بالقضية، واللوبي اليهودي من أمريكا ينذر ويولول ويقول: إن المسلمين يريدون أن يعودوا إلى التسلط من جديد، فاليهود لا يريدون أن يقوم المسلمون في ديارهم ويحكمون أنفسهم بأنفسهم؛ فتلك جريمة عند اليهود وعند أوليائهم، والذي يراقب الحال يعلم أن لله مراداً وأن لله قدراً، ولكن ينبغي للمسلم أن يشارك في هذا المراد وفي هذا القدر بنفسه وبأولاده وبأسرته، حتى يكون من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس، من الغرباء الذين يعيدون للإسلام عزه ويعيدون للإسلام مجده، والقضية كما قلت قضية إلهية ربانية، ووالله لو كان الأمر موكولاً لنا نحن البشر لضاع الإسلام وضاع القرآن، ولكن الله سبحانه وتعالى يدبر ويريد، وتدبيره وإرادته فوق إرادة الجميع وفوق تدبير الجميع، فهؤلاء الذين في ديار الإسلام يحاربون الإسلام، وينصبون أنفسهم أعداء لهذا الدين وللدعاة في سبيل الله، ويقذفون بالألوف منهم في السجون هؤلاء مصيرهم رهيب، قد يكون في الدنيا قبل الآخرة، وقد يكون في الآخرة بعد هذه الحياة الدنيا، ولكنهم لن ينجوا من غضب الله ومقته وجبروته، فالله سبحانه وتعالى غالب على أمره. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

أكبر بلاء ابتليت به أمة الإسلام

أكبر بلاء ابتليت به أمة الإسلام الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. أما بعد: فإن هذه الأمة قد جرت عليها ويلات كثيرة وبلاء كثير، وأكبر بلاء ابتليت به هذه الأمة من أنفسها ومن رجالها، من شبابها، من نسائها، من حكامها، هذا البلاء الأكبر الذي ابتليت به الأمة، صحيح يا إخوان! أن اليهود يخططون، وأمريكا تخطط وروسيا تخطط، والكل يريد بالإسلام شراً، لكن بالله عليكم لو كان هذا المسجد قوياً محكم البناء، وهبت عاصفة فإنه سيصمد المسجد أمام العاصفة، أما إذا كان مزعزع البنيان وخاوياً متشققاً لسجد للعاصفة، ألم تهز العواصف البيوت على الدولة الإسلامية الفتية، وذلك عند ما لم يكن رجالها يتجاوزون بضع مائة، وهبت رياح عاتية، العرب من ناحية، اليهود من ناحية، والفرس من ناحية، والروم من ناحية، ومع ذلك ثبت البناء لهذه العواصف، واستطاع المسلمون أن ينشروا الإسلام في بقاع الأرض؟! إذاً: مصيبة المسلمين في أنفسهم، فلو كان بناء الإسلام في نفوس المسلمين قوياً ومتماسكاً، ولم يكن فيهم هذا الغثاء، ولم يكن فيهم أولياء الكفر، وكانوا إخوة في الله، يحكمون شرع الله لما استطاعت هذه الدول الكافرة أن تنال منهم شيئاً، وتكون الدائرة للمسلمين. فالعداء الذي نشاهده والتدبير الذي نشاهده إنما يؤثر فينا، إذ نحن لم نحكم بناءنا ولم نقوم بناءنا ولم نسدد أنفسنا، فعندما نريد أن ننطلق لنعيد للإسلام عزه ومجده ينبغي أن نفكر في عيوبنا وفي أنفسنا وفي ما أصابنا في عقولنا وعقيدتنا وتصوراتنا، وأن ننظر في سلوك المسلمين، حيث قد ابتعد المسلمون في سلوكهم عن الإسلام إلا من شاء الله، وهذا هو الذي أشرت في البداية أنه كائن، وأن المسلم يلمحه هنا وهناك في بلاد المسلمين، وفي أطراف الأرض، فينبغي أن يأخذ المسلمون بسلوك الإسلام وإن غضب من غضب، ورضي من رضي. فإذا تحقق ذلك عند ذلك يتنزل نصر الله، وعند ذلك يهيئ الله لهذه الأمة رجالاً لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يقدمون أهواءهم ولا شهواتهم على الحق الذي أنزله الله، وعند ذلك ترتفع كلمة الله في الأرض، وترتفع العدالة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، لتحقق الخير للإنسانية، وذلك كائن إن شاء الله. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب الدعوات.

التراث العقائدي

التراث العقائدي إن التراث العقائدي لدى الأمم يشكِّل أهم أساس في بناء التصورات والأنظمة، وبالنظر إلى تراث الأمم العقائدي نجد أن الشرك قد وجد عندها جميعاً؛ نتيجة لإقحام العقل في غير مجاله، أو اتباع الفلسفات وعلم الكلام، أو الإعراض عن وحي السماء. وقد جعل الله تراث الأمم العقائدي كله يندثر بطروء التحريف عليه، واختص هذه الأمة بحفظ شريعتها بالرغم من حصول شرخ تأريخي من قبل المنحرفين، كل ذلك يؤكد لنا أنه لن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

مقدمة بين يدي الموضوع

مقدمة بين يدي الموضوع الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. السيد/ وزير الأوقاف والشئون الإسلامية. إخواني الذين لبيتم دعوتنا لافتتاح المؤتمر الأول لجمعية إحياء التراث الإسلامي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني وأخواتي! بالنيابة عن جمعية إحياء التراث الإسلامي، أود أن أشكر السيد/ وزير الأوقاف والشئون الإسلامية على تفضله بافتتاح هذا المؤتمر، وأشكر الأخوة العلماء على تلبيتهم دعوة الجمعية لإلقاء المحاضرات، وأرحب بالإخوة الذين قدموا من خارج الكويت ومن داخلها لمشاركتنا هذا الحفل. وبعد: فإن المتابع لأحوال المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يرى أن العالم الإسلامي قد وصل الى درجة كبيرة من الشتات والوهن والضعف، فقد تمزقت أمة الإسلام وتفرقت كلمة المسلمين، وأصبحوا فريسة لأعدائهم من شرقيين وغربيين، يسومونهم المذلة في كل مكان، وها نحن نرى ونسمع كل يوم ما يحل بالمسلمين من نكبات، ففي فلسطين يشرد اليهود البقية الباقية من الشعب الفلسطيني، وفي أفغانستان يشرد الأعداء شعباً وأمة، وفي كل مكان يلحق المسلمين الذل والهوان، ولما كان آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وهو أن نربي جيلاً جديداً على الكتاب والسنة، وأن تسري في المسلمين روح جديدة تعيد للأمة شبابها ونظارتها، وإن كان هناك بحمد الله صحوة إسلامية مباركة في كل العالم الإسلامي، إلا أن جمعية إحياء التراث الإسلامي أيضاً قافلة جديدة تستهدف نشر تراث أمتنا الإسلامية الخالدة، وبعث علومها وأخلاقها وآدابها وعقيدتها؛ ليكون ذلك هادياً ومرشداً لشباب الأمة المتوجه نحو الدين؛ حتى لا تتفرق بهم السبل وتختلف عليهم الطرق. وإن قيام جمعية إحياء التراث هو دليل جديد بحمد الله على أن أمتنا عازمة أن تصل حبل آخر هذه الأمة بماضيها المجيد، ليكون في الأمة أمثال خالد وأبي عبيدة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، الذين حملوا مشاعل النور والهداية، وراية المجد والعزة، فالإسلام لم يعد نقياً صافياً كما أنزل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أدخل فيه كثير مما ليس منه وخاصة في مجال العقيدة، ولعل الصفة الغالبة اليوم على أغلب المسلمين عدم وضوح العقيدة في أذهانهم، هذا إن لم تكن الصفة الغالبة عليهم الانحراف العقائدي، لذا لا بد من بيان ومعرفة العقيدة السليمة الصافية، كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم معرفة العقائد والأفكار الدخيلة على الإسلام، انطلاقاً من قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]. إنني ما انتدبت إلى الحديث في موضوع من الموضوعات إلا وأحسست أن من حق الذين انتدبوني والذين يسمعون لي أن أعطي الموضوع حقه، فأنا أعلم كم من الوقت يبذله الذين يحضرون لمثل هذه المؤتمرات والمحاضرات، وأعلم أن وقت الذين يحضرون هذه المحاضرات ثمين، فالوقت هو الحياة، وقد ازداد إحساسي بثقل المسئولية في هذا الموضوع الذي أتكلم فيه، إذ أنه موضوع خطير.

أثر العقائد في صناعة أفكار الأمم

أثر العقائد في صناعة أفكار الأمم إن العقيدة هي الأساس التي تقوم عليه الأديان والمذاهب والمبادئ، وقد قيل قديماً: (الإنسان أسير أفكاره ومعتقداته) ولا زالت عقائد البشر هي التي تسيرهم، ومن خلالها ينظرون إلى الوجود والحياة والمجتمعات الإنسانية، وعلى أساسها يقيمون الأنظمة والقوانين، ويضعون القواعد والقيم والموازين. ولم يزل المستبدون والطغاة يتلاعبون بعقائد الناس؛ لتتيسر لهم السيطرة عليهم، فعلى الرغم من أنني كتبت في موضوع العقيدة عدة مؤلفات، إلا أن خطورة الموضوع الذي أتناوله تفرض علي أن أعود إلى التفكير فيه مرة أخرى، وأعود للنظر في التراث العقائدي وفي مصادره، ولقد نظرت في هذا التراث نظرتين: نظرة في التراث الإنساني، ونظرة في التراث الإسلامي، وعشت مع المؤلفات التي تعرضت لعقيدة هذين التراثين وقتاً ليس بالقصير، ولقد رأيتني وأنا أجول بنظري وفكري في كتب التراث كرجل قابع فوق قمة جبل على شاطئ بحر لجي محيط، وأنا أنظر في عقائد أهل الملل والنحل في القديم والحديث، وكيف نشأت وتفرعت؟ ثم كيف تلاشت وفنيت؟. فتخيلوا أنني ذلك الرجل الذي يشاهد أمواج البحر، فإذا هي لا تحصى كثرة، وهي تنشأ وتتلاشى، ثم تتعارض وتتصادم، وهي في ذلك كله لا تتوقف لحظة، بل كل الذي يحدث أن البحر قد يهدأ في بعض الأحيان فتكون الأمواج هادئة، وقد يثور فإذا بالأمواج كالظلل أو كالجبال، ولست مبالغاً في الوصف، بل هي الحقيقة التي أدركتها. ومن طالع ما كتبه الكاتبون في تاريخ العقائد، وما كتبوه في تاريخ الفكر الإنساني، وما كتب في الملل والنحل يعلم صدق ما أقوله.

عجز العقل الإنساني عن معرفة حقائق كل شيء

عجز العقل الإنساني عن معرفة حقائق كل شيء وإن كثرة المذاهب والعقائد والفرق جعلت الفكر الإنساني لا يدري أين يسير؟ وماذا يأخذ وماذا يدع؟ فالعقيدة لا تقوم كما نعلم على الشك والحيرة والتردد، بل تحتاج إلى اليقين الصادق الذي يقوم على الأدلة والبراهين، التي لا تجد النفس لها مدفعاً، والتي تأسر النفوس وتخضع لها العقول. الفكر الإنساني لا يستطيع أن يقيم من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تأريخ الإنسان وواقعه أصولاً توقفه على اليقين المنافي للشك، والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يحسن العقل الإنساني النظر فيه. إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه؛ لأنها نفسه، ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كل ما زاد بحثه عنها، فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها، فليس لها وزن ولا لون ولا حجم، ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية، فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها؟ لذلك قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. إذا كان هذا هو شأن الإنسان مع الروح التي تسري في كيانه، وهي سر حياته، فما بالكم في البحث العقلي المجرد عن خالق الوجود، وعن العوالم التي لا نراها ولا نشاهدها، وعن العوالم التي سيصير إليها الإنسان بعد الموت كالبرزخ واليوم الآخر؟ إن الإنسان لا يمكن أن يصل في أمرها إلى قرار، وسيبقى طيلة عمره حائراً متردداً. ومتى لم يجد الإنسان برد اليقين في معرفة الحقائق التي يمكن أن يقيم عليها حياته، والتي يمكن أن تفسر له وجوده، وترسم له مساره في الحياة وغايته التي يرمي إليها، وتوضح له علاقته بالقوة التي أوجدته وأوجدت الكون، فإنه سيعيش في شقاء، وسيضل المسار في حين أنه يظن في بعض الأحيان أنه بلغ الغاية، وشارف المقصد، وأوشك أن يصل، ثم يكتشف أن ذلك وهم من الأوهام، ويفاجأ بالأجل وقد أدركه، ثم ينظر فلا يجد أنه قد حقق في رحلته ما كان يصبو إليه.

إقحام العقل فيما لا مجال له فيه لا يؤدي إلى نتيجة

إقحام العقل فيما لا مجال له فيه لا يؤدي إلى نتيجة ولن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي الوحي من الفلاسفة والمفكرين، ولكنني سأحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئاً ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا ورائه طويلاً. فهذا الرازي وهو أحد هؤلاء، وقد عانى في مسيره كثيراً من العنت، ثم يعلن أخيراً أنه لم يصل إلى شيء، وكان قد ابتعد عن المنهج القرآني النبوي، وجرى وراء نتائج العقول الإنسانية، فلم تقده الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ووجد في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب، إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه (أقسام اللذات) أشم منها رائحة النواح والحزن الصاعد من قلب مكلوم، فقد قال: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ويختم حديثه قائلا: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويصور لنا كذلك عبد الكريم الشهرستاني، وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علم الملل والنحل، حال أصحاب الكلام في علوم العقائد، في مقدمة كتابه (نهاية الإقدام في علم الكلام) فيقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم ولا أنسى الجويني، وهو الذي كان يدعى بـ (إمام الحرمين) وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، ولما حضره الموت إذا به ينظر في مساره في الحياة، وينظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، فلقد أضاع الكثير من عمره في مسار لم يصله إلى مراده، لقد كان يخوض في بحر خضم من أفكار وعقائد وموازين لا يقر قلب من خاضها على قرار، فإذا به يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول: لقد دخلت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي. وهذا عالم آخر من علماء الكلام، يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئاً، فيعلن ذلك لمن حوله ويقول: اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئاً.

الوحي هاد للعقل الإنساني العاجز

الوحي هادٍ للعقل الإنساني العاجز إن الله العليم القدير الحكيم هو الذي خلقنا، وهو أعلم بنا من أنفسنا، فهو يعلم أننا بحاجة إلى معرفته لأنه خالقنا، ويعلم أن نفوسنا لا يمكن أن يقر لها قرار ما لم تعرف الذي خلقها، وما لم تعرف الطريق إليه، ويعلم كذلك أن العقل الإنساني الذي وهبه لنا لا يمكن أن يصل بنفسه إلى معرفة صفات وأسماء خالقه وإلهه، ولا يعلم كيف يعبده. فتكفل لأبينا آدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض أن يمد ذريته من بعده بالنور والهدى، وهو الوحي الذي يعرفهم بربهم، وبالحقائق الكبرى التي لا بد لهم منها، وتكفل أيضاً لمن اتبع نوره المنزل على الأنبياء بالخلاص من الضلال الذي يعيش فيه البشر، وبالنجاة من الشقاء الذي تتردى فيه القلوب والنفوس، وقد توعد الرافضين لوحيه وهداه بالحياة الضنكة الشقية في الدنيا، وفي الآخرة توعده بحياة أشد ضنكاً وشقاء. قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]. وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124 - 127]. ولقد بقيت البشرية بعد أن هبط آدم إلى الأرض، وتكاثرت ذريته على التوحيد، فكان الناس أمة واحدة، ولكن البشر فيما بعد ضلوا في إلههم ومعبودهم، فعبدوا من دونه أولياء؛ فاتخذوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، فكانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، فأرسل الله لهم أول رسله، وهو نوح عليه السلام، فأنذرهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما يعبد من دونه، فآمن له قليل واستكبر منهم الكثير، فأهلكهم الله تعالى.

الشرك في التراث العقائدي لدى الأمم

الشرك في التراث العقائدي لدى الأمم وكثير من الأمم عبر تاريخ البشرية عبدوا الأصنام، ولهم في ذلك فلسفات وضلالات، فبعضهم يزعم أن هذه الأصنام محل تتلبس به الأرواح التي يعبدونها، وبعضهم ليس له حجة إلا أن الآباء يمجدونها ويقدسونها.

الشرك عند الصابئة

الشرك عند الصابئة إن الصابئة: هم الذين كانوا يسكنون في بداية أمرهم في وسط العراق، ثم سكنوا شماله، وكانوا يدعون أن الله خلق الأفلاك والكواكب، ووكل إليها تدبير أمر العالم من الخير والشر والصحة والمرض؛ ولذا فإنه يجب على البشر تعظيمها وعبادتها. ومنهم من يزعم أن الكواكب التي في الفلك ملائكة، وبنوا بيوتاً لهذه الكواكب لعبادتها، وجعلوا فيها الهياكل، وقد جادلهم إبراهيم عليه السلام فيما يعبدونه من أصنام، كما أنه ناقشهم أيضاً في عبادة الشمس والقمر والنجوم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:51 - 56]. وقال في موضع آخر: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:69 - 82].

الشرك في التراث العقائدي عند الهنود

الشرك في التراث العقائدي عند الهنود وفي بلاد أخرى كالهند عبد الناس هناك الأشجار والأحجار والثعابين والفئران، وقال فلاسفتهم بوحدة الوجود. وكانت عندهم الديانة البرهمية التي تزعم أن طبقة البراهمة خلقوا من رأس الإله (براهمان)، وأن طبقة الجند خلقوا من منكبيه وذراعيه، والزراع والتجار والعمال من فخذيه، والأرقاء من قدميه، ومنعوا ارتفاع الإنسان إلى طبقة فوق طبقته، وقال فلاسفتهم بالتناسخ، وهو أن روح الإنسان بعد الموت قد تحل في ابنه أو أخته أو أخيه أو في إنسان آخر، أو حتى في خنزير أو كلب، ولهم في ذلك فلسفات يضيق الوقت عن ذكرها. وأله هؤلاء الناس البشر وعبدوهم من دون الله عندما زعموا أن الآلهة تحل في بعض البشر، أو أن بعض الملوك من نفس الآلهة، كما كان ملوك المصريين القدامى ينصبون أنفسهم آلهة تقدم لهم الهدايا والقرابين، ويُعبدون في المعابد، وقد قال فرعون لأهل مصر: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. ولقد قامت في بلاد فارس ديانات كثيرة، ومن أقدمها عبادة (زرادتش) في القرن السابع قبل الميلاد، وقد ادعوا (زرادتش) إلهاً وضعوا حوله الأساطير. ثم جاء (مانو) بعد الميلاد بأكثر من مائتي عام وقال بقدم النور والظلمة وأنهما إلهان، وادعى مانو أن الجسد سجن للروح، ولا بد من تخليص الروح من سجنها وذلك بإبادة الجنس البشري، وهذه فلسفة من فلسفاتهم، فما كان من الملك -وقد سمع بدعواه- إلا أن أمر الجلاد أن يقص رأسه؛ ليخلص روحه من سجنها. ثم جاء مزدك بالشيوعية، ونادى بأنه لا زواج، بل تباح النساء والأموال من غير ضابط، ونادى بإلغاء القوانين؛ بحجة أنها تحول بين الإنسان وبين ما يشتهي، وقال بألوهية النور والظلام، فكانت النيران لا تخبو من المعابد، وكان الفرس يسجدون لها.

الشرك في عقائد الفلاسفة

الشرك في عقائد الفلاسفة لقد برز على مر العصور فلاسفة كثيرون، بهروا الناس بسعة علمهم وقدراتهم العقلية الرائعة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من البيئات الوثنية التي عاشوا فيها، ولم يستطيعوا أن يضيئوا طريق البشرية بالهداية إلى الحق. ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة: أفلاطون، وأفلاطون هذا هو الذي قال بوجود أرباب من دون الله، وقد أراد بنظريته الشركية هذه أن يعلل ما يجري في العالم من شر وألم، فالخير عنده كله من العقل المطلق، والعدل كله من الهيولى مادة الخلق. فالوجود عند أفلاطون طبقتان متقابلتان، فالعقل المطلق هو الخالق للخير، والهيولى مادة الخلق، وبين العقل المطلق والهيولى مخلوقات وهذه المخلوقات على درجات، تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل المطلق، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولى، وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب، وبعضها أنصاف أرباب، وبعضها نفوس بشرية، هذا هو كلام أفلاطون الفيلسوف الكبير كما يسمونه، وقد قال أفلاطون أيضاً بتناسخ الأرواح. وادعى كثير من الفلاسفة أيضاً أن العالم قديم أزلي، ولذلك لم يستطع البشر أن يحصلوا على الهدى والنور من الفلاسفة. إن الضلال في تاريخ البشرية كثير متشابك تشابك الطرق في صحراء ليس لها نهاية، وهو ضلال متداخل ملتو معوج، وقد استمر الوحي السماوي يواكب البشرية ويواكب الحياة الإنسانية، فما من أمة إلا خلا فيها نذير، والرسل الذين أرسلهم الله قد أوصلوا صوت الحق إلى جميع الأمم، ولكن البشر في كل العصور يرفضون الاستجابة للرسل، فنجدهم يقفون منهم موقف المعاند المكابر، ويكذبونهم ويتمردون على وحي السماء. قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:44].

الشرك في التراث العقائدي عند اليهود

الشرك في التراث العقائدي عند اليهود لقد كان موسى من الرسل العظام، أرسله الله لبني إسرائيل، وأنزل إليه شريعة التوراة، ولم يستطع كثير من بني إسرائيل أن يرتفعوا إلى مصاف المؤمنين، ولم يطيقوا البعد عن الخرافات والضلال والأوهام. لقد أنجاهم الله من فرعون فما كادت تخرج أقدامهم من البحر الذي شقه الله لهم حتى جاءوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لنبيهم: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، أي: اجعل لنا صنماً نعبده كما لهم صنم يعبدونه، وتركهم موسى تحت إمرة أخيه رسول الله هارون. وفي التوراة المحرفة: أن الله يتعب! ونسبوا إلى الأنبياء الكبائر والفواحش! وضاعت العقيدة الصافية التي تصل الناس بربهم، وكتب علمائهم التلمود، فوجد في تلمودهم الشرك والوثنية، فلقد صوروا الله تبارك وتعالى في تلمودهم إنساناً يبكي، ويذنب فيستغفر ويكفر عن ذنبه. وقد حدثنا الله عن تلاعب بني إسرائيل بالتوراة فقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]. وقال سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78].

الشرك في التراث العقائدي عند النصارى

الشرك في التراث العقائدي عند النصارى ثم جاء عيسى بن مريم عليه السلام بالإنجيل فيه هدى ونور، يدعو إلى عبادة الله وحده والكفر بما يعبد من دونه، ولكن النصارى اختلفوا من بعده، ولم يمض وقت طويل حتى اختلفوا في كتابهم، فكثرت الأناجيل فإذا هي تزيد على السبعين في ذلك الوقت، واختلفوا كذلك في طبيعة المسيح: فمنهم من قال: هو عبد الله ورسوله، ومنهم من قال: هو الله أو ابن الله، ثم اختلفوا بعد ذلك أيضاً: فمن قائل: إن له طبيعتين: طبيعة إلهية، وطبيعة بشرية، ومن قائل: إن له طبيعة واحدة هي الألوهية وأن تجسده في الصورة البشرية لم يؤثر في ألوهيته. وقد عقد قسطنطين الذي تنصر مجمعاً اسمه: (مجمع نوقيا) عام ثلاثمائة وخمسة وعشرين للميلاد، وعلى الرغم من كون الذين قالوا بألوهية المسيح كانوا قلة إلا أنهم هم الذين غلبوا في المجمع؛ لأن الحاكم يريد هذا، وكفروا من لا يقول بذلك. وفي عام ثلاثمائة وواحد وثمانين استمع المجمع القسطنطيني الأول، وقرر إلهية روح القدس، ولعن الذين لا يقولون بألوهيته، وصارت الألوهية عند النصارى في ثلاثة أقانيم متداخلة: الأب، والابن، والروح القدس، وما مقالتهم هذه إلا مضاهاة لقول الذين كفروا من قبل، ومضاهاة للذين ألهوا البشر والمخلوقات وعبدوها من دون الله.

الشرك عند العرب قبل بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم

الشرك عند العرب قبل بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ثم قبيل البعثة النبوية المحمدية لم يبق في فجاج الأرض من نور الوحي إلا شموع خافتة باهتة، وهذه الشموع لا يكاد الناس يعرفون في ضوءها معالم الطريق، ولا تصلح لهدايتهم إلى الحق الخالص من الشوائب، وكان العالم كله كذلك ومنه الجزيرة العربية التي انتشرت فيها عبادة الأصنام والأوثان فكان العرب يعبدونها؛ لتقربهم إلى الله زلفى. فجاء رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنور المبين، والصراط المستقيم والحق الأبلج، وفتح الله به العيون العمياء، والآذان الصماء، وأنار به القلوب وأظهر الله به الحق، وعرف الناس بربهم، وأقام العبادة على الحنيفية ملة إبراهيم، وبين للناس ما اختلفوا فيه، وبين الضلال الذي وقع فيه اليهود، وقال كلمة الحق في عيسى عليه السلام.

طروء الشرك والبدعة على هذه الأمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

طروء الشرك والبدعة على هذه الأمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حفظ الله كتابه الذي أنزله، وهيأ الله صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فدونوا الكتاب ونشروه في الآفاق، وجمعوا عليه الأمة، وحفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثوها لمن جاء بعدهم، وبلغوا دعوة الله للعالمين، ونشروا هذا الدين، ولم يجد عدوهم إليهم سبيلاً. ثم حدثت الفتنة وانقسمت الأمة، وعلى الرغم من أن الشمل قد التأم، واجتمع أمر الأمة على رجل منها، إلا أن الخلاف لم ينته، وعلى الرغم من أن الخلاف ابتدأ سياسياً، إلا أن الأطراف المتنازعة وصلت خلافها بالدين، ووجدت العقائد الكفرية والفلسفات الضالة التي كانت سائدة قبل الإسلام باباً تدخل منه إلى المسلمين في وقت الفرقة والاختلاف.

بدعة التشيع

بدعة التشيع فحدث أن غلا بعض الناس الذين يريدون إضلال العباد في علي بن أبي طالب، وجعلوه أحق بالنبوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من زعم فيه الألوهية، ومنهم من عده أفضل الصحابة، واتخذوا هذا باباً لهدم الإسلام وسب الصحابة ومعاداتهم، ثم انقسم هؤلاء إلى فرق كثيرة: بعضها قريبة من الحق، وبعضها غالية، وبعضها بين ذلك، وأصبح لكل فرقة أصولها وعقائدها ومناهجها.

بدعة الخوارج

بدعة الخوارج وسخط آخرون على علي بن أبي طالب ومعاوية وكفروهم وكفروا من تبعهم، ونسبوا فعلهم هذا إلى الدين، وقالوا: كل من ارتكب كبيرة فهو كافر، واستباحوا دماء مخالفيهم وأموالهم ونسائهم، فناقشهم الصحابة، ثم حاربوهم وكان هؤلاء هم الذين عرفوا في التاريخ باسم الخوارج، ولهم عقائد ومناهج وأفكار لا تزال تظهر بين الفينة والفينة إلى زماننا هذا.

بدعة القدرية والجهمية

بدعة القدرية والجهمية وفي نهاية عهد الصحابة، خرج قوم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، فقام لهم الصحابة ونقضوا مقالتهم وأبطلوا شبهتهم، ثم بدأت المقالات الضالة المتلقاة من تلامذة اليهود والمشركين وطلاب الصابئة تنتشر في أوساط المسلمين. فمن أوائل من عرف عنه ذلك: الجهم بن صفوان، والجهم أخذ مقالته من الجعد بن درهم، وهذا أخذ مقالته كما يقول ابن تيمية عن أبان بن صنعان، وأخذها هذا الأخير عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي، وكان الجعد بن درهم من أرض حران، وحران موطن الصابئة، وفيها بعض فلاسفتهم، ويذكر الإمام أحمد أن الجهم أخذ مقالته أيضاً عن بعض فلاسفة الهند. والجهم صاحب ضلالة تنسب إليه، وأتباعه يسمون بـ: (الجهمية)، وهم ينفون صفات الرب وأسماءه، وشيخه الجعد بن درهم زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، وأعملوا في النصوص التي لا توافقهم مقاييس التأويل الذي قد يصل إلى درجة التحريف.

بدعة الاعتزال

بدعة الاعتزال وعندما عربت الفلسفات الرومية واليونانية ونقلت إلى اللغة العربية في حدود المائة الثانية زاد البلاء، وكثرت التيارات العقائدية والفكرية، وغزت عقول طوائف من المسلمين مثل: واصل بن عطاء وعمر بن عبيد. فلقد نشأت الفرق المختلفة ومن أشهرها المعتزلة، وهي التي ابتدأ أمرها واصل بن عطاء، وقد زعم المعتزلة أنهم يريدون أن يدافعوا عن الدين ضد الملحدين والنصارى والفلاسفة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، بل تبنوا نظريات وآراء أحدثت فرقاً بين المسلمين. وتبنى بعض الخلفاء العباسيين وجهة نظرهم، وابتلي المسلمون في عصور هؤلاء الخلفاء الذين تبنوا الاعتزال، وعلماء المعتزلة الذين يسميهم المستشرقون اليوم (رجال الفكر، أو الأحرار) قاموا بالحجر على فكر المخالفين، وتكفير من لم يتبن أصولهم. وقالوا: لا يكون هناك توحيد إلا إذا نفينا صفات الخالق خشية الوقوع في التجسيم. وزعموا بناء على ذلك أن القرآن ليس كلام الله، وهذه الفتنة هي التي حدثت في عهد المأمون والخلفاء الذين بعده، ووقف في وجهها الإمام أحمد كما هو معروف. وزعموا أيضاً أن العدل يقتضي أن العبد هو خالق فعله ليس الله هو خالق أفعال العباد، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر في الدنيا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما في الآخرة فهو كافر مخلد في النار، وقد وقف في وجههم العلماء الأجلاء، وقد ترك المعتزلة تراثاً ضخماً يشرح أصولهم ونظرياتهم، ومن أوسعها كتاب: المغني، للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وكتاب شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار أيضاً، وهما مطبوعان. ولقد أفل نجم المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المتوكل، ولكنهم صبغوا الفكر الإسلامي بكثير من نظرياتهم ومعتقداتهم، ومن الذين هدموا مذهب المعتزلة بعض الذين نشئوا على الفكر المعتزلي من أمثال أبي الحسن الأشعري المتوفى في سنة ثلاثمائة وأربعة وعشرين هجرية، وقد بقي معتزلياً أربعين عاماً، ثم رجع إلى مذهب السلف، وعلى الرغم من أن أبا الحسن الأشعري اقترب إلى مذهب السلف فيما ذهبوا إليه إلى حد كبير، إلا أنه لم يتخلص من أساليب المعتزلة وقواعدهم العقلية ومصطلحاتهم، وهذه الطريقة تؤدي بصاحبها إلى نتائج مخالفة لعقائد الأوائل مهما ادعى أصحابها أنهم يسيرون على نهج السلف، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقبل المعتزلة والأشاعرة وبعدهم نشأت فرق كثيرة كالمرجئة والماتريدية والكلابية وغيرهم، وكل فرقة من هذه الفرق لها بعض المعتقدات التي تخالف بها غيرها، ووراء كل معتقد من هذه المعتقدات فلسفات وتأويلات. ونلاحظ أن كل الفرق المخالفة لمنهج السلف قد غلت في تقدير العقل وقدمت حكمه على حكم الشرع، واستعملت الموازين والمقاييس العقلية في محاكمة القضايا الغيبية، وابتعدت هذه الفرق عن الكتاب والسنة بنسب متفاوتة، ولجأ كثير من أهل هذه الفرق إلى تأويل النصوص التي لا توافق آرائهم ومعتقداتهم، فغاب عن كثير من هذه الفرق الكثير من حقائق الإسلام. فلقد اختلف علماء الكلام في الصفات الإلهية، وفي الصلة بينها وبين ذات الله، وفي إمكان رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة، وفي مسألة العدل والجور، ومسألة القضاء والقدر، ولم يغادروا مسألة كبيرة أو صغيرة إلا اختلفوا فيها كثيراً أو قليلاً، وقد تعامل المتكلمون مع صفات الله كما لو كانت صفات الإنسان فأنكروها. ونحن اليوم ورثنا عن المدارس الفكرية والعقائدية شيئاً كثيراً من الأفكار والمعتقدات، وسارت في أيامنا هذه معتقدات جديدة في الشرق والغرب غزت ديارنا وعقولنا ومناهجنا، فماذا نفعل وكيف نتصرف معها؟

حفظ الله لهذا الدين بأهل الحق

حفظ الله لهذا الدين بأهل الحق لقد كان من فضل الله علينا أن حفظ لنا قرآننا وسنة نبينا، فلم يحدث لنا كما حدث للأمم من قبلنا الذين ضلوا بعد أن ضاعت أو حرفت كتبهم، وكان من فضل الله علينا أيضاً أن أبقى معالم الحق واضحة في هذا الدين سواء في معتقداته أو في شرائعه، وهدى في كل جيل طائفة التزمتها وأظهرتها ونافحت عنها. وقد قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). وقد تمثلت هذه الطائفة في سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم من العلماء الذين ساروا على دربهم، واهتدوا بهديهم أمثال الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كـ الليث بن سعد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والبخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم كثير. وحال سلفنا الصالح وأقوالهم وعقيدتهم محفوظة مدونة، وطريقهم ليس فيه خفاء، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وعندما سئل عن الفرقة الناجية المنصورة قال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي اليوم). ومنهج هذه الفرقة الناجية المنصورة: هو المنهج الإيماني القرآني النبوي، ويقابل هذا المنهج: المنهج الفلسفي الكلامي، والمنهج الفلسفي الصوفي الاستشراقي. إذاً: فالمنهج الإيماني القرآني يقابله منهجان: منهج الفلاسفة المتكلمين، ومنهج الفلاسفة المتصوفين. ويختلف هذا المنهج القرآني النبوي عن المنهج الفلسفي في مصادره ومنابعه، وفي طريقه وسبيله، وفي قوة تأثيره وسيطرته، وفي الأسلوب وطريقة الاستدلال، وفي الغاية التي يرمي إليها. وقد حارب أئمة السلف الاتجاه الفلسفي الكلامي والصوفي الذي يريد أن يأخذ الأمة بعيداً عن المنهج الإيماني القرآني النبوي، فقد حارب هذا الاتجاه الإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام ابن خزيمة والبخاري وغيرهم من أئمة الهدى. وفي كل عصر يظهر الله من العلماء والأئمة من يظهر هذا النهج القويم، الذي يحيي النفوس ويهدي للتي هي أقوم. ومن أعظم الذين قيظهم الله لنصرة هذا المنهج: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد كان ذا عقل ثاقب، وفكر راجح، وقد أحاط بأقوال العلماء، ووفق للصواب، ونفع الله به البلاد والعباد، وتتلمذ على يديه علماء أعلام كـ ابن القيم وابن كثير وغيرهما. ومن العلماء الذين هدوا للمنهج الإيماني القرآني النبوي في العصور الأخيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي ظهر في القرن الثاني عشر الهجري في وسط نجد، فحارب الشرك والباطل ونصر الحق، ونشر كتب العلم الأصيلة. ومنهم أيضاً محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف بـ الأمير الكحلاني صاحب (سبل السلام)، ومنهم العلامة الشوكاني صاحب (نيل الأوطار) وهما من علماء اليمن الأخيار. وقد ورثنا عن أصحاب المنهج الإيماني القرآني النبوي كثيراً من الكتب التي توضح معتقد أهل السنة والجماعة وتحارب المنهج الفلسفي الكلامي وتبين معايبه، ومن خير هذه الكتب (العقيدة الطحاوية) ومؤلفها هو أبو جعفر الأحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصري الحنفي المتوفى سنة ثلاثمائة وواحد وعشرين هجرية، وقد شرحها شرحاً قيماً رائعاً: صدر الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي.

لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها إننا اليوم والأمة الإسلامية تحاول أن تنهض من سباتها، وتقوم من عثارها، يجب أن إلى الماضي؛ لنبني نهضتها على أساس من عقيدتها وتراثها. ويجب أن يعلم أولو الرأي المفكرون أن تراثنا فيه الغث والثمين، وفيه الخير والشر، وفيه الهدى والضلال، إن تراثنا يمكن أن يكون تراثاً لمدارس مختلفة؛ فكثير من هذه المدارس لم تكن على المنهج الواضح، ولذلك فإن السبيل لنهضة صادقة أن نعود إلى ذلك المنهج القرآني النبوي الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهو واضح المعالم وكتبه ظاهرة بينة ليس فيها خفاء. وإنني ألفت نظر رجال الفكر إلى خطورة ما يقوم به المستشرقون، وبعض الذين غرر بهم من أبناء المسلمين من إحياء الفكر المعتزلي الكلامي هنا وهناك، وخداع الناشئة من أبناء المسلمين به، وهناك فريق آخر يحاول أن يحيي الفكر الفلسفي الاستشراقي الذي ينادي بوحدة الوجود، والمتمثل في كتب ابن عربي والحلاج وابن الفارض وابن سبعين وغيرهم. إن المنهج الفلسفي الكلامي، والمنهج الفلسفي الصوفي كلاهما لم يستطيعا أن يقيما الأمة من عثارها في الماضي، بل كانا من أسباب البلاء الذي أصاب الفكر الإسلامي، وقد أحدث شرخاً هائلاً في هذه الأمة. فقد أحدث علماء الكلام في الماضي من الخلاف والفرقة والانقسام ما يكفي بعضه لهدم هذا المنهج، وقد أقعد المنهج الصوفي المسلمين عن الجهاد ومحاربة الشرك، وكان من أسباب الضياع الذي أصاب المسلمين. فلم يفلح المنهجان في إصلاح حال الأمة، ولم يستطع المنهجان أن يصدا هجمات الخصوم الفكرية والعقائدية في الماضي، فأحرى بهما ألا يستطيعا إصلاح حال الأمة في الحاضر، وألا يستطيعا مواجهة العقائد التي يموج بها القرن العشرين في شرق العالم وغربه. إن الذي يحارب المنهج الإيماني القرآني النبوي الذي يتمثل في المنهج السلفي هوأحد رجلين: إما جاهل بهذا المنهج لا يعلم حقيقته، وإما عدو حاقد لا يريد بالأمة خيراً، وبعض هذين الصنفين لجأ إلى تحريف هذا المنهج، فإذا به يكتب في هذا المنهج؛ ليحرفه ويفسده. فظهرت كتب مكتوب عليها: بأنها كتب تتبع السلف، والحقيقة أن فيها انحرافاً وعودة بالمنهج القرآني إلى المنهج الاعتزالي، ولكن باطل هؤلاء لن يروج على من عرف المنهج الحق. وفي الختام أقول: كما قال إمام دار الهجرة أنس بن مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وأقول كما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

عقيدة الأشاعرة

عقيدة الأشاعرة Q ما موقف أهل السنة والجماعة من الأشاعرة؟ وما مدى صحة القول بأن الأشاعرة من أهل السنة والجماعة؟ A لقد ذكرت أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله كان معتزلياً، ثم اقترب جداً في نهاية أمره من أهل السنة والجماعة، وفي كتابه (مقالات الإسلاميين) وكتابه (الإبانة) عقيدة إسلامية جيدة واضحة، ولكنه لم يتخلص من الاعتزال تماماً وخاصة في أسلوبه، وفي المصطلحات الفلسفية والكلامية التي تغلب على أسلوبه والمشكلة حقيقة إنما هي في أتباعه، فإن بعضهم يرفض أن يكون أبا الحسن الأشعري رجع إلى هذه العقيدة الصافية التي نجدها في (الإبانة)، فلم يلتزم هؤلاء الأتباع بما صار إليه في آخر حياته، وبقي قسم من الأشاعرة يتبنون منهجاً يخالف نوعاً ما منهج أهل السنة والجماعة.

شبهة حول الكلام عن العقائد والرد عليها

شبهة حول الكلام عن العقائد والرد عليها Q هناك شبهات تثار حول إحياء التراث العقائدي، وهي القول بأن الوقت الآن ليس وقت دعوة إلى عقيدة؛ لأن الدعوة إلى العقيدة وتفاصيل العقيدة كالأسماء والصفات تشغل المسلمين، وبالتالي يغزون في عقر دارهم من قبل الشيوعيين وغيرهم من الكفار، فهي دعوة تفرق المسلمين، وأن هذه التفاصيل أيضاً في العقيدة لم يخض فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، فما مدى صحة هذا القول؟ A إن العقيدة الإسلامية كما ذكرت هي الأساس الذي يقوم عليه الدين الإسلامي، وهي في غاية البساطة والسهولة واليسر، وإن كان هناك أمران في العقيدة: أمر في غاية الصعوبة، وأمر في غاية السهولة. فالوصول إلى العقيدة الصافية من خلال الاختلافات العقائدية صعب إلا على من وفقه الله إليه، لكن إذا وصلنا إلى الحق الذي أنزله الله، والذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في فهم العقيدة فسنجدها سهلة ميسرة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بها الناس ويتعلمونها في جلسة، ولا زال ذلك إلى اليوم سهلاً. فيستطيع الرجل العادي أن يفهم العقيدة السليمة في جلسة واحدة أو في جلستين، لكن الإشكال كيف يصل إليها من خلال هذا الاختلاف والفلسفات وهذه الأقوال والتناقضات التي تركت لنا من ميراث المدارس المختلفة؟ أما القول بأن العقيدة الصحيحة لا نحتاج إليها في البناء فغير صحيح، بل نحن نحتاج إليها، لكننا لا نحتاج إلى عقيدة المعتزلة أو إلى عقيدة ابن عربي والحلاج والفرق المختلفة. لكن العقيدة الصافية المأخوذة من الكتاب والسنة السهلة الفطرية فهذه لا بد منها، وأحب أن أبين هنا أن هناك فرقاً بين العقيدة وبين ضوابط العقيدة، فالعقيدة: هي الإيمان بالله تبارك وتعالى، ومعرفة صفاته من خلال النصوص، فيعرف المسلم سعة علم الله وعظمته ورحمته تبارك وتعالى من خلال تصوير القرآن لهذه الصفات، وهذا أمر لا بد منه، وهذا هو الذي يحيي النفوس والقلوب، فإننا إنما نتصل بالله ربنا من خلال صفاته ومن خلال أسمائه، فالله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا إذ هو غيب في الدنيا فكيف سنعرفه؟ لكنه في النصوص الصحيحة قد عرَّفنا بنفسه وصفاته. إن لب القرآن هو معرفة الله، ولن نعرفه إلا من خلال أسمائه وصفاته، فكيف يحجر على المسلمين أن يعرفوا ربهم ومعبودهم وفاطرهم؟! فإن أعظم قضية هي أن تبين صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه، وما عبث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (إن لله تسعاً وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)، وليس هناك عبث عندما يختم الله كل آية من آيات القرآن بذكر أسمائه: السميع والبصير والعليم والحكيم والخبير وغيرها، فليس هذا عبثاً، بل هو من لب الدين. فلا بد أن نعرف ربنا تبارك وتعالى، وهذه هي العقيدة. وهناك ضوابط للعقيدة جعلها العلماء، حتى لا يضل الإنسان وهو يسير في حياته عندما تأتي فكرة خارجية أو معتزلية، فوضع علماء السلف هذه العقيدة البسيطة السهلة في صفحات قليلة، بخلاف كتب المعتزلة فإنك تجد فيها من التطويل والإغراق في التفريعات ما يتوه به المرء عند قراءتها، وانظر مثلاً إلى كتاب عبد الجبار المعتزلي المطبوع في عشرين جزءاً والجزء الواحد أحياناً يكون عدة مجلدات. ولكن كتب العقيدة الإسلامية السليمة مكتوبة في عدة صفحات، وهي عقيدة كافية؛ لأنها ضوابط، أما معرفة الله تبارك وتعالى من خلال النصوص القرآنية، والنصوص الحديثية، وطرح صفات الله وأسمائه من خلال الآيات والأحاديث فهو لب العقيدة الإسلامية. فعقيدتنا في معرفة الملائكة هي من خلال ما يحدثنا عنه القرآن والسنة، ومعرفة اليوم الآخر هي من خلال القرآن والأحاديث، وكذلك وصف الجنة والنار يعرف من خلال الآيات والأحاديث. وأما الضوابط للعقيدة فإننا نحتاجها حتى لا نضل، وهذه الضوابط لا تملأ قلبك إيماناً، لكنها تمنعك من الانحراف، وهي الموجودة في بعض كتيبات العقيدة، وهي لا تملأ قلب الإنسان إيماناً، وإنما الذي يملأ قلب الإنسان إيماناً هو أن يعرف صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه وأفعاله، فيعرف ربوبيته من خلال آيات القرآن الكريم والسنة النبوية. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:30 - 33]. فهذا الآيات تخبرنا عن الله تبارك وتعالى فتأمل معانيها، وبعد ذلك تبين كيف تشعر نفسك؟ وكيف يمتلأ قلبك إيماناً؟ وكم يزداد قربك من الله تبارك وتعالى؟.

مصادر العقيدة

مصادر العقيدة Q ما مدى ارتباط صحة الحديث وضعفه بالعقيدة؟ A إن مصادر العقيدة عند أهل السنة كالإمام أحمد والإمام الشافعي وأهل الحديث هي القرآن وصحيح الحديث، ولكن المعتزلة يرفضون هذا ويقولون: المصادر هي القرآن والمتواتر من الحديث فقط، ولا يقبلون الحديث الصحيح غير المتواتر من الأحاديث لا في العقيدة ولا في غيرها، ثم جاء المتأخرون من بعض علماء الأصول وغيرهم فقالوا: العقيدة لا يحتج فيها بحديث الآحاد ولو كان صحيحاً، بل لا بد أن يكون متواتراً، وهذا الكلام غير صحيح، وكثير من المتأخرين أخذوا برأي المعتزلة في العقائد فقط، فقالوا: الأحاديث الصحيحة التي ليست متواترة تصح أن تكون حجة في الأحكام، ولا تصح أن تكون حجة في العقائد، ونسبوا هذا إلى الأئمة القدامى وهذا كذب، فإن الأئمة مثل الشافعي، والإمام أحمد، والإمام مالك وغيرهم لم يقولوا بهذا القول، وكل ما في الأمر أنه ثبت عنهم غيره، أو أننا قد لا نجد لهم في ذلك قولاً. أما الصوفية فيقولون: ليست هناك حاجة إلى قرآن ولا إلى حديث، بل مصدرهم: (حدثني قلبي عن ربي)، أو (أنا أعرف ربي بقلبي).

عقيدة الإمام أبي حامد الغزالي

عقيدة الإمام أبي حامد الغزالي Q أرجو منكم توضيح عقيدة الإمام أبي حامد الغزالي التي مات عليها؟ A الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تقلب كثيراً، وفي الحقيقة: إن الإمام الغزالي رحمه الله يصلح أن يكون نموذجاً لما كان يعانيه المسلم في تلك الفترة من صراعات فكرية وعقائدية، فتجده مرة مع المعتزلة، ثم تجده مرة مع الأشاعرة، ثم تجده أخرى مع الفلاسفة، لكن ما يذكره عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه علا في الأخير إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وكما يقال: إنه مات وصحيح البخاري على صدره. وكثير من العلماء قد عاد إلى الحق بعد مرحلة طويلة كما رأينا ذلك في الرازي والجويني والشهرستاني وغيرهم. ونرجو أن يكون الغزالي من طلاب الحقيقة، لكنه في مسيرته تعثر كثيراً، وهناك صفحات مشرقة في كتبه، وفي بعضها صفحات مظلمة، فنرجو للرجل أن يكون من أهل الخير، لكن نحن نحكم على العلم الخطأ أنه خطأ، وعلى الصواب أنه صواب.

حكم تأويل صفات الله تعالى

حكم تأويل صفات الله تعالى Q ما قول العلماء في من يؤول صفات الله تعالى؟ A إن تأويل الصفات حكم عليه العلماء بالضلال، ثم إن هذا التأويل يتفاوت من جماعة إلى جماعة، لكنه منهج مرفوض عند العلماء من أهل السنة والجماعة. ثم بعد ذلك يتفاوت التأويل، فالجهمية يؤولون تأويلاً كبيراً فهؤلاء قد كفرهم العلماء، ومنهم الجهم ابن صفوان، فإنهم نفوا كل صفات الله تبارك وتعالى، وقالوا: لا يثبت التوحيد إلا إذا نسينا الصفات. فأما هؤلاء العلماء فقد كفرهم أهل الحق، وأما بقية الفرق فالتأويل عندها هو ضلال بنسب متفاوتة، فإذا كان الإنسان مجتهداً كأمثال بعض العلماء الكبار كـ ابن حجر العسقلاني وغيره الذي يؤول في بعض الأمور، فمثل هذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: نرجو أن يكون له عذر عند الله؛ لأن هذا مبلغ اجتهاده الذي يعرفه. ولكن إذا كان التأويل كمنهج فإنه مصادم للمنهج الإيماني القرآني النبوي؛ لأنه لم يعرف عن الصحابة ولا عن السلف ولا عن الأئمة التأويل إلا في بضع مواضع يستحيل إجراؤها على ظاهرها، أما المنهج العام عند المسلمين فإنهم يفهمون النصوص كما جاءت عن الله تبارك وتعالى من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، ويؤمنون بها كما وردت عن الله تبارك وتعالى.

التحذير من بعض الكتب المعاصرة المخالفة

التحذير من بعض الكتب المعاصرة المخالفة Q ذكرت بأن هناك كتباً باسم السلفية، ولكنها تؤدي إلى الانحراف عن المنهج الحق، فما هي هذه الكتب على سبيل المثال؟ A هناك كتاب أصله رسالة دكتوراة قدمت للأزهر واسمه: (المدرسة السلفية ورجالها) للدكتور/ محمد عبد الستار، وقد تعرض في مؤلفه لفكر ابن تيمية رحمه الله، وفي نهايته توصل إلى أن ابن تيمية ليس على منهج السلف وما كان عليه الإمام أحمد رحمه الله، كما يظن أهل السنة والجماعة، أو الذين يسمون أنفسهم بالسلف في هذه الأيام، ويقول: ليس هناك فرق بين المعتزلة وبين الإمام أحمد في خلق القرآن إلا في اللفظ. وبحثه هذا لو كتب عليه عنوان آخر غير هذا العنوان لكان أفضل بكثير، أما هذا العنوان فلا. وكتاب آخر كتبه شخص سوري وهذا الكتاب اسمه (صفات الله بين السلف والخلف) وما فهم صاحبه من منهج السلف شيئاً، وهناك أيضاً كتب كثيرة من هذا الصنف. وهذا الاتجاه خطير؛ لأن هؤلاء الناس أرادوا باسم العلم والمنطق والفهم أن يقولوا: إن العقيدة الحقة ليست في ما هو معلوم عند أهل السنة، فأخطئوا كثيراً.

من قال إن الصفات من المتشابه يستفصل عن مراده

من قال إن الصفات من المتشابه يُستفصل عن مراده Q هل هناك قول بأن الأسماء والصفات من المتشابه الذي لا يجوز الخوض فيه؟ وأن على هذا السلف من العلماء السابقين كأمثال ابن حجر والنووي وصلاح الدين، فما وجهة صحة هذا القول؟ A إذا كان معنى المتشابه: هو أننا لا نعرف حقيقة الصفات فهذا الكلام صحيح، فنحن نعرف أن للملائكة أجنحة، ولكننا لا نعرف حقيقة أجنحة الملائكة، وأيضاً فإن الجنة فيها ثمار وعنب ورمان وفواكه ذكرها القرآن ونحن لا نعرف حقيقتها ومع ذلك فنحن نؤمن بها. وأما إذا كان معنى المتشابه: هو أننا لا نعرف معنى الصفة، فلا نعرف معنى الرحمة، ولا معنى القدرة، ولا معنى العلم، ولا معنى الحكمة وغيرها من صفات الله فهذا غلط، بل إن صفات الرحمن نعرف معناها. وقد قال الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فالاستواء معلوم المعنى، والمجهول كيفيته، والإيمان به واجب؛ لأن الله أخبر بذلك، والسؤال عن الكيفية بدعة. وكذلك فالله موجود ومعنى الوجود نحن نعرفه، لكن كيفية الوجود لا نعرفها، بل نجهلها، والله سبحانه وتعالى أيضاً له سمع، ونحن نعرف معناه، لكن كيفية السمع لا نعرفها، ومع ذلك فنحن نؤمن بالمعنى؛ لأن الله خاطبنا باللغة العربية. فإذا أراد من يقول: إن أسماء الله وصفاته من المتشابه أننا لا نعرف كيفيتها فلا بأس في ذلك، أما إذا أراد أننا لا نعرف معناها فلا، وكثير من الناس يقصدون أنها من المتشابه بمعنى أننا لا نعرف معناها، فلا فرق عندهم بين اسم الله القدير والعليم والخبير والسميع فكلها لا معنى لها، فكأنها كلمة واحدة، وهذا يعود إلى قول الجهمية القدامى الذين كانوا لا يفرقون بين صفة وصفة.

عقيدة الإمام الشوكاني

عقيدة الإمام الشوكاني Q هل صحيح أن الإمام الشوكاني كان في فترة من الزمن على غير مذهب السلف؟ A العلماء في اليمن من الزيدية هم من الشيعة الذين لم يغلوا غلواً كبيراً في علي بن أبي طالب، ومنهم الإمام زيد بن علي رحمه الله، فقد كان يقول: إن علياً أفضل من غيره، وتولية المفضول مع وجود الفاضل لا بأس بها، ولكنه لم يكن يسب الشيخين أبا بكر وعمر وبقية الصحابة، حتى إن كثيراً من أتباعه عندما سمعوا منه ذلك رفضوه فسموا: (الرافضة). والزيدية في اليمن على مذهب زيد ولكن مع الأسف الشديد حصل منهم غلو في العصور الأخيرة كما يذكر الإمام الشوكاني في كتابه (طلب العلم)، فقد ذكر أهوالاً كانت في عصره من كثير من الزيدية، ومع ذلك بقي الحق موجوداً عند بعض علماء المذهب الزيدي. وكثير من علماء المذهب الزيدي أئمة مجتهدون وفقهاء، وقد يتأثر بهم العالم في بداية النشأة، لكن فيما قرأته من مذهب الإمام الشوكاني عندما كتب سيرته بنفسه في كتابه (أدب الطلب) فإنه كتب سيرته كلها من ألفها إلى يائها، فعلمت من خلالها أن العقيدة عنده كانت واضحة وضوحاً شديداً فيما أعلم، وهذا هو علمي، والله أعلم.

واجب المسلم المعاصر نحو التراث الإسلامي

واجب المسلم المعاصر نحو التراث الإسلامي Q ماذا يجب على المسلم في هذا العصر أن يفعله لإحياء التراث الإسلامي في مجاله الشخصي، وفي مجاله العلمي؟ A لا بد أن يتجمع المسلمون في كل مكان وعليهم أن ينشئوا جمعيات ومكتبات لنشر التراث، ثم ينتقى من التراث على درجات متفاوتة كتب كبيرة، وكتب صغيرة، وكتب متوسطة، ثم تنشر وتقرر في الجامعات وفي المدارس ويعرف الناس بهذا التراث، وذلك بعمل نشرات لبعض الكتب وإعلانات عن بعض الكتب ونحو ذلك. ويوجد الآن شيء غريب في هذا العصر، وهو أننا نقرأ في الصحف أحياناً نشرة أو إعلاناً عن كتاب، وأما غير الكتب فنجد الإنسان يذهب إلى صندوق بريده، وإذا به يجد إعلاناً عن سجاد وما شابهه، والمراد: أن وسائل الإعلام الآن وطرق النشر وجلب الناس لقراءة الكتب والصحف أصبحت فناً من الفنون، فينبغي للمسلمين أن يستخدموها؛ ليكون عندهم علم بكيفية إحياء هذا التراث. وأيضاًً فإن كثيراً من الناس يريد أن ينشر الإسلام فينشر كتاباً سيئاً قد يهدم الإسلام، فيجب تبصير الناس بالأصول وبالمفاهيم وبالعقائد السليمة، وتبصيرهم بالكتب السليمة وغير السليمة، وهذا الأمر من أهم الأمور، ثم بعد ذلك يأتي دور وسائل الإعلان المختلفة، وإنشاء المؤسسات التي تعنى بالتراث، وتبصير الناس به، وكل هذه أسباب تؤدي بنا إلى نتائج طيبة إن شاء الله.

الإخلاص والمتابعة

الإخلاص والمتابعة شرع الله العبادة وأمر فيها بالإخلاص له وحده وألا يشرك به شيئاً، كما أنه لا يجوز لأحد أن يخترع عبادة لم يشرعها الله، أو يزيد على ما شره الله سبحانه وتعالى.

أهمية الإخلاص والمتابعة في العمل الصالح

أهمية الإخلاص والمتابعة في العمل الصالح إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أي عمل من الأعمال إنما يكون نجاحه وكماله بمقاييس يعلمها أصحابه وأهله الذين يقومون بذلك العمل، فأعمال الامتحانات وأعمال الصناعات والتجارة فيها الأعمال الصالحة التي تصلح عند أصحاب الفن وأهل الصناعة، وفيها الأعمال التي لا تصلح ولا تقبل، وكذلك في أمور الدين، فهذه الأعمال التي تقوم بها منها أعمال صالحة مقبولة، ومنها أعمال صالحة غير مقبولة؛ لأنها تفتقر إلى الشروط التي وضعها الله سبحانه وتعالى للعمل الصالح المقبول، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبين للناس عندما يرى عملاً يتقرب به العبد إلى الله يقول له: عملك هذا غير صالح، أو عملك هذا فاسد باطل. فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في مواقف كثيرة، وذلك إما بأن يرى صاحب العمل يعمله فيرده على صاحبه، فقد دخل رجل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، فصلى ذلك الرجل ثم أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسلم، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة، وقال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فهو قد صلى ولكنه لم يأت بالصلاة على وجهها، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة. فأعادها كما صلاها أولاً، فرده الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، وصلى مرة ثالثة، فرده الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: والذي بعثك! لا أحسن غيرها فعلمني. فقد كان يسرع في صلاته، ولا يطمئن فيها، فلا يتم ركوعها، ولا يقيم صلبه في الركوع، ولا يطمئن في سجوده، فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم على صلاته بالبطلان، وأمره بأن يعيد صلاته. وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم سائل عن الجهاد فقال: (يا رسول الله! إني أريد ما عند الله وأريد الذكر -أي: أن يذكرني الناس ويقولون: شجاع وبطل- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ليس لك شيء)، فهذا الصنف من الناس ليس له أجر عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن العمل فقد ركناً أساسياً وهو ركن الإخلاص. وفي بعض الأحيان كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن هذه الأعمال التي لا تتقبل بأن يجعلها قضايا يتحدث عنها ويبينها للناس، كما أخبر في حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار أولاً، فأول من يدخلون النار ثلاثة: منفق، ومجاهد، وعالم، فكلهم لم يخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى، فعندما يسألهم ربهم يوم القيامة عن هذه النعم التي وهبها الله لهم يتحدث كلّ بما فعل في دنياه، فالعالم يقول: علّمتُ فيك، والمنفق يقول: بنيت المساجد، وأحسنت للفقراء، وأنفقت في المشاريع الخيرية، والمجاهد يقول: جاهدت وبذلت جهدي حتى أزهقت روحي فيك، فيكذبهم الله سبحانه وتعالى، وتكذبهم ملائكة السماء، فإنما فعلوا هذا رياء ليقال: عالم، وليقال: منفق، وليقال: شجاع وبطل، ثم يؤمر بهم إلى النار، فقد فقد العمل ركناً أساسياً.

شروط قبول العمل الصالح

شروط قبول العمل الصالح ولقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن للعمل الصالح المقبول ركنين:

الشرط الأول الإخلاص لله وعدم الإشراك به

الشرط الأول الإخلاص لله وعدم الإشراك به الركن الأول: أن تخلص عملك لله سبحانه وتعالى، تعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً، وهذه العبادة إن لم يقصد الله بها وحده وقصد بها غيره أصبح العمل شركاً لا يتقبل من صاحبه، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالذي يرجو لقاء الله، ويريد مغفرة الله عز وجل وجنته والنجاة من النار، فعليه أن يعبد الله وحده ولا يشرك بعبادة ربه أحداً. والشرك في العبادة شرك أكبر: وهو أن تعبد الله وأن تعبد غيره، كما كانوا في الجاهلية يعبدون معه: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أن يعبدوا معه عيسى بن مريم ويجعلونه إلهاً، فيدعونه ويستعينون به ويستغيثون به، أو أن يعبدوا بشراً يزعمون أنه هو الله، أو هو ابن الله، أو هو ثالث ثلاثة، فيرفعونه إلى مرتبة الألوهية، فكل ذلك شرك يحبط العمل. ومن الشرك أيضاً أن يرائي الإنسان بعمله: فالعبادة لله، ولكنه يحب أن يرى مكانه، أو أن يمدحه الناس ويثنوا عليه، فكل هذا أيضاً من الشرك. والإخلاص أن تجعل العبادة لله، وهو عمل قلبي لا يطلع عليه العباد، وهو سر بين العبد وربه سبحانه وتعالى، فكم من عابد يظن الناس أن عبادته حقة، ويكون فيها دخن، وهذا أمر يحتاج المسلم أن يجاهد نفسه عليه، فيسعى إلى أن يعرف التوحيد والإيمان، ويعرف كيف يصفي إيمانه ويخلص من الكدر والزيغ، وعند ذلك يصلح الركن الأساسي الأول، فاعبد الله مخلصاً له له الدين. فعلى كل مسلم أن تكون عبادته خالصة لله سبحانه وتعالى، وما لم تكن هذه العبادة خالصة فلا تكون قائمة على أساس قوي متين أبداً، وإنما تقوم على أساس منهار، فالعبادة حق لله سبحانه وتعالى، والله لا يقبل عبادة أشرك العبد معه أحداً.

الشرط الثاني موافقة الشرع في العمل

الشرط الثاني موافقة الشرع في العمل والركن الثاني: أن يكون العمل مشروعاً شرعه الله سبحانه وتعالى، فتأتي به أنت وفق ما شرعه الله عز وجل. ويقابل ذلك الابتداع في الدين، كأن يعمل الإنسان عبادة لم يشرعها الله سبحانه وتعالى، وإنما يخترعها هو من نفسه ويتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فمن ظن أن حب الرسول إنما هو أغان وأناشيد يمدحونه بها ويفنون نهارهم وليلهم في ذلك فقد أخطأ، فهذا ليس سبيلاً للقربة إلى الله عز وجل، والذين يزعمون أن التقرب إلى الله إنما هي أحزان يقضون ليلهم ونهارهم فيها، ويضربون صدورهم، ويلطمون وجوههم، ويصيرون العام أحزاناً متوالية ويظنون أنهم يتقربون بذلك إلى الله عز وجل كما يحدث في كثير من ديار الإسلام، فهذا أيضاً بدعة ما أنزل الله بها من سلطان. نعم قد يحزن الإنسان لكنه فترة ثم تمضي، فقد يحزن الإنسان لموت عزيز، أو لموت قريب، أو لموت صالح ثم تمضي الأيام وينسى، لكن أن يجعل الحزن عيداً كما تفعل بعض الفرق الضالة من المسلمين فهذا ضلال، فكلما جاءت مناسبة موت أحد جعلوه عيداً، فإذا جاءت مناسبة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو وفاة علي بن أبي طالب، أو وفاة الحسن، أو وفاة الحسين، أو وفاة غيرهم من الرجال الصالحين في تاريخ أمتنا جعلوه عيداً. والصالحون مئات وألوف، فلو أردنا أن نحزن لوفاة كل صالح منهم لما بقي لنا لحظة من الزمان نفرج بها. ثم هذا مخالف لمنهج الله وللمنهج الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته. (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ومن ذلك إنشاء أعياد في الإسلام لمناسبات صالحة طيبة، فتجعل أفراحاً وأعياداً كأعياد المسلمين في عيد الفطر والأضحى، فكل هذا من الابتداع، وكذلك الصلوات التي يصطنعها بعض الجهال في عبادتهم وهي ليست مشروعة ولم يأت بها نص، أو يزعمون أن هناك أياماً يتقربون بها إلى الله أفضل من غيرها ولم يأت بذلك نص، كل ذلك من الابتداع في الدين. وكذلك التقرب إلى الله في أمور فيها شيء من المعصية أو التكليف والالتزام بما لا يطاق، (فقد رأى الرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً واقفاً في الشمس فقال: مال هذا؟ قالوا: هذا رجل نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس، وأن يصوم، فقال: مروه فليجلس وليستظل، وليتم صومه) فالصوم مشروع وعبادة، وأما الوقوف في حرارة الشمس فالله سبحانه وتعالى كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (غني عن تعذيب هذا نفسه).

جهل المسلمين وابتداعهم في الدين

جهل المسلمين وابتداعهم في الدين فالركن الثاني لقبول العمل أن يكون عملك الذي تتقرب به إلى الله مشروعاً، وهذا يحتاج منّا إلى علم، فتتعلم الأعمال المشروعة التي يتقرب بها الناس إلى ربهم، ومن علم حال المسلمين اليوم، أو سافر في مشارق الأرض ومغاربها، فإنه يرى أن المسلمين قصروا كثيراً في فهم هذين الأمرين حتى كأن الإسلام الذي يعلمه الإنسان ويقرؤه في الكتب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين قد أصبح غريباً في ديارنا، ويكاد الناس يثورون إذا ما خالف المسلم هذا الذي يزعمون أنه دين، يقولون: ذهب الإسلام وضاع. وإذا سرت في مشارق الأرض ومغاربها فسترى من تقديس القبور وعبادتها، وعبادة الأموات شيئاً عجيباً، وهذا كله في القرن العشرين الذي يسمونه قرن النور والمعرفة والعلم، وكثير من الناس -يصلون إلى الملايين- يعكفون على قبور الأموات، فيدعونها ويستغيثون بها، ويلجئون إليها، ويقدمون لها الضحايا، ويقدمون لها النذور والقرابين، وتبنى عليها قباب الذهب وقباب الفضة، ويؤتى لها بالهدايا الثمينة من الشرق أو الغرب، وكل هذا يخالف أصلاً عظيماً وهو الإخلاص، فالاستعانة بهؤلاء ليس من الدين، والاستغاثة بهم ليس من الدين، إنما الواجب إذا كانوا من الصالحين أن نحبهم، وأن ندعو لهم كما علمنا القرآن: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، بيننا وبينهم ود ومحبة، فلا نجعلهم آلهة تعبد من دون الله. وهذه القضية يشاهدها المسلمون في بلاد الشام، في مصر، وفي شمال إفريقيا، وأينما سرت في ديار الإسلام، فهذا البلاء موجود بين المسلمين، وهو ينافي الإخلاص وأصل الدين وهو من الشرك الأكبر. الأمر الآخر: أن البدع قد انتشرت بين المسلمين في صلاتهم وأذانهم وحجهم وصومهم وغير ذلك، وقد حدث عندنا في مدينة نابلس في فلسطين منذ سنوات أن مدير الأوقاف أراد أن يقصر الأذان بدون أن يُلحق به شيء فوق المئذنة كما كان العمل عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فثارت المدينة وخرجت عن بكرة أبيها في مظاهرات تظن أن هؤلاء يريدون أن يغيروا دين الله، فأصبحت البدعة هي السنة، فالأذان ليس معه شيء كما هو حادث في الكويت، وفي بعض بلاد الإسلام مما يسبق الأذان من تراتيل، وما يعقبه من صلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع، نعم إن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم عقب الأذان سنة، ولكن لا تكون بصوت مرتفع، وإنما يندب لمن سمع الأذان أن يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، فظنوا أن هذا بدعة، والحال أن فعلهم هو البدعة. وكذلك في الحج نجد أفعالاً كثيرة يفعلها المسلمون وهم يظنون أنها هي الدين، وفي الصيام يقدمون الأذان قبل وقته هذا حال (99%) من ديار الإسلام، وهذا ليس صواباً، وإنما يكون الأذان في وقته عندما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. وبعض الذين يدعون الإسلام يؤخرون الفطور حتى تتشابك النجوم، وهذا من الابتداع في دين الله، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفطر عندما يسقط قرص الشمس، وعند ذلك أفطر الصائم شاء أم أبى. لقد انتشرت هذه البدع في ديار الإسلام حتى أصبح المسلمون لا يعرفون دينهم الحق، وأصبحت البدعة سنة، والسنة هي البدعة، والعبادة الصحيحة أن تعبد الله سبحانه وتعالى خالصاً لوجهه تريد ما عنده عز وجل، وأن تعبده كما شرع سبحانه وتعالى، وعند ذلك يرجى أن يكون عمل المسلم صالحاً مقبولاً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

العودة إلى تحكيم شريعة الله تعالى وترك القوانين الوضعية

العودة إلى تحكيم شريعة الله تعالى وترك القوانين الوضعية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله ورسوله، أما بعد: إلى جانب ما حدث في الأمة الإسلامية في الماضي حدثت أحداث كبيرة أيضاً في وقتنا الحاضر، فتركت هذه الأمة في قيادتها شريعة الله سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً نوع من الشرك الكبير يضاف إلى أنواع الشرك الماضية التي حدثت في الأمة، تركت تحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى، وتركت التحاكم إلى شريعة الله عز وجل، وتحاكمت إلى القوانين الوضعية التي صنعها البشر، وتركوا القانون الذي أنزله الله سبحانه وتعالى هداية للناس، أنزله العليم الخبير خالق السماوات والأرض، وتحاكموا إلى موازين وضعها الخبراء من البريطانيين والفرنسيين والسويسريين والأمريكيين والروس وغيرهم، وحكموا هذه القوانين في رقاب العباد، والحكم إنما هو لله سبحانه وتعالى، أمر ألا نعبد إلا إياه. فتحكيم شريعة الله عبادة، والمتحاكم إلى غير شرع الله متحاكم إلى الطاغوت كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه، فمن الباطل والزور العظيم الذي وقع في أيامنا هذه أن تترك شريعة الرحمن الرحيم، وشريعة العليم الحكيم، وأن تترك الهداية والنور الذي جاء من عند الله في كتابه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُتحاكم إلى قوانين البشر الذين يدعون العلم والمعرفة بين يدي الله سبحانه وتعالى. فهذا الشيطان الرجيم وقف أمام رب العزة متعالماً وقال: كيف أسجد لآدم وقد {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فأنا أفضل منه؛ لأن النار أفضل من الطين، فغضب الله عليه ولعنه وأخرجه من رحمته؛ لأنه وقف يناقش رب العزة سبحانه وتعالى، ويتعاظم ويتعالم بين يدي الله سبحانه وتعالى، ويقول: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]، إذاً: فهو يرد حكم الله وأمره وإرادته. والله يقول للبشر: هذا حكمي، وهذه مشيئتي، وهذا تشريعي، وهذا ديني يحكّم في رقابكم، ويحكم في جمعكم، ويحكم في مشكلاتكم، فتحاكموا إلي، وإن اختلفتم فردوا الأمر المختلف فيه إلى كتابي، وردوا الأمر إلى رسولي، فيقول القائل من هؤلاء: لا، حكمك هذا لا يصلح للقرن العشرين، ولا يصلح للمجتمع الإنساني المتحضر الراقي. إذاً: فما الذي يصلح لهذه العقول الكبيرة في فرنسا وبريطانيا وسويسرا وألمانيا، أهي القوانين التي توضع من قبل البشر؟! وماذا يكون جزاء أمة تخاطب ربها بهذا الخطاب؟! إن جزاءها أن يمسخها الله سبحانه وتعالى، وأن يسلط عليها أعداءها، وأن يوقع فيها الزلازل والفتن. وقد قرأت اليوم في جريدة الوطن أن أناساً في شمال غرب الجزائر كانوا يسوون أرضاً ليكون عليها ملعب لكرة القدم، وفي أثناء الحفريات ظهرت بقايا جثث قدرها تسعمائة وستة وثلاثون هيكلاً عظمياً، وهذه من آثار المذابح التي أقامتها فرنسا قبل خمس وعشرين سنة، ولم ينته حصر الجثث، ولكنهم توقفوا عن البحث فما زال هناك بقايا هياكل كثيرة لرجال وأطفال ونساء، وآثار التعذيب ظاهرة على هذه الهياكل، فبعضها مقطوع قطعتين، وبعضها مشقوق نصفين، والفناء لا يزال في هذه الأمة. ومع ذلك فنحن نصافح فرنسا ونستقبلها في ديارنا، ونصفها بالصديق العزيز، واليهود لم يقع عليهم مثل ما وقع على دولة واحدة من دول المسلمين، فالجزائر قدمت مليون شخص قتيل على أيدي الفرنسيين. إن ألمانيا النازية لم تفعل في اليهود كما فعلت فرنسا بالجزائر وحدها، ومع هذا لا تزال ألمانيا تدفع إتاوات لليهود في إسرائيل إلى اليوم، فتُستذل ألمانيا إلى الآن على الجرائم التي يزعمون أنها فعلتها بهم، ونحن نقبّل أعتاب بريطانيا وفرنسا، فماذا فعلت بريطانيا بنا في مصر وفي الأردن وفي فلسطين، ومن الذي سلَّم فلسطين لليهود؟ وماذا فعلت فرنسا بنا في شمال إفريقيا؟ وماذا فعلوا في سوريا من مآس؟ ومع ذلك لا نزال نحترمها، ثم نأتي بهم خبراء في ديارنا، ونحكمهم في رقابنا، ويضعون لنا قوانينهم لنتحاكم إليها ونترك شريعة ربنا، وهذا من البلاء الذي أصبنا به في هذه الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله. فلعل المسلمين أن يفيقوا وينتبهوا ويعرفوا أن شريعة الله خير لهم لو كانوا يعلمون، دين الله خير لهم لو كانوا يعلمون، فماذا يقول المسلمون حكامهم والمحكمون عندما يقدمون على رب العزة في يوم القيامة فيقول لهم: أهجرتم كتابي وتركتم شريعتي؟ أألغيتم ديني وجئتم بزبالات أفكار البشر فحكمتموها في رقابكم؟! ماذا سيقول الله لهم يوم القيامة وماذا سيقولون لربهم؟ أفيقوا أيها المسلمون! فهذا من الكفر البواح، فقد حكم الله سبحانه وتعالى بأنه ليس من الإيمان ولا من الإسلام أن يتحاكم المسلمون إلى شرائع وقوانين الأرض ويتركوا شريعة الرحمن جبار السماوات والأرض الحكم العدل سبحانه وتعالى. فينبغي أن نظهر الحقيقة الواضحة كالشمس ليس بها خفاء، أفيتركها الناس ليستضيئوا بشمعات لا تكشف لهم ظلمات الليل، ثم تكون وبالاً وبلاء عليهم في أنفسهم وفي أهلهم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.

طلب الهداية من القرآن

طلب الهداية من القرآن إن مما يجلب السعادة الدنيوية والأخروية، ويهدي العقول إلى الإيمان ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هو التفكر في آيات الله الشرعية، والتأمل في آياته الكونية، والنظر في قصص الأنبياء والمؤمنين السابقين الذين قصهم علينا القرآن.

عداوة الله ورسوله تنقلب إلى محبة لله ولرسوله

عداوة الله ورسوله تنقلب إلى محبة لله ولرسوله

قصة عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية

قصة عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فقد انتصر المسلمون في معركة بدر انتصاراً رائعاً، سماه الله تبارك وتعالى فرقاناً فرق به بين الحق والباطل، أعز أمة الإسلام، وأذل دولة الشرك، وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون، والذين بقوا على قيد الحياة بقيت في قلوبهم حسرة وألم، حتى إن كتب السيرة تذكر أن أحد رجالات قريش -وهو صفوان بن أمية في ذلك الوقت- التقى بـ عمير بن وهب الجمحي في الحجر يتذاكران في أمر الحرب التي أخذت خيارهم، وقتلت رجالهم، فقال عمير - وكان كما يقول المؤرخون: من شياطين العرب، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً-: والله لولا دين علي، وأولاد أخشى ضياعهم لجئت إلى محمد حتى أقتله، فقال له صفوان وكان غنياً: إن دينك علي، وإن أولادك يضمون إلى أولادي، فأخذ عمير سيفاً شحذه وسمه، ثم انطلق إلى المدينة، وكان ابنه في جملة الأسرى الذين أسروا في معركة بدر، فلما ورد المدينة ورآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله ما قدم هذا إلا لشر، ثم قال للصحابة: عليكم به لا يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ بحمائل سيفه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رآه: يا عمير! ما جاء بك؟ قال: جئت في هذا الرجل الذي عندكم، يعني: ابنه، قال: ما جئت إلا لهذا؟ قال: ما جئت إلا لهذا، قال: ألم تكن أنت وصفوان في الحجر فقلت: كذا وكذا، وقال لك: كذا وكذا، فشحذت سيفك وجئتني؟ قال: والله يا رسول الله ما كان معنا من أحد، لم يكن هناك من شخص آخر يسمع كلامنا. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. آمن ودخل الإيمان في قلبه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحسنوا إلى أخيكم، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره) وعاد عمير إلى مكة يحمل الإسلام والإيمان في قلبه، وفي مكة أعلن إسلامه وإيمانه. هناك لحظات ينكشف في القلب ما كان غائباً عنه، فكثير من أولي الألباب يشبهون هذا القلب الذي نحمله في صدورنا بالمصباح، فعندما يلامس المصباح التيار الكهربائي فإنه يضيء، وكذلك هذه القلوب لا تدري متى تضيء، ولا تدري متى تظلم، ولكن هناك لحظات ومواقف تضيء فيها قلوبنا، يكون الإنسان كافراً فيهتدي للإسلام، ويكون مؤمناً ولكن إيمانه يكون خافتاً ضعيفاً قلقاً مضطرباً، فتأتي لحظة من اللحظات فإذا بالقلب مطمئن، وإذا بالسكينة تحل في الإنسان، وإذا به شيء آخر كله إيمان وإسلام، وتقى وخير وصلاح، هي لحظات تتنوع ولكنها تلتقي في النهاية لتصلح النقص في القلب. فهذا عمير جاء ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يوقفه موقفاً لا يملك إلا أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، من أين للرسول هذا؟ من الذي أخبره؟ من الذي أعلمه؟ ليس هناك إلا شيء واحد هو أن الله تبارك وتعالى أخبره بالتفصيل، وبنفس الكلام الذي جرى بينهما، فلم يملك نفسه إلا أن آمن وصدق.

قصة سحرة فرعون

قصة سحرة فرعون من هذا نفهم موقف السحرة الذين آمنوا بموسى في المشهد العظيم عندما حشر فرعون أهل مصر ليشهدوا التحدي بين موسى عليه السلام وما جاء به من آيات وبين السحرة، وجاء السحرة إلى فرعون ليقولوا: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:41 - 44] يطلبون أجراً ومالاً إذا انتصروا في ميدان الصراع، ثم عندما يلقون حبالهم يعتزون باسم فرعون إلههم، قال تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45]. في لحظة تغير فيها الإنسان! بينما هو عبد لطاغية يأتمر بأمره، ويعتز به، ويطلب منه الجزاء والثواب، إذا به يتغير في كل شيء، الناس ينتظرون نتيجة الصراع، من الذي يغلب: موسى أم فرعون؟ الذي جاء بالسحرة يواجه ما جاء به موسى، فإذا بالسحرة كما أخبر الله عنهم {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:46]، عبروا عن إحساسهم ومشاعرهم والطباع التي بهم بالفعل قبل القول، خروا سجداً لله تبارك وتعالى، وقالوا بألسنتهم: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:47]، ورب العالمين ليس فرعون الذي قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، قالوا: لا، رب العالمين {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:48]، رب السموات والأرض وخالقهما ومبدعهما وموجدهما. إن الذي جاء به موسى ليس سحراً؛ لأن هؤلاء هم أساتذة السحر الذين يعلمون خباياه وزواياه، ويعلمون قدرة الإنسان، إن الذي جاء به موسى ليس سحراً، وهم يعلمون هذا علم اليقين، ويعرفونه، فعندما رأوا المعجزة علموا أن هذا الرجل قد أرسل من عند الله تبارك وتعالى خالق الوجود، الذي لا يستطيع أحد أن يفعل فعله، ولا أن يعمل عمله، عند ذلك لامس الإيمان قلوبهم، وحل اليقين في أفئدتهم فإذا بهم يعبرون عن هذا الذي أحسوه ووجدوه في نفوسهم من إيمان ويقين، يعبرون عن ذلك بأن يخروا ساجدين لله تبارك وتعالى قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:46 - 48]. وبينما كانوا قبل دقائق يعتزون بفرعون إذا بهم في مواجهة الطغيان بعد أن ملك الإيمان نفوسهم يهددهم ويتوعدهم بأنه سيصلبهم على جذوع النخل: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:50 - 51]. هكذا يفعل الإيمان بالإنسان، يحوله إلى إنسان مسلم مؤمن يواجه ويتحدى ولكن في سبيل الله تبارك وتعالى، في بعض الأحيان الذي ينفع مع الإنسان الحجة والبرهان، فهو الذي يجعله يتلمس طريقه، ويقف على قدميه، ويرى ما أمامه ويسير على الصراط المستقيم وأن ينظر في هذه الحياة.

دعوة إلى تأمل نصوص القرآن وآياته

دعوة إلى تأمل نصوص القرآن وآياته منذ فترة وجيزة عقد في مصر مؤتمر للسيرة أعلن اثنان من كبار العلماء إسلامهما لا لشيء إلا لأنهما رأيا ما توصل إليه العلم الحديث من دقائق قد تحدث عنها القرآن الكريم، وما حدثنا الله تبارك وتعالى به عن الأجنة وتكونها في الأرحام، وهما عالمنا في هذا المجال، رأيا أن القرآن يصور هذا أصدق تصوير قبل أن يصل الإنسان إلى ما وصل إليه في هذا العصر، فآمنا عن يقين واقتناع، ولذلك أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا الدليل الذي يقوم النفوس ويهديها سواء السبيل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5] أي: في شك منه، أي: لم تؤمنوا ولم يستقر الإيمان في قلوبكم، {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] التعقيب: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6] ذلك أي: إنما سقت لكم هذا لتتفكروا فيه، وتنظروا في هذا الكون وتصريف الله تبارك وتعالى له سواءً في مجال الأرحام، أو في مجال الماء النازل من السماء على الأرض اليابسة المجدبة فإذا بها تهتز خضراء معشبة، كل هذا لتعلموا أن الله هو الحق، {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:6] كما خلقكم من تراب، وكما خلقكم من ماء مهين، وكما أحيا النبات كذلك يحيي الموتى، {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:6 - 7]. إن المتأمل في نصوص الكتاب إذا تأملها في ساعة الصفا وتفكر فيها فإنها تنير القلب والعقل، وتبعث الإنسان حياً، وتعطيه حياته في نفسه وعقله وتصوره، فإذا به يرى الأمور رؤية أخرى، وإذا بها تزيد له اليقين، وتزيل عنه الشك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5] والريب مرض إذا حل في القلوب أذهب الإيمان، ماذا نفعل؟ تتفكروا في آيات الله المقروءة، وتتفكروا في آيات الله المنظورة في السماء ونجومها وشمسها وقمرها، وفي الأرض وجبالها ونباتها وحيوانها وسهولها وبحارها، تتفكروا في ذلك، فإن ذلك يهديكم إلى الإيمان واليقين، إذا كنتم في شك فتأملوا وانظروا ما في السموات والأرض، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17 - 21]، {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:5 - 8] {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24]، تأمل في هذا الطعام الذي تأكله! {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:25 - 32]. فهذا هو السبيل إلى الهداية، ولذلك الإنسان في بعض الأحيان قد يقرأ القرآن كثيراً، ثم في لحظة صفا فيها إذا به يقرأ آية تفجر الطاقات الإيمانية في أعماق نفسه، وإذا بها تحيره، وهو قد قرأها مراراً ولكن لم يكن يلتفت إليها، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر في ظلمة الليل على قارئ يقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2] فاتكأ عمر رضي الله عنه على الجدار يستمع القارئ وهو يقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8]، فمرض لها شهراً يعوده الناس! أثرت في نفسه: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] فمرض لها شهراً. في بعض الأحيان يؤثر في الإنسان موقف لا يؤثر في غيره، يحدثني رجل عن سبب هدايته، وكان رجلاً فاسقاً عربيداً، يقول: رأيت غلاماً فنظرت إليه منذ أن وضعته أمه في حجرها، ثم ابتدأ يمتص الثدي، قال: فجعلت أفكر في هذا، من الذي علمه؟! كيف اهتدى لذلك؟! الله {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. الإنسان قد يفكر في هذا، فإذا به يجد نفسه يتحسر على غفلته، قد ترى إنساناً لا يصلي ولا يقرأ القرآن ولا يتجه إلى الله، ثم تجده مواظباً على الصلاة تسأله: ما الذي جاء بك إلى المسجد؟ مات عزيز عليه، قريب من أقربائه يهمه أمره ووقف عليه وهو يدلى في حفرته ثم يوارى في التراب، وتأمل كيف سيكون مصيره كمصيره، وأنه يوماً سيرحل كما يرحل، فيهتز وجدانه، وتهتز نفسه ويؤوب إلى الله تبارك وتعالى. إن المؤثرات كثيرة، وأحياناً يهتدي الإنسان بدعوة تخرج من قلب صادق يدعو بها له غيره، فتؤثر في نفسه كما حدث مع عثمان بن شيبة وكان قد شهد حنيناً كافراً، وعندما فر المسلمون وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم في قلة معه، وجدها عثمان فرصة أن يشفي غليله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه من يمينه أو من شماله فوجد عمه على يمينه ووجد ابن عمه على شماله، فجاءه من خلفه فإذا شواظ من نار يحول بينه وبينه، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ادن مني فدنا منه، ثم دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدي قلبه، قال: فوالله ما رفع يده عن صدري حتى كان أحب خلق الله إلي، وقد كان أبغض خلق الله إلي. إن دعوة الصالحين في بعض الأحيان تؤثر في القلوب، والنفوس، وتهدي للتي هي أقوم، وكم من رجل وامرأة آمنوا بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدث مع أم أبي هريرة، فقد كانت تؤذي أبا هريرة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم عندما تذكره بسوء، وكان ذلك يؤلم أبا هريرة، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يهدي أمي، فقال: (اللهم اهد أم أبي هريرة)، فعندما وصل إلى البيت عجلاً ينظر أثر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وجدها تغتسل من الكفر لتدخل في الإسلام. إن دعوة الصالحين لها أثر كبير في تحويل نفس الإنسان، وفي استخلاص الباطل والشر من نفسه، وهدايته إلى الخير. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وسائل جلب الطمأنينة للنفوس

وسائل جلب الطمأنينة للنفوس الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله. وبعد: فما أشد حاجتنا أيها الإخوة في هذا العصر الذي تضطرب فيه الموازين والقيم، وتكثر فيه الهموم والبلايا إلى نفوس مطمئنة مؤمنة إلى نفوس زاكية صالحة، وإن السبيل في هذا معروف، إنه سبيل الأولين، السبيل الذي جاء به القرآن، هذا العصر الذي يكثر فيه القلق والضياع والشرود وظنون تركب النفوس حتى إن كثيراً من الناس في عالم الغرب الذي لا يؤمن بقيم الإسلام، عندما تثقله همومه لا يكون منه إلا أن ينتحر، وأن يجعل حداً لحياته، نحن بحاجة إلى طمأنينة النفوس وسكينتها، وليس شيء كالإيمان بالله تبارك وتعالى يعالج مثل هذه الأمور. ولذلك امتن الله تبارك وتعالى في كثير من الآيات على رسوله والمؤمنين بأنه أنزل السكينة في نفوسهم في المواقف الصعبة، وفي الشدائد والبلايا التي تهتز فيها النفوس، امتن الله تبارك وتعالى عليه {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26]. وأخبر الله تبارك وتعالى بما يجلب هذه الطمأنينة وهذه السكينة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. الإيمان هو دعاء الله تبارك وتعالى، وذكر الله عز وجل، والتفكر في صفات الله تبارك وتعالى وفي معانيها، والتفكر في خلق الله تبارك وتعالى، وقراءة القرآن، والتفكر في معاني هذا الكتاب، وإقامة العبادات على وجهها، والقيام بالأعمال الصالحة، كل ذلك مما يزكي النفس ويطهرها، ويجلب الطمأنينة والسكينة للقلوب. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات!

§1/1