دروس الشيخ سيد حسين العفاني

سيد حسين العفاني

المرأة وعلو الهمة

المرأة وعلو الهمة المرأة مصنع الرجال، ومنبع الأبطال، فبصلاحها يعم الخير الكثير، وبفسادها ينتشر الشر الوبيل، كيف لا تكون كذلك وهي الأم المربية، والأخت الناصحة، والزوجة المرشدة، والبنت الطائعة. وفي التاريخ الإسلامي الكثير والكثير من النماذج المشرقة لنساء صالحات مرشدات تائبات قانتات، أصلحن علاقتهن مع خالقهن ومع كل من حولهن.

تشريف الإسلام للمرأة

تشريف الإسلام للمرأة المرأة نصف الأمة، ثم هي تلد لها النصف الآخر، فهي أمة بأسرها، يقول الشاعر وهو الشيخ يوسف القرضاوي: يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يرجونها للهو واللعبِ هل يستوي مَن رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطا حمالة الحطب أختاه لست بنبت لا جذور له ولست مقطوعة مجهولة النسب أنت ابنة العُرْب والإسلام عشت به في حضن أطهر أم من أعزّ أبِ فلا تبالي بما يلقون من شُبه وعندك العقل إن تدعيه يستجب سليه من أنا ما أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب وما مكانيَ في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب في ركبه شرف الدنيا وعزتها ويوم نبعث فيه خير منقلب فإن أبيتِ سبيل الله فاتخذي سبيل إبليس رأس الشر والحرب إن ضياع الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً كان بسبب المرأة، فهذه إيزابيلا زوجة فرديناند ملك إسبانيا، أسقطت حكم المسلمين في إسبانيا يوم أن كان آخر خلفاء المسلمين اسماً على مسمى: أبو عبد الله الصغير. فأضاع ملك المسلمين نظير أن يكون ملكاً من قبل فرديناند ملك إسبانيا، ويكون الملك لبنيه ولأحفاده من بعده، هناك رواية التاريخ الأسباني تسمى: إيزابيلا صاحبة القميص العتيق، فالأسبان يمجدون هذه المرأة التي أقسمت ونذرت ألا تخلع قميصها الداخلي، وألا تهنأ بزوج حتى يسقط ملك المسلمين من إسبانيا، وكان لها ما أرادت. ويوم أن أخرجت أبو عبد الله الصغير من ملكه في قصر الحمراء بكى أبو عبد الله كالصغار، فقالت له أمه عائشة: ابك كالنساء، ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال. والمرأة التي أذاقت المسلمين في العصر الحديث الويلات، والتي ثأرت لدينها ولبني قومها باحتلال أرض العرب والمسلمين، هي غولدا مائير، وقد قال عنها بن غريون في مذكراته: سيذكر التاريخ يوماً من الأيام أن امرأة طافت أوروبا وأمريكا وجمعت ملايين الدولارات؛ من أجل إقامة إسرائيل، وسيذكر التاريخ أن غولدا مائير هي الرجل الوحيد في إسرائيل.

عناية الإسلام بالمرأة

عناية الإسلام بالمرأة إن المرأة أمرها عظيم؛ لذا فقد شرفها الإسلام وكرمها، وجعلها هي والرجل من أصل واحد، فقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، وساوى الله تبارك وتعالى بين الرجل والمرأة في العمل وفي الأجر فقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]، وقال تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. فالإسلام هو الذي شرف المرأة، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والجار الصالح، والمركب الهنيء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، والطيب لا يحب إلا الطيب، يقول عليه الصلاة والسلام: (جعلت قرة عيني في الصلاة)، فيابن آدم! خل بينك وبين سيدك وداً وصلة تدخل عليه أنى تشاء. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الطيبات المرأة، ثم ذكر الطيب، ثم ذكر الصلاة، فجمع المرأة إلى الطيبات، إلى الطيب وإلى الصلاة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك، خير ما اكتسبه الناس). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نفس من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوصيكم بالنساء خيراً). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة). وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لنسائهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم خيركم لأهله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). وقال الأديب الرافعي: النساء منجم السعادة، فرجل واحد لا يكاد يمد يده حتى يضعها على الجوهرة المشرقة، ومائة رجل يغربلون حصى شارع؛ ليجدوا فيها جوهرة تلمع فما يجدونها. ولذلك المرأة لزوجها رزق من الله تبارك وتعالى، يقولون: كم من امرأة جميلة تراها أصفى من السماء، مثل النسيم العليل، ثم تثور يوماً فلا تدل ثورتها على شيء إلا كما يدل المستنقع على أن الوحل في قاعه، الخبيثات للخبيثين كما إن الطيبات للطيبين. قيل لأرض حصيبة -أرض ملؤها الحصى نكدة -: ما تشتهين أن يكون زوجك لو كنت امرأة؟ فقالت: الفأس، أي: حتى تقطعها من رأسها. وقال مصطفى صادق الرافعي أديب الإسلام يرحمه الله: المرأة ريحانة بيتها، إذا ضاقت الدار فلم تتسع فلم لا تتسع النفس التي فيها؟ المرأة وحدها هي الجو الإنساني لدار زوجها، فواحدة تدخل الدار تجعله روضة نضرة متروحة ساكنة، وإن كانت الدار قحطة ليس فيها كبير شيء، وامرأة أخرى تدخل الدار فتجعله مثل الصحراء، برمالها وقيظها وعواصفها، وإن كانت الدار في رياشها ومتاعها كالجنة السندسية، مثلما قال الحطيئة لأمه وزوجته: أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا إنما تكون المرأة مع رجلها من أجله؛ لأنه زوجها، ومن أجل الأمة، فعليها حقان لا حق واحد، أصغرهما كبير، ولو إن المرأة عاشت بهذه الذات فإنها نصف الأمة، فإن أخبرها زوجها تقول: أعيش من أجل الجماعة الكبرى، فتكون المرأة مع رجلها من أجله ومن أجل الأمة معاً، فعليها حقان لا حق واحد أصغرهما كبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلح للبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده! لو أن من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه) والحديث صحيح. فالإسلام العظيم كرم المرأة حين وضعتها الجاهلية الخبيثة القديمة، والجاهلية الحديثة في الحضيض.

إهانة الجاهلية الحديثة للمرأة

إهانة الجاهلية الحديثة للمرأة في أمريكا في السبعينات كانت هناك إحصائية رسمية طلبت من المكتب الرسمي للإحصائيات، فقالوا: إن في أمريكا عشرين مليون لقيط، وكان ساعتها عدد أمريكا مائتين مليون، يعني: كان في أمريكا كل واحد من عشرين ابن حرام، هذا في السبعينات أما في هذا الوقت فكيف؟! وأيضاً في الثمانينات عملوا إحصائية، وجدوا فيها أن 46% من النساء يمارسن السحاق، وهذا في سنة ستة وثمانين. ورصدوا إحصائية: أن كثيراً من النساء يرضعن أولادهن مع الحليب المخدرات، من أجل أن ينام الطفل؛ حتى أصيب الأطفال الرضع بالإدمان، وهذا من كلامهم. كما أباحت الكنائس في أوروبا وفي أمريكا أن يتزوج الرجل بأمه وبأخته!! يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله في كتابه مستقبل الإسلام: كنت أحتفظ في جيبي دائماً بصورة شاب في العشرين من عمره، وقد تزوج جدته وهي في السبعين من عمرها، في قرية بالقرب من لوس أنجلوس. فهذه الحضارة الأوروبية النكدة، وهذا ما يريدون للمرأة، علاوة على نوادي العراة، وحفلات الشذوذ الجنسي الجماعي، وتبادل الزوجات. ووجدوا أن من أخطر المجرمات في أمريكا عشر من النساء، ثلاث منهن من رائدات التحرر المثالي.

صور من إكرام الإسلام للمرأة

صور من إكرام الإسلام للمرأة الإسلام العظيم كرم المرأة حين صور بيتها تصويراً بديعاً يشع منه التعاطف والندى، ويفوح منه العبير. أي تكريم للمرأة فوق أن يسمي الله عز وجل سورة من كلامه في القرآن باسم النساء؟ وسورة أخرى باسم امرأة وهي مريم البتول رضي الله عنها؟! وأي تكريم للمرأة أجل من أن القرآن كان ينزل في مخدع عائشة؟! أي تكريم أعلى من أن الله ينزل قرآناً في براءة امرأة كما قالت: وبرأني الله من فوق سبع سماوات، وهي الصديقة بنت الصديق؟! أي تكريم أجل من أن يتولى الله بنفسه تزويج امرأة، وهي زينب بنت جحش فكانت تفتخر على أمهات المؤمنين فتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات؟! فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال وأكمل النساء تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة؛ بنور الإيمان، تقر في كل شيء معناه السماوي، فهذه المرأة كالمعبد، وكالقوة المسعدة لزوجها، فالمرأة الحق هي تلك التي خلقت لتكون خلف الرجل، مادة الفضيلة والصبر والإيمان تكون له إلهاماً وعزاء وقوة، وزيادة في سروره ونقصاً من آلامه، ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، وهي أن تجعل زوجها أعظم منها، فنحن لا نعرف اسم زوجة الشافعي، ولا زوجة البخاري، ولا من تكون أم سفيان الثوري، فهذه المرأة وأمثالها اختفت خلف زوجها وصنعت منه رجلاً عظيماً.

علو الهمم عند النساء

علو الهمم عند النساء تعال إلى علو الهمة لنحلق في آفاق عالية، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل في بيوتنا حظاً من هذه الهمة العالية. العلماء عندما يقارنوا بين السيدة خديجة وبين عائشة رضي الله عنهما يقولون: إن خديجة أفضل؛ لأن الله تبارك وتعالى سلم بنفسه عليها فقال: (أقرئ خديجة من ربها السلام)، أما عائشة فقد سلم عليها جبريل، يعني: الأولى سلم الله عليها بنفسه، وبلغها ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه سلم عليها جبريل فقط. فمن أمثلة علو الهمة عند النساء:

علو همة امرأة فرعون

علو همة امرأة فرعون زوج فرعون مثال عال للاستعلاء على عرض الدنيا النتنة، فحينما تطل بكبرياء أهل الجنة على زخرف الأرض وتقول: لا أريده، قال الله تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، فهي لم يصدها طغيان الكفر الذي تعايشه في قصر فرعون عن طلب النجاة من ربها؛ وإنما تبرأت من قصر فرعون طالبة من الله بيتاً في الجنة، ولما حرمت من السكن في دار الدنيا تبرأت من صلتها بفرعون، وتبرأت من عمله، وخافت أن يلحقها شيء لأنها ألصق الناس به، وتبرأت من قوم فرعون وهي تعيش بينهم، فهذه المرأة السيدة الكاملة مثل للاستعلاء على عرض الدنيا في أبهى صوره، فلقد كانت امرأة فرعون الذي كان أعظم ملك في الأرض يومئذ، وكانت في قصره الذي يمثل أمتع مكان تجد فيه المرأة ما تشتهيه، فاستعلت على هذا بالإيمان وحده، واعتبرته شراً ودنساً وبلاء تستعيذ بالله منه، وطلبت النجاة منه. وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية، وهذا فضل آخر؛ فالمرأة أشد شعوراً بوطأة المجتمع وبتطوراته، وهذه المرأة كانت وحدها في وسط هذا المجتمع الكافر العريض، في وسط ضغط القصر وضغط الملك، وضغط الحاشية، والمقام الملوكي، ففي وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء وحدها في خضم هذا الكفر الطاغي. وهي نموذج عال في التجرد لله عز وجل من كل هذه المؤثرات، ومن كل هذه الأواصر والمعوقات، ومن ثم استحقت أن تذكر في كتاب الله الخالد، الذي تتردد كلماته في جنبات النفوس. فهي امرأة عظيمة بحق، يذكرها الله عز وجل في كتابه العظيم. عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رضي الله عنها).

علو همة مريم البتول

علو همة مريم البتول ومريم البتول رضي الله عنها رمز للتجرد لله تبارك وتعالى وكمال العبادة، قال الله تبارك وتعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، فقد كانت ولية من أولياء الله تبارك وتعالى، تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. والكرامة ثابتة عند أهل السنة والجماعة للصالحين من عباد الله تبارك وتعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها)؛ ولذا قال الله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان؛ فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه).

فضل أم المؤمنين خديجة

فضل أم المؤمنين خديجة ولو لم يكن للنساء من فضل في هذه الأمة إلا أن أول مسلم كانت خديجة بإجماع المسلمين كما قال ابن الأثير، وأول شهيد في الإسلام سمية أم عمار. قال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين. ويقول سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب)، ومعنى: (من قصب) أي: من عيدان اللؤلؤ، وعيدان اللؤلؤ مستقيمة مستوية، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا صخب فيه ولا نصب)، وكذا كل بيوت الجنة، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، ولكن ينص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الخاصية في بيت خديجة بالذات، وقد بشر عليه الصلاة والسلام خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب؛ وذلك لما دعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أجابته خديجة طوعاً، ولم تحتج إلى منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عن النبي صلى الله عليه وسلم كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، كما قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس). وهي التي واست النبي صلى الله عليه وسلم، وآزرته وقالت له: (أبشر فوالله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق)، فهي خاصية من جمل الخصائص التي تميزت بها السيدة خديجة على باقي أمهات المؤمنين! وما عارضت النبي صلى الله عليه وسلم في أمر، وهناك من يقول: الأولى للداعية أن يتزوج داعية أو عالمة فإن لم تتحل بالورع فستجعل حياته نكداً، فعندما يقول لزوجته الفقيهة -مثلاً- قال الشافعي أو قال مالك، فستقول له: أنا على رأي الأحناف، فإن لم يرزقها الله عز وجل ورعاً ستشعل بيته حريقاً. ولكن عندما تكون لا تعرف إلا أعمال البيت، وتصلي خمسها، وتصوم شهرها، وتحفظ فرجها، وتكون ذاكرة عادلة فهذا خير لها ولزوجها، فأنت لا تريد من المرأة إلا أن تحسن التبعل لك، فلا ترفع صوتها على صوتك، وأحلى وأعطر كلمة تقولها المرأة لزوجها: يا سيدي، تعطر بها فمها وتنال بها رضا ربها. فقد كانت رابعة بنت إسماعيل الشامية إذا طبخت قدراً من الطبيخ تقول لزوجها: كله يا سيدي، فوالله! ما نضج إلا بالتسبيح. وأم الدرداء كانت إذا ذكرت زوجها بعد موته، تقول: حدثني سيدي أبو الدرداء. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلم المرأة حق الزوج لم تقعد ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه)، فنحن نقول: لو أن المرأة تعلم حق زوجها فسيكون عندها شيئاً كبيراً عظيماً، هو سيدها فلو أقرت لزوجها بالأمر هذا سيكون البيت أجمل ما يكون، ولو نظرت إلى زوجها وكأنه أقل منها في شيء فسيكون البيت دماراً. ونحن نعرف امرأة حاصلة على الدكتوراة في العلوم الشرعية، وهي متزوجة من مكنيكي لا يعرف إلا الصامولة ونحوها، ولكنه ملتزم، وبرغم هذا فهي من أسعد الزوجات وزوجها من أسعد الأزواج. فلا يصح أن تنظر المرأة لزوجها بعين النقص فتجعل البيت شجاراً ودماراً. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يركز على هذه النقطة فبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.

صبر وتوكل هاجر

صبر وتوكل هاجر والمرأة عظيمة في توكلها على الله عز وجل، فهذه أم إسماعيل زوج الخليل إبراهيم، لما أتى بها سيدنا إبراهيم إلى جبال فاران موضع مكة الآن، وهي لا ترى إلا رمال الصحراء، وهديرها الكالح، فتقول: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ يقول: نعم، تقول: إذاً فلن يضيعنا. وهذا ليس بكلام عفوي، أي: يخرج تلقائياً، فلو لم يكن عندها يقين لما تركته يذهب، فهي تعلم - إن لم يكن عندها يقين بربها - أن في ذهابه موتها، فهو لمن سيتركها ورضيعها في الصحراء؟ ليس عندها إلا تمر، وجراب من ماء فقط، لكنها قالت له: اذهب؛ لأنه بقي عندها الزاد العظيم من التوكل، ولكنه بالله تبارك وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل)، أي: بطول الأمل. ولما ظلت تلهث بحثاً لرضيعها عن الماء سمعت صوتاً، فقالت لنفسها: صه، وكأنها تسمع نفسها، ثم قالت: أغث إن كان عندك غوث، وهنا تبدا لها جبريل أمين وحي السماء، وقال لها: من أنت؟ قالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم، قال: إلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله، فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله.

صبر ويقين أم موسى

صبر ويقين أم موسى وأم موسى كان اليقين يملأ قلبها بما عند الله تبارك وتعالى، قال الله عنها: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص:10] أي: من كل شيء إلا من محبة ابنها فقد ملأت شغاف قلبها، وبرغم هذا ألهمها الله عز وجل بقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، ومعلوم أن المرأة إذا خافت على ولدها تضمه إلى صدرها، فما بال أم موسى تلقيه إلى البحر؟! وذلك ليقينها بما عند الله عز وجل، فهي مثل عال في اليقين، وفي التوكل على الله عز وجل، وفي الثقة به سبحانه وتفويض الأمر إليه، وقال بعضهم: لا تدبر لك أمراً فأولوا التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحو أولى بك منكا

فضل فاطمة بنت رسول الله

فضل فاطمة بنت رسول الله وفاطمة عليها السلام، البضعة النبوية والجهة المصطفوية، يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية)، كانت رضي الله عنها تدير الرحى حتى ظهرت في يدها وفي كفها الثآليل - الفقاقيع - وحتى تأثرت يداها وأثرت الرحى في صدرها، وكانت تستعين على خدمة البيت بالتسبيح. وعن الشعبي رحمه الله أنه قال: لما مرضت فاطمة أتى أبو بكر فاستأذن، فقال علي: يا فاطمة! هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ فقال: نعم -قال الذهبي: عملت السنة رضي الله عنها، فلم تأذن في بيت زوجها إلا بأمره- قال: فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، وكان هذا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رضيت. والإسناد صحيح. وكان مهرها درع علي الحطمية، ومن من النساء الآن تقبل هذا؟! فكيف نريد دولة إسلامية، أو خلافة على منهاج النبوة، ولا يوجد من النساء من تقبل هذا؟! قال: كان مهرها درع علي الحطمية، أهديت إليه، ومعها خميلة، ومرفقة من أدم حشوها من الليف، وقربة، ومنخل، وقدح، ورحى، وجرابان، ولم يكن لها فراش غير جلد كبش، ينامان عليه بالليل وتعلف عليه الناضحة بالنهار، والناضح يعني: الإبل التي تحمل الماء. وهي من هي، فهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنست وطحنت وأثرت الرحى في صدرها، واستعانت على خدمة البيت بالتسبيح، كما وصاها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن الجوزي: تالله! ما ضرها ذلك. أذهب الله عنها وعن سائر بيتها الرجس، وطهرها تطهيراً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها ويكرمها ويسر إليها، وكانت صابرة على شظف العيش مع زوجها علي رضي الله عنه، دينة خيرة صينة قانعة شاكرة لله. عن أبي البحتري: قال علي لأمه: اكفي فاطمة الخدمة خارجاً، وتكفيك هي العمل في البيت أي: من العجين والخبز. ونساءنا اليوم لا يعرفن الطحن أو الخبازة والعجين، بل لا يعرفن ما هو العجين، ولا ما هو الخبز، فليحمدن الله عز وجل على ذلك. وتجد المرأة في الستين من عمرها وهي تقول لمن هن دونها في السن: احمدن الله عز وجل، فأنتن في كامل الراحة، فاجعلوا بيوتكن جنات لأزواجكن، يكفي شظف العيش الذي يلاقيه الرجال. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلم علي لم ينزل قبلها، فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)، وكل الأحاديث التي ذكرتها ذكرها الشيخ الألباني في صحيح الجامع. وكان الإمام أحمد إذا سئل عن علي وأهل بيته، قال: أهل بيت رسول الله لا يقاس بهم أحد. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولدها، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قبسات من حياة أم المؤمنين عائشة

قبسات من حياة أم المؤمنين عائشة أما الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجة نبينا في الدنيا والآخرة، الفقيهة الربانية، مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أقام معها تسع سنوات، وحين مات صلى الله عليه وسلم ما كانت قد بلغت بعد السنة التاسعة عشرة يعني: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان سنها ثماني عشرة سنة، على أنها ملأت أرجاء الدنيا علماً، فقد وعت من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تعه امرأة من نسائه، وروت عنه ما لم يرو مثلها أحد من الصحابة إلا أبو هريرة وعبد الله بن عمر. قال الإمام الذهبي: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها. نشهد أنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وما نزل الوحي إلا والنبي صلى الله عليه وسلم في لحاف عائشة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها). وكانت رضي الله عنها من أنفس الناس رأياً في أصول الدين، ودقائق الكتاب المبين، وكان لها الاستدراكات العظيمة على الصحابة، فإذا علموا ذلك منها رجعوا إلى قولها. يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ما أشكل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً. وقال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس. وقال الزهري: لو جمع علم الناس كلهم وعلم أمهات المؤمنين، لكانت عائشة أوسعهم علماً. ويبلغ مسند عائشة رضي الله عنها (2210) أحاديث. ولما ذكر الإمام ابن حزم أسماء الصحابة الذين رويت عنهم الفتاوى في الأحكام، على كثرة ما نقل قدم عائشة على سائر الصحابة في نقل الفتاوى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروت عائشة من جملة صحيح البخاري ومسلم مائتين ونيفاً وتسعين حديثاً، وحمل عنها ربع الشريعة بأكملها. قال عروة بن الزبير: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بخطب ولا بشعر من عائشة. يقول أيضاً: لقد صحبت عائشة -وهي خالته- فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية نزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى للشعر، ولا بيوم من أيام العرب -أي: تاريخ العرب- ولا بنسب، ولا بقضاء منها. فهذا فضل عائشة رضي الله عنها.

عبادة أم المؤمنين عائشة

عبادة أم المؤمنين عائشة أما عبادتها، فقد قال القاسم: كانت عائشة تصوم الدهر -أي: تسرد الصوم- ولا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر. وعن عروة: أن عائشة كانت تسرد الصوم، يقول: كانت تصوم الدهر ولا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر. وعن القاسم رحمه الله قال: كنت إذا غدوت -يعني: إذا صلى الغداة أو الصبح- أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]، تدعو وتبكي وترددها، فظللت منتظراً حتى مللت القيام. ثم ذهبت إلى السوق لحاجتي فرجعت فإذا هي قائمة تصلي وتبكي وتقول: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]. وعن عروة رضي الله عنه قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئاً جاءها من رزق الله إلا تصدقت به. وقال عروة: بعث معاوية مرة إلى عائشة بـ (100000) درهم، فقسمتها، لم تترك منها شيئاً، فقالت لها بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت. أي: أنها تنسى نفسها عند الصدقة. وعن عروة قال: إن عائشة تصدقت بـ (70000) درهم، وإنها لترقع جانب درعها. ما منا أحد حتى ممن ضيق الله عز وجل عليه الرزق يرضى أن يكون له ثوباً مرقعاً، هذا بالنسبة للرجل فما ظنك بالنسوة! مالوا فملن، ولما يفسد الرجال تفسد النسوة. وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة كانت تغشى عائشة رضي الله عنها، قالت: بعث إليها ابن الزبير بمال في غرارتين كبيرتين بمائة وثمانين ألف درهم، فدعت في طبق وهي صائمة يومئذ، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمتي اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه، قالت: لا تعنفيني، لو كنت ذكرتيني لفعلت.

تواضع أم المؤمنين عائشة

تواضع أم المؤمنين عائشة وفي مرض موتها دخل عليها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: أبشري فوالله! ما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنت أحب نساء النبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، فقالت: يا ابن عباس! دعني منك ومن تزكيتك، فوالله! لوددت أني كنت نسياً منسياً. وهذا من تواضع عائشة رضي الله عنها. فكانت قدوة من حيث الصدقة، ومن حيث صيام الدهر، ومن حيث العلم، ومن حيث العبادة. ومن ذلك أنه يذهب ابن أختها إلى السوق وهي تصلي ثم يشتري حاجته، ثم يقف عندها حتى يمل من القيام، وهي ما خرجت بعد من سنة الضحى.

علو الهمة عند أم المؤمنين زينب

علو الهمة عند أم المؤمنين زينب ومن علو همة أم المؤمنين زينب بنت جحش في الصدقة أنها كانت امرأة صناعة، أي: تعمل بيدها وتتصدق به في سبيل الله. قالت عائشة رضي الله عنها: كانت زينب بنت جحش تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد التزاماً بنفسها في العمل الذي تتصدق به، وتتقرب به إلى الله تبارك وتعالى. أما في قيام الليل فحدث عنها ولا حرج، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: لـ زينب، إذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد). وعن برزة بنت رافع قالت: لما جاء العطاء - أي: عطاء سيدنا عمر لأمهات المؤمنين - بعث عمر إلى زينب رضي الله عنها بالذي لها، فلما دخل عليها قالت: غفر الله لـ عمر، لغيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني. تظن أن هذا المال كله جاء لأمهات المؤمنين كلهن، فقالوا: هذا كله لك، فقالت: سبحان الله! ثم استترت دونه بثوب، ثم قالت: صبوه، ثم جعلت عليه ثوباً آخر، ثم قالت لجاريتها: ادخلي يدك فاقبضي قبضة اذهبي إلى آل فلان وإلى آل فلان من أيتامها ومن ذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برزة: غفر الله لك، والله! لقد كان لنا من هذا حظ، فقالت: لكم ما تحت الثوب، فرفعنا الثوب فوجدنا (85) درهماً، ثم رفعت يدها وقالت: اللهم! لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، فماتت قبل أن يأتي العطاء في العام المقبل. وكان عطاء أم المؤمنين زينب بنت جحش في السنة (12000) درهم. حمل إليها فقسمته كله إلا (85) درهماً فقط. قالت عنها السيدة عائشة رضي الله عنها: لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل. وفي هذا عظة للإخوة والأخوات، فكل أخت ينبغي أن تسأل عن اليتامى والأرامل والمحتاجات من نساء المسلمين، وهذا دورهن في العمل الاجتماعي، أي: أن يبحثن عن النساء المسلمات المتعففات، اللاتي لا يجدن القوت، وأن تكون المرأة مسبحة ذاكرة صائمة متهذبة بكاءة خيراً لها، بعد أن تتعلم العلم المفروض عليها، ونحن قلنا: يجب أن يصحح الاعتقاد أولاً، أي: أن يكون مجمل الاعتقاد صحيح، وما فرض الله عليك من الصلاة والصيام والزكاة إن كنت غنية، ثم أقبلي على حفظ كتاب الله عز وجل، وكثرة الذكر. وصح أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها طلقها النبي صلى الله عليه وسلم وقد حسن ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة، وكذا الشيخ الألباني، ثم راجعها سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من جبريل؛ لأن النبي لما طلقها نثر عمر التراب على وجهه وسار في طرقات المدينة وقال: ما أصبح الله يبالي بـ عمر ولا بابنة عمر، فنزل جبريل وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.

علو الهمة عند أسماء بنت أبي بكر

علو الهمة عند أسماء بنت أبي بكر وأسماء بنت الصديق رضي الله عنها لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله (5000) أو (6000) فأتى جدها أبو قحافة وكان قد عمي فقال: إن هذا قد فجعكن بماله ونفسه، فقالت: كلا قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فعمدت إلى أحجار فجعلتهن في كوة في البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده ووضعته على الثوب، فقالت: ترك لنا هذا، فقال: أما إن ترك لكم هذا فنعم. وعن عبد الله بن زيد قال: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد. ومن ضمن الرسائل التي وصلتني رسالة أخ يقول فيها: أخي الشيخ الفاضل حسين! إني أحبك في الله لم أنس يا شيخنا آخر مرة سمعت لك فيها، تحدثت فيها عن فضل العلم وطلبه، فجزاك الله خيراً، والحقيقة عندما أردت أن أحضر اليوم أنا وزوجتي لكي نسمع لفضيلتك، لم يكن معنا إلا أربعة جنيهات فقط، فهل كنا نبقيها للطعام أم نجعلها للمواصلة، فآثرنا غذاء الروح على غذاء البطن، وجئنا لكي نستفيد من علمك. فنسأل الله عز وجل أن يبارك في هذا الأخ وفي زوجه، والله! لو قدم علي يكون ضيفي هو وأهله فسوف أضعه في عيوني. فـ أسماء رضي الله عنها ما كانت تمسك شيئاً لغد، وكانت إذا مرضت تعتق كل مملوك لها، وتتصدق بكل أكل عندها. وعن ابن أبي ملكية قال: كانت أسماء تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفره الله أكثر.

علو همة سيمة بنت خياط

علو همة سيمة بنت خياط وسمية بنت خياط أول شهيدة في الإسلام، أم عمار وهي سابع سبعة في الإسلام، كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة والتهبت الرمضاء، خرجوا بها وبابنها وزوجها إلى الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، فاعتصمت بالصبر، وقرت على العذاب، وأبت سمية أن تعطي القوم ما أرادوا من الكفر بعد الإيمان، فذهبوا بروحها وأفظعوا قتلتها، فلقد أنفذ النبل أبو جهل بن هشام أنفذ حربته فيها، فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيد في الإسلام. سمية لا تبالي حين تلقى عذاب النكر يوماً أو تلين وتأبى أن تردد ما أرادوا فكانت في عداد الصابرين

صبر أم شريك

صبر أم شريك وبصبر أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم أسلم من عذبوها، قال ابن عباس: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعونهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم، فقالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعمونني ولا يسقونني، فنزلوا منزلاً وكانوا إذا نزلوا أوقفوني في الشمس واستظلوا هم، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا. فبينا أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه، ثم عاد فتناولته فإذا هو دلو ماء، قالت: فشربت منه قليلاً ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً ثم رفع، ثم عاد أيضاً، فصنع ذلك مراراً حتى ارتويت، ثم أخذت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على جسدي وعلى ثيابي، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت؟ أي: هل فككت الرباط، فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ فقلت: لا والله! ما فعلت ذلك، بل كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية ووجدوها كما تركوها، فأسلموا من ساعتهم.

أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط

أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهكذا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط زوجة عبد الرحمن بن عوف كان أبوها شيطاناً من شياطين الكفر، فأسلمت وفارقت خدرها ومستقرها ومأمنها تحت جنح الليل وحيدة فريدة شريدة، تطوي بقدميها ثنايا الجبال وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها ودار هجرتها؛ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتت بعد ذلك أمها فاتخذت سنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولتهم وهم في ضلالهم يعمهون. وأم كلثوم المغنية كانت دماء المسلمين التقية الندية تسيل على رمال سيناء وهي تصيح في المخدرين والسكارى والنائمين: هذه ليلتي وحلم حياتي! ولو أن الخيال يبعث حياً هوت الكأس من يديه حطاما كوكب الشرق ذل قومي لما جعلوك على الصدور وساما وأم حواري الرسول صلى الله عليه وسلم وعمته، أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين، صفية بنت عبد المطلب، حدث عنها ولا حرج.

جهاد أم عمارة نسيبة

جهاد أم عمارة نسيبة ومقام أم عمارة نسيبة بنت كعب في أحد خير من الرجال، فهي الفاضلة المجاهدة الأنصارية، شهدت ليلة العقبة وشهدت أحداً والحديبية ويوم حنين ويوم اليمامة، وجاهدت وفعلت الأفاعيل، وقطعت يدها وهي تجاهد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان)، وكان يراها وهي تقاتل أشد القتال، وهي حاجزة ثوبها على وسطها، حتى جُرحت ثلاثة عشر جرحاً، وكانت تقول: إني لأنظر لـ ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة، وهو الذي ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد، وشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم رضي الله عنها. قالت أم عمارة: رأيتني وقد انكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بقي إلا في نفر ما يتمون عشرة، وأنا وأبنائي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: ألق ترسك إلى من يقاتل، فألقى ترسه فأخذته فجعلت أتترس به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فأقبل رجل على فرس فضربني، فتترست له فلم يصنع سيفه شيئاً فولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا ابن أم عمارة أمك أمك؛ قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب. يعني: قالت: أعانني ابني على قتل هذا الكافر حتى قتله معي. وقتل ابنها مسيلمة الكذاب، وكانت تشجعه على هذا، جرحت يوم أحد اثني عشر جرحاً، وجرحت يوم اليمامة أحد عشر جرحاً، وقطعت يدها وقدمت المدينة وبها الجراحات. فلقد رئي أبو بكر رضي الله عنه وهو خليفة يأتيها يسأل عنها، وهي عجوز مسنة قد قطعت يدها، ولكن مسليمة قتل ابنها فلله درها من امرأة!! وقد تكون المرأة ناعمة في بيت أبيها، لئن جاز للعواتق الناعمات من بنات حواء حياة ناعمة وهاجعة في بيوت آبائهن، يجررن فيها الذيول، تستعرض الواحدة منهن أنواع الحلي والزينة، وتضحي المسك فوق رأسها نؤوم الضحى لم تنطق عن تفضل، فإنها في بيت الحركة تكون فدائية.

جهاد أسماء بنت يزيد بن السكن

جهاد أسماء بنت يزيد بن السكن وقتلت أسماء بنت يزيد بن السكن تسعة من الروم في يوم اليرموك، وهي من المبايعات المجاهدات، قتلت بعمود خبائها يوم اليرموك تسعة من الروم، قالوا: وكان ذلك اليوم يوم عرسها، فلما قتلوا زوجها قلعت عمود الخباء ثم قتلت تسعة من الروم، في صبيحة عرسها. يقولون: المرأة وليدة مجتمعها، يعني أنها تتأثر بظروف مجتمعها، مثلاً: امرأة تقول لزوجها: اذهب يرزقك ربنا ثعباناً؛ لأنهم يصيدون الثعابين، فتريد أن تصيبه بخير. فالمرأة ظروف المجتمع تفرض عليها أحوالاً معينة، ونحن نريد امرأة تعيش للإسلام فقط، داعية، متصدقة، عابدة، ذاكرة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزق الناس بمثلهن.

أم سليم امرأة أبي طلحة

أم سليم امرأة أبي طلحة والرميصاء بنت ملحان أم سليم امرأة من أهل الجنة، مثل كريم في الصبر، وفي الدعوة إلى الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بـ الرميصاء بنت ملحان، امرأة أبي طلحة، فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا بلال). وكانت حياتها مليئة بالأعاجيب النيرة المشرقة، توحي بسموها وعلوها. قالت أم سليم: آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو أنس وكان غائباً، فقال: أصبوت -أي: أكفرت-؟! فقالت: ما صبوت ولكني آمنت، وجعلت تلقن أنساً وهو يرضع: قل: لا إله إلا الله، قل أشهد أن محمداً رسول الله، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تفسدي علي ابني، فتقول: إني لا أفسده، ولكني أعلمه دينه. فخرج مالك فلقيه عدو فقتله، فقالت: لا جرم لا أفطم أنساً حتى يدع هو الثدي، ولا أتزوج حتى يأمرني أنس، أي: حتى يكبر أنس ويأمرني بذلك. وخطبها أبو طلحة وهو مشرك، فأبت وقالت له يوماً: أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك؟ أو خشبة تأتي بها النجار فيضع لك منها صنماً هل يضرك أو ينفعك؟ قال: ووقع في قلبي كلامها، فقلت: إن آمنت، قالت: إني أتزوجك، ولا آخذ صداقاً منك غير الإسلام. فقال أنس: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، وكان أفضل صداق في الإسلام. أما صبرها الجليل، فهذه المرأة العظيمة لما مرض أخ لـ أنس من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فتهيأت أم سليم وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد وقد تزينت وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، فقدمت عشاء فتعشى هو وأصحابه الذين قدموا معه، ثم قامت إلى ما تقوم له المرأة فأصاب من أهله، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة! ألم تر إلى أهل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله، فقبضه الله إليه، فاسترجع وحمد الله وقال: والله! لا أدعك تغلبيني على الصبر حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: (بارك الله لكما في ليلتكما)، فاكتملت منذ الليلة على عبد الله بن أبي طلحة ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، وخرج منه رجال كثيرون، ولم يمت عبد الله حتى رزق عشرة بنين، كلهم حفظ كتاب الله عز وجل.

صبر الخنساء

صبر الخنساء والخنساء التي صاغها الإسلام، ملأت في الجاهلية البوادي نياحاً على شقيقها صخر، وقالت: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وقالت أيضاً: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل غروب شمس فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي بكت عليه، وقد مات مشركاً، وكان شجاعاً، لكن هذا لا ينفعه مع عدم الإسلام. وفي الإسلام قدمت أفلاذ كبدها ونياط قلبها، أربعة من الأسود، خرجوا في يوم واحد؛ يوم القادسية، وكان مما أوصتهم به قولها: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو! إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، اعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، فاظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة. فلما كشرت الحرب عن أنيابها تدافعوا عليها وتواقعوا إليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً إثر واحد، فلما وافتها النعاة خبرهم لم تزد على أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة. وخولة بنت الأزور من ذوات الخدور، ولكن ليس كمثلها النسور.

عبادة وتقوى حفصة بنت سيرين

عبادة وتقوى حفصة بنت سيرين وحفصة بنت سيرين العابدة التقية، حفظت القرآن وهي بنت ثنتي عشرة سنة، وكان إذا أشكل على أخيها محمد بن سيرين شيء من القرآن يقول: اذهبوا إلى أختي حفصة فانظروا كيف تقرؤه. هذه التقية التي مكثت ثلاثين سنة لا تخرج من مصلى بيتها إلا لقضاء حاجة زوج أو قيلولة. وكانت من أفضل التابعين. قال هشام بن حسان: اشترت حفصة جارية، فقيل لها: كيف رأيت مولاتك بالليل؟ فذكرت كلاماً بالفارسية معناه: إنها امرأة صالحة، إلا أنها أذنبت ذنباً عظيماً، فهي الليل كله تبكي وتصلي. وكانت إذا قامت إلى مصلاها من الليل لبست كفنها، ما تمسك التلفون ست ساعات، بل كانت إذا قامت صلاة الليل لبست كفنها، وكانت تقرأ نصف القرآن في الليلة، وتصوم الدهر، ولا تفطر إلا العيدين وأيام التشريق.

علم عمرة بنت عبد الرحمن

علم عمرة بنت عبد الرحمن وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة تربية عائشة، كانت عالمة فقيهة حجة، كثيرة العلم، وحديثها كثير في دواوين الإسلام. عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد أنه قال لي: يا غلام! أراك تحرص على طلب العلم، أفلا أدلك على وعائه؟ قلت: بلى، قال: عليك بـ عمرة فإنها كانت في حجر عائشة، فأتيتها فوجدتها بحراً لا ينزف.

ابنة ابن المسيب وأم الثوري

ابنة ابن المسيب وأم الثوري وابنة سعيد بن المسيب كانت تُعلم زوجها علم سعيد بن المسيب، ولما أراد أن يمضي إلى حلقة والدها قالت: إلى أين؟ قال: إلى مجلس أبيك أتعلم العلم، قالت: اجلس هاهنا أعلمك علم سعيد بن المسيب. وأم سفيان الثوري تعوله بمغزلها، قالت أم سفيان لـ سفيان: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي هذا، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث، فانظر هل تجد في نفسك زيادة من العمل فاتبعه. يعني: يا بني اكتب عشرة أحاديث، فإن عملت بها ووجدت في نفسك زيادة فاكتب عشرة أحاديث أخرى، وإلا فلا تتعنى، أي: إذا كنت لن تطبق العلم على نفسك فاقعد خيراً لك.

عبادة أم الدرداء الصغرى

عبادة أم الدرداء الصغرى وأم الدرداء الصغرى مثل للفقيهة العابدة، كانت هي ونسوة متعبدات يجتمعن في مسجد فيصلين، فإذا ضعفن عن القيام تعلقن بالحبال، وكن يصلين بالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة، قيل: فوالله ما يقعن إلا عند الأنعام في ركعة واحدة.

علم وفقه ابنة الإمام مالك وجاريته

علم وفقه ابنة الإمام مالك وجاريته وبنت الإمام مالك كانت تحفظ الموطأ، وكان إذا قرأ القارئ على أبيها، فإذا زاد أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع فالغلط معك، فيرجع القارئ فيجد الغلط عنده. وجارية الإمام مالك، حكى أشهب أنه كان في المدينة، وأنه اشترى خضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز، فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فأتنا نعطيك الثمن، فقالت: ذلك لا يجوز، قال لها: ولم؟ فقالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية، فقالوا: هي جارية مالك بن أنس. جارية في السوق وهي تعلم الناس فقه البيوع.

فطنة أم ابن المديني

فطنة أم ابن المديني وأما علي بن المديني، فيقول: غبت عن البصرة في مخرجي إلى اليمن ثلاث سنين وأمي حية، فلما قدمت قالت: يا بني! فلان لك صديق وفلان لك عدو، فقلت لها: من أين علمت يا أماه؟ قالت: كان فلان وفلان يجيئون مسلمين فيعزونني ويقولون: اصبري، فلو قدم عليك سرك الله عز وجل بما ترين. يعني: ابنك هذا خرج في طلب العلم ولما يرجع فسيكون عالماً كبيراً جداً، فيعوضك عن الأيام التي غابها عنك كلها، قالت: فعلمت أن هؤلاء لك أصدقاء، وفلان وفلان إذا جاءوا يقولون: اكتبي إليه، ضيقي عليه ليقبل، فعلمت أنهم أعداء لك. وفاطمة بنت عباس بن أبي الفتح كانت تستحضر أكثر المغني.

حفظ زيب النساء للقرآن

حفظ زيب النساء للقرآن وأعجوبة النساء الأميرة مفسرة القرآن، زيب النساء، بنت الملك أورنك زيب عالمكير سلطان الهند، كانت حافظة للقرآن مفسرة له، كتبت تفسيراً لكتاب الله عز وجل، ويعد تفسيرها هذا من أوائل التفاسير التي انفردت بها النساء، تفردت بتفسير القرآن العظيم كاملاً. اسمها زيب النساء، يعني: زين النساء، بنت الملك أورنك زيب عالمكير سلطان الهند في عهده.

زهد وتقوى زوجة صلاح الدين الأيوبي

زهد وتقوى زوجة صلاح الدين الأيوبي وأيضاً المرأة التقية الزاهدة زوجة صلاح الدين، اسمها عصمة الدين، وهذه المرأة كانت زوجة نور الدين محمود زنكي، ثم لما مات عنها تزوجت صلاح الدين الأيوبي. هذه المرأة العظيمة قامت ذات ليلة وهي غاضبة من نومها، فسألها زوجها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي البارحة، فلم أصل من الليل شيئاً. وهي امرأة ملك، وكانت زوجة سلطان دمشق، بل سلطان الشام كله، وتقوم من الليل غاضبه؛ لأنها لم تصل بالليل. وكانت ترسل إلى زوجها؛ لأنها كانت كثيرة الصدقة، فتأخذ منه المال الكثير فيقول: والله! لا أدخل النار بسببك، وكان نور الدين محمود زنكي زوجها سلطان دمشق، كل أكله من عمل الأقفال، أي: يصنع الأقفال بيده، ثم يذهب بها فيبيعها، وكان هذا دخله الذي يعيش منه، وهو ملك الشام قاهر الصليبين. وكان من قواده في مصر أسد الدين شيركوه وهو عم صلاح الدين، فلما مات أسد الدين شيركوه عهد نور الدين محمود زنكي بالعمل من بعده لـ صلاح الدين الأيوبي، فقضى صلاح الدين الأيوبي على سلطان الدولة الفاطمية من مصر. يحفظ التاريخ العديد من العابدات التقيات، الصوامات القائمات في الليل، وكانت المرأة منهن إذا دخل عليها الليل تقول: بخ بخ، يا نفس! قد جاء سرور المؤمن، فإذا اشتدت في عبادتها تقول: لا تأنسن بمن توحشك نظرته فتمنعن من التذكار في الظلم واجهد وكد وكن في الليل ذا شجن يسقيك كأسه باب العز والكرم فإذا مضى عنها الليل بكت وقالت: واحرماه واسلباه. ذهب الظلام بأنسه وبإرثه ليت الظلام بأنسه يتجدد

أمثلة لعلو الهمة عند النساء من التاريخ الإسلامي

أمثلة لعلو الهمة عند النساء من التاريخ الإسلامي يحفظ التاريخ منهن رابعة العدوية، أثنى عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأثنى عليها ابن القيم، وأثنى عليها ابن مفلح، وأثنى عليها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثامن، وأثنى عليها ابن كثير في المجلد العاشر من البداية، وقال: رابعة العابدة التقية، أكثر الناس من الثناء عليها، ورؤيت لها منامات صالحة، إلا أن أبا داود السجستاني كان يتهمها بالزندقة، وربما بلغه عنها الشيء، ولكن أكثر أهل العلم على توثيقها، أما الكلام الذي صدر عنها إن صح منها فلا يقبل، ولكن هذا في جانب صيامها وقيامها. وهذه عاتكة المخزومية تعاتب في كثرة بكائها، فقالت: ما ينبغي للمخوف بالنار أن تجف له دمعة، حتى يعرف موقع الأمان من ذلك. وعفيرة العابدة، تعاتب في قلة نومها وكثرة قيامها، فقالت: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر، وكيف ينام من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ولا نهاراً؟! وفاطمة النيسابورية تقول: الصادق المقرب يدعو ربه دعاء الغريق يسأل ربه الخلاص والنجاة. وعائشة بنت سعيد الحيري عابدة نيسابور، مجابة الدعوة، سمعت ابنتها تتكلم وهي فرحة ببعض ما لديها من العلم، وببعض ما لديها من حطام الدنيا، فقالت: لا تفرحي بفان، ولا تجزعي من ذاهب، وافرحي بالله عز وجل، واجزعي من سقوطك من عين الله عز وجل. وقالت لابنتها: الزمي الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، ولا أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً. ومليكة بنت المنكدر تقول: دعوني أبادر طي صحيفتي. وزوجة صلة بن أشيم: معاذة العدوية تلميذة السيدة عائشة رضي الله عنها، لما أتاها نعي زوجها وولدها، وأتت النسوة يعزينها، قالت: إن كنتن قد جئتن لتهنئنني فأهلاً بكن وسهلاً، وإلا فارجعن من حيث أتيتن. ولبابة العابدة تقول عن لذة عبادتها في محرابها: ما زلت مجتهدة في العبادة حتى صرت أستريح بالعبادة، فإذا تعبت من لقاء الخلق آنسني بذكره، وإذا أعياني الخلق روحني للتفرغ لعبادة الله عز وجل، والقيام إلى خدمته. ومخة أخت الإمام بشر بن الحارث الإمام الورع وأخته ورعة كذلك، تأتي إلى الإمام أحمد وتقول له: أنين المريض شكوى؟ أي: المريض عندما يئن ويقول: آه، هل هذا كأنه يشكو الله عز وجل إلى خلقه؟ قال: والله! ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، فلما كان في مرض موته قيل للإمام أحمد: إن طاوس يقول: إن أنين المريض شكوى، فما أنَّ الإمام أحمد حتى مات. المسألة التي غابت على إمام أهل السنة حفظتها امرأة. وقالت: يا إمام! إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح الشارع، فإذا انطفأ مصباح الشارع ومرت مصابيح الظاهرية -وكانوا قوماً من الحكام ظالمين- غزلنا على ضوء مصابيحهم، أفنبينه للناس؟ قال: بيني ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: اتبعها يا بني، وانظر إلى أي بيت تدخل، فدخلت بيت بشر بن الحارث، فقال: من بيتهم خرج الورع. أي: مثل هذه لا تخرج إلا من بيت بشر. وماجدة القرشية كانت تبكي وتقول: كفى المؤمنين والمؤمنات طول اهتمامهم بالمعاد شغلاً عن الناس. ونفيسة بنت الحسن بن زيد التي تقول عنها زينب بنت يحيى: خدمت عمتي فما رأيتها نامت بليل إلا قليلاً، ولا أفطرت بنهار، فقلت لها: أما ترفقين بنفسك؟ قالت: كيف أرفق بنفسي وقدامي عقبات لا يقطعها الفائزون!! ورابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري يقول عنها زوجها: كنت يرق قلبي بالنظر إلى وجه زوجتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما رأى عليها من أثر الزهد والعبادة. وبوب الإمام محمد بن نصر المروزي تلميذ الإمام البخاري باب: إن الرجل أو المرأة إذا اعتاد القيام نبه لذلك بالملائكة أو بعمار الدار من الجن. وذكر قصة رابعة: إن زوجها يقول: ما رأيك تقومين من أول الليل، قالت: أوتحسبني أقوم بخاطري، إنما أقوم إذا نوديت. وبوب الإمام محمد بن نصر المروزي تلميذ الإمام البخاري باب: إن الرجل أو المرأة إذا اعتاد القيام نبه لذلك بالملائكة أو بعمار الدار من الجن. وذكر قصة رابعة: إن زوجها يقول: ما رأيك تقومين من أول الليل، قالت: أوتحسبني أقوم بخاطري، إنما أقوم إذا نوديت. وهكذا الجواري والعبيد قال خالد الوراق: كانت جارية لي شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة، فدخلت عليها يوماً فأخبرتها برزق الله وقبوله ليسير العمل، فبكت وقالت: يا خالد! إني لأؤمل من الله تعالى آمالاً لو حملتها الجبال لأشفقت من حملها كما ضعفت عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، ولكن كيف لي بحسرة السباق؟ قال: قلت: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا بعثر ما في القبور، وركب الأبرار نجائب الأعمال، فاستبقوا إلى الصراط، وعزة سيدي! لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً ولو حبا المجد حبواً. أم كيف لي بموت الحزن والكمد، إذا رأيت القوم يتراكضون وقد رفعت أعلام المحسنين، وجاز الصراط المشتاقون، ووصل إلى الله المحبون، وخلفت مع المسيئين المذنبين!! ثم بكت وقالت: يا خالد! انظر لا يقطعك قاطع عن سرعة المبادرة بالأعمال، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون! هذه صفحات من علو همة النساء.

كتب تتحدث عن علو الهمة عند النساء

كتب تتحدث عن علو الهمة عند النساء وكل أخت تريد أن تقرأ كثيراً في التراجم عليها بكتاب: سير أعلام النبلاء في تراجم النساء، وعليها بتاريخ دمشق، وتاريخ بغداد في تراجم النساء، وعليها بصفة الصفوة، وعليها بكتاب شيخنا وسيدنا الشيخ محمد المقدم عودة الحجاب، الجزء الثاني، وكتاب: تراجم أعلام النساء لـ عمر كحالة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام آيات كثيرة في كتاب الله الكريم تشير إلى أن المستقبل للإسلام، وأن الله ناصر جنده ولو بعد حين، كما يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأخبر أنه لن تقوم الساعة حتى ترفع راية الإسلام في كل مكان. وإذا نظرنا في تاريخ المسلمين فسنجد أن الأيام دول، وأن بعد الهزيمة والذل نصراً وتمكيناً.

أهمية تبشير الناس بأن المستقبل للإسلام

أهمية تبشير الناس بأن المستقبل للإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله في مثل هذه الأوقات العصيبة، وعملاً بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة). فسرور تدخله على مسلم بالتبشير بأن المستقبل المضيء للإسلام وللإسلام وحده ينور قلوباً ربما قد يعتريها الجفاف فتنتعش بعد ظمأ، وتسقي ساحات العمل الإسلامي المبارك، نبشر ليعقل ساذج، وليتململ كسلان راقد، وينافس هابط قاعد، ويفرح هامد يائس بائس. نبشر بمستقبل الإسلام ليسكن القلب، ويسلو الحزين البائس، نجاةً من وهدة، وتوجيهاً في ساعة حيرة، وأذاناً في نيام، ونبلاً عندما يسهل الواقع، وسمواً إذا نطق الإغراء، ووفاء في ساعة النكوص، واقتحاماً في مواطن الانخذال، ودفعاً للانزواء الذي كلكل على اليائسين القانطين؛ لتدخل القلب برودة السكن بوعد الله عز وجل للمؤمنين بعد حرارة القلق، ولذعات الحيرة، ومرارة اليأس، وصداً لكل مأجور غريق تائه لا يجد له طريقاً. عندما نعيش للإسلام فإن حياتنا تبدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت البشرية، وتمتد بعد الأرض، فنعيش حياة مضاعفة بقدر ما يتضاعف إحساسنا بالمسلمين لإسلامي أعيش أنا بتوحيدي وذا ديني نقشت حروفه تعلو على كل العناوين بخط الباب أن يسمو على كل الميادين لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران زفوني لإسلامي لإسلامي ولو في السوق باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له أعطي له نفسي وتكويني أنا ماذا أكون أنا بلا ربي بلا ديني أنا ماذا أكون أنا أجيبوني أجيبوني نحن لا نقول للناس: إن الإسلام جميل وطيب فاتركوا له فرصة؛ لأن هذا فعل اليائس، وإنما نقول: إننا بحاجة لأن نعلو حتى نصل إلى مستوى الإسلام النظيف، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128]، هذا قول خليل الرحمن إبراهيم أعلى البشرية بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، يريد أن يبقيه الله تبارك وتعالى على الإسلام {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]؛ أدباً مع الله عز وجل، ومعرفة لقدر النعمة التي لما حدنا عنها حاد عن أرجلنا طريق المجد. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب من رطب ابن طاب) وهي رطب معروفة في المدينة لرجل يسمى: ابن طاب، قال: (فأولت ذلك الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب). نحن نتكلم عن الإسلام من منطلق الرد على الصليبية بأن المستقبل للإسلام، وأن حضارة الإسلام هي الحضارة العظمى، ونرد عليهم بقول علماء الأرض ممن حصلوا على أعلى الجوائز كجائزة نوبل، من عقلاء الغرب الذين يقولون: إن مجتمعاتهم مجتمعات خنازير، كما قال أفلاطون. قال صلى الله عليه وسلم: (عند الله خزائن الخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير)، وقال صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالتيسير والسناء والرفعة في الدين، والتمكين في البلاد، والنصر). حال الأمة في هذه الأيام مثل حال النبي صلى الله عليه وسلم، فأثناء الهجرة وهو مطارد وحيد إلا من رفيقه الطريد مثله يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ سراقة الذي يريد أن يلحق به: (يا سراقة: كيف بك وسواري كسرى؟) يعني: الإسلام سينتصر وسيأخذ بيت كسرى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تغدو عصابة من أمتي البيت الأبيض بيت كسرى). فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا سراقة وسواري كسرى؟)، فتمثل ذلك الواقع حينما تقول للناس: إن المستقبل للمسلمين. والحال كما هو معلوم {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]. وفي يوم الأحزاب كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحفر الخندق على ضربات المعاول يبدو نور المستقبل، فيقول: (الله أكبر أعطيت خزائن كسرى، أعطيت ملك قيصر، أعطيت خزائن اليمن)، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. وأما المنافقون فيمثلهم معتب بن قشير يقول: إن محمداً يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب ليقضي حاجته. قال تعالى: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي

المبشرات بالنصر والتمكين

المبشرات بالنصر والتمكين

مبشرات من القرآن

مبشرات من القرآن إن المستقبل للإسلام، وهذه مبشرات من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، ومن السنن الربانية، ومن تاريخ المسلمين ومن خصائص الإسلام، ومن واقع هذه الأمة، ومن شهادات عقلاء الغرب بأن المستقبل للإسلام. لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد قال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]. وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، هل رأى الناس إلا ديناً يضيء للدنيا كالمصابيح؟ فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف:8]، وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب لتطفيه؟! وأين نور القمر من كف يحسب صاحبها أنه سيرفعها إليه ليطفئه؟! هيهات هيهات! دون ذلك درج الشمس -وهي أم الحياة- في كفن وإنزالها بالأيدي -وهي روح النهار- في قبر من كهوف الزمن! إن المصباح السماوي الذي أوقده رسول الله صلى الله عليه وسلم تألب عليه بعضهم من يوم أبي لهب، ومن يوم حيي بن أخطب -وزال هؤلاء وذهبوا إلى مزابل التاريخ وبقي الإسلام شامخاً. فالإسلام كالشمس لا يغرب مطلقاً، فانظر -مثلاً- حينما سقطت غرناطة -دولة المسلمين بالأندلس- في نفس الوقت كان سليمان القانوني يدق أسوار فينا ويصل إلى الميدان الرئيسي في فينا، واحتل بلغراد ودخلها في يوم الجمعة 25 رمضان، وأعلى الأذان في معابدها، ووصل خير الدين بربروس وهو قائد البحرية التركي الذي أنشأ دولة الجزائر، وصد الأسطول البرتغالي الأسباني ثلاث مرات ودحرهم، وأنقذ (70000 أسيرة مسلمة)، وأراد أن يعبر جبال البرانس بفرنسا، بل وصلت قوات المسلمين إلى مدينة سانت جنوب باريس بثلاثين كيلو متر. وحينما سقطت دولة الخلافة العباسية -في نفس الوقت- قامت دولة الإسلام الفتية في الهند. قال الله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. فكلمة تكون بها عوالم، وتخلق بها نواميس، وكلمة تذهب أدراج التاريخ، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52]، وذكر الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى أن أتباعه من المسلمين فوق الذين كفروا، قال: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، وكذلك كل متبع للنبي ولمن سبقه من الأنبياء كما قال ابن كثير. وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. إن الله أبتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، وقال الله تبارك وتعالى عن حزب الشيطان: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينزل الأبرار منازل الفجار)، فهما طريقان أيهما أخذتم أدركتم ثمرته. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21]، وقال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق:8 - 9]. والعاقبة النتنة لأجيال البشرية الضالة المنكوبة الكافرة البعيدة عن طريق الله وطريق رسوله، قال الله عز وجل مبشراً للمؤمنين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]. وقال الله تبارك وتعالى مبيناً معيته للمؤمنين: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، وقال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35]، وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. وبين الله عز وجل أنه ولي الذين آمنوا فقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. قال أبو سفيان في غزوة أحد: اعل هبل، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يردوا ويقولوا: (الله أعلى وأجل)، فقال: لنا العزة ولا عزة لكم، فقالوا له: (الله مولانا ولا مولى لكم). قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وهو ناصرهم قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. والله عز وجل يمكر لدينه دائماً قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وقال جبريل لـ أم إسماعيل: لا تخشي الضيعة إن الله لا يضيع أهله. قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5]. وقال تعالى: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11]، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17]. كل هذه مبشرات من كتاب الله عز وجل ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً، فليس بعد قول الله قول.

مبشرات من السنة

مبشرات من السنة وهناك مبشرات من السنة في انتشار الإسلام في أرض البسيطة، فقد بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والله ليتمن الله هذا الأمر) أي: الإسلام، (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، وراوي الحديث هو خباب بن الأرت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم تستعجلون) كانت سيدته تلقي عليه الحديد المحمى فوالله ما يطفأ الحديد إلا بما يسيل من شحمه. وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذلك ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وبشر النبي باتساع رقعة الإسلام، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها). وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي أخرجه الإمام أحمد - قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً)، ومدينة هرقل هي القسطنطينية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فتحت القسطنطينية في يوم الثلاثاء 20 جماد الأول سنة 857 هجرية الموافق 29 مايو سنة 1453 ميلادية على يد السلطان محمد الفاتح، وهو ابن 23 سنة، ففتحت القسطنطينية وستفتح روما. هذه بشارة نبينا صلى الله عليه وسلم في عودة الخلافة الراشدة كما جاء في حديث حذيفة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت). ومن المبشرات بمستقبل الإسلام السائر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)، ومن المبشرات بأن المستقبل لهذا الدين ظهور المجددين لهذا الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود، والحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). ومن المبشرات على أن شمس الإسلام لن تزول: بقاء الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة، كما جاء في حديث عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة). وفي حديث المغيرة بن شعبة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)، وفي حديث معاوية: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس). وحديث أبي هريرة: (لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها)، وحديث عقبة: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك). وحديث سلمة بن نفيل: (ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله). وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره)، وهذا يدل على وجود الخيرية في هذه الأمة في كل زمن. وقال صلى الله عليه وسلم: (عصابتان من أمتي أخرجهما الله من النار) أي: لا يدخلان النار أبداً، (عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم). وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي). ومن المبشرات لهذه الأمة نزول المسيح عيسى ابن مريم آخر الزمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها). وفي حديث آخر صححه الشيخ أحمد شاكر قال: (سيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمانة على الأرض حتى تركع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات فلا تضرهم). وكما قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء بالقطر، ويؤذن للأرض بالنبات، حتى لو بذرت حبة على الصفا لنبتت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح ولا تحاسد ولا تباغض). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليقتلن ابن مريم الدجال ببيت لد). ثم من المبشرات أيضاً: ظهور المهدي في آخر الزمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملأت جوراً). ومن المبشرات: الانتصار على اليهود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد). وجيش محمد سيعود في عز وفي غلب وأن الغرقد الملعون مقطوع بلا سبب وأن السامري سيوقد النيران فوق مفاوز العرب ويمضي مثلما ولت جميع كتائب الإفرنج من حقب ويبقى تائهاً في الأرض يعبد عجله الذهبي وفي آخر الزمان ستفتح القسطنطينية مرة ثانية بعد عودتها إلى الكفر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون بينكم وبين بني الأصفر هدنة، فيغدرون بكم فيسيرون إليكم في ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم -أي: الصليبيون- بالأعماق، فيخرج إليهم جيش من المدينة -أي: من مدينة دمشق- هم خير أهل الأرض يومئذ، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم خير الشهداء عند الله، ويفتح الله عز وجل على الثلث الباقي، وبينا هم يقتسمون الغنائم وقد علقوا سيوفهم بأشجار الزيتون إذ صاح فيهم الصائح -وفي رواية: الشيطان-: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم وذراريكم -وهذا باطل-، فيبعثون من يتقصى الخبر).

مبشرات من سنن الله في الكون

مبشرات من سنن الله في الكون وهناك مبشرات من سنن الله عز وجل ومن نواميس الله عز وجل في الكون، التي لا يحيد عنها حائد، ومن هذه السنن سنة التغيير وسنة التداول، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. فقد كانت الغلبة لهم ثم انتقلت الدولة والحضارة إلى المسلمين، ولما غفل المسلمون عن دينهم انتقلت الحضارة إلى الغرب، ويوماً من الأيام ستعود إلينا، وقد سقطت حضارة روسيا الأولى، وبعد سقوط حضارتهم تعود إلينا مرة ثانية. وسنة التغيير؛ قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال:53 - 54]. وهذه سنة الله عز وجل في الذي يعرض عن هداه، ولا ريب أنهم في الغرب قد أعرضوا عن طريق الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]. وأما سنة الله عز وجل في المترفين: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. وأما سنة الله في الظالمين: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام:45]، {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47]، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس:13]، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. فأين كان العالم يوم أن بكى الأطفال وماتوا وقتلوا، كانوا 700000 طفل بإحصاءات الأمم المتحدة؟! وأين كان العالم وأطفال العراق يموتون من الجوع؟! ولا شيء أشد على النفس من موت طفل وأنت تستطيع أن تنقذه. وأين كان ضمير العالم وفلسطين تئن من الذبح والقتل والتشريد ونسف البيوت؟! {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. إن حضارة الغرب حضارة عوراء لا تنظر إلا بعين واحدة وهي عين المادة، وتكيل بمكيالين دائماً، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9]، {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:12 - 14]. وسنة الله في الكفار واحدة، فليس هناك كافر يكفر هو أحسن من كافر آخر، قال الله عز وجل: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43]، فكما أخذ عاد وثمود، وقوم لوط التي تمثلت فيها حضارة الشذوذ فسيأخذ حضارة الشذوذ في أي زمان، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]، وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:211]، وقال الله عز وجل: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8]. إن سنن الله عز وجل لا تحيد أبداً، فانظر إلى الغرب حين انتشرت فيه المخدرات، والبطالة، والقتل، والإجهاض، تقول الإحصائيات: إن ثلاثة وخمسين مليون طفل هم حصيلة الإجهاض، فالجريمة كل دقيقة، والاغتصاب مستمر، كما انتشرت الخمور، وكثر نكاح المحرمات، ونكاح الأقارب. وهناك بنوك للحيوانات المنوية تأخذ منها المرأة ما تشاء فيولد الطفل من غير أب، فيباع الأطفال، وانتشرت البطالة، والديون والتردي، كل هذا موجود في حضارة الغرب. يقول الكاتب الإنجليزي أسبورن: نحن موتى مخدرون مضيعون، نحن سكيرون مجانين حمقاء، نحن تافهون. وهذه كانت في مسرحية حضرها ستة مليون وسبعمائة وثلاثة وثلاثين ألف في الغرب. وانظر إلى كتاب جيمس بادرسن، وديسر جيم: يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة. وهذا الكتاب صدر في نيويورك عام 1991م وترجمه الدكتور محمد سعود البشر، وهناك كتاب آخر: نحن القوة الأولى أين تقف أمريكا؟ وأين تسقط في النظام العالمي الجديد؟ لـ أندرو شابيرو، صدر عام 1992م بعد حرب الخليج. ثم الكتاب الثالث: السقوط التراتيبي أمريكا عام 2020 ميلادية للجنرال هوف قائد السلاح الجوي السابق الأمريكي، وقائد قوات الأمم المتحدة في كوريا ومستشار وزارة الدفاع، صدر هذا الكتاب عام 1992م، يقول: إن ديون الولايات المتحدة الأمريكية عام 1992م كانت أربعة ألف مليون دولار، وستصل في عام 2020م إلى عشرة واثنين من عشرة ترليون دولار. يقول: إنه في كثير من الأوقات يراودهم شك بأنهم دجالون ومحتالون ومنافقون. معنى هذا: أن هناك ثمانين مليون دجال ومنافق ومحتال في بلادهم. وانظر إلى كتاب: سقوط الحضارة لـ كولن ولسن، وانظر إلى ما كتبه الشاعر الألماني بروشرت يقول: نحن جيل بلا رابط ولا عمق عمقنا هو الهاوية نحن جيل بلا دين ولا راحة شمسنا ضيقة حبنا وحشية شبابنا بلا شباب إننا جيل بلا قيود ولا حدود ولا حماية من أحد وانظر إلى ما كتبه العالم ألكيس كارتل صاحب كتاب: الإنسان ذلك المجهول، والحاصل على جائزة نوبل، أو انظر إلى كتاب إنسانية الإنسان لـ رنيه روبو الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل، أو انظر إلى ما كتبه لوبات سكرتير وزارة الداخلية الأمريكية في بحث له بعنوان: هل تستطيع أمريكا التغلب على خلاصة النمو؟ يقول: إنه من السهل اعتبار أمريكا التي صنعها الإنسان كارثة. وانظر إلى ما كتبه جون ديوتي: إن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها لهي حضارة تضر نفسها بنفسها. وانظر إلى كتاب سقوط الحضارة لـ كولن ولسن الذي يصف فيه المجتمعات بأنها مجتمعات الخنازير أو كما قال.

مبشرات من التاريخ

مبشرات من التاريخ الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. هذه مبشرات من التاريخ، ففي أشد الظروف التي مرت بالأمة الإسلامية حيث تكون الأمة أحوج ما تكون إلى النصر يأتي نصر الله، قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. فقد نصر الله المؤمنين يوم بدر، ونصرهم الله عز وجل يوم الأحزاب، وليس ذلك في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم بل انظر إلى الأيام التي أعز الله عز وجل فيها المسلمين ودك شأن الصليبين، وانظروا إلى سيف الله خالد بن الوليد في معركة نهر الدم، حيث كانت هذه المعركة بين المسلمين وبين جيوش الفرس، وكان عددهم 150000 ومعهم بعض نصارى العرب، وكان جيش خالد عدده 18000، فقال جابان قائد جيش الفرس: استعدوا للقاء خالد. فمن عدم احتفالهم بسيدنا خالد نشروا البسط وأرادوا أن يأكلوا الطعام وهم يرون جيش خالد أمامهم، فأجبرهم خالد بخيوله على ترك الطعام حتى قال لهم قائدهم جابان: والله لكأنكم أعددتم الطعام لـ خالد. واستمر فيهم القتل، ونزل خالد وقد كان عاهد الله إن منحه أكتاف القوم أن يجري النهر من دمائهم، ولما اقترب النصر صاح منادي خالد: الأسر الأسر، أي: لا تقتلوهم، وجعل يأتي بهم جماعات جماعات فيضرب أعناقهم على حافة النهر. فأراد أن يبر بقسمه لله عز وجل، وقال له القعقاع بن عمرو التميمي: والله لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً ما وفيت بنذرك حتى تجري قليلاً من الماء في النهر؛ فتحمل المياه دماءهم حتى تبر بقسمك، ففعل خالد وتغير لون مياه النهر 20 يوماً. ثم قال خالد بعد ذلك للمسلمين: اجلسوا للطعام. وخطب سيدنا أبو بكر الصديق فقال: يا معشر قريش! عدا أسدكم على الأسد -أي: سيدنا خالد عدا على قوات الفرس- فغلبهم على خراجينه -أي: على اللحم الذي كانوا يأكلون منه-، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد. وثاني معركة كانت بينه وبين صليبي العرب، واسمها: معركة عين التمر، وكان قائد قوات الصليبين عقة بن أبي عقة في وسط جيشه، وسيدنا خالد في وسط الجيش، ونظر خالد سيف الله عز وجل فقال: احموا مجلدتي بعشرة فرسان، أي: احموا ظهري بعشرة فرسان، ثم انطلق إلى جيشهم فمضى في صف الجيش المحارب ثم صاول عقة بن أبي عقة حتى اقتلعه عن فرسه وأمسك به ثم وضعه على فرسه، وانطلق به إلى جيش المسلمين وانتهت المعركة. وفي معركة الفراض في 15 ذي القعدة سنة 12 هجرية كان أول مرة في التاريخ تجتمع فيها قوات الفرس وقوات الروم والصليبين وعددهم 150000، أما سيدنا خالد ومن معه فكان عددهم 38000، فقتل منهم سيدنا خالد 100000. وبعث سيدنا أبو بكر إلى خالد أن يذهب إلى جبهة الروم بالشام، وقال: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد. وكانت معركة اليرموك وفتح دمشق، وكانت في 15 رجب سنة 12 هجرية، وكانت جيوش المسلمين خمسة جيوش: جيش شرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وجيش خالد بن الوليد، فمكثوا أربعة أشهر كاملة لا يستطيعون فتح مدينة دمشق، حتى وصلت الأخبار إلى خالد الذي وصفه المؤرخون بأنه لا ينام ولا ينيم، أي: هو لا ينام والعدو الذي أمامه من شدة خوفه لا ينام، فعيونه ذكية، فبث مخابراته فقالوا له: إن نسطاس بن نسطور قائد الروم في دمشق قد ولد له مولود، وإنه سيوزع الخمر الليلة على جنود الحامية، فأعد خالد قرباً مليئة بالهواء ثم عبر عليها النهر سباحة حتى وصل إلى أسوار دمشق، وأعد سلالم من حبال الليف معلقة فيها خطاطيف في نهاية كل حبل، فجعلوا يلقونها على الأسوار فعلق حبلان، فصعد عليهما مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو التميمي ومعهما بقية الحبال، فعلقاها فوق أسوار دمشق، ونادى خالد: إذا سمعتم تكبيرنا من فوق الأسوار فانهدوا إليهم، وطيلة الليل يقتل خالد في الروم حتى قالوا: افتحوا الباب لجيش أبي عبيدة حتى لا يفنينا خالد. وكانت معركة اليرموك هي التي أنهت وجود الروم في بلاد الشام، وكان عدد الروم فيها 300000 مقاتل، وعليهم قائدهم ماهان أقوى قادة الروم، ومعه القيقلان وبندارق أخو هرقل، وكان جيش المسلمين 36000 مقاتل، فيهم 1000 صحابي، وفيهم 100 بدري. وأرسل سيدنا أبو عبيدة لسيدنا عمر قال: إنه قد أتى المسلمين ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكة، فسيدنا خالد قال لـ أبي عبيدة: إن كنا نقاتلهم بالقوة والكثرة فوالله ما تغني قلتنا أمام الناس شيئاً، وإن كنا نقاتلهم بالله ولله فإن قواتهم لا تغني عنهم ولو ملئوا جيوش الأرض لنا، ثم قال البطل خالد: أتطيعني فيما آمرك؟ قال: نعم، قال: ولني ما وراء ذلك واتركني والقوم فإني أدعو الله أن ينصرني عليهم، وكان على جيش المسلمين في القلب أمين هذه الأمة أبو عبيدة، وعلى الميمنة أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباث بن أشيم بطل المسلمين وصنديدهم، وعلى الرجالة قاتل الأسود هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وبالتناوب مع أبي الأعور سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، حتى إن الروم كان كل 100 منهم يسلسلون بسلاسل، فقتل منهم 120000، منهم 80000 مسلسلين بالسلاسل، و40000 قتلوا في يوم المعركة، حتى إن القيقلان لما رأى ما حل بالروم من هزيمة منكرة قال: غطوا رأسي، فحز المسلمون رأسه وهو ملفوف. وفي أيام الدولة الأموية كان مسلمة بن عبد الملك بن مروان الجرادة الصفراء أفضل أخوته، وكان الروم يفزعون منه إلى آخر بلادهم، وكان معه قائد من قواد المسلمين اسمه: أبو محمد عبد الله البطال، فبلغ الذعر بقوات الروم من هذا البطل المسلم ما روي أنه قال له عبد الملك بن مروان: ما أغرب ما حدث لك يا بطال؟ قال: توغلت في أرض الروم في ليلة بادية وإذا أنا بضوء خافت ينفذ من نافذة، وإذا بامرأة تريد أن تنيم ولدها فلا ينام، فتقول له: اسكت وإلا آتيك بـ البطال فأقول: خذه يا بطال، ومدت يدها نحو النافذة قال: فأخذت الصبي منها. وفي أيام المستعصم الخليفة العباسي بلغ خوف الروم من قائد جيش اسمه ابن فتحون أن الرجل الرومي كان يسقي فرسه من الماء فإذا امتنعت عن الشرب يقول لها: اشربي وإلا رأيت ابن فتحون في الماء. وفي معركة من معارك المسلمين اسمها: معركة ملاذكرد سنة 653 ميلادية كانت بين السلطان المسلم ألب أرسلان وجيشه كان 15000 مقاتل، وبين أرانوس الرابع قائد وإمبراطور الروم وجيشه كان 600000 مقاتل، حتى إن ألب أرسلان خاف استئصال شأفة الجيش المسلم فعرض المال -وهذا جائز- على أرانوس الرابع فلم يقبل. فأتى السلطان وقال: أيها الأمراء! من أراد أن يرجع فليرجع، فلا أمير ولا سلطان عليكم بعد اليوم، وإني ماض إلى الجنة، فمن أراد أن يتبعني فليتبعني، فلبس الجيش كله الأكفان، وكان يسمى: جيش الأكفان، ثم كانت الدائرة في نهاية الأمر على الروم، وأخذ أميرهم وإمبراطورهم أسيراً، ونودي عليه: من يشتري الكلب؟ فنادى أحد جنود المسلمين: لا اشتري الكلب إلا بكلب. فقراءة التاريخ الإسلامي وما حدث فيه من انتصارات للإسلام والمسلمين مما يذهب الإحباط واليأس عن النفوس.

فضائل الحج

فضائل الحج اختص الله عز وجل عشر ذي الحجة بفضائل على غيرها، مما جعلها أفضل الأيام، والعمل فيها أفضل من سائر الأعمال، وفي هذه الأيام تقام شعيرة الإسلام وركنه العظيم، وهو الحج إلى بيت الله الحرام. وقد رغب ديننا في الحج، وبين فضله ومناسكه؛ ليشمر أصحاب الهمم إلى رضوان الله.

بيان فضل عشر ذي الحجة

بيان فضل عشر ذي الحجة

فضل عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام

فضل عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل كفى خير من ما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: اعلم يا أخي! أن الله اختار من الزمان شهوراً طيبة هي أفضل الزمان، وهي الأشهر الحرم، واختار من الأشهر الحرم أفضلها، وهو ذو الحجة، واختار من ذي الحجة أفضله، وهو العشر الأوائل منه، وأقسم الله تبارك وتعالى بهن، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة: الليالي العشر هي عشر ذي الحجة. وهي الأيام المعلومات التي قال الله تبارك وتعالى فيهن: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]. قال ابن عباس: هي عشر ذي الحجة. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأيام لها فضل في ذاتها، بخلاف فضل العمل فيها، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر). قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيامكم هذه، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير). وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام - يعني: أيام العشر - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء). فالعمل المفضول في هذه الأيام أفضل من العمل الفاضل في غير هذه الأيام، والعمل المفضول وهو الذكر أفضل من الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام. فالذكر في هذه الأيام من تسبيح وتحميد وتهليل أفضل من الجهاد في سبيل الله، إلا من لون واحد من الجهاد، وهو رجل يخرج بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء. ولذلك كان راوي الحديث سعيد بن جبير يقوم هذه الأيام ويجتهد فيها اجتهاداً لا مزيد عليه، وكان يقول: لا تطفئوا سرجكم هذه الأيام، يعني: أحيوا هذه الأيام، ولا تطفئوا سرجكم فيها، فكانت تعجبه كثرة العبادة.

الأحاديث الواردة في صيام أيام العشر وطريق الجمع بينها

الأحاديث الواردة في صيام أيام العشر وطريق الجمع بينها أما صوم هذه الأيام فورد فيه حديثان: الحديث الأول: حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنها في مسند الإمام أحمد قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع صيام عاشوراء وعشر ذي الحجة وثلاثة أيام من كل شهر). وفي سند هذا الحديث اختلاف. والحديث الثاني: حديث عائشة الذي رواه الإمام مسلم: (ما رأيت رسول الله صائماً العشر قط)، وفي رواية: (ما رأيت رسول الله صائماً في العشر قط). وجمع العلماء بين الحديثين بجمعين: الجمع الأول: أن الحديثين خرجا مخرج الغالب، يعني: عندما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صائماً العشر قط) كانت تعني: ما أتم صيامهن. وقول السيدة حفصة: (ما كان رسول الله يدع صيام عشر ذي الحجة) تعني: أنه كان يصوم أغلبهن. والجمع الثاني: القاعدة: أن المثبت عنده زيادة علم على النافي، والمثبت هو حفصة رضي الله عنها، والنافي هو عائشة رضي الله عنها، فقد يوافق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم في أيام عائشة وما رأته صائماً، ولكن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها رأته صائماً في أيامها عندها. فيكون الجمع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكمل صيام هذه الأيام وإنما صام أغلبها. وإذا أراد أخ أن يكمل صيام هذه الأيام التسع فلا حرج عليه؛ فقد كان عبد الله بن عمر يصوم العشر، وهذا أيضاً خرج مخرج الغالب؛ لأن اليوم العاشر -وهو يوم العيد- يحرم صومه. يعني: كان يصوم التسع بأكملهن. وممن قال بهذا الحسن البصري وجمهور أهل العلم، فمن أكمل صيام هذه الأيام فلا حرج عليه، وله في ذلك سلف، وهو عبد الله بن عمر. ومن لم يكملهن فهدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأنفع وأطيب، هذا بالنسبة للصيام.

حكم التكبير في عشر ذي الحجة

حكم التكبير في عشر ذي الحجة وأما بالنسبة للتكبير، وهل يشرع الجهر بالتكبير والتسبيح والتحميد؟ فقد اختلف فيه أهل العلم، فأنكره جماعة واستحبه الشافعي وأحمد، إلا أن الشافعي خص الجهر بالتكبير عند رؤية بهيمة الأنعام، واستحبه الإمام أحمد مطلقاً. وروى الإمام الفريابي في كتاب العيدين: أن سعيد بن جبير ومجاهداً وعبد الرحمن بن أبي ليلى كانا يدخلان السوق في أيام العشر فيكبران فيكبر السوق بتكبيرهما، وأن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يدخلان السوق فيكبران لا يدخلان إلا لذلك. فبين أهل العلم اختلاف في التكبير.

آداب عشر ذي الحجة

آداب عشر ذي الحجة عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعاً: (من أراد منكم أن يضحي فإذا ظهر هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من بشره)، وفي رواية: (ولا من أظافره شيئاً)، أي: يمسك عن قص الشعر من أراد أن يضحي، ولا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئاً. وهذه أيام طيبة فيها يوم عرفة، وصيامه كفارة للسنة الماضية والمستقبلة، فصيامه يكفر سنتين. وفي هذه الأيام يوم النحر، وهو أفضل أيام الدنيا عند الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام يوم النحر، ثم يوم القر)، وهي الأضحية، وهو علم وشريعة من شرائع الملة المحمدية الإبراهيمية، فيها ركن من أركان الإسلام العظيمة الحج.

فضل الحج

فضل الحج والملائكة تحج أفلا نحج نحن؟ وقد أقسم الله عز وجل بالبيت المعمور، وهو كعبة الملائكة في السماء، كما جاء في حديث الإسراء من حديث مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم رفع بي إلى البيت المعمور فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، أي: يدخله للصلاة فيه سبعون ألف ملك يومياً من يوم أن خلق الله السماوات والأرض لا يعودون إليه آخر ما عليهم. وفي حديث خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه لما سئل عن البيت المعمور؟ قال: كعبة في السماء السابعة حيال الكعبة -يعني: فوق الكعبة- في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك. قال ابن كثير: يطوفون حوله ويصلون نحوه، وفي كل سماء بيت يطوف حوله أهل هذه السماء من الملائكة، والذي في السماء الدنيا يسمى بيت العزة. وأما الذي في السماء السابعة فهو البيت المعمور، ويعظم الملائكة البيت الذي في السماء في طوافهم حوله، أفلا يعظم أهل الأرض هذا البيت؟ والحسن بن علي ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا حج خمساً وعشرين مرة ماشياً على قدميه، وإن النجائب لتقاد من حوله. وأبو عثمان النهدي شيخ وقته حج واعتمر ستين مرة. والأسود بن يزيد حج ثمانين مرة؛ فهذا من تعظيم العلماء والصالحين للحج وللعمرة.

موقف المبتدعة من الحج

موقف المبتدعة من الحج

القرامطة ينتهكون حرمة البيت الحرام وحجاجه

القرامطة ينتهكون حرمة البيت الحرام وحجاجه وأما غيرهم من الفجار والكفار فيصدون عن البيت الحرام، فقوم من غلاة الشيعة القرامطة الذين كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة العربية وفي البحرين بالذات؟ كان فيهم رجل يسمى أبو سعيد الجنابي، وفي سنة ثلاثمائة وسبعة هجرية قتل هذا الفاجر اللعين من الحجاج ثلاثة عشر ألفاً، وقلع الركن في يوم النحر، وقتل في المسجد الحرام ألفاً وسبعمائة رجل وامرأة وهم متعلقون بأستار الكعبة، وردم بهم زمزم. وقتل من أهل خراسان والمغاربة ثلاثين ألفاً، وسبى مثلهم من الأطفال والنساء، واقتلع الحجر الأسود من مكانه في الكعبة وذهب به إلى البحرين، وظل عنده حتى سنة ثلاثمائة وتسع ثلاثين هجرية حتى أعاده الخليفة العباسي مرة أخرى. وهذا اللعين كان يقول: خذي الدف يا هذه والعبي وغني هزاريك ثم اطربي تولى نبي بني هاشم وهذا زمان بني يعرب لكل نبي مضى شرعة وهذي شريعة هذا النبي فقد حط عنا فروض الصلاة وحط الصيام ولم يتعب إلى آخر المحرمات التي أباحها هذا الفاجر، فكان جزاؤه أن امرأة ألقت عليه بقالب من الطوب وهو يخطب في البحرين فمات قتيلاً، وقتيل النساء شر قتيل، لأن الرجل الذي تقتله امرأة رجل لئيم.

بيان ضلال الحلاج وصده عن الحج والصيام والقرآن

بيان ضلال الحلاج وصده عن الحج والصيام والقرآن وممن يصدون أيضاً عن البيت أصحاب التصوف الفلسفي، فـ الحلاج وهو شخصية صوفية كفرها أهل العلم وكان يقول في كتابه التواصيل: ألا أبلغ أحبائي بأني ركبت البحر وانكسرت سفينه على دين الصليب يكون موتي فلا البطحا أريد ولا المدينه وهو رائد الحج بالهمة، فكان هذا الرجل يقول كما ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في المجلد الحادي عشر: من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتاً لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحداً من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به -يعني: ببيته هذا حتى وإن كان في مصر مثلاً- كما يطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعل الحجيج بمكة، ثم يستدعي ثلاثين يتيماً فيطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصاً قميصاً، ويعطي كلاً منهم سبعة دراهم، أو قال: ثلاثة دراهم، فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج. أي: يسقط عنه فرض الحج، كما قال الحلاج. ويقول عن النيابة في صيام رمضان: وصيام رمضان ينوب عنه -وهذا نقل الحافظ ابن كثير عنه- أن يصوم الرجل ثلاثة أيام، يفطر بعدها في اليوم الرابع على ورق الشجر. أي: فيصبح هذا كمن صام رمضان. وأما القرآن فإن تلامذته يقولون: إن الحلاج يستطيع أن يؤلف مثله.

من ضلال الصوفية في الحج

من ضلال الصوفية في الحج ونسب فريق الدين العطار مؤرخ الصوفية هذا إلى رابعة العدوية، وهي من هذا بريئة، فجمهور أهل العلم على توثيقها، وأنها كانت عابدة تقية. ونسبوا إليها أنها قالت عن الكعبة: ذلك الصنم المعبود في الأرض ما ولجه الله ولا دخله. وبرأها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مجموع الرسائل، بل منهم من يقول كما يحكي الشيخ عبد الرحمن الوكيل: إنهم لا يذهبون للطواف حول الكعبة؛ لأن الكعبة تأتي إليهم وتطوف حولهم. وينسبون إلى التقي الورع الإمام الزاهد العابد إبراهيم بن أدهم أنه حج إلى الكعبة أربعين سنة ماشياً من كثرة عبادته. يعني: أنه خرج من بيته ولم يصل إلى الكعبة إلا بعد أربعين سنة، فلما كان عند الكعبة اختفت الكعبة عن إبراهيم، فقال: يا رب! صرت أعمى حتى لا أرى الكعبة أم ماذا؟ فسمع هاتفاً يقول له: يا إبراهيم! ما أنت بأعمى، ولكن الكعبة قد تحولت للقاء رابعة. وهذا الكلام خرافات ودجل، وإبراهيم بن أدهم التقي الورع من ذلك بريء.

ضلال البهائية والقاديانية في الحج

ضلال البهائية والقاديانية في الحج وأيضاً البهائية أسقطوا الحج عن النساء وقالوا: بأن الحج واجب على الرجال فقط، وهم لا يعرفون شعائر الحج وقالوا: الحج إلى بيتين: إما إلى بيت البهاء، وهو الذي ادعى الألوهية في بغداد، أو إلى بيت علي محمد الشيرازي في شيراز. والبيتان ليست موجودين في هذا الوقت؛ لأن الحكومة العراقية هدت البيت الأول، والإيرانية هدت البيت الثاني، وانتهى هذا الدجل. وأما أحمد القادياني عميل الإنجليز فقال عن مسجد القاديان في أقصى أغوار الهند: ومن دخله كان آمناً. وقال: الحج هو حضور المؤتمر السنوي لجماعة القاديان. فهذا هو الحج عند القاديانية.

ضلال الشيعة في الحج

ضلال الشيعة في الحج وأما الإثنا عشرية من الشيعة الذين هم سكان إيران فعندهم أن كربلاء أفضل من مكة، بل وأفضل من السماوات السبع، حتى قال قائلهم: هي الطفوف فطف سبعاً بمغناها فما لمكة معنى مثل معناها أرض ولكنما السبع الطباق لها دانت وطأطأ أعلاها لأدناها فقوله: السبع الطباق لها دانت يعني: خضعت وذلت. وقوله: وطأطأ أعلاها يعني: أعلى السماوات السبع. وقوله: لأدناها يعني: لأقل مكان في كربلاء. ومعنى قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97] كما قال الحسن البصري: يظل الدين قائماً ما حج إلى هذا البيت، ويظل الناس على ديانة ما حجوا البيت، ويظل حجيج البيت يتوافدون عليه حتى يهدم الكعبة ذو السويقتين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه (من الحبشة، كأني أنظر إليه أسود أفيدع، بعيد ما بين ساقيه، ينقضها حجراً حجراً). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج إلى هذا البيت). وأما من قال من أمريكا وندب قومه من الكافرين إلى هدم الكعبة، فنقول له: اخسأ فلن تعدو قدرك. نقول له: إذا كان القضاء إلى ابن آوى فتعديل الشهود إلى القرود أي: إن كان لا يحكم إلا ابن آوى فيأتي له بشهود من القرود.

الحث على التعجل بالحج

الحث على التعجل بالحج قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل). وقال صلى الله عليه وسلم: (تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار ينظرون كل من كانت له جدة -أي: عنده مال- ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. يعني: إن استحلوا ترك الحج. فهذا فهم العلماء في قول سيدنا عمر. وعن أبي أمامة فيما حسنه الشوكاني قال: من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً. وهذا في من استحل ترك الحج وكانت عنده المقدرة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة).

فضل الحج والعمرة

فضل الحج والعمرة

الحج والعمرة سبب لتكفير السيئات

الحج والعمرة سبب لتكفير السيئات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) يعني: هذا غفران لكل الذنوب الصغائر والكبائر، كما قال الحافظ ابن حجر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج يهدم ما قبله). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). والحج المبرور هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بر الحج إطعام الطعام ولين الكلام). وقال صلى الله عليه وسلم: (أديموا الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد). فإذا قال شخص: إذا واصلت بين الحج والعمرة فإنه يأتي على كل ما عندي من مال، قلنا له: يكتب الله لك الغنى، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، فإذا قال: كيف هذا وأموالي كلها تصرف في الحج والعمرة؟ قلنا له: هذا قول النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم.

الحج عبادة تصلح العقل وتهدي إلى التفكير الصحيح

الحج عبادة تصلح العقل وتهدي إلى التفكير الصحيح وأعظم فائدة في الحج أنه يحجم العقل، ويضعه في الموضع الذي أراده الله عز وجل له، فعندما تأتي بكل شعائر الحج من رمي الجمرات والطواف حول البيت وتقبيل الحجر فإنك تشعر بالروحانية، فالحج كله روحانية من أوله إلى آخره، وتعظيم للاتباع. من أنت يا أرسطو! ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سيناء حين قرر ما بنيت له وشيد هل أنتمو إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد فلا يأتي أحد يقول لك: إن مواسم الحج زحمة، فلو كان الحج طول السنة! يعني: ممكن أن يحج ناس في رمضان وناس في شوال وناس في شهر آخر، وهكذا على مدى اثني عشر شهراً، فقل له: إن هذا مما لا تهتدي عقول الناس إليه.

المفاضلة بين الحج والجهاد

المفاضلة بين الحج والجهاد والحج لون من ألوان الجهاد وهو أحد نوعي الجهاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) وثم هنا للترتيب، يعني: الإيمان ثم الجهاد. (قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور). وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال كما بين المشرق والمغرب). فالإيمان يأتي الجهاد بعده مباشرة ثم الحج، أي: أن فرض الكفاية أفضل من الحج الذي هو فرض عين على القادر، ففصل العلماء هذا الحديث وقالوا: كان هذا الحديث قبل فرض الحج؛ لأن فرض الحج تأخر. هذا قول. والقول الثاني: أن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج؛ لأنه نفع متعد للأمة، أما نفع الحج فقاصر على صاحبه، قالوا: فإذا تساوى الجهاد والحج -يعني: صار كل منهما فرض كفاية، وهذا إذا كان قد حج حجة الإسلام ثم عرض له أن يحج أو يجاهد، فيجاهد ولا يحج. أي أنه إذا استوى الجهاد والحج يقدم الجهاد؛ لأنه نفع متعد، ولذا قالوا: حجة قبل غزوة أفضل من عشر غزوات، وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات.

بيان أن جهاد النساء والضعفاء والكبار هو الحج

بيان أن جهاد النساء والضعفاء والكبار هو الحج وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: (قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: لكن أفضل الجهاد حج مبرور). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (جهادكن الحج). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحج جهادكِ). وقال صلى الله عليه وسلم: (جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج). وروى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله! إني ضعيف وإني جبان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه؟ الحج). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (النفقة في الحج تعدل النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا وضعتم السروج -يعني: إذا جئتم من الجهاد- فشدوا الرحال إلى الحج؛ فإنه أحد الجهادين. وقال ابن مسعود: إنما هو كد ورحل، فالكد: الجهاد في سبيل الله، والرحل: الحج. ولذلك كان أمير المؤمنين هارون الرشيد يغزو عاماً ويحج عاماً، وفيه يقول القائل: فمن يطلب لقاءك أو يرده ففي الحرمين أو أقصى الثغور

الحجيج وفد الله وضيفانه

الحجيج وفد الله وضيفانه وقال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي صححه الشيخ الألباني: (إن عبداً صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي إنه لمحروم). فالحج رحلة إلى الله عز وجل، ولذا يقول في الحديث: (ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجاج والعمار أنهم وفد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (الغازي في سبيل الله عز وجل والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم). وفي رواية: (الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).

الحج إجابة لأذان إبراهيم عليه السلام

الحج إجابة لأذان إبراهيم عليه السلام وقال الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] قال ابن عباس: ما أسفت على شيء أسفي على أني لم أحج ماشياً، حج إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل ماشيين. روى يحيى بن معين بسند حسنه الحافظ ابن حجر قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال له الله عز وجل: أذن، قال: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ، فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض. وقال مجاهد: فمن حج اليوم إلى يوم القيامة فهو ممن أجاب إبراهيم وقال: لبيك اللهم لبيك. وقال ابن جرير: سمعه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فهو مثل يوم الميثاق. وعالم الغيب لا دخل للعقل فيه إلا التسليم، ولو أنك أتيت بميزان حساس وأردت أن تزن به جبلاً من الجبال لسفه الناس عقلك؛ لأن هذا الميزان الحساس صنع لتوزن به الجواهر الثمينة النادرة، لا أن تضع عليه جبلاً، فأنت أساساً وضعت هذا الجهاز في غير موضعه، فكذلك ما ورد أنه سمع إبراهيم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، يصدقها صاحب العقل الحساس الذي يؤمن بالغيب. والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية نحر مائة من الإبل، وكان فيها جمل لـ أبي جهل، ولما صدت الإبل عن البيت وأرجعتها كفار قريش حنت الإبل إلى البيت كما تحن إلى أولادها. فهاهي الإبل العجماوات تحن إلى البيت الذي بناه خليل الرحمن وفيه أثر من آثار الجنة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترفع إبل الحاج رجلاً ولا تضع يداً إلا كتب الله له بها حسنة ومحا عنه سيئة ورفعه بها درجة).

التلبية في الحج

التلبية في الحج

ألفاظ التلبية وكيفيتها

ألفاظ التلبية وكيفيتها وبداية الحج في الميقات بعد لبس الإحرام فيلبي بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. أو: لبيك لبيك، لبيك إله الحق لبيك، لبيك وسعديك والرغباء إليك والعمل، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، لبيك ذا المعالي، لبيك ذا الفواضل، لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرني جبريل أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية عند الإهلال؛ فإنها من شعائر الحج). وقال أبو حازم فيما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم بها بحاً. ولبى ابن عمر فأسمع ما بين جبلين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى نبي الله موسى واضعاً إصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية).

فضل التلبية

فضل التلبية وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج). والعج: رفع الصوت بالتلبية. والثج: نحر الهدي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا وبشر، قيل: بماذا؟ قال: بالجنة، تبشره بها الملائكة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن التلبية: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا)، أي: على آخر صوتك، والصوت القوي يشهد له الحجر والشجر والمدر، والأحجار تلبي، ودعك من العقل، وحجمه قليلاً، فالأحجار تلبي، والأشجار تلبي، والطين يلبي، وأنت تلبي من الميقات حتى رمي جمرة العقبة، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية. لبيك لبيك دب الركب وانطلقت جموعه والنشيد العذب يدفعه أصداؤه في هضاب الأرض صاخبة والبيد في رحبها نشوى ترجعه وفي الجوانح من وجد ومن ولَهٍ ما جاشت النفس حتى طاب مطلعه ما الصبح ما رقة الأنداء ضاحكة ما الزهر في الروض أزكاه وأضوعه أنقى وأجمل من ترداد تلبية يشدو بها محرم والكون يسمعه أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا وقد كشفوا تلك الرءوس تواضعاً لعزة من تعنو الوجوه وتسلم يهلون بالبيداء لبيك ربنا لك الملك والحمد الذي أنت تعلم تراهم على الأنبار شعثاً رءوسهم وغبراً وهم فيها أسر وأنعم

معنى التلبية

معنى التلبية والتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، في معناها أقوال جميلة لأهل العلم: القول الأول: أنها من لبى ثم لبى، يعني: إجابة بعد إجابة، أي: أنا مجيب لك مرة بعد مرة. وقل للمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا والقول الثاني: من لبى الرجل في المكان وألب إذا قام فيه ولم يبرح، يعني: أنا مقيم على طاعتك يا رب. القول الثالث: من قولهم: امرأة لبة، أي: امرأة محبة لزوجها وأولادها، يعني: أنا محب لك. القول الرابع: من قولهم: بابي تلب بابك، يعني: بابي تجاه بابك، يعني: قصدي واتجاهي إليك يا رب. القول الخامس: من اللب، واللب هو: صافي الشيء، أي: إخلاصي لك يا رب. وكل هذه من معاني التلبية، وأنت تلبي حتى تصل إلى البيت: أبطحاء مكة هذا الذي أراه عياناً وهذا أنا ومهما فعلت فلابد أن تنساب هناك الدموع: هذه دارهم وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات لدى الباب جبريل الأمين براحه رسائل رحمانية النفحات وزمزم تجري بين عينيك أعيناً من الكوثر المعسول منفجرات لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم لبيت كريم الساح والعرصات نسير بأرض أخرجت خير أمة وتحت ظلال الوحي والسورات وكأن السماوات كلها وحي هنا السماوات تبدو قرب طالبها هنا الرحاب فضاء حين تلتمس هنا النبوة تحيا في أماكنها لا الطيب يبلى ولا الأصداء تندرس هنا الصحابة من حول النبي هنا أبو هريرة يروي عنه أو أنس

فضل مكة والبيت الحرام

فضل مكة والبيت الحرام

بيان كون مكة أحب أرض الله إلى الله وأنه حرمها يوم خلق السماوات والأرض

بيان كون مكة أحب أرض الله إلى الله وأنه حرمها يوم خلق السماوات والأرض وهذه البلدة الطيبة أحب أرض الله إلى الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أطيبكِ من بلدة وأحبك إلي، وإني لأعلم أنكِ أحب بلاد الله إلي وأكرمه على الله). ومكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وما أحلت لنبي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تحل لنبينا إلا ساعة من نهار، ثم عادت حراماً بحرمة الله إلى يوم القيامة. أوصى بها الرحمن فهي عظيمة من غيرها الرحمن قد أوصى بها لو لم تكن خير البلاد على الثرى ما كان بيت الله فوق ترابها ولما اصطفاها الله قبلة خلقه ولما سعى الساعون نحو ركابها ولما اصطفى خير البرية مرسلاً بالحق والتوحيد من أعطابها النسك والإيمان من أفيائها والعدل والإحسان من أوصابها فكأنها صوت الزمان وثغره وكأن زمزمها زلال رضابها سجيلها باق على أعدائها وعلى حقول الحق قطر سحابها هي قلب هذي الأرض مقلة وجهها والباقيات علقن في أهدابها فسل الصفا ومنى وكل سرية عن أشرف الماشين فوق ترابها حدت لها قبل الأنام سماؤها بحديد سجيل على سلابها من هاهنا مر الأمين ومن هنا أسرى وفاض العدل من خطابها ما زال يخترق الفضاء دلالها هرم الزمان ولم تزل بشبابها جمع الزمان جميعه فإذا به يجثو خشوع القلب في محرابها فاغسل فؤادك يا شهيد بمائها إن شح ماء فاغتسل بترابها

بناء البيت

بناء البيت قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، أي: نزلت به الملائكة وبنته الملائكة. وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26]، أي: عرفناه مكان البيت. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] والبيت بنته الملائكة أولاً، ثم بناه آدم ثانياً، فخليل الرحمن إبراهيم، فجرهم وقريش، وكل هؤلاء لم يبنوه بالطوب والإسمنت، وإنما كان بيتاً في وسط صحراء تهب عليه الرياح والأعاصير ويظل كما هو، ورسمه كما هو، يحتاج فقط إلى مجرد ترميم. وهذا من الإعجاز في أن يظل هذا البيت كما هو، ولا يحتاج إلا إلى ترميم فقط. قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] وهذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل.

فضل الحجر الأسود والركن والمقام

فضل الحجر الأسود والركن والمقام وفيه أسرار عجيبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من حجارة الجنة). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من الجنة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا بني آدم). وقال ابن عباس في الحديث المرفوع: (نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ما مسه من أدران الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا وشفي). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الركن والمقام ياقوتتان من الجنة طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب). وهذه أسرار من أسرار الجنة، يعني: أن من الجنة ما هو موجود هنا، وهو الحجر الأسود والركن والمقام، وكل هذه الأحاديث صحيحة صححها الشيخ الألباني. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبعثن الله عز وجل هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما وشفتان ولسان ينطق به يشهد على كل من استلمه بحق). ففتش قلبك عند لمسك للحجر أهو كاذب أو صادق حتى يشهد عليك الحجر أو لك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مسح الحجر الأسود والركن يحطان الذنوب حطاً). وهذا الحجر أتت به الملائكة لما ذهب سيدنا إسماعيل عليه السلام ليأتي بحجر من الوادي فوجد أباه قد رفع الحجر فقال: من الذي أتى به إليك؟ قال: أتى به من لم يحوجني إليك، نزل به جبريل وسيدنا إبراهيم عليه السلام في مكانه.

فضل الطواف وزمزم والسعي بين الصفا والمروة

فضل الطواف وزمزم والسعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت صلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة إلا أنه قد شرع فيه النطق، فأقلوا فيه الكلام). ولا يشرع الطواف بغير الكعبة فلا يأتي أحد يقول لك: أنا أطوف حول أضرحة الأولياء، وهذا مثل تنظيم حركة المرور بل قل له: اتق الله عز وجل، فإنه لا يشرع الطواف بغير الكعبة. (ما من رجل يطوف بالبيت أسبوعاً إلا كان كعتق رقبة). ومن السنة الشرب من زمزم، وتسمى: هزة جبريل، وزمازم، وزمزم، وهي أفضل من ماء السماء كما قال ابن حجر، وزمزم فجرها جبريل لأم إسماعيل الصادقة. من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]. وقد جاء في سبب نزول هذه الآية قولان: الأول: أن الأنصار من الأوس والخزرج كانوا يهلون لمناة عند المشلل، وهي قرية ما بين مكة والمدينة، ولا يأتون إلى الصفا والمروة. والقول الثاني: أنهم كانوا قد وضعوا صنماً عند الصفا ويسمى إسافاً، وصنماً عند المروة ويسمى نائلة، وكانوا يحرمون بينهما فتحرجوا من الطواف بينهما كما يفعل أهل الجاهلية، فنزل قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].

فضل أم إسماعيل

فضل أم إسماعيل وانظر إلى الصدق وماذا يفعل، المرأة الصادقة أم إسماعيل: (هذا ما أورثتكموه أمكم أم إسماعيل)، يعني: أن السعي بين الصفا والمروة إرث جعله الله ركناً من أركان الحج، أي: خطوات امرأة صادقة صالحة جعلها الله ركناً من أركان الحج, وانظروا تعظيم الإسلام العظيم للمرأة، وهي -والله العظيم- امرأة مصرية، أتى بها إبراهيم عليه السلام من مصر. وقد ضربت أروع الأمثال في التضحية، يأتي بها إبراهيم عليه السلام إلى موضع مكة الآن بولدها الرضيع، فتقول له: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر؟ يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ فيقول: بلى. فتقول: إذاً فلن يضيعنا. ولم يكن شيء معها من طعام أو شراب غير جراب من التمر وقليل من الماء الذي سينفد بعد قليل، وهي يمكنها أن تتحمل، وأما الولد فلا، ومع هذا تقول: إذاً فلن يضيعنا الله! إذا ضاقت بك الظروف واشتد عليك النوائب فإن كنت عبداً لله عز وجل وعلى دينه فلن يضيعك ولو في المهلكات، بل يحفظك مثلما حفظ يونس وهو في بطن الحوت، ومثلما حفظ موسى الرضيع وهو على ثبج البحر، ومثلما حفظ إبراهيم وسط النيران. فاجعل هذه قاعدة عندك: إذاً فلن يضيعنا.

تفجير جبريل لزمزم

تفجير جبريل لزمزم وجعلت أم إسماعيل لما تلمظ وليدها وبدأ يتلوى من شدة العطش تهرول ما بين الصفا والمروة، ثم سمعت صوتاً فقالت: صه، أغث إن كان عندك غوث، فتبدى لها جبريل وقال: من أنتِ. وهذا اختبار لها فقالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم. فقال: إلى من وكلكما؟ -ولو كانت واحدة غيرها وعندها طعام وشراب يكفيانها سنة لقالت: لا أعرف- فقالت: إلى الله. فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله. ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإقتار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا فضرب جبريل الأرض بجناحه تتفجر زمزم، وتنبع في صحراء الجدب ويعيش عليها إسماعيل ويرتوي من مائها، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه أمكم يا بني ماء السماء)؛ لأن غذاء إسماعيل عليه السلام كله كان على الماء. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (زمزم طعام طعم وشفاء سقم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم). ولذلك لما شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وأتت الملائكة بطست من ذهب الجنة غسلوه بماء زمزم، ولهذا ذهب شيخ الإسلام البلقيني إلى أن ماء زمزم أفضل من الكوثر.

الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة ثم بعد ذلك الوقوف بعرفة، وما أدراك ما عرفة، وقد أقسم الله بهذا اليوم فقال: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] والوتر: يوم عرفة، والشفع: يوم النحر. وعرفة كلها موقف. وفيها أكمل الله عز وجل هذا الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. وفيها أخذ الله الميثاق على البرية من ذرية آدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]). فأخذ الله عز وجل الميثاق الأول على ذرية آدم أنه ربهم وأن يوحدوه، قال ابن الجوزي: ووضع هذا الميثاق في الحجر الأسود. هذا كلام الإمام ابن الجوزي في لطائف المعارف. والله عز وجل يباهي الملائكة وأهل السماء بأهل عرفة عشية عرفة ويقول: (عبادي أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لكم). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الحاج الشعث التفل)، أي: على قدر نصبك في الحج وتعبك فيه يكون عظم الأجر، لا أن تنزل في الفندق السياحي وتدفع ثلاثين ألفاً وتأكل لحماً وكباباً وغيرهما، صحيح أن هذا يسقط عنك فرض الحج، ولكن عظم أجر الحج في النصب والتعب. كما يقول تعالى في الحديث القدسي: (عبادي أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لهم).

من خصائص أمة الإسلام

من خصائص أمة الإسلام لقد خص الله عز وجل هذه الأمة بخصائص لم تكن للأمم السابقة قبلها؛ تكرمة لهذه الأمة، ولنبيها محمد صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وزيادة في فضل الأمة، وهذه الخصائص شاملة للدنيا والآخرة؛ ليكتمل لها الشرف الأمثل، والمكانة العليا عند الله عز وجل وجميع خلقه.

بقاء الخير في هذه الأمة

بقاء الخير في هذه الأمة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: هذه الأمة العظيمة -أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لها من الخصائص ما يجعل ريح الإيمان تهب عليها دائماً، وربيع القلوب والأرواح يروحها أبداً، فتأتي منها الأعاجيب في دنيا الواقع، خليتها لا تزال تعسب، وشجرتها لا تزال تثمر، ولن تستطيع أمة أن تقوم مقامها، أو أن تؤدي دورها، فشرارة الحياة والطموح كامنة أبداً في رمادها، فلا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وتسيل دموعهم على خدودهم سحراً، وعند هذه الأمة اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات، ويضيء لها العالم، وقوارع هذا العصر وهزئه سيقض مضجعها ويوقظها، ويوجهها إلى شريعة رسولها صلى الله عليه وسلم. وقد يقول قائل: دعني من قولك، وقل لي: أين هذه الأمة وواقعها في الحضيض؟ فأقول: عروس جللت بثياب حزن وطاف بها على الشارين عبد مراكبها تسير في بحار ولا هدف على الشطآن يبدو أين هذه الأمة؟ قد يقول قائل: لقد ماتت! فصِحْ على القبر هذه أمة رحلت لم يبق من ذكرها شأن ولا أثر نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر يرافقنا في اليوم بليون كافر ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر حصانك في سيناء يشرب دمعه وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدرٌ يا حبيبي وخيبر وتأبى جراحي أن تضم شفاهها كأن جراح الحب لا تتخثر هذه الأمة أمة عظيمة رغم الوحل الذي تعيش فيه، ورغم واقعها المر، إلا أننا نقول للناس: لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد إنا في ضمير الكون محفور محيانا وإن نشيدنا يسري ضياء الشمس نشوانا وما علموا بأن شهادة التوحيد في الأكوان قدسية وأن رطوبة التوحيد في فمنا مؤيدة بنصر الله محمية فتعال إلى خصائص هذه الأمة، ومتى علمت هذه الخصائص فقم من سباتك ونومك وغفلتك وادع الله عز وجل أن يوقظ النائمين.

خيرية الأمة المحمدية ووسطيتها

خيرية الأمة المحمدية ووسطيتها هذه الأمة خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]. (كنتم) أي: في علم الله السابق المكتوب في اللوح المحفوظ قبل إيجاد الخلائق، وقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، أن هذه الأمة التي ستخرج من وراء الستار السرمدي، والغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل؛ أنها خير الأمم. وقال ابن الأنباري: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يعني: أنتم خير أمة أخرجت للناس، مثلما يقول الله عز وجل: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20] يعني كان وما زال. عن بهز بن حكم عن أبيه عن جده قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل). وفي رواية: (وأفضلها). قال الإمام المناوي: يظهر هذا الإكرام في أعمال هذه الأمة، وفي أخلاقها وتوحيدها، ومنازل أهلها في الجنة، ومقامهم في الموقف، ووقوفهم على تل يشرفون به على الخلائق يوم القيامة، هذه الأمة العظيمة لها دور خاص في التاريخ، ومقام خاص، وحساب خاص. فينبغي أن تدرك الأمة جيداً، أن لها القيادة والريادة في التاريخ، وأنها لم تأت على هامش التاريخ، بل لها القيادة والريادة، وهذا الموقع يحتم عليها أن يكون عندها ما تعطيه للناس، فهذا المكان وهذا القدر لا يعطى للناس اعتباطاً، لكن له تبعاته. وهذه الأمة أمة وسط، قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. والوسط: هو الأفضل، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: قال خيرهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ. الأمة الوسط وسط في كل معاني الوسط، سواء معنى الحسنى والفضل، أو معنى الاعتدال والقصد، فهي أمة وسط في التصور والاعتقاد بين رهبانية النصارى والغلو الروحي، وبين ارتكاس اليهود المادي. أمة وسط في التفكير والشعور، لا تتبع كل ناعق، ولا تقلد تقليد القردة المضحك. أمة وسط في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كلها أيضاً للتشريع والتأديب. أمة وسط لا تهمل شخصية الفرد، ولا تجعله جشعاً أثراً، لا هم له إلا ذاته حتى ولو ضاع المجتمع. أمة وسط في المكان والزمان، في الزمان بين عهد طفولة البشرية من قبلها وبين عهد النضوج العقلي، تحرص على هذا النضوج، وتوجهه مثلما أراد الله عز وجل.

شهادة أمة الإسلام على الأمم السابقة

شهادة أمة الإسلام على الأمم السابقة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. هذه الأمة تشهد للأنبياء يوم القيامة بتبليغ الرسالات، وليست هذه الخصيصة إلا لهذه الأمة. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوح وأمته فيقول الله هل بلغت؟ يقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، أو ما جاءنا من نذير، فيقول الله تبارك وتعالى لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وهو قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]. قال النبي: والوسط العدل، فيدعون فيشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم). هذا ليس خاصاً بنوح فقط، بل بكل الأمم، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم شعيب وغيرهم أن رسلهم قد بلغتهم، وأنهم كذبوا رسلهم. هذه الأمة مجتباة مصطفاة: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. اجتباها الله عز وجل واصطفاها، وفلسطين ما ضاعت منذ وقت قريب، بل ضاعت من زمان بعيد جداً، من أيام الدولة الفاطمية، عندما كانوا حاكمين على مصر، وسلموا فلسطين للصليبيين، ولم يدافعوا عنها أبداً. ضاعت من قبل أيام نايف حواتمه، ومنظمات التحرير العلمانية وغيرها، لما كان الإخوة الملتزمون في منظمة الفتح يقفون لأجل أن يصلوا الفجر أو غيره، أما نايف حواتمه فكانت كلمة السر عنده سب دين الله عز وجل، وهذا الكلام قاله الدكتور عبد الله عزام عليه رحمة الله، وكان يقول: إن تسل عن عنصري عن نسبي أنا مركسي لينيني أممي ضاعت فلسطين وكان ياسر أبو عمار يحني رأسه أمام أرنستو جيفارا ويقول: أنت مرشدنا وإمامنا؛ ولذلك حتى محمود درويش الشيوعي، وهو المستشار الثقافي الأسبق لـ ياسر عرفات، لما ذهبوا إلى اتفاقية أوسلو قدم له استقالة مسببة، وكتب فيها: للحقيقة وجهان، ولون الثلج أسود، ثم قال له: لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة؟! هذه الأمة مجتباة مصطفاة، أمة وارثة لعقائد الأنبياء، أمة أصلها عريق ضارب في أعماق الزمن، موصول الماضي بالحاضر بالمستقبل، قال الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. أمة وارثة لتراث الأنبياء، تراث العقيدة من قبلها، أمة لا تجتمع على ضلالة، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً، ومقتضى العدالة أنهم بمجموعهم يعصمون عن الخطأ. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة)، قال المناوي: أي: لا يجمع علماء أمتي على ضلالة؛ وذلك لأن العامة تأخذ من العلماء دينها، فالمعتبرون هم العلماء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة).

أمة الإسلام كالغيث

أمة الإسلام كالغيث هذه الأمة لا ينقطع الخير منها أبداً، فلها دوام الخيرية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره)، وهذا هنا ليس أسلوب تفضيل وإنما يدل على استمرار الخيرية، كما يقول الشاعر: فوالله ما أدري أفي الطرف سحرها أم السحر منها في البيان وفي الثغر معناه أنها ساحرة في طرفها وفي بيانها وفي ثغرها. وهذا الحديث لا ينافي حديث الصحيح (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). فالناس كالخامة من الزرع، وحاجة خامة الزرع للمطر في البداية أكثر، فهو دائماً يحتاج إلى المطر في بدايته أكثر من حاجته عند قرب الحصاد، نعم المطر كله رحمة وغيث، إلا أن حاجة الزرع إلى المطر في أوله ليس كمثل حاجته إليه عند قرب الحصاد، وهذا يدل على استمرار الخيرية، لكن القرون الثلاثة الأولى هم خير الناس.

أمة الإسلام هم شهداء الله في الأرض

أمة الإسلام هم شهداء الله في الأرض وهذه الأمة هم شهداء الله في الأرض، ولقد (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت! ثم مُرَّ بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت! فقيل: يا رسول الله! قلت لهذه وجبت ولهذه وجبت؟! قال: شهادة القوم المؤمنين). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، إن لله ملائكة تنطق على ألسنة ابن آدم بما في المرء من الخير أو الشر). والشهادة المعتبرة هي للناس الملتزمين، ليس لصعاليك الناس، فعندما ترى شخصاً قاعداً بجوار الطريق يحشش، وعندما يموت آخر مثله يعرفه فتأتي تسأله عن هذا الذي مات وهو يشرب الحشيش؟ يقول: هذا كان مستقيماً، هذا كان أحسن واحد في البلد فهذه شهادة غير معتبرة، مثل شهادة مجدي العمروتي الذي يشتغل تبع شركة أسطوانات الحب حين شهد لـ عبد الحليم حافظ في الذكرى السنوية الأولى لموته، قال في صفحة الوفيات من جريدة الأهرام: هنيئاً للجنة بك! هذا مع أن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لمعين بجنة ولا بنار إلا لمن شهد له الشارع. هذا نور الدين محمود زنكي، وهو في الشام، أيام حصار الفرنجة الصليبيين لدمياط رووا له حديثاً بالتبسم، فلما قرءوا عليه سنده وسلسلته قالوا له: تبسم لتكتمل لك السلسلة بالتبسم، قال: أخشى أن يحاسبني الله عز وجل، كيف أبتسم والفرنجة محاصرون لدمياط؟! فأين النخوة؟ أين الرجولة؟ أين المروءة؟ لقد ضاعت. لما مات موسيقار الجنين عبد الوهاب فقيل له: تعال بالعود واعمل مقطوعة غنائية لـ عبد الوهاب، فيأتي مباشرة على طول: وقم على القبر إن اللحن يحييه فشهداء الناس هم المعتبرون عند الله تبارك وتعالى من الناس، وليسوا (النسناس).

فضل هذه الأمة على الأمم السابقة في الأجر والعطاء

فضل هذه الأمة على الأمم السابقة في الأجر والعطاء هذه الأمة أقل عملاً وأكثر أجراً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من الغدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم؛ فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء؟! فقال الله عز وجل: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء). وهذه الأمة أمة باقية محفوظة، كم من أمم اندثرت وبادت ولم يبق لها نسل كعاد وثمود، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها). فهذه الأمة لن يهلكها الله عز وجل بعذاب يستأصل شأفتها، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لن يجمع الله تعالى على هذه الأمة سيفين، سيفاً منها، وسيفاً من عدوها).

أمة الإسلام سياحتها الجهاد

أمة الإسلام سياحتها الجهاد هذه الأمة سياحتها الجهاد، ورهبانيتها أيضاً الجهاد، والحديث في ذلك صحيح، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاًَ قال يا رسول الله (ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن سياحة أمتي الجهاد في الله عز وجل). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء فقال: أوصني! فقال أبو سيعد: سألت عما سألت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس كل خير، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله، وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض). هذه الأمة العظيمة التي أخرجت الإمام العظيم الحافظ أحمد بن إسحاق السلمي شيخ الإمام البخاري كان له سيف، وكان يهزه ويقول: أعلم يقيناً أني قتلت به ألف تركي كافر، ولو عشت لقتلت به ألفاً آخرين، ولولا أن تكون بدعة لم أسبق إليها لأمرت أن يدفن معي سيفي في قبري. هذه الأمة تحتاج إلى رجل مثل لؤلؤ العاجلي كان يلقب أمير البحار عند صلاح الدين الأيوبي، وكان خادماً لـ صلاح الدين الأيوبي، ثم رقاه إلى أمير البحار، لما قالوا له: إن النصارى الصليبيين قد ركبوا بحر القلزم -البحر الأحمر- يريدون أن يغيروا على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كم عددهم؟ فأخبروه أن عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر فقال: علي بالقيود، فهو كان متيقناً قبل أن يخرج لملاقاتهم أنهم كلهم سيقيدون وسيأتي بهم إلى صلاح الدين فكان له ما أراد، فلما علموا بأنه جاء خلفهم في السفن، تركوا البحر وصعدوا إلى الجبال، فصعد هو وثلة من فرسانه، وأتوا بهم وقيدوهم بالسلاسل كلهم، فضربت أعناقهم تحت سماء القاهرة، وأرسلوا اثنين ليذبحا في منى يوم النحر.

أمة الإسلام أمة مرحومة

أمة الإسلام أمة مرحومة هذه الأمة أمة مرحومة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والمصائب) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها شرفاً وخلفاً بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الأمة أمة مرحومة، عذابها في أيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين، فيقال: هذا فداؤك من النار) هذا يدخل بدلاً منك النار. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقال: هذا فكاكك من النار) والحديث صحيح. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه في النار يهودياً أو نصرانياً). وهذا من فضل الله عز وجل على هذه الأمة، أن الكافر يكون فداءً للمسلم يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجيء يوم القيامة أناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى) يعني: يضع أمثالها على اليهود والنصارى، كما قال الإمام النووي: هذا التأويل لا بد منه، قال: ويضع أمثالها على اليهود والنصارى فمثلاً: هناك مسلم متهاون في الزكاة، والصيام، أو في أداء الصلاة، فيأتي يوم القيامة فبمثل هذا التهاون يعذب الله عز وجل النصراني واليهودي، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. يعني: يحاسب على كفره مرة، ويحاسب على فروع الشريعة التي تركها مرة، يقال له: لماذا كنت كافراً؟ لماذا كنت يهودياً؟ لماذا كنت نصرانياً؟ ثم بعد ذلك: لماذا لم تكن تصلي؟ لماذا لم تكن تصوم؟ لماذا لم تكن تحج؟ {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:42 - 46]. فهم دخلوا النار لأنهم كذبوا بيوم الدين، ولم يصلوا، وكلها فروع شرائع: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] أنت ما كنت تطعم اليتامى والمساكين! أنت كنت كثير الجدال! {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:45 - 46]. قال الإمام النووي: هذا التأويل لا بد منه. ومن هذه الخصائص العظيمة أن هذه الأمة بعثت في خير قرون الزمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت من خير قرون بني آدم قرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت منه).

أمة الإسلام رضي الله لها اليسر وكره لها العسر

أمة الإسلام رضي الله لها اليسر وكره لها العسر هذه الأمة رضي الله لها اليسر، وكره لها العسر قال الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال الله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى رضي لهذه الأمة اليسر، وكره لها العسر). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم أمة أريد بكم اليسر). أراد الله عز وجل أن يضع عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت في الأمم السابقة، يعني: كانت بنو إسرائيل إذا تبول رجل منهم على جسده وثوبه يقرضه بالمقراض. ولما عبدت طائفة منهم العجل كانت توبتهم بأن يقتلوا أنفسهم {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]، لكن نحن يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة). فيتوب الله عليك بمجرد التلطف مع رب العالمين أو علم الله عز وجل صدق نيتك. هذه أمة أريد بها اليسر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عباد الله إن الله وضع الحرج) أي: عن هذه الأمة. ومما يدل على أن الله عز وجل يسر على هذه الأمة: أنه عفا عن حديث النفس، والوسوسة، والهاجس والخاطر، فهذه لا تحاسب عليها هذه الأمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي ما توسوس بها صدورها، ما لم تعمل أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه). إذا وقع الإنسان في إكراه فلا شيء عليه، وكذلك الخطأ والنسيان، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).

من خصائص أمة الإسلام التيمم

من خصائص أمة الإسلام التيمم ومن خصائص هذه الأمة التيمم، وما عرفته أمة قبل هذه الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).

من خصائص أمة الإسلام أن أحلت لها الغنائم

من خصائص أمة الإسلام أن أحلت لها الغنائم ومن خصائص هذه الأمة أن أحل لها الغنائم، وما أحلت الغنائم لأمة من الأمم قبل هذه الأمة، كانوا يجمعون الغنائم، فتنزل نار من السماء فتحرقها، أما هذه الأمة لما علم الله عز وجل صدق المهاجرين من فقراء المسلمين الذين تركوا أموالهم وديارهم فداء لدينهم، عوضهم عن هذه الأموال التي أخذها المشركون بأن أحل لهم الغنائم بعد وقعة بدر مباشرة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لأحد سود الرءوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها) (من ترك شيئاً لله عوضه الله عنه خيراً مما تركه). ترك المهاجرون بيوتهم وأموالهم؛ فعوضهم الله تبارك وتعالى عنها بإحلال الغنائم لهم، فانظر كم تركوا وكم أخذوا!

من خصائص أمة الإسلام جعل الأرض لها مسجدا وطهورا

من خصائص أمة الإسلام جعل الأرض لها مسجداً وطهوراً ومن خصائص هذه الأمة العظيمة: أن الله عز وجل جعل الأرض كلها مسجداً لهذه الأمة، فحيثما أدركتك الصلاة فصل، إلا في تسعة عشر موضعاً أتت فيها كراهة الصلاة، وتحريم الصلاة في هذه المواضع، مثل المقبرة ومعاطن الإبل وغيرها، وما كانت هذه الخصيصة لأمة من الأمم قبلنا. كانوا يصلون في كنائسهم فقط، وفي بيعهم، وهذا كما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أين ما أدركتني الصلاة صليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم). أي: كانوا يصلون في دور العبادة فقط، وهذا هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام المناوي، أما هذه الأمة فإنها تصلي في أي مكان من أرجاء المعمورة.

من خصائص أمة الإسلام أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة

من خصائص أمة الإسلام أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة ومن خصائص هذه الأمة: أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة - أي في الصلاة - وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعط منه نبي قبلي، ولا يعطى منه أحد بعدي). قال الإمام المناوي: كانت الأمم السابقة يصلون منفردين كل واحد على حدة، فخص الله عز وجل هذه الأمة بخاصية الصلاة في جماعة والتراص في الصفوف كصفوف الملائكة. وفضل الله عز وجل هذه الأمة بصلاة العشاء، لم تصلها أمة من الأمم قبلنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعتموا بهذه الصلاة) يعني: انتظروا بهذه الصلاة حتى تدخلوا في الليل (فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، لم تصلها أمة من قبلكم). وإنما كانت ندباً على الأنبياء من قبلنا، كما قال الإمام المناوي، إن صلاة العشاء كانت تصليها الرسل نافلة لهم، أي زائدة، ولم تكتب على أممهم، مثل التهجد، فإنه وجب على رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولم يجب علينا.

من خصائص أمة الإسلام أن الله ستر أعمالها

من خصائص أمة الإسلام أن الله ستر أعمالها ومن خصائص هذه الأمة أيضاً: أن الله ستر أعمالها، سواء كانت الأعمال مقبولة أم مردودة عليها، بل المقبول يبارك الله عز وجل فيه، ويجعل له الثناء الحسن بين الناس. من رحمة الله عز وجل أن هناك ناساً أعفن من العفونة بكثير، يمشون وسط الناس ولا يدري الناس لحالهم، يسترهم الله عز وجل، كما يقول محمد بن واسع: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي، هذا محمد بن واسع زين القراء: كم عدو حط منك بالذم فرقاك كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك ستر الله عليك من القبيح من قبيح أعمالك ما لو فاح لضجت المشام. وهذا من رحمة الله عز وجل أن سترها عليك في الدنيا، وقد يسترها عليك في الآخرة، يقول: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا اليوم أسترها عليك في الآخرة). أما الأمم التي كانت قبلنا فقال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: إن الله ستر على من يتقبل عمله من أمته، وكان من قبلهم يقربون القرابين. كان الرجل إذا أراد أن يعلم هل تقبل الله منه هذا العمل أم لا، يقرب قرباناً بين يدي عمله، فتأكل النار ما تقبل منه، وتدع ما لم يتقبل فلا تأكله ولا تقربه، فيصبح الرجل مفضوحاً بين الناس. يعني: كان الرجل إذا أراد أن يعرف صلاحه من فساده، يقدم القرابين لله عز وجل، فإذا نزلت نار وأكلتها علم أن هذا العمل قد تقبل منه، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. وحسن الشيخ الألباني تفسير ابن عباس وقال: إن له حكم الرفع.

من خصائص أمة الإسلام صلاة بعض الأنبياء خلف بعض صالحيها

من خصائص أمة الإسلام صلاة بعض الأنبياء خلف بعض صالحيها ومن خصائص هذه الأمة: أن بعض الأنبياء صلوا خلف أناس صالحين من هذه الأمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا -وهو المهدي - فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله لهذه الأمة). ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه) فصلاة نبي خلف أحد الصالحين يدل على عظم هذا الصالح، ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الصبح. والعلماء بينهم اختلاف كبير في صلاة النبي مأموماً خلف أبي بكر، والثابت الذي رواه الحافظ ابن حجر العسقلاني أن النبي صلى مأموماً خلف أبي بكر. والذي لا نزاع فيه بين أهل العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صل مأموماً خلف عبد الرحمن بن عوف).

من خصائص أمة الإسلام أن الله اختصها بالسلام والتأمين

من خصائص أمة الإسلام أن الله اختصها بالسلام والتأمين ومن خصائص هذه الأمة: أن الله اختصها بالسلام والتأمين، وحسدتها على ذلك اليهود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين). السلام تحية الله عز وجل لأهل الجنة: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]. وسلام الملائكة على أهل الجنة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. وسلام بعضهم على بعض: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].

من خصائص أمة الإسلام السحور

من خصائص أمة الإسلام السحور ومما خص الله عز وجل به هذا الأمة: السحور أو الفلاح، وهو الغداء المبارك كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر). فالفرق بين صيامنا وصيام النصارى واليهود السحور، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) وصلاة الله ثناء، والصلاة من الملائكة استغفار، فأنت تأكل ويثني عليك الله عز وجل، وليس ذلك لأجل أنك تأكل لنفسك، ولكن لأجل أنك لم تكن إمعة، لا بد أن تكون لك شخصية مستقلة. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلت الفطر، وأخرت السحور)؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون الفطر وينتظرون اشتباك النجوم. فلا بد من السحور ولو على جرعة ماء؛ لتخالف فيها اليهود والنصارى. سبحان الله! انظروا إلى الفرق! لو أنك أتيت لتوقظ شخصاً من النوم قبل الفجر بنصف ساعة في غير رمضان، فإنه سيرفض وربما يغضب! فسبحان من يجعل الأمر على العكس في رمضان! سبحان من يحبب هذا الوقت إلى الناس! فسبحان من يحبب إلى الصادقين الشيء الذي يخالفون به اليهود والنصارى!

من خصائص أمة الإسلام أن الله خصها بيوم الجمعة

من خصائص أمة الإسلام أن الله خصها بيوم الجمعة وهذه الأمة أمة خصها الله بيوم الجمعة، سيد الأيام، عيد المسلمين الأسبوعي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة) وفي لفظ مسلم (هدينا إلى الجمعة، وأضل الله عنها من كان قبلنا). الجمعة هذه لا يعظمها ولا يوقرها إلا عظماء الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث يوم الجمعة زهراء منيرة أهلها- أي: الناس الذي كانوا يوقرون اليوم هذا ويحتفلون به- يحفون بها، كالعروس تهدى إلى كريمها، تضيء لهم، يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضاً، وريحهم يفقع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان ما يفرقون؛ تعجباً -يعني: من جمالهم- حتى يدخلوا الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون). ثم نأتي إلى كامب ديفيد الثانية لما كان يوم السبت قال باراك نوقف المحادثات لأن اليوم عيد قومي، وقال كلينتون: ويوم الأحد هو يوم عيدنا فتتوقف فيه المحادثات، بينما لما يمانع أبو عمار في أن تكون المحادثات يوم الجمعة، يا عم الشيخ العملية باينة من الأول، لو عندك احترام حتى لدينك أو ليوم الجمعة لصنعت كما صنع صاحب مونيكا، وكنت قلت: هذا أيضاً عيد عند المسلمين. ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وآخر يقول: إذا كان الغراب دليل قوم فلا فازوا ولا فاز الغراب إذا كان الغراب دليل قوم يمر بهم على جيف الكلاب أما يوم الجمعة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه)، وذلك كما قال بعض أهل العلم في آخر ساعة قبل غروب شمس يوم الجمعة. ومن كرامة هذا اليوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر). وهذا اليوم يذكرنا باليوم الذي ننتظره جميعاً، وهو يوم المزيد، فيوم المزيد هو يوم الجمعة في دار الدنيا، لكنه يسمى في الآخرة يوم المزيد، يزور أهل الجنة ربهم في هذا اليوم الأسبوعي، ومنهم من يزور الله عز وجل بكرة وعشياً، ولكن كل أهل الجنة يزورون ربهم في يوم المزيد. يوم ينطلقون فيه إلى مولاهم فمنهم من يجلس على كثبان اللؤلؤ، ومنهم من يجلس على منابر من نور قدام عرش الرحمن، فيقول لهم الله عز وجل: (يا عبادي! إن لكم موعداً أريد أن أنجزكموه فيقولون: يا رب! ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة، فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً، فترفع الحجب، فينظرون إلى مولاهم، وينظر مولاهم إليهم، فما أعطي أهل الجنة شيء ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم). فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بي على تلك الربوع وسلموا وقولوا محب قاده الشوق نحوكم قضى عمره فيكم تعيشوا وتسلموا قضى الله رب العالمين قضية بأن الهوى يعمي القلوب ويبكم وحبكم أصل الهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم وحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وحي على روضاتها ورياضها وحي على عيش بها لا يسأم فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم

من خصائص أمة الإسلام أن الله أحل لها بعض الأطعمة

من خصائص أمة الإسلام أن الله أحل لها بعض الأطعمة ومن خصائص هذه الأمة: أن الله تبارك وتعالى أحل لها بعض الأطعمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال).

من خصائص أمة الإسلام أن لها أسباب الشهادة في سبيل الله

من خصائص أمة الإسلام أن لها أسباب الشهادة في سبيل الله ومن رحمة الله عز وجل بهذه الأمة وكرامته لها أنه جعل الطاعون الذي كان رجزاً وعذاباً على الأمم السابقة شهادة لهذه الأمة، فمن مات بالطاعون مات شهيداً. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون شهادة لأمتي، ووخز لأعدائكم من الجن). يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع به الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد). ولذلك توفي في طاعون عمواس أمين هذه الأمة سيدنا أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، لما أصيب ابنه عبد الرحمن المكنى به، قال له: كيف تجدك يا بني؟ قال: يا أبت! {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147]. ثم أصيب سيدنا معاذ في أصبعه، فقال كلمة طيبة! قال: إنها لصغيرة، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر الهيتمي في بذل الماعون في فضل الطاعون، قال معاذ: إنها لصغيرة، وقد يبارك الله في الصغيرة فتصبح كبيرة، فمات بها، ولما جاءه الموت قال في سكرات الموت: اخنق خنقك، فوعزتك إني أحبك، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار، ولا لكراء الأنهار، وإنما لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.

من خصائص أمة الإسلام تعدد أسباب الشهادة

من خصائص أمة الإسلام تعدد أسباب الشهادة ومن كرامة الله عز وجل لهذه الأمة: أن عدد لها أسباب الشهادة: وهذه كرامة كبيرة من الله عز وجل، يأتي واحد فيقول: يا سلام لو أذهب إلى فلسطين لأقاتل. قال تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246] ولذلك يقول الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله: القائد البصير لا ينخدع بحماس الجماهير الثائرة من حوله، وإنما لا بد من أناس فيهم الإيمان، والإيمان لا يأتي بين بكرة وعشية، وإنما يحتاج إلى طول وقت، فلا بد من الإعداد، ودولة الخلافة التي احتاجت إلى قرون لإسقاطها، تحتاج إلى قرون لقيامها. فمن رحمة الله عز وجل أنه علم ضعف هذه الأمة فنوع لها أسباب الشهادة، من فاتته الشهادة في ميدان المعركة قد يأخذ أجرها وهو على فراشه: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن كان على فراشه). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! ثم قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في البطن -المبطون- فهو شهيد، والغريق شهيد). المبطون الذي هو مؤمن، أي: مواظب على الصلاة، فإذا جاء له مرض البلهارسيا، فيتسبب في أن تجتمتع المياه في بطنه، فتضغط على الحجاب الحاجز، ولا تتركه ينام أو يأكل، فربنا يرحمه إذا مات على هذا وصبر، يكون أجره مثل أجر الشهيد. أو رجل مصاب بالإسهال كما قال أهل العلم، ومات بهذا المرض الشديد، فإنه يموت شهيداً، وكذلك من أصيب بمرض السل فمات بسببه أو من مات تحت الردم، فإنه يكون له أجر الشهيد. والنفساء: المرأة التي تموت وجنينها فيها، أو تموت عند الولادة، ومن وقصه بعيره في سبيل الله، ومن مات حتف أنفه في سبيل الله، وصاحب ذات الجنب، ومن مات بالسل، ومن قتل دون ماله أو دون أهله، أو دون دينه، أو دون دمه، فهو شهيد. وهذه رحمة من الله تبارك وتعالى لهذه الأمة، فقد يرزقك الله عز وجل بمرض يكون سبباً لأن تعطى مثل أجر الشهيد.

من خصائص أمة الإسلام أنها أمة الإسناد

من خصائص أمة الإسلام أنها أمة الإسناد هذه الأمة العظيمة أمة الإسناد، خصنا الله عز وجل بالإسناد دون بقية الأمم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم). الإسناد هو: حدثنا فلان قال أنبأنا فلان قال أخبرنا فلان، وقد خص الله عز وجل به هذه الأمة، وليس الإسناد لأمة من الأمة إلا لهذه الأمة، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. لولا الإسناد لكان الرجل -كما قال الشافعي - مثل حاطب ليل، قد يحمل الأفعى بين حطبه وهو لا يدري. يأتي رجل -لا يدري ما أتى به- بكتاب ثعلب وهو أبو العباس النحوي لا يعرف الأحاديث الضعيفة من الصحيحة، فيقول لك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربيع أمتي في البطيخ والعنب)، فيكون هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة. وقيل لـ عبد الله بن المبارك: ما هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة من الرجال، لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وقيل لـ عبد الله بن المبارك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبياً). فقال: ولا على لسان نبي واحد، يكفيك رائحته؛ فإنه يؤذي البطن. ولما صارت المساجد تحت وزارة الأوقاف وجد جيل جديد يصعد على المنابر يحدث بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان! ولقد كان عندنا إمام يقول لي: هل تعرف اسم أخي سيدنا يوسف؟ قلت له: لا أعرف، قال: أنتم يا السنيون جهلة! قلت له: أخبرني (يا أبو العريف) ثم قال لي: تعرف اسم ابن سيدنا نوح من القرآن؟ قلت: لا ما أعرف؟ قال: أما أخو سيدنا يوسف فاسمه (نكتل)! وأما ابن سيدنا نوح فاسمه: (سآوي)! يصعد أحدهم المنبر فيقرأ من كتاب مكتوب فيه: إن الزنا عم وإن الربا طم، آه آه، فقال لك: إن الزناعم والرباطم واحد وخمسين واحد وخمسين! نسأل الله السلامة.

من خصائص أمة الإسلام وضع البركة في البكور

من خصائص أمة الإسلام وضع البركة في البكور ومما خص الله تبارك وتعالى به هذه الأمة أن بورك لها في بكورها: يعني: المولى عز وجل يبارك لها في الرزق عند البكور، رزق الأجساد أو رزق القلوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها). وعن صخر بن وداعة الغامدي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها). وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل سرية أرسلها في أول النهار، وكان صخر إذا أرسل تجارة أرسلها في أول النهار؛ فكثر ماله، حتى كان لا يدري أن يضعه! الإمام أحمد بن حنبل -وهو طفل صغير- كان يذهب إلى أستاذه في علم الحديث وإلى شيوخه قبل صلاة الفجر، فكانت أمه تستحلفه بالله ألا يخرج حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر. لو قلت للإخوة: تعالوا لأعطيكم درساً قبل الفجر فهل سيأتي أحد؟ إذا جاء لك بعد العشاء فهو في خير. والذي يأتي بعد الفجر إلى الدرس فإنه لا ينسى، وهو وقت مبارك، فيه تسبيح المستغفرين، ثم بعد ذلك تخرج إلى طلب قوتك، وقوت أولادك، فيبارك الله عز وجل. لكن بعد ما دخل -النيل سات- وجدت عندنا عشش مبنية بالطوب واللبن، والرجل يسكن هو وامرأته وأولاده جنب الجاموسة، بحيث لا يوجد باب يفصلهم عن الجاموسة والغنم، ولكنه يشتري تلفزيوناً ملوناً ودشاً، ويجلس أمام قناة أوربت قناة الأفلام، ويشاهد عشرة أفلام في اليوم، طبعاً هو طرزان! فلا زراعة ولا فلاحة، فهو رجل أوربت جالس قدام قناة أفلام ليل نهار. والله العظيم إلى حد أن الثعابين والفئران ملأت الحقول، فمن أين يأتي الخير؟ ولقد كنت أرى جدي رحمه الله قبل مدة من الزمن يستيقظ قبل صلاة الفجر فيتوضأ، ويذهب ليصلي في المسجد، ثم يقعد يقرأ قليلاً من القرآن، فتأتي له زوجته بالبيض والزبدة والشاي وقبل أن تشرق الشمس يكون في حقله، ولقد كانت الأرض الزراعية قليلة لكن البركة كانت موجودة، وكان ينام بعد العشاء مباشرة، لكن اليوم الناس يقعدون أمام التلفاز أربعة وعشرين ساعة، فكيف سيذهبون إلى عملهم وهم لا يبكرون فيها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بارك الله لأمتي في بكورها).

من خصائص أمة الإسلام أن لها النصر والغلبة إلى قيام الساعة

من خصائص أمة الإسلام أن لها النصر والغلبة إلى قيام الساعة كذلك من خصائص هذه الأمة: أن لها النصر والتمكين والغلبة إلى يوم الدين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر أمتي بالنصر والثناء والتمكين، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالتيسير والثناء والرفع). رفعة بالدين، والتمكين في البلاد والنصر، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب.

من خصائص أمة الإسلام أنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين

من خصائص أمة الإسلام أنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين أما في الآخرة: فهذه الأمة أفرادها محجلون يوم القيامة من الوضوء، وغر من السجود، النور في جباههم وركبهم وأقدامهم من آثار الوضوء والسجود، وليست هذه السمة والعلامة إلا لهذه الأمة المباركة. ولها خصائص أيضاً كما جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعرف أمتي من بين الأمم، أنظر عن يميني فأعرف أمتي، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي، فقال رجل: يا رسول الله! وكيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك؟ قال: غر محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم أنهم يأتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم الذي بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) والحديث صحيح. قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].

من خصائص أمة الإسلام تخفيف طول القيام عليها يوم القيامة

من خصائص أمة الإسلام تخفيف طول القيام عليها يوم القيامة من خصائص هذه الأمة: أن يوم القيامة الطويل الذي قال فيه المولى تبارك وتعالى: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، يجعله الله عز وجل قصيراً على هذه الأمة، فلا تحس به ولا تشعر، فيجعله على هذه الأمة كقدر ما بين صلاة الظهر إلى العصر، والحديث صحيح. وجاء في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر) والحديث صححه الشيخ الألباني.

من خصائص هذه الأمة أنها أول من يحاسب يوم القيامة ويمر على الصراط

من خصائص هذه الأمة أنها أول من يحاسب يوم القيامة ويمر على الصراط ومن خصائص هذه الأمة: أنها أول أمة تحاسب يوم القيامة؛ إكراماً من الله تبارك وتعالى لها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون). ومن خصائص هذه الأمة، أنها أول الأمم مروراً على الصراط، وبعد الصراط تكون في مكان مرتفع تشرف على الخلائق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز على الصراط). وفي حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على كثب -مكان مرتفع- فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما أشاء أن أقول، وذلك المقام المحمود).

من خصائص أمة الإسلام في الشفاعة

من خصائص أمة الإسلام في الشفاعة ومن خصائص هذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر منها فيدخلون الجنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خبأ دعوته شفاعة لهذه الأمة. ومن خصائص هذه الأمة أنها أول الأمم دخولاً الجنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأناس سيعطون منازل في الجنة، لا تبلغهم إياها أعمالهم، وإنما يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فيزدادون درجات في الجنة لا تبلغها أعمالهم. ومن خصائص هذه الأمة: أن أناسه معظمون يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم). وبنو تميم أكبر قبيلة عربية من حيث العدد، فقد يصل عددها إلى عشرين أو ثلاثين ألفاً أو أكثر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة ومضر، قالوا: لست أنت يا رسول الله؟! قال: لست أنا). قالوا: إن هذا الرجل هو عثمان بن عفان أو أويس القرني، فهذا الرجل بشفاعته يدخل ثلاثون ألفاً الجنة. والشهيد يشفع في سبعين رجلاً من أهل بيته، فما بالك بالذي يشفع مثلاً في ثلاثين ألفاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم!

من خصائص أمة الإسلام أنها أول الأمم دخولا الجنة

من خصائص أمة الإسلام أنها أول الأمم دخولاً الجنة ومن خصائص هذه الأمة أيضاً أنها أول الأمم دخولاً الجنة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة). أما أول زمرة تدخل الجنة! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو: (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال: المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فتقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك، فيفتح لهم). فهؤلاء لم يكونوا يملكون الكنوز والخزائن والقصور التي على شاطئ الريفيرا ونهر الصين والراين التابعة لمنظمات التحرير والوزراء؟! وهناك شاب فلسطيني أجرب اشترى سيارة الأميرة ديانا -وهي سيارة محطمة ومكسرة- بثلاثة ملايين دولار، وهو عبارة عن تاجر فلسطيني، فما ظنكم بالقادة الذين صاروا أثرياء على حساب القضية الفلسطينية! فأولئك الذين هدموا عرش كسرى وقيصر من المهاجرين يقال لهم: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: على ماذا سنحاسب؟ ما كان عندنا شيء! وهؤلاء أصحاب الصفة كانوا ينامون في المسجد، فيقولون: إنما كانت سيوفنا على عواتقنا في سبيل الله فعلى أي شيء كنا نحاسب؟!

من خصائص أمة الإسلام أنها أكثر أهل الجنة

من خصائص أمة الإسلام أنها أكثر أهل الجنة ومن خصائص هذه الأمة أنها أكثر أهل الجنة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال الراوي: فكبرنا! فقال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبرنا، فقال: أترضون أن تكونوا نصف أهل الجنة؟ فكبرنا، فقال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة. فنصف أهل الجنة من هذه الأمة، وزاد الله عز وجل نبيها سدساً آخر فوق النصف، فثلثا أهل الجنة من هذه الأمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منهم ثمانون صفاً). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم يوم القيامة فرأيت النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد). ما هذا؟! نبي يرسله الله إلى أمة ولا يستجيب له أحد! هل هم عصاة إلى هذه الدرجة؟! ثم قال: (ورأيت النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، والنبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد). فهذه الأمة ثلثا أهل الجنة، وأكرم أهل الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة) أي: خلا النبيين والمرسلين. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حمزة سيد الشهداء يوم القيامة)، وكلهم من هذه الأمة.

من خصائص أمة الإسلام دخول سبعين ألفا منها الجنة بغير حساب

من خصائص أمة الإسلام دخول سبعين ألفاً منها الجنة بغير حساب ومن خصائص هذه الأمة أن سبعين ألفاً منها يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. وفي رواية: (أو سبعمائة) أي: سبعمائة ألف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً). أي: سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ومع كل ألف من هؤلاء سبعون ألفاً أيضاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. قال: (وثلاث حثيات) فسيدنا أبو بكر قال: إذاً يدخلهم كلهم الجنة، فقال سيدنا عمر: وما عليك أن يدخلهم كلهم الجنة يا أبا بكر! فزاد الله تبارك وتعالى نبيه يقول: (مع كل واحد منهم سبعين ألفاً). وقد فرحت فرحاً شديداً لما عرفت أنه صححه الشيخ الألباني في المجلد الثالث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل، مع كل واحد سبعين ألفاً). وهذا رواه الإمام أحمد وأبو يعلى في مسنده وصححه الإمام البوصيري والشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، حديث رقم (1484). فهؤلاء سبعون ألفاً مع كل واحد سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فيكون عددهم: أربعة آلاف مليون وتسعمائة مليون شخص، يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الخوف من الله

الخوف من الله الخوف من الله تعالى ضرورة يحتاج إليها المسلم، ولا يخلو منه قلب إلا قلب خرب، وهو صفة الصالحين، ودليل تعظيم رب العالمين. ويوقظه في القلب جملة من الأسباب، ومنها خوف فوات التوبة قبل الموت أو نقضها، وزوال رقة القلب، والميل عن الاستقامة، وسابقة علم الله بمآل العبد، وسكرات الموت، وأهوال يوم القيامة، وغير ذلك من الأسباب الداعية إلى الخوف من رب العزة جل جلاله.

فضل الخوف من الله تعالى

فضل الخوف من الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: فإن الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه، وهو سراج في القلب به يبصر الخير والشر، وإذا دخل الخوف القلوب أحرق مواضع الشبهات منها، وطرد الدنيا عنها. قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلباً إلا وخرب هذا القلب. ولكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف من الله عز وجل كما قال حاتم الأصم. ولا تغتر برؤية الصالحين، فلا أصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفع برؤيته المنافقون ولا الكافرون، ولا تغتر بطيب المكان، فذلك لا ينجيك من الله عز وجل إن لم تكن صالحاً، فلا مكان أطيب من الجنة، وفيها لقي آدم ما لقي، فآدم عليه السلام لم يسامح في لقمة، وهو صفي الله وكليمه، ودخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم وتنشط فيما سوف تكره جده كذلك في الدنيا تعيش البهائم

نصوص تبعث على الخوف من الله عز وجل

نصوص تبعث على الخوف من الله عز وجل

نصوص قرآنية باعثة على الخوف من الله

نصوص قرآنية باعثة على الخوف من الله قال الله تبارك وتعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61]. فرار السعداء إلى الله عز وجل، وفرار الأشقياء من الله عز وجل، وكل إنسان إذا خفته تهرب منه، أما الله عز وجل فإنك إذا خفته تهرب إليه. قال الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قال أبو عيسى الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه لشهواته. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن). وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] أي: اطلاع الله عز وجل عليه، ورؤية الله له {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. عجباً لك يا ابن آدم! تحرك الريح أستار بيتك وأنت مستلق في بيتك، فيضطرب فؤادك لنظر الناس إلى عورتك، والاطلاع على ما خفي من أمرك، وأنت عالم أن الله ناظر إليك من فوق سبع سماوات، يراك مصراً على المعصية، فلا ينخلع فؤادك لنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات. {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]. وقال الله عز وجل عن عباده الصالحين: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]. وقال عز وجل: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]. وقال عز وجل: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21]. فاتقوا الله عز وجل؛ فإن أخذ الله أليم شديد.

نصوص نبوية باعثة على الخوف من الله

نصوص نبوية باعثة على الخوف من الله كان عبد الله بن المبارك إذا نام في مضجعه يتقلب ويقول: ومن يقدر على أخذ الله، إن أخذه أليم شديد. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل)، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، أي: بكاء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر) وقال: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، ولا رأيت مثل النار نام هاربها). وفي حديث عدي بن حاتم الطائي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). فهذه جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تبعث على الخوف والخشية والوجل والإجلال والهيبة من الله عز وجل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون كمقدار ميل) قال سليم بن عامر الراوي عن المقداد: فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكحل به الجفون؟! وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يعرقون يوم القيامة، فيذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يلجمهم حتى يبلغ آذانهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) والإدلاج: السير آخر الليل. يقول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

أثر مبارزة الله بالمعاصي على المجتمعات

أثر مبارزة الله بالمعاصي على المجتمعات دخل النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة زينب بنت جحش فزعاً مرعوباً فقال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق بأصبعيه- قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد حلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل). وما زلزال تركيا ببعيد، فالحكومة التركية أعطت -كما نشر في جريدة الأهرام- وسام الجمهورية من الطبقة الأولى لصاحبة أكبر مؤسسات الدعارة، قالوا: لأنها جلبت المال الوفير للاقتصاد القومي التركي، فأعطوها أعظم جائزة في الجمهورية التركية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر). وأظن أن المعازف والقينات أصبحت كثيرة جداً، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟! وما لكم لا ترعون لله حقاً؟! وما لكم لا تقدرون الله عز وجل حق قدره؟! أأمنتم عذاب الله عز وجل؟! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم الصالحون). فإذا كان فيهم قوم صالحون يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله وإلى مغفرته. فهذا الزلزال الذي أصاب تركيا من غضب الله عز وجل، وكيف لا يغضب الله عز وجل على دولة كانت دولة الخلافة في يوم من الأيام؟! فتركيا فتحت بودابست عاصمة المجر، وبلاد البوسنة والهرسك، وفتحت بلغاريا، وهزمت فرنسا في قعر دارها، فهذه الدولة نشرت أعلام الإسلام، ثم يأتيها أتاتورك الرجل الصنم الذي أذهب القرآن، وحول مسجد آياصوفيا إلى مطعم آياصوفيا، وألغى لغة القرآن في تركيا، وأراد أن يعتدي على أخت زوجته، وأطلق عليها الرصاص لما رفضت، وحال بينه وبين ذلك خادمه، وأقام سد أتاتورك على منبع الفرات ومنبع دجلة حتى لا يصل الماء إلى سوريا أو العراق، وأغلق المدارس الدينية، ومنع المحجبات من النزول في الشوارع، فكيف لا يغضب الله عز وجل؟! فهذا الزلزال أخذ في لحظة واحدة أربعين ألفاً {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. فلا بد من وقفة للحساب.

نماذج من حياة الخائفين

نماذج من حياة الخائفين كان سيدنا مالك بن دينار يقول: لو أن لي أعواناً لفرقتهم في منارات الدنيا يصيحون بالناس: النار، النار! علهم يفيقون من غفلتهم. ويقول: والله لقد هممت أن آمر إذا أنا مت أن يطرحوني على مزبلة، وأن يضعوا الرماد على وجهي، ويقال: هذا جزاء من عصى الله. فمن رآني لم يعص ربه. وهذا خوف الصادقين. وانظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ربما بكى في الصلاة حتى يسمع لصوت صدره أزيز كأزيز المرجل، وكان إذا تغير الجو دخل وخرج، وعرف ذلك في وجهه، فتقول له السيدة عائشة: إن الناس إذا رأوا المطر استبشروا، فقال: (وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب من الله عز وجل؟). يقول سيدنا أنس بن مالك: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات. أي: من المهلكات. وروي أن أحد العباد كان بمكانٍ فغشي عليه، فلما أفاق سألوه: فقال: هذا مكان عصيت الله فيه يوماً من الأيام. وسيدنا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يقول المولى عز وجل فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] كان إذا ذكر ذنبه تأوه، كما كان يفعل سيدنا داود، يقول: أواه من عذاب الله، قبل أن لا تنفع أواه. ويقول: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك، فكيف أستطيع حر نارك؟! يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك وهو الرعد، فكيف أستطيع سماع صوت غضبك؟! فيا عباد الله! ابكوا قبل أن لا ينفع البكاء، وقبل أن تكون الدموع دماً، وقبل أن يؤمر بنا ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بجبريل كالحلس البالي من خشية الله). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً؟! فقال: لم يضحك ميكائيل منذ خلقت النار).

أسباب الخوف من الله تعالى

أسباب الخوف من الله تعالى

الخوف من الموت قبل التوبة أو من نقضها

الخوف من الموت قبل التوبة أو من نقضها والخوف -يا إخوتاه- له أسباب عديدة، منها خوف الموت قبل التوبة، فتخاف أن تموت قبل أن يتوب الله عز وجل عليك، وربما ران الذنب على القلب فمنعك من التوبة، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]. فقد يعجل لك الموت قبل التوبة، والنفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل. وهناك الخوف من نقض التوبة: أي أن تتوب إلى الله عز وجل، ثم تعود في توبتك مرة أخرى، أو أن تكون التوبة توبة علة.

الخوف من عدم قبول العمل وعدم الوفاء بأمر الله عز وجل

الخوف من عدم قبول العمل وعدم الوفاء بأمر الله عز وجل إن الرجل الصالح قد يفعل العمل الصالح ويخاف عدم القبول، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. ويخاف من الرياء، ومن أن يكون فعله لغير وجه الله عز وجل، ويخاف أن لا يبقى على هذا العمل إلى موته، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام:160] يعني: أتى بها، وصبر على فعلها إلى الموت، فهو يخشى ألا يوفق للطاعة، فهذا خوفهم وهم يعملون الصالحات، فكيف بخوف من يصرون على الموبقات والسيئات؟! وهناك الخوف من عدم الوفاء بأمر الله عز وجل، حيث لم تقدر الله عز وجل حق قدره، ولم تف بأوامر الله عز وجل، وكان بإمكانك أن تفي بها.

الخوف من زوال رقة القلب

الخوف من زوال رقة القلب وهناك الخوف من زوال رقة القلب، فتقسو القلوب، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]. أتى وفد اليمن سيدنا أبا بكر في زمن الخلافة، فلما سمعوا القرآن بكوا، فقال سيدنا أبو بكر: هكذا كنا حتى قست القلوب. ويقول أبو بكر: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، يا ليتني كنت شعرة في صدر امرئ مسلم، أو في جنب امرئ مسلم. قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. وما كان بين إسلامهم وعتاب الله عز وجل لهم بهذه الآية إلا أربعة سنين، وكأن الله عز وجل استبطأ الصحابة فعاجلهم بهذه الآية بعد أربعة سنين فقط. فحذار -يا أخي- من قسوة القلب، فإن القلب إذا قسا لا تنفع فيه المواعظ أبداً، وإذا حضر قلبك فأقل شيء تراه يذكرك بالله عز وجل، وإن غاب قلبك فإن مائة ألف نبي لا يوصلون إليك موعظة.

الخوف من الميل عن الاستقامة

الخوف من الميل عن الاستقامة وهناك خوف من الميل عن الاستقامة على الأمر والنهي، والاستقامة على مذهب أهل السنة والجماعة، والاستقامة على التوحيد، فتخشى من البدعة، وتخشى أن تكون من الذين ظلموا. وهناك الخوف من استيلاء العادة في اتباع الشهوات، فتطل على شهواتك متبعاً لها حتى تصبح عادة لك لا تستطيع أن تفارقها، ثم بعد ذلك يكلك الله إلى حسناتك، وإن أعظم الخذلان أن يكلك الله عز وجل إلى أعمالك فيصيبك الغرور والعجب، وهو صنو الكفر. فاقطع كل ما يقطعك عن الله، فإذا ابتليت بصاحب يقطعك عن الله عز وجل فاتركه؛ لأنه قاطع طريق إلى الله عز وجل، وقاطع طريق الآخرة أشد من اللص، فاللص يسرق جيبك، أما هذا فيسرق رأس مالك، ويسرق وقتك مع الله عز وجل.

الخوف من تبعات الذنوب

الخوف من تبعات الذنوب وهناك بعد ذلك خوف تبعات الذنوب، فتخاف من اغتيابك للناس، ومن خيانتك للناس، ومن غشك للناس، ومن إضمار السوء للناس، فحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرك من الأنفس عليها حسيب غيرك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال له أبو بكر: قد شبت يا رسول الله قبل المشيب! فيقول: (شيبتني هود وأخواتها).

الخوف من الاغترار بالدنيا والركون إليها

الخوف من الاغترار بالدنيا والركون إليها ومن أسباب الخوف الخوف من الاغترار بالدنيا والركون إلى الدنيا. والاغترار بزخرف الدنيا أن تميل إلى فتنة الدنيا، واعلم أن الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها).

الخوف من الفتن

الخوف من الفتن وهناك الخوف من فتن الدنيا: فالإنسان يخشى على نفسه من الدجال، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر للقلوب الحية -قلوب الصحابة- أمر الدجال فخافوا، حتى قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه). فالصحابة خافوا على أنفسهم من هذه الفتنة، وهي أعظم فتنة من يوم أن خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة.

الخوف من اطلاع الله على السرائر

الخوف من اطلاع الله على السرائر وهناك الخوف من اطلاع الله على سريرتك حال الغفلة عنه. قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] فهو يعلم السر وأخفى من السر. فخف من الوقوف بين يدي الله عز وجل يوم تبدو السمات فوق الجباه، ويظهر المخفي. فاتق الله تبارك وتعالى، أما تخاف من اطلاع الله عز وجل على قلبك وأنت تزخرف ظاهرك للناس؟! فإياك أن تكون ولياً لله في العلانية، عدواً له في السر، وأن تكون ولياً لله في العلانية، ولياً للشيطان في السر.

الخوف من سوء الخاتمة

الخوف من سوء الخاتمة ثم بعد ذلك الخوف من أن يختم لك بخاتمة السوء. يقول سيدنا سفيان الثوري: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام. ولما نزل به الموت بكى، فقالوا: لم هذا الجزع؟! قال: والله ما خوفي من الذنوب ولو بلغت ذنوبي أمثال الجبال، وإنما أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت. وأشد من هذا خوف السابقة، فماذا سبق في علم الله لك في اللوح المحفوظ؟! وماذا كتب الله لك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؟! كان أحد الصالحين يأتي إلى أخيه ويقول: تعال لنبكي لعلم الله فينا؟ أي: ماذا قدر علينا ربنا في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض.

الخوف من سكرات الموت

الخوف من سكرات الموت ثم بعد ذلك الخوف من سكرات الموت، ومن شدة الموت، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات).

الخوف من رؤية ملائكة الموت

الخوف من رؤية ملائكة الموت والخوف من رؤية ملك الموت، ومعاينة الرسل. ويروى أن رجلاً وعظ سفيان الثوري، فذكر الله عز وجل حتى رق، فقال سفيان: والله إني لأحب الموت الآن. فقال: ولكني والله لا أحب الموت، فقال: لمَ؟ قال: لمعاينة الرسل. ثم قام يبكي يخط الأرض برجله. يعني بذلك رؤية ملك الموت ولم يره من قبل، ورؤية ملائكة العذاب، أو ملائكة الرحمة. فالسكرات شيء، ورؤية ملائكة العذاب شيء، وضرب ملائكة العذاب شيء آخر، {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27].

الخوف من أهوال القبور

الخوف من أهوال القبور ثم بعد ذلك الخوف من القبر: ويروى (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جمعاً من أصحابه قد اجتمعوا، فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ فقالوا: يا رسول الله! على قبر يحفرونه. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يدي إخوانه، ثم توجه إلى القبر وبكى حتى بل الثرى من دموعه، وقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه). فخف هذا اليوم ولا تتغافل عنه، وأعد لرؤية ملك الموت، ونزولك بدار البلاء بين أقوام لا يتكلمون، وأحباء لا يتزاورون، صار عليهم الجديدان سرمداً إلى يوم يبعثون. فيا خبر! ما أثكلك، وتحتك الدواهي، مر بعسكرهم إن كنت ماراً، وادعهم إن كنت داعياً، وانظر إلى تقارب منازلهم، وسلهم عن الأعين النظرة التي كانوا بها إلى اللذات ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة وعن الأجساد الناعمة. سلهم عما فعلت الديدان باللحمان تحت الأكفان، سالت الأحداق عن الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وقيحاً وصديداً، واتخذت هوام الأرض وحشراتها في أبدانهم مقيلاً. يا مغسل الوالد والولد، ويا تاركه في التراب وحده، قل لي: بأي خديك بدأ الثرى؟! وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟! وأين ثمارك اليانعة؟! إني سألت التراب ما فعلت بوجوه فيك مبعثره فقال لي صيرت ريحهمو يؤذيك بعد مناظرٍ عطره وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نظره لم تبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة ففي يوم من الأيام سيخرج كل منا في رحلة لا يرجع منها أبداً، وسيركب كل منا مركباً لا يركب مثله أبداً، وسنوضع على شفير القبر، فماذا أعددت من النور لهذه الظلمة، وماذا أعددت من الغنى لهذا الفقر، غم الضريح، وردم الصفيح، أفلا يبكيك هذا؟!

الخوف من سؤال الملكين

الخوف من سؤال الملكين ثم بعد ذلك الخوف من سؤال الملكين: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال) يعني: سؤال الملكين عن ربك ودينك ورسولك، فهي فتنة تساوي في هولها فتنة المسيح الدجال. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فإياك أن تقول: هاه هاه لا أدري! فإن كنت لا تدري في دار الدنيا فلن تدري غداً، فيقال لك: لا دريت ولا تليت، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، فحذار من ليلة تتمخض بنا عن يوم القيامة.

الخوف من عذاب القبر

الخوف من عذاب القبر ثم بعد ذلك الخوف من عذاب القبر: كان الوسيم بن جميل الثقفي عم قتيبة بن سعيد الشيخ الإمام إذا ذكر القبر بكى ويقول: أواه من القبر وظلمته، أواه من القبر وشدته، أواه من القبر وضيقه! وكانت إحدى العابدات إذا أطفأت السراج يبكي زوجها، وعندما تسأله عن ذلك يقول: يذكرني هذا بظلمة القبر. ففي القبر يفرش لك -إذا هلكت- فراش من نار، ومهاد من نار، وتنظر من طاقة إلى النار، وتعيش كهيئة المنهوش، ويضيق عليك القبر حتى تختلف أضلاعك، فنعوذ بالله من ليلة صباحها يؤدي بنا إلى عرصات القيامة. ثم بعد ذلك الخوف من القيامة وأهوالها، وهذا أمر سنفرده مع ذكر الخائفين.

الخوف من كشف الستر يوم القيامة

الخوف من كشف الستر يوم القيامة ثم الخوف من كشف الستر أمام الناس: أي: كشف ما ستر من أمرك على الناس في دار الدنيا من القبائح التي لو ظهرت لكانت الذلة والهوان، فستبدو علانية أمام الناس يوم أن يقال: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، فيصيح بك الأشهاد على مرأى من الناس: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]. ثم بعد ذلك الخوف من المقام بين يدي الله عز وجل. كان أحد الصالحين يقول: والله ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها موقفاً بين يدي الله عز وجل.

الخوف من المرور على الصراط

الخوف من المرور على الصراط ثم بعد ذلك الخوف من المرور على الصراط: فيد تعلق، ورجل تطيش، وإنما الصراط دحض مزلة، فكيف تقوى على المرور عليه؟! قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فنحن من الورود على يقين، ومن النجاة على حذر. ولما نزلت هذه الآية بكى سيدنا عمر، فلما سئل عن ذلك قال: إن ربي أنزل على رسوله في كتابه آية ينبئني فيها أني وارد النار، فأنا من الورود على يقين ومن النجاة على حذر. قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]

الخوف من السؤال يوم القيامة ومن عذاب النار

الخوف من السؤال يوم القيامة ومن عذاب النار ثم الخوف من السؤال عن النقير والفتيل والقطمير، وعن الحلال، وعن الشبهات، وعن المال الذي فيه شبهة، والمال الحرام، ثم تسأل عن الحلال من أين اكتسبته، وفيم أنفقته، ولو لم يكن إلا هذا لكفى. ثم بعد ذلك الخوف من النار وأغلالها وأهوالها، وأنت ترى ملائكة النار ومعهم الكلاليب والخطاطيف والأغلال، والله عز وجل يقول: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30]، فإذا لم يرحمك أرحم الراحمين فمن سيرحمك؟! قال الشاعر: أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الخطايا أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا العبد المسيء عصيت سراً فما لي الآن لا أبدي النحيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناسٍ حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد الغريق بلج بحرٍ أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن التمس الطبيبا أنا العبد الشريد ظلمت نفسي وقد وافيت بابكمو منيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا فواأسفا على عمرٍ تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني مماتٌ يحير هول مطلعه اللبيبا ويا ذلاه من حشري ونشري بيومٍ يجعل الولدان شيبا ويا خوفاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقفٍ وحساب عدلٍ أكون به على نفسي حسيبا ويا خوفاه من نارٍ تلظى إذا دخلت وأقلقت القلوبا فكادوا إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ذماماً مريبا فوامن مد في كسب الخطايا أما آن الأوان لأن تتوبا وقال ثان: إذا ما قال لي ربي أما أستتحييت تعصيني وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني وقال ثالث: يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الطريق إلى بيت المقدس

الطريق إلى بيت المقدس لقد قامت دولة لليهود على أنقاض أمة تهاوى عزها، وسقط لواؤها، وتهدم بنيانها، وانتقضت عراها، وتشتت شملها، وتفرق جمعها، قامت على أنقاض قوم نسوا أو تناسوا عزة قومهم، وإباء أجدادهم، نسوا الفاروق الذي أرعب الصليبيين ونعله في يده، وفي ثوبه ثلاث عشرة رقعة، نسوا صلاح الدين وصوت الأذان وهو يصدح من منائر القدس: حي على الفلاح، نسوا الجهاد والكفاح والنضال والنفاح. وقد نصت كثير من الآيات البينات، والعديد من الأحاديث الواضحات على فضل بيت المقدس وشرفه، فلابد من إرجاعه إلى حوزة المسلمين.

أحكام شهر رجب

أحكام شهر رجب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].

أسماء شهر رجب

أسماء شهر رجب شهر رجب من الأشهر الحرم، وهو بين جمادى وشعبان، والأشهر الحرم سميت بذلك، لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمون القتال فيها، ولحرمة وقوع الذنب فيها أكثر من غيرها من الشهور. ولشهر رجب أسماء منها: رجب من الترجيب، أي: التعظيم؛ لأنه كان يعظم. ومن أسمائه أيضاً: رجم بالميم، يقولون: إنه كانت ترجم فيه الشياطين. وسمي أيضاً: شهر رجب الأصم، لأنه لم تكن تسمع فيه قعقعة بسلاح. وسمي شهر رجب الأصب، قالوا: لأن الرحمة تصب فيه صباً. وسمي المعكعك، وسمي المعلى، وسمي المقيم؛ لأن حرمته ثابتة مقيمة. وأما التسمية الشرعية فهي شهر رجب.

حكم الاحتفال بشهر رجب

حكم الاحتفال بشهر رجب وأما عن حكم الاحتفال به فقد كره ابن عباس الاحتفال برجب واتخاذه عيداً، وسيدنا عمر بن الخطاب كان يضرب أكف الرجال الصائمين في رجب؛ حتى يضعوها في الطعام، ويقول: ما رجب؟! إن رجباً كان تعظمه الجاهلية فلما كان الإسلام ترك، وكره عمر بن الخطاب أن يتخذ صيامه سنة. وهناك من علماء السلف من كان يصوم الأربعة الأشهر الحرم، ولا يفطر إلا في يوم عيد الأضحى وأيام التشريق، منهم الحسن البصري وأبو إسحاق السبيعي، ومنهم من كان يكثر الصيام في الأشهر الحرم كـ سفيان الثوري، وكره الإمام أحمد، ويحيى بن سعيد القطان، وأنس رضوان الله عليه، وابن عمر أن يتم الرجل صيام رجب، وكان أبو بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى أهله قد جمعوا السلال والكيزان لمجيء شهر رجب، يقلب السلال، ويكسر الكيزان، ويقول: ماذا؟! أجعلتم رجب كرمضان؟!، ونص الإمام أحمد أنه لا يصوم رجب كرمضان بتمامه إلا من صام الدهر بأكمله. وورد حديث ضعيف: (أن في الجنة نهر يقال له: رجب، ماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، من صام يوماً في رجب سقاه الله من ذلك النهر) وقد ضعفه الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه: (تبيين العجب في ما ورد في فضل رجب) وقال: لا يصح في فضل رجب حديث صحيح.

حكم تخصيص صلاة معينة في رجب وذكر من قال إن الإسراء في رجب

حكم تخصيص صلاة معينة في رجب وذكر من قال إن الإسراء في رجب ما ترك المبتدعة شهراً إلا وألحقوا به صلاة، وصلاة رجب تسمى صلاة الرغائب، وقد وضع الوضاعون حديثاً نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساسه من علي بن جهضم الذي كان يضع الحديث، وفي هذا الحديث: (أن من صام أول خميس من رجب، وقام في ليلة الجمعة التي تسميها الملائكة الرغائب، وفيها يجتمع الملائكة من أقطار السماوات والأرض حول الكعبة ويسألون الله تبارك وتعالى أن يغفر لصوام رجب)، وقد روى في هذا الموضوع قولاً قال: (إن من صام هذه الليلة وقام ليلها ما بين المغرب والعشاء، كان له ثلاثة: أماناً من الفزع الأكبر، وأن يغفر الله ما تقدم من ذنبه، وأن يعصم في ما بقي). يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: والله! إني لأعجب، وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح من هذه الصلاة، ليس جحداً بهذه الصلاة، بل إن العوام يجتمعون على هذه الصلاة أكثر مما يجتمعون في شهر رمضان، وكثير من الوعاظ يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، وهذا الحديث فيه أبو بكر بن القاسم، وهو ضعيف لا يصح. أما حديث صلاة الرغائب، فقد قال الإمام الحافظ عبد الوهاب شيخ الإمام ابن حجر العسقلاني: فتشت عن رجاله في جميع الكتب فلم أجدهم. يعني: أن أسانيده أسانيد ملفقة، يضعها الوضاعون في فضل صلاة هذا الشهر، وصلاة الرغائب ضعفها شيخ الإسلام الإمام العربي الأنصاري، وضعفها ابن الصنعاني، وابن الزيدي، وابن رجب الحنبلي ولم يصححها إلا ابن الصلاح وهذه سقطة، وسقطات العلماء في بحر جودهم وفي بحر علمهم مغفورة. يقول الحافظ ابن حجر: وأما ما يقوله القصاص والمفسرون من أن الإسراء والمعراج كان في رجب، فذلك كذب. ضعفه ابن حجر العسقلاني، وكذلك الإمام الحافظ إبراهيم الحربي، وابن رجب الحنبلي، وقالوا: إن الإسناد إلى القاسم بن محمد لا يصح. وهناك فريق من العلماء منهم الإمام النووي قالوا: إن الإسراء كان في شهر رجب، وهناك جمع من العلماء قالوا: إن الإسراء كان في شهر رمضان، ومنهم ابن سعد، وهناك جمع من العلماء قالوا: إن الإسراء كان في ربيع الآخر، ومنهم إبراهيم الحربي، فهذا قول العلماء أن الإسراء والمعراج لم يكن في رجب. وعلى قول من قال: إن الإسراء كان في رجب، أما اختصاصه في السابع والعشرين من رجب فهذا ما قاله إلا العماد ونقل عنه العلامة ابن كثير.

حكم القتال والذبيحة في رجب

حكم القتال والذبيحة في رجب تذهب السيدة عائشة إلى أن القتال في رجب منسوخ لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2]، ومذهب الجمهور على خلاف مذهب عائشة لقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217]، فحكم القتال في رجب غير جائز. أما بالنسبة للذبيحة في رجب، فهناك حديث للنووي وغيره ورواه الإمام البخاري يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا فرعة، ولا عتيرة)، وورد عند النسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من شاء منكم أن يفرع فرع، ومن شاء أن يعتر عتر)، فجمع العلماء بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة فقالوا: إن النفي هنا هو نفي الوجوب، أي: أن الذبيحة ليست واجبة، والرأي الأقوى الذي ذهب إليه ابن رجب الحنبلي قال: والعمل على حديث أبي هريرة بكراهية الذبيحة التي كانوا يذبحونها في رجب العتيرة، والنهي أولى، ويقدم حديث أبي هريرة في هذا الباب فحديثه أصح.

ذكر ما وقع من حوادث تاريخية في رجب

ذكر ما وقع من حوادث تاريخية في رجب في هذا الشهر العظيم وقعت حادثتان عظيمتان: فتح بيت المقدس في رجب في السنة السادسة عشر للهجرة، وتحرير صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس في يوم الجمعة الموافق 27 رجب سنة 583 هجرية. القدس تحتل مكان القلب من قلب كل امرئ مسلم قديسة التاريخ والآباء والذكر الحسن يا عطر كل الأنبياء المخلصين يا زهر كل الأولياء المتقين من قال اسمك يمتهن يا قدسنا يا عشقنا يا صهرنا قاتلت فيك ولم يزل يحلو السفر.

ذكر ما ورد من فضائل بيت القدس من الكتاب والسنة

ذكر ما ورد من فضائل بيت القدس من الكتاب والسنة القدس بنت السماء التي ضمت النور بالساعدين، ومسجدها وأذانها يحتل مكان القلب، ويقعان في قلب كل مسلم، هذه الأرض التي باركها وقدسها الله تبارك وتعالى، وألقى على ظلالها الطهر، هذه الأرض التي جاءت آيات كثيرة في بركتها، يقول الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]. وجبريل حاد لمشرودة تقاصر عنها خيال الزمان ونور ينادي ونور يلبي ونور يضاء به المشرقان وفاض الذي لا تراه العيون يراه محمد رؤيا عيان ويقول الله تبارك وتعالى في كتابه على لسان موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]. ويقول الله تبارك وتعالى عن بيت المقدس: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]. ويقول الله تبارك وتعالى عن الشام وبيت المقدس: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18]. ويقول الله تبارك وتعالى عن الشام وبيت المقدس فيما جاء عن إبراهيم: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]. ويقول الله تبارك وتعالى عن عيسى وعن أمه عليهما السلام: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50]. قال قتادة والسدي: إنها بيت المقدس. ويقول الله تبارك وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]. قال عكرمة: هي المساجد الأربعة: الكعبة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]. نزلت هذه بقول علماء التفسير في بيت المقدس. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل ربه ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يأتي إلا للصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أما اثنتين فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) هذا الحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه وفي صحيح الجامع الصغير. فقوله: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس) أي: من تجديد بناء البيت؛ لأن الذي بناه يعقوب، وكان بين بناء المسجد الأقصى وبين بناء أول بيت وضع للناس أربعون سنة كما جاء في الصحيحين. وقوله: (سأل ربه ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه) أي: حكماً يوافق حكم الله تبارك وتعالى، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]. وقوله: (وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده) أي: وملكاً لا يكون لأحد من بعده، والمعجزة التي أعطيها سيدنا سليمان كانت في الملك والنعم التي أعطاها الله تبارك وتعالى لسليمان، فما أعطى الله تبارك وتعالى ملك سليمان لأحد من قبله ولا لأحد من بعده. وقوله: (وألا يأتي هذا المسجد) أي: بيت المقدس، (أحد لا يأتي إلا للصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). وروى الإمام البخاري والإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا لثلاث: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). وروى الإمام النسائي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، ثم ربطته في الحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد)، لو لم يكن لبيت المقدس إلا هذه الفضيلة لكفى. وعن جنادة الأزدي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال ويقول في الدجال: (فيمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ ملكه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم). وعن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر). أي: يحشر الناس إليها ومنها ينشرون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قالت: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه، قال: فاهدوا له زيتاً يسرج فيه، فمن فعل فهو كمن أتاه). ويقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41]، قالوا: ينادي -وهو إسرافيل- يقف على صخرة المقدس، وينادي الناس للنشر وللوقوف أمام الله تبارك وتعالى في عرفات القيامة. الجراحات تستغيث وتشكو مل سمع الوجود أين صلاح مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان تغير المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان فلا الأذان أذان في منائره من حيث يتلى ولا الآذان آذان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد من رواية أبي الدرداء: (بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب قد احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام) قال ابن حجر: سنده صحيح. وذلك لأن ملك النبوة في آخر الزمان سيكون في الشام، بل الخلافة الإسلامية سيكون مركزها في القدس، لما رواه الإمام أحمد والإمام أبو داود والحاكم في مستدركه عن ابن حوالة الأزدي قال: (وضع رسول الله صلى الله وسلم يده على رأسي -أو على هامتي- وقال: يا ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة -أي: فلسطين- فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، وللساعة يومئذ أقرب للناس من يدي هذه من رأسك) وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ببيت المقدس

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ببيت المقدس المسجد الأقصى بيت المقدس وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ناظره، وفي غزوة مؤتة ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل ليذهبوا إلى مؤتة حيث يعسكر جحافل الروم، وكانوا قد أخذوا الشام ومنها بيت المقدس، وفي مؤتة من أرض الشام سالت دماء زكية لأطهر الصحابة، سالت دماء زيد بن حارثة، وسالت دماء جعفر الطيار الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشبهت خلقي وخلقي)، وسالت دماء عبد الله بن رواحة. يقول الشاعر: وفيها دماء الطهر لابن رواحة وفيها قضى زيد العوالي وجعفر وفي السنة التاسعة من الهجرة قاد النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة ثلاثين ألف مقاتل، حتى وصل إلى تبوك وفرت جحافل الروم، وبعد أن طهر البيت الحرام مما فيه من الأصنام والأوثان، يمم الرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهته إلى المسجد الأقصى، فعقد اللواء بيديه لـ أسامة، ليؤدب عساكر الروم وجحافلها، فمنعه مرض الموت من ذلك، وعسكر أسامة هناك، ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، فأراد بعض الناس من أبي بكر أن يستعيد هذا الجيش لقتال المرتدين، فقال: والله! لا أفكن لواءً عقده بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي عهد أبي بكر الصديق استطاع المسلمون أن يستنفذوا من براثن الصليبية بعض مدن فلسطين، وأرسل إليهم خالد بن الوليد الذي قال فيه الصديق: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، ولما وصل إلى قنسرين والتقى بالروم قال خالد بن الوليد سيف الله لجحافل الروم: والله! لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم، أو لأنزلكم إلينا حتى نقاتلكم. ولما سمع عمر هذه الكلمة فيما بعد قال: يرحم الله أبا بكر، لقد كان أعلم بالرجال مني.

استلام عمر بن الخطاب مفاتيح بيت المقدس

استلام عمر بن الخطاب مفاتيح بيت المقدس أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عمرو بن العاص داهية العرب وذكي الصحابة إلى أرطبون ملك الروم، وأراد عمرو بن العاص أن يتحسس بنفسه مواقع جيش الروم، فذهب على أنه رسول من عمرو بن العاص إلى أرطبون قائد جيوش الروم، فلما وصل إلى أرطبون، قال لما رأى من ذكاء هذا الرجل إما أن يكون مستشاراً لـ عمرو بن العاص وإما أن يكون هو بذاته عمرو، فلأقتلنه بعد أن يمضي إلى الصحراء، وحدث بذلك قائداً من قواده، وشعر عمرو بن العاص بالخطر، فقال له: أيها الملك! إن سيدي عمرو له عشرة من المستشارين غيري أنا أقلهم أو كلهم على شاكلتي، فأشار الملك إلى الرجل الذي أمره بقتل عمرو بأن لا تفعل؛ فربما كان هذا أحد مستشاري عمرو، فلما وصل عمرو إلى مأمنه أرسل إلى أرطبون أن الذي كان يحدثك هو عمرو بن العاص. وعسكرت الجيوش الإسلامية الوضيئة -وكان عددهم خمسة عشر ألف مقاتل- أربعة أشهر على آثار القدس، خمسة آلاف تحت قيادة أبي عبيدة، وخمسة آلاف تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، وخمسة آلاف تحت قيادة شرحبيل بن حسنة، فأرسل بطاريك القدس: والله لا نسلم المفتاح إلا لـ عمر، وأتى عمر ليتسلم المفتاح، فجاء سيدنا عمر إلى الشام بنفسه ولم يلبس قميص صوف، ولم يضع على رأسه عمامة، تلوح صلعته للشمس، راكباً على جمله، فلما وصل إلى الشام ترجل عمر وترجل أبو عبيدة وهمّ أبو عبيدة أن يقبل يد عمر، فهم عمر أن يقبل رجل أبي عبيدة، فامتنع أبو عبيدة وامتنع عمر، فقال له أبو عبيدة لما رأى قميصه مرقعاً قد اتسخ: يا أمير المؤمنين! إنك تأتي إلى قوم ذوي شأن فلا يصلح أن تأتيهم بهذه الهيئة، ثم أعطاه برذوناً، فلما ركب عمر فوق البرذون تاه به البرذون وتبختر في مشيته، فنزل عنه وقال: والله! ما كنت أظن أن الشياطين تركب قبل اليوم، علي بقميصي، ووجدوا بين كتفيه وبين منكبيه ثلاث عشرة رقعة. فلما مضى إلى القدس ليدخلها خاض في الوحل، فنزع نعليه ووضعهما في يد، وهو يخطم الجمل باليد الأخرى، وخاض في الوحل، فقال أبو عبيدة: ما رأيت مثل اليوم منظراً، فضربه عمر في صدره، وقال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! لقد كنا أحقر وأذل الناس، فأعزنا الله بالإسلام، فلو طلبنا العزة في غيره لأذلنا الله. ثم سار إلى الصخرة، فقال لـ كعب: أرني موقع الصخرة، وكانت المرأة إذا حاضت حيضاً أرسلت بخرقة الحيض إلى مكان الصخرة، وهي قبلة اليهود التي يزعمون، حتى قال لـ هرقل: والله! لأنتم أحرى بالقتل على ما فعلتم بهذا المسجد من اليهود على قتل يحيى وعلى بني يحيى، فكان عمر يضع القمامات في جلبابه وفي قميصه ويخرجها خارج المسجد، ومن خلفه المسلمون. ومن الشروط التي اشترطها النصارى على أنفسهم قولهم لـ عمر: أن تدق الأجراس في جوف الكنائس دقاً خفيفاً بحيث لا يسمعه المسلمون، وأن نقوم للمسلمين من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، وألا نتشبه بالمسلمين في فرق شعر ولا في لباس نعل، وألا نضع السرج على الخيل، وأن نركب الخيل من شق واحد، وأن نلزم زنارنا حيث كنا. أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق المآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر وقال الآخر: وكأنني وابن الوليد وجنده وبكل كف لامع الأنصال نشروا على أرض الخليل لواءهم فغدا يظلل أطهر الأطلال وعن اليمين أبو عبيدة قد أتى وأتى صلاح الدين صوب شمال يسعى بجند قد شَرَوْا أرواحهم لله يوم تسابق لقتال فهم الأعزة في كتاب خالد ما بعد قول الله من أقوال ولما تولى معاوية الخلافة، أخذ العهد بالخلافة في بيت المقدس، ثم جعل دمشق عاصمة لخلافته، وفي عهد عبد الملك بن مروان أخذ البيعة بالخلافة في بيت المقدس، وأوقف عبد الملك بن مروان خراج مصر سبع سنوات على تجديد المسجدين، وعمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة طلب من الجميع أن يذهبوا إلى بيت المقدس ويقسموا هناك بين ربوعه يمين الولاء والطاعة والعدل بين الرعية.

سقوط القدس ثم استرجاعها على يد صلاح الدين

سقوط القدس ثم استرجاعها على يد صلاح الدين لم تسقط القدس إلا في سنة 482هـ في عهد الفاطميين غلاة الشيعة، أحفاد عبد الله بن سبأ اليهودي المؤسس الحقيقي لدين الشيعة، وقد سقطت القدس في عهد الخليفة المستعلي بالله لا أعلاه الله، وقد حاصروا القدس أربعين يوماً، وذلك عندما أتى إلى القدس سامعان الثاني وبطرس الناسك وبابا روما، فقاد الجيوش الصليبية، ومنهم ملوك أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية، وفرضوا حصاراً حول القدس أربعين يوماً، حتى سلم قائد الجيش الفاطمي مستشار الدولة القدس، ورابط ألف ألف مقاتل صليبي، وقتل في المعارك حول القدس آلاف المسلمين، وامتلأت أرضية المسجد بدماء ستين ألف مقاتل مسلم، حتى خاض قائد الجيوش الصليبية في جثث المسلمين إلى ركبتيه، إذ لم يروا حرمة لهذه المدينة الطيبة ولا حرمة لمسلم، فقد قتلوا من قتلوا، وذبحوا من ذبحوا، ورفعوا الصليب على مسجد الصخرة. وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب وظلت القدس أسيرة إحدى وتسعين سنة، وجعلوا من قبة الصخرة مرتعاً لكلابهم، وربطوا الخيل والخنازير في أرجاء المسجد، حتى عسكر صلاح الدين الأيوبي في الخامس عشر من رجب، وفرض حصاراً حول القدس، ولما صارحوه على أن تفتح القدس بطريقة اشترطوها، قال: والله! لا تفتح إلا عنوة كما أخذت عنوة، فقال له مقدم النصارى الذي في القدس: إذاً نقتل من بأيدينا من أسرى المسلمين -وهم أربعة آلاف أسير مسلم- ونقتل أولادنا ونساءنا وجوارينا، ثم نهدم القدس وقبة الصخرة، ثم نخرج إلى العراء نقاتلكم قتال الموت، وهنا استجاب صلاح الدين إلى مطالبهم على أن يخرج كل رجل ويدفع عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة دنانير، وعن كل صبي أو صبية ديناران، ومن يمكث أربعين يوماً ولا يخرج يقع أسيراً في أيدي المسلمين، وتم أسر ستة عشر ألف رجل وامرأة وولد، ودخلت جيوش المسلمين القدس بعد طول غيبة، في يوم الجمعة 27 من شهر رجب سنة 593هـ، دخل صلاح الدين الأيوبي، واهتموا بإزالة ما فيه من الصلبان والقساوسة والرهبان والخنازير، ثم غسلوا المسجد بالماء الطاهر، ثم بعد ذلك غسلوه مرة ثانية وقبة الصخرة بماء الورد والمسك الفاخر، وصدر المرسوم الصلاحي بأن يكون خطيب الجمعة في يوم الجمعة 4 شعبان هو القاضي القرشي ابن الزكي. ما أجمل عودة الأرض إلى أهلها! وما أجمل عودة الأرض إلى الذين جادوا بأنفسهم لله تبارك وتعالى! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود، وحتى يختبئ اليهودي خلف الحجر والشجر، وينطق الحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجرهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد الفتح بثمان، أي: في اليوم الرابع من شعبان علا صوت الأذان، وخسئ القسيسون والرهبان، وصمتت النواقيس والرهبان، وقرئ القرآن، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وتنوعت العبادات، وكثرت الدعوات، وكبر الله تبارك وتعالى الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ كبره كل قائم وقاعد، وكل راكع وساجد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع. كما قال العلامة ابن كثير: وصعد القاضي المنبر، فكان أول ما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، ثم أتى بجميع المحامد أي: آيات الحمد التي في القرآن الكريم. فما أحلاها من عظة! ما تمسك المسلمون بدينهم إلا وأعزهم الله تبارك وتعالى، وما فرطوا فيه إلا وأذلهم الله تبارك وتعالى.

نكبة اغتصاب اليهود لفلسطين مرة أخرى

نكبة اغتصاب اليهود لفلسطين مرة أخرى بعد سنوات عديدة سقط المسجد مرة ثانية في أيدي اليهود المشردين المشتتين، هؤلاء اليهود إخوان القردة والخنازير يحتلون أرض بيت المقدس، وكان احتلالهم لبيت المقدس لوعد بلفور عام 1917م. تقول كاتبة مذكرات بلفور: إن بلفور كان يؤمن بالتوراة إيماناً عميقاً، ويؤمن بها إيماناً حرفياً، ولإيمانه بالتوراة أعطى اليهود فلسطين على أساس أنها ستكون لهم، كما جاء في التوراة المحرفة، فما أعطاها نظام تولي فقط، وإنما أعطاها لإيمانه العميق بالتوراة المحرفة، وقبلها لينين زعيم الشيوعية وكلبهم الأحمر، إذ أعطى فلسطين عام 1917م لرفاقه اليهود الذين شاركوه في الثورة، وأصدر منشوراً بإعطاء موطناً لليهود في فلسطين. وقبل سنة 1798م قال نابليون بونابرت في الحملة الفرنسية على مصر أمام يهود العالم: أيها الإسرائيليون! أيها الشعب المختار! يا ورثة فلسطين الحقيقيين! هذه اللحظة قد لا تعود لآلاف السنين، فانتهزوا هذه اللحظة لإقامة وطن قومي لكم في فلسطين. فـ نابليون بونابرت وعد اليهود قبل أن يعدهم لينين. واجتمعت جحافل الصليبيين والشيوعيين على الغدر بفلسطين وأقيمت الدولة اليهودية، وما استطاع أهلها أن يقاتلوا إذ لم يكن لهم من يقودهم ويأمرهم، فقائد القوات الأردنية لم يكن أردنياً، وإنما كان إنجليزياً، وحين لاقى الجيش المصري العدو في الفالوجة أشار عليهم القائد الإنجليزي أن يلبسوا ملابس النساء إذا أرادوا أن يخرجوا من الفالوجة، فامتنعوا من ذلك. وأول سيارة دخلت إلى سينا نزل منها الجنود والضباط الإسرائيليون، وقبلوا الأرض الذي تسلم فيها موسى التوراة من ربه، أو التي كلم موسى فيها ربه. إن ما بيننا وبين هؤلاء اليهود حرب دينية بحتة، ففي عام 1956م كانت أول سيارة جيب تخترق أرض سينا محملة بنسخة كبيرة من التوراة، ووراء هذا الكتاب حاخام يهودي يتلو على الجنود الإسرائيليين: يا أبناء إسرائيل! إنكم الآن تدخلون الأرض المقدسة، إنكم الآن أتيتم إلى الأرض التي تسلم موسى فيها رسالة من ربه، فقاتلوا أعداء موسى. وفي سنة 1967م ألفت بنت موشي ديان كتاباً يسمى كتاب (جندي من إسرائيل) -وكانت ممن اشترك في الحرب- تقول فيه: وكان ينتابني الرعب، ويعتصر قلوبنا الخوف من لقاء الجبهة الجنوبية لجيش مصر، فكان إذا أتانا الحاخام وتلا علينا نصوصاً من التوراة، استحال الخوف أمناً، بينما كانت إذاعة العدو تردد للجنود المصريين: قاتلوا من أجل الربيع، قاتلوا من أجل عشاق الحياة، قاتلوا من أجل صناع الحياة، وأم كلثوم معهم في المعركة، يا خيبة الأمل! وبعد المعركة تساقطت سبعمائة وخمسون طائرة، حتى إن جمال عبد الناصر أرسل إلى الملك حسين وقال له: أسقطنا ثلثي طائرات العدو، طائراتنا فوق تل أبيب، اطمئن يا جلالة الملك! التوقيع سلمي. أنقل هذا الكلام سخرية من رجالات العرب. كوكب الشرق لا تذوبي غراماً ودلالاً وحرقة وهياما ففلسطين لا تحب السكارى وربى القدس لا تريد النياما كوكب الشرق ضاع قومي لما تاه في حبك القطيع وهاما ولو أن الخيام يبعث حياً هوت الكأس من يديه حطاما

العداء الديني بين المسلمين واليهود

العداء الديني بين المسلمين واليهود ما بيننا وبين هؤلاء اليهود حرب دينية بحتة، يقول الله تبارك وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فهذه آية لا يستطيع أي كذاب أن ينكرها. فاليهود قتلة الأنبياء قتلوا يحيى وقتلوا قبله أباه زكريا، وأرادوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دست امرأة زعيم من زعماء اليهود السم في ذراع الشاة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة). ومات من أكل هذه الأكلة بشر بن البراء الصحابي الجليل، بل قال كثير من العلماء: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات من أثر السم، لأنه قال لأخت بشر بن البراء في مرض الموت: (هذا أوان انقطاع أبهري من أثر الأكلة). ومن اليهود عليهم اللعنة من الله، منهم كعب بن الأشرف الذي سب أمهات المؤمنين، ومنهم عبد الله بن سبأ مؤسس دين الشيعة الأكبر، ومنهم مدحت باشا مثير النعرات القومية، والذي كان سبباً في إسقاط دولة الخلافة على يد اليهودي الأصل مصطفى كمال أتاتورك؛ لأنه كان من يهود الدونمة. ومنهم كارل ماركس زعيم الشيوعية، ومن اليهود أيضاً جامبل كرتر، وقبائحهم لا تنقضي ولا تعد، فما بيننا وبين اليهود حرب دينية بحتة، ودولة إسرائيل دولة دينية، وشعارها شعار ديني، وتسمى بإسرائيل وهو نبي الله يعقوب، وحدودها كما جاء في الإصحاح الخامس عشر من التوراة المحرفة: (ما بين النيل إلى الفرات لنسلك هذه الأرض)، من نهر النيل إلى النهر الكبير؛ نهر الفرات، وعلمهم أيضاً فيه شعار ديني: خطان أزرقان يشيران إلى النيل والفرات وبينهما مسجد داود إشارة إلى ملك إسرائيل لهذه الأرض.

العمالة الهابطة ودورها في سقوط الأرض

العمالة الهابطة ودورها في سقوط الأرض وعلى الطرف الآخر تجد الجميع يتساقطون، وأول من يتساقط أصحاب الأرض؛ منظمة فتح التي عقدت كامب غزة وأريحا، هذه المنظمة العلمانية التي لا دين لها، عند كل عملية فدائية كلمة السر سب دين الله تبارك وتعالى أو سب الرسول، كان يقول القائل منهم إن تسل عن نسبي أنا ماركسي لينيني أمي. وهذا ياسر عرفات حينما اشتكى لـ ديفيد كاسترو قال له: وأنت مرشدنا وزعيمنا الروحي، وجعل محمود درويش مستشاراً له، وحينما نزل إلى مطار القاهرة الدولي إذا بآلاف مؤلفة يستمعون إلى محمود درويش الشيوعي المرتد، وقد كان مستشاراً ولكن عرفات أقاله من منصبه، وقد نظم محمود درويش قصيدة بعنوان: للحقيقة وجهان ولون الثلج أسود، يقول فيها: لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة لكن نعشك عرشك تحمل العرش إن أردت العرش يا ملك الانتظار لم يترك لنا هذا السلام إلا حفنة من غبار ويقول محمود درويش: أنا من قرية عزلاء منفية كل رجالها في الحقل والمعمل يحبون الشيوعية وقال في ياسر عرفات: أنا يا أخي! آمنت بالشعب المقلد والمكبل وحملت رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجل شعار الشيوعية وقال أيضاً: نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير ويقول في قصيدته مديح الظل العالي: يا خالقي في هذه الساعات من عدم تجلّى -يعني: ظهر وبان-. فلعل لي رباً لأعبده لعلَّ أما رشاد حسين شاعر من شعراء منظمة فتح يقول: الله أصبح غائباً يا سيدي صابر إذاً حتى بساط المسجد أما سميح القاسم عضو الكنيست الإسرائيلي وشاعر من شعراء الثورة الفلسطينية: يقول في قصيدته: (التعاويذ المضادة للطائرات): والله نحن نشاؤه بغرورنا شيئاً له قسماتنا الشوهاء ترسمه أنانياتنا ويقول محمود توفيق زياد في قصيدته (عيوني إليك المراكشية) يقول: وكان الله جندياً يحمل الحجارة ويعزل الإسمنت بيديه ويصطاد السمك لأطفال فلسطين ويقول محمود بسيسو المرتد الملحد في قصيدة له (إلى سائحة): وآخر ديك قد ذبحناه بقي الله هؤلاء هم أصحاب الردة، وشعراء الإباحية والزندقة، كلهم مستشارو عرفات، فالعلمانية لا دين لها، وهي التي احتفلت بـ لينين الذي أعطى أول وعد لليهود في فلسطين. يقول محمود توفيق زياد: أمامه وقفت خاشع الجبين ضريحك المنصوب في القيود يا لينين يكفيك أن عدانا أهدروا دمانا ونحن من دمنا نحسو ونحتلب

أمريكا وإسرائيل

أمريكا وإسرائيل إن ما بين أمريكا وبين إسرائيل حبل سري لا ينقطع أبداً إلا إذا ماتت إحدى الدولتين كما يقولون. فأمريكا يغلب عليها مذهب البروتستانت الذي يؤمن بالتوراة إيماناً حرفياً، ويؤمن بالعهد القديم وبالتوراة المحرفة، وفي التوراة المحرفة: أن الله تبارك وتعالى يورث أرض كنعان -يعني: أرض العرب- لأولاد سام ويافث، ويعطي لإسرائيل ولنسله الأرض، يقول: لتسجد لك شعوب، لتسجد لك قبائل، ليكن كنعان وأولاد كنعان لك. فهم يؤمنون بالتوراة. فسبعة من رؤساء أمريكا كلهم يؤمنون بالصهيونية الإنجيلية، أو المذهب عند البروتستانت يؤمن به ريجن، ويؤمن به نيكسون، ويؤمن به بوش، وكان يؤمن به قبل ذلك جونسون من أربعة قرون، ويؤمنون أن اليهود لهم الحق في إقامة وطن ديني لهم في فلسطين، بل ويؤمنون أيضاً بخرافة ينسبونها إلى التوراة المحرفة، تقول: إن معركة سيقودها المسيح تسمى معركة هرمجدون في سهل مجيدو في فلسطين. ويقولون: إن رؤساء العالم ويهوده يجتمع منهم حوالي أربعمائة مليون يقاتلون الوثنيين أو العرب المسلمين، وهناك ينصرهم دين المسيح حتى يرفع عرايا شيكاغو وعرايا باريس. ويقولون: إن المسيح سينزل بعد ألف سنة فيحكم الأرض ألف سنة، وفيها تقع معركة هرمجدون، فلما تأخر نزوله عن الألف الأولى قالوا: تأخر نزوله إلى الألف الثانية، وهناك كتاباً اسمه: 1999مسلم بلا حرب، وستسيطر أمريكا سيطرة كاملة على العالم ويبقى ما بقى على السيد المسيح. أما ريجن فيقول: أظن أن السوفيت سيتورطون في معركة هرمجدون، ويعلن أمام التلفاز والبيت الأبيض وأمام مجلس الشيوخ إحدى عشرة ألف مرة إيمانه بهذه المعركة. ويقول جونسون رئيس أمريكا أثناء الحرب العالمية الأولى: إنه يتوجب على ابن راعي الكنيسة كما قال في التوراة أن ينشئ وطناً دينياً لليهود في فلسطين. وأما كارتر فيقول في خطابه في تاريخ 5/ 1/1973: إن إنشاء دولة إسرائيل وقيامها أولاً وقبل كل شيء تحقيق للنبوءة التوراتية، وتحقيق للوطن التوراتي لليهود في فلسطين، وقيام دولة إسرائيل هو منشأ النبوءة التوراتية وجوهرها فهؤلاء يعتقدون اعتقاداً دينياً أنه لا بد من تسليم القدس لليهود، تمهيداً لعودة المسيح إلى الأرض، ونحن نقول هذا الكلام حتى يفيق الناس من سباتهم، وحتى يعودوا إلى الله تبارك وتعالى، وعليكم أن تعلموا أولادكم أن بين أمريكا وإسرائيل وفاقاً دينياً كبيراً شديد الصلة كالحبل السري، كما قال أحد ساساتهم أمام مجلس الشيوخ الأمريكي. فاتقوا الله تبارك وتعالى فينا وفي أولاد المسلمين، واتقوا الله تبارك وتعالى في كل مسجد ذبيح، وفي كل أذان صابر، وفي كل شبر من الأرض. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى عن المنكر، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك توابين منيبين، تقبل توبتنا، وأجب دعوتنا، واسلل سخائم صدورنا، اللهم إن علمت الصدق منا فارزقنا شهادة في سبيلك، اللهم احشرنا إليك من حواصل الطيور وبطون السباع، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك. وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بكاء الأفئدة من نار الله الموقدة

بكاء الأفئدة من نار الله الموقدة إن النار مخلوق من مخلوقات الله عز وجل، لا تفنى ولا تبيد، وقد أعدها الله لمن عصاه، وخالف أمره، وكذب رسله وأنبياءه، فمن خافها في الدنيا، وتجنب كل عمل يقربه منها أمنه الله منها يوم القيامة. ومن لم يخف منها، واقترف ما يقربه منها خوفه الله منها يوم القيامة.

من أخبار البكائين من النار

من أخبار البكائين من النار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فإن عنوان هذا الموضوع هو: بكاء الأفئدة من نار الله الموقدة. ما ظنك أيها المفرط في عمره، المقصر في دهره بسكان هذه الدار الضيقة الأرجاء، المظلمة المسالك، دار يخلد فيها الأشقياء، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، هذه والله دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل الندامة والشقاء، والتعاسة والبكاء. أحدثك عن دار غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، والله لم ينذر العباد بشيء أدهى منها، كما قال الحسن البصري رحمه الله: بكى من ذكرها الصالحون، بل ومات من ذكرها الصالحون، هذا علي بن الفضيل بن عياض يقوم في تهجده فيقرأ قول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فظل يرددها حتى خرجت روحه، فيأتيه والده الفضيل فيقول: أي ابناه! واقتيل النار! واقتيل القرآن! واقتيل جهنماه! والله ما قتل ابني إلا الخوف من عذاب الله. ويبكي يزيد الرقاشي، ثم يعاتب في كثرة البكاء ويقال له: لو لم تخلق النار إلا لك لما كان في بكائك مزيد، فيقول: وهل خلقت النار إلا لي ولإخواني من الجن والإنس، أما تسمع قول الله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]، ثم ظل يقرأ من سورة الرحمن حتى وصل إلى قول الله عز وجل: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43 - 44]، فظل يجول في الدار ويصيح ويبكي. يقول مالك بن دينار رحمه الله: لو وليت من أمر الناس شيئاً لأقمت رجالاً على منارات الدنيا يصيحون في الناس: النار النار. رأى مالك بن دينار رحمه الله جويرية متعبدة تطوف بالكعبة وتقول: يا رب! أما كان لك عذاب تعذب به من عصاك إلا النار؟! وظل هذا دأبها وقولها من الصباح، فوضع مالك يده على رأسه وقال: يا ثكلاه! ثكلت أم مالك مالكاً، ثكلت أم مالك مالكاً، إذا كان هذا قول الجويرية فما ظنك بـ مالك. ولما بكى يزيد بن مرثد قال يزيد بن جابر: لم البكاء؟ قال: وما مسألتك عن هذا؟ قال: عسى الله أن ينفعني به، قال: إن هذا الأمر ليعرض لي حين أدخل إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، إن هذا الأمر ليعرض لي حين يقدم إلي الطعام فأبكي وتبكي صبيتي، وتبكي الزوجة، حتى تقول: ويحي وما اختصصت به من طول الحزن معك، لا تقر لي معك عين في دار الدنيا.

صفة النار وأهلها

صفة النار وأهلها انظر يا أخي إلى صفة جر النار، وإلى صفة الإتيان بها، سيدنا عمر بن الخطاب قال لـ كعب الأحبار فيما رواه ابن القيم بسند حسن: إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها بذكر النار، قال: يا أمير المؤمنين! يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا زفرت زفرة فما من دمعة في العيون إلا وبدت، وإذا زفرت الأخرى فما من نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا وجثا على ركبتيه، وقال: نفسي نفسي، حتى لو كان لك يا أمير المؤمنين عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أنك لا تنجو. وفي الصحيح الذي أشار إلى صحته الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار له لسان فصيح، وعينان تبصران، وأذنان تسمعان، يقول: إني وكلت بكل جبار عنيد، فيلتقطهم من الموقف لقط الطير حب السمسم، ثم يخرج مرة ثانية فيقول: إني وكلت بكل من دعا مع الله إلهاً آخر، فيلتقطهم من الموقف لقط الطير حب السمسم، ثم يخرج مرة ثالثة، فيقول: إني وكلت بالمصورين، فإذا حبس هؤلاء في النار أتي بالصحف وجيء بالموازين، واستعد الناس للحساب) صححه الألباني. وكما أن هناك سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، ومع كل ألف سبعون ألفاً فهناك آخرون يجرون إلى النار بغير حساب، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، والحديث يدل على هذا. قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]. وقال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر على صورة الناس، يغشاهم الذل من كل مكان، تعلوهم نار الأنوار، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى: بولس، يسقون من عصارة أهل النار (طينة الخبال)) والحديث صحيح. يقول الله تبارك وتعالى عن النار: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، يخلق الله عز وجل للنار إدراكاً وإحساساً، فهي نار تتكلم، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]. والنار قد أعدها الله تبارك وتعالى للكافرين، وهيئت وجهزت، وهذا الإعداد إعداد حقيقي خلافاً لقول المعتزلة أن الإعداد هنا بمعنى التقدير، فجهنم موجودة الآن، وهو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لقول المعتزلة الذين أنكروا وجود النار الآن. وأما عن كيفية مجيء النار ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) معنى ذلك أن الملائكة المكلفين بجر النار أربعة آلاف مليون وتسعمائة مليون ملك، مع أن خزنة النار تسعة عشر. وأما ما في النار أجارنا الله وأعاذنا الله منها ففي (المطالب العالية) فيما أشار إلى حسنه الحافظ ابن حجر العسقلاني قال: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيهم واحد من أهل النار فتنفس لاحترق المسجد بمن فيه).

طعام أهل النار

طعام أهل النار طعام أهل النار أربعة أصناف: الطعام الأول من الشجرة المعلونة الزقوم، قال الله تبارك وتعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:62 - 66]. هذه الشجرة الملعونة جعلها الله فتنة للظالمين، وعهد أبناء الدنيا أن النار تأكل الشجر، فما بالك بهذه الشجرة التي لا تترعرع إلا في النار، ويكون مستقرها في قعر الجحيم، ومع هذا لا يزيدها ذلك إلا ترعرعاً في قعرها {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64]. وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم) فكيف بمن يكون الزقوم طعامه وشرابه؟!! وأما الصنف الثاني فهو الضريع، والضريع نبات تعرفه العرب، فإذا كان أخضر تعافه الماشية، فإذا كان يابساً صار سماً خالصاً، سبحان الله! فمعنى هذا أن طعام أهل النار الثاني وهو الضريع طعام تعافه الماشية في دار الدنيا. أما الطعام الثالث فلقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13]، فهو الطعام بالغصة، قال سعيد بن جبير: إنها حجارة من كبريت، وقال ابن عباس: شكوك يلتقمه أهل النار فيأخذ بعروق الحلوق، لا يدخل ولا يخرج. فتصور لو أن إنساناً أكل لقمة فوقفت عند لسان المزمار لا تدخل ولا تخرج، إذا دخلت في الجهاز التنفسي مات بسببها الرجل، أو تتردد عند لسان المزمار فيكون في حالة ما بين الموت والحياة، هذا بلقمة، فما ظنك بشوك يأخذ بعروق الحلوق لا يدخل ولا يخرج. من غص داوى بشرب الماء غصته فكيف يفعل من قد غص بالماء والطعام الذي بعد ذلك: هو الغسلين، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: لو دلي من غسلين دلو في مشرق الشمس لغلت منه جماجم قوم في مغربها. والغسلين هذا يسيل من قروح وقيح وصديد أهل النار. أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

شراب أهل النار

شراب أهل النار أما عن شراب أهل النار فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، فهو ماء أسود كعكر الزيت المغلي، جهنم سوداء وماؤها أسود، وشجرها أسود، وأهلها سود مقبوحون {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس:27]. قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17]. وهناك الزمهرير، وهو الشراب البارد الذي يحرق من شدة البرد، وهناك الحميم، وهو الذي بلغ أقصى درجات الغليان، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43 - 44]، وشراب أهل النار طينة الخبال. فهذا طعامهم وهذا شرابهم.

ثياب أهل النار

ثياب أهل النار أما عن ثيابهم فقد قطعت لهم ثياب من نار، كما قال الله عز وجل: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50]، قال سعيد بن جبير: قطران الإبل، وقال ابن عباس: إنه الرصاص المذاب. وهو الذي يذوب من شدة الغليان. وقال الله تبارك وتعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41] أي: الأسرة من نار، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] واللحف أيضاً من نار، وحذيت لهم نعال من نار، وسرابيل من قطران، وأطبقت عليهم الأبواب، وغضب عليهم المولى عز وجل. ألبسوا النضيج من النحاس، ومنعوا خروج الأنفاس، فالأنفاس في أجوافهم تتردد، والنيران على أبدانهم تتوقد، يا نار كلي، يا نار أنضجي، كلي ولا تقتلي.

بكاء أهل النار

بكاء أهل النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بكاء أهل النار: (إن أهل النار يبكون الدمع، ثم يبكون الدم حتى لو سيرت فيه السفن لجرت). وكان من دعاء داود: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك فكيف أستطيع حر نارك؟! يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك -وهو الرعد- فكيف أستطيع سماع صوت غضبك؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها ونارها). أما حديث: (إن جهنم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، وألف سنة حتى احمرت، وألف سنة حتى اسودت). فهذا حديث ضعفه الشيخ الألباني، كما ضعفه أهل العلم.

قبح وبشاعة أهل النار

قبح وبشاعة أهل النار أما عن قبح وبشاعة أهل النار -أجارنا الله منها- فإن الفضيل بن عياض في موعظته للرشيد كان يقول: يا مليح الوجه حذار من نار الله عز وجل، حذار من نار الله عز وجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد، وبعد ما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام). ونحن أطباء أمراض الدنيا نقول: عندنا في الطب أن الجلد هو مركز الإحساس الأول في الجسم، وتنتهي فيه كل أطراف الأعصاب، فإذا زادت درجة الحرارة على أطراف الأعصاب تتلف هذه الأعصاب، فلا يحس الإنسان لا بحرارة ولا ببرودة، ولذا يقول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وكلما سمك الجلد أحس الإنسان بألم العذاب أكثر، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30]. وفي حديث صحيح صححه الشيخ الألباني قال صلى الله عليه وسلم: (مقعد الكافر من النار ما بين مكة والمدينة، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل الورقاء) وهي جبال في الجزيرة العربية. قال ابن عباس: ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة أربعين خريفاً، وأودية قيح ودم قيل: أنهار؟ قال: لا، بل أودية. وقال عمرو بن ميمون الأودي يسمع لصوت الدود ما بين جلد الكافر وما بين عظمه جلبة كجلبة الوحش. قال أبو هريرة: شفاههم على صدورهم، مقبوحون مرذولون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ككلوح الرأس النضيج.

سلاسل أهل النار

سلاسل أهل النار أما عن السلاسل التي أعدت لهم فكما قال الله عز وجل: {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]. هذه الأغلال والقيود ما سمع بها البشر. وقال الله تبارك وتعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، قال أهل العلم بالتأويل: يجمع ما بين ناصية الرجل -أعلى الرأس- وما بين قدمه بسلسلة، ومعلوم أنه لا يستطيع أحد حتى الذين يلعبون الجنباز أو غيرهم أن يؤتى برأسه إلى جنب قدمه، ولكن هذه السلسلة تجمع ما بين الناصية وما بين القدم من الخلف، بحيث لا تتكسر الفقار. جمع النواصي مع الأقدام صيرهم كالقوس محنية من شدة الوتر قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا} [المزمل:12]، والأنكال هي القيود والسلاسل التي توضع بالرجل. إن أسير الدنيا يوماً من الأيام تفك قيوده، وتفصم غلوله، أما أسير الآخرة فلا تفك قيوده أبداً، ولا تفصم غلوله أبداً، فهو الأسير حقاً، والله ما سلسلهم الله عز وجل خوفاً من انفلاتهم، ولا خوفاً من هربهم، وإنما سلسلهم زيادة في ذلهم، قال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:70 - 71]، فتجمع اليد إلى العنق بالأغلال. ولكل رجل منهم مقمع من حديد يضرب به، ولكل رجل غل مكتوب عليه اسمه كما قال علماء السلف. فهي أغلال توضع بالعنق، وأنكال توضع بالرجل، وسلسلة تجمع ما بين النواصي والأقدام، وهذا عذاب ما سمع به البشر. ونعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري قيدوه وسلسلوه في محنة خلق القرآن ثم ألقوه في حفرة، فقال: إني امرئ مخاصم أمضي إلى الله عز وجل بسلاسلي وقيودي، فقالوا: فوالله ما غسلوه، وإنما ألقوه في حفرة بسلاسله. وأما ما عند الله من قيود وسلاسل فلا يعرفها البشر، قال الله عز وجل: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]، قال وهب بن منبه: الذراع سبعون باعاً، والباع أبعد مما بين مكة والكوفة، فطول السلسلة أربعة آلاف وتسعمائة باع، قال أهل العلم: لا يقوم لها حديد الدنيا. قال الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: ضعوا الأغلال في عنقه، فيبتدره مائة ألف ملك أو يزيدون كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه، فيقول: ألا ترحموني؟! فيقولون: كيف ولم يرحمك أرحم الراحمين! تخيل لو أن واحداً يجري خلفه مائة ألف معهم سلاسل وقيود يريدون أن يضعوا الأغلال في عنقه!! فهذا صنف من العذاب. ثم أتى بـ (ثُم) وهي هنا للتأخر والترتيب، فقال: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31]، والتصلية بالنار هي الغمس الكامل في النار. ثم تأتي منزلة أعلى في العذاب، قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] يعني: سلك السلسلة فيه أشد من التصلية بالنار، فالسلك في اللغة أن تدخل قطراً صغيراً في داخل قطر أكبر، فإن كانت هذه السلسلة لا يقوم لها حديد الدنيا فكيف تدخل من استه وتخرج من فمه أو من منخريه، وهذا ما عرفه أهل الدنيا، وإنما أعد خصيصاً لأهل النار {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32].

كفر التابعين بالمتبوعين في النار

كفر التابعين بالمتبوعين في النار هؤلاء الذين كان يملي بعضهم لبعض في الضلال يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38]، {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]. شعارهم: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص:59]. قال الله عز وجل: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: تفرقوا اليوم أيها المجرمون، فكل منهم في تابوت من نار لا يرى ولا يُرى، قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] يعني: أهل المصائب حين تجمع بينهم المصيبة الواحدة هذا يهون البلاء عليهم كما قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي والمعنى: أنهم يبكون لكن لا يبكون مثل أخي، والذي مات ليس كأخي، لكن نحن في مصيبة واحدة. وأما أهل النار فقد انقطع التواصل بينهم، {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]. قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50]. والكذاب كذاب إلى يوم القيامة، يقول الله عز وجل لسيدنا نوح: يا نوح! هل بلغت؟ يقول: بلى، فيقول الله تبارك وتعالى لأمة نوح: هل بلغكم نوح؟ يقولون: ما جاءنا من نذير، فيكذبون وهم أمام الله عز وجل؟!! وهناك مثل في مصر يقول: (نهيتك وما انتهيت، والطبع فيك غالب، وذيل الكلب ما ينعدل ولو علقوا فيه مائة قالب).

نداء أهل النار مالكا

نداء أهل النار مالكاً قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ومالك ملَك كريه المرءى كأكره ما أنت راءٍ من الرجال، وإذا غضب على النار أكل بعضها بعضاً، وأخذت تجري منه إلى الأبواب، يطول صمت مالك مئات السنين، فإذا أجابهم قال: إنكم ماكثون، بعد هذه المدة يكون هذا الجواب، ما أطول المدة وما أمر الجواب!

خطيب جهنم ونداءات أهل النار

خطيب جهنم ونداءات أهل النار خطيب أهل الجنة سيدنا داود، وإذا تلى القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، وهؤلاء في جهنم خطيبهم الشيطان، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] بعد أن أوردهم المهالك؟! وإذا سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، فينادون: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، فينادون ربهم: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم:44] فيجيبهم الله عز وجل: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:44 - 45]. يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيجيبهم الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]. يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]، فيجيبهم الله عز وجل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. فلا يبقى لهم بعد ذلك إلا أنين الرجل المدنف، وهم يصطرخون فيها، وأول أمرهم زفير، ونهاية أمرهم شهيق كصوت الحمار. هذه منزلة أهل النار عياذاً بالله أن نكون منهم.

متفرقات من عذاب النار

متفرقات من عذاب النار قال الله تبارك وتعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] أي: يكلفون بصعود جبل من نار، فإذا وصلوا إلى نهايته ردوا بمقامع من حديد إلى قعر النار. قال الله عز وجل عن ناره: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:28] أي: لا تبقي لحماً، ولا تبقي مخاً، ولا تبقي عظماً، قال: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29] أي: حراقة للجلد، أو تلفح وجوههم فتدعها أشد سواداً من الليل البهيم. قال الله تبارك وتعالى: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] هذا الظل الذي من يحموم لا بارد ولا كريم، ظل أسود حار يأخذ بالأنفاس، يكاد يزهق أرواحهم، وعهد الناس بالظل في دار الدنيا أنهم يستريحون فيه ويتفيئون نعيمه، فما بال هذا الظل؟! وعلى الطرف الآخر شجرة طوبى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب بالجواد المسرع في ظلها مائة عام ولا ينتهي ظلها)، فانظر إلى هذا الظل من ذياك الظل!! أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي يقول الله عز وجل: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] فشرر النار يشبه القصور العظيمة. وهذه النار لا تفنى أبداً، كما قال العلامة ابن القيم: دار جمعت الطيب وأهله الطيبين، ودار جمعت الخبث وأهله، لا تستويان أبداً، ولا تبيدان أبداً. قال مجاهد: يلقى الجرب على أهل النار فيحتكون حتى تبدوا عظامهم، فيقال: لماذا هذا؟ يقال: لأذاكم للمؤمنين.

صفة الجنة

صفة الجنة وعلى الطرف الآخر دار غرس غراسها الرحمن بيده. إن جنة عدن كما قال سيدنا عبد الله بن عمر في الصحيح الموقوف عليه وله حكم الرفع: (رحم الله أقواماً علموا أن الرحمن غرس الجنة بيده، فقدروا قطع الغرس، إنما خلقنا لنحيا مع الخالق، دار غرس غراسها الرحمن بيده، حصباؤها المسك، وترابها الزعفران، ولبناتها الفضة والذهب، وجيرانها أنبياء الله، وزوارها ملائكة الرحمن، الطوافون عليهم فيها الولدان المخلدون، سقفها نور عرش الرحمن). فنعيم الجنة نعيم يتكلم، وأما عن أرض الجنة فتصور لو أن رجلاً فرش بيته بالحصير، ثم أراد أن يفرشه بالموكيت أو بالسجاجيد ربما يوهم عائلته أنه قد غير الحصير بالسجاد، فما ظنك بدار أرضها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض الجنة مسك خالص) فبالله عليك خبرني كيف يمشي الإنسان على المسك! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تربتها الزعفران). وقال ابن عباس: أرض الجنة من مرمرة بيضاء من فضة كأنها المرآة، فضة ليست مصمتة كفضة الدنيا، وإنما فضة هي في صفاء الزجاج. وأرض الجنة مسك خالص، هذه الأرض التي يمشي ويسير عليها أولياء الله عز وجل.

آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة

آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة آخر من يدخل الجنة وآخر من يخرج من النار -ولا يخرج منها إلا حبواً كما جاء في الحديث الصحيح- هذا الرجل الذي ينسيه الخوف من النار أن يسأل المولى عز وجل الجنة، يقول: يا رب! -كما جاء في الحديث الصحيح- اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك. فيأخذ الله تبارك وتعالى عليه العهد والميثاق ألا يسأله شيئاً غير أن يصرف وجهه عن النار، ثم يمثل له شجرة ذات ظل، فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها، يقول: ما أغدرك يا ابن آدم، ألم آخذ عليك العهد والميثاق ألا تسألني شيئاً غير ذلك؟! يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك. ثم يمثل له شجرة ذات ظل وثمر، يقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها وآكل من ثمرها، فيقربه، ثم يمثل له شجرة ذات ظل وثمر وماء -يعني: تحتها نبع ماء- فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها وآكل من ثمرها، ثم يرى باب الجنة ويشم رائحتها، وإن رائحة الجنة لتشم من على مسيرة خمسمائة عام، كما جاء في الحديث الصحيح. فإذا دخل الجنة يقول: هذا لي وهذا لي، وهذا لي، وهذا لي، ثم تنقطع به الأماني؛ لأنه رآى ما لا قبل لعينه به، ورأى أشياء لا يعرفها، فتنقطع به الأماني، فيقول له المولى عز وجل: تمن من كذا، وتمن من كذا، وتمن من كذا، ثم يقول المولى عز وجل: ولك عشرة أمثال الدنيا من يوم خلقتها حتى أفنيها، هذا آخر من يدخل الجنة! وفي الحديث الصحيح الذي صححه الحافظ ابن حجر والإمام المنذري وغيرهما من أهل العلم في كتاب السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد قال: (ثم يمثل له قصر من در أبيض فيسجد، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنما رأيت ربي، أو كأنما تراءى لي ربي، فيقال: إنما هذا قصر من قصورك، ثم يمشي فيرى رجلاً من أهل الجنة فيهم بالسجود، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنك ملك، يقول: إنا كهرمانك -يعني: خادمك- وتحت يدي ألف كهرمان على مثل ما أنا عليه) هذا آخر من يدخل الجنة! وينظر إلى وجه زوجته ثم يعرض عنها ويلتفت إليها مرة أخرى فتزيد في عينيه سبعين ضعفاً، ويزيد في عينيها سبعين ضعفاً، ويرى صفحة خده في خدها، وترى صفحة خدها في خده، هذا آخر من يدخل الجنة! هذا نعيم حسي، فما ظنك بالنعيم الروحي: إن داود عليه السلام إذا تلى القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فما ظنك برؤية الملك العلام! إن من النعيم في الجنة أن تمر السحابة من المسك بأهل الجنة فتقول: ماذا أمطركم؟ قال يحيى بن أبي كثير: أشهد الله أن لو أراني هذا الموقف لأمرت السحابة أن تمطر علينا حوراً مزينات. ومن أنهار الجنة كما قال مجاهد كما روى أبو نعيم في صفة الجنة قال: يخرج أولياء الله عز وجل إلى شواطئ أنهار الجنة، ثم تخرج الحور العين، فإذا أعجب الرجل منهن بواحدة لمسها فتتبعه وتمشي خلفه. فهذه أنهار تنبت الأبكار لا تنبت الحشائش، لبن لا يحلب من الأبقار، وعسل لا يجنى من الأزهار، وخمر لا يعصر بيد الخمار، كل هذا يجري كالأنهار برحمة العزيز الغفار، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31]، ماء يجري في غير أخدود، سبحان مثبت العقول!! وأنهار تجري في غير أخدود، أمسك الله حافتيها بقباب اللؤلؤ المجوف. نسأل الله تبارك وتعالى أن يدنينا من الجنة، وأن يبغض إلينا كل عمل يقربنا من النار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حسن الخلق

حسن الخلق لقد دعا الإسلام إلى التخلق بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن الأخلاق السيئة، ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام القدوة العظمى للأمة في حسن الخلق، واقتدى به أصحابه الكرام وأتباعه وأتباعهم إلى يوم الدين. وقصص الصحابة والسلف الصالح في تمسكهم بمكارم الأخلاق والابتعاد عن سيئها شيء عظيم عجيب.

التزكية وحسن الخلق

التزكية وحسن الخلق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. موضوعنا عن التزكية وحسن الخلق، ولله در من قال: يا من تنهش في أحشائي. يا من مني. يا من جزءاً من أجزائي. يا من تبدو للجهال كأنك دائي. إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي. قل لي هل يأتيك ندائي؟ إنك مني. أنت كأني لست أرائي. أنت كأني حين شقائي. حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء. حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي. إنك مني. إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد. إنك فيها من شركائي. لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي. حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي. ووشاة القوم إذا بانوا تسري الطعنة في أحشائي. قل لي هل يأتيك ندائي؟ أبغ العزة عند إلهك. ليس العز دمي وبكائي. وغداً من قواك يميتك، إن أنت أهملت ندائي. الكلام عن حسن الخلق في هذه الأيام كما يقول جمال الدين القاسمي علامة الشام: هذا وقت تسكب فيه العبرات، فهذا موضع تسكب فيه العبرات، والله عز وجل أقسم أحد عشر قسماً متتالية في سورة واحدة من كتابه، أن المطلوب صلاح النفوس بالتزكية، قال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:1 - 9]. وتزكية النفوس: تحليتها بالفضائل وبالأخلاق الجميلة؛ بالعفو مع الكتمان وبالصفح وبالحلم وبالتغافل وبقبول ظاهر الناس وترك سرائرهم إلى الله عز وجل، فهذه أخلاق طيبة قامت عليها ربع الرسالة المحمدية، كما قال الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151]. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، فمطلب عظيم بعد التوحيد تحلية النفس بالأخلاق الحسنة، كما أمر الله تبارك وتعالى كليمه موسى أن يذهب إلى فرعون، يقول الله تبارك وتعالى له: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19]، ففي البداية يكون الوعظ الحسن. ثم يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76] فجعل الله عز وجل الجنات العلى لمن تزكى. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تزكية النفس إحدى موجبات ذوق حلاوة الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجد العبد طعم الإيمان إلا بثلاث: أن يشهد أن الله وحده لا شريك له، وأن يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يعطي الدرنة ولا الهرمة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم، وأن يزكي نفسه، قيل: وما تزكية النفس يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان). فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى ثلاث لذوق طعم الإيمان، وأعلى درجات الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وتزكية النفوس وسلامة القلوب أمر مسلم إلى الرسل وإلى الأنبياء لا يخضع إلى مجرد المجاهدة، ولا إلى مجرد الرياضة بدون علم نبوي وتزكية نبوية، فلا يستطيع الإنسان أن يعالج نفسه بدون وجود طبيب، أو يخضع جسده لمجرد التجارب بدون علم وبدون طب، وإلا فإن الشريعة قد ضمنت الطبيب الجاهل الذي ليس عنده علم، ومن يتلف عضواً فعليه دفع الدية لذلك العضو الذي أتلفه، فكيف بطب القلوب؟! فلا يسلم إلى الناس ولا إلى الصوفية ولا إلى أصحاب المواجيد، وإنما يسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. والعنصر الأخلاقي عنصر متين في شرع الله عز وجل، فقد أثنى الله على نبيه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، قال ابن عباس: وإنك على دين عظيم لا دين أحب إلي وأكرم عندي مما أنت عليه. وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: (كان خلقه القرآن). وأصالة هذا الدين ثبتت في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الثناء العلوي، وهذا التكريم العظيم من الكبير المتعال لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا عظمة العظمات أن يتلقى رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا الثناء العلوي، وهذا التكريم العظيم، وهو يعلم من عظم ربه ما لا يحيط به أحد من البشر سواه، ويعلم قائل هذه الآيات، ومتى قيلت، في أعظم كتاب من كتب الله عز وجل، تتجاوب فيه أصداء الوجود، يبقى ما بقت الأيام، ثم لا يفخر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت وطأة هذه الكلمات العظيمة، بل لا تزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نوراً على نور، وتواضعاً ورحمة. قال سيد قطب: هذه عظمة العظمات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: سيدنا رسول الله وهو بشر، وسيد البشر كان يثني على أحد من أصحابه فمن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشر لا يستطيع الصحابي إلا أن يفتخر على الصحابة بهذا الثناء. سيدنا سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال له سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (ارم سعد فداك أبي وأمي) فقال سيدنا سعد مفتخراً على الصحابة: لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه. فبهذا الثناء كان يفتخر به على الصحابة، فإذا كان من مناقب سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ارم سعد فداك أبي وأمي) فما ظنك برسول الله وهو يسمع هذا الكلام العطر ينزل به جبريل في سجل الله الخالد، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

أحاديث تبين فضيلة حسن الخلق

أحاديث تبين فضيلة حسن الخلق وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاثاً على حسن الخلق مع العوام والخواص: (عليك بحسن الخلق، وبطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في الميزان: الخلق الحسن). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي الناس شيئاً خيراً من الخلق الحسن). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء -أي: لجدال- وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه). فترك المراء من حسن الخلق، وترك الكذب مازحاً من حسن الخلق، ثم ينص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك به الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس) وهذا حديث النواس بن سمعان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل المؤمنين أحسنهم خلقاً). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قيل: ما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل الظامئ بالهواجر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن المسدد ليدرك بحسن خلقه، وكرم ضريبته ما يبلغه درجة قائم الليل، وصائم النهار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كريم يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تعالى آنية في الأرض، وآنية الله قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف، إذا انقيد انقاد، وإذا استنيخ على صخرة أناخ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من يرجى خيره، ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره). فهذه أحاديث عطرة في حسن الخلق.

مرجع مكارم الأخلاق

مرجع مكارم الأخلاق والإمام ابن القيم أرجع مكارم الأخلاق كلها إلى أربعة: الصبر، والشجاعة، والعفة، والعدل. فالصبر: أن الإنسان يصبر على أذى الغير، ويكظم غيظه، ولا يظلم غيره، ولا يتعجل. والعفة تدعوه إلى الحياء، وهو رأس كل خير. والشجاعة تدعوه إلى مكارم الأخلاق. والعدل يكون وسطاً بين حدي الأمر. فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فهي وسط في الأمور. والإمام الهروي قال: مرجع مكارم الأخلاق كلها إلى العلم، فإن الرجل إذا لم يكن عالماً بمكارم الأخلاق: بحسنها من سيئها، وضع السيف في موضع الندى، فالعلم يبين مكارم الأخلاق من سيئها. وإذا كان الرجل شريفاً فإنه يسامح ويتغاضى عن حقوقه، ويصبر على أذى الناس. والخلق الحسن يمكن اكتسابه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها)، وقال: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الحلم بالتحلم، وإنما العلم بالتعلم).

مشاهد حسن الخلق مع المخلوقين

مشاهد حسن الخلق مع المخلوقين حسن الخلق يكون مع الخلق ومع الحق، أما حسن الخلق مع الخلق: فلك فيهم أحد عشر مشهداً مما يصيبك من أذى الخلق: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي الأول: إذا اعتدى عليه رجل، أو سبه، أو ظلمه، أو شتمه يشهد مشهد القدر، يعني: ينظر إلى ظلم غيره له كما ينظر إلى وقوع المطر ووقوع البرد ووقوع ألم الجراح عليه، فيقول: هذا من قضاء الله عز وجل علي وعليه، ومن قدر الله في وفيه، فينظر إلى القدر في حق نفسه لا في حق ربه. والدليل على ذلك: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بيده: خادماً ولا أمة ولا دابة إلا أن يجاهد في سبيل الله). وقالت السيدة عائشة: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا في حق من حقوق الله عز وجل، فلا يقوم لغضبه شيء حتى ينتقم لربه)، أما في حق نفسه فيسامح. وكما قال سيدنا أنس رضي الله عنه: (والله ما لمست ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شممت عطراً أطيب من طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله قال: دعوه، فلو قضي شيء لكان). إذاً: تفنى عن حق نفسك، وتنظر إلى مشهد القدر في حق غيرك. المشهد الثاني: مشهد الصبر، وأنت تعلم جزاء وثواب الصابرين، وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كضم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه أتى الله به على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، فيزوجه منها ما يشاء). وحديث آخر قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كضم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة). وسيدنا سلمان الفارس أتى إليه رجل فشتمه فقال: يا هذا! إن ثقلت موازيني فأنا خير مما تقول، وإن خفت موازيني فأنا شر مما تقول. وشتم رجل الربيع بن خثيم تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه سيدنا عبد الله بن مسعود: أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم يا ربيع لفرح بك. وكان إذا رآه يقول: وبشر المخبتين، جلس خمس عشرة سنة في بيت سيدنا عبد الله بن مسعود والجارية التي على الباب لا تعرف أنه صحيح البصر، وكانت تقول: يا سيدي! صاحبك الأعمى الربيع بن خثيم أتى، فكانت تظن أنه أعمى من كثرة غض بصره إلى الأرض. والربيع بن خثيم أتى إليه رجل فشتمه فقال له: يا هذا! إن دون الجنة عقبة إن جزتها فأنا خير مما تقول، وإن لم أجتزها فأنا شر مما تقول. وأتى رجل إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فشتمه فأنصفه وصبر سيدنا عمر بن عبد العزيز، ثم قال له: أردت اليوم أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، هذا والله لن يكون. وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وثواب الصبر كالماء المنهمر كما قال ميمون بن مهران: لا حد له. المشهد الثالث: مشهد العفو والحلم والصفح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما ازداد عبد بعفو إلا عزاً). ليس أحد يعفو إلا ويزيده الله رفعة في الدنيا والآخرة، والأمثلة على ذلك ما يلي: السيدة أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب أتت مولاة لها إلى سيدنا عمر وقالت له: إن صفية تفضل السبت على الجمعة، وتصل قوماً من اليهود، فسيدنا عمر أرسل إلى السيدة صفية يسألها فقالت: والله ما أحب السبت بعد أن أبدلني الله خيراً منه الجمعة، أما صلتي لليهود: فإن لي فيهم رحماً، ثم أتت إلى مولاتها فقالت: يا بنيتي! ما حملك على أن تقولي ما قلت؟ اذهبي فأنت حرة لوجه الله. وسيدنا عبد الله بن عون كان له جمل يحمل عليه ويحج عليه وكان به معجباً، فأتى مولى من مواليه فلطم الجمل فأسال عينه، فقال الناس: إن كان ثأر من عبد الله بن عون فسيكون اليوم، فلما أتى إليه قال: يا بني! ألا غير الوجه يرحمك الله؟ اذهب فأنت حر لوجه الله. وسيدنا الأحنف بن قيس يضرب به المثل في الحلم، سيد أهل المشرق كما قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب، أتى إليه رجل فقال: علمني الحلم، قال: أن تصبر على الذل يا بني! وأتى إليه رجل فشتمه، ثم شتمه مرة ثانية وهو ساكت، ثم شتمه للمرة الثالثة وهو ساكت، فبكى الرجل الذي كان يشتم وقال: والله ما يمنعك من الرد علي إلا هواني عليك، يعني: أنت تستخف بي. وأتى إليه رجل فشتمه في الطريق، حتى أوصله إلى خيام أهله فقال: يا هذا! إن كان عندك شيء فأت به، فقد أتيت إلى مضارب قومي ولا آمن عليك سفهاء الحي أن يؤذوك. وقالوا للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا سيد أهل الوبر). وقد بلغ من حلمه بينما هو جالس مع رضيع له يداعبه إذ أتت مولاة له بلحم مشوي على حديد محمى فوقع على الولد فقتله، فارتاعت الجارية فقال: لا روع عليك، أنت حرة لوجه الله. وبينما هو في حبوته - يعني: جامع يديه إلى ركبتيه- إذ أتوا بابن أخ له قد قادوه مكتوف الأيدي وقد قتل ابنه، قالوا: فوالله ما حل حبوته ولا تغير وجهه، وإنما قال: أذعرتم الفتى، ثم قال: يا ابن أخي! أنقصت عددك، وأثمت بربك، وأسأت إلى قومك، وقتلت نفسك بيدك، ثم قال: حلوه، ثم قال: اذهبوا إلى أم ولدي فادفعوا الدية لها فإنها غريبة. يقول مثل ما قال سيدنا يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]. وهذا نبي الله يوسف عليه السلام حتى مجرد تذكيرهم بالإساءة وما عملوه فيه لما جمع الله بينه وبين إخوته وبين أبيه، قال يوسف: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: إذ أخرجني من الجب؛ لأن إخوته كانوا جالسين، فلم يذكرهم بغدراتهم به. المشهد الرابع: مشهد الرضا، كما يقول الشاعر: من أجلك جعلت خدي أرضا للشامت والحسود حتى ترضى وهو أن ترضى بقضاء الله عز وجل عليك، فالرضا بعذابه فيك عذب. سيدنا عمر بن عبد العزيز علم من سمه من مواليه في اليوم الذي سمه، ثم قال رضي الله عنه: والله لو أعلم أن شفائي في مد أصبعي ما مددتها، أحبه إلى الله أحبه إلي. عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني لما تحب أحب المشهد الخامس: مشهد الإحسان، وهو أعلى درجة من مشهد الرضا، وهو أن الرجل إذا أساء إليك تحسن إليه، فكما قال العلماء: اقتضاء الثواب الهبة، فالرجل إذا وهبك شيئاً فأنت تجازيه وتحسن إليه، إذاً: من ظلمك تحسن إليه. وهناك أمثلة: فسيدنا أبو بكر الصديق كان ينفق على مسطح بن أثاثة، فلما قال في عائشة ما قال وتكلم في عرضها وهي زوج رسول الله، حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه، فلما نزلت قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] عاد أبو بكر إلى النفقة على مسطح. وإبراهيم بن أدهم كان في المقابر فمر عليه جندي وقال له: يا رجل! أين العمران؟ فأشار إلى المقابر، فعلاه بالسوط فشق رأسه، ثم أراد أن يدخله المدينة من أجل أن يراه الناس، لأنه يقول له: أين العمران؟ فيشير إلى المقابر، فتلقاه أهل المدينة بالبشاشة والاحترام؛ لأنهم يعلمون مكانة إبراهيم بن أدهم وجعلوا يقبلون رأسه، فلما نظر الجندي إلى الناس وهم يقبلونه أراد أن يقبل يده ورجله، فقال: لا يا بني، والله ما علوتني بالسوط حتى دعوت الله لك بالجنة؛ لأني أعلم أن ثواب صبري الجنة، فما أردت أن يكون نصيبي منك الجنة ونصيبك مني الأذى. وقال الفضيل بن عياض: من أفضل من قابلتهم رجل كان في الحج، وبين هو في الطواف إذ سرق ماله فظل يبكي إلى قبيل الغروب، فقلت له: أمن أجل المال تبكي؟ قال: لا والله، وإنما تذكرت هذا الذي سرقني وضعف حجته بين يدي الله عز وجل، فبكيت رحمة له. والربيع بن خثيم اشترى فرساً بثلاثين ألف درهم وأراد أن يغزو عليها، وعندما انصرف الغلام قام الربيع ليصلي، فأتى السارق فسرق فرس الربيع، فلما أتى الغلام قال: يا ربيع! أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان شغل يشغلني عن الصلاة، ثم رفع يده إلى السماء، وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه. فهذه الأخلاق موجودة في عوام المسلمين، وفي أعضاء الحركات الإسلامية غير موجودة، وأقسم بالله على هذا إلا النادر، وبهم يرفع البلاء عن أهل الأرض. فمشهد الإحسان: أن تحسن إلى من أساء إليك وهو في موقف ذلة، وجاء يعتذر إليك، فالجزاء من جنس العمل، وستكون يوم القيامة في موقف ذلة وتحتاج إلى ربك ليحسن إليك، والجزاء من جنس العمل، ومن لا يرحم لا يرحم. المشهد السادس: مشهد سلامة القلب وبرد القلب، وهو أن تنام وليس في قلبك غل لأحد من المسلمين، فتنام س

علو الهمة

علو الهمة ندب الله عباده إلى المسابقة في الخيرات، والتنافس فيما يقربهم إليها، وما وصل السابقون إلى ما وصلوا إليه إلا بعلو هممهم وقوة عزائمهم، ولذلك فإننا بحاجة إلى أن نشد العزم فهي بداية الطريق الصحيح، وإن مما يساعد على ذلك مطالعة سير السلف وما كانوا عليه، وأخذ النفس بها حتى تستقيم على ذلك.

الحث على المسارعة إلى الخيرات والتنافس فيها

الحث على المسارعة إلى الخيرات والتنافس فيها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: قال الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8]، أي: انقطع إليه انقطاعاً. وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]. وقال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]. وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]. وقال تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ). ويقول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير). ويقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها). ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الألباني: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الأرنؤوط وضعفه غيره من العلماء: (لست من دد وليس الدد مني)، والدد: هو اللعب. ويقول الشاعر: إن لم تكن للحق أنت فمن يكون والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون والموت غاب عن العيون والحور والجنات أضحت كالظنون فاهتف بكل النائمين أتصدقون؟ أتصدقون؟ فإلى متى يا قلب تغشاك الظنون؟ ويقول الشاعر: لإسلامي أعيش أنا لتوحيدي وذا ديني نقشت حروفه تعلو على كل العناوين بخط بارز يسمو على كل الميادين لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران زفوني لإسلامي لإسلامي ولو في السوق باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له عرق له نبضي وتكويني أنا ماذا أكون أنا بلا رب بلا دين أنا ماذا أكون أنا أجيبوني أجيبوني وتقول حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب. ويحيى بن زكريا المذكور في قول الله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] جاء في تفسيرها: أنه لما قيل له: اذهب بنا نلعب قال: أوللعب خلقنا؟ وجاء من هذه الأمة من يترجمون ما قاله يحيى بن زكريا عليه السلام. فـ الربيع بن خثيم تلميذ عبد الله بن مسعود الذي كان يقول له: أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم يا ربيع لفرح بك، تقول له ابنته: يا أبت ألعب؟ فيقول لها: اذهبي فاصنعي خيراً، فيقولون له: أو ما تقول لها: اذهبي فالعبي، فيقول: والله لا تكتب في صحائف أعمالي أني قلت لها: اذهبي فالعبي. فكان يحترز من كلمة اللعب. وكان أحد السلف يسف خبزه سفاً ويقول: بين السف والمضغ خمسون تسبيحة. وكان يحيى بن معاذ الواعظ يقول: لا يزال العبد مقيماً على حب الأماني؛ وما جعل أحد الأماني تقوده إلا كان أثقل الناس خطوة وعدم الماء وقت العطش، ووجد السراب الخادع. ومن كان متسلحاً بالدعاء وجدته على خير دائماً، وعلى ري دائماً، وسباق إلى الخير دائماً، فإن كان ذا قوة استقى لنفسه أو استسقى، فيمده الله بقوة من السماء، وإن كان مستضعفاً وجد وريثاً لموسى عليه السلام يسقي له ويزاحم الرعاء. وكان الجيلاني -أحد أئمة الحنابلة وأحد أئمة السلفيين وعدو المتصوفة-؛ قالوا له: هل كان هناك ولي لله على غير اعتقاد ابن حنبل؟ أي: على غير عقيدة السلف، فقال: ما كان هذا -أي: ما كان هذا في الماضي- ولا يكون. وكان يقول: سيروا مع الهمم العالية. ويقول ابن القيم: قيمة كل امرئ ما يحسن.

أنواع الهمم

أنواع الهمم والهمة همتان: همة تدور حول الأنتان والحش، وهمة ترتبط بمن فوق العرش. فالهمة التي تدور حول الأنتان والحش ينادى صاحبها إلى الدار الآخرة وإلى الله عز وجل من مكان قريب فلا يجيب النداء، فالدنيا تصمه عما سوى الباطل وتعميه، وذكر الله حبسه وموته، وذكر الناس فاكهته وقوته، ينادى إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة من مكان قريب فلا يجيب النداء، فمصاحبة هذا الرجل هلاك، والقرب منه سم ناقع كما قال العلماء، فإن ابتليت به فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، كما يقول القائل: وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي ليرى أن قد عقلت وعندكم عقلي. والأخرى ارتبطت بمن فوق العرش إرادة وطلباً وإخباتاً وشوقاً.

علو الهمة في اغتنام الأوقات

علو الهمة في اغتنام الأوقات أنفاس الدعاة وقف على الله عز وجل، ودقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالغفلة، ولو قال لك الكسالى والبطالون: لو تفرغت لنا! فقل لهم: وأين الفراغ، قد ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله عز وجل. أو قل لهم مقالة إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل حيث يقول: يا بني! لقد أعطيت المجهود من نفسي. الراحة للرجال غفلة، وأنفاس الدعاة وقف على الله عز وجل، وهمم الأحرار تحيي الرمم، ونفحة الأبرار تحيي الأمم.

علو الهمة في التوبة والرجوع إلى الله

علو الهمة في التوبة والرجوع إلى الله إن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور، بل بالرجعة إلى الله عز وجل، وبالتوبة إليه عز وجل، فما لنا وكأن قد احتجب عنا من في السماء؛ لأننا نادينا من وراء الحجرات، وزأرنا رافعين أصواتنا نوجب على الله عز وجل لنا نصراً بإجلال، نبيعه ولا نرى علينا حقاً عادلاً في الثمن، ودون أن نقدم بين يديه دمعاً مدراراً في جوف الأسحار، ولا مناجاة في جوف الليل. وانظروا إلى أبي مسلم الخولاني رحمه الله -وقد كان سيداً من سادات التابعين- لما ألقاه الأسود العنسي في النار فخرج منها سالماً، ثم أتى إلى المدينة ودخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى خلف سارية، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بالله عليك أنت صاحب الكذاب الذي خرج من النار سالماً، فقال: أنا هو، فقال: الحمد لله الذي لم يمت عمر حتى أراه الله من أمة محمد من صنع الله به صنيع خليله إبراهيم.

علو الهمة في المسارعة إلى الخيرات

علو الهمة في المسارعة إلى الخيرات وكان لـ أبي مسلم الخولاني ثوب يعلقه في المسجد، وكان إذا تعبت قدمه من القيام يضربها بالسوط، ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء! أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه؟ والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً! لا تقرنن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل ويقول الإمام العلامة ابن رجب الحنبلي: لما سمع القوم قول الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] فهموا أن المراد أن يكون كل واحد منهم هو السابق لأخيه إلى بلوغ المنازل العليا من الجنة، فكان تنافسهم في الآخرة حين كان تنافس الناس في الدنيا. ولذا يقول الحسن البصري: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره. ويقول بعضهم: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل. ويقول أحد العباد: لو أن رجلاً سمع برجل هو أسرع لله منه فمات ذلك الرجل غماً ما كان ذلك بكثير على من يريد أن يرث الفردوس. قال رجل لـ مالك بن دينار: رأيت فيما يرى النائم أن رجلاً وقف على حلقة مثل حلقاتنا هذه فقال: أيها الناس! الرحيل الرحيل -يعني: إلى الجنة-، فلم يقم إلا محمد بن واسع، فغشي على مالك بن دينار. وأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله فكان يقول: إن لي نفساً تواقة، ما نالت شيئاً من الدنيا إلا واشتاقت إلى ما هو أعلى منه، فلما نالت ما نالت -أي: الخلافة، وهي أجل منصب في الدنيا- اشتاقت إلى ما عند الله عز وجل. وأتته مولاة له تقول له: يا أمير المؤمنين! رأيت فيما يرى النائم وكأن الصراط قد نصب على جهنم، ورأيت أناساً يتساقطون فيها، ورأيتك يا أمير المؤمنين وقد جيء بك، فلم تتم كلمتها حتى غشي عليه، فجعلت تصيح في أذنه: رأيتك والله قد نجوت، رأيتك والله قد نجوت.

علو الهمة في التشمير للآخرة

علو الهمة في التشمير للآخرة ولما علم الصالحون قصر العمر وحث الحادي سارعوا وطووا مراحل الليل مع النهار؛ اغتناماً للأوقات، فأصغ يا أخي! سمعك لنداء ربك، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، وبادر قبل طي صحيفتك، واحسر عن رأسك قناع الغافلين، وشمر للسباق غداً، فإن الدنيا ميدان المتسابقين، واعلم أننا خلقنا لنحيا في دار غرس غراسها الرحمن بيده، وفي الصحيح الموقوف: (إن الله عز وجل غرس جنة عدن بيده)، فرحم الله قوماً علموا أن الرحمن غرس جنة عدن بيده، فاشتاقوا إلى الغارس واشتاقوا إلى المغروس. فيا إخواتاه سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً. أيا صاح! هذا الركب قد سار مسرعاً ونحن قعود ما الذي أنت صانع أترضى بأن كنت المخلف بعده رهين الأماني والغرام ينازع على نفسه فليبك من كان باكياً أيذهب وقت وهو في اللهو ضائع فحيهلاً إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق يطوي المراحلا وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا قال صاحب كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: إن أهل الجنة رفع لهم علم فشمروا إليه، ووضع لهم صراطها المستقيم فاستقاموا عليه، ورأوا أن من أعظم الغدر بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفذ، بعيش إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالكدر وممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته، أوله مخاوف وآخره مهالك، أتبيع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات؟ أتبيع مساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، بمساكن ضيقة آخرها الخراب والبوار؟ أتبيع الحور اللاتي خلقن أبكاراً {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] كأنهن الياقوت والمرجان، بسيئات الأخلاق المشاقات أو المتخذات أخداناً. وذكر العلامة ابن القيم: أن نساء الجنة خلقن من الزعفران. دع المفرغات من ماء وطين واشغل هواك بحور عين وغفل أبو سليمان الداراني يوماً عن قيام الليل، فرأى فيما يرى النائم أن امرأة من أهل الجنة حوراء تقول له: أتنام والملك يقظان؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، أتنام وأنا أربى في الخدور منذ آلاف الأعوام؟ ثم أنشدته شعراً حفظ منه: أتطلب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة كثير القيام

بيان حقارة الدنيا ومن ركن إليها

بيان حقارة الدنيا ومن ركن إليها وإلى المتكالبين على الدنيا نقول لهم: ما الدنيا إلا مأكول أو مشروب أو ملبوس أو منكوح. فأما المأكول فأفضله العسل، وهو بزقة ذبابة، وأما الملبوس فأفضله الحرير وهو صنع دودة، وأما المشموم فأفضله المسك وهو دم فأرة؛ لأنه يتخذ من عنق الغزال، وأما المنكوح فهن النساء، فإن أعرضت عن طريق الله عز وجل فهي مبال في مبال، تتزين بأجمل الثياب ويراد منها أقبح الأماكن. إن الذي يعتز بشيء من حطام الدنيا نقول له: جدك البعيد تراب رميم، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين؛ أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة. أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرفضة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب إن أعرضت عن طريق الله عز وجل وكنت عند الناس من كنت فإنك لا تساوي شيئاً من ملك الله، وأنت تعلم ما يخرج من بطنك، والنحلة أعلم بما يخرج من بطنها، فيا ليت قومي يعلمون.

همة السلف رضي الله عنهم

همة السلف رضي الله عنهم تلمح القوم الوجود وفهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وصاحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى، أما تسمعون قول الصحابي الجليل أنس بن النضر يقول لـ سعد بن معاذ: والله يا سعد! إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد. وهذا شم حسي! يا ابن النظر طهرت أنوفكم فاشتاقت إلى ما عند الله عز وجل، ونحن زكمت أنوفنا بالدنيا وبعطر الكاسيات العاريات، فلم يبق فيها مكان لشم رائحة الجنة. خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأبوس مقبض بابه خذني إلى وطن أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه هؤلاء علت هممهم في كل شيء: في الدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة، وفي طلب العلوم الشرعية، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، وفي الصلاة، وفي الصدقات، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

همة السلف في طلب العلم

همة السلف في طلب العلم أما في تعلم العلوم الشرعية فتجد السلفي يتابع المكتبات ويشتري الكتب، ويستلف ويستدين، وتلقاه ماشياً واضعاً الكتاب تحت إبطه، والبعض يسخر ويقول: انظروا إلى هذا، إن لحيته تسع أربعة آلاف حديث ويسأل عن مسألة فلا يجيب! فهؤلاء علت همتهم في طلب العلوم الشرعية؛ حتى يعبدوا الله عز وجل على بصيرة، وكما بوب الإمام البخاري: (باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، وقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، أي: على علم). فتعالوا لننظر إلى مدى بلوغ همتهم في طلب العلوم الشرعية، فهذا الإمام الزهري كانت تقول زوجه عنه: والله لمطالعة الزهري لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر، يعني: يا ليته تزوج ثلاث نساء ولم يطالع الليل والنهار في هذه الكتب. الإمام ابن الباغندي الحافظ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا رسول الله! منصور أحفظ أم شعبة؟ فيقول: منصور، منصور. الإمام ابن الباغندي كان ربما دخل الصلاة وهو يقول: الله أكبر، وبعد أن يكبر يقول: حدثنا فلان عن فلان حتى يذكر أنه في صلاة. وابن أبي حاتم الرازي الإمام الجليل يقول: اشتهينا سمكة فاشتريناها، ولم يكن عندنا وقت لنطبخها، كنا في النهار نطوف على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل، فمكثت عندنا ثلاثة أيام فأكلناها نيئة. وشعبة بن الحجاج الضخم الذي كان يحدث عن الضخام كانت ثيابه بلون التراب، واليوم أحدنا إذا اغبرت ثيابه قال: لا بد أن تكون الغترة مكوية، والجلابية مكوية، وكذا وكذا والإمام أحمد بن حنبل كان يقول: مع المحبرة إلى المقبرة. وكان الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله وهو يخيط قميصه يصنع كماً ضيقاً وكماً واسعاً، أما الكم الواسع فكان يضع فيه الكتب حتى يقرأها وهو في الطريق. ومصعب الزبيري أعطاه يحيى بن زكريا كتب محدث آخر فأكلتها الفأرة وبالت عليها، فجعل يقرأ ما بقي من أكل الفأرة. وأبو بكر الأنباري كان يقرأ في الأسبوع 10. 000 صفحة. وابن تيمية الجد كان يدخل إلى الخلاء ثم يقول لابنه: اقرأ علي بصوت عال حتى أسمعك وأنا بالداخل. هذه هي همة السلف في تعلم العلوم الشرعية.

بيان أدب السلف مع مشايخهم

بيان أدب السلف مع مشايخهم وأما همتهم في تأدبهم مع مشايخهم: فالإمام الشافعي كان يقول: كنت أقلب الصفحة بين يدي مالك تقليباً خفيفاً؛ حتى لا يحس بها مالك. فكان جزاؤه من جنس عمله، فـ الربيع بن سليمان كان يقول: والله ما استطعت أن أشرب الماء في حضرة الشافعي. طهرتم فطهرنا بفاضل طهوركم وطبتم فمن أنفاس طيبكم طبنا والربيع بن سليمان كان تلميذ الإمام الشافعي.

همة السلف في الدعوة

همة السلف في الدعوة وأما همتهم في الدعوة إلى الله عز وجل فحدث عنها ولا حرج، فالتربة التي يرقد فيها الآن أبو أيوب الأنصاري هي بالقرب من أسوار القسطنطينية، وأم حرام مدفونة في جزيرة قبرص، وبلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون تحت أسوار دمشق، وعقبة بن نافع في إفريقيا. وهم حجة علينا. هؤلاء هم الذين حملوا الإسلام غضاً طرياً، فقد حملوه في عيونهم، وأما نحن فنستحيي من ديننا، ونستحيي من هذه البضاعة التي نحملها ونعرضها على الناس، وأما هم فعاشوا للإسلام. يقول أبو حازم الأعرج: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، لا تقل: دينك لحمك، دينك دمك، إن الرجل منا إذا اتسخ ثوبه قام يغسله. فما بال دينك ترضى أن تمزقه وثوبك الدهر محمي من الدنس؟ نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع أصبح دين أحدنا لعقة على لسانه، يقول: أؤمن بيوم القيامة، وكذب ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ! يقول الشاعر: أدمت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها وباسوا كف من ضربا وهذا من شعر نزار قباني، وشعره عفن لكن البيت الوحيد الذي صدق فيه على العرب هو هذا. وعندما قاتل العرب ضد جنود أمريكا وفرنسا وغيرهم قال فيهم نزار فصدق وهو كذوب: متى تفهم؟ متى تفهم؟ متى يا أيها المتخم أيا جملاً من الصحراء لم يلجم ويا من يأكل الجدري منك الوجه والمعصم متى تفهم؟ أيا من تخجل الصحراء حتى من نداءاتك نسيت الوشم فوق يديك نسيت ثقوب خيماتك وبعت الله بعت القدس بعت رماد أمواتك وانظروا في المعارك الإسلامية في اليرموك وفي القادسية وفي سقوط المدائن.

نماذج من علو الهمة

نماذج من علو الهمة

علو الهمة في الغزو والجهاد

علو الهمة في الغزو والجهاد الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فقد أشار علي شيخنا وقرة العين الشيخ محمد بن إسماعيل بأن أكتب رسالة تسمى: صلاح الأمة في علو الهمة، وهذه من بركات مولانا الشيخ محمد بن إسماعيل، حفظه الله لدعوته. وإن شاء الله سآتي بمقتطفات من كل مبحث. فمثلاً في باب الغزو والجهاد: تجد نور الدين محمود زنكي القسيم بن القسيم، قاهر الصليبيين والذي فعل بجحافلهم ما فعل كان يتمنى الشهادة في سبيل الله، فقال له قطب الدين النيسابوري شيخ علماء الحنفية: بالله عليك يا مولانا السلطان! لا تخاطر؛ فأنت سور الإسلام، فإنك إن قتلت أخذت الديار، فيقول له: اسكت يا قطب الدين! فهذه إساءة أدب مع الله عز وجل، فمن كان يحفظ البلاد والعباد قبل نور الدين محمود زنكي. ومن منا لم يسمع بـ أبي ثور عمرو بن معد كرب الزبيدي وفعله في معركة القادسية سنة (100هـ) أو سنة (106هـ)، ومن منا لم يسمع بـ طليحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة، ثم ختم الله له بالشهادة؛ لبطولته. وكذلك القعقاع بن عمرو التميمي الذي سمل أعين الفيلة في معركة القادسية، وقتل القائد الذي كان يتولى قيادة القلب في جيش الفرس. فلا القعقاع يهتف بالسرايا فتخشى ساحة الهيجا نزاله ولا حطين يبعثها صلاح طوى الجبناء في خور هلاله فلا صوت المؤذن في حمانا وقد سقطت مآذننا بلاله وهم الشعب صك أو رغيف وجل مناه أن يرضي جماله وألفاظ يتيه بها قرود وليس لها معان أو دلاله سيادته هوان في هوان وقد رفعت معانيه السفاله سعادته شقاء في شقاء سماحته يعيش مع الضلاله فخامته هزيل ليس يدري بأن الناس قد صدحوا هزاله ودولته يعيش على الأماني ويخشى أن تفاجئه الإقاله

علو الهمة في الصلاة

علو الهمة في الصلاة وفي باب الصلاة: تجد الأخ أول ما يلتزم مع الاتجاه الإسلامي مواظباً على صلاة الفجر في الصف الأول، ثم بعد مرور شهرين تجده متأخراً. وفي الحركة الإسلامية ناس تفوتهم الركعة الأولى والثانية والثالثة، بل لو حضر الجماعة الأولى فقد كثر خيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي حسنه الألباني في صحيح الجامع: (من واظب على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان، براءة من النفاق وبراءة من النار). وأما السلف فقد كانت أحوالهم عند الوضوء على أعلى الهمم، وكانوا يستحضرون فيه أنهم سيدخلون على حضرة الملك. فـ علي زين العابدين كان إذا توضأ اصفر وجهه وارتعد وكان يقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟ وذلك من شدة خشوعهم في صلاتهم. وعبد الله بن الزبير كان يسمى حمامة المسجد، وكان إذا ركع أو سجد أتى الطير فحط على ظهره من شدة خشوعه. ومنصور بن المعتمر كان يقوم الليل على سطح بيته، وكانت بنت الجيران تصعد فتجد شيئاً منصوباً تظنه خشبة، فلما مات منصور بن المعتمر فقدت الخشبة، فقالت لأمها: يا أماه! المشجب الذي كان على سطح جارنا أين ذهب؟ فقالت لها: ذاك المشجب قد مضى إلى ربه. فـ منصور بن المعتمر هو ذاك المشجب، وقد مضى إلى ربه. ولما سئل أبو زرعة الرازي عن حكم الكتابة في المحاريب قال: قد كرهها قوم، فقالوا: هناك كتابة في محراب مسجدك، قال: إني منذ 20 سنة أصلي في هذا المسجد لا أشعر أن هناك كتابة. وسعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد. والربيع بن خثيم يقول: والله إني لآنس بصوت عصفور المسجد أشد من أنسي بزوجتي. وأحدهم كان في صلاته، فضاعت له مخلاة فيها شعير، فجعل يفتش عنها فلم يجدها ولم يجدها الخادم، وبعد أن قضى صلاته قال: المخلاة في المكان الفلاني، فقال: أعد صلاتك؛ فإنك كنت تفتش عن المخلاة. والعبد اليوم يستوفي مكيال شهواته ولا يطفف فيها، ثم يطفف في مكيال دينه وصلاته. فإذا هانت عليك صلاتك فأي شيء يعز عليك من دينك؟ قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95]. وإمام من أئمة السلف وهو الربيع بن خثيم خرج في غزاة ومعه غلامه يسار، فخرج يحتش بالفرس وقام الربيع بن خثيم إلى صلاته، فسرقت الفرس، ولما أتى الغلام قال: يا سيدي! أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان هناك شيء يشغلني عن الصلاة. ثم قال بأدبه: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن فقيراً فأغنه. وكان عمر بن الخطاب ينعس من قيام الليل وهو قاعد، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ألا ترقد؟ ألا تنام؟ فيقول: وكيف لي بالرقاد، إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله. وكأن لسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي أو لرعي النجوم كنت مخلا والصحابي الجليل أبو ريحانة كان في الغزو، ولما رجع من الغزو أعدت له زوجه طعاماً للعشاء، فأكل، ثم صف قدمه في محرابه إلى الصباح، ثم أخذ مخلاته وذهب إلى الجيش، فأمسكته زوجه وقالت له: يا أبا ريحانة! غزوت ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: والله لو خطرت لي على بال لكان لك في نصيب! بعدما غاب شهرين أو ثلاثة عن زوجته يقول لها: لو خطرت لي على بال. قالت: يرحمك الله! وما الذي يشغلك عنا؟ قال: إني نظرت في كتاب الله عز وجل وإلى ما أعد الله عز وجل لعباده في الجنة من سندسها وإستبرقها فذاك الذي شغلني عنك.

علو الهمة عند أهل الكرامات

علو الهمة عند أهل الكرامات ولذلك كان هؤلاء الناس لهم دلالة على الله عز وجل، حكى ابن سيد الناس في المقامات الجلية في كرامات الصحابة: أن أبا ريحانة هذا سقطت إبرته في البحر، فلما وقعت قال: يا رب! عزمت عليك إلا أرجعت لي إبرتي، فعلت الإبرة على سطح الموجة فأخذها. وفي الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني عن محمد بن المنكدر قال: (إن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في أسر الروم، ثم هرب، فبينما هو في الطريق تصدى له الأسد، فقال له: يا أبا الحارث -وهذه كنية الأسد- أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أمري كيت وكيت وكيت، فحرك الأسد ذنبه يميناً ويساراً ثم أوصله إلى مأمنه). وهذا بنان الجمال جلس يأمر أحمد بن طولون بالمعروف وينهاه عن المنكر فحبسه، ثم جوع أسداً وألقاه إليه، فقالوا: كيف كان قلبك حين دخل الأسد عليك وكان الأسد يشمك، فقال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع، أي: كان يفكر في مسألة فقهية. وهذه القصة حكاها الذهبي في سير أعلام النبلاء وابن كثير في البداية والنهاية. والمصطفى صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها فيما حكاه ابن حجر في الإصابة، قال: (فلما طلقها حثا عمر بن الخطاب التراب على رأسه ومشى باكياً في المدينة وقال: ما أصبح الله يبالي بـ عمر ولا بابنة عمر، فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له كما في حديث الذي حسنه الألباني -: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة). وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويزرع إلا في منابته النخل

قيام الليل عند السلف

قيام الليل عند السلف وكان للصحابة أمور عجيبة في قيام الليل، واليوم يأتي شخص ويقول: والله أنا أخ سلفي، ولكن شغلي الحديث والعلل والمتون والأسانيد وتحقيق الكتب عن قيام الليل، وليس عندي وقت لقيامه. فنقول له: هل أنت أحسن من أبي هريرة، فإنه اتخذ الليل جملاً هو وخادمه وزوجته: ثلث يصليه الخادم، وثلث يصليه هو، وثلث تصليه زوجته، فإذا جلس إلى الشروق بعد الفجر كان له 12. 000 ألف تسبيحة. قال الأرنؤوط: صحيح. وكان مع ذلك من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الجفاف الذي عندنا فهذا من مطالعة الكتب، وإذابته يكون بالذكر وبقيام الليل. ومسروق بن عبد الرحمن المفسر الجليل تقول عنه زوجه: كان يقوم الليل، وما كان يأتي صلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدماه لمنتفختان من أثر القيام، وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه. والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام دخلت امرأة ذات صباح على زوجته فوجدت بللاً في مصلى الشيخ على السجادة التي يصلي عليها، فقالت لها: ثكلتك أمك! تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ، فقالت: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما دموع الأوزاعي. وهذه امرأة تأتي بابنها وتريه حفره في البيت وتقول له: هذا موضع دموع أبيك. أي: إن أباه كان يبكي هنا حتى عمل حفرة لدموعه. وإن تعجب فاعجب من عمر بن الخطاب الذي كان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء! نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعار وابن الأثير لما ترجم لـ نور الدين محمود زنكي الذي دوخ الصليبيين قال عنه: كان مدمناً لقيام الليل. وهذا غير المدمن على الأفيون والهروين والكوكايين المخرب للبيوت. يقول: وكذلك كانت زوجه عصمة الدين بنت الأتابك خاتون. كذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي أفما لك بالرجال أسوة؟ أتسبقك امرأة وأنت رجل؟ وعصمة الدين هذه زوجة نور الدين محمود زنكي قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها -ألأنه لا يوجد دقيق جاء من إيطاليا، أم لم يأت لباسها من بيوت الأزياء في باريس- فقالت: فاتني ورد البارحة، فلم أصل من الليل شيئاً، فأمر بصنع طبلقانة تضرب للناس لمن يريد أن يقوم في السحر. فلما مات عنها نور الدين محمود زنكي تزوجها صلاح الدين الأيوبي، فامرأة كهذه لا تكون إلا تحت صلاح الدين الأيوبي أو نور الدين محمود زنكي.

علو الهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

علو الهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أما في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا الإمام أبو بكر بن النابلسي شيخ علماء الحديث في مصر لما أتى المعز الفاطمي العبيدي الإسماعيلي وكان من أحفاد ميمون القداح اليهودي، الذي مدحه ابن هانئ الأندلسي بقوله: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وقبل أن يموت بسنتين اختفى في سرداب، فقال المصريون: المعز في السحاب. قال ابن كثير: قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]-أتى إلى ابن النابلسي - الإمام الحافظ هذا فقال: أيها الرجل! بلغنا أنك تقول: لو كانت عندي عشرة أسهم لرميت اليهود والنصارى بتسعة والرافضة بواحد. قال: والله ما هكذا قلت، ولكن قلت: والله لو كانت عندي عشرة أسهم لأبقيت تسعة للرافضة، ثم أبقيت العاشر أيضاً للرافضة، قال: لماذا أيها الرجل؟! قال: لأنكم غيرتم دين الأمة وأطفأتم نور السنة وادعيتم ما ليس لكم. فأمر المعز يهودياً أن يسلخه فسلخه، وهو يقول: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فلما وصل السلخ إلى القلب أشفق عليه اليهودي فطعنه برمح في قلبه فمات وروى الذهبي: فقال: والله لقد سمع صوت القرآن من جوفه بعد أن قتلوه. إذا أردنا النصر فلتعل هممنا في كل شيء، في طلب العلوم الشرعية، وفي الدعوة إلى الله عز وجل، وفي العمل بهذا العلم، وفي التحلي بأخلاق الإسلام، وفي الذكر، وفي ختم القرآن ولو مرة كل أسبوع، وفي قيام الليل، وفي الصيام.

علو الهمة في الصيام

علو الهمة في الصيام وفي الصيام مثلاً: إبراهيم بن النيسابوري تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، يقول الإمام أحمد بن حنبل لابنه إسحاق: يا إسحاق! والله لا أستطيع ما يستطيع والدك. وعندما جاءه الموت كان صائماً، فقال لابنه: ارفع الصدر يا بني! قال: الصدر مرفوع يا والدي! فقال: اسقوني، فلما أتوا بالماء قال: هل غابت الشمس؟ فقالوا له: لا، فأمسك بيديه -هكذا- حتى يموت وهو صائم، ثم لما جاءته السكرات قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]. ومن هممهم كان أحدهم يأتي إلى جرحه ويمسكه ويقول: إنك لصغير، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، يعني: حتى يقتلني. ومن الهمة العالية همة سيدنا موسى لما بكى كما في حديث الإسراء فيما يرويه الإمام البخاري، ولما سئل عن سر بكائه قال: (أبكي أن نبياً يبعث من بعدي ويدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي) فهذا بكاء الرجال. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح وبعد: فيا داعية الإسلام؛ من جد وجد، ومن صحت بدايته صحت نهايته، وليس من سهر كمن رقد. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

قبض العلماء

قبض العلماء إن العلماء هم حراس العقيدة، وحماة التوحيد، وبهم يحفظ الله هذا الدين، وتصان حرمات المسلمين. فإذا مات العالم خسر المسلمون حارساً من حراس عقيدتهم، وموت العلماء علامة على قبض العلم، وانتشار الجهل، وتولي الجهال على مقاليد أمور المسلمين، وهو ثلمة في الدين لا يزال الناس يشعرون بالنقص بعده.

ترجمة الإمام ابن باز

ترجمة الإمام ابن باز إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: لو بدا لرجل أن يسمى شيخ الإسلام فأولى الناس به الشيخ الشنقيطي، فما ظنك بالعلامة إمام عصره بلا منازع فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. يقول الشاعر أبو عمر المقدسي: العام عام ترجل الفرسان من شيخنا البازي للألباني دخل الجزيرة والشآم مواجع ومدامع تربوا على الطوفان علماء قد حملوا الهداية معلماً للحق يهدي حائر الثقلان همُ في الوجود صحائف قد سطرت بمداد أفئدة الهدى الرباني هم في الوجود موانئ لسفائن التوحيد تسري لدوحة الإيمان عادوا بها بيضاء بعد غشاوة وسموا بها عن مجمع البهتان رغم العدا علماؤنا لم يرحلوا فهواء مسجدنا غدا ألباني رغم العدا فرساننا لم يرحلوا سرب البزاة سحائب البلدان يا ناصر الدين الحنيف محارباً ومنابذاً بدع البغيض الجاني وإذا سألت عن الحديث وأهله فاسأل يجبك عن السؤال بياني علم الحديث رواية ودراية في عصرنا ربانه الألباني إن شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز قد مثل في شخصه الكريم مشيخة الإسلام في هذا العصر، فهو إمام أهل السنة، والمحقق الأثري الفقيه النابغة، مفتي الديار السعودية، ومرجع المستفتين من أنحاء العالم يرحمه الله. يقول بعض السلف: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز، ومن رأى جنازة الشيخ ابن باز ونحيب كبار الشيوخ بالمملكة بصوت عال كالأطفال، ولا أبالغ إذا قلت: أكثر من تسعمائة ألف يسير خلف جنازة الشيخ ابن باز، من رأى ذلك علم صحة المقالة السابقة. فهذه لحظات نعيشها مع الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، حفظ الشيخ القرآن عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، وبحفظه لكتاب الله عز وجل باشر انطلاقه في طلب العلم، ولم يحبس الشيخ نفسه على أستاذ واحد، بل اتصل بالعديد من المشايخ وتلقى عنهم العلم كل في حدود تخصصه، كالشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، حيث لم يألوا جهداً في تشجيعه على المثابرة في تحصيل الخير والعمل والتبحر في عقائد السلف. ومن مشايخه أيضاً الشيخ سعد بن حمد آل عتيق والشيخ حمد بن فارس، والشيخ سعد البخاري الذي أخذ عنه علم التجويد، على أن أطول سني الشيخ الدراسية تلك التي قضاها في التتلمذ كانت على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية سابقاً، حيث استمر ملازماً له عشر سنوات كاملة، وطول ملازمة الشيوخ تعين طالب العلم على الأدب، ولذلك قالوا: إن الشيخ من حدثك بلحظه قبل أن يحدثك بلفظه. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى برؤيتهم)، فما ظنك بالتتلمذ على أيديهم وطول معاشرتهم. فهذا محمد بن المنكدر يقول عن أحد العباد: والله إن رؤيته لتنفعني في ديني. وعبد الله بن المبارك يقول عن الفضيل بن عياض: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فيجدد لي الحفظ فأمقت نفسي. والذين عاشوا مع الشيخ ابن باز يقولون مثل ذلك عنه وعن رؤية محياه، مثل الشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ عبد الله بن غديان وغيره يقولون: كان الشيخ يأتي الصبح وعلى جبينه أثر السجود وفي رجليه انتفاخ من أثر القيام، يعني: إذا رأوه وجدوا قدميه وقد انتفختا من أثر القيام، ووجدوا آثار دموع الليل على جبين الشيخ عبد العزيز بن باز، فهذا الذي جعل الشيوخ ينتحبون على موت الشيخ ابن باز. فقد الشيخ عبد العزيز بن باز بصره في التاسعة عشرة من عمره، واستمر يطلب العلم بعد فقده لعينيه، ولكن قلبه ازداد نوراً وعوضه الله عز وجل بذكاء في القلب، وبصبر على العلم ومصابرة وذكاء منقطع النظير، فالشيخ حافظ العصر في علم الحديث، وإذا سألته عن حديث من الكتب الستة أو من عند غيرهم ففي الغالب تجده يستحضر الحديث سنداً ومتناً، ومن تكلم فيه من أهل العلم سنداً ومتناً، وإن أتيته بالإسناد أتاك بالمتن، وإن أتيته بالمتن أتاك بالإسناد، ويذكر لك مقالات أهل الجرح والتعديل في كل حديث، فائتوني يا أهل العيون المبصرة برجل كالشيخ كـ ابن باز في علمه وفي فقهه!! يقول الشيخ عائض القرني في ترجمة الشيخ ابن باز في كتابه الممتاز في مناقب ابن باز: وتستمر حالة الشيخ فلا يفتأ ليلاً ولا نهاراً يبحث عن العلم ويطلبه من مظانه، مع قلة ذات اليد ومع الفقر ومع العمل ومع عوزه للمال، وكان يقصد الله عز وجل في طلب العلم. أول الطريق إلى آخره بذل الروح والصدق مع الله عز وجل، بهذا ارتفع الخير وإلا فدع عنك الترهات. الإمام أحمد عندما كان يسأل عن الصدق والإخلاص فيقول: بهذا ارتفع الخير. فالشيخ صدق الله عز وجل في طلبه للعلم مع فقده للبصر. قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

وقفات مع جهود بعض أهل العلم في تحصيل العلم على كبر السن

وقفات مع جهود بعض أهل العلم في تحصيل العلم على كبر السن كثير من أهل العلم طلبوا العلم وهم كبار، ولكنهم صدقوا الله عز وجل فصدقهم، منهم شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك فقد طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، وأول ما بدأ يطلب العلم قالوا له: إن الربيع بن أنس موجود في السجن، فاحتال عليه حتى دخل السجن فأخذ منه أربعين حديثاً. والإمام البخاري يعنون في كتابه: من طلب العلم وهو كبير. والإمام القفال ذهب إلى أحد الأمصار في طلب العلم وعمره أربعون سنة، فقال: متى أطلب العلم، ومتى أحفظ، ومتى أعلم الناس، فمر بصاحب ساقية يسوق البقر وكان الحبل يقطع الصخرة من كثرة مروره عليها، فقال: أطلبه وأتفرغ لطلبه، واستمر يطلب العلم وعمره ثنتان وأربعون سنة حتى أصبح من كبار أئمة الشافعية ومن جهابذة الدنيا. يقول تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، ونحن لا نألّي الإخوة بطلب العلم ولكن كل وإمكانيته وما أعطاه الله عز وجل، ويمكن أن يفيد المسلمين في مجال آخر كبناء المساجد، وكفالة الأيتام، فلا يحقر نفسه، فعلى الإنسان أن يكون ذا طموح وهمة عالية. والإمام بقي بن مخلد إمام أهل الدنيا وصاحب أكبر مسند في التاريخ، يسير على قدميه من المغرب إلى بغداد ليصل إلى إمام أهل السنة، يقول: وكنت أقتات بما تلقيه النساء على طول الشاطئ من أوراق القرنفل، فلما وصلت إلى بغداد قيل لي: إن الإمام أحمد ممنوع من الدرس، فقلت: دلوني على بيت الإمام أحمد، ثم طرقت عليه الباب، فقلت: يا إمام طالب علم جئت إليك من بلاد بعيدة، قال: من إفريقيا أم من تونس؟ قال: بل أجوز بحراً من بلادي حتى أصل إلى تونس أنا من الأندلس، قال: مثلك يرحب لطلب العلم، ولكنك تعلم أني ممنوع من الدرس، قال: عندي فكرة، قال: وما هي؟ قال: سوف آتي إليك في زي السؤال وأنادي وأنت تخرج إلي، فأسمع منك الحديث، قال: بشرط ألا تجلس إلى أحد من أهل الحديث، قال: لك هذا، قال: فلما كان في الغد جعلت الأوراق في كمي وأتيت بخرقة وجعلتها عمامتي، ثم جعلت أقول: السؤال هنا والأجر هنالك إن شاء الله، قال: فيعطيني الحديث والاثنين والثلاثة فأسمع لذلك، قال: واستمر الحال على ذلك ستة أشهر حتى انتهت المحنة. يقول الإمام ابن أبي حاتم الرازي: اشتهينا سمكة، فمكثت عندنا أياماً، كنا في النهار نطوف على الشيوخ وفي الليل ننسخ ونقابل، فمكثت عندنا أياماً ولم يكن عندنا وقت لطبخها. والإمام محمد بن جرير الطبري والإمام محمد بن نصر المروزي والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة دخلوا لتحصيل بعض الأحاديث من عند المصريين، فانتهت عليهم النفقة واضطروا إلى أن يسألوا الناس، فقالوا: نجري قرعة ومن خرجت عليه القرعة يخرج ويسأل الناس، فخرجت القرعة على إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب كتاب الصحيح، فقال: ذروني حتى أصلي ركعتين، وبينا هو يصلي إذ دق الباب رسول لـ أحمد بن طولون فقال: أيكم محمد بن جرير الطبري؟ فدفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً، ثم قال: أيكم محمد بن إبراهيم؟ فدفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً، وأعطى لكل رجل خمسين ديناراً، فقالوا: ما قصتك؟ قال: أتى أحمد بن طولون آت في المنام فقال له: إن المحمدين جياع فأطعمهم، وهو يستحلفكم بالله إن انتهت النفقة أن تعلموه حتى يأتيكم بغيرها. فلا بد من الصدق في طلب العلم. لا تدبر لك أمراً فأولو التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا

جهود الشيخ ابن باز في تعلم العلم وتعليمه

جهود الشيخ ابن باز في تعلم العلم وتعليمه كان الشيخ ابن باز يجيد اللغة العربية الفصحى، ويشرحها ويلقيها على طلابه، وله في الفرائض والمواريث قدم، أما في الحديث فهو محدث الدهر، ويعرف الرجال. يقول عنه الشيخ عائض القرني: سألته قبل ما يقارب أربع سنوات عن الحجاج بن أرطأه، فقال: ضعيف ومدلس، قال: فهو يحفظ آلاف الرجال في ذهنه، فإذا سألته عن الرجل أخبرك عنه، وما قيل فيه. ويتابع كثيراً في (تهذيب التهذيب) لـ ابن حجر، وهو كتابه المفضل لديه، يقول لبعض محبيه: ربما حفظت 80% من تهذيب التهذيب الذي كله أسماء رجال، والذي يتكون من ثلاثة عشر مجلداً. يقول: ويحفظ (فتح الباري)، وقد قرأه مرات عديدة من وقت طلبه للعلم إلى الآن، وهو الذي تولى الإشراف على إخراجه وتحقيقه للناس. هذا الكتاب الذي مكث فيه ابن حجر يؤلفه اثنتين وثلاثين سنة. وواصل الشيخ مشواره في تعليم طلبة العلم من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فيدرس فتح الباري، وفتاوى ابن تيمية، وبلوغ المرام، ثم يدرس الكتب الستة وشروحها، ثم يدرس شرح العقيدة الطحاوية، ويدرس تفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، وجامع العلوم والحكم. يقول عنه محمد المجذوب: روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم فلم أر بازاً قط قبلك شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي والباز: هو الصقر. ويقول الشيخ عائض في مديح الشيخ عبد العزيز بن باز: قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي عفواً لك الشيخ قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كدمع الوابل السافي يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافِ مجالس اللغو ممشاهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعاني ولم تولع بإرجاف بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الظل في إشراقه الصافي يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم ولدي أضعاف أضعاف أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي كالشجو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف وثد اجتمعت في الشيخ عبد العزيز بن باز خصال ما اجتمعت في غيره. والشيخ لم يحبس نفسه في مكتبه فقط، وإنما كان رجل عامة، وهذا نادر قل أن تجده في طبقات الرجال، فالإمام أحمد كان رجل عامة، والأوزاعي كان رجل عامة، أما سفيان الثوري فكان رجل خاصة، فكان ينتفع به وبعلمه العلماء والمحدثون فقط، أما الأوزاعي فكان كالبحر يلج إليه كل الناس وينتفعون بعلمه. وكان أبو إسحاق الفزاري رجل عامة يختلط بعوام الناس، ويعلمهم السنن، ويؤدبهم، ويحملهم على الجادة، ويعلمهم عقيدة أهل السنة والجماعة، وكذلك كان الشيخ ابن باز، كانوا يدخلون عليه في أي وقت. وهو الشيخ الذي ما تغدى وما تعشى مع أولاده طيلة خمس وأربعين سنة، وفي هذه الفترة كان بابه مفتوحاً لكل الناس، ومائدة الطعام في بيته يأكل منها الناس، فيستفيدون من علم الشيخ ويأكلون من أكل الشيخ. حدثني الشيخ عمر العيد وهو دكتور في جامعة محمد بن سعود بالرياض يقول: كان الشيخ ابن باز يقترض الآلاف المؤلفة من العام إلى العام، فإذا علمت الحكومة السعودية تدفعها عنه؛ لأنها تعلم أن الشيخ كان ينفق حوالي ثلاثة آلاف ريال على بعض طلبة العلم يخصهم بالنفقة الشهرية. يقول أحد طلبة العلم: كان الشيخ يعرفني من صوتي، فإذا غبت يرسل إلي من يسأل عن أخباري ويعطيني المال من الفترة إلى الفترة يعينني على الدنيا من غير أن يدري أحد، يقول: إنك تجد الشيخ ابن باز يجلس وسط إخوانه ووسط طلابه يختلط بهم ويعرف حاجاتهم، ويؤدبهم بمخالطته، ويستفيدون من لحظه قبل أن يستفيدوا من لفظه، وهذه غاية عظيمة. فالشيخ وهو جالس وسط الناس يربيهم ويعلمهم ويحملهم على السنة. وكان صدر الشيخ ابن باز يتسع للمخالف أيما اتساع، وربما تجد طالب علم متحمساً لنصرة الإسلام، فيقول عن الشيخ الكلام الجاف الذي لا يقوله طالب علم في طالب علم، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة. كان يقول للمخالفين: هذا الأمر يحتاج إلى جهاد أمة بأسرها، وينصح الطلاب المتحمسين المندفعين بالتروي وبسؤال أهل العلم، ولو أن الناس اتبعوه في هذا لوفروا على الدعوات الإسلامية في كافة الأقطار الإسلامية الكثير والكثير. وينطبق على الشيخ أنه العالم العامل، والإمام الذهبي في السير ترجم لمائتين وخمسين يطلق عليهم لقب شيخ الإسلام، ويقول عن بعضهم: وكان سيد العلماء العاملين في وقته. فكان الشيخ من أعبد الناس، ومن أشدهم تطبيقاً للعلم. وأما على مآس المسلمين فتجده بكاء كالأم الشفوق أو كالأب الشفوق، فإذا سمع بمصائب المسلمين في البوسنة أو الهرسك أو كوسوفا يبكي كالطفل، وهذا يعلمه القاصي والداني عن الشيخ ابن باز، فبمجرد أن يخبر عن أحوال المسلمين تجده يبكي بكاء مراً، فهو يحس بواقع المسلمين وليس بعيداً عنهم، ويعلم واقع المسلمين في مصر، وفي الجزائر وفي غيرها من الدول. وهذا هو الشيخ الذي دان له الجميع بالفضل.

القصيدة البازية

القصيدة البازية هذه القصيدة قيلت في مديح الشيخ عبد العزيز بن باز، وهي قصيدة عظيمة، وتسمى القصيدة البازية. يا رائد العلم في هذا الزمان ويا مجدد العصر في علم وأعمال وحاتم في عطاياه وجودته في بحركم لا يساوي عشر مثقال في الجود مدرسة في البذل مملكة في العلم نابغة أستاذ أجيال الحق مذهبه والنصح يعجبه والذكر يطربه يحيا به تالي العلم مؤنسه والله يحرسه ما كان مجلسه للقيل والقال بالنص فتواه بالرفق ممشاه من فيض تقواه مخشوشن الحال لم ينتقص أحداً لم يمتلئ حسداً لم يفتتن أبداً بالمنصب العالي العين دامعة والكف ضارعة والنفس خاشعة من خشية الوالي المال ينفقه والوعد ينجزه والشهد منطقه مستعذب حالي يا درة العصر يا بحر العلوم فما رأت لك العين من ندٍ وأمثال حقاً فقد عرف التاريخ كوكبة مضيئة من صناديد وأبطال مثل ابن حنبل أو مثل ابن تيمية أو البخاري في إسناده العالي لكننا يا حبيب القلب نبصرهم كأنما مثلوا في شخصك الغالي فهذا قليل من فيض كثير قيل عن الشيخ عبد العزيز بن باز.

رثاء الشيخ ابن باز

رثاء الشيخ ابن باز هذه قصيدة للشيخ عبد الرحمن العشماوي، وقد رثى بها الشيخ ابن باز فقال: خفقان قلب الشعر أم خفقاني أم أنه لهب من الأحزان ماذا يقول محدثي أحقيقة ما قال أم ضرب من الهذيان ما لي أرى ألفاظه كحجارة ترمي بها الأفواه للآذان يعني: عندما قيل له: الشيخ مات. الشيخ مات عبارة ما خلتها إلا كصاعقة على الوجدان أو أنها موج عنيف جاءني يقتاد نحوي ثورة البركان يا ليتني استوقفت رنة هاتفي قبل استماع نداء من ناداني أو أنني أغلقت كل خطوطه متخلصاً من صوته الرنان الشيخ مات أما لديك عبارة أخرى تعيد بها اتزان جناني قل لي بربك أي شيء ربما أنقذتني من هذه الأشجان قل لي بربك أي شيء قال لي عجباً لأمرك يا فتى الفتيان أنسيت أن الموت حق واقع ونهاية كتبت على الإنسان أنسيت لا والله لكني إلى باب الرجاء هربت من أحزاني الشيخ مات صدقت إني مؤمن بالله مجبول على الإذعان الشيخ لا بل قلعة العلم التي ملئت برأي صائب وبيان هو قلعة العلم التي بنيت على ثقة بعون الخالق المنان وأمامها هدمت دعاوى ملحد وارتد موت البغي والبهتان وتطايرت شبه العقول لأنها وجدت بناء ثابت الأركان أنست بها نجد ومهبط وحينا واسترشد القاصي بها والداني هو قلعة ظلت تحاط بروضة خضراء من ذكر ومن قرآني صان الإله بها عقيدة أمة في عصرنا المتذبذب الحيران ماذا تقول قصائد الشعر التي صارت بلا سطر ولا أوزان ماذا تقول عن ابن باز إنها ستظل عاجزة عن التبيان ماذا تقول عن التواضع شامخاً وعن الشموخ يحاط بالإيمان ماذا تقول عن السماحة والنهى عن فقه هذا العالم الرباني مات ابن باز للقصائد أن ترى حزن القلوب وأدمع الأجفان في عين طيبة أدمع فياضة تلقى دموع الطائف الولهان والخرج تسأل والرياض ومكة عن قصة مشهورة العنوان عن قصة الرجل الذي منحت له كل القلوب مشاعر اطمئنان ما زالت أذكر صوته يسري إلى أعماقنا بمودة وحنان يفتي وينصح مرشداً وموجهاً ومعلماً للناس دون توان نور على الدرب ارتوى من فقهه وسرت منابعه إلى الظمآن يا رب قد أصغت إليك قلوبنا وتعلقت بك يا عظيم الشان الشيخ مات عليه أندى رحمة وأجل مغفرة من الرحمن ظل الشيخ ابن باز طيلة عمره يدافع عن العقيدة السلفية، وهو الشيخ الكبير الذي ترجع إليه جميع الأمة الإسلامية في الفتوى، فموته كان من المصائب التي أصيب بها المسلمون. نسأل الله عز وجل أن يجعل شيخنا ابن عثيمين خلفاً عن شيخنا ابن باز، وأن يسير به على دربه، ويرحم شيخنا الشيخ ابن باز أحلى رحمة وأرق رحمة. اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، اللهم اغسله بالثلج والماء والبرد، وأكرم نزله، وأكرم مدخله، واجعله مع العلماء الربانيين.

الإمام الألباني خادم السنة

الإمام الألباني خادم السنة كان الشيخ الألباني إماماً في السنة كما كان إماماً في الحديث. وقد وضع شيخنا الألباني قواعد في كيفية التصفية والتربية؛ تصفية كل العلوم الإسلامية مما علق بها، وتصفية التوحيد مما شابه من أرباب التأويل والتعطيل والتشبيه، وتصفية التفسير مما شابه من إسرائيليات، وتصفية كتب الحديث وتمييز الصحيح من الضعيف. قيل لـ عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة ما تصنع فيها؟ قال: يعيش لها الجهابذة من الرجال؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. والتربية هي تربية هذه الأجيال على الإسلام المصفى.

محبة الله

محبة الله إن محبة الله سبحانه وتعالى من أعظم العبادات والقرب التي يتقرب بها إليه، فهي مفرجة للهموم، وكاشفة للكروب، ومعينة على العبادات، ومقربة من رب الأرض والسماوات، ولذا كان لابد على الإنسان أن يعلم الأسباب الجالبة لمحبة الله فيتقرب بها إلى ربه، ويظفر بالنيل من قربه ووده سبحانه وتعالى.

فضل محبة الله وأسبابها

فضل محبة الله وأسبابها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: فاعلم يا أخي! أن منزلة المحبة منزلة عظيمة. من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجيء في الأول المحبة: هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخصت أبصار العاملين، وبروح نسيمها تروح العابدون، هي قوت القلوب، وحياة الأرواح، ونعيم القلوب والنفوس، هذه المنزلة العظيمة هي وسط العقد -كما قالوا- بين مقدماتها وثمراتها، فكل مقام من مقام الإيمان موصل إليها، أو متفرع منها، فما التوبة والمحاسبة والزهد إلا مقدمات المحبة، وما الرضا والشوق إلا ثمرات لهذه المنزلة العظمى، ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنها رأس الواجبات، وأصل أصول الحسنات، وما من متحرك في الكون إلا ويتحرك بمحبة مذمومة أو محمودة. والمحبة لله تبارك وتعالى: هي رأس مال المسلم، وتجارته مع الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). وحتى يعلم العبد منزلة المحبة ينظر إلى قول سيدنا أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: والله يا رسول الله! ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت). قال سيدنا أنس: فما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد صححه الشيخ الألباني، يقول في ثنايا الحديث في إحدى رواياته: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة، فقال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟! قلت: لا أدري أي رب، فوضع يده بين منكبي حتى أحسست بردها بين الثديين، فعلمت كل شيء، قلت: في الكفارات والدرجات، والكفارات: نقل الخطا إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره، قال: صدقت يا محمد، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ثم قال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهن حق، فتعلموهن وادرسوهن). أي: هذه الكلمات، أن تدعو الله عز وجل أن يبلغك حبه، قال: (إنهن حق، فتعلموهن وادرسوهن). ولقد تكلمنا قبل ذلك هاهنا عن الشق الأول من المحبة، فإذا أردت أن تحب فاعقل من تحب، أو إذا أردت أن تخدم فاعقل من تخدم، ثم اخدم بعد ذلك، فحينئذ تصيب الخدمة. تكلمنا عن الثناء على الله عز وجل، وأن الله عز وجل يحب لشيئين: أولاهما: لذاته، فهو أهل لأن يحب، حتى ولو لم يخلق جنة ولا ناراً، فإن له نعوت الجمال، وصفات الكمال. السبب الثاني: لنعم الله عز وجل وآلائه الواصلة إلى الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، شيئان يدعواك لحب الله عز وجل، وشأن عظيم أن تحب مولاك، وأعظم منه: أن يحبك الله عز وجل. فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ أطيب الحياة -كما قال الإمام ابن القيم - أن تكون محباً محبوباً، تتقرب إلى الله عز وجل وهو منك قريب، فتكون متقرباً إلى الله عز وجل وأنت قريب منه، إذا تقربت إلى الله عز وجل في دار الدنيا قربك إليه في دار الدنيا قبل الآخرة، مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها، إنها لذة الأنس بالله عز وجل، إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً، وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب! لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف، هذا قول أهل العلم وهم قوم تخللهم زهو بسيدهم، والعبد يزهو على مقدار مولاه. تاهوا به عمن سواه له يا حسن رؤيتهم في حسن ما تاهوا وكما يقول الشاعر: وإذا نظرت إلى حبيبي زادني حباً له نظري إلى الأمراء

نعيم أهل محبة الله في الآخرة

نعيم أهل محبة الله في الآخرة أما في دار الآخرة فانظر إلى بصيص من نعيمهم، قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]. فهم محمولون على بساط القرب إلى الله عز وجل، ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)) كما قال الله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] قربت منهم الجنة، والقرب هناك على قدر القرب هنا، من أحسن في ليله كوفئ في نهاره، من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يكان للعبد كما كان، فهم في جنان العرسان في دار الدنيا، وفي جوار الرحمن في دار الآخرة، شأن عظيم أن تحب، وأعظم منه أن تحب.

الأسباب الجالبة لمحبة الله

الأسباب الجالبة لمحبة الله

قراءة القرآن بتدبر

قراءة القرآن بتدبر فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ السبب الأول: قراءة القرآن يتدبر وتفهم لمعانيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الألباني: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف). فرحم الله أقواماً قرءوا القرآن على أنه رسائل من ربهم إليهم، فقدروا قدر المرسل، وقدروا قدر هذه الرسائل، ولو طهرت قلوبكم لما شبعتم من كلام ربكم، هذا قول ذي النورين. فتقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه، وكما يقول ابن الصلاح فيما روى عنه الإمام السيوطي في الإتقان: وقراءة القرآن كرامة اختص الله بها البشر دون الملائكة -إلا سيدنا جبريل؛ لأنه النازل بالوحي- ولهذا تحب الملائكة سماعه من البشر. ومن رحمة الله عز وجل: أنه سهل الفهم لمعرفة معاني كلامه، وهذا لطف من الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:22]، فبصيص من معاني القرآن الكريم ينسيك نفسك، كما قيل: مزامير الأنس، من حضرة القدس، بألحان التوحيد في رياض التمجيد، هذا طعم الخبر فكيف طعم النظر؟! آيات منزلة من فوق العرش، الأرض منها سماء، وهي منها كواكب، إذا رقت فأمساس الحياة الآخرة، وإذا هدرت فأمواج البحار الزاخرة كما قال أديب الإسلام الرافعي: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]. وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. فضل الله: هو الإسلام، ورحمته: أن جعل لكم من أهل القرآن، كما قال ابن عباس، أو فضل الله: هو القرآن، ورحمته: الإسلام كما قال أبو سعيد الخدري. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]. هذه الألسنة تحتاج إلى ملايين المرات من التوبة قبل أن تنطق بآية من آيات الله عز وجل، وهذه الألسن تحتاج إلى آلاف المرات من الطهارة والنظافة قبل أن تنطق باسم الله عز وجل، وليس العجب من قول الله عز وجل: (اذكروني) فهذا حق لله عز وجل، وإنما العجب من قوله تعالى: {أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]. يا غفول يا جهول! لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمت شوقاً إلى مولاك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكلام أقواماً، ويضع به آخرين). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرؤها). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله فله ثوابها ما تليت). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له به أجران). يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن؟! أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا. وقيل للحسن البصري: إن هنا رجلاً يحفظ كتاب الله ثم ينام عنه، قال: ذاك رجل يتوسد القرآن. أي: ينام على القرآن ويجعله وسادة وهو كلام يقطع نياط القلوب الطاهرة. قال محمد بن مسعدة: القرآن بستان العارفين، فأينما حلوا منه حلوا في رياض نضرة. وقال مالك بن دينار: إن الصديقين إذا تلي عليهم كلام الله عز وجل قربت قلوبهم، واشتاقت إلى ما عند الله عز وجل، ثم يقول: اسمعوا إلى ما يقول الصادق من فوق عرشه: رحم الله أقواماً كان القرآن نعيمهم وعنوانهم، أنسهم وميدانهم، نزهتهم وبستانهم. يقول شيخ لتلميذه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، فيقول: يا غوثاه! فبم تترنم؟ وبم تشدو؟ وبم تناجي مولاك؟ لو أن الإنسان قرأ القرآن على أنه رسائل نازلة من فوق السموات السبع، كما يقول كعب، يقول: القرآن أحدث الكتب نزولاً من عند ربكم. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حين ينزل المطر يشمر بثوبه ويقول: (إنه حديث عهد بربه)، فما ظنك بالقرآن؟ وعلى هذا القول يفهم قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستمع القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليستمعه من ابن أم عبد: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]). قال مطرف بن عبد الله: هذه آية القرآن التي وضعها الله تبارك وتعالى لقراء القرآن. وفي الصحيح الموقوف على أبي هريرة وابن عمر وله حكم الرفع: (يأتي القرآن يوم القيامة يقول: يا رب! إن لكل عامل عمالة فما عمالتي؟ ثم يقول: يا رب! هذه حلة الكرامة، يا رب! ألبسه تاج الكرامة، يا رب! ارض عنه، فليس بعد رضاك شيء). وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة وسيدنا الشيخ الألباني شفاه الله عز وجل وعافاه، وأمد الله في عمره وفي حياته، وأخرجه من المحنة التي يمر بها، يقول عنه: إن إسناده محتمل للتحسين (إن الرجل حين يخرج من قبره يتلقاه صاحب له فيقول: من أنت؟ يقول: أنا الذي أظمأت هواجرك، وأسهرت ليلك، أنا القرآن، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإني اليوم لك من وراء كل تجارة، ثم يقال: اقبض بهذه الخلد، وبهذه النعيم، ثم يكسى تاج الكرامة، ويحلى والديه حلة لا تقوم لهما الدنيا). أطيلوا على السبع الطوال وقوفكم تدر عليكم بالعلوم سحاب وفي طي أثناء المثاني نفائس يطيب بها نشر ويفتح باب تلا فصلت لما أتاه مجادل فأبلس حتى ما يكون جواب أقر بأن القول فيه طلاوة ويعلو ولا يعلو عليه خطاب يقول بشر بن السري: مثل القرآن مثل الثمرة، فالثمرة كلما مضغتها وجدت حلاوتها. قال مالك بن دينار معلقاً رحمه الله: صدق، فإنما أتي الناس من أنهم يريدون آخر السورة، يكون هم الواحد منهم أن ينتهي من السورة، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم ربما وقف عند الآية يرددها إلى الصباح مثل قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. وكم من علماء السلف من وقف الليل بآية يرددها إلى الصباح، كما حدث مع الربيع بن خثيم حيث كان يردد قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وثبت ذلك عن سعيد بن جبير وعن غيره من العباد والعلماء. فهذه أيام ذكر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله تبارك وتعالى من أيامكم هذه، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله عز وجل فيهن من أيامكم هذه، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء). فيكون مطلق الذكر في هذه الأيام أفضل من كل أنواع الجهاد. يقول ابن رجب: ويستحب للإنسان أن يختم القرآن في يوم وليلة. وهذا قول جمهور أهل العلم كما نقله الإمام النووي والإمام ابن رجب وغيره من أهل العلم.

التقرب إلى الله بالنوافل

التقرب إلى الله بالنوافل السبب الثاني: التقرب إلى الله تبارك وتعالى بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصلك إلى درجة المحبوبية، فتكون محبوباً لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: (وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها). ولابد من أداء الفرائض أولاً قبل النوافل، فصلاة الفجر مقدمة على قيام الليل، فإذا أديت صلاة الفجر فهذا خير وبركة، والناس كلهم يصلون الفجر، ويواظبون عليها، لكن المراد أن النوافل كقراءة القرآن تجعل الرجل من وفد الله، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس، قالوا: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته). فالتقرب إلى الله عز وجل بأداء الفجر في جماعة يجعلك من أهل وفد الله، وإن الملك ليغدو برايته كما قال سيدنا رسول الله مع أول من يدخل المسجد، يخرج مصاحباً له حتى يدخله المسجد، ثم يخرج معه حتى يوصله إلى بيته. فبداية التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض، ثم بعدها بالنوافل، فيكون هذا دائماً حال الواحد منا. ثم بعد الفرائض تأتي النوافل، ودرجات القرب من الله عز وجل لا يحيط بها عقل البشر، وإنما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم بأمثلة فقط، ولم يذكر درجات، عندما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) ومن تقرب منه باعاً سكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرب درجات لا تحيط بها عقول البشر: (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) و (من أتاني هرولة) سكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خل الهوى لأناس يعرفون به قد كابد الحب حتى لان أصعبه أو كما يقول العلامة ابن القيم: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نزوله فدرجات القرب هذه: لا يحيط بها عقل بشري. يقول: وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية، ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تبارك وتعالى فوق سمواته، والعبد في الأرض، وهذا الموضع هو سر السلوك، وحقيقة العبودية، وملاك هذا الأمر هو: إخلاص التقرب إلى الله أولاً، ثم التقرب ثانياً، ثم حال القرب ثالثاً، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب. يعني: من تقرب إلى الله عز وجل بالجوارح، (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها). كذلك نوافل الصيام والصدقة، فمن صلى اثنتا عشرة ركعة في يوم واحد بنى الله له بيتاً في الجنة، وهي السنن الرواتب، ثم بعد ذلك صلاة الوتر والمحافظة عليها، قال الإمام أحمد: واعلم أن من استمر على ترك صلاة الوتر فهو فاسق ترد شهادته. ثم هناك بعد ذلك تطوعات: كصلاة الضحى، يقول صلى الله عليه وسلم: (من مشى إلى المسجد في نافلة) قال أهل العلم: هي صلاة الضحى (كانت له كأجر عمرة). ثم يواصل الصيام وليس الإثنين والخميس فقط، أو صوم يوم عرفة فقط، أو عاشوراء فقط، أو صوم يوم وإفطار يوم، بل إن النوافل التي وردت في الصوم كثيرة ومتعددة منها: صيام وإفطار يوم، وهذا صيام نبي الله داود، وهو أفضل الصوم، وكذلك صيام السبت والأحد والإثنين من شهر، والثلاثاء والأربعاء والخميس من شهر كما كانت تفعل السيدة عائشة، أو صيام أربعة أيام في الشهر، أو خمسة، أو سبعة أو تسعة أو عشرة، كل هذا ورد في السنة. كذلك التقرب إلى الله عز وجل بالصدقات، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك امسح رأس اليتيم، وأدنه منك، وأطعمه من طعامك، وأسقيه من شرابك). كذلك تعليم العلم وتعلمه، فتعلم الناس مثلاً شرح العقيدة الواسطية، وكثير من طلبة العلم يغفل عن التدريس يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) يعني: مفروض أنكم تجلسون جلسات لحفظ القرآن وتعليمه، ولابد لكل طالب علم أن يأخذ مجموعة من التلاميذ يعلمهم كتاب الله تبارك وتعالى. كذلك النساء لابد لهن من دور في ذلك، ولابد أن نصلح مجال المرأة في الدعوة إلى الله عز وجل، فالمرأة المصرية أم إسماعيل شرف الله بها الكون، ونزل جبريل أمين وحي السماء تتويجاً لصدقها يضرب الأرض بعقبه، فتتفجر زمزم فهي ينبوع الرحمة في صحراء الجدب، وقد قالت لإبراهيم: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً: فلن يضيعنا، فهي أعظم امرأة رسمت معاني التوكل على الله. يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يرجونها للهو واللعب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب فلو أن كل أخ عمل لزوجته برنامجاً يقول لها: احفظي آيتين عند الفجر، وآيتين عند الظهر، وآيتين عند المغرب، وآيتين عند العشاء، ثم تقوم الليل وهي ماسكة المصحف تكرر العشر الآيات إن شاء الله ستين مرة يُكتب لها حظها من قيام الليل ومن قراءة القرآن، وعشر آيات تحفظها في اليوم والليلة، ولا يمر عليها سنتان بالضبط حتى تكون حافظة للقرآن كله، وتكون صادقة مع ربها ولا ينفع إلا الصدق مع الله عز وجل. سئل الإمام أحمد عن الصدق والإخلاص؟ قال: بهذا ارتفع القوم. فالتصدق بتعليم الناس القرآن والعلوم الشرعية يعتبر أولى من أن يتصدق الرجل ببدنه وجاهه، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خير الناس عند الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً) أو في رواية: (أو تطرد عنه جوعاً).

دوام ذكر الله بالقلب واللسان

دوام ذكر الله بالقلب واللسان السبب الثالث: دوام ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان، والعمل والحال، ونصيبك من المحبة على قدر نصيبك من الذكر، قال ذو النون: من شغل قلبه ولسانه بالذكر قذف في قلبه نور الاشتياق إليه. وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: من علامات المحبة لله دوام الذكر بالقلب واللسان والجوارح. وقال إبراهيم بن أدهم: أعلى الدرجات: أن يكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأشهى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف. وقال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]. وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]. يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب وكما يقول الشاعر: خطرات ذكري تستثير مودتي وأحس منها في القلوب دبيباً لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوباً يقول ابن معاذ الرازي: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟! ورضوانه يسع الآمال، فكيف وده؟! ووده ينسي ما دونه فكيف حبه؟! وحبه يدهش العقول فكيف لطفه؟! يقولون يحيى جن من بعد صحة ولا يعلم العذال ما في حشائيا إذا كان دار المرء حب مليكه فمن غيره يرجو طبيباً مداويا مع الله أقضي دهره متلذذاً تراه مطيعاً كان أو كان عاصيا ألا فاهجروني وارغبوا في قطيعتي ولا تكشفوا عما يجن فؤاديا ألا فاهجروني وارغبوا في قطيعتي وخلوا عناني نحو مولى المواليا يقول يحيى بن معاذ الرازي: لو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها ولهاً، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشاً، سبحان من أغفل الخليقة عن كل هذه الأشياء، وألهاهم بالوصف عن حقيقة هذه الأنباء. ويقول رحمه الله: يا من رباني في الطريق بنعمه! وأشار لي في الورود إلى كرمه، معرفتي بك دليل عليك، وحبي لك شفيع إليك. هذا الإمام الذاكر العابد لله تبارك وتعالى يقول: إلهي إني مقيم بفنائك، مشغول بثنائك، فقير أخذتني إليك، سربلتني بمعرفتك، وأمكنتني من لطفك، ونقلتني في الأحوال، وقيدتني في الأعمال ستراً وتوبة، وزهداً وشوقاً ورضاً ورضاء وحباً، تسقيني من حياضك، وترويني في رياضك، ملازماً لأمرك، مشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي، ولاح طائري، فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً، وقد اعتدت هذا منك صغيراً؟! فلي ما بقيت حولك دندنة، وبالضراعة إليك همهمة؛ لأني محب، وكل محب بحبيبه مشغوف، وعن غير حبيبه مصروف. وفي الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني: (أكثر من ذكر الله حتى يقال إنك مجنون). إذا كان حب الهائمين من الورى بليلى وسعدى يسلب اللب والعقل فماذا عساه يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الجوى فأجيب وأيامنا تفنى وشوقي زائد كأن زمان الشوق ليس يغيب تملكتمو عقلي وطرفي ومسمعي وروحي وأحشائي وأعضاي باجمعي وتيهتموني في بديع جمالكم ولم أدر في بحر الهوى أين موضعي هذه أيام ذكر، والإنسان يردد بالذكر في هذه الأيام قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك وسعديك والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل، لبيك إله الحق، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل. ومعنى التلبية: متقرب إليك، مخلص لك، محب لك، مقيم على طاعتك، اتجاهي وقصدي إليك. وقد اختلف أهل العلم هل تشرع التلبية بالتسبيح والأذكار والتهليل والتدبير في هذه الأيام أم لا؟ فاستحبه الإمام أحمد على الإطلاق، وقيده الشافعي برؤية بهيمة الأنعام. وروى الإمام البخاري أن أبا هريرة وابن عمر كان يدخلان السوق فيكبران ويكبر أهل السوق لذلك. وكان العلماء سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد يدخلون السوق فيكبرون لا يدخلون إلا لذلك. فهذه أيام ذكر لله عز وجل. كما أنها أيام صوم، فهذه الأيام التسع كان يصومها عبد الله بن عمر ويكملها صوماً، والغالب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل الصوم في هذه الأيام، وهذه أيام ذكر لله عز وجل، فأكثر من ذكر الله عز وجل، وسيدنا أبو هريرة كانت له في اليوم والليلة اثنتا عشرة ألف تسبيحة. وكانت رابعة بنت إسماعيل -زوجة الإمام أحمد بن أبي الحواري تليمذ الإمام أحمد - ريحانة الشام إذا طبخت قدراً من الطبيخ تقول لزوجها: كله يا سيدي، فوالله ما نضج إلا بالتسبيح. وعندما تجلس زوجة الواحد منا بجوار (البوتجاز) وهي مشغولة بذكر الله عز وجل يغرس لها نخل في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة). وما عرف التاريخ اسم زوجة الإمام البخاري، ولا اسم زوجة سفيان الثوري، ولا أنهما كانتا تجيدان المصطلح، وهذا الكلام لو أجدته لكان شرفاً عظيماً جداً، لكن الأساس أنها تعرف ما يصح به العقيدة، وجانب العبادات، ثم نريدها بعد ذلك عابدة، وبعدما تكون عابدة لو أخذت هذا العلم فهو خير عظيم، لكن أقل شيء أن يكون لها حال مع الله عز وجل في العبادة، فعندما يكثر منها الذكر، وقراءة القرآن، والصيام والقيام، والصمت، تتنزل عليها الرحمات، وتطيع زوجها، بعد هذا ممكن لها أن تطلب العلم، فيكون نزل على أرض صالحة للزراعة، ولكن أن تهتم بالعلم بدون عبادة ما ينفع، هذا ما ينفع عند الرجال فكيف عند النساء؟ نريدها عابدة، كما يقول أحمد بن أبي الحواري: والله إني ليرق قلبي بالنظر إلى وجه امرأتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما أرى عليها من كثرة الذكر والعبادة. أما في هذا الوقت فإن الواحد منا أول ما تولد له زوجته ولداً ويبدأ يخطو تضيع عليه الركعة الأولى، وأول ما يقرأ ويكتب تضيع عليه الجماعة الأولى، وأول ما يتزوج فقد ركب السفينة، وأول ما يخلف وينجب من زوجته تقول له زوجته: ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الولد مجبنة مبخلة)؟ وهذا شيء مفروض وهو حب الولد، وحصر المساجد قد أخذت منك وقتاً كبيراً، وأنت من زمان تصلي جماعة، والجمهور يقولون بجواز الصلاة جماعة في البيوت، وأنا وأنت جماعة! واسأل الله أن يحفظ لنا ولدنا، ويمكن أن يكون مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن باز أو الألباني! فالشيطان قد يأتي من هنا، فكيف سيكون كذلك وأبوه استنوق الجمل، وتمخض الجبل فولد فأراً، لما أبوه ناخ هو يطلع ابن تيمية!! وقد قيل: إن فساد البداية علامة على فساد النهاية. قيل لـ وهيب بن الورد: فلان عرف طريق الله ثم عاد منه، قال: لو وصلوا إليه ما رجعوا. وتذكر أن امرأة فيها ضعف النساء تقول: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم. فتقول: إذاً فلن يضيعنا. فالأمر يحتاج إلى صدق مع الله عز وجل، هذه الدعوة تحتاج منا إلى الكثير والكثير، سيدنا إبراهيم عليه السلام ضحى بابنه الذي أعطيه على الكبر، فأبقى الله له هذا الولد الطيب، وأعطاه أخاً له وابن أخيه، فمتعه الله بولد ولده في حياته، بل جعل النبوة والكتاب فيهما فقط، وأعطاه يعقوب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده) فيسأل الله عز وجل درجة الإيثار وأعلاها لأولي العزم: للخليلين إبراهيم ورسولنا صلى الله عليه وسلم، فيقوم بدين الله كله كما كان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد قدم ماله للضيفان، وولده للقربان، وجسمه للنيران، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف الأنفاس والحركات والسكنات والهم لله عز وجل، فإيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى مراقيه وإن صعب المرتقى، ثم بعد ذلك مطالعة القلب للأسماء والصفات، ومشاهدتها ومعرفتها. يقول الإمام ابن القيم: المعرفة: فعل القلب أن يعلم الإنسان ثم يطبق ما يعلم، فيبقى علمه مصحوباً بعمل، كما قال الإمام ابن القيم علم مصحوب بعمل؛ لما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله). وفي رواية: (أعرفكم بالله). قال الإمام البخاري: المعرفة: فعل القلب، أو عمل القلب، أن تعرف أسماء الله عز وجل وصفاته، وأن تعمل بها، وتتقلب في بساتين ورياض هذه المعرفة، وهذا العلم من أشرف العلوم الشرعية، فعلم الأسماء والصفات ليس مجرد ذكر للأسماء والصفات، أو أنك تقول: بدون تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، ولا تفويض، فاسم الله الملك يعني: أن الله عز وجل له ملك الدنيا والآخرة، له ملك السماوات السبع، والأراضين السبع وما بينهما، وما تحت الثرى، وما فوق السماوات السبع، فهو المالك وهو الملك، تعلم هذا، وتعلم أن كل من نازع الله عز وجل في كبريائه أو في ردائه قصمه الله عز وجل، عندما تقف طويلاً أمام اسم مثل الملك، وأن ملك الله عز وجل غير محدود، وملك غيره محدود وفانٍ، وملكه سبحانه لا ينقص منه شيء رغم جوده وكرمه، وكيف ينقص ملك هو قيمه، أبخيل فيبخله عبده؟! أليست الدنيا والآخرة والكرم والجود والفضل بيده؟ عندما تنظر في اسم الملك تعرف منه دينونة الكائنات كلها لله عز وجل ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له الفرخ في عشه ونسر السماء الجارح الكاسر يدين له النجم في أفقه

الحياء

الحياء الحياء خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وهو صفة من صفات الصالحين الصادقين، وهو مما أدركنا من كلام النبوة الأولى. وما انتشرت الفواحش والمعاصي والذنوب إلا بسبب نزع الحياء من قلوب الخلق.

رقابة الله على عباده توجب الحياء منه سبحانه

رقابة الله على عباده توجب الحياء منه سبحانه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وسلم، وبعد: أخي! اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، وخضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه. فالحياء على قدر حياة القلب، وكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتم. وأشد آية باعثة على الحياء قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. وقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] أي: وملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد، وهذا بإجماع علماء التفسير. ويقول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]. ويقول الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54]. وقال الله عز وجل: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]. وقال الله عز وجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52]. وقال الله عز وجل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13]. وقال الله عز وجل: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. ومن أسماء الله عز وجل الرقيب والعليم والخبير والحكيم والمحصي والشهيد، وكلها خاصة بعلم الله عز وجل. فالعليم: الذي يعلم جميع المعلومات. والحكيم: الذي يعلم دقائق العلم. والشهيد: الذي يعلم ما غاب وما حضر، والمحصي: الذي لا تغيب عن علمه غائبة. والخبير: الذي يعلم دقائق العلم، ويعلم الكليات كما يعلم الجزئيات، وكلها خاصة بصفة العلم لله تبارك وتعالى. وعلم الله عز وجل ليس كعلم المخلوقين، فالله تبارك وتعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان وكذاك يعلم ما يكون غداً وما قد كان والموجود في ذا الآن وكذاك أمر لم يكن لو كان كيـ ـف يكون ذا الأمر ذا إمكان فعلم المخلوقين قاصر، مبدوء بجهل ويعتريه النسيان، وأما علم الله عز وجل فهو علم كامل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد طعم بهن طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره)، وزاد البيهقي في روايته التي صححها الشيخ الألباني قال: (وزكى نفسه، فقال رجل: وما زكى نفسه يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان). وقال سيدنا عبد الله بن عمر: لا يجد عبد صريح الإيمان حتى يعلم أن الله عز وجل معه، ويعلم أن الله تعالى يراه، فلا يعمل سراً يفتضح به يوم القيامة. والحياء رؤية آلاء الله تبارك وتعالى عليك، ورؤية التقصير منك في حق الله عز وجل، فيتولد منهما وبينهما خُلق يبعث على ترك القبيح. فرؤية الآلاء والتقصير يتولد منهما خُلق يسمى الحياء، يبعث على ترك القبيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت). وفي الرواية الأخرى: (آخر ما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت). وهذه الجملة: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) تندرج تحتها ملايين الأمثلة. كريمان حمزة كانت مذيعة تلفزيونية، وكانت تقدم البرامج الدينية، ولخصت تجربتها مع التلفاز في كتاب سمته: لله يا زمن. و (لله يا زمن) هو مثل، فقد كان رجل موسيقار يقف أمام كل بيت يعزف، فتخرج المرأة وتعطيه شيئاً، وفي يوم من الأيام وقف أمام جامع، وهو يظنه قصراً كبيراً لرجل غني، فقال: سأمكث هنا أعزف حتى الصباح، فمكث يعزف طول النهار فلم يعط شيئاً، فقال له شخص: ما هذا؟ قال: أليس هذا قصر كبير من الكبراء؟ قال له: يا عم! إن هذا مسجد! فقال: لله يا زمن، يعني: تعبه ذهب على قلة الصيد مثلما يقولون. فهي تقول: إنها كانت تعد برنامجاً عن العشرة المبشرين بالجنة، فقال لها رئيس التلفاز السابق الذي ذهب إلى الحضيض: هذا البرنامج لن يمر إلا على جثتي إن مر. ثم سألها: لماذا تعملين العشرة المبشرين بالجنة كلهم من الصحابة، اعملي خمسة من هنا وخمسة من العشرة، وقد كان هذا أيام عاطف صدقي رحمه الله رئيس الوزراء السابق، فسألنا: لماذا لا يكون وزير الإعلام منهم؟ بل إن هناك مصدراً صحفياً أبلغ الوزير أن العشرة هؤلاء كلهم كانوا من الإرهابيين المتطرفين؛ من أجل ألا تصل هذه المعلومات إلى الناس، وقد سجلت هذا بخطها في كتابها: لله يا زمن. قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وهذا مثلما يقول بعض الناس: إن اليهود أبناء عمومته، في حين أن هؤلاء اليهود جاءوا من الاتحاد السوفيتي، ومن الحبشة، وهم ليسوا من بني إسرائيل، وقد كانوا يقولون: إن لنا حقاً تاريخياً في القدس، فإذا سئلوا: لماذا؟ قالوا: نحن بنو إسرائيل -أي يعقوب- وبنو يعقوب قد انقرضوا، أما هؤلاء اليهود فنصفهم أو ثلاثة أرباعهم جاءوا من الاتحاد السوفيتي، ومنهم من أتى من أواسط أفريقيا وأوربا، وليس هناك أي صلة تجمع بينهم وبين نبي الله يعقوب، فهؤلاء ليسوا بني إسرائيل من الناحية التاريخية. وأما من الناحية الدينية: فيعقوب بريء منهم، فقد قالوا عنه ما قالوا، قالوا: إن يعقوب سرق مواشي حميه وهرب بها ليلاً. وقالوا: إن رهابيل بن يعقوب الأكبر زنى بامرأة أبيه، وإن يعقوب علم بذلك وسكت. وقالوا: إن يهوذا بن يعقوب زنى بامرأة ابنه بعد موته، يعني: جعلوا من بيت يعقوب نبي الله بيت دعارة وزنا بالمحارم! ونحن أولى بيعقوب منهم، قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]. فسيدنا يعقوب وذريته من بعده مسلمون خلص، وهم أبعد الناس عن يهود هذا الزمان. وأجمع علماء المسلمين على أن اليهود والنصارى الآن كافرون مشركون، وهذا هو القول الفصل، وفي سورة النساء في الآية مائة وواحد وخمسين حكم فاصل في هذه المسألة ونص واضح صريح جلي.

فضل الحياء

فضل الحياء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً وإن خلق الإسلام الحياء). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، إذا رفع أحدهما رفع الآخر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبه، والحياء شعبة من شعب الإيمان). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء والعي) والعي: سكوت الإنسان كثيراً وعدم نطقه كثيراً؛ خشية الوقوع في الخطأ والمعصية. (الحياء والعي شعبتان من شعب الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، وما كان الحياء في شيء قط إلا زانه). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يستحي أن يرفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر). فالحياء صفة من صفات الله تبارك وتعالى، وحياء الله تبارك وتعالى لا تكيفه الأفهام ولا تحيط به العقول، فالله حيي ستير، يستحيي أن يعذب عبده المؤمن بعدما شاب في الإسلام، ويستحي من عبده الذي يرفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين، ويستر على العاصي والجاني ولا يفضحه. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إلى الله عز وجل بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته وقربته من رحمته، وصيرته محبوباً له، فإن الله حيي يحب أهل الحياء، جميل يحب الجمال، رحيم يحب الرحماء، كريم جواد يحب الجود، قوي يحب المؤمن القوي.

أقسام الحياء

أقسام الحياء والحياء يا إخوتاه! على عشرة أقسام: حياء الجناية، وحياء التقصير، وحياء الإجلال، وحياء الكرم، وحياء الحشمة، وحياء استصغار النفس، وحياء النفوس الكبيرة، وحياء المحبة، وحياء العبودية، وحياء المستحيي من نفسه، وسنشرح هذه الأقسام العشرة قبل أن نتكلم عن الحياء.

حياء الجناية

حياء الجناية أما حياء الجناية فهو ناشئ عن المعصية، فإذا عصى العبد ربه وعلم أن الله ناظر إليه ومطلع عليه استحيا من ربه، مثل حياء آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة وفر في الجنة، فقال له الله عز وجل: يا آدم! أفراراً مني؟ قال: لا، بل حياء منك يا رب! ومن هذا القسم حياء الأنبياء في عرصات القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي منها). وهنا لنا وقفة: فقد أخطأ الشيخ طارق حينما نفى النبوة عن آدم، وتكلم في ذلك علماء السعودية الأجلاء الكبار أهل العلم؛ وفي الصحيح أنه سئل صلى الله عليه وسلم: (أنبياً كان آدم يا رسول الله؟! قال: نبياً مكلماً)، يعني: اختصه الله بالتكليم كما اختص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما اختص موسى عليه السلام بالتكليم. قال صلى الله عليه وسلم: (فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي منها)، وفي هذا الحديث أن كل نبي يذكر خطيئته، فقال عن سيدنا نوح عليه السلام: (فيذكره خطيئته التي أصاب فيستحيي منها، فيقول: لست هناكم اذهبوا إلى إبراهيم، ويذكر خطيئته التي أصاب).

مذهب أهل السنة في وقوع المعاصي من الأنبياء

مذهب أهل السنة في وقوع المعاصي من الأنبياء ومن قواعد أهل السنة والجماعة في العقيدة: جواز الصغيرة على الأنبياء بعد النبوة، ولكنهم إذا فعلوها أقلعوا عنها في الحال، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا مذهب السلف لا يعرف لهم مذهب سواه. فلا تجوز الكبيرة أو الكفر على الأنبياء بعد النبوة، ولكنهم تجوز عليهم الصغيرة، والفرق بينهم وبين البشر: أنهم إذا فعلوا الصغيرة تابوا منها في الحال وأقلعوا عنها، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة؛ لقول الله عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، والغواية لا تكون إلا عن معصية. الفضيل بن عياض وهو من سادات أهل السنة والجماعة وكان سيدنا سفيان بن عيينة إذا لقيه يقبل رأسه ويده، وكان صاحب الكلمة الطيبة في هضم النفس، ولما أخذ بيد سفيان بن عيينة إلى خارج الحرم قال له: إن كنت تظن أنه قد بقى على وجه الأرض من هو شر مني ومنك فبئس ما تظن، يعني: أنا وأنت شر اثنين في المسلمين. هكذا كانت أخلاق السادة، وكان يقول: لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة وبين ألا أبعث لاخترت ألا أبعث، فقيل لـ محمد بن أبي حاتم: مم هذا؟ قال: من الحياء، يعني: حياء من الله عز وجل، وحياء من مقابلته عز وجل. وشهد الفضيل بن عياض عرفات وإذا بدموعه تتساقط على وجنتيه، وكان يقول طيلة اليوم: واسوءتاه منك وإن عفوت! يا خشية العبد من إحسان سيده يا حسرة القلب من ألطاف معناه فكم أسأت وبالإحسان قابلني واخجلتي واحيائي حين ألقاه يا نفس كم بخفي اللطف عاملني وكم رآني على ما ليس يرضاه يا نفس كم زلة زلت بها قدمي وما أقال عثاري ثم إلا هو والأسود بن يزيد عندما احتضر بكى وجزع، فقيل له: لم الجزع؟ قال: ومن أحق بالجزع مني، والله لو أتيت بالمغفرة من ربي لأهمني الحياء منه، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعلم أنه قد عفا عنه فيستحيي منه عند لقائه. وقال الحسن البصري: لو لم يكن البكاء إلا من هذا لكان حرياً أن يطول بنا البكاء. والإمام أحمد دخل عليه أبو حامد القلقاني فقال له: ما تقول في الشعر؟ قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفى الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني فجر الإمام أحمد ثوبه وأخذ نعله، ثم أغلق عليه باب الدار وسمع نحيبه من خلف الباب، وهو يقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام على اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه؟

حياء التقصير

حياء التقصير والنوع الثاني من الحياء: حياء التقصير، كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك. وكذلك حياء الصالحين من الله عز وجل ورؤيتهم لتقصيرهم في حقه، وأن جنابه عزيز كريم. وما قدروا الله حق قدره. من هذا الباب نظروا في أحوالهم بعين الدعاوى، وفي أعمالهم بعين التقصير، وكان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي عمره ويجعل أنفاسه وقفاً على الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إذا قرب الموت منه قال له الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. وهذا إعلام من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته وأمر له بالاستغفار. ونوح عليه السلام بعد أن قضى في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]. وكان دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم بعد التحلل من الصلاة: (غفرانك، غفرانك)، يعني: كأن هذه العبادة قاصرة عن مقام الله العظيم. وكان إذا توضأ قال: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين). وقال تعالى لمن انصرف من الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]. وقد كانوا يمدون صلاتهم طيلة الليل، فإذا كان السحر وقرب الفجر أنزلوا أنفسهم منزلة العصاة وكأنهم أسرفوا طيلة ليلهم في الجرائم، يقول الله تبارك وتعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، بل إنهم يستغفرون بعد الموت في عرصات القيامة حين مرورهم على الصراط، حين يكون دعاء النبيين والمرسلين والمؤمنين: الله سلم سلم، فهم يقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8]. والمؤمن أسير الحق لا يزول عنه خوفه، ولا يسكن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم وراءه، ومن ربك الفضل والكرم.

حياء الإجلال

حياء الإجلال حياء الإجلال، وهذا يكون على قدر العلم والمعرفة، كحياء سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رضي الله عنه: والله إن كنت لأشد الناس حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله عز وجل؛ حياء منه. ويقول أيضاً في رواية: إنه لم يكن شخص أبغض إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه، ولو سئلت أن أصفه لكم ما استطعت؛ لأني لم أكن أملأ عيني؛ إجلالاً له. وهذا كما قال الشاعر: أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله الموت في إدباره والسعد في إقباله وأصد عنه إذا بدا وأروم طيف خياله فلم يكن يرفع نظره إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً لمقام النبوة، وحياء من النبي صلى الله عليه وسلم. وكذا فعل سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شجرة تشبه المسلم، فوقع الصحابة في شجر البادية، وقال سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت لمقام كبار الصحابة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فهذا حياء الإجلال. ومنه حياء سيدنا عبد الرحمن بن مهدي -أمير المؤمنين في الحديث- من شيخه سفيان الثوري، فقد كان عبد الرحمن بن مهدي يحضر درسه تسعون ألفاً ومعهم المحابر، وكان إذا لقي شيخه سفيان الثوري لا يستطيع أن يرفع نظره إليه؛ هيبة وإجلالاً له. فهذا الذي كان يحضر له تسعون ألفاً ما كان يستطيع أن يرفع نظره في وجه شيخه سفيان الثوري، مع أن سيدنا سفيان الثوري قال عنه يحيى بن أبي غنية: كان أصفق الناس وجهاً في ذات الله عز وجل، يعني: كما يقولون: وجهه منزوع منه الحياء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يعرف فيه حتى أباه. ودخل مرة على الخليفة المهدي وهو من هو، فأغلظ له القول، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فقال له وزير الخليفة أبو عبيد الله: لقد شققت على أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال: اسكت، فما أهلك فرعون إلا هامان، وبعد أن انصرف سفيان الثوري قال الوزير أبو عبيد الله: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال: اسكت، وهل بقي في الأرض من يستحيا منه غير هذا؟ يقول: كلما جاءنا رجل أو عالم يعظنا ويزهدنا في دنيانا إذا ما قدمنا له شيئاً من دنيانا قبله، إلا سفيان فإنه ما أخذ من دنيانا شيئاً، فهو أجرأ الناس علينا من أجل هذا.

حياء الكرم

حياء الكرم وحياء الكرم، كحياء النبي صلى الله عليه وسلم لما صنع وليمة في عرس زينب وأتى الناس إليه وأطالوا عنده الجلوس، فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالانصراف حتى عاتبهم الله عز وجل بقوله: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53]. وتجد بعض الإخوة مثلاً يعلمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سمر بعد العشاء إلا في حضرة ضيف أو عرس). ومع ذلك يحضر إخوانه على الشاي والكركديه والحلوى، وإن كان عنده عشاء عشاهم، ونريد أن يترك وقتاً هكذا للتهجد وللخلوة بالله تبارك وتعالى. وأنت لا تستغل كرم أخيك وتضيع له عمره، كما أتى جماعة إلى عابد من العباد وطولوا عنده الجلوس فقال لهم: إن ملك الشمس يسوقها، فمتى تريدون القيام. وأتى عابد إلى أخ له فوجد عنده قوماً قد أطالوا الجلوس، فقال له: صرت مناخ البطالين لا أجالسك أبداً! فهذا الوقت جواهر تملأ بها خزائنك يوم القيامة، والتسبيحة الواحدة تغرس لك بها نخلة في الجنة، ولو أن أحداً منعك من نخلة ذهب أو جلس معك خمس دقائق وضيع عليك مثلاً عشرة مليون جنيه، فإنك ستأخذه من يده ورجله وتقول له: اخرج، تضيع علي عشرة مليون جنيه في ربع ساعة؟! فما ظنك بنخل الجنة وهي بتسبيحة واحدة؟ والتسبيحة الواحدة بنفس، فمن قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة. فداوم على هذا كل يوم، ولا تنفض عنها، فالدنيا كلها عمل. والعلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص لله، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله تبارك وتعالى. فلا تقل إن هذا الأخ أراد أن يتعشى أو يشرب شاياً، وإنما قل له: أنا أعطيتك ما تريد، ثم اذهب فأنا مشغول.

حياء الحشمة

حياء الحشمة حياء الحشمة، وهذا ارتفع تماماً من دنيا الناس إلا من رحم الله؛ بسبب التلفاز، ومن حياء الحشمة حياء سيدنا علي بن أبي طالب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (كنت رجلاً مذاء فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فسأله فقال: فيه الوضوء). يعني: الشيء المتعلق بأمر النساء والجماع لا تسأل نسيبك عنه، فلا يجلس الرجل يتكلم مع نسبه ويحكي النكت أو يتحدث في الكلام المتعلق بالفراش، فما ظنك بالذي يحضر ابنته بجانبه وهو يشاهد فيلم السهرة! ثم بعد ذلك يظهر منظر خادش للحياء فيقول لها: انهضي حتى لا تشاهدي هذا المنظر، أنت قليلة أدب، وإنما هو قليل الأدب؛ فهي ستقوم وتترك المكان ولكنها ستراه لا زال جالساً، أفلا يستحي هو؟ وقديماً قبل أن تعرف النساء الحجاب أو النقاب كانت الواحدة لا تستطيع أن تمشي في الشارع إلا وهي واضعة للطرحة على رأسها؛ من أجل أن عمها في أول الشارع ومعه بعض الرجال، وفي هذا الوقت من تمام الإيتكيت أن العريس يأخذ عروسه إلى المسرح ويرقص معها، فارتفع حياء الحشمة نهائياً من دنيا الناس إلا من رحم الله تبارك وتعالى.

حياء استحقار النفس

حياء استحقار النفس حياء الاستحقار واستصغار النفس، وهو أن الإنسان إذا كانت له نفس علية يستحي أن يصدر منه الشيء الصغير، مثل الرجل الذي قدم له غني من أبناء الدنيا مالاً فقال: إني والله أستحي من ربي أن أسأله الدنيا وهو خالقها ومالكها، فكيف أسألها من غير مالكها؟! ويأتي إليك شاب طويل وعريض وهو مكروب مهموم، فتسأله: ما لك يا أخي! هل أنت تعد خطة حربية مثلاً للاستيلاء على مدينة وضاعت منك في آخر لحظة؟ فيقول لك: لا، وإنما في هذا اليوم يمكن أن إبراهيم حسن لن يلعب مع الزمالك. وهناك إخوة كثيرون يستيقظون الصبح وليس همهم غير المباريات، وسيدنا أبو موسى الأشعري قال لما رأى الناس قد بدت عوراتهم: لأن أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر خير لي من أن أرى عورة رجل أو يرى رجل عورتي. وقد اختلف العلماء في حد العورة: هل هي من السرة إلى الركبة أو العورة المغلظة فقط؟ والذي لا يهتم إلا بالمباريات هو الرجل الصفر، وكما يقول الشيخ إبراهيم الدويش: الرجل الصفر ليس له مكانة، سواء وضعته على اليمين أو على الشمال، فهو الصفر موضوع على الشمال، وهو ليس مثل أم الشيخ محمد رشيد رضا، فقد كانت إذا لقيت ابنها مهموماً تقول له: ما بك يا محمد! هل مات اليوم أحد من المسلمين في الصين أو فلسطين؟! ومن حقارة النفس أن يشغل الإنسان نفسه بتوافه الأمور، والدنيا تصب جام غضبها على المسلمين في كل مكان: بيروت في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا وعظائم الأمور عندما تحل بالأمم تجعلها تفيق من غفلتها ومن نومها الثقيل، والإنسان عندما يجد بيته قد انهدم واحترق وأولاده في الشارع يصحو، فما باله إذا رأى أن أخوته يقتلون ويذبحون كل يوم لا يحرك ساكناً؟ وإن الرجل يقول: لو فتح باب الجهاد فكلنا سنخرج، وربما خانتك نفسك بسبب المعاصي، ولا تقدر أن تخرج بسبب الذنوب، فاتق الله عز وجل.

حياء المحبة

حياء المحبة وحياء المحبة بالنسبة لمحبة المبشر مثل شخص عاقد ينظر إلى زوجته أول مرة، ويجلس معها بعد العقد، فهي زوجته ورغم هذا تلقى وجهه أحمر ورجليه تضرب في بعضها وينسى الكلام، فتسأله: ما اسمك؟ فيخرج البطاقة وينظر، وهي زوجته! فهذا يسمى حياء المحبة. يقول الشاعر: فما هي إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب وإني لتعروني لذكراك هزة لها بين جلدي والعظام دبيب أعاذنا الله عز وجل وإياكم من المحبة المحرمة. والمحبة في الله عز وجل لون آخر يليق بقدر الله عز وجل، فمن علم أن الله قريب منه يستحيي منه أن يراه ساكناً إلى خلقه، فيبغض إليه كثرة المخالطة للخلق ويحبب إليه الخلوة بالله تبارك وتعالى وألذ الأوقات عنده أوقات المناجاة وساعات التنزل الإلهي، وقد خلا كل حبيب بحبيبه، وغلقت الملوك أبوابها، وباب ملك الملوك مفتوح لمن دعاه، فمن ذا الذي أملك لنائبة فقطعت به دونها؟ أم من ذا الذي رجاك لعظيم جرمه فلم تغفر له؟ يا مؤنس الأبرار في خلواتهم يا خير من حطت به النزال قيل لعابد: ما أطيب شيء؟ قال: سرداب أخلو به فيه، وكان ابن تيمية رجلاً ربانياً من هذا الطراز، فكان إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء، ويقول: وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك القلب بالسر خاليا وأحلى أوقات المناجاة جوف الليل الآخر، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة) فبعد ما ينام الخليون يقوم العابدون إلى محاريبهم تتقاطر دموعهم على خدودهم، ويشرف الجليل من السماء ويقول كما في الأثر عن الفضيل بن عياض: يا جبريل! بعيني من تلذذ بكلامي، واستراح لذكري، لم لا تنادي فيهم يا جبريل! ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيباً يعذب أحبابه، أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنّهم الليل خلوا بمناجاتي؟ والله لأكشفن لهم عن وجهي وأنظر إليهم يوم القيامة. فإذا علمت بقرب الله عز وجل منك فيدفعك هذا القرب إلى الاستيحاش من البعيد عنك، ويبغض إليك كثرة المخالطة للخلق، ويحبب إليك الخلوة والمناجاة بمولاك تبارك وتعالى.

حياء العبودية

حياء العبودية وحياء العبودية هو حياء يجمع ما بين المحبة والخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، فيرى أن عبوديته ناقصة قاصرة عرجاء، كالذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه ولا يأتي فراشه إلا زحفاً، ثم يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء! وهل رضيتك لله طرفة عين؟! زين القراء محمد بن واسع لما قال: واشوقاه إلى إخواني، قيل له: أليس قد نشأ شباب يعلمون السنة؟ فتفل ثم قال: أفسدهم العجب، ضيعهم الكبر الذي عندهم. ومثقال ذرة من كبر تحول بينك وبين دخول الجنة.

حياء الشرف والعزة

حياء الشرف والعزة وحياء التلوم والشرف والعزة: فالنفوس الكبيرة إذا صدر منها ما هو أقل من قدرها تأنف، مثل رجل اعتاد أن يعطي لإخوانه مثلاً من (100 جنيه)، ثم مر على إخوانه فأعطى كل رجل منهم ذات يوم قرشاً فإنه يخجل؛ لأنه قد عودهم على الشيء الكبير العظيم، فكيف يعطيهم التافه؟ فيخجل وكأنه هو الآخذ لا المعطي، فتجده عندما يعطي إخوانه يستحيي منهم، ولا يستطيع أن يرفع نظره إلى إخوانه، فهذا حياء شرف النفس وعزتها.

الحياء من النفس

الحياء من النفس وحياء المرء من نفسه، فالرجل الشريف القدر العظيم النفس يجعل من نفسه نفسين: نفساً تفعل الشيء، ونفساً تحاسبها وتعاتبها وتراقبها: كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مهجتي وجناني فاجعل من نفسك رقيباً على نفسك، وقل لها: قومي يا مأوى كل سوء! وهل رضيتك لله طرفة عين؛ فاجعل من نفسك على نفسك مخبراً ورقيباً، وراقب الله عز وجل، مثل عمرو بن عبد قيس كان ينام في البرية، فقيل له: أما تخشى الأفعى وأنت نائم في الفلاة هكذا؟ قال: إني أستحي من الله أن أخشى شيئاً غيره وأنا في سلطانه، أي: هذا سلطان الله وملكه، وأنا عبده، والمخلوق لا يملك له ضراً ولا نفعاً. ومثل عمرو بن عتبة بن فرقد كان يقوم الليل وهو في الجيش فلا يتحارس الجيش؛ لكثرة صلاة عمرو بن عتبة بالليل، فجاء السبع مرة فولى الجيش إلا عمرو فلم ينصرف من صلاته، فلما صلى قال للسبع: انصرف، فقالوا له: أما خفت الأسد؟ قال: إني أستحيي من الله عز وجل أن أخشى شيئاً غيره وأنا بين يديه. وسقطت حديدة عند مسجد العزيز في جمعة الشيخ محمد حسان، وهذه الجمعة يحضرها اثنا عشر ألفاً أو عشرون ألفاً، فعندما سقطت ظنوا أنها قنبلة، فصاح الذين في المسجد وخرجوا منه، وسقطت الموبايلات، والمحافظ، وجرى من جرى وهرب من هرب، وخرج البعض من المسجد وطلب ماكنة حلاقة من أجل أن يتخلص من لحيته حتى لا يتهم، والشيخ محمد واقف يتعجب منهم، أهؤلاء خلاصة الخلاصة؟ فإذا كان حال هؤلاء هكذا فكيف بغيرهم؟! فالعملية تريد مراجعة كبيرة جداً، والإخوة الذين حضروا هذا لن ينسوه أبداً، والإخوة هم الذين صاحوا وهربوا، وأما الأخوات فلا أخت صاحت، فكانت النساء في هذا الموقف أشجع، وأما الرجال فخمس دقائق ولم يبق منهم أحد. كان أبو الحسن بنان الحمال شيخ الإسلام عابداً، ذهب إلى ملك مصر أحمد بن طولون فأمره ونهاه، فجوع سبعاً وألقاه إليه، وبعد أيام فتحوا عليه فوجدوا السبع بجانبه يشمه، فقالوا له: أين كان قلبك والسبع يشمك؟ فقال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع، أهو نجس أو طاهر؟ وقد ينكر بعض الناس مثل هذه الحكايات؛ لأنها متعلقة بالأسود، والأسود جبلت على الوحشية، ولكن نقول: هي ثابتة مذكورة في تواريخ الإسلام، مثل: سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، ولها أثر من السلف عن سيدنا سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه. وقد حسن الإمام الألباني عليه رحمة الله حديث جابر بن عبد الله من رواية محمد بن المنكدر: أن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وقع في الأسر، ففر من الأسر، فبينما هو في الطريق إذ طلع عليه الأسد فتقدم منه، وقال له: يا أبا الحارث! -كنية الأسد- أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت فحكى للأسد الذي حصل له من أنه وقع في أسر الروم وفر منهم، فبصبص الأسد، يعني: حرك ذنبه يميناً ويساراً احتراماً له، وكأنه يقول: أنا أمام رجل كبير القدر، وسار معه حتى أوصله إلى مأمنه. فإذا علمت أن الله قريب منك مطلع عليك عالم بحالك وأنك في سلطانه فلا تخش شيئاً غيره.

مقامات الحياء

مقامات الحياء إن مقامات الحياء مقامات عظيمة، ولذلك كان الحياء خلق الإسلام، والدرجة الأولى منه: أن تبغض إليك المعصية، فإذا علمت أن الله قريب منك فسيحملك هذا على استقباح الجناية، فتنظر إلى أدنى ذنب بأنه كبير في حق الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن الله ناظر إليك في كل لحظة، وأنت مقيم على معصيته وعلى مخالفة أمره دق أو جل، صغر أم كبر، فقل: يا رب! أتراك ترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك! فلا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها. فالدرجة الأولى من الحياء تبغض إليك المعصية، وتحملك على استقباح الجناية، وتمنعك عن الشكوى لغير الله عز وجل، إلى درجة أن إحدى العابدات عندما جاءت إلى الإمام أحمد تسأله الأسئلة التي لا يسأل عنها العلماء اليوم، فقالت له: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ قال: ما سمعت مثل هذا السؤال من قبل، ونرجو ألا يكون كذلك، قالت: يا إمام! إذا مرت الظاهرية -وهم أناس من الأمراء الظلمة- غزلنا غزلنا على ضوئها، فهل نبينه للناس، قال: افعلي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: تتبعها إلى أي البيوت تدخل، فقال له: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع. فالإمام أحمد غابت عنه هذه المسألة، حتى كان في مرض الموت، فقيل له: إن طاوساً يقول: أنين المريض شكوى، وفي البداية كان الإمام أحمد يقول: نرجو ألا يكون كذلك، فغابت عنه هذه المسألة، ثم فهمها الإمام عند الموت، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات، ولذلك تجد العباد يقولون: تفقهوا في مذاهب الإخلاص. وأشرف العلوم علم الأسماء الحسنى، فتعرف على كل اسم، وكيف تتعبد لله عز وجل بهذا الاسم والصفة، وانظر الصفات في المخلوقات، فتجد نفسك في وادٍ والناس في وادٍ آخر، فعندما تعرف مثلاً اسم المقيت من أسماء الله عز وجل، وتعرف أن المقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته الضروري، وتعرف مثلاً أن عدد أنواع النمل 12000 نوع، وتحت كل نوع آلاف الملايين، وهذا صنف واحد، ثم الحشرات أكثر من ألف نوع، والطيور والأسماك كذلك، والنجوم لا يحصى عددها؟ والمجرات مائة ألف مليون مجرة، هذا في الجزء المرئي من السماء فقط، وعدد النجوم في كل مجرة ما يقرب من مائة ألف مليون نجم، وهذه تحتوي على نواة ونوية، وكل شيء حي يحتوي على خلايا حيه، والخلايا فيها سيتوبلازم وجدار للخلية ونواة ونوية، فمن الذي يعطي لكل مخلوق من هذه المخلوقات قوته الضروري في وقت واحد؟ وكم أمات وأحيا في وقت واحد؟ فإذا علمت هذا استحييت أن يراك الله راكناً إلى بعض خلقه، وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن له ملك الدنيا والآخرة، وملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى: ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له الزاحف الناشر فكل عبيد له، وكل له قانتون، قهرهم بحكمه وبملكه، وأمره ومشيئته نافذة في خلقه. إذا علمت أنه قريب منك فيقبح بك الشكوى إلى غيره: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، والشكوى إلى الله ليست بشكوى. الدرجة الثانية: علمك بقرب الله عز وجل فتبغض إليك كثرة المخالطة. الدرجة الثالثة: وهي التي يقول عنها الإمام ابن القيم: شهود الحضرة وانجذاب القلب والروح من الكائنات وعكوفه على رب البريات. وهناك درجات في القرب من الله عز وجل لا تحيط بها الأفهام، فتطير القلوب إلى الله عز وجل وتسجد تحت العرش، فمثلاً: بالله عليك هل حال قلبك هذا اليوم كحاله وأنت في أيام الاعتكاف وعكوف القلب وجمعيته على الله عز وجل في العشر الأواخر من رمضان؟ وأنت تريد أن تختم المصحف كل يوم؟ ويجوز لك العلماء الوصال إلى قبل أكلة السحور بقليل، فتجمع ما بين السحور والإفطار وأنت في أيام جمعية القلب وعكوفه على رب البريات. فعندما يكون القلب عاكف على رب البريات في كل لحظه، في رمضان وشوال، وكل الأيام عنده ليلة القدر كيف يكون هذا الراجل! ولو أن شخصاً سمع سيدنا الشيخ المنشاوي يقرأ الزمر أو آل عمران أنه يريد أن يطير طيراناً، فما ظنك إذا كنت كل لحظات حياتك هكذا، فإنك تجد معاني في القرب لا تكيفها الأفهام ولا تحيط بها العقول، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهذه لا تحيط بها الأفهام: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله تضيق بنا الدنيا إذا غبتمُ عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا فكيف بالله عز وجل! بعادكم موت وقربكم حياة ولو غبتمُ عنا ولو نفساً متنا يقول القائل: أما تبصر الطير المقصص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده وهيج أرباب القلوب إذا غنى كذلك أروح المحبين يا فتى تهدهدها الأشواق للعالم الأسنى وهل يسجد القلب لله عز وجل؟ قال الإمام ابن القيم: يسجد تحت العرش سجدة لا يقوم منها إلا يوم القيامة، فهذه درجات الحياء الثلاث.

من يستحيا منهم

من يستحيا منهم إن مقامات الحياء مقامات عظيمة، ولذلك كان الحياء خلق الإسلام، والدرجة الأولى منه: أن تبغض إليك المعصية، فإذا علمت أن الله قريب منك فسيحملك هذا على استقباح الجناية، فتنظر إلى أدنى ذنب بأنه كبير في حق الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن الله ناظر إليك في كل لحظة، وأنت مقيم على معصيته وعلى مخالفة أمره دق أو جل، صغر أم كبر، فقل: يا رب! أتراك ترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك! فلا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها. فالدرجة الأولى من الحياء تبغض إليك المعصية، وتحملك على استقباح الجناية، وتمنعك عن الشكوى لغير الله عز وجل، إلى درجة أن إحدى العابدات عندما جاءت إلى الإمام أحمد تسأله الأسئلة التي لا يسأل عنها العلماء اليوم، فقالت له: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ قال: ما سمعت مثل هذا السؤال من قبل، ونرجو ألا يكون كذلك، قالت: يا إمام! إذا مرت الظاهرية -وهم أناس من الأمراء الظلمة- غزلنا غزلنا على ضوئها، فهل نبينه للناس، قال: افعلي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: تتبعها إلى أي البيوت تدخل، فقال له: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع. فالإمام أحمد غابت عنه هذه المسألة، حتى كان في مرض الموت، فقيل له: إن طاوساً يقول: أنين المريض شكوى، وفي البداية كان الإمام أحمد يقول: نرجو ألا يكون كذلك، فغابت عنه هذه المسألة، ثم فهمها الإمام عند الموت، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات، ولذلك تجد العباد يقولون: تفقهوا في مذاهب الإخلاص. وأشرف العلوم علم الأسماء الحسنى، فتعرف على كل اسم، وكيف تتعبد لله عز وجل بهذا الاسم والصفة، وانظر الصفات في المخلوقات، فتجد نفسك في وادٍ والناس في وادٍ آخر، فعندما تعرف مثلاً اسم المقيت من أسماء الله عز وجل، وتعرف أن المقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته الضروري، وتعرف مثلاً أن عدد أنواع النمل 12000 نوع، وتحت كل نوع آلاف الملايين، وهذا صنف واحد، ثم الحشرات أكثر من ألف نوع، والطيور والأسماك كذلك، والنجوم لا يحصى عددها؟ والمجرات مائة ألف مليون مجرة، هذا في الجزء المرئي من السماء فقط، وعدد النجوم في كل مجرة ما يقرب من مائة ألف مليون نجم، وهذه تحتوي على نواة ونوية، وكل شيء حي يحتوي على خلايا حيه، والخلايا فيها سيتوبلازم وجدار للخلية ونواة ونوية، فمن الذي يعطي لكل مخلوق من هذه المخلوقات قوته الضروري في وقت واحد؟ وكم أمات وأحيا في وقت واحد؟ فإذا علمت هذا استحييت أن يراك الله راكناً إلى بعض خلقه، وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن له ملك الدنيا والآخرة، وملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى: ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له الزاحف الناشر فكل عبيد له، وكل له قانتون، قهرهم بحكمه وبملكه، وأمره ومشيئته نافذة في خلقه. إذا علمت أنه قريب منك فيقبح بك الشكوى إلى غيره: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، والشكوى إلى الله ليست بشكوى. الدرجة الثانية: علمك بقرب الله عز وجل فتبغض إليك كثرة المخالطة. الدرجة الثالثة: وهي التي يقول عنها الإمام ابن القيم: شهود الحضرة وانجذاب القلب والروح من الكائنات وعكوفه على رب البريات. وهناك درجات في القرب من الله عز وجل لا تحيط بها الأفهام، فتطير القلوب إلى الله عز وجل وتسجد تحت العرش، فمثلاً: بالله عليك هل حال قلبك هذا اليوم كحاله وأنت في أيام الاعتكاف وعكوف القلب وجمعيته على الله عز وجل في العشر الأواخر من رمضان؟ وأنت تريد أن تختم المصحف كل يوم؟ ويجوز لك العلماء الوصال إلى قبل أكلة السحور بقليل، فتجمع ما بين السحور والإفطار وأنت في أيام جمعية القلب وعكوفه على رب البريات. فعندما يكون القلب عاكف على رب البريات في كل لحظه، في رمضان وشوال، وكل الأيام عنده ليلة القدر كيف يكون هذا الراجل! ولو أن شخصاً سمع سيدنا الشيخ المنشاوي يقرأ الزمر أو آل عمران أنه يريد أن يطير طيراناً، فما ظنك إذا كنت كل لحظات حياتك هكذا، فإنك تجد معاني في القرب لا تكيفها الأفهام ولا تحيط بها العقول، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهذه لا تحيط بها الأفهام: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله تضيق بنا الدنيا إذا غبتمُ عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا فكيف بالله عز وجل! بعادكم موت وقربكم حياة ولو غبتمُ عنا ولو نفساً متنا يقول القائل: أما تبصر الطير المقصص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده وهيج أرباب القلوب إذا غنى كذلك أروح المحبين يا فتى تهدهدها الأشواق للعالم الأسنى وهل يسجد القلب لله عز وجل؟ قال الإمام ابن القيم: يسجد تحت العرش سجدة لا يقوم منها إلا يوم القيامة، فهذه درجات الحياء الثلاث.

الحياء من الله تعالى

الحياء من الله تعالى والاستحياء يكون من الله عز وجل ومن الناس ومن الملائكة ومن النفس. فأما الاستحياء من الله تبارك وتعالى، فكما جاء في حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! استحيوا من الله عز وجل، قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحيي من الله عز وجل، قال: ليس ذاكم، ولكن من استحيا من الله عز وجل فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا). وأركان الحياء من الله تبارك وتعالى: (فليحفظ الرأس وما وعى)، فالرأس وما فيه من جوارح تحفظها لله عز وجل، حتى الخطرات وحديث النفس تحفظه لله عز وجل، وأول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، فاحفظ حديث النفس لله عز وجل، يقول بعضهم: ظللت عشرين سنة حارساً لنفسي من الخطرات، أي: يحاسب نفسه على الخطرات. فيا أخي! إذا مرت بك الوساوس والخطرات فاضبطها بضابطين من الكتاب والسنة. فيحفظ الرأس وما وعى، فلا يتأثر بأفكار الصحف الصفراء التي هي من ضمن الثقافات الضرار. (والبطن وما حوى) يعني: لا يدخل في بطنه وفي جوفه إلا الحلال، فيبحث عن الحلال ويدقق في هذه المسألة. (وأن يذكر الموت والبلى)، فمن ذكر الموت هانت عليه شهواته. (ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا)، فيستحي من الله عز وجل أن يراه مرابطاً على مفسدة، مقيماً على جيفة، عاكفاً على دنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضه، فيستحي من الله عز وجل أن يراه ملتفتاً إلى الدنيا، والدنيا لعب ولهو، واللعب واللهو لا يليق بمن شبوا عن الطوق وتركوا دنيا اللعب للصغار، فيعلم أن الملك يدعوه إلى جواره في أرض غرس غراسها الرحمن بيده، فكيف يراه منشغلاً بالدنيا وقد عكف قلبه على محبتها؟ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره). قبل سنة (1981م) كنت تجد الأخ يساوي 1000 أخ من هذا الوقت، كنت تجد عشرة فقط في مدينة أو في محافظة أقاموا دعوة، لكن في هذا الوقت نقول: الله المستعان على ضعف الهمم وموت القلوب، فابك على موت قلبك. فاستح أن يسبقك غيرك إلى الله عز وجل، وأن يدعوك الملك إلى جواره وأنت بعيد بهمك عن مولاك: يا من يشير إليهم المتكلم وإليهمُ يتوجه المتظلم وشغلتم قلبي بكم وجوارحي وجوانحي أبداً تحن إليكم وإذا نظرت فلست أنظر غيركم وإذا سمعت فمنكم أو عنكم وإذا نطقت ففي صفات جمالكم وإذا سألت الكائنات فعنكم وإذا رويت فمن طهور شرابكم وبذكركم في خلوتي أترنم يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي عامر الألهاني: (يأتي أناس بأعمال مثل جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثوراً، فقالوا: يا نبي الله! جلهم لنا، صفهم لنا ألا نكون منهم ولا نعرف، قال: أناس من جلدتكم لهم حظ من الليل، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)، فاحذر أن تكون ولياً لله في العلانية عدواً له في السر، وأن تكون حالك مثل حال كنيف مزين بالسراميك وباطنه وحشوه القاذورات، فلا تتجمل للناس وتطلع الله على القبيح من أمرك، فلم جعلت الله أهون الناظرين إلك؟ أفكان الله عز وجل أهون عليك من بعض خلقه؟ لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته به. وموقف لك لا تنساه أبداً وإن نسيت نفسك، وهو موقفك بين يدي الله عز وجل، كما جاء في حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم أحد إلا سيخلو بربه ليس بينه وبينه ترجمان). فهذا الموقف لن تنساه أبداً، فليكن ولاؤك المطلق وخوفك المطلق وحياؤك المطلق من الله عز وجل، فاعمل لهذا اليوم حتى لا يموت القلب، وحتى لا يموت الورع، يقول الجراح قائد الجيوش الأموية: تركت الذنوب أربعين سنة حياء من الله عز وجل، ثم أدركني الورع. أي: بعد أربعين سنة من علي بالورع في النظر، وفي الشم، وفي الكلام. فهذا المقام إن ذكرته وجعلته منك على بال فلن تقرب المعصية أبداً، ومثلما تميت الذنوب الحياء فكذلك الحياء لا يأتي إلى فاسق أو فاجر أبداً. يقول ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً منذ أربعين سنة إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل. ولذلك كان من مقام المراقبة أن تقول: الله ناظر وشاهد ومطلع علي، وهذا درجة من درجات الحياء، وهذا مثل المرأة التي راودها رجل على الفاحشة، فقالت: انظر هل يرانا من أحد؟ فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت له: فأين مكوكبها؟ ورجل خلا بامرأة بعد أن نام أهل القافلة وكانت في طريقها إلى الحج، وقال لها: ما أتيت في هذه القافلة من أجل حج ولا غيره، وإنما أتيت فيها لتخرجي فيها فأخلو بك، فقالت: انظر هل نام أهل القافلة جميعاً؟ فقال لها: نعم، قالت: انظر فهل نام الله؟ ثم صعقت المرأة وغشي عليها، فولى الرجل هارباً.

الحياء من الملائكة

الحياء من الملائكة ثم بعد ذلك الاستحياء من الملائكة ومن أخلاقهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيا أمتي عثمان) رضي الله عنه. وانظروا إلى التنويريين من اليساريين والشيوعيين، فهذا عبد الرحمن الشرقاوي كتب عن الخلفاء الأربعة، فكتب في سيرة سيدنا عثمان أنه لما تزوج نائلة بنت الأحوص بن الفرافصة الكلبية تكلم مع الصحابة بما كان بينه وبينها يوم البناء بعد أن خلعت تكة سروالها! فيا رجل! خل عندك دم، ومثل ما يقال: الناس تكذب كذباً معقولاً، وأنت كذبك غير معقول، فهلا كنت تقول هذا عن غير سيدنا عثمان؟ فسيدنا عثمان كان يغتسل في ثيابه حياء من الله عز وجل، وما يقيم صلبه إلا وثوبه عليه. فانظروا مقام الصحابة ومقامنا، فنحن مطالبون أن نستحيي من الملائكة، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] أي: فاستحيوا منهم. {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:11] يعني: لا ألأم ممن لا يستحي من الكرام. وقد تلقى رجلاً كبيراً عظيم القدر من الصالحين لا يقدر العاصي أن يعمل عيبه أمامه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك). وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11]. ويقول ابن أبي ليلى: ما على أحدكم إذا خلا بنفسه أن يقول: أهلاً بملائكة ربي، والله لا أعدمكم اليوم خيراً، خذوا على بركة الله، سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر. وكان الرجل يستشعر إذا خلا بنفسه أن معه الملائكة، فيقول: يا ملكاي! ادعوا الله لي، فأنتما أطوع لله مني. وهؤلاء السلف كان عندهم رقة، يعرفها من قرأ كتب التراجم، وأما نحن فخشب مسندة، لا ذوق ولا أدب ولا رقة شعور ولا علم ولا جهاد ولا شجاعة ولا أي شيء. ذهب الرجال الصالحون وأخرت نتن الرجال لذا الزمان المنتن وكان يقول مالك بن دينار: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فنريد أن نرتفع إلى مقام الاستحياء من الملائكة، وما ظنك بالرجل الذي تستحيي منه الملائكة؟! وما ظنك بأناس تشتاق إليهم الجنة؟! فإذا قيل لك: إن الجنة تشتاق لناس، وناس يشتاقون إلى الجنة، فإن بينهما درجات كبيرة، وفي الحديث: (إن الجنة لتشتاق إلى علي وعمار وسلمان) وهو حديث صحيح حسنه الشيخ الألباني. وهناك أناس يشتاقون للجنة، وأناس لا يشتاقون لها بالمرة.

الحياء من الناس

الحياء من الناس والموقف الآخر الذي لن تنساه إن نسيت نفسك وقوفك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام حوضه يسألك عن ميراثه، هل حفظت شيئاً منه أم ضيعته؟ فلا يعقل أن تكون حافظاً لاحتياطي فريق الكروم وناسياً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تحرم عليهم النار وأول من يدخلون الجنة، ودرجات القرب من الله عز وجل، والعشرة المبشرين بالجنة، وغافلاً عن كل شيء في حياتك وفي تاريخ الإسلام، وأهم المعارك التي خاضها المسلمون، طالما أن كل حياتنا كرب وانكسار وخيبة أمل، ولم يبق إلا رحمة الله عز وجل. فاقرأ أيام الرجال العظام مثل معركة الزلاقة وقائدها ابن تاشفين الذي صنع هرماً من رءوس الكفرة، ثم أذن المؤذن من فوقه، واعرف فتوحات المسلمين في أوروبا إلى حدود بودابست في شرق آسيا، واعرف الرجال العظام الذين فجروا معركة ذات الصواري، وفتح الفتوح نهاوند، وكيف أن المسلمين سيطروا على العالم وكيف ضيعوه، وهل يعيد التاريخ نفسه أم لا؟ فهذه أمور كثيرة لابد أن تعرفها، وقف مع نفسك واعرف ما هي علوم القلب، فربما تلطخت بكبيرة أشد عليك من الزنا والسرقة وأنت لا تعرف، واعرف العجب والكبر والفرق بينهما؛ لئلا يكون قلبك متلطخاً بالعجب أو بالكبر وأنت لا تدري. وتعرف علوم القرب من الله عز وجل، وعلوم القلب من الإخلاص والخشية والرجاء والتبتل والثقة بالله عز وجل والتفويض والتوكل؛ لعل القلب يشيح بصيصاً من نورها. فاستحي من الرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت سادراً في غيك في الدنيا، هملاً مع الرعاع لا تعرف شيئاً، أينما برز إليك بارز من الدنيا طرت إليه زرافات ووحداناً. فتعرف على رسولك صلى الله عليه وسلم وعلى سنته وسيرته، وتجنب البدع؛ حتى لا يعاتبك النبي صلى الله عليه وسلم عتاباً يقطع نياط القلوب الطاهرة. وكان السلف ربما رأى أحدهم رؤيا في المنام فتجبه عن المعاصي، فقد كان رجل جاراً للإمام أحمد وكان يفعل السيئات والكبائر، ثم أتى يوماً إلى الإمام أحمد فرآه معرضاً عنه، فقال: لم تعرض عني يا إمام! وقد تركت ما كنت فيه من المعاصي لرؤيا رأيتها؟ قال: وأي شيء رأيت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض وحوله ناس كثير أسفل منه جلوس، فيقوم الرجل منهم إليه، فيسأله ادع لي، فيدعو له حتى لم يبق في القوم غيري، فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت أصنع، وخجلت من أن أقوم بين يدي رسول الله أسأله وأنا قد فعلت ما فعلت، قال: فقال لي: يا فلان! لم لا تقوم إلي فتسألني مثلما سألني الناس فأدعو لك؟ فقلت: يا رسول الله! يقطعني الحياء منك، لا أستطيع أن أقوم؛ لقبيح ما أنا عليه، قال: فإن كان يقطعك الحياء فقم، فسلني أدعو لك، فإنك لا تسب أحداً من أصحابي، قال: فقمت فدعا لي، فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه، فقال الإمام أحمد: يا جعفر! يا فلان حدثوا بهذا واحفظوه؛ فإنه ينفع. وربما استحيا الرجل منهم من الصالحين حتى يموت من الحياء، قال أبو الفتح بن مخرق: تعلق رجل بامرأة من أهل الشام فتعرض لها وبيده سكين، ولم يستطع أحد أن يقرب منه، وكلما اقترب منه رجل عقره، والمرأة تصيح ولا يستطيع رجل أن يقرب منها، فتقدم منه رجل شيخ، فحك كتفه بكتفه، فسقط الرجل وهو يتصبب عرقاً مغشياً عليه، وولت المرأة هاربة، ثم لما أفاق الرجل قالوا: ما الذي جعلك تسقط مغشياً عليك؟ قال: اقترب مني رجل فقال: اتق الله! فإن الله ناظر إليك، فخررت من كلمته، فقالوا: أما تعرف هذا الرجل؟ قال: من هو؟ قالوا: بشر بن الحارث الحافي، قال: أوقد رآني بشر على المعصية، فحم من وقته، ومات في اليوم السابع. فقراءة التراجم تؤدبك في وقت غاب فيه المؤدب والقدوة، ومن أهم وسائل التربية أن تقرأ سير أعلام النبلاء، فتتأدب وتتربى وتعرف مقامك جيداً، وتعرف أين أنت من علوم الناس ودرجاتهم، وكم من العلوم حصلوا وفاتتك، وكم من الآداب تجملوا به وفاتتك، فتعرف قدرك.

أفضل الحياء وأكمله

أفضل الحياء وأكمله ونهاية الحياء وكماله ألا تستحيي من الحق، وقدم الحياء من الله عز وجل على الحياء من الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه) فيؤثر الحياء من الله عز وجل على الحياء من الناس. فالحياء الشرعي لا يمنعك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما الذي يمنعك شيء آخر غير الحياء، وهو الجبن والخوف والهلع، فتركك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياء من الناس ليس من الحياء في شيء، بل هو من الخور والهلع والجبن.

نماذج من الحياء

نماذج من الحياء وانظروا إلى فهم أبي أيوب الأنصاري للحياء، عندما أعرس سالم بن عبد الله بن عمر فصنع أبوه وليمة ودعا الناس، قال: وكان فيمن دعا أبو أيوب الأنصاري، فأتى ورأى بيتنا قد سترناه بنجاد أخضر، أي: جعلنا فيه ستائر وبسطاً، فنادى أبي وقال: يا عبد الله! أتسترون الجدر؟ يعني: المفروض أن تقولوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ستر الجدران) فلا تستر إلا على قدر النافذة فقط، وليس مثل الإيتكيت الذي تغطى فيه الجدران الأربعة بالستائر، فستر الجدران منهي عنه شرعاً. وانظر إلى حياء كليم الرحمن سيدنا موسى عليه السلام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء). وانظر إلى حياء النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء عن بعض الصحابة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً كرهه عرفناه في وجهه). وقد استحيا من ربه بعد أن سأله التخفيف أكثر من مرة، فقال له موسى عليه السلام: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال: (لقد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم). ومن حياء الصحابة: حياء سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال: أيها الناس! استحيوا من الله، فوالله ما خرجت لحاجة -يعني: لقضاء حاجة- منذ أسلمت إلا وأنا مقنع رأسي حياء من الله عز وجل. فانظر إلى نفسك وأنت في هذه الحال، تحمل أمعاءك الغليظة ودورة المياه، فأنت كنيف متحرك، أفلا تستحي من الله عز وجل أن تعصيه، فقد خلقك من ماء مهين فاستحي منه، فما زال يخرج منك الغائط وأنت تأنف من رائحته، هذا حياء سيدنا أبو بكر الصديق. وانظر إلى حياء محمد بن سيرين قال: ما غشيت امرأة قط في يقظة ولا نوم حتى في المنام غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة في المنام، فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري. فهو متحكم في نفسه في المنام. فيا ليتنا في يقظتنا كـ ابن سيرين في المنام، فهو في منامه إذا رأى المرأة لا تحل له يصرف بصره، وأنت في يقظتك أتصرف بصرك؟ وسفيان الثوري كان يبكي وهو في النوم، أفلم يكفه البكاء وهو في اليقظة حتى يبكي وهو نائم؟ فأي حال غلب على هؤلاء الرجال حتى تحكموا في لحظات نومهم؟ وانظر إلى حياء المرأة في قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] وكأن الأرض حياء وهي تمشي عليها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء وسط الطريق) فالنساء يمشين على جنب. وحياء سيدتنا فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيها، حين جاءت تسأله خادماً فاستحيت، فقال: (ما جاء بك يا بنية؟! قالت: جئت أسلم عليك، فاستحيت من أبيها مرة واثنتين وثلاثاً، وربما أتاها وهي في مخدعها وعلي وقد أوشكا على النوم، فتدخل رأسها في المتاع حياء من أبيها رضي الله عنها). وأما حياء الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين فكان كمال الحياء في النساء، تقول: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فكانت تتخفف من بعض ثيابها، قالت: فلما دفن عمر رضي الله عنه كنت أدخل مجموعة معدودة علي الثياب حياء من عمر رضي الله عنه بعد موته. فهذا هو الحياء في أكمل صوره. فلا والله ما في المرء خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الخطايا أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري ولم أرع الشبيبة والمشيبا أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن ألتمس الطبيبا أنا العبد الشريد ظلمت نفسي وقد وافيت بابكم منيبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا فوا أسفى على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات يحير هول مطلعه اللبيبا ويا ذلاه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا تفطرت السماء به ومارت وأصبحت الجبال به كثيبا ويا ذلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقف وحساب عدل أكون به على نفسي حسيبا ويا خوفاه من نار تلظى إذا زفرت أقلقت القلوبا تكاد إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ظلاماً مريبا فيا من مد في كسب الخطايا أما آن الأوان لأن تتوبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه؟ بارك الله في أيامكم وفي أموالكم وفي مسجدكم هذا وفي جلستكم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ومعذرة إن كنت قد أطلت عليكم. والسلام عليكم ورحمة وبركاته.

انتصار الدعوة

انتصار الدعوة إن الدعوة الإسلامية تحتاج منا إلى أن ننصرها، وأن نضحي في سبيلها، فإن فعلنا ذلك صار النصر حليفنا. ولقد نصر الله تعالى رسله وأنبياءه والدعاة الصادقين من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وكان نصر الله لهم بوسائل شتى وأساليب متعددة.

المفهوم الحقيقي للانتصار

المفهوم الحقيقي للانتصار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: حين يبدو الشر نافشاً، والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق؛ تضطرب بعض المفاهيم عند بعض الشباب العاملين في الساحة الإسلامية، وغياب المعنى الحقيقي لهذه المفاهيم الإيمانية يجعل الناس ينحرفون عن المنهج يمنة ويسرة، ومفهوم الانتصار إذا غاب معناه الحقيقي أو قصر في معناه بعض الشباب فإنهم ينحرفون عن المنهج يمنة ويسرة. وقد يقول قائل: إن الله تبارك وتعالى يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. ويقول تبارك وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فهل تحقق هذا الانتصار؟ وهل تحققت هذه الغاية ليحيى بن زكريا حينما ذبح؟ أو تحقق هذا الانتصار لزكريا حينما شنق؟ أو لإبراهيم حينما هاجر من بلدته؟ أو لنوح وهو لم يستطع أن يقيم دولة إسلامية بالمعنى الضيق الذي يفهمه الناس؟ فغياب المعنى الحقيقي لمفهوم الانتصار، وتقصير بعض الشباب في التمكين لشرع الله في الأرض، وقيام دولة تطبق منهج الله تبارك وتعالى، حصر النصر في هذا المعنى فقط، وجعل بعض الشباب يتصور أن لزاماً عليه أن يقيم هذا المنهج بأي وسيلة وإلا فشلت دعوته، وإن لم يستطع أن يقيم هذا الانتصار، وأن يجعل من هذه الدولة التي تحكم بشرع الله تبارك وتعالى حقيقة قائمة في واقعنا، كانت الهزيمة للدعوة، وتجعله يلجأ إلى وسائل ويستعجل اقتطاف الثمرة. وآخرون قالوا: إن كان الأمر هو قيام الدولة الإسلامية فلنقمها بأي وسيلة حتى بالترخص أو بالالتقاء مع الباطل في منتصف الطريق، وهذا من باب التفريط. وقد يقول البعض الآخر: أين هو الانتصار؟ إنا ندعو إلى الله تبارك وتعالى منذ عشر سنوات ونحن مضطهدون ومستضعفون في الأرض، فيشك في دعوته وإخوانه، ويقول: لا بد أن نغير هذا الطريق، ثم يميل إلى تفسير القرآن والسنة بما يوافق حالته المعنوية فيقول: ليس عليك هداهم {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272]، ثم يقبع في بيته ويعتذر من مخالطة الناس. فغياب المفهوم الحقيقي لمعنى الانتصار يجعل بعض الناس يستعملون العنف، والبعض الآخر يترخصون بوسائل غير شرعية، ويعملون بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وهي قاعدة وثنية، أو عن طريق الانتخابات أو بأي شكل من الأشكال، والآخر يقبع في بيته، إذاً: فما معنى الانتصار؟

معاني الانتصار

معاني الانتصار إن الانتصار له ثمانية معاني، فإذا تحقق واحد منها فقد تحقق معنى الانتصار، وقد تتحقق كلها في زمان معين أو في مكان معين، وهي ما يلي: المعنى الأول: وهو المتبادر إلى الذهن، انتصار الدعوة والداعية، فقد تنتصر الدعوة عند الناس ولا ينتصر الداعية كغلام الراهب لما قتل، فقد انتصر منهجه وانتصرت دعوته، ولم يمكن انتصار منهج غلام الراهب إلا بقتله، حيث قال للملك الظالم الطاغية: إنك لن تقتلني حتى تأخذ من كنانتي سهماً ثم تجمع أهل البلدة وتقول: باسم الله رب الغلام، فقتل الداعية وآمنت القرية بأكملها، ووقع المحظور. ويتحقق هذا المعنى وهو أن الله تبارك وتعالى يهلك الظالمين في حياة الرسل أو في حياة الدعاة، ويمكن للرسل أو الدعاة تطبيق شرع الله تبارك وتعالى في الأرض. وقد تحقق هذا المعنى لبعض الرسل ومنهم: سيدنا داود، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، ويقول المولى تبارك وتعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251]. وتحقق أيضاً لسيدنا سليمان الذي آتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وتحقق هذا المعنى أيضاً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله له تبارك وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم دولة إسلامية بسيطة، ويحقق منهاج الله تبارك وتعالى في الأرض. هذا هو المعنى الأول وهو المتبادر إلى الذهن، وهو الذي يدون في ذهن أكثر الشباب المنتمي للحركة الإسلامية، وهو أن يمكن المولى تبارك وتعالى لشرعه أن يحكم الأرض وأن يسود، لأن الله تبارك وتعالى فطر النفوس على محبة الخير وعلى استعجاله، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]، والإنسان يود أن تكتحل عينه بقيام دولة الخلافة، ويود أن يستنشق عبير الطاعة والذكر وتطبيق شرع الله تبارك وتعالى في الأرض، ومع بعد الناس عن دين الله تبارك وتعالى يتمنى الإنسان أنه يغمض عينيه ثم يفتحهما ودولة الإسلام قائمة في الأرض، هذا هو المعنى الأول المتبادر للذهن. ولكن هل معنى الانتصار هو هذا المعنى فقط؟ ولو قصرنا الانتصار على هذا المعنى فقط فأين نحن من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهط، والنبي يأتي ومعه الرجل والرجلان، والنبي يأتي وليس معه أحد)، وهذا نبي من الأنبياء يقرع أبواب الجنة ولم يستجب له أحد، فهل هو ما استطاع أن يقيم دولة لله في الأرض وأن يطبق فيها منهاج الله تبارك وتعالى؟! هل معنى ذلك أن هذا النبي فشل في دعوته؟ فحصرنا لمفهوم الانتصار في المعنى الأول فقط معناه أن النبي قد فشل في دعوته، ولكن الانتصار له معان كثيرة كما سنوضحها. فالنصر يكون بغلبة الرسل وأنبياء الله والدعاة على أهل الباطل والمعاندين لدعوة الرسل، ويمكن الله تبارك وتعالى لهم من قيام دولة في الأرض تطبق منهاج الله تبارك وتعالى. المعنى الثاني: إهلاك الله تبارك وتعالى للظالمين في حياة الرسل، إن المولى تبارك وتعالى ينتقم من الظالمين في حياة الرسل إذا لم يتمكنوا من إقامة دولة إسلامية لهم، كسيدنا نوح عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 - 14]. فما قص الله تبارك وتعالى علينا أن نوحاً عليه الصلاة والسلام استطاع أن يقيم دولة يطبق فيها حكم الله تبارك وتعالى، فكل ما في القرآن أن إهلاك الله تبارك وتعالى للظالمين في حياة سيدنا نوح كان نصراً {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، واستجاب الله لدعاء نبيه بالنصر، وتحقق هذا النصر بإهلاك الظالمين. المعنى الثالث: أن ينتقم المولى تبارك وتعالى من أعداء الرسل أو الدعاة بعد موت الرسل أو موت الدعاة ورحيلهم إلى الله تبارك وتعالى، فسيدنا يحيى عليه الصلاة والسلام السيد الحصور الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] أي: آتاه الله النبوة من الصغر، تأتيه مومسة من مومسات بني إسرائيل -أي: امرأة بغية- وكانت ابنتها عشيقة للملك، فلما امتنع يحيى عليه الصلاة والسلام من مجاراتها قالت لابنتها: إن أراد منك الملك شيئاً فقولي له: رأس يحيى، وفي إحدى جلسات الملك مع العشيقة طلبت منه مطلباً واحداً فقط وهو رأس يحيى عليه الصلاة والسلام، فبعث بالجزارين فأتوا برأسه، ثم أرسلت بهذا الرأس إلى أمها وأرادت هذه أن تقبل الفم الذي ما نالت منه شيئاً في دار الدنيا، وكلما أرادت أن تقبله يطير الفم من بين يديها، ثم أتت الابنة لزيارة أمها فخسف الله بقدمها في الأرض ثم بساقها ثم بحقوها ثم بصدرها فلما رأت الأم أن ابنتها ستغيب تمنت لو يبقى لها تذكار من ابنتها، فقالت: اقطعوا رأسها يبقى هذا الرأس عندي، فكما قتل يحيى قتلت هذه المرأة التي كانت سبباً في قتله، ثم سلط الله بختنصر على اليهود فذبح منهم الآلاف المؤلفة لدم يحيى حتى سكن هذا الدم، فهذا انتقام من الله تبارك وتعالى لرسله بعد موت الرسل، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51]. قال الإمام ابن جرير الطبري: إنا بإعلائنا لهم على من كذبهم، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسلنا، كالذي فعلناه بقتلة يحيى بن زكريا بتسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتلهم له. فهذا نص من ابن جرير الطبري أن الانتصار قد يحدث لنبي بعد وفاته، وهذا معنى من معاني الانتصار. المعنى الرابع: أن ما يتصوره الناس هزيمة للرسل أو للداعية هو في ذاته أكبر نصر، فالقتل للداعية نصر، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، فقتل الداعية انتصار له، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فإن كان الله تبارك وتعالى يمن على نسمات عباده المؤمنين -أي: أرواحهم- بقول رسوله صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن -يعني روح المؤمن بعد موته- في حواصل طير على نهر بباب الجنة، تلعق من ثمار الجنة). يعني: أن المولى تبارك وتعالى يأذن لأرواح المؤمنين أن تكون في حواصل طير تكون على شاطئ نهر بباب الجنة، تأكل من ثمار الجنة، ولكن لا يأذن الله لها بأن تسرح في الجنة، فتظل واقفة على باب الجنة وتأكل من الثمار ولا تسرح في أرجاء الجنة، فهذه روح المؤمن العادي أما روح الشهيد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أرجاء الجنة حيث تشاء، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش)، فأرواح الشهداء تتنقل في الجنة كما تشاء؛ لأنها حبست أقدامها عن الفرار من أرض المعركة في دار الدنيا، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش. يا ويح شعري وما ارتفعت بنا همم إلى الجنان وتالي القوم أواب إلى كواعب للأطراف قاصرة وظل طوبى وعصر الشدو ينساب إلى قناديل ذهب علقت شرفاً بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا والصادقون يعدون هذا نصراً، فـ حرام بن ملحان حينما طعن في غزوة مؤتة لطخ الدم على وجهه وقال: فزت ورب الكعبة! وعمير بن الحمام ألقى بتمراته وقال: إنها لحياة طويلة إن مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه. وتغنى جعفر الطيار بقوله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها علي إن لاقيتها ضرابها وعامر بن فهيرة راعي الغنم لـ أبي بكر الصديق لما طعنه جبار بن سلمى قال: فزت ورب الكعبة. فحدوث الشهادة لرجل هذا فضل من الله تبارك وتعالى، وقد يعطي الله تبارك وتعالى بشائر ونسمات الجنة لرجل قبل أن يقتل شهيداً، فـ أنس بن النضر في معركة أحد قال له سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟! قال: واهاً لريح الجنة! أي: شم ريح الجنة قبل أن يدخل المعركة، ثم قال: إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد، فهذا نصر، وأي نصر أشرف من أن يعطي الله تبارك وتعالى ريح الجنة لعبد قبل أن يشرع في أي عمل صالح! قال الله تبارك وتعالى عن الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فقد تركوا الصعاليك في دار الدنيا الذين لم يصلوا ولم يصوموا ولم يزكوا، ويتأذى المؤمنين برؤية أجسامهم، فأبدلهم الله تبارك وتعالى بالقرب منه، ومن الملائكة، ومن العرش، فهذا نصر. وقوله تعالى: {يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] أتى بالفعل المضارع ليدل على التجدد والاستمرار، فرزقهم في الجنة دائم، ورزق الدنيا ينقطع. كان أحد الصالحين إذا مر بسوق فاكهة يقول: السلام ع

وسائل الثبات على دين الله تبارك وتعالى

وسائل الثبات على دين الله تبارك وتعالى والمعنى التاسع من معاني النصر: الثبات على دين الله تبارك وتعالى، والوسائل التي تحقق الثبات في هذه الآونة ما يلي: الوسيلة الأولى: وهي تدبر كتاب الله تبارك وتعالى وتلاوته، وأن تنعم العين بالنظر لكتاب الله تبارك وتعالى، وأن تجلي به البصر، وأن تجلي القلب بالتنزه في رياض القرآن الكريم، ورحم الله أقواماً كان القرآن نعيمهم وعنوانهم ونزهتهم وبستانهم وأنسهم وريحانهم كما قال العلماء. يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32]. فالقرآن أعظم وسيلة من وسائل الثبات في كل عصر حين تضطرب الأمور، وتختلط المفاهيم، فيرجع الصادقون إلى كتاب ربهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]. الوسيلة الثانية من وسائل الثبات على طريق الله تبارك وتعالى: الاستقامة والعمل الصالح، يقول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، قال قتادة: أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]، فالمؤمن يجدد إيمانه دائماً بالعمل الصالح. يقول الإمام ابن تيمية قبل وفاته: أنا إلى الآن أجدد إيماني، كان يقول: ما أسلمت إسلاماً جيداً إلى الآن. وقال ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة منذ أربعين سنة ولا فعلت فعلة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى. والـ ربيع بن خثيم منذ عشرين سنة ما تكلم بكلمة واحدة في أمر من أمور الدنيا، حتى إن ابنته وهي صبية قالت: يا أبتي! أأذهب ألعب؟ فقال لها: اذهبي يا بنيتي فاصنعي خيراً، ولما سئل عن ذلك قال: والله لا يكتب في صحيفة أعمالي أني أمرت باللعب. فكيف وحياتنا كلها لعب؟ يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (لست من دد وليس الدد مني). فالمثابرة على العمل الصالح ثبات على دين الله تبارك وتعالى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة). ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، ومن أحبه الله تبارك وتعالى ثبته على دينه. الوسيلة الثالثة: تدبر قصص الأنبياء والسابقين والتأسي بهم، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، فالإنسان حين ينظر إلى جبروت الظالم ينظر إلى القصص الغابرة في التاريخ: في تاريخ الأنبياء وفي تاريخ الدعوات، كقصة سحرة فرعون الذين كانوا في أول النهار يقولون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، ويقولون: وعزة فرعون أننا سنغلب، وفي آخر النهار سجدوا لرب هارون وموسى فـ {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:49]، وكأن الإيمان يحتاج إلى إذن حين يدخل القلوب!! الإيمان لا يحتاج إلى إذن فإذا وصلت بشاشته القلوب استجاب القلب، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، فلما سجدوا لاحت لهم قصور الجنة، {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، وقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73]. يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل لا غرفة التعذيب باقية ولا برد السلاسل وحبوب سنبلة تجف فتملأ الوادي سنابل. وحين يتدبر الإنسان قصة سيدنا موسى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فمن فقد الله فماذا وجد؟ ومن وجد الله فماذا فقد؟ ومن كان مع الله فأي شيء عليه؟ الوسيلة الرابعة: الدعاء بتثبيت القلوب: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250]. ومن مواضع استجابة الدعاء: الدعاء في جوف الليل الآخر، والدعاء عند السجود، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فالمؤمن يدعو الله تبارك وتعالى أن يثبته على الإسلام حتى يلقاه عليه، ويدعو الله تبارك وتعالى لنفسه ولإخوانه وللمسلمين أن يفرج الله تبارك وتعالى عنهم الكربات. الوسيلة الخامسة: ذكر الله تبارك وتعالى، فهو الباب الموصل للولاية العظمى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، وذكر الله تبارك وتعالى مطلوب وخاصة في مواطن الفزع، وعند اشتداد الأمر، ومن ذكر الله تبارك وتعالى في كل حين غرس الله غرساً في الجنة، وبنى له قصوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد! اقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وغراسها سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذا يغرس لك الغرس وأنت في دار الدنيا. والذي ثبت سيدنا يوسف من الوقوع في المعصية هو الذكر: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، فقد جعله يثبت ويقاوم هذه الفتنة، فالذكر عامل وعنصر من عناصر التثبيت. الوسيلة السادسة: الحرص على العقيدة السليمة؛ عقيدة أهل السنة والجماعة: وهم الصحابة والتابعون وتابع التابعين من سلف هذه الأمة. قال علماء السلف: أكثر الناس شكاً عن الموت أهل الكلام. وقال سيدنا عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل. فمن كان على اعتقاد سليم ثبته الله تبارك وتعالى. قال هرقل لـ أبي سفيان قبل إسلامه: هل يرتد أحد منهم سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذا الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. الوسيلة السابعة: التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة وليست الحماسة الثائرة، فالتربية الإيمانية تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة والتوكل على الله تبارك وتعالى، وتغذيه بعناصر تبعده عن الجفاف، وهذه العناصر تستمد من الكتاب والسنة، وهي: الخوف والرجاء والمحبة لله تبارك وتعالى والشوق إلى الله تبارك وتعالى. فالتربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح تكون بعيداً عن التقليد الأعمى، والتربية الواعية التي تفهم منطلق الواقع وتعيشه لا تعيش في غيبوبة عن الواقع، وإنما تعيش بآلام المسلمين، وتعرف أعداء المسلمين ومصائب المسلمين، وتفهم خطط الكافرين، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، فلابد أن يعلم المؤمن الواقع الذي تعيشه هذه الأمة. والتربية الإيمانية متدرجة لا تخضع للحماسة الزائفة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]، فانتكس حماسهم الزائف عندما فرض عليهم القتال، ثم لما ولي عليهم طالوت ملكاً {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] أي: فضله الله تعالى عليهم في العلم والجسم، ثم لما عبر بهم النهر: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249]، أما البقية الباقية لما جاء وقت القتال: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا ال

الأسئلة

الأسئلة

حكم بناء المساجد على القبور

حكم بناء المساجد على القبور Q ما حكم بناء المساجد على القبور؟ A بوب الإمام البخاري على هذه المسألة فقال: باب حرمة بناء المساجد على القبور، فالتحريم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره. وهذه المسألة فيصل بين أهل السنة والصوفية، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الصلاة في المسجد الذي به قبر فرضاً كانت الصلاة أم نفلاً لا تصح، سواء قصد الصلاة إلى القبر أو لم يقصد، وإن صلاها ولا يعلم أن في المسجد قبراً فتصح ولا يعيدها. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من شرار الناس من تقوم عليهم الساعة والمتخذين على المساجد قبوراً)، وقال: فاتخاذ القبور مساجد ذريعة للشرك، ولذا قالت عائشة: يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره. ثانياً: أن الحسين رضوان الله عليه لم يأت جثمانه إلى مصر؛ لأن مقتله كان في كربلاء، قال الإمام البخاري: دفن جثمانه بالبقيع، وغيره من العلماء قال: الرأس والجسد دفنا في كربلاء. ولا يصح أن السيدة زينب أخت الحسين وبنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تترك هدي جدها، وهي تعلم أن إكرام الميت الإسراع في دفنه، وأن من السنة الإسراع في دفن الميت، فالسيدة زينب لم تخالف هدي جدها صلى الله عليه وسلم وهدي أبيها سيدنا علي رضي الله عنه، حيث قال لـ أبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته). فالعلماء قالوا: إن رأس الحسين لم يأت إلى مصر.

اصدق الله يصدقك

اصدق الله يصدقك الصدق خلق عظيم، ووسام رفيع، منزلته عالية، وفضله سام في الدنيا والآخرة، فبه يصح العزم، وتعلو الهمة. وهو خلق شامل لجميع نواحي الحياة، وضروري من أجل استقامتها وسيرتها؛ ولذلك أثنى الله على أصحابه، وأخبر أنه لا ينال جنته إلا أهل الصدق. ولقد ضرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في هذا الخلق العظيم في جميع مجالات الحياة، ونحن حتى نعود إلى نفس ما كانوا عليه لابد أن نكون صادقين في أعمالنا، وصادقين في عزمنا، وصادقين في كل شئوننا.

فضل الصدق والأمر به وثمرته

فضل الصدق والأمر به وثمرته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. أما بعد: فأولاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (ما بالي أسمع دف نعليك أو خشخشة نعليك قبلي في الجنة). وثانياً: بارك الله تبارك وتعالى في أهل حلوان وفي جهدهم وفي عملهم الطيب. تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا بعادكم موت وقربكم حيا ولو غبتم عنا ولو نفساً متنا نعيش بذكراكم ونحيا بقربكم ألا إن تذكار الأحبة ينعشنا أما تبصر الطير المقفص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده فيطرب أرباب القلوب إذا غنى نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصدق في معاملة الله تبارك وتعالى، فالصدق ألا تتكلم إلا بيقين، ومنه تنشأ جميع مقامات السالكين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]. وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال الله تبارك وتعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]. ففي يوم القيامة لا ينجي إلا الصدق، لذا أمر الله تبارك وتعالى عباده أن يكونوا مع الصادقين، فالصدق أس مقامات الدين، وبه تميز سكان الجنان من سكان النيران، وأهل الإيمان من أهل النفاق. ولعظم مقام الصدق قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]. بل سمى الله عز وجل الدين كله صدقاً، فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، فالصدق هنا هو الدين، والذي صدق به هو صديق هذه الأمة الأكبر أبو بكر الصديق. والله تبارك وتعالى قص علينا في القرآن الكريم أنه طلب من نبيه أن يسأله مدخل الصدق ومخرج الصدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80]. وذكر الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله لسان صدق، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]، ووصف الله تبارك وتعالى أهل الجنة بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] وأخبر الله تبارك وتعالى عن عباده بقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2].

مراتب الصدق

مراتب الصدق

معنى مدخل الصدق

معنى مدخل الصدق فهذه خمسة أشياء: مخرج الصدق، ومدخله، ولسانه، وقدمه، ومقعده، فأما مدخل الصدق: فكل دخول تكون فيه بالله ولله، مثل دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقد ترك دياره وأحبابه لدين الله عز وجل، ولبناء دولة الإسلام في المدينة، وأثر الصدق من لحظته الأولى في زعيم أحبار اليهود عبد الله بن سلام، فقال: كنت فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة والناس جنبيه، قال: فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله عز وجل، فكان أول ما سمعته منه: (أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام). فهذا دخول الصدق.

مخرج الصدق ومخرج الكذب

مخرج الصدق ومخرج الكذب وأما مخرج الصدق فكخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر هو والصحابة، فقد تركوا وراءهم كل شيء وخرجوا إلى الله عز وجل، فأعطاهم الله عز وجل الغنائم وأحلها لهم، وما أحلت لبشر قبلهم قبل هذا اليوم، وانتصر الإيمان على الكفر. وأما مخرج الكذب فكخروج أبي جهل لما قالوا له: قد أفلتت العير من محمد فلا داعي لبقائك في بدر، فقال: لا والله، حتى تعزف القيان ونشرب الخمور، وحتى تسمع بنا العرب فلا تزال تخافنا أبد الدهر، فأذله الله عز وجل في هذا اليوم، وفي لحظاته الأخيرة برك على صدره عبد الله بن مسعود، والكذاب كذاب حتى آخر لحظة، ففي لحظة خروج نفسه قال: لمن الدائرة اليوم يا رويعي الغنم! -رويعي الغنم وهو راكب على صدره! - قال: لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أخزاك الله يا فرعون! هذه الأمة. فهذا كان خروج كذب.

مدخل الكذب

مدخل الكذب وأما مدخل الكذب: فلدخول عمرو بن عبد ود لما أراد أن يخترق الخندق؛ ليدخل على المسلمين في دارهم، فقتله علي أصغر فارس في المسلمين، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على علي وقال له: اجلس يا علي! فإنه عمرو، وثلاث مرات يقول: يا رسول الله! وإن كان عمراً، فلما قتل علي عمراً كبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19].

الكلام على لسان الصدق

الكلام على لسان الصدق وأما لسان الصدق فهو: الثناء العطر للصالحين من عباد الله عز وجل، ولأنبياء الله ورسله بعد موتهم وبعد أن تغيب أشخاصهم في جوف الثرى، فيلهج الله عز وجل ألسنة الخلائق بمدحهم، وهذا بخلاف من يذمونه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بالجنازة: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! من المستريح ومن المستراح منه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المستريح العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وتعبها إلى سعة رحمة الله عز وجل، والمستراح منه العبد الكافر أو الفاجر أو المنافق تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب) وحتى الجماد يستريح منه. وأما الصالحون فيبكي عليهم ممشاهم ومغداهم إلى المسجد، ومصعد عملهم إلى السماء، قال الله تبارك وتعالى عن فرعون وقومه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، وبمفهوم المخالفة يكون معنى هذا: أن الأرض والسماوات تبكي على موت الصالحين. فموتهم جنازة لأهل الأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون النجم الغابر في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها أحد سواهم، قال: والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً). وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه قيد أنملة. قالوا: ومن الصدق ألا يتمنى أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله الصالح، ويرجو أن يكون بينه وبين الله عز وجل خبء من عمل صالح لا يطلع عليه أحد من البشر حتى ولو كانت زوجته. وهذا كما قال القائل: ويبدو لك في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبدو السرائر وقال أبو تراب النخشبي: إن الصادق يرزقه الله عز وجل حلاوة العمل قبل الشروع فيه. يعني: إذا علم الله عز وجل الصدق من قلبك وأنت عازم على العمل رزقك حلاوته قبل أن تبدأ فيه.

أمثلة الصدق من سير الأنبياء والصالحين

أمثلة الصدق من سير الأنبياء والصالحين

قصة أم إسماعيل لما تركها إبراهيم في مكة

قصة أم إسماعيل لما تركها إبراهيم في مكة وهذه امرأة مصرية ولا مانع أن نذكر اسمها؛ فأسماء أمهات المؤمنين التسع معروفة، هذه المرأة المصرية التي نفخر بها هي أم إسماعيل، وهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتلك أمكم يا بني ماء السماء) لما أتى بها إبراهيم عليه السلام إلى جبال فاران، وهو موضع مكة الآن قالت له: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلن يضيعنا. ولا يوجد أسهل من الكلام، ولكن في المواقف الصعبة فإن الترجمة العملية تكون شيئاً آخر، وتصور أنت امرأة يأتي بها زوجها هي ورضيعها إلى مكان قفر في مكة -ونحن نعرف هجير مكة- ويتركها، وهي تعلم أنه بعد لحظات سيتركها ولا يترك معها إلا جراباً من التمر وسقاء من الماء ينفذ بسرعة، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال لها: نعم. فتقول: إذاً فلن يضيعنا. فبالله عليك لو كنت أنا وأنت هل سنقول: إذاً فلن يضيعنا! ثم يرحل عنها إبراهيم، ثم يتضور ويتلبط رضيعها فتبحث له عن الماء، ويجعل الله من خطواتها ما بين الصفا والمروة ركناً من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، وهذا ما أورثتكموه أمكم أم إسماعيل يا بني ماء السماء! ثم يتبدى لها جبريل؛ لأنها في موقف يعجز عنه الرجال، فقال لها جبريل: من أنت؟ فقالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم. فقال لها: إلى من وكلكما؟ يعني: إلى من ترككما؟ فهو لم يترك معهما فاكهة الشتاء ولا فاكهة الصيف، ولا لحوم الشتاء، ولا لحوم الصيف، ولم يترك معهما طعاماً يكفيهما سنة، وإنما ترك لهما شيئاً يسيراً من تمر وماء لا يكفيهما لوقت يسير. فقالت: إلى الله. فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة؛ فإن الله لا يضيع أهله. ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإخبار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا

قصة حفظ الله لموسى عليه السلام أثناء رضاعه

قصة حفظ الله لموسى عليه السلام أثناء رضاعه قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، والأم إذا خافت على ولدها تضمه إلى صدرها، فما بال أم موسى وهي تعلم أن فرعون وملأه يبحثون عن رضيعها -لبلاهة فكرهم وتفاهة عقولهم- ويجندون جنودهم للبحث عنه فتلقيه إلى البحر؟ فسبحان من قال لها: فإذا خفت عليه فبدلاً من أن ترضعيه وتضميه إلى صدرك ألقيه في اليم، فهناك رحمة الله عز وجل. وسبحان من جعل من موج البحر مستراحاً ومأمناً ومناماً لموسى عليه السلام، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام. ويتهادى التابوت ليصل إلى قصر غريمه فرعون وإلى فم التنين بدون حراسة، ولكنها إرادة الله وعنايته أن يصل إلى تحت القصر، وإنما يؤتى الحذر من مأمنه، فأوتي فرعون من قبل زوجه التي تبيت معه في مخدعه، وبهرها الجمال الموسوي الذي قال فيه الله عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فقالت: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، وبهذا حفظ موسى عليه السلام كما حفظ يوسف عليه السلام لما أصبح أجيراً، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:21]، فكانت بداية التمكين وهو أجير، وكيف يكون التمكين وهو أجير؟ ولكن مضى وعد الله عز وجل بذلك؛ وهذه مشيئة الله عز وجل ومكره عز وجل لأحبابه. وانظر كم قتل فرعون من أجل موسى عليه السلام، ومع ذلك فكأن لسان القدر يقول له: لا نربيه إلا في حجرك.

قصة عمرو بن عتبة بن فرقد

قصة عمرو بن عتبة بن فرقد وهذا عمرو بن عتبة بن فرقد إذا كان في الجيش لم يكن أحد من الجيش يحرس؛ لكثرة صلاة عمرو، وبينما هو قائم في الليل أتى السبع ففر الجيش ولم يفر هو، قالوا: فوالله ما انفلت من صلاته، ثم لما سألوه: أما خفت السبع؟ قال: إني أستحي من الله عز وجل أن أخشى شيئاً غيره. وهذا ثابت عنه، ثم مات شهيداً. وذات يوم لبس جبة بيضاء فقال: ما أحلى هذه الجبة وتحدر الدم عليها! ومر ببستان قد أينع ثمره وزهره فقال: ما أجمل هذا الوادي! وأجمل منه لو أن رجلاً صاح: يا خيل الله اركبي! فوالله ما أتم كلمته حتى سمع داعي الجهاد، فكان في طليعة القوم، وأصيب في نفس المكان الذي أشار إليه على الجبة، وتحدر الدم على المكان الذي أشار إليه، ولكن الجرح كان بسيطاً، فجعل يداعب جرحه ويقول: إنك لصغير، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً. وثبت في كتاب (بذل الماعون في فضل الطاعون) أن معاذ بن جبل رفع يده إلى السماء لما أصيب بالطاعون وقال: اللهم وفر لأهل معاذ نصيبهم من رحمتك، فأصيب ابنه عبد الرحمن، فقيل له: كيف تجده؟ فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147]. ثم بعد ذلك أصيب هو في إبهامه، فقال: إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير. فمات عمرو بن عتبة من جرحه الذي ظل يداعبه ويهدهده، بعد أن كبر الجرح الصغير، وعند غروب الشمس خرجت روحه إلى الله تبارك وتعالى وكان صائماً. فإن تصدق الله يصدقك.

قصة سعد بن معاذ في مرضه وحكمه في اليهود

قصة سعد بن معاذ في مرضه وحكمه في اليهود وسعد بن معاذ كان صديق الأنصار، وكانت منزلته في الأنصار في الصدق تساوي منزلة أبي بكر في المهاجرين في الصدق وإن كان بينهما تفاوت عظيم، وكانوا يلقبونه بصديق الأنصار، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء). وكان قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهم ذاهبون إلى بدر: (ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك)، فسر النبي صلى الله عليه وسلم واستنار وجهه. ولما أصيب في أكحله -والأكحل: أكبر شريان في الجسم -نزف الدم حتى أصاب من في الخيمة، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى أبو بكر وعمر، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يرقي له جرحه، ولما كان جرحه ينزف ويصيب من في الخيمة رفع سعد يده إلى السماء وقال: اللهم إن كنت أبقيت رسولك صلى الله عليه وسلم لحرب يهود -وكانوا حلفاءه- فأبقني، قالوا: فوالله لقد انقطع دمه فما قطر قطرة واحدة بعد دعائه الصادق. ثم كانت حرب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وحصاره لهم، فقالوا: ننزل على حكم سيدنا سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بـ سعد بن معاذ، فلما وصل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا لسيدكم فأنزلوه)، ومن عظيم أدب سعد العظيم أنه نظر إلى الخيمة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: حكمي نافذ على من في هذا؟ -تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فأخذ الميثاق من اليهود على نفاذ حكمه فيهم؛ لأنه يعرف أنهم قد نقضوا عهدهم مع الله عز وجل، فكيف لا ينقضون عهدهم مع سعد وهو يعرف أنهم قوم بهت، فلما أخذ منهم العهد قال: حكمي فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، وتقسم أموالهم. ثم قال سعد: اللهم افجره؛ شوقاً إليه، فانفجر أكحله، فطببوه عند رفيدة الصحابية الطبيبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم ويسأل عن أخباره، فأتاها مرة فقالت: اشتد به الوجع، فأتى قومه بنو عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، ونزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! من هذا الذي قد مات من أمتك؟! لقد نزل إلى الأرض سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبل يومهم هذا لتشييعه). والحديث صححه الشيخ الألباني. فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم السير حتى تقطعت نعال من معه من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! تعبنا من هذا السير، قال: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة). فـ حنظلة حملته الملائكة وغسلته ووارته، وهناك قوم تسلم عليهم الملائكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت أخاه حنظلة)، ولما وصل إلى البيت وجد أمه تنوح عليه وتقول: ويل أمك سعداً حزامةً وجداً وفارساً معداً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة كاذبة إلا نائحة سعد)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ)، وفي رواية جودها الحافظ الذهبي: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ).

قصة أنس بن النضر في أحد

قصة أنس بن النضر في أحد وانظروا إلى أنس بن النضر رضي الله عنه لما غاب عن أول مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين، قال رضي الله عنه: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين وأغيب عنه! لئن أشهدني الله مشهداً آخر مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، فلما كان في يوم أحد وبعد انكشاف المسلمين رآه سعد بن معاذ فقال له: يا أبا عمرو! إلى أين؟ قال: إليك عني يا سعد بن معاذ! والله إني لأشم ريح الجنة من دون أحد. وهذا علم الله منه صدق العزم وهو لم يشرع بعد في العمل، فأراه شم ريح الجنة وهو في أحد، فقال: إليك عني يا سعد بن معاذ! والله إني لأشم ريح الجنة من دون أحد، وصدق الله عز وجل في اللقاء، حتى إنه لم تعرفه إلا أخته ببنانه، ووجدوا في جسمه ثمانين رمية ما بين طعنة بسيف، وضربة برمح، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. وبصدقهم على تحمل الضرب في سبيل الله، واستقامتهم، وتوكلهم على الله عز وجل سجلوا في التاريخ أحرف وصفحات من نور لا تكون لغيرهم أبداً.

بيان مثلنا في الاستقامة اليوم

بيان مثلنا في الاستقامة اليوم ونحن هل صدقنا مع الله عز وجل في استقامتنا؟ أم يصدق فينا قول الشاعر: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل نحن نقول ذلك ولكن عندما تأتي الشدة يكون حالنا كحال الكلب، فقد قيل: إن الكلب أتى إلى السبع وقال له: يا ملك الغابة! غير اسمي؛ لأن الكلب اسم قبيح، فقال له: الكلب اسمك. فقال: لا، لا أريد هذا الاسم، فقال له: إذاً نعطيك قطعة من اللحم فإن احتفظت بها إلى الليل غيرنا لك اسمك. فأخذها فلما أتت الظهيرة بقيظها وحرها نظر إلى بطنه وإلى قطعة اللحم، فقال: كلب كلب، إن الكلب اسم جميل، ثم التهم قطعة اللحم، ثم أتى إلى السبع في آخر الليل وقال له: غير اسمي.

بيان تعاون العرب مع الإنجليز لإقامة دولة اليهود

بيان تعاون العرب مع الإنجليز لإقامة دولة اليهود إن المسلمين والعرب لم يصدقوا اليوم مع الله عز وجل حتى في دار الدنيا، ولم يصدقوا حتى في قضيتهم التي تجمعهم وهي قضية فلسطين، يقول جمال حمدان -الذي قال عنه محمد حسنين هيكل: إنه العالم المصري الفذ، وله كتاب عظيم اسمه شخصية مصر- يقول: كل الأمر وما فيه أن إسرائيل أرادت قيام دولة فصنعها لها العرب. فاليهود كانوا يريدون أن يقيموا دولة فجاء العرب وقالوا: نحن سنعمل لك الدولة فلا تتعبي نفسك، وأما كيف حدث هذا فإنه في عام (1917م) قامت الثورة العربية بقيادة الشريف حسين والي مكة، وتحالف مع الجنرال اللنبي قائد القوات البريطانية في مصر لطرد المسلمين الأتراك من فلسطين من القدس، ولم يدخل اللنبي فلسطين إلا ببنادق العرب، فهم الذين قاتلوا وطردوا إخوانهم المسلمين من فلسطين، هذا أول الأمر، وحينما دخل اللنبي فلسطين رطن بالإنجليزية -ولا يعرفها من حوله- وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين! وركز علمه وفيه صليبه هناك على جبل صهيون. ثم بعد ذلك لما أراد العرب بثوراتهم أن يحرروا فلسطين في عام (1948م) جعلوا الجيوش العربية كلها تحت إمرة الملك عبد الله، وقائد قوات جيشه هو جولوب باشا، وقد كان قائداً إنجليزياً، وهل سيحارب الإنجليز من أجل عيون العرب؟! فكانت أعاجيب! ثم في آخر الأمر أتت منظمة فتح العلمانية، ومن أول يوم من قيامها ألغت ميثاق العمل الفلسطيني وكل ما يسيء إلى إسرائيل من عبارات، مثل رميهم من البحر إلى النهر وغيره من الكلام، ووزير خارجية فرنسا لما قابل عرفات بعد محادثاته في مصر قال له: إنك أعطيت الكثير لوزير الخارجية الأمريكي، أفلا تعطي متران وهو رئيس جمهورية شيئاً؟ فقال: ماذا أعطيه؟ قال: تتنازل عن ميثاق العمل الفلسطيني وما يتعلق بإسرائيل وحرب إسرائيل، فقال له: ماذا يعني هذا الكلام بالفرنسية، فقال: كدوه، فقال للسفير الفلسطيني: ماذا تعني هذه الكلمة؟ قال: تعني الإلغاء، فالرجل وهو ينزل من على درجات السلم لما سألوه عن ميثاق العام الفلسطيني قال: كدوه، كدوه، كدوه بالفرنسية. وألغوا جهادهم بالفرنسية.

بيان تبدل حال المسلمين من العز إلى الذل

بيان تبدل حال المسلمين من العز إلى الذل قالوا لنا: أرضنا أرض مباركة فيها الهدى والتقى والوحي والرسل ما لي أراها وبحر الزور يغرقها وأكبر الأمر في أرجائها دجل في أي شيء أمام الله قد عدلوا وكلهم كاذب قالوا وما فعلوا هذا جبان وهذا باع أمته وكلهم في حمى الشيطان يبتهلوا من يوم أن مزقوا أحكام ملتهم وثوبنا الخزي والبهتان والزلل عار على الأرض كيف الزور ضاجعها كيف استوى عندها الكذاب والرجل ما زال في القلب يدمي جرح قرطبة ومسجد في كهوف الصمت يبتهل فكم بكينا على أطلال قرطبة وقدسنا لم تزل في العار تغتسل في القدس تبكي أمام الله مئذنة ونهر دمع على المحراب ينهمل وكعبة تشتكي لله غربتها وتنزف الدمع في أعتاب من رحلوا كانوا رجالاً وكانوا للورى قبساً وجذوة من ضمير الصدق تشتعل لم يبق شيء لنا من بعدما غربت شمس الرجال تساوى اللص والبطل لم يبق شيء لنا من بعدما سقطت كل القلاع تساوى السفح والجبل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة). يا شام! أين هما عينا معاوية؟ وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا؟ فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد! ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونةً وأودعوها سخيف القول والخطبا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟ يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونزف شريانه ما أسهل العتبا من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا

فضل الصدق في الجهاد

فضل الصدق في الجهاد عن نعيم بن هبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا يلقون في الغرف العلا من الجنة، يضحك إليهم ربك، وإن ربك إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه). فالصدق الصدق أيها الإخوة! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

بيان أهمية الصدق مع الإخلاص

بيان أهمية الصدق مع الإخلاص الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من جعله الله رحمة للعالمين. أما بعد: فما أحوجنا اليوم إلى الصدق، وكثير من الناس يلتبس عليه أمر الإخلاص بأمر الصدق، فقد يخلص عمله لله ولكنه لا يصدق فيه، فنحن بحاجة إلى أن نصدق مع الله تبارك وتعالى في أعمالنا، وإلى أن نبذل المجهود وأقصى ما نستطيعه فيها.

بيان أهمية العمل بالعلم

بيان أهمية العمل بالعلم والعبد بحاجة إلى أن يتعلم، وإلى أن يقرن هذا العلم بالعمل الصالح، ويزينه بالإخلاص لله تبارك وتعالى، ويتوج هذا العلم والعمل والإخلاص بالصدق لله تبارك وتعالى فيه، ونحن إذا أردنا أن نحول علمنا وطلبنا للعلم من مجرد اجتماع وتأثر وقتي فلنجتهد ولنصدق في ذلك.

وسائل العلم

وسائل العلم أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاستفد علماً وحلماً ثم قيده بقيد وهكذا يكون طلب العلم، فليس طلب العلم أن تفتح كتباً فتقرأ فيها فحسب، ولا أن تحشو عقلك ورأسك بمعلومات فحسب، وإنما طلب العلم كما قال الإمام الشافعي عليه رحمة الله: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وإخلاص وصدق وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان فلابد لكي تطلب العلم إلى أن تتحلى بهذه الأمور: ذكاء وإخلاص وصدق وبلغة، وهذه هي إمكانات العلم، وصحبة أستاذ وطول زمان، فصحبة الأستاذ تتعلم منها الأدب قبل العلم، وكيف يكون علمك هذا حجة لك لا عليك، وكيف تجعل هذا العلم نبراساً يضيء لك طريقك، فكم رأينا من علماء صار علمهم وبالاً عليهم، وكم رأينا من علماء استعملوا آلة الدين للدنيا، وكم رأينا من علماء أكبوا على وجههم والعياذ بالله في النار، وقد كان من المفروض أن يقودهم علمهم إلى جنة الله تعالى.

فضل العلم وأهمية الصدق فيه

فضل العلم وأهمية الصدق فيه الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فيسعدني في هذا اليوم أن أجلس بين إخواني ومشايخي لكي أشارك معهم وقد شاركنا من قبل، وكلما تجددت علينا هذه المجالس ازددنا بذلك غبطة وفرحة، وازداد رجاؤنا في الله عز وجل، حيث نرى كل يوم ونسمع ونشهد إخواناً لنا يطلبون العلم ويجلسون أمام العلماء، فإن في ذلك صحوة للأمة، وهي ثمرة ما يبذله مشايخنا الأفاضل وعلى رأسهم أستاذنا وشيخنا الدكتور سيد حسين العفاني الذي ما كنت لأجرؤ أن أتكلم بين يديه، ولكن كما كان منهج سلفنا رضي الله تعالى عنهم، فقد كان عكرمة يتكلم بين يدي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، حتى إذا أخطأ أو مال عن الصواب أرشده وبين له. إن موضوع الصدق له أهميته ومكانته؛ ذلك أننا لا نستطيع أن نطلب العلم إلا بالصدق، ونحن نسمع كثيراً عن فضل العلم، ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، فهذا من أعظم الفضل والشرف أن يكون الإنسان وريث الأنبياء يحمل العلم من بعدهم. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. ولكن هذا العلم لكي نتحصل عليه وننال هذا الشرف لابد فيه من الصدق.

بيان شمولية معنى الصدق والكذب

بيان شمولية معنى الصدق والكذب وبعض الناس يظن أن الصدق هو مجرد الصدق في الكلام والحديث، أي: أنك عندما تتكلم لا تكذب، وهذا أحد جوانب الصدق وأحد أقسامه، بل ربما يكون أقل أقسامه، وإن كان المتخلف عنها في عداد المنافقين، وهناك أقسام أخرى للصدق: من ذلك الصدق في الإخلاص، فقد يدعي الإنسان الإخلاص وهو كاذب في إخلاصه، والدليل على ذلك: حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، (فيؤتى بأحدهم فيسأله الله ويعرفه نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت؟ فيقول: قرأت فيك القرآن وتعلمت العلم وعلمته، فيقول الله: كذبت). والكذب هنا ليس كذباً في الكلام ولكنه كذب في الإخلاص، فهو حقاً قد قرأ القرآن وتعلم العلم وعلمه، لكنه لم يفعل ذلك لله عز وجل، ولكنه قرأ ليقال: قارئ، وتعلم ليقال: عالم، وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار. ثم ذكر بقية الثلاثة وفيهم الجواد الكريم الذي يقول له الله عز وجل: كذبت؛ إنما أنفقت ليقال: جواد، وفيهم المقاتل في سبيل الله الذي يقول له الله عز وجل: كذبت؛ إنما قاتلت ليقال: شجاع وجريء، فقد قيل.

الصدق في العزم وطلب العلم

الصدق في العزم وطلب العلم وهناك الصدق في العزم، مثل أنس بن النضر عندما صدق في عزمه، والله عز جل ذكر الذين يعاهدون الله عز وجل ولا يصدقون في عهدهم، فقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77] أي: كانوا في عهدهم كاذبين، وفي عزمهم غير صادقين. فينبغي لمن أراد أن يطلب العلم أن يكون صادقاً مع الله عز وجل، فيترك كل شيء من أجل العلم، وهذا يحتاج إلى عزيمة قوية وقرار حاسم، وعندما نتكلم عن طالب العلم لا نقصد بأنك تجلس وتذاكر وتحفظ وتتعلم وتعرف التفسير فقط ثم لا تعرف موعظة توسع بها صدرك، وتنشط بها رجاءك، وتجدد بها نشاطك، ولكننا نريد الثمرة، فنحن محتاجون إلى علماء للأمة يأخذون بيدها إلى الرشاد والحق والهدى، فأين هذه الثمار؟ وأين البذل لله عز وجل؟ فلا ينفع أن تأتي وتسمع محاضرة مدة ساعة أو ساعتين ثم تذهب وتنام، بل لابد أن تكون حياتك كلها للعلم، والعلم لا ينال براحة الجسم، وأما إرادة بعض العلم والتعذر بأنك لست فارغاً أو عندك أشغال أو أتعبك العيال فهذه كلها معاذير، فلماذا لا تعكس المسألة وتقول: عندي درس علم، ولست فارغاً للذهاب في المشاوير؛ من أجل درس العلم، ولست فارغاً لمقابلة الضيوف؛ من أجل درس العلم، ولست فارغاً لأن أفسح على العيال؛ من أجل درس العلم؟! فلماذا جعلنا العلم بل جعلنا أعمالنا كلها التي هي مع الله عز وجل على هامش الحياة، فبعد أن نأكل ونشرب وننام ونتكلم ونصاحب ونمزح ونمرح بعد ذلك نفكر أننا نمسك المصحف ونقرأ، ونفكر أننا نمسك كتاب صحيح مسلم ونحفظ منه حديثاً، أو نفكر أننا نتعلم مسألة من مسائل الفقه؟! والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وأبو هريرة لما كانوا ينكرون عليه كثرة الحديث قال: كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، يعني: كان أهم شيء عنده أن يتعلم من النبي عليه الصلاة والسلام. وكان السلف يذلون أنفسهم من أجل العلم، فـ عبد الله بن عباس -وهو من هو شرفاً ومكانةً وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: كنت آتي هذا الحي من الأنصار لما أعلم ما عندهم من العلم، فأقيل عند باب أحدهم وإني لأعلم أني لو استأذنته لأذن لي. وكان يفعل ذلك ليطيب بها نفسه، ويرقق بها قلبه. فكانوا يذلون أنفسهم بصدق في العلم. والإمام الشافعي الذي تربى يتيماً يقول: كنت يتيماً في حجر أمي، وكانت لا تجد ما تعطيه المعلم. وهذه العادة موجودة حتى الآن في الريف، فالشيخ الذي يحفظ الأطفال في الكتاب منهم من يعطيه خبزاً، ومنهم من يعطيه دقيقاً، ومنهم من يعطيه أشياء يعيش بها، فكانت أم الشافعي لا تجد ما تعطي المعلم. قال: فرضي مني أن أخلفه في مجلسه، يعني: ينظف المجلس بعدما يقوم المدرس ويمسحه، حتى حفظ كتاب الله عز وجل، ثم جلس في مجالس العلماء، قال: فكنت لا أجد ما أشتري به القراطيس -يعني: الأوراق التي يكتب فيها- فكنت أذهب إلى المزابل فإذا وجدت عظماً يلوح أخذته فكتبت عليه، حتى إذا امتلأ جعلته في جرة لنا قديمة، هذا هو الإمام الشافعي الذي مات وله خمسون سنة وقد ملأ علمه الآفاق، وهو أول من علم الناس علم أصول الفقه، وصنف كتاب الرسالة. وكان عمر بن عبد العزيز يذهب إلى العلماء فمنهم من يدخله ومنهم من يرجعه. فكانوا يذلون أنفسهم بصدق في العلم، وكانوا يقولون: من طلب الحديث أفلس، ولا ينال العلم إلا بالفقر، يعني: أنك تفتقر من كثرة الطلب ومن كثر الإنفاق، فإذا علمت أن منزلة العالم منزلة عظيمة عند الله عز وجل فينبغي عليك أن تنفق كل غال ورخيص من أجل أن تنال هذا العلم.

تفضيل العلماء على المجاهدين

تفضيل العلماء على المجاهدين ويكفي أهل العلم شرفاً أنه عندما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى مكانة العلماء في طبقات المكلفين ذكر مسألة وهي: هل العلماء أعظم منزلة أم المجاهدون؟ وكلنا يعلم منزلة المجاهد عند الله عز وجل، وانتهى في بحثه وتحقيقه إلى أن العالم أفضل مكانةً من المجاهد، فإذا كانت الأبواب مغلقة تمنعك من الذهاب للجهاد ونصرة إخوانك في كل مكان فهناك أبواب مفتوحة فجاهد فيها، ومنزلتها أعظم، ولعل الله عز وجل يغير على يديك وبعلمك من يقود الأمة، فربما يقعد طفل صغير بين يديك لتعلمه وترشده وتثبته على طريق الحق، فيكون سبباً لهداية الأمة. ونحن نذكر قصة الغلام الذي هداه الله عز وجل على يد راهب، فكان هذا الغلام سبباً لهداية الأمة كلها، حتى قال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أعظم مني وأفضل. وهذا دليل على صدق هذا الرجل في تعليمه للغلام، ولم يدخله غيرة ولا حسد، ولكنه قال للغلام: أنت اليوم أفضل مني. ولا يتسع الوقت لأن نحكي هذه القصص، فكلها والحمد لله قصص مشهورة، ولكن هذا الغلام كان سبباً هدى الله سبحانه وتعالى الناس على يديه بعدما وصل الأمر إلى الملك، ثم كان ما كان حتى قال الناس جميعاً: آمنا برب الغلام. فأبواب الخير عند الله عز وجل كثيرة، ولا تدري من أي باب ينصر الله عز وجل دينه، فرب طفل صغير أو إنسان يتعلم على يديك يكون سبباً لنجاة الأمة، ويكون سبباً لفتح باب الجهاد في سبيل الله عز وجل، فلا تترك أنت هذا الباب، وباب العلم مفتوح والحمد لله، وكتب العلم كثيرة، والعلماء بين يديك فاجلس واطلب العلم. وقد استدل ابن القيم في تحقيقه أن العلماء أعظم منزلة من المجاهدين بقوله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)؛ لأن الذي يرث الميت أقرب الناس إليه، فهم أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ورثوا العلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم). قال: وأيضاً فإن العالم في جهاد مستمر لا كالمجاهد في المعركة، بل حتى وهو نائم يجاهد، فحياته كلها في جهاد مع أهل البدع والفرق، ومع أهل الملل والنحل، فيرد الشبهات عن الأمة ويدفعها عنها. وقد كانت الشبهات من قريب عن اللحية والنقاب والسواك، ولكن كثر الكلام الآن، فهم الآن يتكلمون في أصول الدين، وفي العقائد، وفي مصادر الإسلام، ويتكلمون عن البخاري ومسلم، وعن كتب السنة التي هي الأصول، ويتكلمون عن الشرائع، وعن الحج، كالذين يقترحون على الناس أن يقسم يوم عرفة على سبعين يوماً؛ من أجل الزحام. ومنهم من يحاول أن يمنع الناس من أداء الحج والعمرة؛ بحجة أن هذه الأموال التي تنفق صرفها على الفقراء والمرضى أولى، ومن ثم لا يضيع اقتصاد الأمة، حيث تنفق في هذه الرحلة أكثر من مليار، ونحن محتاجون لها؛ إذ علينا ديون، ونسي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب)، ومن غير العلماء سيدفع عن الأمة هذه الشبهات إذا كان كل أحد فيها همه جمع الأموال ولا يشبع من المال الذي يجمعه، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى أن يكون له ثانٍ، ولو كان له واديان لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب). وإذا رزقت القناعة فهذا هو الكنز الذي لا يفنى، فإنك إذا رزقت القناعة فلقمة من كسرة تكفيك، وإن لم ترزق القناعة فمال الأرض كله لا يكفيك، وستظل ترى الفقر أمام عينك. ومن الشبهات: أن هناك من يقول: إن الهندوس بشر مثلنا، ولهم دين مثل ما لنا نحن دين، ولهم رب يرحمهم مثل ما لنا نحن رب يرحمنا، مع أنهم يتكلمون في العقائد وفي المسائل التي نقول عنها: إنها معلومة من الدين بالضرورة، ويعلمها العامي والعالم والصبي والصغير والكبير. إذاً: فلابد من الصدق في طلب العلم، وبذل كل أوقاتنا وحياتنا في سبيله. إن مجيئك إلى المسجد نعمة كبيرة جداً وفضل من الله واصطفاء واختيار منه عز وجل، فربنا اصطفاك من وسط هؤلاء الناس جميعاً لأن تكون في المسجد في طاعة لله عز وجل. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكم الصدق في القول والعمل، وأن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

بيان ضرورة العلم لكل عمل

بيان ضرورة العلم لكل عمل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبها يرتفع العبد في الدرجات، الحمد لله الذي من علينا وجمعنا في بيته الكريم الطاهر، أما بعد: فإن طلب العلم ضرورة لكل عمل، فأنت إذا أردت أن تدعو الناس إلى الله فلابد أن تكون على علم، وإذا أردت أن تستقيم على طريق الله فلابد أن تكون على علم، وإذا أردت أن تجاهد في سبيل الله فلابد أن تكون على علم، وكل عمل تعمله فلابد وأن يكون على علم وعلى نور يضيء لك الطريق؛ حتى لا تريد طاعة الله فتقع في معصيته. وقد قال بعض السلف: إنك إذا لم تحسن أن تتقي لقيتك امرأة فنظرت إليها ووقعت في الحرام، وإذا لم تحسن أن تتقي أكلت الربا، وإذا لم تحسن أن تتقي وضعت سيفك على عاتقك، يعني: قاتلت به المسلمين. فأنت إن لم تتعلم فكيف تحيا بالدين، وكيف تعيش لله تبارك وتعالى، فستقع ولاشك فيما يغضب الله عز وجل.

أهمية التدرج في طلب العلم

أهمية التدرج في طلب العلم كان سلفنا الصالح يبدأون بصغار العلم قبل كباره، ونحن نريد أن نخرج من تلك الحالة السيئة التي يعيشها أغلب الملتزمين أو أغلب المتدينين، حيث إنه يأخذ علمه نتفاً ينتفها من الكتب، فقد يروق له هذا الكتاب تارة فيأخذ منه صفحة أو صفحتين أو غير ذلك، ثم ينتقل إلى غيره، ثم إلى ثالث وإلى رابع، ويكون حاله كحال ذلك الرجل الذي قص علي بعض إخواني مثله، قال: إنه منذ ثلاثين عاماً يتعلم لكنه ما حصل شيئاً، فقيل له: كيف ثلاثون عاماً وما حصلت شيئاً؟! قال: إن مثلي كمثل رجل أراد أن يحفر بئراً ليتحصل على الماء، وكان الماء مثلاً على مسافة عشرة أمتار، فجاء وحفر خمسة أمتار في بئر ثم تركه، وانطلق إلى موقع آخر فحفر مترين، ثم إلى ثالث فحفر سبعة وإلى رابع وهكذا حتى حفر ثلاثين بئراً، وهو يحفر فيها ما بين متر ومترين وخمسة، فظل هكذا وما تحصل على الماء، ولو بقي على البئر الأول حتى حفر الأمتار العشرة لتحصل على الماء. وهذا بالضبط مثل من يأخذ من هذا الكتاب تارة ومن هذا تارة، فلم يحصل علماً ولا أصولاً ولا وقف على أرض صلبة، ولو علم نفسه الصبر، وجلس وزاحم العلماء بالركب، وصبر نفسه ورباها وعودها على أن تتعلم ممن سبقها، وأن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن تتعلم ما تحبه وما تكرهه، وما تشتهيه وما لا تشتهيه؛ لأنه إنما يتعلم لله جل وعلا لا لكي يقضي وطره، أو لكي يشبع شهوته، أو يلائم هواه، فلو صبرها على هذا لنال بفضل الله العلم والتربية. ومسك الختام هو أن نرد الأمر إلى أهله، ونعطي أصحاب الحقوق حقوقهم، وما شكر الله جل وعلا من لم يشكر الناس، وما شكر الله تبارك وتعالى من لم يشكر من أجرى النعمة على يديه. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي صح عنه: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه). فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالأخذ بالأسباب لنتعلم، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فمن تقواك لله جل وعلا أن تسلك سبيل العلم، واعلم أنك لن تصل إلى الله جل وعلا إلا عن طريق العلم، فالسائر على غير علم كالسائر على غير طريق، والذي يعبد الله جل وعلا على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقليل مع العلم خير من كثير بغير علم. نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع ليتعلموا ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في هذه الأعمال، وأن يجعلها خالصة لوجهه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم في الجنة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهمية الأخذ بالأسباب في طلب العلم

أهمية الأخذ بالأسباب في طلب العلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي صح عنه: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه). فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالأخذ بالأسباب لنتعلم، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فمن تقواك لله جل وعلا أن تسلك سبيل العلم، واعلم أنك لن تصل إلى الله جل وعلا إلا عن طريق العلم، فالسائر على غير علم كالسائر على غير طريق، والذي يعبد الله جل وعلا على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقليل مع العلم خير من كثير بغير علم. نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع ليتعلموا ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في هذه الأعمال، وأن يجعلها خالصة لوجهه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم في الجنة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

البحار الزاخرة في فضل المغفرة

البحار الزاخرة في فضل المغفرة لقد خلق الله الإنسان وجعله معرض للخطأ والتقصير والنسيان، ومن رحمته سبحانه أن فتح باب التوبة والمغفرة لمن عاد إليه وتاب واستغفر من ذنوبه، وحث سبحانه على المبادرة إلى التوبة، ويسر طريقها للسالكين، وسمى نفسه الغفور الرحيم.

الحث على المبادرة بالتوبة

الحث على المبادرة بالتوبة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين، ثم أما بعد: قال تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين، وكلام الملوك ملوك الكلام {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:53 - 60]. يا ابن آدم ابسط الحزن على قراب الأسف، وقل قد قدم الغائب، وقل: قد مسنا وأهلنا الضر. يا غافر الذنب العظيم وقابلاً للتوب قلب تائب ناجاك أترده وترد صادق توبتي حاشاك تطرد تائباً حاشاك ما لي وأبواب الملوك وأنت من خلق الملوك وقسم الأرزاق ما لي وما للأقوياء وأنت يا رب القوي ولا تحد قواك يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد واراك ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جمعيها أنجاك ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بظهوره أعلاك ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساك قال ابن مسعود الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (وتمسكوا بهدي ابن أم عبد) قال: وددت لو أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأني دعيت، ولا يدرى لي نسب. إن مغفرة الذنب عظيمة، وأرجى آية في كتاب الله عز وجل للعصاة النافرين الشاردين عن باب الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، وليس العجب من نائم لا يدري كم مر من عمره، إنما الأعجب من نائم في يقظته، {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]. آخر العدد فراق روحك، آخر العدد ركوب نعشك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد عرصات القيامة، وتطاير الصحف، آخر العدد المرور على الصراط، فاتق الله عز وجل في أيامك التي تذهب هدراً، ولا تدري ما قيمتها، فمغفرة الذنوب لها قدر عظيم عند الله عز وجل، ويكفي من شأنها أن غفران الذنوب صفة من صفات الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]، والتوب هنا: مصدر، بمعنى أن أقل توبة يقبلها الله عز وجل، فما ظنك بالتوبة النصوح، (يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم). ومن أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تحبه، وأنت تسمع داعيه ثم تتأخر في إجابته، وأنت تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وتعلم قدر غضبه ثم تتعرض له، وتعلم قسوة القلب عند الخوض في غير حديثه ثم لا ترتاح إلى ذكره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت فيما يبعدك عنه راغب، لقد أعطاك ما لم تأمل، وبلغك ما لم تطلب، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فكم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك. يا أهل الموت والفناء! كيف تستنكفون عن عبادته ولا رب لكم غيره، ولا واحد وارث لكم سواه، ينادى بصوت عزته: لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون، ويصاح على محجة حجته: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، وينزل جاسوس علمه: لا يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ويترنم منشد فضله: لا تقطنوا من رحمة الله، ويهتف بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وكل موافق ومخالف يمشي وفق مشيئته، ويتقلب في قبضته، يا ابن آدم إنه ليس أعز من خالق طلبته بيده، وليس أذل من مخلوق هو بيد طالبه.

فضل المغفرة

فضل المغفرة إن للمغفرة فضلاً عظيماً، فالله عز وجل وصف نفسه بأنه الغفار، فقال سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، وقد كتبها الله تعالى بيده قبل أن يخلق الخلق، فكتب كتاب الرحمة بيده، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تسبق غضبي. وقد فتح الله عز وجل باب التوبة أمام اليهود -عليهم لعائن الله- وهم الذين قالوا: إن يد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وهم الذين ادعوا له الولد، وقتلوا أنبياءه، وأمام النصارى الذين قالوا: إن ثالث ثلاثة، فقال الله عز وجل: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، فيقتلون أولياءه ثم يدعوهم إلى التوبة!! {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] أي: حرقوا المؤمنين والمؤمنات، {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]. فأي كرم أفضل من كرم الله عز وجل، وأي نعمة سابغة أفضل من نعم الله عز وجل، هذا فعله بمن عصاه فكيف إرادته بمن أطاعه، إن كان هذا فعل الله عز وجل بالبعيدين عن بابه، فكيف بالمقربين الداعين إلى ثوابه؟! حكى ذو النون المصري أنه رأى ضفدعة كبيرة تسبح في الغدير وعليها أفعى، فقال: إن لهذه الضفدعة لشأناً، فعبر وراءها الغدير فلما وصلت إلى سطح الغدير الثاني إذا برجل سكران مخمور نائم وحية أخرى أرادت أن تلسعه في أذنه، وإذا بالأفعى تنزل من على ظهر هذه الضفدع ثم تستجمع كل قواها فتقتل تلك الأفعى، فيوقظه ذو النون ويقول له: يا غافلاً والجليل يحرسه عن كل شيء دب في الظلم كيف تنام العيون عن ملك تأتيك منه فوائد النعم فبكى الرجل فقال: يا رب، هذه إرادتك بمن عصاك فكيف إرادتك بمن أطاعك؟ إن فضل الله عز وجل في التوبة لا يدانيه فضل، والله تبارك وتعالى يسوي بين دعوته إلى الجنة وبين دعوته إلى المغفرة، قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221]، فيسوي بين الجنة وبين المغفرة، بل لا يدخلون الجنة حتى يغفر الله عز وجل لهم، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]. وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]. فالله عز وجل من كرمه وفضله يدعو عباده إلى المغفرة، ويفتح لهم باب التوبة على مصراعيه.

حرمان الله الشيطان من المغفرة ومنه بها على ابن آدم

حرمان الله الشيطان من المغفرة ومنه بها على ابن آدم ومن عظم المغفرة: أن الله عز وجل حرمها الشيطان ومن بها على ابن آدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

امتنان الله على نبيه بالمغفرة

امتنان الله على نبيه بالمغفرة من فضل المغفرة: أن الله تبارك وتعالى امتن بها على نبيه، فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2]. وفرح القلب الكبير قلب رسولنا بهذه المغفرة، وبغفران ما تقدم وما تأخر من ذنوبه، فيقول: (لقد أنزلت علي الليلة آيات أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) أحب إليه من حمر النعم، وأحب إلي من الدنيا وما فيها، ففرح القلب الكبير وأدى شكر هذه النعمة. تقول له السيدة عائشة حينما رأته يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، تقول: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! يقول: (يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً).

الشفاعة العظمى هي طلب المغفرة لأصحاب الكبائر من هذه الأمة

الشفاعة العظمى هي طلب المغفرة لأًصحاب الكبائر من هذه الأمة ومن أعظم المغفرة عند الله عز وجل: أن طلب المغفرة هي الشفاعة العظمى، وهي مقام نبينا المحمود، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، والمقام المحمود لم ينله أحد من البشر إلا نبينا. إن مقام الشفاعة العظمى للخلائق بأسرهم هو مقام طلب المغفرة لأصحاب الكبائر من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي الدعوة التي خبأها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي). بل إن الله عز وجل يخيره بين أن يدخل شطر أمته الجنة وبين الشفاعة وطلب المغفرة للخلق، فيختار الشفاعة لأمته، وهذا يدل على عظم هذه الشفاعة، ومن هنا نعلم قول سيدنا عبد الله بن مسعود: وددت أن الله غفر لي ذنباً واحداً ولا يدرى لي نسب. وسؤال المغفرة والعفو عن الذنوب هو: السؤال في أحلى ليالي العمر، فقد يهون العمر إلا ليلة القدر، فأعظم دعاء مأثور عن نبينا: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا)، وأجمل ما يقوله الإنسان في ليلة القدر سؤال المغفرة، بل يقول النبي صلى الله عليه وسلم لصديق هذه الأمة ولحبيبه: (سل الله العافية، ما من الله تبارك وتعالى على عبده بأكثر من سؤاله العافية، وبأكثر من أن يستجيب الله تبارك وتعالى له). ودعوة الأنبياء كانت دعوة للتوحيد ولغفران الذنوب، يقول سيدنا نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13] أي: ما لكم لا تعظمون الله وتخافون منه. ويذكر أنه كان هناك امرأة عاقر عقيم لا تلد، فأخذت هذه الآية وجعلت تمسح بها على بطنها وتدعو الله عز وجل، وتستغفر من ذنبها، ثم من الله تبارك وتعالى عليها بأن حملت بعد أن احتار فيها الأطباء، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13]. إن انكسار القلب وخضوعه وذله واستسلامه بين يدي الله عز وجل، وخضوع الجوارح -كل ذلك لا يحصل إلا بذنب، ثم يتوب العبد منه، وأنين المستغفرين أحب إلى الله عز وجل من زجل المسبحين، تقابل المولى عز وجل بضعفك وذلك وفقرك وتقول: أسألك بغناك عني، وبفقري إليك، أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، هذه ناصية خاطئة كاذبة بين يديك، أسألك سؤال من رغم لك أنفه، وذلت لك جبهته إلا عفوت عني، ولذلك كان سيد الاستغفار كما جاء عن شداد بن أوس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). هذا الدعاء كان سيد الاستغفار لأنك تسير إلى الله عز وجل بين مشاهدتك لنعم الله عز وجل عليك، وبين ذكرك لعيوب نفسك، فانظر إلى ربك نظرة، ثم انظر إلى نفسك الحقيرة اللوامة نظرة، فستعود إلى الله عز وجل قائلاً (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي)، فقد خلوت بمحارم الله عز وجل ولم ترك إلا عين الله عز وجل، ثم أقدمت على المعصية وجعلت الله أهون الناظرين إليك. إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني إذا ارتكبت ذنباً واحداً فاعلم أن الله مطلع عليك، وهو يراقبك من فوق سبع سموات، يقول بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلا كبرياء من واجهته بها. يا رب أتراك تغفر وترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك، قدر قيمة هذا الجناب العظيم، وابك بكاء الندم على ما فاتك من طاعة الله عز وجل. ابن سنة كان تائباً، فلما حسب سنين عمره وجدها إحدى وستين سنة، وعدد أيامها عشرون ألف يوم، فقال: إن كان هذا عدد الأيام فكيف وفي كل لحظة ذنب، كيف تلقى الملك، ثم مات الرجل من ساعته.

استغفار حملة العرش للمؤمنين

استغفار حملة العرش للمؤمنين ومن فضل المغفرة وعظمها: استغفار حملة العرش للمؤمنين، ومن نحن حتى يستغفر لنا أحد حملة العرش الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أحدهم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش قد مرقت رجلاه الأرض السابعة، وعنقه منثنية تحت العرش، والعرش على كاهله، خفقان الطير ما بين منكبيه مسيرة سبعمائة سنة) صححه الشيخ الألباني. فهؤلاء يستغفرون لك، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]. ثم يذكر هذا التائب في الملأ الأعلى، وينادى: هذا التائب قد أقبل على ربه، فسيد القضاة أبي بن كعب يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة:1]، قال: وذكرت يا رسول الله هناك في الملأ الأعلى، قال: نعم، فبكى أبي، فقيل له: لم البكاء؟ قال: ولم لا أبكي، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]). يقول سيدنا يحيى بن معاذ: يا غفول يا جهول لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند توبتك، وعند ذكرك لمولاك، لمت شوقاً إلى مولاك. يا جوهرة بمزبلة لا تعرف قدرها! أنت المراد من هذا الكون، كم من ملك في السموات والأرض لا تذوق أعينهم غمضاً ليس لهم مرتبة: تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فإذا قمت من الليل ساعة أو نصف ساعة فإنك تحمل صفة: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وكم ملك في السموات والأرض ما ذاقوا طعاماً، وما شربوا شراباً ليس لهم مرتبة: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك). كم من ملك في السموات والأرض مسخرون لخدمتك يدخلون عليك دخول الرجل على سيده: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. يا ولي الله! إن ربك يستأذنك في زيارتك، هذا قدرك عند الله عز وجل، وينسبك الله عز وجل إلى نفسه، فكفاك جزاءً على الطاعة أن رضيك لها أهلاً حتى لو لم يكن هناك جنة، كفاك ما تجد في صدرك من أحاسيس ومن شوق إلى الله عز وجل، ومن رضاً عنه سبحانه، بل يكفيك نعمة ذهابك إلى المساجد، فهذه نعمة أنت لا تقدرها، ولكن غيرك يحس بألم فقدها، حين يتمتع بكامل صحته، وبكامل عافيته ولا يستطيع أن يذهب إلى المسجد، وأنت تأتي إلى المسجد كل يوم خمس مرات، فكفاك جزاءً على الطاعة أن رضيك لها أهلاً. وحسبي انتسابي من بعيد إليكم وذلك حظ مثله يتيمم إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم

تيسير الله سبحانه لطريق التوبة

تيسير الله سبحانه لطريق التوبة الحمد لله حبيب قلوب التائبين، ومنتهى رغبة السالكين، ومحط آمال الراحلين. من عظم التوبة عند الله عز وجل: أن الله سهل سبيلها لهذه الأمة، فجعل مجرد الندم توبة، ولم يسهل طريقها على بني إسرائيل لما عبدوا العجل من دون الله عز وجل، فلم يتب الله عز وجل عليهم حتى قام كل رجل منهم على الآخر بسيفه، فلم يأذن الله تبارك وتعالى في التوبة لعبده موسى إلا بعد قتل سبعون ألف يهودي، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] يعني: اقتلوا إخوانكم ممن عبدوا العجل، وألقى الله تبارك وتعالى عليهم الظلمة، ثم أمسك الرجل من الذين لم يعبدوا العجل السكين وطعن بها من وجده ممن عبد العجل، سواء كان أباه، أو أخاه، حتى قتل سبعون ألف يهودي، ثم تاب الله تبارك وتعالى عليهم. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الندم توبة)، ويكفي أن يعلم الله عز وجل الصدق من قلبك فيتوب عليك. وانظر إلى الذين تاب الله تبارك وتعالى عليهم كـ عكرمة بن أبي جهل الذي حاد الله ورسوله، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ثم بعد ذلك من الله عليه بالتوبة، وقتل شهيداً في سبيل الله عز وجل. وسيدنا خالد بن الوليد في معركة اليرموك يقول له: يا أبا عمرو استبقنا لنفسك، فيقول: إليك عني يا خالد، لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل معركة أفأفر اليوم عن الجنة!! من يبايع على الموت؟ فقتل، وقتل عمه، وقتل ابنه. ويتوب الله على سجاح التي ادعت النبوة كما قال العلامة ابن كثير، بل وعلى طليحة الأزدي الذي ادعى النبوة، ولم يسلم إلا في عهد أبي بكر، وكان أحد أبطال معركة القادسية ومات شهيداً بعد القادسية، فماذا تنتظر بعد ذلك وقد فتح باب التوبة على مصراعيها. والأمر مع الله عز وجل ليس بالأيام، ولا بعدد السنين التي قضيتها في طاعته، فقد يتوب تائب اليوم ويعلي الله تبارك وتعالى درجته، فانظر إلى السحرة الذين كانوا في أول الأمر يقسمون برأس فرعون، ويعدون القرب من فرعون مغنماً، ثم بعد ذلك يتوب الله تبارك وتعالى عليهم، فلما سجدوا نظروا إلى قصورهم في الجنة فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73]. أيها المؤمنون! لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم آلهة، جاء في الأثر: يا داود حببني إلى خلقي، قال: كيف يا ربي؟ قال: ذكرهم بنعمي عليهم، فإنهم لم يعرفوا مني إلا الجميل، يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورحمتي إياهم لتقطعت أوصالهم شوقاً إلي، هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف بالمقبلين علي! ادع إلى الله عز وجل لعل الله ينقذ بك أحد الشباب الضائعين فيكون في ميزان حسناتك، ويكون خيراً لك من الدنيا وما فيها، حبب الله عز وجل إلى خلقه، لا تقنطهم من رحمة الله عز وجل، لا تنظر في ذنب الناس كأنك إله، يسر الأمر على عباد الله عز وجل، ووسع لهم طريق التوبة، وضيق أنت على نفسك بالخوف، كما كان الفضيل بن عياض، فقد رأى أهل الموقف وهم يبكون فبكى رحمه الله إلى قبيل الغروب وهو قابض بيده على لحيته، ثم قال: واسوأتاه منك وإن عفوت، واخجلي منك حتى وإن غفرت لي حتى وإن تبت علي، ثم بعد ذلك يقول لـ شعيب بن حرب: من أسوأ الناس؟ قال: لا أدري، قال: من يظن أن الله عز وجل لا يغفر لهؤلاء، أفترى لو أن جماعة مثل هؤلاء أتوا إلى باب غني فسألوه دانقاً -أي: سدس درهم- أفكان يردهم مع بكائهم؟ قال: لا، قال: فوالله للمغفرة أهون على الله عز وجل من الدانق على هذا الغني. هذا هو الفضيل بن عياض سيد من سادات الأمة، كان سيدنا سفيان بن عيينة إذا قابله يقبل يده، ويقبل رأسه، وسيدنا عبد الله بن المبارك يقول له: إيه لا يحسن هذا غيرك يا طبيب القلوب. يقول عبد الله بن المبارك: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل، فجدد لي الحزن، فأمقت نفسي. وقد كان الفضيل في أول أمره قاطع طريق، وكان عاشقاً للنساء، وبينما هو ذات ليلة يتسلق الجدار ليصل إلى معشوقته، سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]، فقال: آن الأوان، وتاب إلى الله وقبل العلماء يديه، هذا هو الفضيل بن عياض. وكذلك بشر الحافي، كان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد يقول: أتسألوني عن الورع وفيكم بشر؟! وقد كان في بداية أمره يستمع إلى الغناء وإلى الجواري، ثم مر عابد ببابه فقال لجاريته: لمن هذا القصر؟ قالت: لسيدها بشر، قال: عبد هو أم حر؟ قالت: حر، قال: صدقت يا بنيتي! لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، ولرأى حق العبودية، فسمعه بشر من بيته فخرج إلى الرجل حافياً وتاب على يديه، ثم بعد ذلك ما لبس نعلاً في رجله، وقال: حالة وصلت إلى الله عن طريقها وعرفت الله بها، لا أفارقها أبداً.

حجب التوبة عن المنافقين

حجب التوبة عن المنافقين من عظم المغفرة: أن الله حجبها عن المنافقين والكافرين، قال الله في شأن المنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]. وقال عن الكافرين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء:168 - 169]. وحجبها عن أصحاب البدع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).

سؤال الأنبياء مغفرة الله

سؤال الأنبياء مغفرة الله من عظم المغفرة أن الأنبياء يسألونها من الله تعالى، يقول سيدنا نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]. وقال إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]. فعليك أيها المسلم أن تسأل الله المغفرة فإنك من الله بمكان، قال حبيبنا الشيخ أبو إسحاق: لا تحقر نفسك، أنت عند الله بمكان، فقبل أن توجد يستغفر لك الأنبياء، فسيدنا نوح يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]. وأنت داخل في عموم {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]. وسيدنا إبراهيم يدعو لك كما جاء في سورة إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]. والنبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. وأصحاب الأنبياء يسألون الله عز وجل المغفرة، كما قال الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147]. وأولوا الألباب يسألون المغفرة {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]. وكذلك المتهجدين الذين يقومون الليل بين يدي الله عز وجل، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].

استمرار المغفرة إلى عرصات القيامة

استمرار المغفرة إلى عرصات القيامة ومن عظم المغفرة: أنها تستمر إلى عرصات القيامة عند المرور على الصراط، وأعظم دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم هناك (اللهم سلم، اللهم سلم). {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. فتستمر المغفرة حتى عرصات القيامة.

من كذب بالشفاعة فليس من أهلها

من كذب بالشفاعة فليس من أهلها ومن عظم المغفرة: أن من كذب بالشفاعة -وهي: سؤال المغفرة- فلا يكون من شفعاء الله عز وجل في عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين -أي: الذين يسألون الله عز وجل طرد عباده من رحمته- لا يكونون شفعاء للناس يوم القيامة). وقال سيدنا أنس: من كذب بالشفاعة فليس من أهلها. فلا تقبل منه شفاعة. ولذلك: من آدب الإسلام ومن معتقد أهل السنة والجماعة: أنك لا تدعو على كافر حي على ظهر الأرض باللعنة؛ لأن اللعنة دعاء بالطرد مطلقاً من رحمة الله، وطالما أنه في دار الدنيا فقد يختم الله له بالإسلام، كما ختم لـ عكرمة بن أبي جهل، وباب التوبة مفتوح، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا تدعو على معين باللعنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على رعل وذكوان حتى نزل عليه قول الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وهم يحاربونه، ويقتلون أصحابه، وبرغم هذا يقول له الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]. وادع على الكافرين بما شئت، قل مثلاً: لعنة الله على الكافرين، لعنة الله على اليهود، لعنة الله على النصارى، أما المعين فلا يجوز لعنه باسمه، ولا تدعو عليه مطلقاً، وإذا قلت: الله يلعن المتبرجات وأنت تقصد واحدة بعينها فهذا لا يجوز، فالدعاء باللعن على المعين لا يجوز، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده.

شفاعة النبي لأهل الكبائر

شفاعة النبي لأهل الكبائر من أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يثبتون الشفاعة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأما الخوارج فيضيقون باب الرحمة، ويحجرون واسعاً، ويكفرون من يأتي بالكبيرة، ويحكمون عليه بالخلود في النار، والمعتزلة يقولون: إن صاحب الكبيرة مخلد في النار، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا هو كافر. وأما أهل السنة فيقولون: لا نحكم على معين بالنار، فقد يتوب الله تبارك وتعالى عليه، والناس على الإسلام، ولا نستطيع أن نحكم على واحد بالنار، كما لا نستطيع أن نحكم على رجل بالجنة، إلا من حكم له الشارع.

الاستغفار شعار الصالحين

الاستغفار شعار الصالحين شعار الصالحين في كل لحظة هو الاستغفار، وحتى بعد الطاعات؛ لأنهم يعلمون أن لله من العظمة ما هو فوق طاعات الخلق، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]. فهم أناس يقومون معظم الليل، فإذا كان السحر مدوا أيديهم مستغفرين، والنبي صلى الله عليه وسلم بعد مشوار من الدعوة والجهاد يأمره الله عز وجل بالاستغفار {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]. وسيدنا نوح بعد تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة يختم دعوته بالاستغفار {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]. فالباب مفتوح ولا يغلق أبداً، فهيا إلى ظلال الرحمة الندية المحيية لموتى النفوس، يا عفو عفوك عند السكرات، وفي القبور عفوك، وعند العرصات عفوك، وعند تطاير الصحف عفوك، وعند الميزان عفوك، وعلى الصراط عفوك. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك استعنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولبابك نقرع فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا. اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، وحسن النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك. اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا مفتونين، ولا مبدلين. اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم لا تجمع بيننا وبين قوم طالما عاديناهم فيك، اللهم اجعل نبينا خير النبيين منزلاً يوم القيامة، اللهم شرف بنيانه، وأعل مكانه، وأتم نوره وتبيانه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

يا قومنا أجيبوا داعي الله

يا قومنا أجيبوا داعي الله من رحمة الله سبحانه أن شرع لنا صوم شهر رمضان وقيامه، وقد ضاعف الله فيه الأجر والثواب، ولشهر رمضان فضائل تفرد بها على باقي الشهور، فهو شهر الجود والكرم، وشهر قراءة القرآن ففيه أنزل، وهو شهر أعز الله فيه الإسلام وأهله، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيهم أسوة حسنة.

فضل صيام شهر رمضان

فضل صيام شهر رمضان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. إن في هذه الأيام تعرض النفحات، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم، ألا فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة من رحمة الله ما يشقى بعدها أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير جهرة، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده). فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا شمس التقوى والإيمان على القلوب اطلعي، ويا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، ويا أقدام المتهجدين لربك انصبي واركعي واسجدي، ويا عيون المتأدبين في ليل رمضان لا تهجعي، ويا همم المحبين بغير الله لا تقنعي: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31]. ضيف أنت حل على الأنام وأبسم المحيا بالصيام يجوب الدهر دواباً وفياً يعود مزاره في كل عام وتقبل كالغمام تفيض حباً فيبقى بعده أثر الغمام مسخت شعائر الضيفان لما قنعت من الضيافة بالمقام ورحت تتم للأزواد شرعاً من الإحسان علوي النظام بأن الجود حرمان وزهد ألذ من الشراب أو الطعام ها قد أتاكم شهر رمضان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الناس بقدوم رمضان، فيقول: (أتاكم شهر رمضان)، قال العلامة ابن رجب الحنبلي: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بحلول شهر رمضان، فتقبل الله منا ومنكم الصلاة والصيام. هذا الشهر العظيم هو شهر الصوم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (من ختم له بصيام يوم دخل الجنة). والغاية من الصيام يحددها الله تبارك وتعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. جمهور المفسرين قالوا: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي: لعلكم تصلون إلى الغاية التي شرعت من أجلها العبادات وهي التقوى، ولأديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي في قوله تبارك وتعالى: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) معنى آخر يخالف فيه جمهور أهل العلم، يقول: والتقوى هنا: من الاتقاء والوقاية، أي: يتقي الرجل أن يصير عبداً لجسده ولشهواته، وأن يعامل الناس على حساب الجسد فقط، فيرفرف بروحه بعيداً بعيداً عن عالم اللحم والحمأ المسنون، وثورة البطن والفم والفرج. والصيام يا إخوتاه! أعظم وقاية من النار، يقول رسولنا صلى الله وعليه وسلم: (الصيام جنة كجنة أحدكم) فالصيام جنة لمن يصوم من النار. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض). وهذا الأمر قد يقول الناس فيه: هذا أمر سهل، ولكن حين تعلم عن حال النار كما جاء في الحديث: (إن آخر من يخرج من النار يخرج منها حبواً فيقول لمولاه: اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك)، فقد استولى عليه الخوف من النار فيقول ذلك حتى يدخل الجنة، فبدءاً يقول: اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك، ويأخذ الله تبارك وتعالى منه العهد الميثاق ألا يسأله شيئاً غير ذلك، ثم بعد ذلك يغدر ابن آدم. والشاهد: أن الصرف والزحزحة عن النار فلاح، وبصيام يوم يجعل الله تبارك وتعالى بينك وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض، فكيف بمدرسة الثلاثين يوماً، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مائة عام). وفي رواية: (سبعين خريفاً) وهذا ثمرة صيام يوم واحد. ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام أنه كفارة للذنوب، فيقول: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). ويقول: (من ختم له بصيام يوم دخل الجنة). فإذا أتى رمضان أتى الصوم بغفران الذنوب، يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر). ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، ورجح الإمام النووي ومال إلى ذلك الحافظ ابن حجر: أن غفران الذنوب يشمل الصغائر والكبائر. وقد يبدو لكم أن هذا الأمر هين، ولكن إذا قارنتموه بقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: وددت أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأنه لم يعرف لي نسب، فكيف إذا أتى الصيام بغفران الذنوب كلها ورسولكم صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوماً في سبيل الله سقاه الله يوم العطش). تصور أن أناساً يقفون أمام الله تبارك وتعالى في عرصات القيامة خمسين ألف سنة، ما ذاقوا طعاماً، وما شربوا شراباً، ثم يسقيهم الله تبارك وتعالى. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ) فكيف بالري الذي يأتي بعد خمسين ألف سنة! ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون، ولا يدخل معهم أحد سواهم، فإذا دخلوا أغلق من ورائهم، من دخل منه شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً). يقابل الله تبارك وتعالى ظمأ الناس وعطشهم بالري، واسم الباب: الريان من الري، والري ضد الظمأ، فاسم الباب يبعث الراحة إلى النفس، فما ظنك بالداخل! فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل، وطوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر، وطوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره، لقد شد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل، وقل: قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف، فعجل لي العام الذي فيه يغاث الناس ويعصرون. وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي من صام عن شهواته أدركها ولو في الجنة، ومن صام عما سوى الله فذلك ستره يوم لقيا ربه، وذلك ستره في يوم المزيد. يا إخوتاه! يقول رسولكم صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصوم فإنه لا عدل له). وفي رواية: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له)، قال هذا لـ أبي أمامة الباهلي، فما كان هذا الصحابي الجليل يرى في بيته نار إلا في حضرة ضيف، فقد كان يسرد الصوم سرداً، وذلك بعد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له).

سبب انفراد عبادة الصوم بهذا الفضل

سبب انفراد عبادة الصوم بهذا الفضل قال العلماء: لأن في الصوم خواص لا توجد في عبادة غير الصوم، منها: ما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). قال العلماء: إن ثواب أي عمل من العبادات لا يزيد بحال من الأحوال عن السبعمائة ضعف، فيضاعفه الله تبارك وتعالى إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم، فإنه مضاعف فوق سبعمائة ضعف؛ لأنه من الصبر: (والصوم نصف الصبر) كما قال رسولنا صلى الله وعليه وسلم، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. فاستثني ثواب الصوم إلى سبعمائة ضعف، ويزيد على ذلك بكرم الله تبارك وتعالى وجوده ومنه. الأمر الثاني: أن الإنسان قد يرتكب عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فيأتي يوم القيامة وقد خلص هذا وهذا، فيأخذ الغرماء من ثواب كل الأعمال؛ من ثواب الصلاة، وقراءة القرآن، والزكاة، والجهاد، والحج إلا ثواب الصوم، فلا يأخذ منه الغرماء شيئاً. قال الإمام سفيان بن عيينة: يختم الله تبارك وتعالى على ثواب الصوم ولا يأخذ منه الغرماء شيئاً، ويدخل صاحبه به الجنة. الخاصية الثالثة للصوم: كما جاءت في الرواية الثالثة: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به). فالعبادات كلها لله تبارك وتعالى؛ لأن الله زاد الصيام تعظيماً فنسبه إلى نفسه، كما أن المساجد كلها لله، ويأتي الله تبارك وتعالى إلى مسجد بعينه وينسبه إلى نفسه، فيقول: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، والمراد به: المسجد الحرام، فهذه زيادة تخصيص وتشريف؛ لأن كل العبادات قد يدخلها الرياء إلا الصوم كما قال الإمام أحمد. والصلاة قد تصح لك من الناحية الفقهية؛ إذ تأتي بأركانها وبشروطها وبسننها، وبالرغم من هذا قد يقذف بها في وجهك يوم القيامة، وقد قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (يأتي أناس بأعمال مثل جبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً، ثم قرأ الرسول صلى الله وعليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]). وفي حديث محمود بن لبيد: يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (إياكم وشرك السرائر! قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟! قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه). وأنتم تعلمون أول من تسعر بهم النار، فكل العبادات قد يدخلها الرياء إلا الصوم، فمتى صح لك من الناحية الفقهية أخذت الأجر كاملاً ولا رياء في الصوم. فالصوم مداره كله على الإخلاص لله تبارك وتعالى، والإخلاص يا إخوتاه! يورث النصر والعزة، ألم يقل الرسول صلى الله وعليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصرة والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب). فمفهوم الحديث يدل على أن من راءى بعمله أصابته الذلة والمسكنة والهوان والضعة في الأرض. ويقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (إنما ينصر الله عز وجل هذه الأمة بضعفائها: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). ولذلك كثرت الانتصارات في شهر الصوم والإخلاص؛ وذلك لارتباط الناس بالإخلاص، فكانت هناك بدر، وفتح مكة، وغزوة تبوك، ومعركة عين جالوت، وكان هناك فتح عمورية، وكان هناك الاستيلاء على قلعة صدر بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وموقعة الزلاقة، وكان هناك عبور المسلمين إلى الأندلس تحت قيادة خادم لـ موسى بن نصير وهو طارق بن زياد، فاستولى على تلك المناطق حتى وصل إلى جنوب فرنسا. وعلى الطرف الآخر أبو عبد الله الصغير آخر ملك من ملوك الأندلس، ضيعه الإفراط والترف، فأضاع الأندلس، فقالت له أمه: ابك بكاء النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال ولم يصل هذا الرجل في إصراره وتمسكه بوطنه وتمسكه بأرضه إلى ما فعلت إيزابيلا ملكة أسبانيا، ففي الأدب الأسباني -وهذه الرواية واقعية في تاريخ إيزابيلا - أن هذه المرأة أقسمت ألا تخلع قميصها الداخلي حتى تدخل غرناطة، وكان لها ما أرادت، فقد ضيع أبو عبد الله الصغير مملكة الإسلام في أسبانيا، وكان قد اشترط أن يتولى ولايات من قبل إيزابيلا ومن قبل فرديناند هو وأولاده وأحفاده، يقول أحد علماء السير: والله لقد رأيت أحفاده عالة يتسولون الناس في شوارع صرف في المغرب العربي، ضيع ملك الأندلس في سبيل أن يبقى الملك له ولأحفاده، فتسول أحفاده في شوارع المغرب. فالصوم يا إخوتاه! مرتبط بالإخلاص، والإخلاص يؤدي إلى النصر. يقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به). لأنك تبتعد عن شهوات جبلك الله تبارك وتعالى عليها، حتى تحس بألم فقدك لهذه الشهوات.

ثواب الصائمين

ثواب الصائمين يا إخوتاه! إن الله يعطي أناساً يوم القيامة حتى يملوا، فإذا رفعوا رءوسهم وجدوا أمامهم قوماً قد سبقوهم إلى الدرجات العلى، فيقولون: يا رب! هؤلاء إخواننا الذين فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات، فإنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويقومون حين تنامون، ويظمئون حين تروون، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. فكل الناس يأكلون، فما ثواب الصائمين؟ قال قتادة: يمد للصائمين موائد إطعام من رب البرية والناس بعد يحاسبون في عرصات القيامة. وقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك). بل يقول مكحول الدمشقي: يروح على أهل الجنة برائحة ما وجدوا خيراً منها، فيقال: يا رب ما هذه الرائحة؟ فيقال: هذه رائحة أفواه الصائمين فتتطيب الجنة من عطر أفواههم. وهذا إبراهيم بن علي النيسابوري تلميذ الإمام أحمد ظل ستين سنة يسرد الصوم فمات وهو صائم، فقال قبل الموت لابنه: قرب لنا القدح يا بني! ثم قال له: يا بني! هل غربت الشمس قال: لا، قال: تنح عني إذاً، ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] ثم مات. وعروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة ظل يصوم يوماً ويفطر يوماً أربعين سنة، ومات وهو صائم. فيا أهل الصيام! كيف حالكم مع الله تبارك وتعالى في هذا الشهر العظيم الذي ميزه الله تبارك وتعالى بخصائص دون باقي الشهور؟! الخير باد فيك والإحسان والذكر والقرآن يا رمضان والليل فيك نسائم هفهافة حنت لطيب عبيرها الرهبان

فضل قراءة القرآن في رمضان

فضل قراءة القرآن في رمضان شهر الصيام هو شهر نزول كل الكتب السماوية، يقول الله تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. وفي حديث واثلة بن الأسقع الذي حسنه الشيخ الألباني يقول: قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة من ست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل من ثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل الزبور من ثمان عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان). قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. فأين نحن من القرآن؟! يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا، ألم يقل رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (أبشروا فإن هذا القرآن حبل الله المتين، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم). والله لو لم يكن للقرآن إلا هذه الخاصية لكفاه، طرف القرآن بيد الله العظيم، بيد الله الكريمة، وطرفه بأيدي البشر، فاستمسكوا بهذا، استمسكوا بحبل الله تبارك وتعالى، (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). يقول رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). أبو جعفر القارئ أحد القراء العشرة لما مات تعجب مغسلوه من أنهم وجدوا نوراً يملأ ما بين قلبه وترقوته، فقال مغسلوه: والله لقد فضحت القراء من بعدك، فقد وجدوا هذا النور على صورة صفحة، أو ورقة من مصحف، فقال مغسلوه: هذا والله من القرآن. ونافع أحد القراء العشرة لما مات شموا الطيب من فمه. فأين نحن من كلام الله تبارك وتعالى، (من مات على شيء بعث عليه)، قال المناوي: أي: من عاش على شيء بعث عليه. وهذا شيخ القراء في المملكة العربية السعودية يحكي عنه الشيخ عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وهو الشيخ عامر يقول: إن هذا الشيخ الجليل أصيب سبع سنوات بسرطان في الحنجرة، فما كان يدرس طلبة الماجستير والدكتوراه إلا بإيماء منه فقط، فلما أذن الله بقرب موت هذا الشيخ وقبل موته بثلاثة أيام اعتدل الشيخ على سريره الأبيض وقطع صوته الجوهري بكلام الله تبارك وتعالى؛ بحيث يسمع السامع تلاوته بصوت ما سمعوا مثله من قبل، فلما انتهى من الختمة قبضت روحه إلى الله تبارك وتعالى. أما سمعتم قول رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (يأتي القرآن يوم القيامة ماحل مصدق). وفي حديث أبي هريرة وابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول القرآن: يا رب! حله حلة الكرامة، يا رب! ألبسه تاج الكرامة، يا رب! ارض عنه فليس بعد رضاك شيء). ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف). وأينا لا يسره محبة الله ورسوله؟! فلننظر في المصحف. أطيلوا على السبع الطوال وقوفكم تدر عليكم بالعلوم سحاب وفي طي أسماء المثاني نفائس يطيب بها نثر ويفتح باب فلا فصلت لما أتاه مجادل فأنصت حتى ما يكون جواب أقر بأن القول فيه طلاوة ويعلو ولا يعلو عليه خطاب قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]. قالوا للحسن البصري: إن هنا رجلاً يحفظ كتاب الله ثم ينام عنه، قال: ذاك رجل يتوسد القرآن أي: ذاك رجل ينام على القرآن. ويقول محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين، فأينما حلوا منه حلوا في رياض نضرة. ويقول عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتهم من كلام ربكم. فهو روح لا تطيب الحياة إلا به، وهو نور يضيء القلوب، وتشرق بنوره. فاتقوا الله تبارك وتعالى، وأقبلوا على القرآن في شهركم هذا شهر القرآن، لا نقول لكم افعلوا كما كان يفعل الإمام الشافعي، فقد كانت له ستون ختمة في ليل رمضان ونهاره، ولكن على الأقل عشرة أجزاء في كل يوم بدلاً من الجدال، فطيبوا أجوافكم بكلام الله تبارك وتعالى، وطيبوا أفواهكم بكلام الله تبارك وتعالى، إن الصديقين إذا تلي عليهم كلام الله اضطربت قلوبهم، واشتاقت إلى ما عند الله تبارك وتعالى إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتاب أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي والأسد بن يزيد عمي فأذن الله له عند فتح المصحف أن يرتد إليه بصره، فإذا أغلق المصحف وعاد إلى دنيا الناس عاد إلى العمى مرة ثانية. فأقبلوا على الله تبارك وتعالى، واسألوا الله لي ولكم أن يشغلكم بكتاب الله عن الدنيا وأهلها، وعن الخوض فيها واللعب بها.

شهر رمضان شهر الكرم والجود

شهر رمضان شهر الكرم والجود شهر رمضان يا إخوتاه! هو شهر الكرم، يقول ابن عباس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله وعليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله وعليه وسلم حين يأتيه جبريل أجود من الريح المرسلة). تعود بسط الكف حتى لو انه ثناها لقبض لم تجبه أنامله هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله وهذا سيدنا ابن عمر رضي الله عنه ما كان يفطر إلا في حضرة اليتامى والمساكين. وهذا الإمام أحمد يعطي رغيفين أعدهما لفطره لسائل على الباب، ثم يظل طوال الليل صائماً، ويصوم اليوم التالي من غير أكل. يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (أفضل الأعمال عند الله سرور تدخله على مسلم)، وسرور هذا الشهر الإطعام، (سرور تدخله على مسلم، أو تطرد عنه جوعاً، أو تطعمه خبزاً). فلو أن الناس أتوا إلى مسجد من المساجد، فأتى كل منهم بالزائد عن حاجته من البقوليات واللحم وغيره ثم وضعه الناس في كيس ووزعوه على الفقراء لكان في هذا الخير. يقول الجيلاني: وجدت خير الأعمال إطعام الناس، والله كأن كفي مكتوفة ما تمسك درهماً ولا ديناراً. وفي الحديث: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، (ومن لا يرحم لا يرحم). يقول الإمام الشافعي: يسن كثرة الجود في نهار رمضان وليله؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر العلماء أنه يجوز للرجل أن يقاضي الرجل إذا نزل عليه بمسمى الإسلام فقط، أي: إذا عرف أنه مسلم ولم يطعمه ثلاثة أيام فيجوز له أن يقاضيه بثمن قراه، يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (ومن نزل بقوم فلم يطعموه فله أن يعقبهم بمثل قراء ثلاثة أيام). والرسول صلى الله وعليه وسلم يقول: (أدوى داء البخل)، فإياكم والبخل، انفوه عنكم. يقول عبد الله بن جعفر: ابذل المعروف، وانثر المعروف نثراً، فإن صادف أهله كانوا له أهلاً، وإن لم يصادف أهله كنت أنت له أهلاً.

شهر رمضان شهر التراويح وقيام الليل

شهر رمضان شهر التراويح وقيام الليل شهر رمضان يا إخوتاه! هو شهر التراويح وشهر القيام، (أتى رجل إلى الرسول الله صلى الله وعليه وسلم فقال له: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، ممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء). ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة منكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد). ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس). قال الصحابي الجليل أبو ثعلبة الخشني: والله لا أموت كما تموتون، ولا أخلق كما تخلقون، فلما قام إلى صلاته وتهجده بالليل قبضه الله تبارك وتعالى إليه وهو ساجد، فرأت ابنته وكانت بجواره أن أباها قد مات، فقامت من نومها فزعة مرعوبة، وقالت لأمها: يا أماه! أين أبي؟ قالت: يا بنية! هو في مصلاه، فوجدته ساجداً فحركته فإذا هو ميت. مات وهو ساجد في قيام الليل. وكم عند الصحابة من أعاجيب، فهذا صحابي آخر اسمه علبة بن زيد الأوسي البكاء أحد البكائين، في غزوة تبوك قام إلى صلاته من الليل، وقد تخلف عن الغزو؛ لأنه لم يكن عنده ما يسوقه للجهاد، فقال في صلاته: اللهم إنك أذنت لرسولك في الجهاد، وليس عندي ما أخرج به مع رسولك، اللهم إني أتصدق على كل مسلم ظلمني في عرضي أو جسدي الليلة. فأي واحد شتمه في عرضه ونال من عرضه، أو نال من جسده يتصدق بعرضه عنه، فلما أصبح صلى الله وعليه وسلم قال: (من المتصدق بعرضه الليلة، فقام إليه علبة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قبلت صدقتك). فمن منا الذي يتصدق بعرضه على المسلمين؟ ومن منا الذي يعفو ويصفح؟ ومن منا الذي يعفو حتى يعتقه الله تبارك وتعالى في شهر العتق؟ ألم يقل الرسول صلى الله وعليه وسلم: (ولله عند كل فطر عتقاء من النار). فتجاوزوا عن هفوات الناس، وحاسب نفسك بنفسك، أما غيرها من الأنفس فعليها حسيب غيرك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يضحك الله إليهم) ومن ضحك الله إليه فلا يعذبه أبداً، قال: (ويستبشر بهم: رجل يكون في جهة فتنعدم الجهة، فيعلم ما له في الثبات وما عليه في الميزان، فيصبر نفسه بنفسه لله حتى يقتل أو يفتح الله على قومه، ورجل عنده صلاة الليل وامرأة حسناء فيذر شهوته ويقوم في سواد الليل، فيقول الله تبارك وتعالى: يذر شهوته من أجلي ولو شاء لرقد، والرجل يكون في سفر يطول سراهم بالليل فيمسون فينامون، ويقوم أحدهم في سراء وضراء). يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً أيقظ امرأته لصلاة الليل، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها لقيام الليل، فإن أبى نضحت في وجهه الماء، فإن قاما من ليلتهما هذه كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات). يا إخوتاه! شهر رمضان تضاعف فيه الأعمال، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي). فثواب العمرة في هذا الشهر يضاعف حتى يصل إلى ثواب الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأي روحانية في الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم! ترتفع فيها ثواب الأعمال حتى تصل إلى أن تأخذ ثواب حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة)، هذا في غير رمضان فكيف برمضان! قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أطرب منا

نماذج من قصص التابعين في قيام الليل

نماذج من قصص التابعين في قيام الليل كان علي بن الفضيل لا يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لملتصقتان من أثر القيام. وكانت امرأة مسروق بن عبد الرحمن تجلس خلف مسروق في ظلام الليل وهو يصلي تبكي له؛ رحمة مما يصنع بنفسه، وكان لا يأتي صلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير. يا إخوتاه! صاح الديك فلم تنتبهوا، وأعاد فلم تفيقوا، فقوى ضرب الجناحين، فلطم خديه حزناً على مصيبتكم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة). فرحم الله رجلاً أعان الناس على قيام الليل. يقول صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بألف آية كتب من المقنطرين)، والقنطار خير من الدنيا وما فيها فأين المقنطرون؟ قال الحافظ ابن حجر ألف آية جزء عم وجزء تبارك. ويجوز لك في رمضان بعد أن تصلي التراويح الإكثار من النوافل، وأرجح الأقوال في قيام الليل: أنه من النوافل المطلقة، فبعد أن تعود من التراويح وتصلي الوتر إن كان عندك ليل طويل فتستغله في العبادة والطاعة والصلاة، وإلا فسيأتي الشيطان فيقول: عليك ليل طويل فارقد، أو كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه). يقول الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ماذا أنزل الليلة من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات، يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة). شهر رمضان شهر الجنة، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين مردة الجن، ونادى مناد من السماء: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة). ففي رمضان تصفد الشياطين ومردة الجن، لكن شياطين الإنس لا يصفدون، وخرس الله تبارك وتعالى أفواههم إن لم يتوبوا، وخرس أفواههم حتى يعودوا إلى رحابه تبارك وتعالى. نسأل الله تبارك وتعالى أن يشغلهم به عن فجورهم وعن تمردهم على طاعة الله. عباد أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا فإن خانوا فما خنا وإن عادوا فقد عدنا وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم يا إخوتاه! هذا شهر الجنة، والله ما فتحت الجنة لأمة من الأمم مثلما فتحت لأمتنا هذه، ومع هذا لا نرى لها طالباً، فمهر الجنة طول التهجد في ظلمات الليالي وفي ليالي رمضان خاصة. إن أهل السماء ليصلون عليكم، وينظرون إليكم أيكم يقال فيه: يا جبريل أقم فلاناً، وأنم فلاناً. كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني. اتقوا الله تبارك وتعالى، وأمهروا الجنة، وأمهروا حورها، ودع المفرغات من ماء وطيب، وأشغل هواك بالحور العين. قال أبو سليمان الداراني: نمت ذات ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء من أهل الجنة تأتيني في المنام، وتقول: أتنام والملك يقظان؟! بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، ثم تقول له: أتنام وأنا أربى لك في الخدور منذ آلاف الأعوام، ثم أنشدته شعراً حفظه: أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه القيام أين ابن أدهم والفضيل؟ أين رجال الليل؟ ذهب السادة وبقي قرناء اللحاف والوسادة. قم الليل يا أخي! إذا جن الغاسق حن العاشق، وقلوب المحبين جمرة تحت شحمة الليل، إذا هب عليها نسيم السحر أجج ما فيها من شوق إلى الله تبارك وتعالى. قالوا للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. وهذا الحافظ عبد الغني المقدسي قام إلى صلاته من الليل وكان معه في البيت رجل شمسي -يعبد الشمس-، فلما سمع قراءة عبد الغني المقدسي زفر، وبعد أيام أسلم، فقال للحافظ عبد الغني المقدسي: لما استمعت إلى قراءتك أسلمت. والحافظ عبد الغني المقدسي كان الناس يصطفون لرؤية وجهه، لسطعات النور التي على وجهه من أثر التهجد، فكذلك كن، فهم لكم سلف ونعم السلف.

ذكر بعض انتصارات المسلمين في شهر رمضان المبارك

ذكر بعض انتصارات المسلمين في شهر رمضان المبارك يا إخوتاه! هذا الشهر رفع الله فيه أهل السنة والجماعة برفعته لإمامهم، لما ابتلي الإمام أحمد في العشر الأواخر من رمضان وصبر خرج من المحنة ذهباً أحمر خالصاً، فقالوا لـ بشر: ألا تقوم لترى ما فيه أحمد؟ فيقول بشر: حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره، أتريدون مني أن أقوم مقام الأنبياء وورثة الأنبياء! ولذلك فإن الإمام أحمد يقول: الحمد لله الذي ربى بشراً بما صنعنا، فسياط على ظهر ابن حنبل صار بها إمام أهل السنة والجماعة. وقد سمع الإمام أحمد إلى مقولة رجل، وذلك حين قال للإمام أحمد: إن هو إلا سوط واحد ثم لا تدري أين يقع الباقي، ثم قال الرجل: يا أحمد! اصبر لأمر الله، فإن يقتلك الحق يقتلك شهيداً، وإن تعش تعش حميداً مجيداً، وصار إمام أهل السنة. في هذا الشهر أيضاً في السابع والعشرين من شهر رمضان أراح الله المسلمين من الحجاج الثقفي المبير، وقتل أيضاً في سنة ثلاثة وستين في هذا الشهر المختار بن عبيد الثقفي الكذاب، فأراح الله الأمة منه. قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير)، أما الكذاب فهو المختار الذي ادعى أن جبريل كان ينزل عليه، وأما المبير -المهلك- فهو الحجاج. وقال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمة فأتت كل أمة بخبيثها وجئنا بـ الحجاج لفقناهم. فكيف لو رأى ما يسع الناس في القرن العشرين؟!! والحسن البصري لما بلغه موت الحجاج سجد لله تبارك وتعالى. وكان هناك آلاف من الناس في سجون الحجاج وأراح الله الأمة منه، كذلك أراح الله الأمة من الخرمي صاحب الإباحية، وأراح الله الأمة من المختار بن عبيد الثقفي الذي كان يقول: إن جبريل ينزل عليه، فقتله مصعب بن الزبير بن العوام. فهذا الشهر يا إخوتاه! شهر الانتصارات، فأين نحن من الانتصارات؟ رسولكم صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل). ونحن نقول: لنعل أبي طلحة ولقلامة ظفر أبي طلحة خير من ملء الأرض من أمثالنا. فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اشتاقوا إلى الجنة. هذا عمير بن الحمام يقول: إنها لحياة طويلة إذاً أنا مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه فأين نحن من أيام المسلمين؟! أين نحن من عين جالوت؟! كسرنا قوس حمزة عن جهالة وحطمنا بلا وعي نباله وأضحت أمة الإسلام حيرى وصار رعاتها في شر حالة فلا الصديق يرعاها بحزم ولا الفاروق يورثها فعاله ولا عثمان يمنحها عطاء ويرخص في سبيل الله ماله ولا سيف صقيل من علي يسيرنا إلى عذب زلاله ولا القعقاع يهتف بالسرايا فتخشى ساحة الهيجا نزاله سرى صوت المؤذن في سمانا وقد فقدت مآذننا بلاله ولا حطين يبعثها صلاح طوى الجبناء في خور هلاله اللهم أنعم علينا بالشهادة، اللهم أنعم علينا بالشهادة، اللهم أنعم علينا بالشهادة. اللهم لا تجعلنا أهون شيء عليك. اللهم لا تجعل حظنا من ديننا لفظنا. اللهم متعنا برمضان، اللهم متعنا برمضان، اللهم متعنا برمضان، وارزقنا الخير بعده، وارزقنا حسن العمر بعده، وطول العمر بعده. رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، وببابك نقف فلا تطردنا. اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا، اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا، اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا. اللهم انصر المسلمين في كل مكان. اللهم فرج الكرب عنهم، اللهم فرج الكرب عنهم في البوسنة، اللهم فرج عنهم وعن كل مستضعف في كل مكان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أسود من التاريخ

أسود من التاريخ إن الحق عالٍ رغم كل شيء، ودولة الباطل مهما طالت فهي زائلة، ولكن سنة الله ألا يعلو الحق إلا على أكتاف رجال مخلصين يسطرون بتاريخهم المشرق الصفحات الوضاءة، فهم النبراس الذي يجب أن يحتذى به للخروج من الأزمة الراهنة.

لا حل لهذه الأمة إلا بالجهاد

لا حل لهذه الأمة إلا بالجهاد إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، والبخاري في التاريخ عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعمله في طاعته إلى يوم القيامة). وفي هذه الأيام تكثر الهمم الساقطة، والعزائم الضعيفة، والأرواح الصغيرة، والنفوس الهزيلة التي يعيش أصحابها على جانب الحياة وعلى هامش التاريخ، فينالهم الذل من كل مكان، وتعلوهم أقدام الغرب الكارهة الكريهة، حتى يقول رأس الكفر ورأس الصليبيين على مرأى من العالم: إنه يعد لحملة صليبية، ثم تراجع وقال: إنه يعد لحملة مقدسة. يا أيها الشيطان إنك لم تزل غراً وليس لمثلك الميدان أنا ضد أمريكا إلى أن تنتهي هذي الحياة ويوضع الميزان هي ظل دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شر هو الأغصان فهي زارعة الشر في الأرض، وهي رأس الإرهاب في الأرض وإلا فمن الذي قتل أطفال المسلمين في العراق في مخيمات العامرية، وضربهم بالقنابل الفسفورية، وكتبوا على رءوس صواريخهم: إن عجز محمدهم عن نصرهم فليدعوا المسيح لينصرهم. وذلك فيما يسمى بعاصفة الصحراء أو المجد للعذراء، لقد كانت هذه الحرب حرباً صليبية أعلنوها في الخليج، ثم بعد ذلك أزهقوا بسلاحهم من الأرواح ما أزهقوا على ثرى فلسطين. والله عز وجل قادر أن يبعث من يحيي في هذه الأمة نواتها، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38 - 39]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله). وقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (أوصيك بتقوى الله؛ فإنها رأس كل شيء، وعليك بالجهاد في سبيل الله؛ فإنه رهبانية الإسلام)، حسنه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين من أهل بيته). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أرجاء الجنة حيث تشاء، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش). يا ويح نفسي وما ارتفعت لنا همم إلى الجنان وتالي القوم أواب إلى كواعب للأطراف قاصرة وظل طوبى وعطر الشجو ينساب إلى قناديل ذهب علقت شرفاً بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا وقال الآخر: يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أو ما لنا سعد ولا مقداد أجدادنا كتبوا مآثر عزنا فمحا مآثر عزنا الأوغاد سلت سيوف المعتدين وعربدت وسيوفنا ضاقت بها الأغماد وقال الآخر: قالوا سهرت وفي فؤادك حرقة تدمى وألف تساؤل يتردد وعلى جبينك قصة مكلومة تروي المآسي للجميع وتسرد أنا يا صحاب قضية مسلوبة لعب الدعي بها وغاب السيد أنا يا صحاب مشاعر موتورة للشعر تسلك والمسالك توصد على مدار تاريخ الإسلام كان بين المسلمين وبين الصليبيين في كافة أرجاء الدنيا معارك برز فيها قادة يرصع بأسمائهم جبين التاريخ، أذكر لكم 25 ملكاً أو أميراً أو قائداً هزموا الصليبيين وأوقعوا بهم شر هزيمة، وذلك حتى نقول لكل صليبي: اخسأ فلن تعدو قدرك، فمهما صالوا وعربدوا وظنوا أن لهم الدولة في العالم فوالله إن مصيرهم إلى نهاياتهم، فمن كان يظن أن روسيا ستسقط يوماً من الأيام على يد أناس يعيشون في الجبال؟ ومن كان يظن أن الحضارة الروسية ستنهار؟ يقول كبار الخبراء العسكريين في العالم الغربي ومنهم قائد الطيران الأمريكي السابق: إن أمريكا ستنهار من الداخل مع بداية سنة 2021م، وقال هذا أيضاً محللون اقتصاديون وسياسيون وتربويون وعسكريون. وانهيارها من الداخل يعني: بدون عامل خارجي, وإن كانوا قد توقعوا سقوط أمريكا سنة 2021م فما ظنك إذا أرسل الله عز وجل عليهم عقوبة وسنة من سننه الكونية جزاء بما قدمت أيديهم من بغي وظلم ودمار عم أرجاء البسيطة؟ ولذا نقول لكم في دعوة للأمل حتى لا ييأس الناس ويظنوا أن شمس الإسلام ستغيب يوماً: شمس الإسلام لن تغيب، وقد مرت على الأمة الإسلامية ظروف أحلك من الظروف التي نعيش فيها، ويشاء الله عز وجل أن يرفع البلاء عن الأمة. يقول قطز: والله لن أستظل بظل جدار حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام منهم.

أبطال في عصر الخلافة الراشدة

أبطال في عصر الخلافة الراشدة ولو رجعنا إلى بداية قيام الدولة الإسلامية لوجدنا أسامة بن زيد أسد الله وأسد رسوله، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذيق الصليبيين في شمال الجزيرة العربية الذل والهوان، ويوقع الرعب بهم وهم حلفاء الروم، وفي خلافة أبي بكر الصديق يضع فارس الإسلام وسيف الله وسيف رسوله أبو سليمان خالد بن الوليد في أول لقاء له مع صليبي العرب في معركة في الجبهة الفارسية تسمى: معركة أُلَّيس أو نهر الدم. وقد كانت بينه وبين نصارى العرب من تغلب وبكر بن وائل وبني عجل وأهل الحيرة وقبيلة جذرة العربية، وعلى رأس هذا التجمع الصليبي عبد الأسود العجلي، وكانوا قد تحالفوا مع قوات الفرس وعلى رأسهم جابان 150000 محارب، وكان سيف الإسلام خالد جيشه 18000 مقاتل فقط أمام 150000 مقاتل. وبلغ من استهزائهم بالمسلمين أنهم مدوا البسط ليتناولوا الطعام فحذرهم جابان من الاستهانة بـ خالد وقال لهم: اتركوا الطعام واستعدوا للصدام، فعصوه فقال: إن القوم سيعاجلونكم قبل أن تطعموا الطعام وإنكم إنما هيأتموه لهم ليأكلوه بدلاً منكم. ولما أتى خالد بجيشه اضطرهم إلى أن يتركوا طعامهم ودعا خالد للمبارزة، فخرج إليه مالك بن قيس، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة ما جرأك علي من بينهم وليس فيك كفاء، يعني: أنت لست بكفء لأن تبارز خالد بن الوليد، ثم قتله واقتتل المسلمون ونصارى العرب والمجوس قتالاً شديداً، حتى إن خالداً رضي الله عنه نذر لله إن منحه الله أكتافهم أن يجري النهر بدمائهم، إذ قال: اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً حتى أجري نهرهم بدمائهم، وبعد قتال عنيف وقتل المسلمون ما قتلوا نادى خالد لا تقتلوا أحداً ولكن اضطروهم إلى الأسر. فاضطرتهم جيوش المسلمين ورجالهم إلى الأسر وقدموهم إلى حافة النهر ليضربوا رقابهم حتى يوفي خالد بنذره، وحبس ماء النهر فقال له القعقاع بن عمرو التميمي: والله لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً لم تجر النهر من دمائهم ولكن أرسل على الدماء قليلاً من الماء فيجري النهر وتبر بيمينك، وكان له ما أراد وجرى النهر أحمر قانياً بدمائهم. وقال الصديق للناس في المدينة: يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد -يريد أن خالداً عدا على الفرس- فغلبه على خراذيله -يعني: غلبه على اللحم المطيب المعد له-، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد. وقال خالد للعرب المسلمين: كلوا على بركة الله وباسم الله، فكان الطعام الذي قد أعد لأن يأكله الفرس طعاماً للمسلمين. وفي معركة عين التمر اجتمع الصليبيون العرب كلهم حنقاً على خالد وقالوا للفرس: لا تقاتلوا خالداً نحن العرب أعلم بقتال خالد منكم فدعونا وخالداً، وجمعوا كل فرسانهم، ونظر خالد إلى الجيش وأراد أن ينهي المعركة دون أن يخسر رجلاً واحداً من رجاله، فقال لعشرة فرسان: احموا جنبي واكفوني ما عنده فإني حامل عليهم، ووسط ذهول الجيشين ينطلق عشرة من الرجال يقودهم خالد حتى دخل في وسط الجيش، ثم ظل خالد يصاول عقة بن أبي عقة ثم يقتلعه من فوق سرجه ويحتضنه، ويعود به على فرسه كالطفل الرضيع، ثم يذبحه ما بين الجيشين لتنتهي المعركة. هذه ثاني وقعات خالد بالصليبيين. وأما الثالثة: فكانت معركة الفرات في 15 ذي القعدة 12 هجرية، وكانت بين الفرس والروم والنصارى الموتورين وبين خالد بن الوليد لتقع المعركة بين 150000 أمام 12000 مقاتل، فعبروا نهر الفرات يريدون خالد بن الوليد، ولك أن تتصور الأعداء الفرس والروم الذين كانوا على عداء دائم ولأول مرة يجتمعون على قتال المسلمين، واليوم نسمع أن أسبانيا تستمر في قتل العرب، وألمانيا كذلك، وفرنسا كذلك، وبريطانيا كذلك، والفلبين تصرح أنها قبضت على الإرهابيين، فقامت الدنيا كلها على المسلمين مثلما قام الفرس والروم لأول مرة في التاريخ في معركة الفرات سنة 12 هجرية، وقتل سيف الله خالد بن الوليد منهم في هذه المعركة 100000 في المعركة، وبعد المعركة وأثناء المطاردة 100000، فلما سمع الخليفة أبو بكر بهذه المعارك، قال: لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، وأمر خالداً أن يترك العراق ليساعد المسلمين في جبهة الشام. وكانت أول معارك سيف الله خالد أنه اضطر النصارى إلى دفع الجزية في بصرى، فكانت أول جزية يقبضها المسلمون على يد البطل خالد بن الوليد، وكان فتح دمشق بعد ذلك في 15 رجب سنة 14 هجرية، وقد وقفت خمسة جيوش إسلامية أمام أسوار دمشق: جيش القائد أبي عبيدة، وجيش شرحبيل بن حسنة، وجيش يزيد بن أبي سفيان، وجيش عمرو بن العاص، وجيش خالد بن الوليد وظلوا أربعة أشهر كاملة أمام أسوار دمشق والجيوش لا تستطيع أن تدخل هذه المدينة. وكان خالد لا ينام ولا ينيم -يعني: لا ينام هو ولا يترك من أمامه ينامون خوفاً منه وذعراً منه- يعيش على تعبئة كاملة، عيونه ذكية ساهرة، فأخبرته: أن بطريرك الروم نسطار بن نسطور قائد الروم في دمشق ولد له مولود، وأنه سيوزع الخمر على حامية السور في مساء الأحد في 15 رجب سنة 14 هجرية. وهنا أعد خالد بن الوليد قرباً نفخ فيها الهواء حتى امتلأت، وكأن الروم قد حفروا خندقاً عظيماً وأجروا فيه ماءً كثيراً، فما استطاع خالد وقواته أن يعبروها إلا سباحة على ظهر القرب، وأعد سلالم من حبال الليف منتهية بخطاطيف وحلق، ودعا مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو التميمي فجعلا يلقيان بهذه الحبال فتعلق حبلان في أعلى السور وصعد عليها مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو ومعهما بقية الأحبال حتى ثبتوها في أعلى السور، وتسلق خالد وقواده إلى أعلى السور، ثم قال لبقية الجنود: إن سمعتم تكبيراتنا من خلف الأسوار فانهدوا إليهم، وألقى خالد بنفسه مع التكبير من فوق الأسوار هو وقادة الجيش، فقتلوا من قتلوا من جنودهم المكلفين بحراسة الباب الشرقي لدمشق، ثم فتحوا الباب وظل خالد يحصد أرواح الروم حصداً حتى سلموا لـ أبي عبيدة. وقالوا: أسرعوا بفتح الباب الغربي لـ أبي عبيدة حتى لا يحصدنا خالد حصداً. والتقى جيش أبي عبيدة بجيش خالد بن الوليد عند سوق الزياتين بدمشق وتم الصلح. وقد تلت هذه المعركة معركة اليرموك الفاصلة التي أنهت الوجود الصليبي من على أرض الشام، حتى قال هرقل وهو يودع دمشق: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يلقاك بعد هذا اليوم أبداً، وكان الروم قد أعدوا 200000 فارس على رأسهم ماهان أقوى فارس عندهم، أمام 36000 فارس فقط من المسلمين. وخطب هرقل في الروم فقال: يا معشر الروم إن العرب قد ظهروا على سورية ولم يبقوا بها حتى تعاطوا أقاصي بلادكم، وهم لا يرضون بالأرض والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأخوات والأمهات والبنات والأزواج، ويتخذوا الأحرار من أبناء الملوك عبيداً، فامنعوا حريمكم وسلطانكم أو ذروا مملكتكم. فكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه فقال: قد جاء المسلمين ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله عز وجل بملائكة أو يأتيهم بغياث من قبله، فقال خالد لـ أبي عبيدة حينما اجتمع بقيادة القوات في الجابية: أرى والله! إن كنا نقالتهم بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى، وما لنا بهم إذاً طاقة، وإن كنا نقالتهم بالله ولله فإن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعاً لا تغني عنهم شيئاً، ثم قال لـ أبي عبيدة: تطيعني فيما آمرك به، قال: نعم. قال: ولني ما وراء ذلك فإني أرجو الله عز وجل أن ينصرني عليهم، ثم تنازل له أبو عبيدة عن قيادة القوات، ورتب خالد صفوف جيشه، فجعل أبا عبيدة أمين هذه الأمة في القلب، وعلى الميمنة أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباث بن أشيم، وهاشم بن عتبة قاتل الأسود على الرجالة، وعلى الخيل خالد بن الوليد ومعه قيس بن هبيرة فارس الإسلام. وخطب ماهان في جنوده قبل المعركة فقال: أنتم عدد الحصى والثرى والذر فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم؛ فإن عددهم قليل، وهم أهل الشقاء والبؤس، وجلهم حاسر وجائع، وأنتم من الملوك وأبناء الملوك أهل الحصون والقلاع والعدة والقوة والسلاح، فلا تبرحوا الميدان وفيكم عين تطرف حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم. ثم دعا خالداً للكلام معه، فقال: يا خالد! قد علمنا أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع فهلموا إلى أن نعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال له خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت غير أنا قوم نشرب الدماء، وإنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك. ولخوف الروم من المسلمين جعلوا يسلسلون كل مائة فارس بسلسلة حتى إذا فر رجل يعود به التسعة والتسعون. ويقف الجيشان 200000 أمام 36000، ولكن الستة والثلاثين ألفاً هؤلاء منهم ألف صحابي،

أبطال في الدولة الأموية

أبطال في الدولة الأموية وأرسل موسى بن نصير مولى من مواليه وهو طارق بن زياد ففتح بلاد الأندلس، وظل موسى بن نصير مع طارق بن زياد يجوبا المدينة إثر المدينة حتى قال: أما والله لو انقادت لي العرب لقدتهم إلى روما حتى يفتحها الله تبارك وتعالى على يدي. يقول موسى بن نصير لـ سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين! كانت الألف شاة تباع بمائة درهم، والعلج -الرجل الصليبي- وزوجته وأولاده يباعون بخمسين درهماً. يعني: بثمن خمس شياه تشتري عائلة كاملة. وخاض طارق بن زياد معركة وادي لكة التي استمرت أسبوعاً كاملاً حتى فتح الله للمسلمين بلاد الأندلس، وخاض بفرسه البحر، وقال لـ موسى بن نصير: يا أيها الأمير والله لا أرجع عن قصدي حتى أنتهي إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي. ومن القواد الذين صنعوا تاريخ المسلمين أبو سعيد الجرادة الصفراء مسلمة بن عبد الملك بن مروان، قال عنه الإمام الذهبي: كانت له مواقف مشهودة مع الروم، وكان أولى بالخلافة من إخوته، غزا الصائفة وافتتح حصون الروم وهربت منه الروم إلى أقصى الأرض. وكانت المرأة من الروم إذا أرادت أن تسكت طفلها تقول له: اسكت وإلا أدعو لك البطال ليأخذك. وهذا مثل قول بعض الأمهات اليوم لطفلها: نم وإلا أتيت لك بالعفريت. وقال بعضهم يحكي عن مثل هذا: ذهبت في ليلة داجية في بلاد الروم وإذا أنا بنور خافت يخرج من نافذة، وإذا بامرأة تهدهد صبيها وتقول: نم وإلا قلت: خذه يا بطال، ثم مدت يدها إلى خارج النافذة فأخذته منها، وهذا الشخص الذي كانوا يخوفون به أطفالهم هو عبد الله بن بطال القائد المسلم.

أبطال في عصر الدولة العباسية

أبطال في عصر الدولة العباسية ثم بعد ذلك جاء هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه، الذي كان يصلي مائة ركعة تطوعاً لله عز وجل في اليوم والليلة. قال منصور بن عمار الواعظ: أكثر من لقيت دمعاً فضيل بن عياض، وهارون الرشيد. أما فضيل بن عياض فقد قال فيه عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الخوف من الأرض. فملك يقارن حزنه وبكاؤه وخوفه من الله عز وجل بخوف الفضيل إنه لملك رشيد! وقد فتح هارون حصن الصفصاف سنة 181 هجرية، وأخذه من ملك الروم قسطنطين بن ليون عنوة. وأرسل إليه نقفور ملك الروم الذي تولى الحكم بعد الملكة أغسطة ملكة الروم، فكتب إليه: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ -طائر كبير في السماء-، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها، ولكن ذاك ضعف النساء وحمقهن. فإذا قرأت كتابي فاردد ما وصل إليك من أموالها، وافتدي نفسك بمالك. فغضب هارون لما وصله الكتاب فمزق الكتاب وكتب في ظهره: من هارون ملك العرب إلى نقفور كلب الروم أما بعد: يا ابن الكافرة! فالجواب ما ترى لا ما تسمع والسلام. وسار بنفسه على رأس الجيش حتى اضطر نقفور إلى دفع جزية قدرها 400000 دينار سنوياً. وافتدى هارون الرشيد أسارى المسلمين في بلاد الروم وكان عددهم 3700 أسيراً حتى لم يبق أسيراً واحداً في بلاد الروم. ثم جاء من بعده المعتصم رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعنا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم فبمجرد أن صاحت امرأة في بلاد الروم وامعتصماه، ويسمع المعتصم قصتها وهو يدعو بالشراب لأن يشرب فيقول لساقيه: دع هذا الشراب حتى أفرغ من قتالهم، ثم قال: أي مدنهم أكثر أمناً؟ قالوا: عمورية، فساق الجيش إليها وانتصر واضطر ملك الروم إلى دفع الجزية مرة ثانية. يقول الشاعر: أما سمعت بأرض الروم مسلمة تشكو لمعتصم ظلم المغيرينا فتسبق الخيل أصوات استغاثتها وتملأ الكون صيحات الملبينا وتصرخ اليوم آلاف مؤلفة فهل سمعت سوى أحزان باكينا ونحن نسمع أصوات استغاثتها وليس نسمعها إلا أغانينا خضر مرابعنا بيض صنائعنا سود وقائعنا حمر ليالينا ويذبح الطهر طهر البكر في دمه ونحن نسبح في أحلام ماضينا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وكان في المغرب أيام حكم الخليفة العباسي المستعصم فارس يسمى: ابن فتحون، وقد بلغ من ذعر الروم منه أن الرجل كان إذا أراد أن يسقي فرسه الماء فتمتنع عن الشرب فيقول لها: اشربي أم أنك رأيت صورة ابن فتحون في الماء؟ ولك أن تتخيل مدى ذعر الروم من هذا القائد. وخرج علج رومي ودعا المسلمين للمبارزة، فقتل من المسلمين ثلاثة، ثم نادى في المسلمين أيها المسلمون! رجل لثلاثة منكم، فشق ذلك على الخليفة فقال: علي بـ أبي الوليد بن فتحون فلما أتي به، قال له الخليفة: أما تسمع؟ قال: أسمع، وماذا تريد؟ قال: أن تأتيني به الساعة. قال: لك هذا، ثم دعا بسوط، فقيل له: أما تخرج إليه بالسيف؟ قال: لا والله ثم دعا بسوط -والسوط هو الذي تؤدب به الكلاب- وعقد فيه عقدة وجعل لها خية في طرف السوط -يدخل فيها عنق فارس- ثم خرج وسط دهشة الرجل الصليبي فظل يصاوله فضربه الرومي على السرج ضربة قاتلة وفي لمح البصر نزل عن سرجه وتعلق برقبة فرسه، وقبل أن يصل ابن فتحون إلى الأرض علا مرة ثانية فوق السرج ثم ضرب هذا الفارس بالسوط ولف السوط على عنقه حتى دخلت الخية في عنق هذا الرجل وشدها إليه، ثم اقتلعه من على سرجه وأتى به إلى وسط صفوف المسلمين. فكم نحتاج إلى مثل هؤلاء.

أبطال في الأندلس وأسبانيا

أبطال في الأندلس وأسبانيا نأتي بعد ذلك إلى محمد بن عبد الرحمن بن الحكم أمير المؤمنين في الأندلس، صاحب معركة سليط التي قتل فيها 300000 من جيوش أوروبا، ومن بعده أتى عبد الرحمن الناصر فأدب ملك ليون أوردنيو وشانسو ملك ناصار في غزوة موبش واستمر الحريق عشرة أيام، وكان يغزو وربما مكث في غزوته أربعة أشهر، ودخل عاصمة ملك ناصار واستولى عليها. ومن أبطال المسلمين أيضاً: الحاجب المنصور ملك المسلمين في أسبانيا، وقد بلغ عدد الغزوات التي غزاها 50 غزوة، وكانت له غزوة في الصيف وغزوة في الشتاء، وأراد أن يعبر جبال برينيه -التي هي جبال البرانس- إلى فرنسا، وكان أكثر جنود هذا الملك من السبي الذين اعتنقوا الإسلام بعد ذلك. وقد غزا الغزوات الكثيرة واستولى على برشلونة، وغزا زامورا حتى دخل في عاصمة المملكة التي كانت تسمى (ليون) أقوى مملكة نصرانية في ذلك الوقت، ووصل إلى شانتياقو ثاني مدينة عندهم -يعني: بعد مدينة بيت المقدس-، ويذكر عنه أنه كان يجمع غبار الحروب لتصنع منه لبنات توضع معه في قبره، وفي مرة من المرات سار بجيشه وسط جبلين وكان الممر الذي سلكه ضيقاً، ففوجئ أن الغزاة قد اجتمعوا خلفه وسدوا الممر بين الجبلين فظل يبني المدن والقرى ويعسكر هو وجنودهـ وهم ينظرون خروجه فلما أطال أخذوا يرسلون إليه: أن عد، واخرج من غير غنائم ولا أسرى. فرد عليهم: لا، ثم أرسل إليهم: إنا لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى، ولذا سنظل ها هنا إلى وقت الغزوة الثانية فإذا غزونا عدنا. وظل يحرق في بلادهم ويقتل ويسبي حتى قالوا له: إذاً فعد ومعك غنائمك، قال: لا أحمل الغنائم على دواب وإنما تحملونها أنتم على دوابكم، وتدفعون إلي المال والطعام حتى أصل إلى بلادي، وتنحون جيف قتلاكم عن الطريق. فكان له ما أراد. ولما مات الحاجب المنصور استولى ألفونسو ملك أسبانيا على المملكة ونصب سرير ملكه على قبر المنصور، وقال لزوجته: أما ترين أني ملكت ملك ملك العرب، ونصبت سرير ملكي على قبره؟ فقال له أحد العرب ممن كانوا في جواره: لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه. فهم أن يبطش به، فقالت له المرأة: والله إنه لحق.

أبطال دولة المرابطين في المغرب وغيرها

أبطال دولة المرابطين في المغرب وغيرها ومن أبطال المسلمين: يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، خاض يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هجرية هو والمعتمد بن عباد معركة من أكبر معارك المسلمين في الأندلس اسمها: معركة الزلاقة، اجتمع له ألفونسو ملك قشتالة وملك أرجون وقوات من كل دول أوروبا بأمر من البابا، فكانت المعركة بين 200000 صليبي أمام 48000 يقودهم يوسف بن تاشفين والمعتمد بن عباد. وقبل بداية المعركة أرسل يوسف بن تاشفين -وكان خاض البحر من المغرب العربي حتى ينصر المعتمد بن عباد في أسبانيا- إلى ألفونسو: بلغنا أنك دعوت للاجتماع بك وتمنيت أن يكون لك فلك تعبر البحر إلينا عليها فقد جزناه إليك، وجمع الله بيننا وبينك في هذه العرصة وسترى عاقبة دعائك {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]. وقد انتهت المعركة بقتل وأسر 180600 وفر فقط 400، ثم جمع أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين رءوس هذه الجثث وجعلها على هيئة هرم وأذن المؤذن فوقها بأذان النصر وصلوا المغرب. وهناك معركة أخرى هي معركة: الأرك كانت بعدها خاضها يعقوب بن يوسف أمام ألفونسو الثامن، وكان الملك الرومي قد كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى النصرانية، فمزق الكتاب وكتب إليه في ورقة صغيرة: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]. وكان النصر في هذه المعركة أيضاً للمسلمين، وكان عدد القتلى 146000 قتيل من الصليبيين، وبلغ عدد الأسرى 30000 أسير، والخيام 150000 خيمة، وبلغ عدد الخيول 80000، و100000 من البغال، و400000 من الحمير، و60000 درع، وكانت الفتاة تباع بدرهم. ومن أبطال المسلمين الظاهر بيبرس الذي أكمل ما بدأه صلاح الدين الأيوبي، ففتح قلعة أرصوف، ودمر ثلث الفرسان المدافعين عنها، حتى قال شاعر صليبي في قصيدة له: المسيح أصبح فيما يظهر مسروراً لما حل بالمسيحيين من مذلة وهوان، وقد هزم الظاهر بيبرس الأرمن وقتل ابن ملكهم وأسر الابن الآخر، ودخل عاصمة ملكهم وأخذ 40000 أسير، وهو الذي حرر يافا، وأخذ قلعة الشقيف، ودمر أنطاكية، وقتل ملكها سيمون وما من جندي من المسلمين إلا وأصبح له أسير من الفرنجة، وأرسل الملك الظاهر بيبرس سفيرهم محيي الدين إلى ملك عكا، فأراد ملك عكا أن يستعرض قواته أمامه، فقال له السفير: إن كل هذا الجيش لا يضارع أسرى الفرنجة عندنا في القاهرة، وسقطت قلعة الحصن -قلعة الأكراد- التي ما استطاع صلاح الدين أن يسقطها على يد الملك البطل الظاهر بيبرس. ثم أتى من بعده السلطان محمد بن قلاوون فحرر اللاذقية وطرابلس، ثم أتى الملك أشرف خليل ففتح عكا، وهو الملك المسلم الوحيد الذي استطاع أن يدخل عكا؛ لأن صلاح الدين بعد أن استرجعها أخذها النصارى منه مرة أخرى، ولكن الملك الذي استطاع أن يبقي عكا في أيدي المسلمين إلى الأبد هو الملك أشرف خليل حيث دخل عكا سنة 690 هجرية. ودخل المسلمون في عصره إلى قبرص في رمضان، وأتوا بملكها إلى الإسكندرية مأسوراً وكان يردد: قبرص قبرص قبرص وربما رددها في منامه، إذ كان شغله الشاغل بعد فتح عكا أن يفتح قبرص، وكان قبلها أن أرسل ملك قبرص بعض فرسانه وبعض البحرية فدخلوا مدينة الإسكندرية واستولوا عليها، وذبحوا من المسلمين ما ذبحوا، فنذر أشرف خليل أن يأسر هذا الملك، وتم أسره، فغزا المسلمون قبرص ودارت معركة لمدة سبعة أيام في رمضان، ثم عاد المسلمون بملك قبرص أسيراً. ومن أبطال المسلمين الملك ألب أرسلان من السلاجقة، وقد خاض سنة 643 هجرية معركة ملاذكرد، وكان عدد جنوده 15000 أمام ملك الروم أرمانوس وكان عدد الروم في هذه المعركة 600000، وقبل بدء المعركة لبس الملك ألب أرسلان كفنه وتحنط بحنوطه وقال للناس: لا أمير لكم اليوم ولا سلطان لكم اليوم، من أراد أن يرجع ويبكي نفسه فليرجع، فلبس جيشه عن بكرة أبيه الأكفان وعرف هذا الجيش في التاريخ باسم جيش الأكفان، فكان النصر بإذن الله، فقد هزم الـ 15000 جيش الروم وعدده 600000 ووقع أرمانوس في الأسر، ونودي عليه في آخر النهار: من يشتري الكلب؟ فصاح أسير من المسلمين: لا نشتري الكلب إلا بكلب، فوضعوا رباط الكلب في عنقه وجروه إلى بلاده، فلما رآه الرومان على هذه الحال سملوا عينيه. أما في الهند! وأحوال المسلمين فيها فإن السلطان فتح علي خان المشهور بجهاده للإنجليز، قيل له: سيقتلك الإنجليز، فقال: يوم من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى. وأما سلطان المسلمين في الفلبين فإنه لما قدم ماجلان إلى الفلبين قال: إنني باسم المسيح أطلب منكم التسليم، ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بحكم هذه البلاد، فتقدم منه سلطان المسلمين في الفلبين لابولابو وقاتله في معركة حتى ذبحه. وأما الأتراك فإن السلطان العثماني مراد بن أورخان بلغ من ملكه أنه دخل صوفية عاصمة بلغاريا ودخل بيزنطة، فتجهز إمبراطور القسطنطينية وملك الصرب والبلغار والمجر ليلتقوا معه في معركة تسمى: معركة مارتيزا، فينتصر عليهم ويضطرهم إلى دفع جزية سنوية. وفي سنة 791 هجرية يفتح جميع بلاد البلغار ويأخذ ملكهم شيمان أسيراً، ثم عاد ليؤدب ملك الصرب لازار في معركة قوصوه حتى يغدر به الصرب ويقتلونه غيلة في هذه المعركة بعد أن انتصر، وكان يدعو قبيلها في صلاة التهجد يقول: إلهي ومولاي إن كان في استشهادي نجاة لأحد من المسلمين فلا تحرمني الشهادة في سبيلك؛ لأنعم بجوارك، ونعم الجوار جوارك، إلهي ومولاي لقد شرفتني بأن هديتني إلى طريق الجهاد في سبيلك فزدني تشريفاً بالموت في سبيلك، وكان له ما أراد. ومن بعده السلطان العثماني بايزيد الصاعقة الذي انتصر على لازار ملك الصرب وأمراء النمسا وألمانيا وفرسان القديس يوحنا، وفرسان البابا في معركة سنة 798 هجرية. ومن بعده السلطان مراد الثاني والد السلطان محمد الفاتح الذي استولى على الحكم وسنه حينها 18 سنة، ويهزم المجر وبولندا وفرنسا وألمانيا والزنادقة في معركة فارانا في 28 رجب سنة 848 هجرية ويقتل ملك المجر والكاردينال مندوب البابا في معركة كوسوفا سنة 852 هجرية. وأتى بعده سليمان القانوني ليفتح بلغراد في رمضان سنة 927 هجرية، ثم يؤدب ملك المجر ويقتله سنة 923 هجرية في معركة موهاس، ويقف بأربعة مليون جندي أمام فيينا عاصمة النمسا، ويصل إلى الميدان الرئيسي فيها. ثم جاء بعده خير الدين بربروس ليؤدب أساطيل الدولة الأسبانية، وكان أمير البحار في الدولة العثمانية خير الدين بربروس وأخوه عروب الدين بربروس هما اللذان أقاما دولة الجزائر. ويليه ملك المغرب مولاي عبد الملك الذي انتصر في معركة وادي المخازن سنة 986 هجرية على البرتغال وأسبانيا والفاتيكان والنمسا، وقتل في هذه المعركة ملك البرتغال، ثم مات هذا القائد لمرض ألم به، وقد كان يقود المعركة وهو على محفة من شدة المرض. ومن الحبشة ظهر بطل مسلم وكان ابن قسيس ثم أسلم بعد ذلك، واستطاع أن يوحد جهود المسلمين ومن ثم ينتصر على جيوش الصليبيين سنة 935 هجرية، وهو يقول: الجهاد بغيتنا ومنانا، ولا نزال نصبر لهم على الضرب والطعن حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، ويؤسس مملكة للمسلمين في الحبشة. فأين نحن من هذا كله؟ إنه لا سبيل إلى النصر إلا أن يعود المسلمون إلى الله عز وجل، وحينها تعود لنا العزة والشرف والكرامة والسؤدد، فإن يوماً من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى أو كما قال السلطان فتح علي خان. اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، اللهم احم المسلمين المستضعفين في كل مكان، واحم أعراض المسلمين ودماء المسلمين في بلاد أوروبا وأمريكا. اللهم انصر المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم احم إخواننا في فلسطين، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك بالصليبيين، اللهم وحد صفوف المسلمين، وهيئ لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود. اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. ربنا احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين، واجعل خير أيامنا يوم لقياك، وارزقنا لذة العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك. رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، فبك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا. اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم صل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، وارزقنا الصدق في معاملتك، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.

الاتباع بين أصحاب الوجد والعقلانية

الاتباع بين أصحاب الوجد والعقلانية فرض الله عز وجل اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلق الفلاح والنجاح على ذلك، فأطاع أمره سبحانه من كتب الله له السعادة في الدنيا والآخرة، وجاء أقوام وفرق استعاضوا عن الكتاب والسنة بعلوم الكلام والجدل وشطحات لا ترجع إلى عقل أو دين، ومنهم من قدم عقله وحكمه على دين الله، ومنهم من اعتمد على منامات وحكايات وأساطير الإسلام بريء منها كل البراءة، ولا نجاح ولا فلاح إلا بالاتباع والاعتصام بالكتاب والسنة، وقد كثرت أقوال الصحابة والعلماء في التنبيه على أهمية الاتباع والتقيد به.

وسطية أهل السنة وفضلهم

وسطية أهل السنة وفضلهم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]. إن أهل السنة والجماعة وسط بين العقلانيين والقبوريين، ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب أهل الحديث من علماء السلف وسط في شيء، يقول العلامة ابن القيم: واكحل جفون القلب بالوحيين واحـ ذر كحلهم يا كثرة العميان وقال: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النبي وبين قول فلان وقال الشافعي ناصر السنة رحمه الله: لولا أصحاب المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: النظر إلى وجه الرجل الذي يدعو إلى السنة ويذب عنها عبادة. وقال الفضيل بن عياض: الملائكة حراس السماء، وأهل الحديث هم حراس الأرض. وقال الحسن البصري: استوصوا بأهل السنة خيراً؛ فإنهم غرباء. وقال سفيان الثوري: لو لقيت رجلاً من أهل السنة والجماعة فأقرئه مني السلام، فما أقلهم في هذا الزمان!

المدرسة العقلية وأساسها

المدرسة العقلية وأساسها إن الأفكار التي قدست العقل وقدمته على النقل، وجعلته مشرعاً يحكم على النص: ينقضه أو يؤوله، أفكار وافدة وبيئة، والحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيل. والمدرسة العقلانية أو كما تسمى أفراخ المعتزلة لها أس من أهل الاعتزال أصحاب واصل بن عطاء، وهذه المدرسة يمثلها في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمود شلتوت ومصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي وفهمي هويدي ومحمد عمارة وغيرهم، وهي أسماء رنانة، والناس يكنون لها احتراماً كبيراً.

بيان حال الأحاديث الواردة في فضل العقل

بيان حال الأحاديث الواردة في فضل العقل إن المدرسة العقلية اعتمدت على حديث موضوع واستدلت به، وهو: (أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب وبك العقاب). وهو حديث موضوع، وقد ذكر الحافظ أبو حاتم البستي والإمام الدارقطني والشيخ أبو الفرج بن الجوزي: أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل العقل لا أصل لشيء منها، وهي أحاديث موضوعة، وذكر ذلك الإمام السيوطي أيضاً، والشيخ الألباني رحمه الله، فقال: مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع، وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب (العقل وفضله) فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء، فالعجب ممن يتكلم في فضلها!

ثناء القرآن على العقل

ثناء القرآن على العقل إن المولى تبارك وتعالى أثنى على العقل فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال الله تبارك وتعالى في آيات كثيرة: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73]، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وقال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28]، وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. ونعى على قوم لا يفكرون بعقولهم ولا يتدبرون، فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس:42].

ذم السلف للكلام والجدل

ذم السلف للكلام والجدل وهناك أحاديث كثيرة في مدح العقل والتنويه بشرفه، وأما جعله حاكماً على الشرع مقدماً عليه فهذا أس الوبال والوباء الذي دخل على هذه الأمة، قال الإمام الشافعي: إنما فسد العرب لما تركوا الفطرة واتبعوا منطق أرسطو طاليس. وعندما دخل المنطق ونشأ علم الكلام ولجأ الناس إلى الجدل ضاعت الأمة الإسلامية. وحينما دخل استخدام المنطق والجدل وعلم الكلام تنبه إلى خطورة ذلك الإمام الشافعي، فلما قابل بشر المريسي وناظره قال: والله لأن يلقى الرجل الله عز وجل بكل شيء خلا الشرك خير له من أن يلقاه بمثل هذا الكلام. وقال: رأيي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم في العشائر والأمصار ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام. وقال الإمام أحمد: الخوض في علم الكلام يفضي إلى الزندقة. وقال الإمام مالك: أفكلما جاءنا رجل هو أجدل من رجل أراد منا أن نترك ما جاء به جبريل إلى قلب نبينا صلى الله عليه وسلم؟! وقال أبو يوسف لـ بشر بن غياث المريسي: يا بشر! إما أن تتوب أو تفسد علينا خشبة. يعني: نصلبك على خشبة إن لم ترجع عن أقوالك هذه العفنة.

بيان نسبة العقل للشرع وتفاوت العقول وحاجتها إلى الشرع

بيان نسبة العقل للشرع وتفاوت العقول وحاجتها إلى الشرع قال العلماء: إن العقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فالعقل يوصلك إلى باب الملك، ويعلمك أن للكون إلاهاً عظيماً، والعقول لا تسلم إلا للأعقل والأكمل، ولا أعقل من عقل الرسل، فالله عز وجل اختارهم همزة الوصل بين السماء والأرض، وقد وعوا تكاليف الشرع والوحي، ووعوا ما في الملكوت ولم تغب عقولهم لحظة واحدة. فأين هؤلاء الفلاسفة من أنبياء الله عز وجل ومن خواص رسله؟ وأي عقل يحكمونه في دين الله عز وجل؟ فأهل الاعتزال قدموا العقل على النقل، بل إن الأشاعرة وهم مخنثة المعتزلة قالوا: إن أصول الكفر ستة أشياء، وذكروا أن الأصل السادس من أصول الكفر: هو الأخذ بظاهر النصوص، يعني: لو أنك أخذت بالظاهر الذي يفهمه الناس من الكتاب والسنة ولم تتأوله أو تحرفه فهذا أصل من أصول الكفر عند الأشاعرة. وأي عقل نحكمه في نصوص الوحي إذا كانت العقول مختلفة؟ فالعقول عند المصريين تختلف عن عقول الهنود والصينيين، فأي عقل نحكمه في دين الله عز وجل وفي شرعه؟ إن العقول هدت الهنود إلى عبادة البقر، وغيرهم ينكر هذا سواء من المصريين أو غيرهم، فلا أحد يقول: إنه يقدس البقرة، لكن أغندي وكان رجلاً عظيماً من عظماء دول عدم الانحياز يقول: إنني أجد نفسي وملايين الهنود نتوجه بالعبادة والإسلام لأمنا البقرة، فهذا شيء معقول عند أغندي أن يعبد البقرة، ويقول: فأمنا البقرة تعدل وتفضل أمنا الحقيقية بأسباب كثيرة. بل إن عقول الهنود هدتهم إلى عبادة الفئران من دون الله عز وجل، وكما ذكر في مجلة العربي: أن هناك معبداً من الرخام الأبيض كلف أصحابه ملايين الجنيهات، بل المليارات، ويكفيك أن تعلم أن إله هذا المعبد نوع من الفئران البيضاء. من أنت يا أرسطو! ومن أفلاطون قبلك يا مبلد! ومن ابن سينا حين قرر ما هديت له وأرشد هل أنتم إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد فأي عقل نحكمه في شرع الله عز وجل؟ أهو عقل الخواص من الفلاسفة والمثقفين أم عقل العوام؟ وهل نحكم العقل السلفي أم نحكم العقل الصوفي؟ وهل نحكم العقل الأصولي أم الفلسفي؟ وهل نأخذ بعقل المثاليين من الفلاسفة أم بعقل الواقعيين؟ وهل نأخذ بآراء الماديين من الفلاسفة أم بآراء الإلهيين؟ وهل نحكم عقول الأديان الخاملة أم عقول الأجيال الفاضلة كما قال أهل الفلسفة؟ وهل نأخذ بعقل المسلم المتميز بهويته الحر في تفكيره أم عقل المسلم المأزوم تحت ضغوط الحضارة المعاصرة بجبروتها؟ وهل نأخذ بالعقل الجاهلي أم بالعقل الإسلامي أو بالعقل الأوربي الجاهلي الذي استباح إلغاء الله عز وجل وعبد نفسه مكان العلي العظيم؟ فالعقل الأوربي الجاهلي استحسن اللواط، ونكاح الأمهات والبنات، والعقل العربي الجاهلي استباح وأد البنات، أم هل نحكم العقل الذي انحرف عن منهج الإسلام وعطل السنة، وهو عقل القرآنيين الذي استحسن إلغاء الإسراء والمعراج، بل واستحسن إلغاء كل المعجزات الحسية وأنكر الكثير من المغيبات كالجن والملائكة والدجال؟ إن العقل اليوناني في أيام الفلاسفة دافع عن البغاء الرسمي وعن حرفة المومسات والشذوذ الجنسي الذي ظهر في المجتمع الإغريقي في أيام فلاسفة اليونان، بل إن فلاسفتهم وأصحاب المنطق منهم كانوا يحبذون البغاء والشذوذ الرسميين، فهل نأخذ بهذه المقدمات الباطلة ونحكمها في دين الله ونفضلها حتى على النصوص المتواترة؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الرسل تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول، أي: أن الوحي والشرع يخبران بالأشياء التي تحتار فيها العقول ولا تستطيع أن تكيفها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)، فهذا فوق نطاق العقل. فالشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها. يعني: إن العقول السليمة الصحيحة إذا حكمت باستحالة شيء فلا يأتي الشرع يقرره، والمعقولات الصحيحة لا يصادمها شرع صحيح.

جناية المعتزلة على الأمة

جناية المعتزلة على الأمة وأما جنايات العقل على هذه الأمة وتدميره لها فقد بدأ عندما دخل علم الكلام بمقدماته الباطلة في عقيدة هذه الأمة، ومحاكمه أصحابه لعلماء الأمة وتعذيبهم لهم، وكان أول ظهوره عند المعتزلة عندما قدموا العقل على نصوص الشريعة، وأتوا بأصولهم الخمسة ومنها التوحيد، والتوحيد عند المعتزلة هو: تعطيل صفات الله تبارك وتعالى كلها، فقالوا: هو عليم بلا علم، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، فأثبتوا لله عز وجل الأسماء فقط ونفوا عنه كل صفة، حتى صفة العلم نفوها عن الله عز وجل، وقالوا: عليم بلا علم، وبصير بلا بصر، وقادر من غير قدرة، وعطلوا صفات الله عز وجل، ولم يكتفوا بهذا بل جروا الأمة إلى مسألة خلق القرآن، وعذب فيها إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد، والذي تولى كبر هذه المحنة هو أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة، وقد مات أحمد بن نصر الخزاعي والبويطي وغيرهما من علماء الأمة في هذه المحنة، وعذب الإمام أحمد، واقتادوه إلى السجن في شهر رمضان وعذب وضرب بالسياط؛ بسبب بدع المعتزلة، ولولا السياط التي كانت على ظهره لما صار إمام أهل السنة والجماعة.

بيان التوحيد والعدل والوعد والوعيد عند المعتزلة

بيان التوحيد والعدل والوعد والوعيد عند المعتزلة وقادتهم عقولهم إلى نفي رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فهم في أصلهم الأول التوحيد عطلوا صفات الله عز وجل، وقالوا بخلق القرآن، وعذبوا علماء الأمة. وقد دعا الإمام أحمد بن حنبل على أحمد بن أبي دؤاد كبير المعتزلة، فابتلاه الله بالفالج -الشلل-، فكان نصف جسده لو نهشت منه السباع لا يحس به، والنصف الآخر لو سقط عليه الذباب لكأنما نهشته السباع، فقال أحمد بن أبي دؤاد: أصابتني دعوة أحمد بن حنبل. وأما الأصل الثاني عند المعتزلة فهو: نفي القدر، وسموه مسألة العدل، وقالوا: إن الله عز وجل لا يخلق الشر، وأثبتوا لهم مشيئة مع الله عز وجل، وقالوا: إن الإنسان يخلق فعل نفسه، ونفوا القدر، وقالوا بخلق أفعال العباد. وقال أهل السنة والجماعة: إن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، وهم قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه. وقالوا: بالتحسين والتقبيح العقليين، حتى إن بعضهم عندما ذكر لـ عمرو بن عبيد -كبير المعتزلة- حديث رواه الأعمش قال: لو قابلت الأعمش لكذبته -مع أن الحديث صحيح-، ولو لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت عليه هذا الحديث، ولو لقيت الله عز وجل لقلت له: ما على مثل هذا أعطيناك الميثاق. فأي دمار فوق هذا؟! بل خاضوا في أعراض الصحابة، وكذبوا سمرة بن جندب وأبا هريرة وغيرهما من أهل العلم. وأما في الوعد والوعيد فهم كما قال أهل العلم: مخنثة الخوارج الذين يكفرون عوام المسلمين ويكفرون مرتكب الكبيرة. يعني: أن الخوارج قدوتهم، فقالوا: بالمنزلة بين المنزلتين. ومعنى هذا الكلام: أن مرتكب الكبيرة ليس مسلماً ولا كافراً ولكنه مخلد في النار، وهذا القول أصل من أصول جماعة التوقف والتبين، وأصحاب التوقف يقولون: إنا لا نحكم للرجل بإسلام ولا بكفر حتى نسأله ونتبين حاله، كما كان الأزارقة من الخوارج يقولون: لا نحكم على الناس بردة ولا بكفر حتى نمتحنهم، فالناس الذين يأتون إلينا ولا نعرف خباياهم نجري لهم الاختبار، فإن وافقونا كانوا منا. والمعتزلة قالوا بالمنزلة بين المنزلتين، يعني: لم يحكموا على مرتكب الكبيرة بأنه مسلم أو كافر، وقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، وهو مخلد في النار، هذا قول أهل الاعتزال في القديم.

من أقوال العلماء في الكلام وبيان رجوع بعض علماء الكلام إلى الحق

من أقوال العلماء في الكلام وبيان رجوع بعض علماء الكلام إلى الحق قال الإمام أحمد عن علم الكلام: لا يفلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة. وقال الإمام الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم من العمل. ولقد رجع طوائف من علماء الكلام إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فلقد قال الرازي وهو من الأشاعرة: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال وقال الطوغاني: سمعت فخر الدين الرازي يقول: يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام، وبكى. وقال أبو المعالي الجويني وهو من علماء الأشاعرة: لقد بلوت أهل الإسلام وعرفت علومهم، وركبت البحر الخضم وخضت في الذي نهوني عنه، وكل ذلك في طلب الحق وهرباً من التقليد، والآن رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، فعليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لـ ابن الجويني. وكان يقول لأصحابه: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ بي ما اشتغلت به. فعلم الكلام جعل المعتزلة تكفر هذه الأمة، بل وتجيز الخروج بالسيف على هذه الأمة.

بيان انحرافات جمال الدين الأفغاني

بيان انحرافات جمال الدين الأفغاني ومدرسة الاعتزال الجديدة أو أفراخ المعتزلة الجدد دمروا الأمة أيضاً، وهم يحملون أسماء رنانة، وفي الزوايا خبايا. فـ جمال الدين الأفغاني شيخ المدرسة العقلية في العصر الحديث هو جمال الدين بن صفدر الأفغاني، وصفدر من ألقاب الإمام علي عند الشيعة، فقد كان أبوه إيرانياً تزوج بامرأة من الأفغان، فولدت له جمال الدين الأفغاني. ومن المآخذ التي أخذها أهل العلم على جمال الدين الأفغاني الشيعي: أنه كان من الرافضة، وعندما أتى في تفسيره إلى الربا المحرم في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] قال بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال، فهذا الربا لو كان خفيفاً وفوائده خفيفة معقولة فلا مانع منه، وهو جائز عند جمال الدين الأفغاني. وأما الطوام في هذا الرجل فقد كان زعيماً من زعماء الماسونية، ففي 22 ربيع الثاني سنة (1292 هـ‍) كتب جمال الدين الأفغاني طلباً للانضمام إلى المحفل الماسوني، وهذا نص الطلب: يقول مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة جمال الدين الكابولي الذي مضى من عمره 37 سنة: بأني أرجو من إخوان الصفا، وأستدعي من خلان الوفاء -أعني: أرباب المجمع المقدس الماسون الذي هو عن الزلل والخلل مصون- أن يمنوا علي ويفضلوا إلي بقبولي في ذلك المجمع المطهر، وبإدخالي في سلك المنخرطين في هذا المنتدى المفتخر. ولكم الفضل. فهو يستجدي منهم أنه يدخل المجمع الماسوني، وقد دخله، وتم اختياره بعد ثلاث سنوات رئيساً للوب كوكب الشرق، وهو محل من المحافل الماسونية التي كانت موجودة في مصر، ودعوه في 7 يناير 1878م لاستلام القادوم بعد إتمامه، وأن يأتي بلبس الماسون. وهذا الرجل إذا أردنا أن ندينه من فمه فنقول فيه مثل ما قاله الشيخ الدكتور محمد محمد حسين: إن هذا الرجل كان يثير النعرات القومية عند المصريين فيقول: تناوبتكم أيدي الرعاة واليونان والرومان والفرس والعرب والأكراد والمماليك والفرنسيس، وكلهم يشقون جيوبكم. يعني: يتكلم ويقول: تناوبتكم أيدي العرب، فأدخل المسلمين أيضاً من ضمن الغزاة الفاتحين أصحاب الظلم والظالمين، هكذا كان كلامه على الفتح الإسلامي. ثم يقول: انظروا أهرام مصر وهياكل رمسيس وآثار طيبة ومشاهد تيوة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح هذا ما يقوله هذا الرجل. ومع أنه كان ينعي على عباد القبور إلا أنه كان إذا وجد وسط القبوريين فإنه يتكلم كما يتكلم المتصوفة القبوريين. وقد كان يميل إلى أسلوب الاغتيال وإلى تدبير الاغتيالات السرية حتى في وجوده في إيران. ومما يؤخذ أيضاً على هذا الرجل: اختلاطه الكثير باليهود والنصارى، وكان يحيط نفسه بخليط كبير من اليهود والنصارى مثل سليم النقاش من نصارى الشام وهو ماسوني، وأديب إسحاق وهو أيضاً ماسوني، ولما مات أديب إسحاق قال عنه: إنه كان تراث العرب وزهرة الأدب، وقضى نحبه في شرخ الشبوبة وعنفوان الفتوة، وترك لنا قلوباً آسفة وسبولاً فائضة، إنا لله وإنا إليه راجعون. يسترجع على موت أديب إسحاق! ومن المآخذ عليه: أن طبيبه الخاص كان هارون اليهودي، ومن يوم أن جاء مصر سكن في حارة اليهود وما فارقها حتى غادر مصر. وكان يسعى إلى إسقاط الخلافة العثمانية، فقد قال السلطان عبد الحميد في مذكراته: وقعت بين يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنجليزية كل من مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنجليزي يدعى بـ لنز، قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك. وكان يشرب الفنيات، ومحمد عمارة كل يوم ثلاثاء يكتب في جريدة الشعب ويقول: غرائب التنوير ومدرسة التجديد ومدرسة المستنيرين وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وشيخ المدرسة كان يشرب قليلاً من الفنيات! وهذا قاله الشيخ محمد رشيد رضا في الجزء الأول صفحة 49 من تاريخ الأستاذ الإمام قال: إنه كان يشرب قليلاً من الفنيات. ومن المآخذ أيضاً عليه: أن السلطان عبد الحميد استشاره في إرسال بعثة من العلماء لنشر الإسلام في اليابان حسب طلب إمبراطور اليابان، فثناه عن عزمه وقال له: إن العلماء نفروا المسلمين من الإسلام، فأجدر أن ينفروا الكافرين. يقول الشيخ يوسف النبهاني: إنه جالس جمال الدين الأفغاني من أول النهار إلى آخره فما وجده صلى فريضة واحدة، ذكر ذلك في قصيدته الرائية، وكان شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ عليز وعندما كان يتواجد جمال الدين الأفغاني داخل المسجد الأزهر كان يضربه بعكازه حتى يخرجه. هذا النسبة لـ جمال الدين الأفغاني.

بيان انحرافات محمد عبده

بيان انحرافات محمد عبده ثم أتى من بعده مفتي مصر في عصره الشيخ محمد عبده، وهو التلميذ الأول لـ جمال الدين الأفغاني، فكان أول ما فعل أنه دعا للتقريب بين الأديان، وأنشأ جمعية من أجل ذلك هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية، وهي جمعية العروة الوثقى، وكانت جمعية دينية سرية سياسية، وكان صاحب الرأي الأول فيها الشيخ محمد عبده، وكان سكرتيرها مرزا باقر، وقد كان مسلماً ثم تنصر وتسمى بـ مرزا يوحنا. وكتب الشيخ محمد عبده في رسائل له إلى القس الإنجليزي إسحاق تلر، يقول: كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق، حضرة القس المحترم إسحاق تلر، أيده الله في مقصده، ووفاه المذخور من موعده. ويقول له في هذا الخطاب: ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة اللباب، وتعانقتا معانقة الأنثى. وهذا موجود في كتاب الأعمال الكاملة لـ محمد عبده، جمع وتحقيق محمد عمارة الجزء الثاني صفحة 363 - 364، قال: وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التقريب بين الأديان لما راسل قيصر الروم ونصارى نجران. ومن المآخذ التي تؤخذ على الشيخ محمد عبده: أنه كان يقول: إذا تعارض العقل والنقل فقد اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل. يعني: لو اصطدم العقل مع آية فنأخذ بما دل عليه العقل ونترك هذه الآية. ومما يؤخذ عليه أيضاً: دخوله في الماسونية مع شيخه، وكان يحتفظ بكتب الماسونية في منزله وبالخط الأفغاني، وقد صودرت في أثناء سجنه بمصر، وصدرت منه عبارات لأستاذه الأفغاني تفوح منها رائحة تجاهل الإسلام، والدعوة إلى الفرعونية المصرية. ومحمد عبده هو الذي كتب بخط يده برنامج الحزب الوطني الحر، وهو غير الحزب الوطني لـ مصطفى كامل، وهذا الحزب هو حزب علماني يجمع رجالاً مختلفي العقيدة والمذاهب. ويقول محمد عبده: إن خير أوجه الوحدة: الوطن، يعني: إن الإسلام لا يجمع الناس بقدر ما يجمعهم الوطن، يعني: الوطن يجمع الناس أكثر مما يجمعهم دين الله عز وجل، فهو من القائلين بالوحدة الوطنية. يقول: إن خير أوجه الوحدة الوطن؛ لامتناع الخلاف والنزاع فيه. وأيضاً مما يؤخذ على محمد عبده: علاقته المريبة بالإنجليز، حتى إن اللورد كرومر الذي قال: جئت لهدم ثلاثة: الكعبة، والقرآن، والأزهر، صرح بأن الشيخ سيظل مفتياً في مصر ما ظلت بريطانيا العظمى محتلة لها. فأي علاقة كانت تربطه بالإنجليز حتى يدافعوا عنه هذا الدفاع؟! ولما ألف محمد أحمد خلف الله الشيوعي رسالة: الفن القصصي في القرآن الكريم، وقال: إن قصص القرآن عبارة عن أساطير وأكاذيب، رفضت جامعة فؤاد قبول رسالة الدكتوراة هذه، فقال أمين الخوري الذي كان متزوجاً من الدكتورة ابنة الشاطئ: إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً. وقال لهم: لماذا ترفضون هذا الكلام؟ إن هذا هو نفس كلام محمد عبده عندما قال: إن قصص القرآن عبارة عن تمثيل، ومحمد أحمد خلف الله إنما زاد قوله: إنه أساطير، يعني: عبارة عن أكاذيب. ومما يؤخذ أيضاً على محمد عبده: أنه الواضع الحقيقي لكتاب تحرير المرأة، وهو الذي صاغه الصياغة النهائية، كما يقول محمد عمارة نفسه الذي جمع كلام الشيخ محمد عبده، فقد قال: هناك فصول كاملة في كتاب تحرير المرأة لـ قاسم أمين أعدها الشيخ محمد عبده، وهي فصول: الحجاب الشرعي، والزواج وتعدد الزوجات، والطلاق، فهذه كاملة من صنع الشيخ محمد عبده، والفصول الأخرى من تأليف قاسم أمين، ثم صاغه محمد عبده الصياغة النهائية، وقد ظلوا في مجلة المنار يثنون على هذا الكتاب وقت أن قامت الزوبعة عليه.

بيان انحرافات أعلام المدرسة العقلية في هذا العصر

بيان انحرافات أعلام المدرسة العقلية في هذا العصر ومن أهم رجال هذه المدرسة أيضاً: مصطفى المراغي ومحمود شلتوت وعبد القادر المغربي، فقد خالفوا الإسلام وانحرفوا في مجال العقيدة وفي الكلام عن أمارات الساعة، فأنكروا أحاديث المهدي، مع أن العلماء حكموا أنها متواترة، فقد رفضوها بتاتاً، وقالوا: إن فكرة المهدي أصلاً اقتبسها المسلمون من اليهود الذين قالوا: بعودة المسيح وظهوره مرة أخرى. وأنكروا أحاديث الدجال، مع أن الأحاديث فيه متواترة كما قال الحافظ ابن كثير. وقال الإمام النووي: إن الذي ينكر أحاديث الدجال المتواترة هم الخوارج والجهمية وبعض أهل الاعتزال. وأنكروا أيضاً ظهور الدجال، وقالوا: إن أحاديثه مضطربة. وأولوا العرش بالملك في قول الله عز وجل: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقالوا: العرش هنا كناية عن الملك والسيطرة. وأولوا صحف الأعمال التي يأخذها العبد يوم القيامة باليمين أو بالشمال، وقالوا في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] يعني: كناية عن التفاؤل، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] قالوا: كناية عن الانتظار. ومحمد فريد وجدي كان يقول بعقيدة الجبر، وخالفه الشيخ محمد عبده فكان يقول بالاختيار، وكان محمد فريد وجدي يقول أيضاً: إنه يؤمن بتحضير الأرواح. وفي مجال المعجزات: أنكروا كل معجزة، وقالوا: إن هذه المعجزات لا يستطيع العقل أن يكيفها، وهي ليست حكراً على الرسل، وأما المعجزات القديمة التي حكاها الله في كتابه عن الأنبياء فقد نقل عنهم الشيخ محمد رشيد رضا: أن وجود هذه المعجزات في القرآن الكريم كانت سبباً في إحجام الناس عن الإسلام، يعني: لو أن القرآن لم تكن به هذه الأشياء لكان مفكرو الغرب وأهل العقل منهم أسلموا، ولكن الذي صدهم عن الإسلام المعجزات القديمة للأنبياء القدامى، قالوا: وكل الأديان السابقة كانت تصادم العقل إلا الدين الإسلامي فإنه أتى في مرحلة وجوب نضوج العقل فلم يحتج دين الله عز وجل إلى معجزة؛ لأن المعجزات يعاقب بها المولى عز وجل منكري النبوات، والله عز وجل جعل المعجزات دليلاً على صحة وصدق الرسل، وهم ينكرونها بتاتاً. ومحمد حسين هيثم في كتابه: (محمد) أنكر كل معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم إلا القرآن فقط، فأنكر انشقاق القمر، مع أن الأحاديث الواردة في انشقاق القمر لرسول صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر ومع هذا أنكرها، فهم إما أن يؤولوا المعجزات أو ينكروها. وخالفوا أهل السنة والجماعة في الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وقالوا: إن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد، وإنما يؤخذ بالحديث المتواتر، فخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة. واختلفوا في أصل الإنسان هل هو سيدنا آدم أم لا؟ واضطربوا في ذلك اضطراباً عظيماً، ومال محمد عبده إلى أن أصل الإنسان ليس آدم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وقال: كثير من الناس البشر لا يعرفون آدم ولا حواء كأهل الصين والهند، وأنه يستوي عندهم أن يكون أصل الإنسان آدم أو القرد. بل نقل محمد رشيد رضا عن الإمامية والصوفية: أنه كان قبل آدم المشهور آدميون كثيرون، يعني: آدم وآدم وآدم وآدم، ونقل عن الإمامية: أن الله تبارك وتعالى خلق قبل آدم ثلاثين آدماً، بين كل آدم وآدم ألف سنة! فهم يأتون بكلام الشيعة ويردون الأحاديث الصحيحة المتواترة. وأما مقالته في الملائكة فأغرب وأعجب، يقول محمد عبده عن الملائكة: يشعر كل من فكر في نفسه ووازن بين خواطره أنه عندما يهم بأمر فيه وجه للحق والخير ووجه للباطل أن في نفسه تنازعات، فنوازع الخير عند الإنسان هذه هي الملائكة! وأين يأتي بحديث مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض الثياب لا يرى عليه أثر غبار السفر، وجعل يسأله؟! فهل كانت مواد الخير هذه ممثلة في شخص تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثه وتكلمه؟! ويقول في قول الله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]: كل هذا من القصص التمثيلي، يعني: لم يكن هناك سجود ولا شيء، نسأل الله أن يثبت علينا عقولنا. ويقول: إن الله تعالى لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، جعل كل صنف من القوى مخصوص بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به، وخلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعداً للتصرف في جميع هذه القوى، وتسخيرها في عمارة الأرض، فعبر الله عن تسخير هذه القوى له بالسجود! فهل يصح أن يقال: إن الله عز وجل عبر عن تسخير كل ما في الأرض لابن آدم بسجود الملائكة لآدم؟! هذا القول لا يقوله أحد. وأما عن عقيدته في الجن فيقول: إن الجن لا يستبعد أن يكونوا عالم الميكروبات. ويقول في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]: المس هو: الصرع والأمراض العصبية، وسببها بإذن الله تلك الجراثيم التي تدخل جسم الإنسان! ويقول في قول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] عن الشيطان وقبيل الجن: تلك الميكروبات ترانا من حيث لا نراها، ولكن الله سبحانه مكننا من رؤيتها بالميكرسكوبات! وأما الحديث الذي رواه الإمام البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والدارمي وأحمد وفيه: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) فيقول عنه: لا شك أن الجراثيم تلك تجري في خلايا جسم الإنسان وفي دمه، حيث تنقل الأمراض وتسري في البدن! ويقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم وأحمد والدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب): ولا شك أن الفم من أهم مداخل الميكروبات إلى جسد الإنسان، ولاسيما إذا كان في حال التثاؤب، فقد يلج منه ذباب أو ميكروبات وجراثيم لا نراها، فوضع اليد على الفم من أجل ألا تدخل الميكروبات! ويقول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات؛ فإن الشيطان يبيت على خياشيمه): ولا شك أن الخياشيم من مداخل الميكروبات إلى جسم الإنسان! ويقول عن حديث: (فناء أمتي بالطعن والطاعون): والطاعون أيضاً هو من فعل الميكروبات! هذا مما أخذه أهل العلم على محمد عبده.

انحرافات العقلانيين في التفسير

انحرافات العقلانيين في التفسير وأما انحرافاتهم في التفسير: فمنها في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، قال علماء أهل السنة والجماعة: الخلود هنا طول المكث وليس التأبيد، أي: ومن عاد إلى حل الربا واستحله فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. وأما محمد عبده ومحمد رشيد رضا فذهبوا إلى أن الرجل إذا مات مصراً على الربا فهو مخلد في النار، وخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعةن ومالوا إلى قول أهل الاعتزال في أن الرجل آكل الربا إذا مات مصراً عليه يكون كافراً مخلداً في النار. وأيضاً في قول الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3]، ذهبوا إلى تحديد الزواج وتقييده بواحدة، بل قال مصطفى المراغي لما اجتمع بعلماء الحنفية: انظروا إلى أحكام توافق العصر وأنا مستعد أن آتي لكم بنصوص من الشرع تؤيد ما ذهبتم إليه. وقالوا: إن الطلاق لا يقع إلا أمام القاضي؛ حتى يقيدوا الطلاق. ومن انحرافاتهم أيضاً: قولهم في قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]: إن العلة هنا مطلق السفر أو مطلق المرض، فقالوا: يجوز للرجل إذا كان مسافراً أو مريضاً ووجد الماء أن يتيمم مع وجود الماء. وهذا الكلام قاله محمد عبده ومحمد رشيد رضا، ولم يقل به أحد من أهل العلم. وقالوا في قول الله عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]، وقوله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55]: إن عيسى عليه السلام توفاه الله عز وجل وقبضه إليه وأنه قد مات، وخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنكروا رجوع المسيح في آخر الزمان، وردوا هذه الأحاديث. قال الشيخ محمود شلتوت وهو يتكلم عن العلماء الأفاضل الذين حكوا التواتر، وهم (22) عالماً: الإمام الطبري والإمام ابن كثير والإمام القرطبي والحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام السفاريني وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والسبكي والذهبي والألباني والغماري والكوثري غيرهم. ومحمد عمارة حكم بإسلام اليهود والنصارى، وأنهم لا يخلدون في النار، وهذا القول قاله في كتاباته، ونحن لا نفتري على الرجال، وهذا كله في كتب محمد عمارة بالطبعة وبالصفحة وبرقم السطر كذلك، فقد قال بإسلام اليهود والنصارى، وأن اليهود والنصارى الذين بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتركوا مع المسلمين في أصل التوحيد، فهم ناجون عند الله تبارك وتعالى.

بيان ضلالات الترابي

بيان ضلالات الترابي وأيضاً من المدرسة العقلية حسن الترابي زعيم السودان، وهذا الرجل له فكر معوج، فهو يقول: إن المرتد لا يقتل؛ لأنه يمشي تحت قانون الدولة. ويقول أيضاً: بجواز زواج المسلمة من اليهودي أو النصراني، وقد ناظره الشيخ مناع القطان والشيخ القرضاوي ليلة كاملة في رمضان، ولكن الرجل ظل مقتنعاً بما هو عليه. بل إنه يقول: ولعل في بعض رقص الغرب الذي هو الباليه معنىً راقياً. ويقول: إذا وجد في الجنة باباً تاسعاً فسيدخل منه أهل الفن. وهذا كله في كتابه (تجديد الفكر الديني). وقال: إن الجن عبارة عن ميكروبات، وفي قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3]، إنها الميكروبات. وقال: إن الملائكة هي نوازع الخير، وأن آدم ليس أبو البشر، وهو يرد الأحاديث الصحيحة والمتواترة، ويقدم العقل على الشرع عند تنازعهما، فأي شيء أبقى في دين الله عز وجل؟!

مناظرة بين العقل والنقل

مناظرة بين العقل والنقل قال القائل: علم العليم وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا فالعلم قال: أنا أحرزت غايته والعقل قال: أنا الرحمن بي عرفا فأفصح العلم إفصاحاً وقال له بأينا الله في قرآنه اتصفا؟ فأيقن العقل أن العلم سيده فقبل العقل رأس العلم وانصرفا

بيان انحرافات الصوفية

بيان انحرافات الصوفية

أولا: عقيدتهم في الله عز وجل

أولاً: عقيدتهم في الله عز وجل وأما علماء الصوفية إن كان فيهم علماء فإن عقيدتهم في الله عز وجل وخاصة الفلاسفة منهم: هي القول بالحلول ووحدة الوجود.

ثانيا: عقيدتهم في الرسل

ثانياً: عقيدتهم في الرسل وأما عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون بالحقيقة المحمدية، أي: أن الله عز وجل خلق أولاً الحقيقة المحمدية، وقالوا: هي أول الكائنات، ثم من هذه الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي خلق الله كل ما في الكون من وجود، وأول من قال هذا محيي الدين بن عربي، ثم تبعه على ذلك الجيلي وابن سبعين وعبد السلام بن حشيش شيخ أبي الحسن الشاذلي، فقالوا: إن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وجد أولاً، قال هذا عبد الكريم الجيلي في كتاب الإنسان الكامل، وقال: إن أول ما خلق الله عز وجل النور المحمدي، ومن هذا النور المحمدي خلق الله كل الكائنات. واستدلوا بحديث جابر الموضوع الذي حكم عليه الألباني بالوضع.

بيان ضلالات ابن عربي

بيان ضلالات ابن عربي ومن تراهات الصوفية ما قاله محيي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر، وكبريتهم الأحمر في كتابه (فصوص الحكم)، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده الكتاب، فقال لي: هذا كتاب (فصوص الحكم) فخذ واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة. وقال: وهذا الكتاب أخذته مباشرة من اللوح المحفوظ، والعلماء لم يكفروه إلا بهذا الكتاب؛ لأنه قال فيه بإسلام قوم نوح، وقال: إن نوحاً مكر بهم ومكروا به، وأنهم كانوا يعبدون الإله الواحد في شخص الصور المتعددة. وقال فيه بإسلام فرعون وأنه كان أعلم بربه من موسى عليه السلام. وهذا موجود في كتاب (الفتوحات) وفي كتاب (فصوص الحكم).

ثالثا: عقيدتهم في الجنة والنار

ثالثاً: عقيدتهم في الجنة والنار أما عقيدتهم في الجنة والنار فإن الحلاج يقول عن الجنة: ما الجنة؟ إنها لعبة صبيان، ويقول عن النار: ما النار؟ أستطيع أن أبصق عليها بصقة فأطفئها!

بيان ضلال الصوفية في أمر الخضر

بيان ضلال الصوفية في أمر الخضر يقولون: كان الخضر حنفياً ولم يكن شافعياً، ويقولون: إن السرهنتي سأل الخضر: هل تصلون بالمذهب الشافعي؟ فقال له الخضر: لسنا مكلفين بالشرائع، ولكن لأن قطب الزمان شافعي فنحن نصلي وراءه على مذهبه الشافعي. فقد اختلفوا هل كان الخضر شافعياً أو مالكياً، وهذا من جهلهم، مثل أن يأتي شخص يسأل: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمدياً أو بيومياً؟!

نظرية خاتم الأولياء عند الصوفية

نظرية خاتم الأولياء عند الصوفية وأما عقيدتهم في الولاية فإنهم قالوا: كما أن للأنبياء خاتماً فالأولياء لهم خاتم، وأول من قال بنظرية الختم هذه هو الحكيم الترمذي ثم تابعه على ذلك محيي الدين بن عربي، وزاد محيي الدين بن عربي وقال: إن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، ثم تبعهم على ذلك أحمد التيجاني صاحب الطريقة التيجانية، وكان كل واحد منهم يقول: أنا خاتم الأولياء، يعني: أنهم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم محمد عثمان المغرني صاحب الطريقة الخاتمية التي اتفقت مع الأعداء على ضرب المسلمين. وعند الصوفية أن مقام الولاية فوق مقام النبوة.

مسألة ديوان الصوفية

مسألة ديوان الصوفية وأما ديوان الصوفية فإنهم يقولون: إن هذا الديوان يعقد كل يوم في الثلث الأخير من الليل، وكل يوم والناس الذين هم جالسون في هذا الديوان يقررون مصير الخلائق حتى اليوم التالي: من الأرزاق، وعالم الحجب، وما فوق الحجب، وما يكون في الملكوت! ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر هذا الديوان مع زوجاته، وتحضره الملائكة أيضاً. ويقولون: إن لغة أهل الديوان اللغة السريانية إلا في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فباللغة العربية؛ احتراماً لقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الديوان يعقد في غار حراء، ومن الجائز أحياناً أن يعقد في صحراء السودان! ويقولون: إن الأولياء ينظرون في اللوح المحفوظ، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، كفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم 360 نظرة، يخلق بكل نظرة ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء.

قول المتصوفة بجواز رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة

قول المتصوفة بجواز رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة وتراهات الصوفية هذه امتد أثرها إلى بعض الاتجاهات الإسلامية حتى إن بعض إخواننا في الهند وباكستان يقولون بجواز رؤيتهم للملائكة وللأنبياء يقظة، كما يقول الصوفية بجواز رؤيتهم لرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وهذا القول ما قال به أحد من أهل العلم، وكان بعض المتصوفة من التبليغ في الهند وباكستان يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر إلى مدرسة العلوم بديوبن، وهي أصل جماعة التبليغ، وأنه يعد الحساب للكشف الختامي لدار العلوم بديوبن. وهذا قول باطل.

الحث على اتباع الكتاب والسنة

الحث على اتباع الكتاب والسنة قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وفضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن. وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]. وقال رسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون). قال ابن المبارك: هم عندي أصحاب الحديث، وكذا قال يزيد بن هارون والإمام ابن المديني، وقال الإمام أحمد: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة هم أصحاب الحديث فلا أدري من هم. وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2]. وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً، فلا ترفع خزعبلات الأذهان ولا نتائج الأفكار العفنة فوق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحالك على غير حدثنا وأخبرنا فإنما يحيلك على قياس فلسفي أو على ذوق صوفي، ولولا حدثنا وأخبرنا ولولا عبد الرزاق وأمثاله لما وصل إلينا من الكتاب شيء. وقال الله تبارك وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، قال ابن عباس: سبيل وسنة. وقال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18]، قال الحسن: على السنة. وقال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]، قال عطاء: يتبعونه حق اتباعه، ويعملون حق العمل به. وقال الله تبارك وتعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، قال الحسن: الكتاب هو: القرآن، والحكمة هي: السنة. وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال سعيد بن جبير: ثم استقام ولزم السنة والجماعة. وقال شمر بن عطية: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: للسنة. وقال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، قال ابن عباس: أما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة. وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، قال عطاء: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع الكتاب والسنة، وليس اتباع الذوق.

بيان انحراف الصوفية عن اتباع الكتاب والسنة

بيان انحراف الصوفية عن اتباع الكتاب والسنة فهم يقولون: حدثني قلبي عن ربي هكذا مباشرة! ويقولون: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله! وهذا البحر هو بحر الشطحات، ويقولون: إنكم تأخذون علمكم من ميت عن ميت، ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت! ويقولون: نحن لا نحتاج إلى طريق؛ فقد وصلنا. قال الجنيد: نعم وصلوا ولكن إلى سقر. ولسان حالهم كما قيل عنهم: ويقول قلبي: قال لي: عن سره عن سر سري عن قفا أحوالي عن حضرتي عن فكرتي عن بلوتي عن صفو ذاتي عن صفات فعالي دعوى إذا ألفيتها حققتها ألقاب زور لفقت بخيال وكما يقول القائل: وقالوا: سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع كذاك البهائم إن أشبعت يرقصها ريها والشبع وقيل: أقال الله: زمر لي وطبل وقل كفراً وسمي الكفر ذكر؟!

بيان فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم

بيان فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]. وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. قال الحسن: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فعلامة محبتك لله عز وجل حب اتباعك لرسول صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، فالحواريون من هذه الأمة هم الذين يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14]، وأعظم شيء أن تكون نصيراً لله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم رقى المتبع لسنته صلى الله عليه وسلم وخلع عليه اسم الحواري. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أناساً من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد أمتي حباً لي قوم يكونون بعدي يود أحدهم أنه فقد أهله ماله وأنه رآني). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم زمان صبر). أي: صبر على السنة، وهذا أفضل أنواع الصبر؛ لأنه صبر على الطاعة, وهو أفضل وهو من الصبر عن المعصية ومن الصبر على الفتن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه منهم أجر خمسين شهيداً منكم). أي: من الصحابة، يعني: المتمسك بالسنة في هذا الزمان له أجر خمسين شهيداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر). وعن ابن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء، أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة: (أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالسنة معه، وقد كان جبريل عليه السلام يدارسه السنة كما يدارسه القرآن. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن -أي: القرآن فقط-، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله). فقوله: (ألا يوشك رجل شبعان) يعني: لا يقول هذا إلا الشبعانون المترفون. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فيسرى اختلافاً كثيراً). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عمر وقال له: (يا رسول الله! إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم بعدي -يعني: أمتحيرون أنتم بعدي- كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي). وفي لفظ الدارمي: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل عمر يقرأ ووجه رسول يتغير، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل يا ابن الخطاب! -يعني: ثكلتك الثواكل أن أغضبت رسول الله-، أما ترى ما بوجه رسول الله، فنظر عمر إلى وجه رسول الله، فقال: أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى عليه السلام فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتي لاتبعني). فلا تأخذ برأيك ولا بعقلك وتقدمهما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من أقوال الصحابة في الحث على اتباع الكتاب والسنة والتمسك بهما

من أقوال الصحابة في الحث على اتباع الكتاب والسنة والتمسك بهما قال علي بن أبي طالب: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما). وعن حذيفة بن اليمان: أنه أخذ حجرين وضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة. يعني: يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً. وقال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتعدوا؛ فقد كفيتم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: أما تخافون أن تعذبوا وأن يخسف بكم؟ أقول لكم: قال رسول صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وقال عمر؟ يعني: يقول للصحابة: والله لو قلت لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلتم: قال أبو بكر وقال عمر فيوشك أن يخسف بكم وأن تعذبوا. وعبد الله بن عمر رضي الله عنه من رآه في طلبه لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه مجنون، وكان يقول لـ نافع: لعل خفاً يقع على خف، يعني: لعل خفاً من ناقتي يقع على خف ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثبت عنه أنه حاد في طريق، ولما سئل قال: (وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى هذا المكان تنحى فأناخ ناقته ثم ذهب إلى الخلاء)، ففعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع ولولا أصحاب المحابر لخطبة الزنادقة على المنابر.

من أقوال السلف في الحث على التمسك بالسنة

من أقوال السلف في الحث على التمسك بالسنة قال الإمام الزهري: الاعتصام بالسنة نجاة. وقال سعيد بن جبير: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة للسنة. وقال يونس بن عبيد: أصبح من عرف السنة غريباً، وأغرب منه الذي يعمل بها. وقال يونس بن عبيد أيضاً وهو تلميذ الحسن البصري: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها. وقال أيوب السختياني: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله عز وجل لعالم من أهل السنة. يعني: مثلاً لو أن رجلاً جاء من ألمانيا أول مرة إلى مصر، فإذا أراد الله به خيراً أتى به إلى مسجد من مساجد السنة من أول يوم. وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يؤاخي صاحب سنة يحمله عليها. وقال الإمام الأوزاعي: ندور مع السنة حيث دارت. وقال: خمس كان عليهن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله عز وجل. وقال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا منها وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال. وقال مكحول: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن؛ لأنها مبينة ومفسرة له. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله عز وجل. يعني: أن اتباع السنة في عصره أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل. قال الألباني: هذا في زمانه، فماذا يقال في زماننا نحن؟! وقال ابن عمر: لا يزالون على الطريق ما اتبعوا الأثر. وقال سفيان: الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض. وقال الفضيل بن عياض: إن لله عباداً يحيي الله بهم البلاد هم أصحاب السنة، ومن كان يعلم أن ما يدخل جوفه من حل كان من حزب الله. وقال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحداً ألزم للسنة من أبي بكر بن عياش. وعن عون قال: من مات على الإسلام والسنة فله البشرى بكل خير. دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى آثار لا تعدلن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار ولربما غلط الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار وهكذا أيها الإخوة! رأينا أن هناك شرعاً وهناك عقلاً، والعقل بدون الشرع يضل ويزيغ، والشرع بدون العقل لا قيمة له، والخير كل الخير في اتباع الشرع وليس في اتباع العقل أو الوجد كما رأينا.

الأسئلة

الأسئلة

أسباب قسوة القلوب وأسباب رقتها

أسباب قسوة القلوب وأسباب رقتها Q ما هي الأسباب المؤدية إلى قسوة القلب وما علاجها باختصار شديد؟ A من ضمن أسباب قسوة القلب: نسيان ذكر الله تبارك وتعالى وإهماله، جاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: أشكو إليك قسوة قلبي، فقال: أذبه بالذكر. وإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنسِ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم في ليلة أسري بي فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قيل: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيبُ أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن جنباتها قلب إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يخفق دائماً بجناحه يا ليت شعري هل تطير قلوب ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أكثر من ذكر الله حتى يقول الجاهل: إنك مجنون)، والحديث صححه الحافظ ابن حجر والشيخ الألباني. وأتى رجل إلى أبي مسلم الخولاني وكان كثير الذكر لله عز وجل فقال: أمجنون أنت يا عماه؟! قال: لا يا بني! بل هذا دواء الجنون. ومن حديثي بكم قالوا به مرض فقلت لا أذهب الله عني ذلك المرض ويقول الشاعر: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيجدها شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم)، فالغبي كل الغبي والغباوة كل الغباوة البعد عن ذكر الله تبارك وتعالى. وقال الله تبارك وتعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. وأعظم الذكر قراءة القرآن الكريم، فهو مزامير الأنس، من حضرة القدس، بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، وهذا طعم الخبر فكيف بطعم النظر! وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]. فعليكم بأحسن الحديث، والطيب من القول، والأنس بالله عز وجل، وقراءة القرآن. قال ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت فهي معي، إن معي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال: مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها؛ لذة الأنس بالله عز وجل. ويقول ابن القيم: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً، وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب. فأول شيء يرق به القلب: ذكر الله عز وجل. وثانياً مما يرقق القلوب: العطف على اليتامى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك امسح رأس اليتيم، وادنه منك، وأطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلن قلبك وتدرك حاجتك). وأما أسباب قسوة القلوب فمنها: التسويف، قال أحد الصالحين: أنذرتكم سوف؛ فإنها جند من جنود إبليس. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل)، فقوله: (ويهلك آخرها بالبخل والأمل) أي: بالتسويف. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله عز وجل آنية في الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها). وتقسو القلوب أيضاً بكثرة الطعام، والأصل كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني جواز الشبع أحياناً، وأما أن تأكل كل يوم وتملأ بطنك فهذا لا يصح. وأتى رجل إلى الحسن فقال له: علمني كيف أقوم الليل، فقال: صف لي أكلك كيف تأكل؟ قال: آكل حتى أشبع، قال: يا بني! ذاك أكل البهائم، قال: صف لي شربك، قال: أشرب حتى أرتوي، قال: ذاك يا بني! شرب الأنعام، اذهب يا بني! فتعلم الأكل والشرب، ثم ائت أعلمك قيام الليل. ولذلك يقول الإمام ابن القيم في كتاب (الفوائد): قيل لرجل من الصالحين: فلان يأكل في اليوم ثلاث أكلات، فقال: قولوا لأهله: يبنوا له معلفاً. ومما يرق به القلب كثرة الصوم، وأكثر ما يدر الدمع في العين الصوم. نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعار وأنت جرب عندما تصوم تجد أن القلب يرق وتذرف الدمعة، كما قال العلامة القسطلاني. وآخر ما قرأت في كتاب (تاريخ أصبهان): أنه كان هنالك رجل من أصحاب الحديث مكث أربعين سنة هو وابنه وامرأته يصومون، وكان يسرد الصوم سرداً. وما مات عمر وعثمان رضي الله عنهما حتى سردا الصوم سرداً، ومات عثمان رضي الله عنه وهو صائم. وتجد الأعاجيب في حكايات السلف عن الصوم، فمنهم من صام أربعين سنة لا تشعر به زوجه، فكان يخرج بطعامه من البيت ويتصدق به في عرض الطريق، فإذا أتى إلى حانوته ظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، وإذا أتى إلى بيته بعد المغرب ظنوا أنه قد أكل ما أخذه من طعام. وأيضاً قيام الليل مما يرق به القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة منكم إلى ربكم، ومنآة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد). قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وأيضاً مما يرق به القلب: البعد عن المخالطة الكثيرة للناس، فالأنفاس الصادرة من العصاة تعكر الجو وتغبره، والمخالطة الكثيرة للناس والكلام الكثير معهم مما تقسو به القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بطول الصمت وحسن الخلق، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

معنى قول المعتزلة سميع بلا سمع وبصير بلا بصر

معنى قول المعتزلة سميع بلا سمع وبصير بلا بصر Q ما معنى: سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم؟ A معنى هذا الكلام: أنهم أثبتوا الأسماء فقط لله عز وجل، فأثبتوا له مطلق الوجود بدون أي صفة، وعلماء أهل السنة والجماعة قالوا: إن أسماء الله عز وجل اشتقت منها صفاته، فالعليم معناه: ذات علية متصفة بصفة العلم، والحكيم ذات علية متصفة بصفة الحكمة، والخبير ذات علية متصفة بصفة العلم، والقدير ذات متصفة بصفة القدرة، وهم نفوا الصفات وعطلوها تماماً ولم يثبتوا لله تبارك وتعالى صفة. والله أعلم.

بيان حال سيد قطب

بيان حال سيد قطب Q هناك من يقول: إن الشيخ سيد قطب يقول بوحدة الوجود وأن عقيدته أشعرية، هل هذا صحيح؟ A بداية يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني عن الشيخ سيد قطب: إن الشيخ سيد قطب لم يكن عالماً، وحرام على الناس أن يحاسبوه حساب العالم، يعني: الشيخ سيد قطب كان داعية عظيماً، ولكنه لم يكن عالماً كـ ابن تيمية أو الشوكاني أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو ابن باز أو غيره، فالرجل دخل مؤخراً في الحركة الإسلامية ولم يطلع على عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن الإنصاف ألا تبخس الناس ما قدموه للإسلام من خدمات، ثم إن كانت عندهم آثار سيئة أو أخطاء فتذكر الأخطاء، ولكن من الإنصاف أن تذكر بداية الحسنات، وكما قالوا: إن الماء إذا بلغ القلتين لا يحمل الخبث، فلا تأتي إلى داعية مثل الشيخ سيد قطب وتنسفه نسفاً ولا تذكر له حسنة واحدة. وقال الشيخ محمد إسماعيل المقدم عنه: يكفيه أنه دفع حياته من أجل دينه، وأنه أشار بسبابته وقال: إن هذه السبابة التي نشير بها إلى الله عز وجل لا تسجد لغير الله عز وجل، وهذا من باب إنصاف الشيخ سيد قطب، ولا نقول عليه ما قاله الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي كلامه عن الشيخ سيد قطب وإن كان فيه حقائق إلا أنه كلام جاف، وإن كان أغلبه كلام علمي ولكنه كلام جاف، وظاهر كلامه أنه ليس لـ سيد قطب حسنة واحدة، والشيخ الألباني يقول عن سيد قطب: إن بعض كتاباته عليها نور العلم، مثل كتاب (معالم في الطريق)، ففيه فصل عليه نور العلم، وهو فصل لا إله إلا الله منهج حياة، قال: وأما كتابه العدالة الاجتماعية فلا يساوي شيئاً. والشيخ سيد قطب له أخطاء جمعها الشيخ أحمد الدويش في كتابه (المورد الزلال في الرد على أخطاء الظلال)، ومن ضمن هذه الأخطاء: أن الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله كان يقول: إن أحاديث الآحاد لا يحتج بها في مجال العقائد، وأخطأ في هذا. ومن ضمن أخطاء الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله عليه: أنه أول بعض الصفات مثل صفة الاستواء في قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأخطأ في هذا، ورد عليه الشيخ الدويش، وقد زل به قلمه في أوائل سورة الحديد وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ورد عليه الشيخ الدويش، ولأنه لم يكن عالم حديث فقد رد بعض الأحاديث مثل حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم الموجود في البخاري، فللرجل أخطاء نتجنبها ونأخذ من حسناته فقط؛ حتى نكون في إنصاف والله أعلم، أما أن نحاسبه على أنه كان عالماً فالشيخ سيد قطب لم يكن عالماً.

المراجع والمصادر لهذه المحاضرة

المراجع والمصادر لهذه المحاضرة السؤال الأول: المطلوب من فضيلة الدكتور أن يرشد الإخوة إلى المراجع والمصادرة لهذه المحاضرة لكي يرجعوا إليها؟ A المراجع هي كتاب (المدرسة العقلية) للدكتور فهد بن زيد الرومي، وكتاب: (المدرسة العقلية وانحرافاتها)، و (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) للدكتور فهد بن عبد الرحمن سليمان، وهناك (طوام وانحرافات في المدرسة العقلية في التفسير والعقائد)، وكتاب: (محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة)، ومحمد عمارة يأتي في جريدة الشعب كل يوم ثلاثاء وجمعة، وكتاب: (الفكر الصوفي) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وكتاب: (العقلانيون أفراخ المعتزلة)، وكتاب: (المعتزلة بين القديم والحديث) للشيخ محمد عبده وطارق الحليلي، وكتاب: (منهج الأشاعرة في العقيدة) للشيخ سفر الحوالي، وكتاب: (صلاح الأمة في علو الهمة) المجلد الثاني لصاحبكم العبد الفقير إلى الله.

الإمام أحمد بن حنبل

الإمام أحمد بن حنبل لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه مثل وقدوة، فما بلغوا ما بلغوا إليه من توفيق الله لهم ورضائه عنهم إلا بزهدهم وورعهم وخوفهم من الله عز وجل، وممن اقتدى بهم في ذلك الإمام الجليل أحمد بن حنبل، فكانت حياته حافلة بالاستقامة على دين الله، والصبر على محاربة البدع.

مولد الإمام أحمد بن حنبل ونشأته

مولد الإمام أحمد بن حنبل ونشأته إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. نمضي مع سلسلة شيوخ الإسلام. كن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير وصّافاً، فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل فتيلة المصباح تضيء للناس وتحرق نفسها)، واليوم موعدنا مع الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أحد الأئمة الأربعة، وإمام أهل السنة والجماعة.

خوف الإمام أحمد من الله

خوف الإمام أحمد من الله كان الإمام أحمد إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان عليّ كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنما هي أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، لو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر. قال الإمام أحمد: أريد أن أكون في شعب من شعاب مكة حتى لا أعرف، لقد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساءً. يقول ذلك من خوفه من الشهرة. قال المروزي: ذكر لـ أحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له. التقى سفيان الثوري بـ الفضيل بن عياض فتذاكرا فرقاً فدمعت أعينهما، فقال الإمام سفيان الثوري: إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا خير مجلس جلسناه علينا بركة، قال: ترجو هذا؟ إني أخاف أن يكون أشأم مجلس جلسناه علينا شؤماً. فقال سفيان للفضيل: لم؟ قال: ألست عمدت إلى أحسن ما عندك من الكلام فأخرجته لي، وعمدت أنا إلى أحسن ما عندي من الكلام فأخرجته لك فتزينت لي وتزينت لك، فراءيتني وراءيتك، فعبدتني وعبدتك! فبكى سفيان وقبّل رأس الفضيل بن عياض وقال: أحياك الله كما أحييتني. قال الإمام أحمد: ليتنا نترك الطريق ما كان عليه بشر بن الحارث الحافي. فقلت له: إن فلاناً يقول: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، بل زهد في الناس. فأنت تجد الرجل يملك مليون جنيه، يريد أن يدخل انتخابات الشعب ومجلس الشورى، وهو يعلم أنه لا أحد يعلم، وأنه ساقط ساقط، فينفق منها ربع مليون جنيه. إذاً: الرجل يبذل المال من أجل الشهرة، فالزهد في المال شيء بسيط جداً، وإن كانت الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة وأنت تركتها كلها فإن الزهد قصر الأمل، والزهد الزهد في النفس؛ فلما قيل للإمام أحمد أنت لم تزهد في الدراهم وحدها، بل زهدت في الناس، قال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ. هذا هو الإمام أحمد، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قراءة الإمام أحمد للقرآن وصبره على مرضه

قراءة الإمام أحمد للقرآن وصبره على مرضه قال عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن، يختمه كل أسبوع مرة. وكان الإمام أحمد يخرج لطلب الحديث وهو غلام صغير قبل صلاة الفجر، فكانت أمه تستحلفه بالله أن يمكث في البيت حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر ثم يخرج لطلب الحديث. وكان الإمام أحمد يحيي الليل وهو غلام، بات معه رجل من علماء الحديث فأعد له وضوءه من الليل، فلما أصبح أتى فوجد الماء على حاله فقال: طالب علم لا يكون له ورد من الليل! قال: إني على سفر فقال: حج مسروق فما مات إلا ساجداً، يعني ما أتى عليه الليل إلا وهو ساجد متنفل وهو في سفره للحج. قال صالح: كان أبي إذا دعاه رجل يقول: ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته. الأعمال بخواتيمها، ثم لما كان في مرض الموت قال: أخرج لي كتاب عبد الله بن إدريس وقال: اقرأ عليّ حديث ليث: إن طاوساً كان يكره الأنين في المرض قال: فما سمعت لأبي أنيناً حتى مات. ودخلت عليه امرأة وهي مخة بنت الحارث الحافي فقالت: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم فقال: والله ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، ثم قال لها: نرجو أن لا يكون كذلك، وما علم الإمام أحمد بهذه المسألة إلا في مرض الموت فما أنَّ حتى مات. ثم قالت له: إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح الشارع فإذا مر قوم من الظاهرية -وكانوا ظلمة- ربما غزلنا بعض الغزل على ضوء مصباحهم، فهل نبيّنه للناس؟ فقال: بينيه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. ثم قال الإمام لابنه عبد الله: اتبعها يا بني! فانظر أي البيوت تدخل، فقال: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع. وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد والورع قال: تسألونني عن الزهد وفيكم بشر، مثل هذه لا تخرج إلا من بيت بشر.

تبرك الإمام أحمد بآثار النبي صلى الله عليه وسلم

تبرك الإمام أحمد بآثار النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبِّلها، وربما وضعها على عينه، وربما غمسها في الماء وشربه يستشفي به؛ وهذا خاص بآثار النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن الإمام أحمد: ورأيت أبي أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في زير الماء ثم شرب فيها. قال الإمام الذهبي: قلت: أين المتنطع المنكر على أحمد؟ وقد ثبت أن عبد الله بن الإمام أحمد سأل أباه عن لمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أرى بذلك بأساً -أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع-

بعد الإمام أحمد عن الولاة وعطاياهم

بعد الإمام أحمد عن الولاة وعطاياهم ذكر أن الإمام أحمد أتت عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها شيئاً، فبعث إلى صديق له يلتمس منه دقيقاً، فجهّزوه للإمام أحمد بسرعة وعملوا له عشاءً كي يأكل سريعاً، فقال: كيف ذلك؟ فقالوا: تنور صالح مسجر، فقال: ارفعوا. ولم يأكل؛ وذلك لأن ابنه صالح كان يقبل هدايا وأعطيات الخليفة، ثم قام فأمر بشد باب بينه وبين صالح لكونه كان يأخذ جائزة المتوكل. هذا هو الإمام أحمد! كان أبعد الناس عن مجلس السلاطين، يقول سعيد بن المسيب: إذا رأيتم العالم يرتاد أبواب الأمراء فاشهدوا أنه لص.

زهد الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل

زهد الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل قال الإمام أحمد لبعض أصحابه لما ذكر الدنيا: قليلها يجزئ وكثيرها لا يجزئ. وذكر الإمام أحمد الفقر فقال: مع الفقر الخير، وكان الإمام أحمد يؤثره على الدنيا. ولو لم يكن للفقر إلا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام يستريحون من تعب يوم القيامة، والله عز وجل يختار لنبيه دائماً الأكمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (من أصبح منكم آمناً في سربه) أي: مطمئناً على أولاده وعلى نفسه (معافى في بدنه) أي: عنده صحة، (عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها). وهذا رجل غني جداً كان يقول لهم: وددت لو أتخذ كل ملكي وآكل الأكلة التي أنتم تأكلونها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً). كان يمر الهلال، والهلال، والهلال ولا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، وكان يعيش على الأسودين: التمر والماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ورديء التمر إلا ما يسد به جوفه، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط من يوم أن بعثه الله، ولا رأى شاة سمينة قط. وسيدنا يوسف عليه السلام ما كان يشبع وهو على خزائن مصر، يقول: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو لبست فأفنيت، أو أكلت فأبليت). قال صالح: ربما رأيت أبي يأخذ الكسر (كسر الخبز) ينفض الغبار عنها، ويصيرها في قصعة ويصب عليها ماء ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رماناً ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنب وتمر. قال صالح: قال لي أبي: كانت والدتك تغزل غزلاً دقيقاً فنبيع الأستار بدرهم أو أقل أو أكثر فكان ذلك قوتنا. قال: وكنا إذا اشترينا الشيء نستره عن أبي كي لا يراه فيوبخنا، وكان ربما خُبز له فيجعله في فخارة مع عدس وشحم، وقليل من التمر فيجيء الصبيان فيصوت بعضهم فيدفعه إليهم. فالإمام أحمد يعطيهم الفخارة وفيها قليل من التمر فيضحكون منه ولا يأكلون، وكان يأتدم بالخل كثيراً، وكانت له قلنسوة خاطها بيده فيها خط، فإذا قام من الليل لبسها، وكنا نسمعه كثيراً يقول: اللهم سلم اللهم سلم، أتى إليه رجل وعليه فرو خلق وخريقة على رأسه، وهذا الرجل حاف في برد شديد فسلم عليه وقال: يا أبا عبد الله! قد جئت إليك من موضع بعيد ما أردت إلا السلام عليك، وأريد عبادين، وأريد إن أنا رجعت أسلم عليك، فقال: إن قدر، فقام الرجل وسلم وأبو عبد الله قاعد، فما رأيت أحداً قام من عند أبي عبد الله حتى يقوم أبو عبد الله له إلا هذا الرجل. فقال لي أبو عبد الله: ما أشبهه بالأبدال، أو قال: إني لأذكر به الأبدال، وأخرج إليه الإمام أحمد أربعة أرغفة وقال: لو كان عندنا شيء لواسيناك. وقال المروزي: قلت لـ أبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك. قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً بأي شيء. وقلت: قدم رجل من طرسوس فقال: إنا كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء لـ أبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله، ولقد رمي عنه بحجر والعلج متترس بدرقة، فلما رموه بالحجر ودعوا باسم أبي عبد الله فذهب الحجر برأس هذا الفارس، فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً ومكراً. هذا خوف الكبار على أنفسهم. وقال المروزي: رأيت طبيباً نصرانياً خرج من عند أحمد ومعه راهب فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله. وقال علي بن أبي فزاره جارنا: كانت أمي مقعدة -أي: مصابة بالشلل- من نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي. فأتيت إلى الإمام فدققت عليه في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا، ثم قال: فوليت منصرفاً وأنا حزين، فخرجت عجوز وقالت: قد تركته يدعو لها. فقال: فدققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي. قال عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي في كل يوم وليلة يصلي ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي كل يوم مائة وخمسين ركعة، وهنا يستفاد شيء فقهي أن صلاة الليل من النفل المطلق؛ وأفضل الصلاة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد عن إحدى عشرة ركعة، أو عن ثلاث عشرة ركعة، ولكن هذا الحديث لا يدل على المنع من أن تزيد على الثلاث عشرة ركعة أو إحدى عشرة ركعة، وليس في الزيادة ابتداع لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر ركعة كما يقول تميم الداري: كنا نقرأ بالمئين، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا عند طلوع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح (السحور). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن تكثير الركعات كانت عوضاً عن طول القيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ركوعه نحواً من قراءة خمسين آية، وسجوده نحواً من ذلك، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة والإمام النووي وابن عبد البر وجماهير علماء المسلمين، والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، فالمراد: صلاة معظم الليل والله أعلم.

منزلة الإمام أحمد بن حنبل عند العلماء المعاصرين له

منزلة الإمام أحمد بن حنبل عند العلماء المعاصرين له كان شيخه يزيد بن هارون كثير المداعبة والمزاح، فما كان يترك المزاح إلا في حضور الإمام أحمد فكان يترك المزاح أدباً، وكان يوقره ولا يمازحه. قال قتيبة: وأشار إلى أحمد بن حنبل: إذا رأيت رجلاً يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، ولو أدرك أحمد سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد لكان هو المقدم عليهم. وقيل لشيخه قتيبة بن سعيد: يضم أحمد إلى التابعين، قال: إلى كبار التابعين، لولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا بأسرها. وقال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل والإمام أحمد بن حنبل قال عن شيخه الشافعي: ما من رجل مس محبرة ولا تناول قرطاساً إلا وللشافعي في عنقه منة ودين، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن؛ فانظر هل عن هذين من عوض؟ هذا أدب الشيوخ وأدب التلامذة مع شيوخهم. وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله: أحمد حجة بين الله وبين خلقه. وقال علي بن المديني: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيداً كان له نظراء -أي: ناس أمثاله في العلم- ولم يكن لـ أحمد نظراء. وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حافظ الحديث: إني لأتدين بذكر أحمد بن حنبل، ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة منه، وكان أهل الحديث الحفاظ في مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة فجعلوا يذكرون الإمام أحمد فقال رجل بعض هذا: أنتم كل جلسة تقضونها في ذكر أحمد بن حنبل أو ماذا؟ فقال يحيى: وكثرة الثناء على أحمد تستنكر؟ لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها. وقال ابن معين الإمام العظيم: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، وقال: ما رأيت من يحدث لله إلا ثلاثة: يعلى بن عبيد والقعنبي الراوي عن الإمام مالك وأحمد بن حنبل رحمه الله، كان الإمام أحمد أفضل أهل زمانه. وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] يعني: ما كان لهم هم ولا شاغل إلا الكلام عن الآخرة، لا يعرفون شيئاً من أمور الدنيا. قال الشافعي: لو كُلِّفت شراء بصلة من السوق ما استطعت أن أعي مسألة من مسائل العلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه). وكان الإمام أحمد يرهن نعله، ولم يشتر نعله بخمسة وسبعين جنيهاً، أو أكثر، إنما هي نعل استمر في استخدامها ست عشرة سنة كما قال ابن الجوزي ورهنها يتقوت بها. قال الحميدي: ما دمت بالحجاز وأحمد بالعراق وابن راهويه بخراسان لا يغلبنا أحد، يعني: لا يغلبنا أحد من المبتدعة، كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة. قال أبو عمير بن النحاس الرملي عن الإمام أحمد رحمه الله: ما كان أخبره بالدنيا، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عُرضت له الدنيا فأباها والبدع فنفاها. قال علي بن المديني: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من كتاب، وأنظر إلى أدب الكبار مع الكبار. وهذا الإمام البخاري يقول: أشتهي أن أدخل بغداد فيحدثني علي بن المديني وأحدثه، وقال: ما استصغرت نفسي بين يدي عالم قط إلا بين يدي علي بن المديني، وعلي بن المديني هذا يقول عن الإمام أحمد: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدِّث إلا من كتاب.

كتب الإمام أحمد وعلمه

كتب الإمام أحمد وعلمه بلغت كتب الإمام أحمد يوم مات حمل اثني عشر جملاً، ما كان على ظهر كتاب منها حديث إلا ويحفظه. قال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي: رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين. وقال إسحاق بن راهويه شيخ الإمام البخاري: كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر فأقول: ما فقه هذا الحديث ما تفسيره؟ فيسكتون جميعاً إلا أحمد. وقال أبو بكر الخلال تلميذ الإمام أحمد: كان أحمد قد كتب كتب أهل الرأي -وهم الأحناف- وحفظها ثم لم يلتفت إليها. وقال يحيى بن آدم الإمام الحافظ: أحمد بن حنبل إمامنا. وكان الإمام أحمد أعلم الناس قاطبة بحديث سفيان الثوري، قال شيخه عبد الرحمن بن عدي: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري فلينظر إلى هذا. وأشار إلى الإمام أحمد. قال المروزي تلميذ الإمام أحمد: غشي على الإمام أحمد عند ابن عيينة لما زحمه الناس، فقال شيخه سفيان بن عيينة: مات خير الناس، ظن أنه قد مات لما اشتد الزحام، والإمام أحمد يقول: كفى! وهم يدوسون عليه فغشي عليه، ثم أفاق بعد ذلك رحمه الله. أراد شيخ أن يدخل على الإمام أحمد فقال: كنا عند ابن عيينة سنة ففقدت أحمد بن حنبل أياماً فدللت على موضعه، فجئت فإذا هو في شبيه بكهف في مكان يسمى جياد بمكة بعد الصفا، فقلت: سلام عليكم أأدخل؟ قال: لا، ثم قال بعد ذلك: ادخل. قال: فدخلت عليه فإذا عليه قطعة لبد خلق -يعني: قطعة من الصوف مقطعة- فقلت له: لم حجبتني؟ فقال: حتى استترت منك، فقلت: ما شأنك؟ قال: سُرقت ثيابي، مثل ما كانوا في مجلس مالك بن دينار فقعد الرجل يقول كلاماً فأبكى الجميع، وبعدها أتى يبحث عن نعله فلم يجده فقال: كلنا يبكي فمن سرق النعل؟ فقال هذا الرجل: فبادرت إلى منزلي فجئته بمائة درهم فعرضتها عليه فامتنع، فقلت: قرضاً فأبى. وظل ينقصها حتى بلغت عشرين درهماً فأبى، فقمت وقلت: ما يحل لك أن تقتل نفسك، فقال: ارجع، فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عيينة؟ قلت: بلى قال: تحب أن أكتبه وأن أنسخه لك؟ قلت: نعم. فقال: اشتر لي ورقاً فاشترى له الورق، فنسخ له الإمام أحمد من كتابه في هذه الأوراق فكتب بدراهم اشترى منها ثوبين، وهذا يدل على عفّة العلماء وورعهم، وربما جمع أحدهم المرقعات من المزابل فغسلها في نهر دجلة فصنع منها ثوباً يكسو عورته، ثم يبكي ويقول: ما ضرهم ما أصابهم! جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة. واستمع إلى العجب العجاب من إمام أهل السنة: قال الإمام أحمد: قدمت صنعاء أنا ويحيى بن معين فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته. الإمام أحمد اكترى نفسه عند الجمّالين حمالاً يأخذ متاع الناس الحجيج الذاهبين من مكة إلى اليمن، فكان يخدمهم وهو إمام أهل السنة، وذلك لأنه سمع أن عند عبد الرزاق الصنعاني إمام أهل اليمن ومحدثها أحاديث ليست عنده، فأراد أن يأتي إلى عبد الرزاق، ولا توجد وسيلة إلا أن يخدم قافلة للحجيج ذاهبة إلى اليمن. ذهب الإمام أحمد ووصل إلى بيت عبد الرزاق في قريته، قال: فلما ذهبت أدق الباب، قال لي بقّال: لا تدق فإن الشيخ يُهاب، وعبد الرزاق الصنعاني كانت له هيبة عظيمة مثل الإمام مالك يقولون عنه: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان وكان الملك العادل ملك مصر، كان إذا رأى عبد الغني المقدسي يقوم له فيقولون له: إنه فقير وإنه قارئ، قال: والله ما دخل عليَّ مرة إلا وخُيِّل إليّ أنه سبع، فالبقال يقول للإمام أحمد: لا تدق عليه الباب فإن للمشايخ هيبة، قال: فلما ذهبت أدق الباب قال لي بقال تجاه داره: مه لا تدق فإن الشيخ يُهاب، فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج، فوثبت إليه وفي يدي أحاديث انتقيتها، فسلمت وقلت له: حدثني بهذه رحمك الله فإني رجل غريب. فقال: ومن أنت؟ وزبرني -يعني كلمه بشدة- فقلت: أنا أحمد بن حنبل فتقاصر عبد الرزاق وضمني إليه، وقال: بالله أنت أبو عبد الله؟ ثم أخذ الأحاديث وجعل يقرؤها حتى أظلم الليل، فقال للبقال: هلم المصباح حتى خرج وقت المغرب، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب، ولما ذكر الإمام عبد الرزاق الصنعاني الإمام أحمد دمعت عيناه وقال: بلغني أن نفقته نفدت قال: فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب وما معنا أحد فقلت: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، يعني: القمح أو الذرة أو الشعير قال: وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء. قا عبد الرزاق: فقال لي: يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك. ولم يقبل الإمام أحمد بن حنبل. وكان أحمد بن حنبل يصلي إماماً بـ عبد الرزاق الصنعاني فسها الإمام أحمد، فسأل عنه عبد الرزاق: لماذا سها في صلاته بالقرآن؟ فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام، يعني: من شدة الجوع نسي آيات من كتاب الله عز وجل.

مصدر علم الإمام أحمد

مصدر علم الإمام أحمد قال أبو بكر بن أبي شيبة: لا يقال لـ أحمد بن حنبل: من أين قلت؟ لأنه نهر جار، ولا يقال له: أين دليلك، ودليله على ذلك السمع. قال ابن نمير: كنا عند وكيع بن الجراح فجاءه جماعة من أصحاب الإمام أبي حنيفة، فقالوا: هل هنا رجل بغدادي؟ يقصدون الإمام أحمد، فلم يعرفه وكيع، فبينما وكيع جالس إذ طلع أحمد بن حنبل فقالوا: هو هذا! قال: هاهنا يا أبا عبد الله، فجعلوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي ينكرون، هذا يقول: كذا! وهذا يقول: كذا! وهذا جعل أبو عبد الله يحتج بالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لـ وكيع: بحضرتك. فقال: رجل يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا أقول له؟ ثم قال وكيع: ليس القول إلا ما قلت يا أبا عبد الله! فقال القوم لـ وكيع: خدعك والله البغدادي. وقال عالم: وضع أحمد بن حنبل عندي نفقته فقلت له: يا أبا عبد الله! بلغني أنك ذو حسب ونسب، فقال: يا أبا النعمان! نحن قوم مساكين. وقال أبو زرعة الرازي لـ عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث -مليون حديث- قال الذهبي: هذه حكاية صحيحة تدل على سعة علم الإمام أحمد وكانوا يعدون له الأحاديث المقررة والآثار عن الصحابة وفتاوى التابعين وتفسيراتهم، كل هذا كان يحفظه الإمام أحمد، فقد بلغ ما يحفظه من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الموقوفة عن الصحابة والمقطوعة وفتاوى التابعين ألف ألف حديث، وفي عصرنا هذا الذي يحفظ رياض الصالحين يقولون عنه: شيخ!

زوجات الإمام أحمد وأولاده

زوجات الإمام أحمد وأولاده رحل إلى الكوفة لطلب الحديث ولم يكن استأذن والدته، فرجع إلى أمه ليستأذنها في الرحلة لطلب العلم فبارك الله له في طلبه. تزوج الإمام أحمد وهو ابن أربعين سنة فرزقه الله خيراً كثيراً. إذاً: الإمام أحمد أجّل الزواج لسن الأربعين لشغله بطلب الحديث، وأمر الزواج يختلف من رجل إلى رجل، والأحكام الشرعية للزواج تدور بين الندب والوجوب والإباحة والكراهية والتحريم، فالرجل الذي يتعلم وليس له حاجة في النساء ولا يملك أي مال لا يتزوج؛ لأنه لو تزوج فإنه سيفتن هذه المرأة، وفي نفس الوقت هو لا يستطيع الباءة. وشيخ الإسلام ابن تيمية لم يتزوج، والإمام النووي لم يتزوج، والإمام أحمد أخّر الزواج لسن الأربعين، فالشاب الذي لا يستطيع الزواج عليه بالصوم فإنه له وجاء، وطالب العلم الأولى له أن يؤخِّر. تزوج الإمام أحمد عباسة بنت الفضل فولدت له أكبر أبنائه صالح ابن الإمام أحمد. ثم توفيت فتزوج بعدها ريحانة فولدت له عبد الله، وقيل: إنها كانت عوراء اختارها لدينها. ثم اشترى جارية اسمها حُسْن، والجارية حين ينكحها تصبح أم ولده، مثل مارية فهي لم تكن من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت جارية للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أنجبت إبراهيم صارت أماً لولده، فالإمام أحمد اشترى جارية فولدت له أم علي زينب، ثم ولدت له الحسن والحسين وماتا، ثم ولدت الحسن ومحمداً فعاشا حتى بلغا سن الأربعين سنة، ثم ولدت له سعيداً. إذاً: هذا حال الإمام أحمد وحال زوجاته.

مولد الإمام أحمد

مولد الإمام أحمد ولد الإمام أحمد في ربيع الأول سنة (164هـ). مات أبوه شاباً وتولت أمه تربيته. أم تربي مثل الإمام أحمد وأم تربي مثل الشافعي، وأم تربي مثل سفيان الثوري، فكل أم خلفت ابناً وصنعت منه رجلاً عظيماً. فقد كانت أم سفيان الثوري تقول: يا بني! تعلم العلم وأنا أكفيك بمغزلي هذا. وأم الشافعي تبيع له أنقاض بيتها. كذلك أم الإمام أحمد صنعت من ابنها رجلاً، إذ مات زوجها وهو شاب، فولدت هذه الأم الجبل الإمام العظيم أحمد بن حنبل، ولكن لا يعرف ما اسمها؟ إلا أنه يكفيها أنها صنعت الإمام أحمد. يقول الإمام أحمد: ثقبت أمي أذني وصيّرت فيهما لؤلؤتين، فلما ترعرعت نزعتهما، فكانتا عندها ثم دفعتهما إلي، فبعتهما بنحو من ثلاثين درهماً.

بداية طلبه للحديث

بداية طلبه للحديث تلقى الإمام أحمد الحديث، وكان بداية طلبه للحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، أي: في العام الذي مات فيه مالك وحماد بن زيد. سمع الإمام أحمد من ابن بشير، وأكثر عنه حتى سمع منه أكثر من ثلاثة آلاف حديث، وقد تأدب الإمام أحمد في مجلس شيوخه غاية الأدب، قال: ما نلنا هذا العلم إلا بالذل ولا نبذله إلا بالذل، ومكث أربع سنوات في مجلس هشيم بن بشير شيخه لا يكلمه في مسألة هيبة له. ومن شيوخ الإمام أحمد سفيان بن عيينة الهلالي وأيوب بن النجار وأبو خالد الأحمر وعِلي بن ثابت ويزيد بن هارون. فالإمام أبو خالد كان يجلس له في مجلس الدرس تسعون ألفاً، وقد روى الإمام أحمد في المسند عن مائتين وثمانين شيخاً من شيوخ الحديث، وكتب عنه شيخه هشيم بن بشير ثلاثة آلاف حديث.

الدعوة إلى دين رب العالمين

الدعوة إلى دين رب العالمين إن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فقد بذلوا في سبيلها الغالي والنفيس. وطريق الدعوة طريق طويل، فقد تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وأوذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم. فقم بواجبك أيها المسلم تجاه الدعوة إلى الله تكن من الفائزين.

مكانة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأهميتها

مكانة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأهميتها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]. ويقول تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]. وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:41 - 44]. أناضل إلى دين عظيم وهبته عطاء مقل مهجتي وحياتي وممتثل لله أسلم وجهه يقول أنا وحدي سأحمي ديني بظهري ببطني بالضلاع بمقلتي بجنبي بعظم الصدر حتى التراقي على ذروة التوحيد تخفق رايتي وتحت روابيها تصب دمائي إن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى عظيمة كريمة رفيعة في كل ما يمت إليها بصلة، رفيعة لأن الله هو العلي، وكريمة لأنها أتت إلينا: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:13 - 16]. والدعوة إلى غير الله دعوة خسيسة لئيمة، يقول الله تبارك وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:9 - 14]. إن الرجل يستطيع أن يعمي ويلبس على كل من في الأرض، لكنه لا يستطيع أن يعمي ويلبس على من في السماء، ويستطيع أن يكذب على أهل الأرض جميعاً، لكنه لا يستطيع أن يكذب على من في السماء، قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13]. والدعوة إلى غير الله تبارك وتعالى لئيمة، يقول تعالى حاكياً عن فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26]، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. ويقول الله تبارك وتعالى عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. فهؤلاء الذين يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل لا تكون دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى أبداً، وإنما هي دعوة إلى الطواغيت المقنعة: هبل رمز السخافة والخيانة والعمالة والدجل هتافه التهريج ما ملوا الثناء زعموا له ما ليس عند الأنبياء ملك تجلبب بالضياء وجاء من كبد السماء هو عالم ومعلم هو عبقري ملهم ومن الجهالة ما قتل وثن يقود جموعهم يا للخجل! لقد بذل الصالحون في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى الكثير، بل بذلوا الأنفس والمهج في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه الدعوة ربها وسيدها ومالك أمرها هو الله تبارك وتعالى. وقفة: إذا أردت أن تخدم فاعقل من تخدم، وإلى من تدعو، ثم ادع بعد ذلك، فحينئذ تصيب في تلك الخدمة والدعوة. وإذا تدبرت علمت أن رب هذه الدعوة مستو على العرش، يدبر أمر الممالك، فيعز ويذل، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الليل والنهار، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله. إليه يا أهل الموت والفناء! يا من تفني آجالكم ممر الساعات، واختلاف الليل والنهار، وهما شعبة يسيرة من سلطانه، كيف تستنكفون عن عبادته ولا رب لكم غيره، ولا وارث لكم سواه، ينادى على باب عزته: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويصاح على محجة حجته: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟! قال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:13 - 14]. وقال تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:72 - 73]. وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:15 - 16]. وقال الله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47]، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]. فكل موافق ومخالف يمشي وفق مشيئته، وتحت قبضته، يقول أبو جعفر المنصور لأحد العباد: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به أعناق الجبابرة. هذا في دار الدنيا فكيف بقهر الله لعباده في الآخرة؟ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61 - 62]. إذاً: فهذه الدعوة ربها وسيدها هو الله عز وجل، وإن بذل الناس فيها ما بذلوا.

تكفل الله سبحانه بنصر عباده ودعوته ودينه

تكفل الله سبحانه بنصر عباده ودعوته ودينه إن الله تبارك وتعالى قد تكفل بنصر عباده، وبنصر دعوته، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52]. قال جبريل لأم إسماعيل عليها السلام هاجر: لا تخشي الضيعة؛ إن الله لا يضيع أهله. فلا تنظر إلى الدعوة فإن لها رباً سيحميها ويحفظها، ولكن انظر إلى نفسك أنت، إن الله لا يضيع أهله، فاحرص على أن تكون من أهل الله، واترك الأمر إلى رب السماوات والأرض: لا تدبر لك أمراً فأولو التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا والله تبارك وتعالى يحفظ عباده بما يغيب عن عقولهم، ويحفظ عباده بالنواميس الأرضية، فالمهم أن يكون عند العباد ثقة، فهذا سيدنا نوح عليه السلام ماذا قال لقومه عندما سحروا منه بقولهم: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود:38]، لم يقل: فإنا سنسخر منكم يوم القيامة، وإنما قال: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] يعني: في لحظتنا هذه وفي وقتنا هذا. وقال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]. ويزعم أنه منا قريب وإنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإقتار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)! وهذا مثال لحفظ الله لدعوته ولأنبيائه ولعباده الصالحين: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. انظر كم قتل فرعون من أجل ذبح موسى، قتل آلافاً مؤلفة من بني إسرائيل، وجعل الجواسيس يبحثون عن أي طفل رضيع فيذبحونه، وعندما ولدت أم موسى موسى ألهمها الله تبارك وتعالى أن تلقي بولدها في لجج البحر وأمواجه، مع أن المرأة إذا خافت على وليدها ضمته إلى صدرها، فما بال أم موسى تلقيه في البحر؟ ثقة بما عند الله تبارك وتعالى، ويقيناً بما عند الله تبارك وتعالى، فألهمها الله تبارك وتعالى أن تضع ولدها في تابوت وتلقيه في البحر، فسبحان من جعل من موج البحر لموسى مستراحاً ومأمناً ومناماً، وجعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً. فيتهادى التابوت ليصل إلى قصر فرعون؛ لتكون المعركة في بيت فرعون، يا فرعون لقد تعبت في سبيل البحث عن موسى فها نحن قد أتينا إليك بموسى رضيعاً فافعل به ما شئت، وحينما يفتح التابوت يرى الذي قال فيه المولى تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فأسر الجمال الموسوي آسية عليها السلام، وقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]. فماذا قال فرعون البائس؟ قال: أما لك فنعم قرة عين وأما لي فلا، والبلاء موكل بالمنطق، فنفعها الله تبارك وتعالى بهذه الكلمة فآمنت بموسى، وفرعون خذله الله تبارك وتعالى، فانظر يا فرعون كم قتلت من بني إسرائيل من أجل موسى، ونحن نقول لك: لا نربيه إلا في حجرك؛ ليكون هلاكك بعد ذلك على يده. إن الله تبارك وتعالى يا إخوتاه! لم يحم عبده وكليمه بكوكبة من الملائكة، ولا بفرسان من البشر، وإنما حماه بستر رقيق من المحبة يغلف قلب آسية، ففرعون أهون وأحقر عند الله تبارك وتعالى من أن يوكل عليه ملكاً من الملائكة، هذا الذي طغى وعتا حمى الله تبارك وتعالى كليمه منه بقول امرأة: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، فيقول لها فرعون: سمعاً وطاعة لا تَقْتُلُوهُ، فينفذ أمر آسية التي بعد ذلك آمنت بموسى، وتخلت عن ملكها وعن أبهات الملك، والمرأة بطبيعتها أضعف ما تكون أمام إغراء المجتمع، ولكن آسية الصامدة تتخلى عن هذا كله، وكانوا يعذبونها، فإذا ذهبوا عنها أظلتها الملائكة، {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. وقلب الله تبارك وتعالى النعم التي أعطاها لفرعون نقماً عليه، فقد عذب بالماء وبكل ما يتصل بالماء، وبالجراد وبالقمل وبالضفادع، ثم كانت نهايته أن أغرقه الله تبارك وتعالى بالمياه التي افتخر بها. يقول جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد! وأنا أدس في فيه من حال البحر المنتن؛ حتى لا تدركه رحمة الله تبارك وتعالى)، فكونوا على يقين بنصر الله تبارك وتعالى لجنوده وأوليائه وأنبيائه وعباده الصالحين.

ضرورة إعطاء الدعوة حقها من التضحية والفداء

ضرورة إعطاء الدعوة حقها من التضحية والفداء لا تسترخصوا الدعوة؛ فالدعوة غالية، فأعطوها كل أوقاتكم، ونهاية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ومآلها إلى الجنة، ولا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى، ولقد أعطي النبيون ما أعطوا، وأعطي العلماء والدعاة ما أعطوا بالدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132 - 133]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت ما غفل عن الدعوة، تقول السيدة أم سلمة: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتى ما يفيض بها لسانه) تعني: حتى ثقل لسانه الطاهر المطهر عن أن ينطق بها، ونحن ما زلنا أحياء أقوياء أفلا نعطي الدعوة حقها؟ إن كان الله تبارك وتعالى يقول لنبيه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] يعني: تكاد تموت من الغم على هذه الدعوة، وعدم استجابة الناس لها. تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: يوم العقبة، يوم عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب). يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مشى في الطريق ولم يعرفه ولم يفق إلا في قرن الثعالب؛ وذلك بسبب همه في أمر الدعوة، فقد ينطلق الرجل مهموماً للبحث عن لقمة العيش إذا وجد أولاده يصرخون من الجوع فلا يفيق إلا في منتصف الطريق، فنريد من الرجل أن يمضي في طريقه وهو مهموم يحمل عبء الدعوة، فلا يفيق إلا بعد مدة، هذا حال أنبياء الله تبارك وتعالى. قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، وإذا بسحابة قد أظلتني فيها جبريل، فسلم علي ثم قال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث معي ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فسلم ملك الجبال بالنبوة ثم قال: يا رسول الله إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولكني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً). (وجاء أعرابي مشرك ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم تحت شجرة وسيفه معلق عليها فاخترط سيفه، ثم لوح بالسيف في وجه رسول الله فقال له: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله، فيبست يده وسقط السيف منها، ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: يا محمد! كن خير آخذ، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني لا أكون مع قوم يقاتلونك، ولا أقاتلك أبداً، فلما رجع قال: أيها الناس! جئتكم من عند خير الناس، جئتكم من عند محمد صلى الله عليه وسلم). فالدعوة الهادئة تصل إلى قلوب الناس بسرعة، ودعوة الفطرة تصل إلى قلوب الناس بسرعة، ويتحمس لها الدعاة إلى الله تبارك وتعالى. وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عند أن بلغ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثين رجلاً أصر على رسول الله بالظهور بالدعوة، فقال: (إنا قليل يا أبا بكر) فما زال حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق رسول الله والصحابة كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر خطيباً بين الناس، فكان أول خطيب يدعو إلى الله تبارك وتعالى ورسول الله جالس يستمع. قال: فقام المشركون إلى المسلمين وضربوهم ضرباً شديداً، وقام الفاسق عتبة بن ربيعة الكافر إلى أبي بكر بنعلين مخصوفتين يضرب بهما وجه أبي بكر، حتى ما يعرف أنفه من وجهه، وأقبلت بنو تيم فحملوا أبا بكر في ثوب وهم لا يشكون في موته، فأوصلوه إلى البيت ثم عادوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن مات أبو بكر قتلنا به عتبة بن ربيعة، ولم يفق أبو بكر إلا في آخر الليل، فكانت أول كلمة قالها: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنالوا منه بألسنتهم، ثم وكلوا به أمه أم الخير، فما زالت به، قال: والله! لا أذوق طعاماً حتى أنظر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث بها إلى أخت عمر بن الخطاب، ثم استند على أمه حتى وصل إلى رسول الله، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رق له وبكى، وبكى المسلمون. يقول سيدنا أنس: (ضرب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فدفعهم عنه أبو بكر الصديق وقال لهم: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، فقالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فتلهوا به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا رسول الله، ثم أتوا إلى أبي بكر رضي الله عنه فظلوا يضربونه حتى حمله قومه إلى دارهم، فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من غدائره إلا وسقط معها لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام!). يقول سيدنا علي: والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون؛ هذا يكتم إيمانه، وهذا يعلن إيمانه. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، وأخفت في الله ما لم يخف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي وبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواريه إبط بلال)، ورسولكم صلى الله عليه وسلم شد الحجر على بطنه من شدة الجوع، ولله خزائن السماوات والأرض، وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب ومثل بجثته، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشق رأسه، ولله جنود السماوات والأرض. ويقول له الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5]، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7].

ضرورة نشر الدعوة في كل مكان وعدم اختصاصها بالمساجد

ضرورة نشر الدعوة في كل مكان وعدم اختصاصها بالمساجد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فلقد كان رسولكم صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تبارك وتعالى في السوق وفي الطريق، وكلكم تعلمون حديث ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك)، قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في الطريق. يقول سيدنا معاذ: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، فقال: أتدري يا معاذ! ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فما بالنا لا ندعو إلا في المسجد، لتنتشر الدعوة حتى تشمل الطرقات، وحتى تشمل تجمعات الناس. اصرخ بدينك في الطريق اصرخ بجرحك في رءوس لا تفيق قل: إنه الطوفان يأكلنا ويطعم من بقايانا كلاب الصيد والغربان والفئران في الزمن العقيم لا بد من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى في الطريق وفي الأسواق، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى الأسواق يدعو إلى الله تبارك وتعالى، ويقول: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويراه أبو لهب فيحثو التراب على وجهه، ويقول: لا تتبعوا هذا الصابئ، إنه يريد أن يصدكم عن عبادة اللات والعزى) ونحن يا إخوتاه! ما دعونا إلى الله ولم يحث التراب على وجوهنا، ما فعل بنا هذا، وأمامنا طريق طويل، وإن وضع على رءوسنا التراب فإننا على الدرب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل به هذا ونحن لسنا أكرم على الله تبارك وتعالى من رسوله، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يبشرك إن ذهبت إلى السوق بأنك ستأخذ أجر دعاء السوق، والحديث حسنه الشيخ الألباني، وإن ضعفه الشيخ مقبل. فاخرج إلى السوق وادع إلى الله تبارك وتعالى، وإن لم يكن عندك علم فقل: أيها الناس! تعالوا إلى المسجد فصلوا تدخلوا الجنة، وأظن الجميع يستطيع أن يقول هذا، إن بائع الفاكهة حين يبيع سلعته يرفع صوته عند الدعوة إلى بضاعته، فما بالنا نستحي من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ونخجل، وكأنها بضاعة كاسدة، مع أن هذه البضاعة تؤدي بنا إلى الجنة؟! وما بالنا لا ندعو إلى الله تبارك وتعالى في السوق؟ (فرسولكم صلى الله عليه وسلم ركب حماراً له بأرض سبخة، فقال له عبد الله بن أبي بن سلول: ابتعد عني يا محمد! فإن رائحة حمارك تؤذيني، فقال أحد الأنصار: والله لريح حمار رسول الله أطيب من ريحك). ونحن نقول للعلمانيين وللمنافقين وللزنادقة: لريح حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب من ريحكم، فما ظنك بنقاب عائشة رضي الله عنها! فالنقاب الذين تتكلمون عنه هو أطهر من الطهر. ويسخر كل أفاك دعي ديوث من نساء المسلمين ويهزأ بالحرائر بالنقاب وقد لبسته أم المؤمنين فلستم من نقاب وليس منكم فذا شرف لسكن الطاهرين وما عرف العفاف لكم طريقاً وفاح الطهر من بيت الأمين أترم بيوت طهر يا لئيم! وبيتك من زجاج هش لين يعني: هب أن النقاب سنة، ولكن قد لبسته أمهات المؤمنين، فبهذا يصير شعاراً ويجب أن يحترم، وأما أن يسخر منه فهذا شأنهم، فإن كانوا مسلمين فليحكموا بيننا وبينهم الكتاب والسنة، وإلا فليفعلوا ما يشاءون. فالأمر ليس أمر نقاب وليس تطرف وليس كذا ولا كذا، إنما المتطرف هو الخبيث عادل إمام الذي يطعم كلبه لحم حمام مشوي بمائة وعشرين جنيهاً يومياً، مرتب اثنين من الموظفين، هذا هو المتطرف والله، المتطرفون هم الذين يذبحون المسلمين في البوسنة والهرسك، وهم الذين يحاصرون الآن تسعين ألف مسلم، فهؤلاء هم المتطرفون، ولسنا نحن المتطرفين، وإنما نمضي على طريق الله تبارك وتعالى، فادع إلى ربك إنك على صراط مستقيم.

تضحية الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في سبيل الدعوة إلى الله

تضحية الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في سبيل الدعوة إلى الله في سبيل هذه الدعوة لاقى الصالحون ما لاقوا، فأين أنت يا مخنث العزم! والطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار في البكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اتهم في عرض زوجته، وذبح سعيد بن جبير وما في الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه، وذبح الحسين بن علي، وداست الخيل فمه الذي قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أجل هذه الدعوة ضرب ابن حنبل، يقول شاباص التائب الذي كان يكلف بضرب ابن حنبل: والله لقد ضربت ابن حنبل ضرباً لو كان في فيل لهده. وقال أيضاً: لقد فاق أحمد بن حنبل الشطار، يعني: صبر أكثر مما يصبر المجرمون، قال: لقد فاق أحمد بن حنبل الشطار، والله لقد ضربته لو أنيخ لي بعير فضربته لنقبت عن جوفه، وتحمل الإمام أحمد بن حنبل ما تحمل، وكانت نفسه عليه مثل ما قالوا عن سعيد بن المسيب: كانت نفسه عليه في الله أهون من ذباب، تلمحوا ببصيرتهم عاقبة ما عند الله تبارك وتعالى، فهان عليهم كل شيء في سبيل دينهم. كان أحدهم إذا أريد على دينه دارت عينه في حماليقها، وغضب لله تبارك وتعالى، ولولا سياط على ظهر ابن حنبل ما صار إمام أهل السنة والجماعة، وقال له رجل: يا بن حنبل! اصبر لأمر الله، فإن يقتلك الحق تمت شهيداً، وإلا تعش حميداً مجيداً. وكان الإمام أحمد يدعو لـ أبي الهيثم اللص الطرار، كان يقول: اللهم اغفر لـ أبي الهيثم، اللهم سامح أبا الهيثم، فقال له ولده: من أبو الهيثم يا أبت؟ فقال: أبو الهيثم اللص الطرار، قال: لما مددت للسياط إذا برجل يجذب ثوبي من خلفي وقال: يا ابن حنبل: أما تعرفني؟ قال: قلت: لا، قال: أنا اللص الطرار أبو الهيثم، ضربت ثمانية عشر ألف سوط تحملتها من أجل الدنيا ومن أجل الشيطان، أفلا تصبر أنت لطاعة الرحمن؟ فنفع الله تبارك وتعالى الإمام أحمد بهذه الكلمة. وهذا أبو نعيم الفضل بن دكين لما أتي به ليتكلم في مسألة خلق القرآن قال: والله لعنقي أهون علي من زري، فقام أحمد بن يوسف وكان بينه وبين الفضل بن دكين شحناء، قام إليه وقبل رأسه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً. وهذا البويطي تلميذ الإمام الشافعي يقول عنه الربيع بن سليمان المرادي: إنه مات في حديده في فتنة خلق القرآن، وكان يقول: والله لأموتن في قيدي؛ حتى يأتي أناس من بعدنا يعلمون أنه في سبيل هذا الأمر مات أناس في حديدهم. يا دامي العينين والكفين إن الليل دائم لا غرفة التعذيب باقية ولا ضرب السلاسل وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل من يتهاون عن الدعوة يظل قلقاً أبداً، ومحروماً أبداً من الطمأنينة الإيمانية، فيا إخوتاه! انشروا الدعوة إلى الله تبارك وتعالى. قيل للشافعي: يبتلى الرجل أم يمكن؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى. فاصبروا على أمر الله تبارك وتعالى، وادعوا في كل مكان وفي كل طريق وعمارة وشارع، فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى لا تدانيها منزلة بعد منزلة النبوة. يقول الإمام ابن القيم: والدعوة إلى الله أشرف مقامات التعبد: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. ويقول الحسن البصري: هذا ولي الله، هذا حبيب الله. يا إخوتاه! إن الداعي إلى الله تبارك وتعالى الذي يفضح شبه العلمانيين والأقزام والزنادقة والمنافقين يأخذ أجر المهاجر في سبيل الله، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، بل ويأخذ أجر المجاهد في سبيل الله، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] أي: بالقرآن، وهذا في سورة مكية. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أتى إلى مسجدي هذا لعلم يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره). فلا تقيسوا دعوتكم بدعوة الظالمين، فدعوتكم سندها الله تبارك وتعالى العلي الأعلى، ولا تقيسوا دعوتكم بدعوات أرضية ترتبط بأشخاص، تخلقها الضرورات، وتذهب بها الأحداث والليالي، ادعوا إلى الله تبارك وتعالى كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما دعا نوح، وكما دعا يوسف، فقد دعا يوسف إلى الله تبارك وتعالى وهو في السجن، دعا الرجلين قبل أن يجيب مسألتهما؛ دعاهما إلى الله تبارك وتعالى. وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي ليرى أن قد عقلت وعندكم عقلي ونوح دعا إلى الله تبارك وتعالى ليلاً ونهاراً، ورسولكم صلى الله عليه وسلم وهو مطارد في يوم الهجرة دعا بريدة بن الحصيب الأسلمي وقومه إلى الله تبارك وتعالى، فأسلموا. يا إخوتاه! إن أنفاس الدعاة وقف لله تبارك وتعالى، فمن أراد المنزلة القصوى من الجنة فعليه بالمنزلة القصوى في الدنيا، وهي الدعوة إلى الله تبارك وتعالى. اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين. اللهم تقبل توبتنا، وأجب دعوتنا، واسلل سخائم صدورنا. اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، وبباك نقف فلا تطردنا. اللهم إنا نشهد أن لا إله إلا أنت، لك الحمد كله، ولك الملك كله، اللهم يا حنان يا منان اللهم فك الكرب عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم فك الكرب عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم احفظ دماءهم، اللهم احفظ دماءهم، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم آمنهم في بلادهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقم الصلاة.

الرسل والرسالات

الرسل والرسالات الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان لا يتم الإيمان إلا به، وأهمية الإيمان بالرسل نابعة من أنهم الواسطة بين الله وبين خلقه، والمبلغون لشرعه، والأمناء على وحيه، وهم من دلوا الخلق على الله، وعرفوهم بحقوقه، وأقاموا دينه، وجاهدوا فيه. وقد ضل في باب الرسل والأنبياء طوائف من الناس بين غال فيهم جعلهم فوق رتبتهم، وجاف عنهم متنقص لهم، وهدى الله أصحاب المنهج الحق إلى الصواب في المسألة، فأنزلوا الرسل منازلهم واعتقدوا الحق فيهم.

الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان

الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير من ما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. أما بعد: فالإيمان برسل الله تبارك وتعالى والإيمان بالرسالات أصل من أصول الإيمان بالله تعالى، يقول الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136].

تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

معنى النبي

معنى النبي النبي لغة: مشتق من النبأ، وهو: الخبر، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]. والنبي صلى الله عليه وسلم مخبرَ من قبل الله تبارك وتعالى، مخبرَ عن الله تبارك وتعالى، ومخبِر عن الله تبارك وتعالى لقومه. وقيل أيضاً: النبي مشتق من النبوة، والنبوة هي المكان المرتفع عن سطح الأرض. وتطلق أيضاً على كل علم من أعلام الأرض يهتدي به الإنسان في سيره. والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي: أن النبي له قدر عظيم عند الله تبارك وتعالى وعند الناس، والأنبياء أعلام هدى يخرج الله عز وجل بهم الناس من الظلمات إلى النور.

معنى الرسول

معنى الرسول والرسول مشتق من الإرسال، والإرسال هو: التوجيه، تقول: أرسلت فلاناً إلى فلان إذا وجهته إليه، وفي قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، أي: إني باعثة بهدية مع شخص. وقيل أيضاً: الرسول هو الذي يتابع أخبار من أرسله، من قول العرب: جاءت الإبل رسلاً، يعني: جاءت الإبل متتابعة؛ فالرسول هو: من أرسله الله عز وجل إلى قوم بعينهم ليبلغهم أخبار الله تبارك وتعالى ووحيه.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول وأما الفرق بين النبي والرسول: فقال فريق من العلماء: لا فرق بين النبي والرسول، فالنبي هو الرسول. ويرد عليهم قول الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] فلو كان النبي هو الرسول لما ذكر الصفتين. وأيضاً يقول المولى عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52]، ففرق الله عز وجل بينهما. وأيضاً فرق المصطفى صلى الله عليه وسلم بينهما، فذكر عدداً للأنبياء وعدداً للرسل، فلو كان النبي هو الرسول لكان عددهم واحداً. فالقول الأول بأن النبي هو الرسول قول خطأ، وإن ذهب إليه فريق من العلماء. القول الثاني: إن الرسول أعم من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. وكتب الأزهر تقول: الرسول: هو رجل أرسله الله تبارك وتعالى إلى قوم من البشر وأمره بتبليغ الرسالة، والنبي: هو رجل أوحى الله عز وجل إليه ولم يأمره بتبليغ الرسالة. وهذا القول قول خطأ، وإن كان موجوداً في أكثر الكتب.

ضلال ابن عربي في الرسل والأنبياء

ضلال ابن عربي في الرسل والأنبياء وهذا القول دفع بعض الصوفية مثل محيي الدين بن عربي في كتابه فصوص الحكم، وفي كتاب الفتوحات المكية إلى أن يقول: إن هناك أنبياء خصوا بالتشريع وأنبياء خصوص الخصوص. يعني: إن كان النبي أوحى الله إليه بوحي ولم يأمره بالبلاغ فإنه من الممكن أن يكون هناك أنبياء بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم من أمته، وهذا القول نص عليه صراحة في كتبه هذه، فهو يقول: ومحمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل، وليس آخر النبيين. وربنا أرسله برسالة عامة للناس، ولا يمنع هذا أن يكون من أمته أنبياء. فالرسول له النبوة العامة، أي: له نبوة التشريع، ولكن يمكن أن يوجد أنبياء بعده، هذا عند محيي الدين بن عربي. بل إنه قال: إن حديث: (لا نبي بعدي) قصم ظهور الأولياء، وما أبقى للأولياء حاجة. وذهب أيضاً في كتابه فصوص الحكم إلى أن للأولياء خاتماً، وقال: أنا خاتم الأولياء، وبي ختمت دولة الأولياء. ثم فضل خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء، وقال: إن خاتم الأولياء يأخذ من الله مباشرة، أما خاتم الأنبياء فإنه يأخذ من الملك، أي: يأخذ بواسطة، وأما نحن فنأخذ من المعين الذي يأخذ منه الملك. وهذا قوله صراحة في فصوص الحكم.

الرد على من قال إن النبي غير مأمور بالبلاغ

الرد على من قال إن النبي غير مأمور بالبلاغ فأما بطلان القول بأن النبي لم يأمره الله عز وجل بالبلاغ فمن أوجه: الدليل الأول: أن المولى عز وجل نص صراحة في القرآن الكريم أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل، والإرسال يقتضي البلاغ، فعندما أقول لك: أنا أرسلتك إلى قوم، فالمعنى: بعثتك إليهم حتى تبلغهم شيئاً معيناً، فالإرسال يقتضي البلاغ، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52]، فالله عز وجل نص على أنه أرسل الرسل ووجههم كما وجه الأنبياء إلى قوم بعينهم، فالإرسال يقتضي البلاغ. الدليل الثاني: ما رواه الإمام البخاري والإمام مسلم والإمام النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط)، أي: النبي يأتي يوم القيامة ومعه جماعة من الناس، قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد). فمعنى قوله: (رأيت النبي ومعه الرهط) أو: (رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان) أن النبي تكلم معهم وبلغهم شيئاً من أمر الله، فاستجابوا له وامتنع الباقون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت النبي)، لم يقل: رأيت الرسول. فإذا قال أحد: إن الحديث مروي بالمعنى، قلنا: هذا رواه الإمام مسلم، والإمام مسلم كان يروي الحديث باللفظ دون المعنى. الدليل الثالث: قول الله تبارك وتعالى عن يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، ويوسف كان نبياً ومع هذا بلغ الرسالة إلى صاحبي السجن بنص القرآن الكريم. الدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] وهذا يوحي أن النبي كان يبلغ شيئاً من وحي الله تبارك وتعالى وينفذ تعليمات الملك إلى قومه. الدليل الخامس: وهو أوضح الأدلة على وجوب البلاغ على الأنبياء، وهو حديث الحارث الأشعري كما في الوابل الصيب: (إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات تعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب). ولو كان لا يجب عليه البلاغ لأنه نبي وليس برسول، لما قال: إني أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب؛ لأن ترك الأمر المستحب لا يوجب عقاب المولى عز وجل. إذاً: التعريف الذي نحن نختاره: أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله. فسيدنا موسى عليه السلام نزل برسالة وهي التوراة، وبعد موت موسى عليه السلام قام أنبياء بشريعة التوراة وليس بشريعة جديدة، وإنما قاموا يبلغون ويقررون شريعة رسول الله الذي قبلهم، ولذلك فإن داود وسليمان وزكريا ويحيى -وهم أنبياء- بعثهم الله تبارك وتعالى بشريعة موسى عليه السلام، وهي التوراة، ولذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم -أي: تحكمهم- الأنبياء بشريعة موسى، كلما مات نبي خلفه نبي).

عدد الأنبياء والمرسلين وحكمة الله في ذلك

عدد الأنبياء والمرسلين وحكمة الله في ذلك عدد الأنبياء والرسل مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ورسول، عدد الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر. والله عز وجل من رحمته بالخلق أرسل عدداً كثيراً من الأنبياء والرسل، يقول المولى عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً صححه الشيخ الألباني عن أبي ذر الغفاري قال: (قلت: يا رسول الله! كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً). وفي رواية أبي أمامة عن أبي ذر قال: (قلت: يا رسول الله! كما وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً). وسيدنا أبو ذر يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً)، رواه الإمام أحمد، وأورده التبريزي في مشكاة المصابيح، وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. وهناك رسل قصهم الله عز وجل في القرآن، ورسل قصهم علينا الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة، ورسل لم يخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم شيئاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، ومعنى ذلك: أن في رسل المولى عز وجل من لم يقص الله من أخبارهم شيئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول المولى عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]. فنحن نؤمن بأن الله عز وجل أرسل رسلاً وأنبياء، وقص علينا بضعاً منهم في القرآن الكريم، وقص علينا الرسول شيئاً عنهم في السنة، والله عز وجل تفرد بأخبار رسل لم يقصها على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يأتي أحد فيقول: الرسل والأنبياء هم المذكورون في القرآن الكريم فقط، فنقول له: بل هناك رسل غيرهم لا نعرف عنهم شيئاً، فهناك رسل لم يقصهم الله تبارك وتعالى.

الأنبياء والرسل الذين ذكرهم القرآن الكريم والسنة النبوية

الأنبياء والرسل الذين ذكرهم القرآن الكريم والسنة النبوية

الأنبياء والرسل الذين صرح القرآن بذكرهم

الأنبياء والرسل الذين صرح القرآن بذكرهم والرسل والأنبياء الذين ذكرهم الله عز وجل في القرآن الكريم بأسمائهم خمسة وعشرون رسولاً ونبياً، ثمانية عشر منهم ذكروا في سورة الأنعام، والسبعة الباقون متفرقون في سور القرآن الكريم. فالذين في سورة الأنعام قصهم الله عز وجل علينا في قوله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:84 - 86]، فهؤلاء ثمانية عشر. وقد ذكر أنبياء ورسلاً متفرقين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} [آل عمران:33]، وسيدنا آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً، واختصه الله بالتكليم كما اختص موسى وكما اختص رسولنا صلى الله عليه وسلم، فسيدنا آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً. وفي الحديث الصحيح: (أنبياً كان آدم يا رسول الله؟! قال: نبي مكلم). وقال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]. وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود:50]. وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [هود:61]. وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود:84]. وقال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].

الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم إشارة

الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم إشارة وهناك أنبياء ذكروا في القرآن الكريم إشارة ولم يذكروا بأسمائهم، وهم الأسباط أولاد سيدنا يعقوب، وعددهم: اثنا عشر رجلاً، قص الله عز وجل علينا منهم يوسف فقط. والأنبياء رسل، وإن لم يقل بهذا الشيخ محمد علي الصابوني، والأسباط كانوا رسلاً بنص قول الله تبارك وتعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:136]، أي: وما أنزل إلى الأسباط، وهذا يدل على نبوتهم. ويقول المولى عز وجل: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] فالأسباط أنبياء كما في هذه الآية. ودليل آخر: قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:84].

ذكر نبوة ذي النون والخضر وشيث

ذكر نبوة ذي النون والخضر وشيث وهناك أنبياء مذكورون في السنة ولم يذكروا في القرآن الكريم، ومنهم: ذو النون، وهو يونس عليه السلام، وهو مذكور في القرآن الكريم، وفي الحديث: (لا يقولن أحدكم: أنا خير من يونس بن متى)، وهذا حديث صحيح. والخضر ما نص النبي صلى الله عليه وسلم على نبوته، وإلا لما اختلف العلماء هل كان نبياً أم لا؟ والراجح وهو جمهور أهل السنة: أنه كان نبياً، ولكن لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم صراحة على ذلك. وشيث ابن سيدنا آدم، أنزل الله عز وجل عليه خمسين صحيفة، كما رواه الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، وقال: وكان نبياً بنص الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعاً: (أنه أنزل عليه خمسون صحيفة).

ذكر نبوة يوشع بن نون وبيان الفضيلة التي اختصه الله بها

ذكر نبوة يوشع بن نون وبيان الفضيلة التي اختصه الله بها وسيدنا يوشع بن نون فتى موسى كان نبياً، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]، ولا يوجد نص على نبوته في القرآن الكريم. وقد خصه الله بفضيلة عظيمة، حيث إن الله عز وجل ما حبس الشمس إلا له، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والإمام مسلم: (غدا نبي من الأنبياء -وهو سيدنا يوشع بن نون - فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يلم بها ولما يلم بها)، يعني: رجل عقد على امرأة ولم يدخل بها؛ لأنه سيبقى مشغولاً بها. قال: (ولا رجل قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفه)، أي: لأنه يريد أن يأتي بالحديد والإسمنت فهو مشغول عن الجهاد. قال: (ولا رجل قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغدا فدنا من القرية -بيت المقدس- حين صلى العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست له الشمس). قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي انفرد بروايته الإمام أحمد -وهو حديث صحيح على شرط البخاري -: (إن الشمس لم تحبس إلا لـ يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس).

بيان من اختلف في نبوتهم

بيان من اختلف في نبوتهم

ذو القرنين

ذو القرنين وهناك صالحون مشكوك في نبوتهم، منهم: ذو القرنين وتبع. يقول الله عز وجل: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86]، فهل قال الله عز وجل هذا القول لـ ذي القرنين مباشرة أو عن طريق نبي؟ يميل سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص إلى الجزم بنبوة ذي القرنين، وجزم بهذا أيضاً الحافظ ابن حجر وقال: وظاهر القرآن يؤيد ذلك، أي: وظاهر القرآن يؤيد نبوة ذي القرنين. وسيدنا علي بن أبي طالب نفى ذلك بإسناد صحيح عنه، فهذا نتوقف في الحكم له بالنبوة أو عدمها.

تبع

تبع وأما تبع فكان ملك اليمن وكان مسلماً؛ لأنه ثبت أنه قال أحاديث حينما أتى إلى المدينة وقال: لو عشت إلى أن يصل أحمد لكنت وزيراً له وابن عمه. وكان ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ولكن هل كان نبياً أم لا؟ الأولى أن نتوقف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف، فلم يقطع بالنبوة ولم ينفها عن ذي القرنين أو عن تبع. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني: (ما أدري أتبع نبي أم لا، وما أدري أذو القرنين نبي أم لا)، فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري فغيره أولى. فالرسول صلى الله عليه وسلم توقف في الحكم بالرسالة لـ ذي القرنين ولـ تبع، ولم يثبت النبوة لهما ولم ينفها عنهما.

الخضر عليه السلام

الخضر عليه السلام وبالنسبة للخضر، فهناك رسالة طيبة للحافظ ابن حجر اسمها: النبأ الزهر في شأن الخضر، وهي من ضمن الفتاوى المنيرية، وأظنها في المجلد الثاني ضمن مجموع الفتاوى المنيرية. والخضر يستدل به الصوفية على أن الولي يجوز له أن يخرج عن ظاهر الشريعة؛ بدليل أن الخضر قتل الغلام، وأن الولي خير من النبي؛ بدليل أن سيدنا موسى قال: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، والحقب ثمانون سنة، وذلك حتى يذهب إلى الخضر ثم يجلس بين يديه مجلس الطالب المتعلم الذليل المتواضع له، فيقولون: الولي أفضل من النبي، حتى قالوا: مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي وقال قائلهم أيضاً: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله. وعبد الحق بن سبعين يقول: لقد حجر ابن آمنة واسعاً إذ زعم أن لا نبي بعده. وأولى الأقوال -وهو ما ندين به لله عز وجل وعليه أهل السنة والجماعة- أن الخضر كان نبياً.

الأدلة على نبوة الخضر

الأدلة على نبوة الخضر ويدل على ذلك سياق القصة، فالله تبارك وتعالى يقول: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، قال العلماء: هذه رحمة النبوة، والعلم هو علم الوحي الذي اختص الله به نبيه الخضر. وهذا الدليل ليس واضحاً قوياً. والدليل الثاني وهو أوضح: أن سيدنا موسى نبي ورسول من أولي العزم، وهو معصوم في تحمل الرسالة وفي أدائها وفي تبليغها، وقد أجمع علماء المسلمين أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، فلا يجوز للنبي أن يزيد في الوحي، أو أن ينقص منه، أو أن يشك فيه، أو أن ينسى شيئاً منه، هذا في جانب التبليغ؛ قالوا: فكيف يجوز لنبي معصوم من أولي العزم مثل موسى عليه السلام أن يتلقى العلم من رجل غير معصوم. يعني: لو كان الخضر ولياً فيمكن أن يخطئ في العلم ويمكن أن يصيب، فكيف يتلقى المعصوم علمه من رجل غير معصوم في تبليغ العلوم الشرعية، بل ويحرص على لقياه ولو أن يمضي ثمانين سنة، وعندما يقابله يتواضع له ويجله ويجلس منه مجلس المتعلم الذليل، قالوا: وهذا يحق في شأن الخضر؛ لأنه نبي يعلم موسى أن الله عز وجل قد خصه بأسرار من علمه تبارك وتعالى لم يخص بها موسى. ولذلك جاء في القصة التي يروونها: أن العصفور أتى ونقر نقرة من ماء البحر فوضعها على فخذ الخضر، فقال: أتدري ما يقول العصفور يا موسى؟! قال: علم ذلك عند ربي، قال: يقول العصفور: أنت يا خضر! على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ولا موسى، وموسى على علم علمه الله إياه لا أعلمه أنا ولا أنت، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت ولا موسى، وما علمي وعلمك وعلم موسى بجانب علم الله إلا كهذه القطرة إلى جانب الماء. أي: اختص الله عز وجل نبيه الخضر بشيء من الوحي لم يخص به موسى عليه السلام، فاحتاج موسى إلى معرفته؛ حتى يستزيد من هذا العلم. وأيضاً الخضر أقدم على قتل الغلام وخرق السفينة، ولو كان هذا مجرد خاطر فقد أجمع العلماء على أن الأولياء خواطرهم غير معصومة، ولا يجوز للولي أن يخرق ظاهر الشريعة، ويقول بسقوط التكليف، ولا يقول: أنا ولي ويفعل الفاحشة؛ فضلاً عن أن الخضر يقول: أوحي إلي بالقتل، وزيادة على ذلك يقول: إنه أمر بقتل الغلام، وأنه لو امتد به العمر لكان سبباً في كفر والديه، فكيف يعلم هذا؟ والدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، ففصل الخضر لموسى أن هذا وحي من الله تبارك وتعالى، قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]، ويقول المولى عز وجل: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]. وهذا يدل على أن الخضر كان نبياً ولم يكن ولياً.

الاختلاف في كون الخضر حيا أم قد مات

الاختلاف في كون الخضر حياً أم قد مات وهل الخضر حي الآن أو قد مات؟ اختلف في ذلك أقوال العلماء، حتى اضطرب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، فهو يقول عنه في مجموع الفتاوى في صفحة: إنه حي، وفي الصفحة التي بعدها يقول: إنه ميت، وهذه فتوى صريحة لا تحتمل تأويلاً، وهي بحاجة إلى مراجعة في مجموع الفتاوى، وهذا مما اضطرب فيه قول شيخ الإسلام ابن تيمية. وذهب جمع كثير من العلماء إلى: أن الخضر حي لم يمت، وأن إلياس حي لم يمت، ووردت في ذلك أخبار كثيرة؛ وهي ضعيفة وباطلة لدرجة أن الإمام النووي قال: إن الرجل الذي يخرج من المدينة ويقتله المسيح الدجال ثم يحييه مرة ثانية هو الخضر. قال هذا في شرح مسلم، وهذا القول قول مرجوح. وذهب كبار المحدثين ومنهم الإمام البخاري وابن دحية وابن كثير وابن حجر العسقلاني إلى أن الخضر قد ميت. والدليل على أن الخضر قد مات: ما قاله الإمام أحمد بن حنبل لما سأله إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وإلياس وأنهما باقيان يشاهدان ويروى عنهما؟ فقال: من أحال على غائب لم ينصف. ثم قال الإمام أحمد: وما ألقى هذا إلا الشيطان. والدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما كان جالساً في حلقة من أصحابه كما رواه الإمام البخاري: (لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد). والدليل الثالث: أنه لو كان الخضر حياً لكان قاتل في معركة بدر وفي أحد وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان فك الخلاف في سقيفة بني ساعدة ولاستشاره المسلمون، فليس من المعقول أن يذهب إلى البراري والفيافي والقفار والجبال ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يحارب وحده حتى يشج رأسه في أحد، وكيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). وكيف وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على النبيين والخضر منهم؛ يقول المولى عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. فكيف يترك الخضر نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان حياً؟! هذا لا يعقل ولا يجوز.

بيان أن الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل

بيان أن الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، لا كما يقول أصحاب الأفكار القذرة الذين اخترعوا ديناً اسمه الوحدة الوطنية، وترى الواحد منهم يصعب عليه أن يقول: إن النصارى كفرة، وهذا جاء في آية من آيات القرآن لا من عند أهل السنة ولا أتى به أهل السنة، بل هذا جاء في كتاب الله عز وجل إن كانت لكم عقول وإن كنتم مسلمين، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151]. وإذا أتيت بواحد منهم وقلت: أنت تعترف بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ يقول لك: نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وهذه الشهادة لو قالها نصراني دخل في الإسلام. ولو أن أحداً ارتد عن الإسلام فإنه لا يرجع إليه إلا بالنطق بالشهادتين وبنقض ما ارتد به وخرج به من الإسلام، يعني: إن كان قال: الصلاة في الإسلام ليست واجبة، فنقول له: أنت مرتد، ارجع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين، ثم بالإقرار بأن الصلاة واجبة، أي: يعترف بما جحده. وإذا قال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول للعرب وليس للناس جميعاً، أي: أنه معترف بالرسول لكن للعرب فقط وليس لجميع الناس؛ فإن علم ذلك من حاله فنطقه بالشهادتين لا يكفي لدخوله في الإسلام، بل لا بد من الإقرار بأن محمداً رسول الله إلى الناس كافة، وأن رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع. فهؤلاء كفرة بنص القرآن الكريم.

نفي وجود رسل بين عيسى ومحمد عليهما السلام

نفي وجود رسل بين عيسى ومحمد عليهما السلام والنبوة لا تثبت إلا بدليل صحيح إما من القرآن وإما من السنة. وأما من قال: إن قرقيس وخالد بن سنان والرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى آل ياسين في سورة يس رسل؛ فنسأله: هل هناك رسل بعد سيدنا عيسى عليه السلام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا نبي بيني وبينه)؟ فليس هناك أنبياء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سيدنا عيسى. فلو قال: إن هؤلاء الأنبياء بين سيدنا عيسى وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجوز، فإن كانوا قبل عيسى فخير وبركة كما ذهب إليه الشيخ عمر الأشقر. وقول من قال: إن خالد بن سنان -وهو عربي- كان نبياً من الأنبياء بين عيسى والمصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخلت عليه بنت خالد بن سنان قال: (أهلاً بابنة أخي، أهلاً ببنت نبي ضيعه قومه) فهذا الحديث لا يصح. والأنبياء من العرب أربعة: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر!

موقف العقلانيين اليوم تجاه الأنبياء والوحي والعقل والرد عليهم

موقف العقلانيين اليوم تجاه الأنبياء والوحي والعقل والرد عليهم والعقلانية تقول: إن الأنبياء الخمسة والعشرين كانت لزمان العيش في الجبال، وأما في القرن العشرين ونحن نركب الصواريخ ونطلق الأقمار فإن الناس غير محتاجة للرسل، وإن العقل بمفرده كاف لهداية البشرية؛ بدليل أنهم يردون الوحي الذي هو حق المولى عز وجل من القرآن ومن السنة ويقدمون عليه العقل، فيجعلون العقل حاكماً على الكتاب والسنة.

العقل يقود البراهمة إلى عبادة الحيوان

العقل يقود البراهمة إلى عبادة الحيوان والبراهمة وهم قوم من المجوس يزعمون أن إرسال الرسل عبث، وأن العقل يغني عن الرسل. وهؤلاء البراهمة الذين يقولون: إن العقل يغني عن الرسل، كان أحدهم قائداً كبيراً جداً في القرن العشرين ولم يغنه عقله حتى عبد البقرة، فـ غاندي كان يقول للناس: عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً؛ لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع. ثم يقول: وأمي البقرة تفضل على أمي الحقيقية من عدة وجوه: فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طوال العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً ولا تطلب منا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي. ثم يقول: إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعد نفسي واحداً من هؤلاء الملايين. فهذا زعيم ورجل كبير يعبد البقرة. وأكبر من هذا ما نقلته مجلة العربي الكويتية عن معبد أنفق عليه ملايين الملايين من الدولارات، وهو مكسو بالرخام الأبيض، وهذا المعبد ينفق عليه آلاف النذور والهدايا، والإله الذي يقدمون إليه هذه النذور هو الفئران، فهم يعبدون الفئران، فانظر كيف قاد العقل البشرية إلى الدمار!

عجز العقل عن معرفة قضايا الغيب والأوامر الشرعية وصفات الله تعالى وأفعاله بدون الوحي

عجز العقل عن معرفة قضايا الغيب والأوامر الشرعية وصفات الله تعالى وأفعاله بدون الوحي وبالنسبة لموقف العقل من الوحي، فهناك أشياء يقف العقل عاجزاً عنها تماماً، كالغيب والجنة والنار والقيامة وصفة النار، ولو أتيت بأي عاقل بدون وحي فإنه لا يستطيع أن يتكلم فيها كلمة واحدة. والأوامر الشرعية والنواهي والمباحات، وأن هذا واجب، وهذا مستحب، وهذا مندوب، وهذا جائز، لا يستطيع العقل أن يخبرنا عنها شيئاً بدون الشرع، وصفات الله تبارك وتعالى وأسماؤه وأفعاله عز وجل بالأمم الغابرة لا يستطيع العقل أن يتكلم عنها. وهناك مجالات يقف العقل أمامها عاجزاً، حتى قال القائل: من أنت يا أرسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما بنيت له وشيد هل أنتمو إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد والعاقل ينهى عن أن يقحم العقل في غير مجاله.

عجز العقل عن معرفة حسن وقبح الأفعال تفصيلا

عجز العقل عن معرفة حسن وقبح الأفعال تفصيلاً العقل أيضاً يعلم حسن الحسن وقبح القبيح على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل، فلا يستطيع العقل وحده أن يحدد أن هذا الفعل حسن أو قبيح، نعم يعلم قبيح القبيح وحسن الحسن على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل. أيضاً: إن كان الفعل فيه مصلحة وفيه مفسدة فكيف يحدد العقل أن المصلحة تربو على المفسدة أو أن المفسدة تربو على المصلحة؟

بيان عدم التعارض بين العقل الصريح والوحي الصحيح

بيان عدم التعارض بين العقل الصريح والوحي الصحيح يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الوحي يخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول. والعقل السليم النظيف لا يصطدم بالوحي الصريح الصحيح، فالوحي يخبر بمحارات العقول، أي: عن الحاجات التي يحتار فيها العقل، فالوحي يفسرها له ويوضحها، فهو يخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول، يعني: لو كان العقل نظيفاً وسليماً مائة في المائة فلا تأتي سنة صحيحة بمخالفته كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض المنقول مع صريح المعقول، أو: درء تعارض العقل والنقل.

نسبة أهل الكتاب القبائح إلى الأنبياء

نسبة أهل الكتاب القبائح إلى الأنبياء وأما موقف الأدعياء من عصمة الأنبياء فهناك قبائح نسبها إليهم اليهود عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين إلى يوم القيامة، وقبائح نسبها إليهم النصارى عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين إلى يوم القيامة.

أولا نسبة اليهود القبائح إلى الأنبياء

أولاً نسبة اليهود القبائح إلى الأنبياء فمن هذه القبائح: قال اليهود في الإصحاح (32) عدد (1) من سفر الخروج: نبي الله هارون عليه السلام صنع عجلاً وعبده مع بني إسرائيل. وقالوا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام في الإصحاح (12) عدد (14) من سفر التكوين: إن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قدم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها. وهذه قبيحة نسبوها إلى سارة، وهي بريئة منها. وقالوا أيضاً كما ورد في سفر التكوين إصحاح (19) عدد (30): إن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنا بهما الواحدة بعد الأخرى! وقالوا: إن يعقوب عليه السلام سرق مواشي حميه وخرج بأهله خلسة دون أن يعلمه! وهذا موجود في سفر التكوين إصحاح (31) عدد (17). وقالوا: إن روابين ابن سيدنا يعقوب زنى بزوجة أبيه يعقوب، وإن يعقوب عليه السلام علم بهذا الفعل القبيح وسكت! وهذا موجود في سفر التكوين إصحاح (35) عدد (32). وسبحان الله! حتى الغيرة برءوا منها الأنبياء، وأحد الناس شكته امرأته في محكمة شرعية وكانت منتقبة وادعت أنه ضربها على وجهها، فأمرها القاضي أن ترفع النقاب، فقال له زوجها: ما حصل هذا الكلام ولكن الذي تقوله حق، لكن لا ترفع عنها النقاب، ثم نظر إلى امرأته وقال: أغار عليكِ من نفسي ومني ومنكِ ومن مكانكِ والزمان ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني فقال القاضي: اكتبوا هذا في ديوان الأدب. وهم يقولون: إن سيدنا يعقوب علم أن ابنه زنى بامرأته ثم سكت. وقالوا: إن داود عليه السلام زنى بزوجة رجل من قواد جيشه، ثم دبر حيلة لقتل ذلك الرجل فقتل، وبعدئذ أخذ داود هذه الزوجة وضمها إلى نسائه، فولدت له سليمان. وقالا: إن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها الهياكل والتماثيل! هؤلاء هم اليهود.

ثانيا نسبة النصارى القبائح إلى الأنبياء

ثانياً نسبة النصارى القبائح إلى الأنبياء أما بالنسبة للنصارى فليسوا بأفضل من اليهود في هذا، فقد نسبوا إلى الأنبياء والرسل القبائح، منها: ما ورد في إنجيل متى: أن عيسى عليه السلام من نسل سليمان بن داود عليهما السلام، وإن جده فارض هو من نسل الزنا. وهذا أوردوه في إصحاح متى الأول عدد (10). وفي إنجيل يوحنا إصحاح (2) عدد (4): أن يسوع أهان أمه في وسط جمع من الناس، أي: شتم أمه في وسط جمع من الناس. فأين هذا من قول الله تبارك وتعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:32]؟ وأيضاً في إنجيل يوحنا إصحاح (10) عدد (8): أن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سراق ولصوص. يعني: أن سيدنا المسيح عليه السلام قال: إن كل الأنبياء سراق، وهذا طبعاً لا يجوز.

موقف الفرق من عصمة الأنبياء

موقف الفرق من عصمة الأنبياء

موقف الشيعة من عصمة الأنبياء

موقف الشيعة من عصمة الأنبياء وأما موقف العلماء من عصمة الأنبياء، فالشيعة قالوا بعصمة الأنبياء من الصغائر ومن الكبائر، سهواً أو عمداً أو نسياناً، قبل الرسالة وبعدها، من يوم أن يخلقوا حتى يبعثوا، ووافقهم القاضي عياض على دعوى العصمة قبل النبوة وبعدها من الصغائر ولو سهواً.

موقف أهل الكلام من عصمة الأنبياء

موقف أهل الكلام من عصمة الأنبياء وأما المتكلمون ومنهم الآمدي والباقلاني من الأشاعرة فقالوا: إنه لا يمتنع عليهم الكبائر قبل النبوة، وقالوا: ممكن أن الأنبياء قبل النبوة يفعلون الكبائر والصغائر، بل قالوا: لا يمتنع عقلاً أن يرسل الله من أسلم وآمن بعد كفره، يعني: زاد الباقلاني جواز الكفر على الأنبياء قبل الرسالة. أما بعد النبوة فقالوا: إن الأنبياء لا يجوز عليهم تعمد الكبائر أو فعلها، ويجوز عليهم الصغائر.

موقف أهل الحديث وغيرهم من عصمة الأنبياء

موقف أهل الحديث وغيرهم من عصمة الأنبياء ومذهب أهل الحديث ومذهب السلف، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، إلا صغار الخسة فهم معصومون أيضاً منها، أما باقي الصغائر فغير معصومين منها، وهذا هو قول علماء الإسلام وقول أكثر أهل الكلام وعلماء التفسير وعلماء الحديث وأكثر الأشعرية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول. يعني: أن الأنبياء معصومون من الكبائر ومن صغائر الخسة، وأما بقية الصغائر فيجوز عليهم أن يفعلوها، ولكنهم إذا فعلوها تابوا منها وأقلعوا عنها في الحال، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة. وهذا القول الفصل، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. والدليل على ذلك: قول الله تبارك وتعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، هذا عن آدم عليه السلام. وأما عن نوح عليه السلام فإنه لما فقد قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، قال له الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فقال نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]. وسيدنا داود عليه السلام قال الله عز وجل عنه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] وذلك لما حكم لخصم دون أن يسمع من الآخر. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]. وقال الله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2].

جواز الخطأ على الأنبياء في الاجتهاد دون التبليغ

جواز الخطأ على الأنبياء في الاجتهاد دون التبليغ ويجوز على الأنبياء أن يخطئوا في الاجتهاد كما مال إلى ذلك صاحب كتاب الموافقات الإمام الشاطبي؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]. وأما في تبليغ الرسالة للأنبياء فإن إجماع العلماء على عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة، فلا يجوز للنبي أن يزيد في الوحي ولا أن ينقص منه ولا أن يشك فيه، ولا أن ينسى شيئاً منه، إلا شيئاً ينسيه الله عز وجل إياه. قال الله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6]. وقال الله عز وجل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]. والأفعال البلاغية للأنبياء التي علموها القوم على سبيل التعليم، كأن يصلوا أمام الناس حتى يتعلموا الصلاة، هذا لا يجوز عليهم فيه الخطأ ولا السهو ولا النسيان. فإذا استقر الأمر واستقر هذا الفعل وعلمته الأمة ثم فعله النبي عبادة جاز عليه النسيان، كما نسي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.

بيان جواز وقوع النسيان والغضب من الأنبياء

بيان جواز وقوع النسيان والغضب من الأنبياء والأنبياء يجوز عليهم ما يجوز على البشرية من غضب أو نسيان، كما صح في الحديث: (إن المولى عز وجل حين خلق ذرية آدم نثرهم بين يديه، وجعل بين عيني كل منهم وبيصاً من نور، ثم قال آدم: يا رب! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال: من هذا يا رب؟! قال: نبي من آخر أمتك من ذريتك، قال: ما اسمه؟ قال: اسمه داود، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: فزده من عمري أربعين، فلما جاءه ملك الموت قال: أوليس قد بقي من عمري أربعين سنة؟ قال: أوليس قد أعطيت ابنك داود، فأخطأ آدم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وأخطأ آدم فأخطأت ذريته)، فإذاً: يجوز عليهم النسيان، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني. وأيضاً يجوز عليهم الغضب، فإن نبياً من الأنبياء لدغته نملة، فأمر بمتاعه فأخرج من تحت الشجرة، ثم حرق قرية النمل، فعاتبه الله عز وجل فقال: (فهلا نملة واحدة)، ومن هنا جاء النهي وتحريم قتل النمل.

ضلال الخوارج في عصمة الأنبياء والرد عليهم

ضلال الخوارج في عصمة الأنبياء والرد عليهم وبعض الفرق الضالة، مثل العجاردة أتباع عبد الكريم بن عجرد من الخوارج قالوا: إن النبي قد يزيد أشياء في الوحي؛ لأن سورة يوسف ليست من القرآن الكريم ففيها العشق والعاشق والمعشوقة، وهذا لا يكون من كلام الله، ليس من عند الله. والأزارقة جوزوا الكفر على الأنبياء قبل البعثة وبعد البعثة، فقالوا: ممكن للنبي أن يبعثه ربه بالرسالة ويبلغها ثم يكفر. وهذا قالت به الأزارقة من الخوارج الذين هم جماعة نافع بن الأزرق. وأما الفضلية من الخوارج فجوزوا الذنب على الأنبياء بعد البعثة، وكل ذنب عندهم كفر، فكفروا الأنبياء، وجوزوا كفر الأنبياء بعد البعثة. والأزارقة الذين قالوا بجواز الكفر على الأنبياء قبل البعثة وبعدها استدلوا بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]. والإمام أحمد قال: من قال بكفر النبي قبل البعثة يعزر ويؤدب، وهذا القول قول سوء، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه قط. وأما قول الله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] فإن الضلال في اللغة يطلق ويراد به أشياء، فيأتي الضلال بمعنى: الاضمحلال، يعني: الذهاب، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة:10]، أي: إذا غبنا في الأرض، تقول: ضل اللبن في السمن، وضل السمن في اللبن، يعني: غاب السمن في اللبن. فالضلال يأتي بمعنى الذهاب والاضمحلال. ويأتي الضلال أيضاً بمعنى: الكفر، ويأتي أيضاً بمعنى: الذهاب عن حقيقة الشيء، كما في قول الله عز وجل: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، يعني: لا يذهب عن حقيقة الشيء بل يعلم حقيقة كل شيء، وكما في قوله عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]. إذاً: يكون معنى قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7]، أي: ووجدك غافلاً عن أحكام الشرائع، لا تعرف الظهر كم ركعة، والعصر كم ركعة، والمغرب كم ركعة، والعشاء كم ركعة. وفي تفسير ثان وإن لم يختره الشيخ الشنقيطي ولكن اختاره قوم كثيرون من علماء التفسير، قالوا: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7]، أي: محباً، أي: ووجدك محباً للهدى فهداك. وقد جاء القرآن بذلك، فقال إخوة يوسف لأبيهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95]، يعني: في حبك القديم ليوسف. وهناك قول أصرح وهو قول كثير عزة لـ عزة: هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا يعني: حبك أشاب مني المفرقا. عجباً لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا يعني: بعد هذه السنين كلها وبعد شيبي في حبها. فيكون معنى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7] أي: وجدك محباً للهدى فهداك. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول (سيدنا) لآحاد الناس

حكم قول (سيدنا) لآحاد الناس Q هل يجوز أن نقول للمرء: سيدنا؟ A عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أبو بكر سيدنا وأعتق بلالاً سيدنا. وهذا ثابت عن عمر، فإن كان قاله عمر رضوان الله عليه فأحرى بنا أن نقوله، ولكن لم يستدل به العلماء، ففيما قرأته للحافظ ابن حجر لم يستدل به. والله أعلم.

ضابط صغائر الخسة

ضابط صغائر الخسة Q ما هي صغائر الخسة؟ A صغائر الخسة مثل لها الشيخ محمد بن سليمان الأشقر بسرقة الأشياء الصغيرة التافهة. والله أعلم.

الفرق بين الهم والعزم

الفرق بين الهم والعزم Q ما هو الفرق بين الهم والعزم؟ A العلماء فرقوا بين الهم والعزم، فقالوا: الهم: بدء الإرادة، والعزم: منتهاها، وقالوا: الهم هو الميل الغريزي أو الميل الطبعي، وقالوا: إن صرفه عنه وازع التقوى كتب له به حسنة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالسيئة فلم يفعلها كتبت لها بها حسنة). وأما العزم فاختلف العلماء هل يعاقب عليه الرجل أم لا يعاقب؟ ومال الشيخ الشنقيطي إلى أن الرجل يعاقب بالعزم على المعصية؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: قد عرفنا القاتل فما بال القتيل؟ قال: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه). والله أعلم.

تعريف الولي

تعريف الولي Q من هو الولي؟ A قال الشافعي: إن لم يكن العلماء أولياء لله تبارك وتعالى فليس على ظهر الأرض لله ولي. والولاية العامة يدخل فيها صالحو المؤمنين، ولكن الصوفية حينما يتكلمون عن الأولياء يقصدون العابد الذي يجري عليه الله عز وجل الكرامات أو خوارق العادات أو المشهور بالتعبد. فهم يقولون -وخاصة الذين يميلون إلى الفلسفة منهم كـ العفيف التلمساني وعبد الحق بن سبعين وابن إسرائيل ومحيي الدين بن عربي وعبد الكريم الجيلي -: بأن الأولياء أعلى رتبة من الأنبياء ومن الرسل، وقال أبو يزيد البسطامي: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله. وثبت هذا القول عنهم: مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي والولي يطلق في الاصطلاح على طائفة من العباد من خواص عباد الله تبارك وتعالى الذين هم دون الأنبياء منزلة. والله أعلم.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول Q ما الفرق بين النبي والرسول؟ A ما يميل إليه الشيخ عمر سليمان الأشقر: أن الرسول يأتي برسالة جديدة، وأما النبي فلا يأتي برسالة جديدة وإنما يرسله الله عز وجل بشريعة من كان قبله يقررها ويعمل بها ويدعو إليها. فمثلاً: سيدنا موسى كان رسولاً إلى بني إسرائيل وأتى بشريعة التوراة، والأنبياء ممن أتوا بعده دعوا قومهم إلى الله تبارك وتعالى وبلغوهم وحيه وهو التوراة.

مذهب أهل السنة في العمل بأحاديث الآحاد وأدلتهم على ذلك

مذهب أهل السنة في العمل بأحاديث الآحاد وأدلتهم على ذلك Q ما حكم العمل بحديث الآحاد؟ A بالنسبة لحديث الآحاد فالقول الراجح وهو قول الشافعي والبخاري: أنه يعمل به في مجال العقائد. وهناك رسالة طيبة للشيخ الألباني في حجية خبر الآحاد، والله تعالى يرسل الواحد إلى قومه بالتوحيد، وبعث رسول الله معاذ بن جبل إلى اليمن بالتوحيد، فقال له: (فادعهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى، فإن هم أجابوك لذلك) والتوحيد لا يحتمل الشك ولا الظن. وأيضاً يقول المولى عز وجل في سورة التوبة: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122]، والفقه في الدين يشمل الفقه الأكبر وهو التوحيد، والطائفة تطلق على الواحد فما فوقه. ويقول المولى عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، يقول الإمام البخاري: إن الطائفة تطلق على الواحد فأكثر. والله أعلم. فمذهب أهل السنة والجماعة حجية خبر الآحاد في مجال العقائد، وأن الأمة مطالبة شرعاً بالتعبد والعمل بخبر الآحاد. وبالنسبة لأحاديث عذاب القبر فقال العلماء: هي أحاديث آحاد، ولكن لا يكفر من ينكرها. والله أعلم.

حكم الانتفاع بمال الأب إن كان من حرام

حكم الانتفاع بمال الأب إن كان من حرام Q ما حكم أكل المرأة وشربها من مال أبيها الذي تعلم أن مصدره حرام؟ A إن كانت تقيم مع أبويها وينفق عليها والدها، وكان ماله مختلطاً من حلال وحرام، فيجوز لها أن تتورع عنه، وإن كان الغالب على مال أبيها الحلال فيجوز لها من باب الدعوة له أن تأخذ منه، ولكن إن كانت قادرة على الإنفاق على نفسها أو على أهلها من مالها فلا يجوز لها أن تأكل أو تشرب منه. والله أعلم.

حكم مجالسة النصرانية من أجل دعوتها

حكم مجالسة النصرانية من أجل دعوتها Q ما حكم مجالسة النصرانية ومحادثتها والأكل من طعامها بقصد دعوتها إلى الإسلام؟ A يجوز الأكل من مال النصرانية من أجل دعوتها، ويجوز الكلام معها، وإن جاز الأكل جاز الكلام من قبيل الدعوة، ولكن لا تواليها. والله أعلم.

ما ينبغي لطالب العلم من العبادة وطلب العلم

ما ينبغي لطالب العلم من العبادة وطلب العلم Q ما هي الخصال التي تنصح طلاب العلم بالتحلي بها؟ A السلفيون المفروض أن يكونوا أرق الناس أفئدة، فالرجل المتحلي بالعلم لا بد أن يكون من أرق الناس، وطالب العلم منوط به حفظ العلوم الشرعية مثل البخاري ومسلم نقول له: طلب العلم أولى، ولكن لو لم تكن كـ البخاري ولا الألباني ولا ابن باز ولا ابن عثيمين، ولا حتى تخطب جمعة، ولا تدرس درساً فعليك أن تحرص على العبادة والطاعات، وعليك الأخذ بقسط وافر من قيام الليل وخاصة في الشتاء، وقد صح عن عمر بن الخطاب أنه قال: الشتاء غنيمة العابدين. وقال أبو هريرة كما وصح عنه: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، فالتعب بالصوم والبرد ينسيك ألم الجوع، ثم تذهب إلى الله عز وجل بيوم قد حكم لك فيه بالصيام. ويقول الحسن البصري: إن الملائكة لتفرح بالشتاء للمؤمن. ويقول يحيى بن معاذ: ليل الشتاء طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك. فعلى الإنسان أن يكثر من قيام الليل، وعليه أن يكثر من الصيام فيأخذ نفسه ويجربها في صيام الإثنين والخميس، فإن استقامت يجربها في صيام يوم وإفطار يوم، وهذا أفضل الصيام. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ما مات حتى سرد الصوم، وكذلك عائشة ومالك بن أنس، لكن لا تأتي اليوم وتقول: أصلي من العشاء إلى الفجر وأصوم يوماً وأفطر يوماً، وبعد أسبوع تبغض نفسك العبادة، فلا تصلي حتى الصلوات الخمس. فالإنسان يأخذ نفسه بالتدرج حتى يستقيم على حال، فيأخذها بقيام الليل، ثم بالصيام، ثم بكثرة الأذكار، ثم بكثرة ذكر الموت وزيارة المقابر. ونقول للإخوة: عليكم بصلاة الفجر ولو عرفتم وغلب على ظنكم أنكم لا تصلون الفجر فناموا في المسجد لو كنتم عزاباً، ولو كنتم متزوجين فناموا عند أهاليكم ثم تعالوا إلى المسجد حتى لا تفوتكم صلاة الفجر، يقول صلى الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في ركعتي الفجر لأتوهما ولو حبواً). وإذا أراد الرجل أن يرطب قلبه فليرطبه عند ثلاث: عند قراءة القرآن، وعند صلاة الفجر، وعند الذكر، فإن وجده وإلا فليعلم أن الباب مغلق، وليسأل الله عز وجل أن يمن عليه بالقلب فليس له قلب. وبالنسبة للورد القرآني فاجعل لك ورداً تختمه كل أسبوع، تبتدئ من ليلة السبت ثم تختم يوم الخميس، وقد ورد أن الصحابة كانوا يختمون في الأسبوع. وإن ترقى بك الحال وعظم بك المقام فاختم في كل ثلاثة أيام، ولكن عليك بالوسط، فاختم في الأسبوع، ولا يفوتنك ولو ركعتين من القيام، وعليك بالصيام وكثرة الذكر والصمت وزيارة المقابر وصلاة الجماعة والحرص عليها، والمواظبة على الصف الأول وعلى صلاة الفجر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الرد على مصطفى محمود - تاريخ إنكار السنة

الرد على مصطفى محمود - تاريخ إنكار السنة لقد أراد الله الشر كوناً ولم يرده شرعاً، وقدر الله أن يتصارع الخير والشر لحكمة ارتضاها سبحانه وتعالى! وإن من أعظم الشرور في هذا العصر شر القرآنيين الذين أنكروا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفسروا القرآن بأهوائهم، وحكموا العقل وأعملوه في النصوص، فأقروا ما شاءوا وأنكروا ما شاءوا، فضلوا وأضلوا.

الرد على ما ورد من إنكار الدكتور مصطفى محمود للسنة في جريدة الأهرام

الرد على ما ورد من إنكار الدكتور مصطفى محمود للسنة في جريدة الأهرام

كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حفظتها المصادر

كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حفظتها المصادر الشيخ محمد عجاج الخطيب في رسالة الدكتوراه المسماة: (السنة قبل التدوين الفعلي في عهد عمر بن عبد العزيز) قال: حفظت لنا المصادر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوثيقة التي كتبت بينه وبين اليهود وبين مسلمي الأوس والخزرج، قال: وهذه موجودة. الكتاب الثاني الذي نقله العلماء كتاب أبي بكر لـ أنس بن مالك، حيث كتب له كتاباً فيه الصدقات التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الكتاب الثالث: صحيفة كانت في قائم سيف عمر بن الخطاب فيها صدقة السوائم نقلها عنه عبد الله بن عمر، ثم أخذها سالم بن عبد الله بن عمر فأعطاها لـ عمر بن عبد العزيز. ثم صحيفة لسيدنا علي بن أبي طالب كان يعلقها في سيفه، كتب فيها أسنان الإبل، وحرم المدينة، وأشياء من الجراحات. ثم صحيفة عن عبد الله بن مسعود نقلها عنه ابنه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وكان يحلف بالله أن هذا خط أبيه. ثم صحيفة كتب فيها قيس بن سعد بن عبادة وعبد الله بن أبي أوفى حديث الاستفتاح في الصلاة، دفعها إلى أبي بكر الصديق. ثم أيضاً كتاب لـ مصعب بن عمير. وكتاب لـ محمد بن مسلمة الأنصاري وجد في ذؤابة سيفه، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لربكم في أيام دهركم نفحات؛ فتعرضوا لها). وكتاب لـ سبيعة الأسلمية تروي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالنكاح بعد وفاة زوجها بقليل لما وضعت، ونقله الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية. وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم في الصدقات وفي الأسنان، وفي الديات. وكتاب سمرة بن جندب نقله عنه ابنه سليمان، قال محمد بن سيرين: في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير. رواه الإمام البخاري. وصحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري نقلها عنه سيدنا قتادة. وصحيفة صادقة لـ همام بن منبه موجودة في متحف برلين، ونقلها الدكتور محمد حميد الله فيها مائة وثلاثون حديثاً مروية بسند واحد. فأين يذهب مصطفى محمود من هذه الكتب؟ وهذه فقط الكتب التي كتبت في عهد النبوة.

احتجاج مصطفى محمود بأن السنة إنما جمعها بشر مثلنا والرد عليه

احتجاج مصطفى محمود بأن السنة إنما جمعها بشر مثلنا والرد عليه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: ففي جريدة الأهرام في يوم السبت الماضي كتب الدكتور مصطفى محمود تحت عنوان: ليس إنكاراً للسنة، قال: أما السنة القولية التي جمعها رواة الأحاديث عن الرسول الكريم فقد جمعها ودونها بشر مثلنا. فنقول: نعم. هم بشر؛ لكن ليسوا مثلنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم)، وسيدنا الإمام أبو حنيفة يقول: ما جاءنا عن رسول الله فعلى الرأس والعين، وما جاءنا عن الصحابة تخيرنا من أقوالهم، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال؛ لأن العلماء يعدوه من صغار التابعين. فيقول الدكتور: فهم بشر مثلنا غير معصومين في سلسلة من العنعنات عبر عشرات العصور، لم تدون الأحاديث إلا بعد زمن الخلفاء الراشدين وعلى عهد أيام سلاطين القصور. وهذا كذب، فقوله: إن السنة لم تدون إلا على عهد سلاطين القصور فيه طعن في عمر بن عبد العزيز فقد كان يلقب خامس الخلفاء الراشدين، وأيامه كانت أيام سنة، ولقد أمر عمر بن عبد العزيز بإحياء السنة وإماتة البدعة، فأيام سلاطين القصور هذه فيها غمز في عمر بن عبد العزيز.

احتجاج مصطفى محمود بأحاديث النهي عن تدوين السنة والرد عليه

احتجاج مصطفى محمود بأحاديث النهي عن تدوين السنة والرد عليه يقول الدكتور: ولقد أجمع رواة الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تدوين الأحاديث، وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لـ أبي هريرة. وهذا أيضاً كذب منه، فالإجماع الذي حكاه الشيخ أحمد محمد شاكر محدث الديار المصرية، والإجماع الذي نقله حافظ الدنيا الإمام الحافظ ابن حجر في فتح الباري على عكس ذلك. يقول الدكتور: وقد نهى عن تدوين الأحاديث وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لـ أبي هريرة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود في كلمات قطعية لا تقبل اللبس! أقول: أولاً نحسن الظن بكل المسلمين بداية، ونقول: إن الرجل يستفاد منه في مجال عجائب المخلوقات؛ فهذا مجاله، وأما فوق هذا فلا وألف لا، فقد ادعى الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأخذ الكتب وإحراقها، فمن أين أتت لنا السنة القولية والفعلية؟ والحمد لله أنه قد رد على أمثاله؛ لأن هذا أصل قول المستشرقين، حيث قالوا: إن السنة تأخر تدوينها إلى عهد عمر بن عبد العزيز أو أيام محمد بن شهاب الزهري، فهو أول من دون السنة، وهو رد على ذلك، واستشهد بحديث عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) رواه الإمام مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم. وقد أجاب العلماء على هذا الحديث بأنه حديث منسوخ بأحاديث أتت من بعده تجوز الكتابة، وحكى ذلك الإمام ابن قتيبة، والإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن، والشيخ أحمد محمد شاكر شيخ الديار المصرية، وذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح، والأحاديث التي فيها أمر بالكتابة وأتت متأخرة عن حديث أبي سعيد الخدري تبين هذا، منها: حديث رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة: (أن رجلاً من أهل اليمن قال: اكتب لي يا رسول الله! فقال: اكتبوا لأبي فلان). وفي رواية الإمام مسلم: (اكتبوا لـ أبي شاه) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم، ورواه الإمام مسلم في كتاب تحريم مكة وصيدها. الحديث الثاني: ما رواه همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو -يعني عبد الله بن عمرو بن العاص - فإنه كان يكتب ولا أكتب). وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص له صحيفة تسمى: الصحيفة الصادقة، نقلها علماء الحديث بتمامها، فليس معقولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحرق الأحاديث فيقوم سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص بإخفاء الأحاديث عنه ثم إخراجها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهل يعقل هذا؟ كذلك من الأحاديث في الرد عليه: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) رواه الإمام أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم في المستدرك والخطيب البغدادي في تقييد العلم، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة. وقال أبو جحيفة: قلت لـ علي رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل -الديات- وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر) رواه الإمام البخاري ومسلم. ثم قالوا أيضاً في الرد عليهم: وأين أنتم من كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل والمقوقس وغيرها؟! فأورد العلماء عدة أقوال في ذلك، منها: أن أحاديث النهي عن الكتابة كانت متقدمة، ثم نسخت بأحاديث إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يكتبوا عنه بعد ذلك. القول الثاني: أن النهي كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط الحديث بالقرآن، كما قال ذلك الإمام أبو سليمان الخطابي والقاضي عياض. القول الثالث: أن النهي كان خاصاً بوقت نزول القرآن، نقل ذلك الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني. قال الشيخ شاكر رحمه الله: أجمعت الأمة إجماعاً قطعياً على الأمر بتقييد العلم، والأمر بتقييد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 204): الأمر استقر، والإجماع -إجماع الصحابة- انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان. بهذا يكون الكلام الذي قاله الدكتور كذباً حيث يقول: انعقد الإجماع على حرق كل الأحاديث. ثم يأتي الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي هو أعلم الناس في علم الحديث فينقل الإجماع على استحباب تقييد العلم بل على وجوبه ولله الحمد.

الأدلة الواردة في وجوب اتباع السنة

الأدلة الواردة في وجوب اتباع السنة

حرص الصحابة على اتباع السنة وحضهم الناس على ذلك وزجر من خالفها

حرص الصحابة على اتباع السنة وحضهم الناس على ذلك وزجر من خالفها خير هذه الأمة الذي يعدل إيمانه بإيمان هذه الأمة بأسرها هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد قال: ما كنت تاركاً شيئاً كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت به؛ إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ. أو أن أضل. وسيدنا عمر بن الخطاب يقول: أيها الناس! اتهموا العقل على الدين، إن الرأي إنما كان مصيباً من رسول الله؛ لأن الله كان يريه ذلك، وإنما هو منا الظن والتكلف. وقال سيدنا عمر: إياكم وأصحاب الرأي! فإنهم أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا. وقال: أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل وما آلو عن الحق في يوم صلح الحديبية عندما يجيء سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لـ علي بن أبي طالب: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فيقول سهيل: ما نعرف اسم الرحمن ولكن اكتب مثل ما نكتب: باسمك اللهم) إلى آخر الصلح، فيعترض سيدنا عمر فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتراني أرضى وتأبى يا عمر؟!) فسيدنا عمر رأى أن الشروط فيها ضرر على المسلمين فقال: (يا رسول الله! أولسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالكافرين؟ قال: بلى، قال: أولست برسول الله؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) فيقول سيدنا أبو بكر لـ عمر: (الزم غرزه). وهذا سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهره). وهذا سيدنا عبد الله بن عباس يقول للصحابة: أيها الناس! يوشك أن تعذبوا وأن يخسف بكم؛ أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وقال عمر. وقال: أيها الناس! يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وقال عمر. ولما حدث أبو الدرداء معاوية: (أن رسول الله نهى بيع الورق والذهب إلا مثلاً بمثل. فقال: ولكني لا أرى بهذا بأساً؛ فقال أبو الدرداء: أيها الناس! من يعذرني من معاوية؟! أخبره عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك ببلدة أنت فيها). وعمران بن حصين رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله)، فيقول بشير بن كعب وكان يهودياً فأسلم: ولكنا نجد أن فيه رقة وضعفاً، وأن فيه خيراً، فقال: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن معاريضك! لا آتيك بحديث أبداً، فجعل الصحابة يقولون له: يا أبا نجيد إنه طيب! فما زالوا به حتى سكن عنه غضبه. وهذا سيدنا عبد الله بن عمر قال عنه سيدنا نافع: لو أن رجلاً رأى عبد الله بن عمر في اتباعه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم لقال: جن عبد الله بن عمر، كان يرخي عنان ناقته ويقول لـ نافع: لعل خفاً يقع على خف، أي: لعل خف ناقتي يجيء على خف الناقة التي كان يركب عليها النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يأتي إلى مكان بين مكة والمدينة فيحيد عن الطريق، وعندما يسأل عن ذلك؟ يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويأتي إلى شجرة بعينها يقيل تحتها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيل تحتها. وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع

الأدلة القرآنية على وجوب اتباع السنة والنهي عن مخالفتها

الأدلة القرآنية على وجوب اتباع السنة والنهي عن مخالفتها قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]. الدعوة إلى السنة فيها حياة للقلوب والأرواح: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]. وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2]. وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].

الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة وتحريم مخالفتها

الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة وتحريم مخالفتها ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين أيديكم أيام الصبر، للمتمسك منهم بما أنتم عليه أجر خمسين شهيداً، قالوا: منهم يا رسول الله؟! قال: بل منكم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: ما عندنا من كتاب الله أحللنا حلاله وحرمنا حرامه، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله). وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له عمر بن الخطاب: إنا نجد بعض صحف اليهود فتعجبنا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتهوكون أنتم بعدي -أي: أمتحيرون أنتم بعدي- وقد جئتكم بها بيضاء نقية؟! والذي نفسي بيده لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). وفي رواية: (أن عمر كانت عنده نسخة من التوراة، فجعل يقرأ فيها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يتغير وجهه ويغضب، فقال أبو بكر الصديق لـ عمر: ثكلتك الثواكل إن أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال عمر: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله! رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتهوكون أنتم بعدي؟ والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). وفي رواية: (والله لو بعث موسى فيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). فهذه أحاديث وآيات تدل على فضل الاتباع؛ قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وشأن عظيم أن تحِب وأعظم منه أن تحَب، ولن يحبك الله عز وجل حتى تتبع هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] ويقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فجعل طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عين طاعة لله عز وجل، وقال الله تبارك وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فهذه طاعة مستقلة لله فيما أمر به من قرآن، ثم طاعة مستقلة لرسول الله فيما حرمه ولم يحرمه الكتاب، ثم لم يفرد طاعة مستقلة لأولي الأمر، وإنما عطف طاعتهم على طاعتهم لله ورسوله كما قال أهل العلم. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

مناقشة أقوال من حكموا العقل على النقل والرد عليهم

مناقشة أقوال من حكموا العقل على النقل والرد عليهم

أول معصية سببها تحكيم العقل

أول معصية سببها تحكيم العقل الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فإن أول من عارض الله بعقله هو أبو مرة إبليس اللعين، فهو أول من عارض الشارع الحكيم، فقد حكم عقله حين أمره الله عز وجل بالسجود لآدم: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] فأول معصية كانت في هذا الكون سببها تقديم العقل وتحكيمه. يا إخوتاه! العقول بعد مجيء الشرع لا تستقل بتحسين ولا بتقبيح، وإلا فلماذا يزوج الواحد منا ابنته برجل غريب بعدما يجلس طوال عمره يؤكلها ويشربها ويلبسها أحسن الثياب؟! وهناك بعض العقول تقول لك: (جحا أولى بلحم ثوره)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الحمار الأهلي ولم يحرم الحمار الوحشي، أليس هذا حماراً وهذا حماراً، فلماذا يأتي التحريم في هذا والحل في هذا؟ وأكل لحم الخيل حلال، فلماذا يحرم أكل لحم البغال العقول لا تستقل بتحسين أو بتقبيح بعد مجيء الشرع، لكن الشرع هو الحاكم والعقل محكوم عليه، والشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها، أي يأتي بالأشياء التي تحتار العقول فيها من علم الغيب، فيأتي الشرع ليبينها للناس، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان همزة الوصل ما بين السماء والأرض. ونقول للناس: أي عقل نحتكم إليه؟ ألعقل الأوروبي الجاهلي الذي يبيح نكاح المحارم، وزواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، ويحل اللواط؟ أنحتكم إلى العقل الأوروبي لأجل أن نخترع القنبلة الذرية؟ أم نحتكم إلى عقل الهندوس الذي أباح لهم عبادة البقر والفئران؟ أم إلى عقل اليابانيين الذين يعبدون بوذا؟ أم إلى عقل عوام المسلمين من بائعي الترمس وبائعي الفول؟ بأي عقل نأخذ؟ عقل الرجل العامي أم الرجل المفكر؟! وفي الفلسفة هل نأخذ بعقل الفلاسفة الإلهيين أم الفلاسفة الماديين؟ وهل نأتي بأقوال لـ أرسطو وهي ما نفعت أمة اليونان ثم نضيع هدينا؟!

تاريخ أعداء السنة

تاريخ أعداء السنة يقول الإمام الشافعي: إنما فسد العرب لما اتبعوا لسان أرسطو طاليس. المعتزلة أتت بالمنطق وحكمته، وأتت بعلم الكلام وتركت لسان الفطرة والهدي القرآني الجميل.

تاريخ ظهور المبتدعة الذين ردوا السنة قديما

تاريخ ظهور المبتدعة الذين ردوا السنة قديماً وكان أول شيء أنه بدأ تغييب السنة من أيام الخوارج، حيث كفروا سيدنا علياً وحزبه، وسيدنا معاوية وحزبه، وأصحاب الجمل، ومن حضروا موقعة صفين، وقالوا: كل هؤلاء كفرة فكيف يؤخذ منهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! فأنكروا حد الرجم؛ لأنه أتى من شيعة علي وهم أناس كفار، وأنكروا حدوداً كثيرة لأنها أتت بالسنة عن طريق الصحابة الذين كفروهم. كذلك الشيعة كفروا الصحابة كلهم، وحكموا بالإسلام لخمسة عشر صحابياً من شيعة علي؛ ولذلك لم يقبلوا الأحاديث المروية عن كل الصحابة الذين كفروهم. ثم جاء المعتزلة وقالوا: العقل فوق النقل، العقل فوق السنة، وأي حديث يعارض العقل فلا نقبله؛ فقالوا: أحاديث الآحاد لا نأخذ بها في العقيدة، نريد الأحاديث المتواترة، ولذا ردوا حديث رؤية المؤمنين لربهم في الجنة وقد رواه ثلاثون صحابياً، بل إنهم كانوا قليلي أدب، فهذا عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة روى له الأعمش حديثاً فقال: لو قابلت الأعمش لقلت له: أنت كذاب، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته عليه، ولو لقيت الله لقلت له: ما على هذا أخذت الميثاق منا! ويقول النظام: من سمرة بن جندب؟ قبح الله سمرة! ويقول عن عبد الله بن مسعود في حديث انشقاق القمر أنه رآه بعينيه قال: كذب. ويقول: من علي بن أبي طالب قد أفتى برأيه فضل! ويقول: إن عمر بن الخطاب شك في إيمانه يوم صلح الحديبية. ويقول: لو شهد عندي علي بن أبي طالب وطلحة والزبير على رابطة بقل ما أخذت بشهادتهم. إذاً قالوا: إن أحاديث الآحاد كلها لا نأخذ بها؛ وقد حكى الإمام الشافعي في كتابه أنه قابل رجلاً من المبتدعة فقال له الرجل: لو أن رجلاً أخذ بركعتين فقط من الصلاة وأتى بأقل شيء من الصلاة ثبت له حكم الصلاة.

ظهور أعداء السنة من القرآنيين في الهند

ظهور أعداء السنة من القرآنيين في الهند وقد قتل سنة ألف وتسعمائة واثنين في الهند في قرية تسمى البنجاب رجل مخبول اسمه غلام نبي أو عبد الله الجكرالوي وكان المفروض أن يدخلوه مستشفى المجانين وقد أنشأ جماعة اسمها: جماعة القرآن وقال: لا نأخذ إلا بالقرآن ونرد السنة كلها. وجاء بعده أحمد برويز جردبوري وأحمد الدين الأمرتسري كل هؤلاء من مبتدعة الهند، وهم موجودون الآن في الهند، ينكرون السنة مطلقاً، فإذا قيل لهم: كيف تصلون؟ قالوا: الصلاة إما فرضان وإما ثلاثة فروض وإما خمسة فروض، المتقدمون منهم قالوا: نصلي خمسة فروض؛ لقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] فهذه هي الخمسة الفروض. ثم جاء المتأخرون منهم وقالوا: صلاة الظهر والعصر والمغرب هذه كلها بدعة، فنحن نصلي ثلاث ركعات فقط. وجاء أناس بعدهم وقالوا: نصلي فرضين فقط، وهما: الصبح والعشاء، والأذان ثابت في السنة لكنهم قالوا: لا يوجد شيء اسمه أذان. فإن قيل لهم: كيف تصلون؟ يقولون: إن الله كان علياً كبيراً، بدلاً من أن يقول: الله أكبر يقول: إن الله كان علياً كبيراً، ويقرأ الفاتحة ثم يقرأ عدة آيات. قلنا: فالركوع ستقول فيه: سبحان ربي العظيم وبحمده، يقول لك: بل أركع ثم أقرأ قرآناً بصوت عالٍ. ستقول له: أذكار الركوع جاءت بها السنة، يقول لك: لا، أنا عندي قرآن. وفي السجود ستقول: سبحان ربي الأعلى كما جاءت به السنة؟ يقول: لا، أقرأ خمس آيات من كتاب الله، وسجدة واحدة تكفي. فهذه هي صلاتهم! نأتي إلى الزكاة فنقول: من أين تأخذون نصاب الزكاة؟ قالوا: نكتشفه من القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] فالمال يستوي مع النفس، ثم قال في نصاب البدن: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] فيكون نصاب الأبدان العشر، فكل واحد يشتغل ويأتي فجر اليوم الثاني فيدفع لإمام المسجد عشر ما اكتسبه. فهذه الزكاة عندهم يومياً. نأتي إلى الصيام فالمتقدمون منهم قالوا: نصوم شهر رمضان مثل المسلمين، والمتأخرون قالوا: ولماذا شهر رمضان بالذات؟! ثم قالوا: ولماذا نحسب بالحساب القمري؟ فالحساب القمري إنما هو حساب أهل الجاهلية، فنحن نحسب بالحساب الشمسي، ونحدد من واحد وعشرين أكتوبر إلى واحد وعشرين نوفمبر كل سنة فنصومها. ثم قالوا: ولماذا نصوم الشهر كله؟! (أياماً معدودات) وأياماً هذه جمع قلة، وهي من العدد ثلاثة إلى العدد تسعة، فنصوم من واحد وعشرين رمضان إلى صبيحة يوم العيد، فهذا هو الصوم عند القرآنيين الذين ينكرون السنة! نأتي إلى الشرك فنقول لهم: ما هو الشرك عندكم؟ قالوا: الشرك اتباع السنة، أقسم بالله إنه هذا اعتقادهم، وأما الموت والبرزخ وما بعده فقولون: هذه القبور ما هي إلا مكان لحفظ الأجساد من التعفن، لكن وجد سؤال ملكين، ولا عذاب قبر ولا أي شيء من هذه الأشياء! وعندما قلنا لهم: ما الجنة والنار؟ انقسموا في هذا إلى فريقين: فريق قال: الجنة والنار موجودتان لكن لم يخلقا بعد وسوف يخلقهما الله يوم القيامة. والفريق الآخر قالوا: الجنة والنار غير موجودتين ولا يوجد بعث، وهذه الحياة ستنقضي، والناس كانوا من قبل يركبون على الحمار والبعير، ونحن الآن في الرقي والتطور، فهذه هي جنة الفردوس بالنسبة للناس. ولك أن تقول عن هؤلاء ما تريد! اللهم إنا بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا! إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيباً. إلهي! ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله فكن دليلنا. إلهي! ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه فكن أنيسنا. إلهي! أتينا أطباء عبادك ليداووا لنا خطايانا فكلهم عليك يدلنا، اللهم عرفنا وجه نبينا في رضوانك والجنة، واحشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مرتابين. اللهم اجعل نبينا خير النبيين عندك مكانة، وأعظمهم عندك وسيلة، اللهم اجزه خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله! ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك عليه، اللهم ثبتنا على القرآن والسنة حتى نلقاك عليهما، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. إخواني! تبرعات اليوم للفقراء والمساكين وأعمال الدعوة في المركز، ومجلة التوحيد مع فتاوى للشيخ ابن باز هدية، وكتاب الحضارة الإسلامية للدكتور اللواء أحمد عبد الوهاب.

مقولات أصحاب حركة التغريب وخطرها على الأمة

مقولات أصحاب حركة التغريب وخطرها على الأمة الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فإن حركة التغريب انتقلت من الهند إلى مصر، والأشاعرة يسميهم العلماء مخانيث المعتزلة؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل، ويقولون: أحاديث الآحاد لا نأخذ بها في مجال العقيدة؛ ولذلك فالمدرسة العقلية الحديثة والقديمة ردت أحاديث كثيرة من هذه الأحاديث، كأحاديث نزول المسيح عيسى ابن مريم في آخر الزمان، فقد ردها الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمود شلتوت ومصطفى المراغي ومحمد بخيت المطيعي مع أنهم كانوا مدافعين عن الإسلام في مجالات أخرى، مثل مجال الإصلاح الاجتماعي، لكن في مجال السنة تخبطوا كثيراً، فما أخذوا بأحاديث نزول المسيح عيسى ابن مريم في آخر الزمان، ولا بأحاديث الدجال، فلم يعترفوا بها، ولا بأحاديث انشقاق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا استخراج حظ الشيطان من قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا حديث لطم موسى لملك الموت وهو في صحيح البخاري ومسلم. كذلك ردوا حديث الذبابة، وحكموا العقل حتى في صحيح البخاري ومسلم، وردوا أحاديث كثيرة من السنن وغيرها. وهذا معمر القذافي بعثت له رابطة العالم الإسلامي رسالة تخاطبه هل هو قال: لابد أن نحذف (قل) من سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين لأن لفظ (قل) كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر أنه قال هذا الكلام، ولكنه قال أمام الوفد كما هو مسجل: أما السنة القولية فآخذ منها ما يوافق عقلي. وقد بعث الله الشيخ ابن باز بكتاب يسأله فيه عن حقيقة ما نسب إليه على لسان صحفية إيطالية كتبت عنه كتاباً أسمته: (القذافي نبي الصحراء) وهذه الصحفية قالت له في ضمن ما قالته: كما ينقله الشيخ ابن باز يا نبي الله! هل رعيت الغنم؟ قال: بلى ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم. والآن قد تجد رجلاً مثلاً صاحب (مخدرات) يقول لك: أنا (جدع) أنا (ابن بلد) أنا (عترة)، لكن عمرك ما تجد صاحب مخدرات يقول لك: أنا نبي. محمود أبو رية عدو السنة وعدو أبي هريرة كتب كتاباً اسمه: شيخ المضيرة أبو هريرة كله افتراء على أبي هريرة، وله كتاب اسمه: أضواء على السنة المحمدية أنكر فيه أحاديث كثيرة من البخاري ومسلم، وما مات حتى اسود وجهه، وجعل يصيح في سكرات الموت يقول: ما لي ولـ أبي هريرة! ما لي ولـ أبي هريرة! فانظر كيف انتقم الله منه أشد انتقام، وجعله عبرة في حياته وبعد مماته. وهناك أناس تبعوا محمود أبو رية في رد السنة مثل: الدكتور أحمد زكي أبو شادي أول رئيس تحرير مجالس العرب الكويتية، حيث قال: إن أحاديث كثيرة في البخاري ومسلم لا يقبلها العقل، ونحكم عليها بالوضع. وجاء بعده شخص اسمه محمد أبو زيد الدمنهوري قال: إن الاحتكام إلى السنة يصيب الأمة بالصداع، ولن تستريح هذه الأمة من صداعها حتى نبدأ بحرق البخاري ثم بحرق مسلم، وحينئذ ترتاح الأمة من صداعها. وتبعهم طه حسين، وتوفيق الحكيم وإبراهيم عبد القادر المارزي الذي أنكر حديث الهجرة، ومحمد بخيت المطيعي شيخ الأزهر سابقاً أنكر أحاديث الخلافة، ومحمد عمارة أنكر أحاديث الخلافة وقال: إن هذه الأحاديث دستها قريش لمؤامرة سياسية. وحسن الترابي أنكر حد الرجم وحد الردة وقال: يجوز في الدولة الإسلامية أن يرتد المسلم أو المسيحي عن دينه، بل يقول بتزويج المسلمة من الكتابي، وهذا موجود في كتابه: تجديد الفكر الديني. ويقول: ويجوز أن يكون للجنة تسعة أبواب، منها باب يسمى باب الفن، يدخل منه الفنانون إلى الجنة! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الشفاعة

الشفاعة مسألة الشفاعة من مسائل العقيدة المميزة بين أهل السنة وأصحاب البدع، وقد وردت آيات وأحاديث متواترة تثبت الشفاعة يوم القيامة، ومن الشفاعة ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو عام له ولغيره من أمته كالشهداء وغيرهم

إثبات أهل السنة للشفاعة وإنكار الخوارج والمعتزلة لها

إثبات أهل السنة للشفاعة وإنكار الخوارج والمعتزلة لها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: فحديثنا اليوم هو عن الشفاعة. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم، وبـ الدجال، وبالشفاعة، وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعد ما دخلوا. أي: سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بمسائل من مسائل العقيدة بسبب أنها جاءت عن طريق أخبار الآحاد، وهي عندهم ظنية الدلالة، أي: تفيد الظن ولا تفيد العلم. والحقيقة: أن أحاديث الشفاعة متواترة عند المحدثين، ولقد جمع العلماء طرق أحاديثها. أما شبهة أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في مجال العقائد فهذه دسيسة من قبل أعداء السنة، ولقد تولى الرد عليهم فأفحمهم الإمام الشافعي في الرسالة، وابن حزم في إحكام الأحكام، وابن القيم في الصواعق المرسلة، وبوب الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب أو كتاب أخبار الآحاد، وللشيخ الألباني حفظه الله رسالة مستقلة في أن الحديث حجة بنفسه في مجال العقائد، وللشيخ عبد الله بن جبرين أيضاً رسالة في أخبار الآحاد وفي حجيتها في موضوع العقائد. أهل السنة في موضوع الشفاعة وسط بين الفرق، فبعض فرق هذه الأمة كالمعتزلة والخوارج أنكرت بعض مقامات الشفاعة، وهي الشفاعة الخاصة بأصحاب الكبائر، وفريق من هذه الأمة غلا في موضوع الشفاعة فأثبتها حتى للأموات، وأطلق إثباتها، وأهل السنة وسط بين الفريقين؛ لأنهم يجمعون بين الأحاديث ولا يأخذون بحديث ويتركون آخر. فمعنى الشفاعة في اللغة: السؤال في التجاوز عن الذنوب، ويسمى الرجل الذي يشفع: شافعاً أو شفيعاً أو مشفعاً، والذي يقبل الشفاعة يسمى: مشفعاً، وفي الحديث: (إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع) فالمعنى اللغوي يوافق المعنى الشرعي في الشفاعة.

الجمع بين الأدلة النافية للشفاعة والأدلة المثبتة

الجمع بين الأدلة النافية للشفاعة والأدلة المثبتة وهناك آيات نفت الشفاعة والشفيع، وهناك آيات أثبتت الشفاعة والشفيع، فكيف نجمع بينها؟ فمن الآيات الواردة في نفي الشفاعة قول الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48]. ويقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]. وقال تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]. هذه ثلاث آيات في نفي الشفاعة. وهناك آيات في نفي الشفيع، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]. وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]. وقال تعالى أيضاً: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] فهذه الآيات تنفي الشفيع. وهناك آيات تثبت الشفاعة والشفيع، يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فيكون هناك شفاعة بعد إذن الله تبارك وتعالى. ويقول الله تبارك وتعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]. أما الآيات الواردة لإثبات الشفيع فمنها قول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]. إذاً: فكيف تجمع بين آيات تثبت الشفاعة وآيات تنفي الشفاعة؟ يقول الله تبارك وتعالى أيضاً: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، (إلا) هنا استثناء ناقص أي: الذين يعبدون الأوثان لا يملكون الشفاعة، لكن يملكها الذين يشهدون بالحق. مثال للاستثناء الناقص: قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26] يعني: لا يسمعون كلام اللغو والإثم، وإنما قول: (سلاماً). فنقول: الجمع بين الآيات المثبتة للشفاعة والآيات النافية للشفاعة: أن الآيات النافية للشفاعة المقصود بها نفي الشفاعة التي تطلب من غير الله ابتداءً؛ لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]. والآيات التي تثبت الشفاعة نجمع بينها وبين الآيات النافية: أن هناك إثباتاً للشفاعة بشروط وهي: أولاً: قدرة الشافع على الشفاعة، يعني: فلا يستشفع الشخص بأموات لطلب مسألة من مسائل الدنيا! يقول الله تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: لا يوجد شخص يقول لك: أنا أذهب إلى قبر البدوي وأقول له: اشفع لابني يدخل (بكالوريوس) وينجح في دراسة (البكالوريوس) مجال الطب، هذه لا يملكها. الشرط الثاني: إسلام المشفوع له، ويستثنى من ذلك عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب. يقول المولى تبارك وتعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]. أهل التكفير والهجرة يقولون: هذه الآية تنفي الشفاعة لأن الظالم هو مرتكب الكبائر، فدلت الآية على نفي الشفاعة. نقول: قال علماء التفسير: الظالمون هنا المقصود بهم الكافرون، قال هذا الحافظ ابن كثير، وقال هذا أيضاً الإمام البيهقي. قال البيهقي: الظالمون ها هنا هم الكافرون، يشهد لذلك مفتتح الآية، إذ هي في ذكر الكافرين، ويقول الإمام ابن كثير: أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع لهم {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] أي: ما للكافرين من حميم ولا شفيع يطاع، يستثنى من ذلك أبو طالب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشفع له يوم القيامة؛ فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ إلى كعبيه، وتوضع الجمرة في أخمص قدمه يغلي منها دماغه، فنفعته شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشرط الثالث: الإذن للشافع: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ولذلك يقول المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: (ارفع رأسك، واشفع تشفع) وذلك حين يأتي للشفاعة العظمى يسجد تحت العرش. الشرط الرابع: الرضا عن المشفوع له، قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] أي: ويرضى عن المشفوع له. هناك بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة في نفي الشفاعة، ومن الأحاديث التي وضعتها فرقة المعتزلة ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، هذا الحديث لا أصل له، كما ورد في كتاب: أسمى المطالب. وأيضاً هناك حديث وضعته الشيعة: (ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إلي، والمحب لهم بقلبه ولسانه).

الشفاعات التي يشفعها الرسول صلى الله عليه وسلم

الشفاعات التي يشفعها الرسول صلى الله عليه وسلم

الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم

الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى، وهي شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحشر، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً عليه السلام، ثم بعد ذلك يأتون إبراهيم، ثم بعد ذلك يأتون عيسى، ثم يقول لهم عيسى: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاتم الأنبياء، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأقول: أنا لها أنا لها، فأنطلق فآتي تحت العرش، فأسعى ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح علي من المحامد وحسن الثناء ما لم يفتحه على أحد من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب)، هذا حديث في شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيضاً من الأحاديث الواردة: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي محامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، قل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فأقول: يا رب! ما بقى في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود). ومعنى هذا في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحد له ثلاثة حدود: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال برة من إيمان أخرج من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وهناك حديث آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يرويه عنه الحسن البصري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحد له أربعة حدود يشفع فيهم، ثم لا يبقى بعد ذلك إلا قوم نطقوا بالشهادتين، ولم يأتوا بحسنة واحدة، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفع فيهم فلا يشفع، فيقول الله عز وجل: ليست هذه لك، إنما هي لي هؤلاء عتقائي من النار) يعيرهم أهل النار يقولون: كنتم تعبدون ربكم وكنا لا نعبده، وأنتم معنا في النار؛ فيرسل الله عز وجل ملكاً بكف من ماء فينضحه عليهم، فيخرجون من النار، فلو ضيّفهم واحد من أهل الجنة لوسعهم، وهؤلاء يقال لهم: المحررون. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إلى الله تبارك وتعالى: هون على أمتي. فرد إلي ثانية: اقرءوا على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي. فرد إلي الثالثة: اقرءوا على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم من غير فخر). وعن ابن طاوس عن أبيه قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى، وارفع درجته العليا، وأعطه سؤله في الآخرة والأولى، كما آتيت إبراهيم وموسى. كل هذه أحاديث في إثبات الشفاعة، والشفاعة العظمى هي المقام المحمود، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقد ورد حديث ضعيف في تفسير المقام المحمود بغير الشفاعة، وأنه الجلوس على العرش. وقد شنع الكوثري على أهل السنة لأجل هذا الحديث الضعيف الذي ذكر فيه أن المقام المحمود أن الله عز وجل يجلس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، ونسبوا هذا إلى الدارقطني، ومجاهد، وقال في هذا ابن القيم بيتين من الشعر في النونية، ثم حرر هذه المسألة تحريراً طيباً جميلاً الشيخ الألباني رد فيه على الكوثري في مقدمة مختصر العلو وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح في تفسير المقام المحمود بأنه الشفاعة العظمى.

الشفاعات الثابتة للمؤمنين

الشفاعات الثابتة للمؤمنين

أدلة الشفاعة لأهل الكبائر

أدلة الشفاعة لأهل الكبائر ثم هناك شفاعة لأهل الكبائر من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع من الشفاعة تنكره المعتزلة والخوارج، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان شفاعته لأهل الكبائر: (إنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، قلنا: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلنا من أهلها؟ قال: هي لكل مسلم). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي أخرجه ابن ماجة: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، كل هذه أحاديث واردة في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر.

الشفاعة لقوم قد أمر بهم إلى النار

الشفاعة لقوم قد أمر بهم إلى النار وهناك شفاعة أيضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس قد أمر بهم إلى النار، فيستوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أمر بقوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار فيقولون: يا محمد! ننشدك شفاعة، قال: فآمر الملائكة أن يقفوا بهم، قال: فأنطلق وأستأذن على الله عز وجل، فيؤذن لي، فأسجد فأقول: يا رب قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، قال: فيقول: انطلق فأخرج منهم، فأنطلق، فيخرج منهم من شاء الله أن يخرج، ثم ينادي الباقون: يا محمد! ننشدك شفاعة، فأستأذن فيؤذن لي، فأسجد، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأثني على الله بثناء لم يثن عليه أحد من قبلي ثم أقول: إن قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، فيقال: انطلق فأخرج منهم، فيقول: يا رب أخرج منهم من قال لا إله إلا الله ومن كان في قلبه حبة من إيمان؟ قال: فيقول الله عز وجل: يا محمد! ليست تلك لك، تلك لي). وهؤلاء قوم سيدخلون النار، فيعيرهم أهل النار فيقولون: أنتم كنتم تعبدون الله ولا تشركون به أدخلكم النار، فيحزنون لذلك، فيبعث الله عز وجل ملكاً بكف من ماء فينضح بها في النار، ويغبطهم أهل النار، ثم يخرجون ويدخلون الجنة، فيقال لهم: انطلقوا فتضيفوا الناس لو أن جميعهم نزلوا برجل واحد كان لهم عنده سعة ويسمون: المحررين، وهذا الحديث حديث صحيح.

الشفاعة لقوم يدخلون الجنة بغير حساب

الشفاعة لقوم يدخلون الجنة بغير حساب وهناك شفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أعطيت سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، وقلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب حافات وأصحاب البوادي) يعني: غير مكة والمدينة والطائف ثم يصل إلى أن يأخذ بيد قوم من الأعراف. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعدني ربي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثيات ربي). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب، فقال يزيد بن الأخنس السلمي: والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا كالذباب الأصهب في الذبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد وعدني سبعين ألفاً، مع كل ألف سبعين ألفاً مع كل ألف سبعين ألفاً، وزادني حثيات). وقال: (سألت ربي عز وجل فوعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً على صورة القمر ليلة البدر، فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً، فقلت: أي رب! إن لم يكن هؤلاء من مهاجري أمتي؟ قال: إذاً أكملهم لك من الأعراب). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سألت الله عز وجل الشفاعة لأمتي، فقال: لك سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال: قلت: رب زدني، قال: فإنك لك مع كل ألف سبعين ألفاً قال: قلت: رب زدني، قال: فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، فقال أبو بكر: حسبنا يا رسول الله! فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر دع رسول الله يكثر لنا كما أكثر الله عز وجل قال: فقال أبو بكر: إنما نحن حفنة من حفنات الله عز وجل. فقال رسول لله: صدق أبو بكر). كذلك يشفع المصطفى صلى الله عليه وسلم في دخول الناس الجنة يقول: (أنا أول شافع في الجنة)، يعني: يشفع في دخول الناس الجنة، وهذه شفاعة عظيمة.

الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة

الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة كذلك يشفع في رفع بعض الدرجات لأناس لا يبلغها عملهم، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أبي سلمة رضي الله عنه وقد شق بصره فأغمض عينه ثم قال: (إن الروح إذا قبض أتبعه البصر؛ فصرخ أناس من أهل أبي سلمة فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه) فبدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع الله عز وجل أبا سلمة درجة لا يبلغها عمله. كذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لـ عامر بن الأكوع الذي قتل بعد غزوة حنين، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لعبيدك عامر اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس)، فهذه الشفاعة تكون لنيل درجات لا تبلغها الأعمال. وقلنا أيضاً: له شفاعة لعمه أبي طالب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ الكعبين؛ فيغلي منهما دماغه).

الشفاعات الثابتة للمؤمنين

الشفاعات الثابتة للمؤمنين هل هناك شفاعة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين؟ نعم، يشفع المؤمنون والشهداء والملائكة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة ومضر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليخرجن من النار بشفاعة رجل ما هو بنبي أكثر من ربيعة ومضر). قال الحسن: كانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه أو أويس القرني. وهناك شفاعة للأولاد يشفعون في آبائهم! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقال: باستغفار ولدك لك). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أطفال المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وصغارهم دعاميص، الجنة يتلقى أحدهم أباه -أو قال: أبويه- فيأخذ بثوبه -أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى -أو فلا ينتهي- حتى يدخله الله الجنة). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحلم إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يجيء أبوانا، ادخلوا الجنة، حتى يجيء أبوانا، ادخلوا الجنة، حتى يجيء أبوانا، فيقولون مثل ذلك؛ فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم)، وهذا من كرم الله تبارك وتعالى!

أسباب الشفاعة يوم القيامة

أسباب الشفاعة يوم القيامة

شفاعة القرآن والصيام

شفاعة القرآن والصيام هناك أسباب أخرى للشفاعة، فهناك شفاعة للقرآن الكريم والصيام، الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك حديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح له حكم الرفع يقول فيه: (اقرءوا القرآن؛ فإنه نعم الشفيع يوم القيامة، يقول القرآن يوم القيامة: يا رب حله حلة الكرامة). كل أهل الجنة لا يدخلون الجنة إلا وعلى رءوسهم التيجان؛ حتى تقول الملائكة للجنة: طوبى لك يا دار الملوك وحامل القرآن له تاج خاص بالقرآن، وإن كان شهيداً فله كذلك تاج خاص، وقد يلبس ثلاثة تيجان، يقول أبو هريرة: (اقرءوا القرآن؛ فإنه نعم الشفيع يوم القيامة، إنه يقول يوم القيامة: يا رب! حله حلة الكرامة يا رب! اكسه كسوة الكرامة، فيكسى كسوة الكرامة يا رب! أرض عنه، فليس بعد رضاك شيء). وعن عبد الله بن عمر في الصحيح الموقوف عليه قال: (يجيء القرآن يشفع لصاحبه فيقول: يا رب! لكل عامل عمالة من عمله، وإني كنت أمنعه لذة النوم فأكرمه، فيقال: ابسط يمينك فيملأ من رضوان الله، ثم يقال له: ابسط شمالك فيملأ من رضوان الله، ثم يكسى كسوة الكرامة، ويحلى حلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة).

سكنى المدينة المنورة والموت بها

سكنى المدينة المنورة والموت بها من أسباب الشفاعة أيضاً: سكن المدينة المنورة، والموت بها: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من صبر على لأوائها - أي: على شدة المدينة - كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة).

الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً من أسباب الشفاعة: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب الوسيلة له: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لا يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي)، وهذا الحديث إسناده حسن. أما قول من قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) فالحديث ضعيف.

شفاعة المصلين على الميت

شفاعة المصلين على الميت أيضاً من أسباب الشفاعة شفاعة المصلين على الميت الواحد: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل المسلم يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه).

منع اللعانين والمكذبين بالشفاعة من الشفاعة

منع اللعانين والمكذبين بالشفاعة من الشفاعة إذاً: من المسلم الذي لا تقبل شفاعته؟ صنفان من الناس لا تقبل شفاعتهما يوم القيامة وهما: اللعانون والمكذبون بالشفاعة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة). فبعض الناس تعودت ألسنتهم على اللعن؛ والجزاء من جنس العمل، فإن اللعن دعاء بالطرد من رحمة الله، فإن لم يكن هو لها أهلاً رجعت عليك. كذلك من كذب بالشفاعة لا يشفع في الناس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (من كذب بالشفاعة فليس له فيها نصيب)، الذي يكذب بالشفاعة كان جزاؤه من جنس عمله، فلا تقبل شفاعته يوم القيامة. قد تقبل شفاعته في الدنيا، كأن صادف سارقاً سيذهبون به إلى الحاكم يقول: اتركوه يا جماعة! استروا عليه ربنا يستر علينا وعليكم في الدنيا والآخرة هل تجوز؟ والزبير بن العوام شفع في سارق، لكن هذا إذا لم يصل الأمر إلى السلطان، فإذا وصل الأمر إلى السلطان فلا عفا الله عنا إن عفونا عنه. كان صفوان بن أمية بن خلف نائماً في المسجد، وثوبه تحت رأسه، فجاء سارق فأخذه، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر السارق، فقال صفوان: يا رسول الله! أيقطع رجل من العرب في ثوب، قد عفوت عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا كان هذا قبل أن تجيء به؟ ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله عنه، ثم أمر بالقطع من المفصل). وقال ابن الجوزي في التنقيح: وحديث صفوان حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد في مسنده.

الذين يؤتون أجرهم مرتين

الذين يؤتون أجرهم مرتين من الذين يضاعف لهم الله عز وجل الأجر فيعطيهم أجرهم مرتين؟ المولى عز وجل يضاعف الأجر كرماً منه وتفضلاً لبعض خلقه، فيعطيهم الأجر مرتين، ومن هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد صح عن ابن مسعود (أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يوعك وعكاً شديداً، فقال له: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً! قال: إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم قال: ذلك أن لك أجرين؟! قال: نعم). فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه الله عز وجل أجره مرتين. ومنهم أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن: يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31]. كذلك مؤمن أهل الكتاب الذي آمن بنبيه ثم آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، يعطيه الله عز وجل أجره مرتين: يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص:52 - 54]. ويقول علماء الضرار: إن النصارى يدخلون الجنة، فعلماء الوحدة الوطنية يقولون: إن النصارى ليسوا كفاراً، وسيدخلون الجنة؛ لأن هؤلاء مؤمنون برسولهم. ويحاولوا أن يقرروا كلامهم هذا فيقولون: يقول الله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، لكن الآية التي بعدها تبين أنهم آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فالذين يعطيهم الله عز وجل أجراً ومغفرة رجل آمن بنبيه ثم آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كـ عبد الله بن سلام آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، فدخل فاحتبسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا معشر يهود! ماذا تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا وخيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فلما خرج ودعاهم إلى الإسلام قالوا: سفيهنا وابن سفيهنا! وجاهلنا وابن جاهلنا!) فـ عبد الله بن سلام له أجران. كذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران). كذلك الحاكم المجتهد إذا أصاب الحق له أجران: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد). كذلك المرأة التي تتصدق على زوجها وهي غنية، فتعطي زوجها ولا تعيره لفقره: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة على ذي قرابة يضاعف أجرها مرتين). وأخرج الشيخان عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجارات من الأنصار حاجتها حاجتي فخرج علينا بلال فقلنا: له ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألان: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجرهما، فدخل بلال فسأله فقال صلى الله عليه وسلم: لها أجران؛ أجر القرابة، وأجر الصدقة)، فالحديث جاء يبين فضل الصدقة على الأقارب وأنها تضاعف. كذلك ممن يؤتيهم الله عز وجل أجرهم مرتين: طالب العلم الذي يبلغه الله عز وجل أمنيته في العلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من طلب علماً فأدركه كتب الله له قسمين من الأجر، ومن طلب علم ولم يدركه كتب الله له قسماً من الأجر). كذلك ممن يعطيهم الله عز وجل أجرهم مرتين: الذي يواظب على صلاة العصر: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم - يعني: العصر - فضيعوها، فمن حفظها اليوم فله أجرها مرتين). كذلك المجاهد الذي يقتل نفسه خطأ له أجران، كما ثبت في حديث سلمة بن الأكوع قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وكان سيف عامر بن الأكوع فيه قصر، فتناول به ساق يهودي فرجع ذباب السيف فأصاب ركبة عامر؛ فمات منها فقلت: يا رسول الله! زعموا أن عامراً قد حبط عمله فقال: كذاب من قال، إن له لأجرين). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للماشي في الجنازة قيراطان، وللراكب قيراط). كذلك الصابرون يعطيهم الله عز وجل أجرهم مرتين، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54]. فاكظموا الغيظ، فالذي يكظم الغيظ حتى تأتي الفرصة فيعفو له الأجر مرتين، ومن كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه له أجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه نوراً يوم القيامة)، صححه الألباني. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة فتوجه على رءوس الأشهاد وزوجه من الحور العين ما يشاء). فاكتموا غيظكم، وحولوه إلى دعوة إلى الله، ولو أن كل أخ دعا عشرة إخوة وكل أخت دعت عشر أخوات إلى الله تبارك وتعالى، وصدقوا الله تبارك وتعالى في دعوة هؤلاء فإن الله يضاعف عدد الإخوة في مصر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

وجوب الإيمان بما أخبر الله دون السؤال عن الكيفية

وجوب الإيمان بما أخبر الله دون السؤال عن الكيفية Q ذكرتم في هذا الدرس أن القرآن يشفع لصاحبه ويقول يوم القيامة: يا رب كذا يا رب كذا فهل يتكلم القرآن يوم القيامة وهو ليس بمخلوق؟ وقد سمعت أنه من صفات الله عز وجل ولا يتكلم، فنرجو التوضيح في ذلك وجزاكم الله خيراً؟ A مشاهد القيامة مشاهد غريبة لا يتدخل الإنسان فيها بعقله، فتصوروا مثلاً حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (يؤتى بالموت على هيئة كبش ويذبح ما بين الجنة والنار). هل يستطيع إنسان أن يتصور أن الموت يأتي في صورة كبش؟ وهذا مخلوق؛ فكيف بصفات الخالق! القرآن من كلام الله تبارك وتعالى، والكلام صفة من صفات الله تبارك وتعالى، هل يستطيع الإنسان أن يكيف الصفة؟ نحن لا نسأل عن الكيفية، وإنما نؤمن بذلك ونصدقه.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q ما حكم تارك الصلاة؟ A هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على أقوال، وجمهور أهل العلم منهم الشافعية والمالكية والحنفية وفريق من الحنابلة على رأسهم ابن قدامة الحنبلي ذهبوا إلى أن تارك الصلاة تكاسلاً ليس بكافر، وذهب بعض الحنابلة إلى أن تارك الصلاة كافر، ومنهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين له عندي نص الفتوى التي أرسلها إلي، حيث قال: لو أن عامياً قلد مفتيه وكان مفتيه يقول بأن تارك الصلاة غير كافر ولا يخلد في النار، فقلده في ذلك لا يكفر. وهذه مسألة مختلف فيها، فجمهور أهل العلم على عدم كفر تارك الصلاة، والذي يرجح هو من يملك أداة الترجيح. واستدل جمهور أهل العلم بحديث عبد الله بن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (يأتي قوم لا يعلمون من الإسلام شيئاً لا يدرون ما صلاة ولا زكاة، لا يعلمون إلا قول لا إله إلا الله)، وبأحاديث الشفاعة، وهذا خلاف معتبر، والله أعلم.

عدم وجود تعارض بين حديث النهي عن الشفاعة في الحدود وحديث المجيز للشفاعة ما لم تبلغ السلطان

عدم وجود تعارض بين حديث النهي عن الشفاعة في الحدود وحديث المجيز للشفاعة ما لم تبلغ السلطان Q قلتم إنه يجوز الشفاعة في الحدود، بينما رفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة للمرأة المخزومية وقال لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله؟) فهذا يدل على عدم جواز الشفاعة في الحدود، فما قولكم في ذلك؟ A لا تعارض بين الحديثين، فالحديث الأول الذي ذكرناه يدل على جواز الشفاعة في الحدود ما لم يصل الأمر إلى السلطان، والحديث الثاني يبين أنه إذا وصل الأمر إلى الوالي لا تجوز الشفاعة عند ذلك، فلا تعارض بين الحديثين، فهذا حديث يثبت الشفاعة قبل أن يصل الأمر إلى الوالي، أما إذا وصل الأمر إلى الوالي فليست هناك شفاعة، وفي آخر حديث صفوان: (فإذا وصل الأمر إلى الوالي فلا عفا الله عني إن عفوت) فليس هناك تعارض.

إثبات شفاعة الفتاة لأبيها ما لم تبلغ الحلم

إثبات شفاعة الفتاة لأبيها ما لم تبلغ الحلم Q هل صحيح أن الفتاة التي تموت ولم تتزوج تشفع لوالدها؟ A الحديث يبين أنهم إن لم يبلغوا الحلم.

التنكيس المنهي عنه في قراءة القرآن

التنكيس المنهي عنه في قراءة القرآن Q فضيلة الشيخ! قرأتم في صلاة الجمعة في أول ركعة سورة البروج وفي الثانية بجزء من سورة طه، فهل يجوز ذلك أم أن هذا من التنكيس المنهي عنه؟ A التنكيس المنهي عنه هو التنكيس في نفس السورة، فلقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل: فقرأ بالبقرة ثم النساء، ثم آل عمران، فهذا فيه جواز التنكيس في غير السورة الواحدة.

حال رواية أن عمر بن عبد العزيز قابل الأنبياء عند سكرات الموت

حال رواية أن عمر بن عبد العزيز قابل الأنبياء عند سكرات الموت Q حضرت خطبة الجمعة لأحد العلماء، فكان يتكلم عن سوء الخاتمة، وتكلم عن مثالين أو روايتين في حسن الخاتمة: الأولى: عن الخليفة عمر بن عبد العزيز والثانية: عن أبي حامد الغزالي، أما في الأولى فقال: إنه حينما حضرت الوفاة عمر بن عبد العزيز أخرج زوجته فاطمة من الحجرة، فخرجت فوضعت أذنيها على الباب، فسمعت عمر رضي الله تعالى عنه يتكلم مع الأنبياء فيقول: أهلاً بأبي البشر آدم، أهلاً بخليل الرحمن إبراهيم، أهلاً بكليم الله موسى، أهلاً بخير الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهل لهذا أصل ثابت؟ A لم يثبت هذا، وإنما الثابت في كتب الرقائق كما ذكر ابن الجوزي، وابن رجب الحنبلي، وابن أبي الدنيا، وما ذكر في وصايا العلماء عند الموت: أنه لما جاءته الوفاة أخرج فاطمة من عنده ثم قال: مرحا بوجوه ليست بوجوه إنس ولا جان! ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، قالت فاطمة: فدخلت عليه فإذا هو ميت، والله وأعلم. هذا هو الثابت في البداية والنهاية، وصفة الصفوة أو حلية الأولياء أو كتاب ابن الجوزي عن موت عمر بن عبد العزيز ولم يثبت غيره، والله أعلم.

حال رواية أن الغزالي رأى ربه قبل الموت جهرة

حال رواية أن الغزالي رأى ربه قبل الموت جهرة Q والرواية الثانية ذكرها الخطيب عن أبي حامد الغزالي أنه قال: أحضري لي قميصاً أبيض، ثم اغتسل ونام، ثم مات وترك ورقة مكتوباً فيها أنه رأى الله سبحانه جهرة؛ فهل هذا حقيقي؟ A يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (واعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت). أهل السنة والجماعة قالوا في مسألة الرؤية: إنها غير ثابتة لأحد من البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكليم الرحمن موسى عليه السلام من أولي العزم ولم ير ربه، فما ظنك بمن دونه!؟ أما بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في دار الدنيا فقد اختلف فيها أهل العلم على قولين، وجمهور أهل السنة والجماعة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عياناً، وإنما رآه مناماً، كما ثبت في حديث الترمذي الذي سأل عنه محمد بن إسماعيل البخاري فقال: حديث حسن صحيح، وهو حديث: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة). فقالوا: إنه رآه مناماً، أما الرؤية الحقيقية فجمهور أهل العلم أنها لم تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم عائشة رضوان الله عليها، والذين أثبتوا الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس رضي الله عنه، وابن عباس جاءت عنه الروايتان، رواية مطلقة ورواية مقيدة، رواية مطلقة تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ورواية مقيدة تبين أنه رأى ربه بعين فؤاده. والعلماء الذين جمعوا بين الروايتين قالوا: الرواية المطلقة تحمل على المقيدة، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بعين فؤاده. وبعض أهل العلم منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام القرطبي توقف في مسألة إثبات الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والرؤيا مناماً لله تبارك وتعالى من أحد البشر كل بكيفيته.

حكم الاستمناء باليد للضرورة

حكم الاستمناء باليد للضرورة Q أعمل في إحدى الشركات، وفي مكان الورشة التي أعمل فيها توجد مواد سامة كلحام من الرصاص والقسطير وغيرها، وقد ذكر الأطباء أن ذلك يسبب أضراراً في الجهاز التناسلي وتشوهاً في المولود، فجرى لنا كشف في الدم، ويريدون تحليل دم ومني، فهل يجوز لي الاستمناء باليد للتحليل، مع العلم أنني لم أتزوج بعد، وأنني أعمل في نفس المكان الذي توجد فيه هذه المواد السامة، أرجو الإجابة؛ لأن آخر موعد للتحليل غداً وجزاكم الله خيراً؟ A مذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه يجوز ذلك عند الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، والأولى أن تبعث للشيخ ابن عثيمين رسالة في ذلك.

زهر البساتين فى فضل الصدق والصادقين

زهر البساتين فى فضل الصدق والصادقين الصدق من صفات المؤمنين، ومن خصال المخلصين، فبه ينال صاحبه رضا ربه، وحب خالقه، فما خاب من صدق، ولا خسر من اتخذ الصدق شعاراً له في حياته. وللصدق مراتب ودرجات، وقد ورد في فضله الكثير من الأحاديث والآيات.

الصدق في القرآن العظيم

الصدق في القرآن العظيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة وجود إسناده ابن كثير: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل لـ أبي هريرة: ما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة). وحديثي اليوم عن الصدق، فالصدق بداية الطريق إلى الله عز وجل، وهو طريق القوم الذي تندرج منه جميع مقامات السالكين، الطريق الواضح الذي من لم يسر عليه لا يصل إلى رب العالمين، به تميز سكان الجنان من سكان النيران، ومحك الأعمال وروحها وأساسها، وهو أساس عمود اليقين، وقد أخبر الله عز وجل أن الفلاح كل الفلاح في مصاحبة الصادقين، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. وخص الله عز وجل المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم قال: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. وأخبر الله عز وجل أنه لا ينفع يوم القيامة إلا الصدق؛ فقال الله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119]. وقسم الله عز وجل العباد إلى صادق ومنافق، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]. وأخبر الله عز وجل أنه لا ينفع إلا الصدق، قال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]. وأخبر الله عن جميع مقامات الإيمان سواء الظاهرة والباطنة، ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. كان الفضيل بن عياض يقول: إذا كان الله عز وجل سيسأل الصادقين من أمثال عيسى وموسى ويحيى عن صدقهم، فكيف بالكذابين من أمثالنا؟! ولعظم الصدق أمر الله نبيه أن يسأله أن يهبه مخرج الصدق ومدخل الصدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80]. وأخبر عن خليله أنه دعاه أن يهب له لسان صدق في الآخرين، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]. وأخبر عن أهل الجنة أن مقعدهم مقعد الصدق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، ولله در الصادق شيخ الإسلام ابن تيمية! فقد حبس في سجن القلعة بدمشق وأخذوا منه كل الكتب، ولم يتركوا له إلا المصحف فقط، ففاضت روحه، وكان كثيراً ما يختم القرآن، فقد عكف على ختم القرآن، وفاضت روحه عند تلاوة هذه الآية: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2].

الأمور المتعلقة بالصدق المذكورة في القرآن

الأمور المتعلقة بالصدق المذكورة في القرآن القرآن تكلم عن خمسة أشياء: مخرج الصدق، ومدخل الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.

مدخل الصدق ومخرج الصدق

مدخل الصدق ومخرج الصدق والجامع لهذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله ولله، وما كان منها بالله عز وجل وبأمر الله عز وجل، فمخرج الصدق تكون فيه ضامناً على الله عز وجل، متحركاً لأمر من أمور الله عز وجل، كمخرج رسولنا صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فقد هرب وفر بدينه ليرسي قواعد الإسلام في بلدة أخرى: ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ووده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء كان يلقب بالصادق وما احتملوا صدقه، الحجارة كانت تعلم أنه صادق، كما روى الإمام مسلم يقول سيدنا صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، وبرغم هذا ما احتملوا صدقه، فأخذ صدقه ورحل وترك مكة للغوغاء، إذاً: هذا مخرج الصدق. أما مخرج الكذب فمخرج أبي جهل حينما خرج إلى بدر بعد أن نجت عيرهم، فقالوا: قد نجت العير ولا داعي للقاء محمد، قال: لا، بل نقيم ثلاثة أيام في بدر، ننحر الجزور، ونشرب الخمر، وتعزف القيان حتى تسمع بنا العرب فتخافنا وترهبنا، فكان خروجهم من أجل الكذب ومن أجل الرياء فمات في قليب بدر. ومدخل الصدق كدخول نبينا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقد اعترف زعيم اليهود بنبوته منذ أن رآه، وهذا لأن دخوله صدق، قال عبد الله بن سلام: (لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان الناس كنفيه، فلما استبنت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله عز وجل)، فمن أول نظرة نظرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن وجهه لا يمكن أن يكذب على الله عز وجل، بخلاف الكذاب فلو قمت بدهنه مليون سنة بطلاء أبيض فإن ذرات وجهه تنطق بالكذب، قال: (وكان أول ما سمعته منه: أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام). أما دخول الأحزاب المدينة فهذا دخول كذب، فـ عمرو بن عبد ود كان أكبر فارس في الجزيرة العربية، وأراد أن يقفز بفرسه على الخندق وكان عريضاً، ويقول للصحابة: من يبارز؟! من يبارز؟ فقال سيدنا علي: يا رسول الله! أنا لها، وكان سيدنا علي مازال شاباً صغير السن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اجلس إنه عمرو)، وفي المرة الثانية يقول عمرو: من يبارز، أما فيكم من يبارز؟ فيقول سيدنا علي: يا رسول الله! دعني له يقول: (اجلس إنه عمراً)، فقال في الثالثة: وإن كان عمرو، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج يبارز فقال: من أنت يا بني؟! ينظر إليه نظرة المستهزئ، قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: أما كان في أعمامك من يكفيك، إني والله لا أرضى بقتلك! قال: ولكني والله أحب قتلك، فظل يصاوله حتى قتله علي بن أبي طالب، ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك كبر وكبر صحابة رسول الله. فعندما أراد أبو سفيان ومن معه من الأحزاب دخول المدينة بالزور وبالبهتان وبالكذب، فوالله ما فرقتهم إلا الريح! فما أبقت لهم من كراع ولا خف. فكل خروج من بيتك تكون فيه ضامناً على الله عز وجل ولأمر من أمور الله عز وجل فهذا مخرج الصدق، وكل دخول في موطن من المواطن تكون فيه ضامناً على الله عز وجل فهذا مدخل الصدق.

لسان الصدق

لسان الصدق أما لسان الصدق فهو ما يبقيه الله عز وجل من الثناء بعد موت الصالحين، فإن الذرات تنطق بصدقهم بعد أن رحلوا عن الدنيا، كما يقول القائل: كم الفرق بين أناس موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم؟! فيبقي الله عز وجل اللسان العطر، والثناء والمدائح لـ ابن حنبل وبشر بن الحارث الحافي ولغيرهما من العباد ومن الزهاد ومن علماء المسلمين. فـ بشر بن الحارث الحافي هذا الإمام العظيم الذي قال لما سئل عنه الإمام أحمد قال: مثله مثل رجل ركب على رمح، فهل أبقى مكاناً لغيره، ولما خرجوا بجنازته خرجوا به بعد الفجر وبعد الصلاة عليه، فوالله! ما وصلوا إلى قبره إلا بعد صلاة العشاء، حتى بكى علي بن المديني شيخ البخاري وصاح: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة، هذا عز الدنيا قبل عز الآخرة. يقول الشاعر عن الصادقين: والناس موتى وهم يحيون في المقل يعني يحيون في حبات الأعين. وكما جاء في الأثر: أن الجبل ينادي باسم الصادق: هل مر بك ذاكر لله عز وجل؟ فقال: نعم، قال: أبشر. بل أكثر من هذا، فإن الجماد يعرف الصادق من الكاذب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بجنازة: (مستريح أو مستراح منه! قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: المستريح العبد المؤمن؛ يستريح من تعب الدنيا ومن نصبها إلى رحمة الله عز وجل، والمستراح منه العبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب)، إذاً: حتى الشجر والجماد والدواب تعرف الصادق من الكاذب: تحيا بكم كل أرض تنزلون بها كأنكم في بقاع الأرض أمطار وتشتهي العين فيكم منظراً حسناً كأنكم في عيون الناس أقمار لا أوحش الله ربعاً من زيارتكم يا من لهم في الحشا والقلب تذكار كم قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ساحر كذاب وإنه مجنون، بعدما كانوا يلقبونه بالصادق، فلما جاءهم بأمر الله قالوا عنه أنه كذاب، وقد صدقت بنبوته الجمادات: والحق أبلج لو يبغون رؤيته هيهات يبصر من في ناظريه عمى وصرخة الحق تأباها مسامعهم من يسمع الحق منهم يشتكي الصمما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

مقعد الصدق

مقعد الصدق جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون أنتم النجم الغابر في الأفق من المغرب أو المشرق لتفاضل ما بينهم، قال سيدنا أنس: قلنا يا رسول الله! تلك منازل النبيين لا يبلغها أحد سواهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين). ومقعد الصدق هي الجنة سماها الله بذلك، كما سمى الله عز وجل دينه بالصدق: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر:33] فحصر الإسلام كله في الصدق.

قدم الصدق

قدم الصدق أما قدم الصدق فهو ما تقدمه أنت من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفسر بعض العلماء قدم الصدق بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينجي العبد إلا صدق القلب، وإقرار القلب ويقينه بربوبية الله عز وجل وألوهيته، فقد ينطق الرجل ويعرف بقلبه أن الله عز وجل واحد، وأنه منفرد بالألوهية وأنه هو الرب، قد يعرف بذلك ولا يصدق، فلا يكون عند الله عز وجل إلا كافراً. قال سيدنا موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، ففرعون كان يعلم أن للكون إلهاً، ولم يصدق بذلك. وأبو طالب كان يعلم بقلبه أن للكون إلهاً، ولم يصدق بذلك: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً إذاً: يوجد فرق بين معرفة القلب المعرفة الفهمية بوجود الله عز وجل وألوهيته، وبين صدق القلب، كما قال الله عز وجل عن المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، فيؤكد الله عز وجل على كذب نياتهم، وبكذب ما في قلوبهم وإن قالوها بألسنتهم. ولذلك فإن الصدق أساس كل شيء؛ لأنه إن كان القلب غير مصدق بألوهية الله عز وجل فالعبد يكون بذلك منافقاً، فأساس كل شيء الصدق.

كلام أهل العلم في الصدق

كلام أهل العلم في الصدق ثم تعال بعد ذلك إلى كلام أهل العلم في الصدق، فهناك صدق في الأقوال، ولذلك عندما قال الوليد بن عبد الملك لـ عمر بن عبد العزيز: كذبت، قال: ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه. وقال محمد بن كعب: والله! ما يكذب الكاذب إلا لهوان نفسه عليه! ولذا ذكر من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله عز وجل ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم: (ملك كذاب)؛ فالقطر كله ملكه ويكذب، فما الذي يضطره إلى الكذب وهو يستطيع أن يفعل ما يفعل؟! قال عليه الصلاة والسلام: (ملك كذاب، وعائل مستكبر) يعني فقيراً متكبراً. (وشيخ زان)، أي: بعدما انقطعت أسباب الشهوة ومادة الشهوة من هذا العجوز مازال الفجور فيه. وقال مطرف بن طريف: والله! ما أود أني كذبت كذبة وأن لي بها الدنيا بأسرها. وقال إياس بن معاوية بن قرة: والله! ما أود أن أكذب كذبة أعلم أن الله يغفرها وأعطى عليها عشرة آلاف درهم ولا يعلم بها إلا أبي معاوية بن قرة. ويقول عبد الملك بن مروان لـ إسماعيل بن عبيد الله مؤدب أولاده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب وإن كان فيه القتل. ومن عظم الصدق وفضله أن الله عز وجل يقول: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، ومن عظم الصدق أن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وأثنى الله عز وجل على أنبيائه بالصدق، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]، وقال الله تعالى عن مريم: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75]. قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19]، والصديقية أعلى مراتب الدين بعد مرتبة النبوة والرسالة، وهي أعلى من مرتبة التحديث، وعمر كان محدثاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان في أمتي محدثون فـ عمر)، والمحدثون أي: أن المولى عز وجل يقذف في قلوبهم الإلهام، فيخبر بشيء في الغد فيحدث مثل حادثة: يا سارية الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم. وأعلى مقامات الصديقية كانت لسيدنا أبي بكر الصديق، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وصدق به سيدنا أبو بكر الصديق، قال سيدنا علي رضي الله عنه: والذي نفسي بيده! إن الله سمى أبا بكر في السماء صديقاً. وأكثر الناس لو قلت لهم: أتعرف اسم سيدنا أبو بكر الصديق؟ تجد تسعين في المائة من المسلمين لا يعلمون اسمه الحقيقي، وإنما يعلمونه بكنيته وصفته أبو بكر الصديق، لكن اسمه الحقيقي لا يعلمونه وما ضره ذلك، فقد انتشر بين الناس صدقه فالكل يعرفه بأنه الصديق. ومسيلمة مدعي النبوة، كل الناس يعلمون أنه مسيلمة الكذاب، إلى درجة أنه عندما ذهب إليه سيدنا عمرو بن العاص قبل أن يسلم، فقال له: أسمعك ما جاء به جبريل، قال: أسمعني، قال له: والذاريات ذرواً فالطاحنات طحناً، فالعاجنات عجناً إهالة وسمناً، ثم قال له: ما رأيك؟ قال: والله يا مسيلمة! إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، أو قال: إنك -يا مسيلمة! - تعرف أنني أكذبك.

درجات الصدق

درجات الصدق

الصدق في القصد

الصدق في القصد ومن درجات الصدق: صدق القصد، وهو الذي يكون بقلبه مريداً وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فالدرجة الأولى: أنه لا يصبر على صحبة ضد، ولا يتحمل داعية تدعوه إلى نقض عقد، ولا يقعد عن الحال بجد. ومعنى هذا الكلام أن الرجل الصادق الذي يريد وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ويريد أن يصحح ما فاته وما فرط من حق الله عز وجل وغفلته عما أريد له من الحياة مع الحق فلا يصبر على صحبة ضد، فعندما يتوب لا يستطيع أن يعيش مع أهل البطالة والغفلة، ولا يصبر على صحبة ضد، كما يقول القائل: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي وقال آخر: وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي لأرى أن قد عقلت وعندكم عقلي فالإنسان إذا رضي بصحبة أهل البطالة فليعلم أنه ميت يسعى إلى موتى مثله، زمن يسعى إلى زمنى مثله، قبر يسعى إلى قبور مثله. ولا يصبر على صحبة ضد، ولا يقعد عن الحال بجد، فيقول: فاتني الكثير مع الله عز وجل وما بقيت إلا بقية قد تكون نفساً أو نفسين أو أنفاساً. ولا ينقض مع الله عهد، فهذه هي الدرجة الأولى من درجات الصدق. الدرجة الثانية: لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص. فلا يتمنى الحياة من أجل أن يستلذ بالشهوة من طعام أو شراب أو نكاح، وإنما يتمنى الحياة من أجل الحق، فكل شيء يقربه إلى الله عز وجل، كما قال سيدنا عمر: لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا: لولا سيري على جياد الخيل في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب ساجداً، أو أجالس قوماً ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر، يعني: لولا الجهاد والصلاة في الليل، وحضور مجالس العلم ما أحببت البقاء في الدنيا. وسيدنا معاذ بن جبل مقدام العلماء يقول: اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. قيل لـ حذيفة بن اليمان: ما تشتهي عند الموت، قال: أشتهي الجنة. قيل لـ عمرو بن عبد قيس: ما تشتهي؟ قال: ليلة بعيد ما بين طرفيها، -ليلة شتاء طويلة- أحييها تهجداً لله عز وجل، هذه الدرجة الثانية من درجات الصدق. الدرجة الثانية لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص، يعني: إذا أعطاه الله رخصة مثل رخصة قصر الصلاة في السفر، فهو لا يأتيها من أجل الترفيه، وإنما يأتيها رضاء بحكم الله عز وجل وتنفيذاً لأمر الله عز وجل، فلا يلتفت إلى ترفيه الرخص، فقد يأتي شخص ويقول لك في مسألة الحجاب والنقاب، يقول: أبحث عن الأولى، وآخر يقول: أنا آخذ بقول جمهور أهل العلم أن الحجاب ليس بفرض، وآخر يقول: آخذ بقول الإمام أحمد أن النقاب هو فرض، والمصيبة أن يأتي أحد الناس يستوي عنده الراجح والمرجوح فيقول: هات لي أسهل قول قال به عالم، ثم يرقع دينه بأقوال العلماء السهلة، بل وبالأقوال التي ظهر أنها خاطئة. والغناء لا يوجد شخص قال إنه يجوز، فيترك كل العلماء والأحاديث ويقول لك: قد قال ابن حزم بجوازها وقد خطأه العلماء فيها. وبعض متأخري الأحناف قالوا: حجاب المرأة -وهذا قول ضعيف جداً ولا يقول به أحد- حجاب المرأة إلى منتصف ساقيها، فلو أتيت بامرأة لابسة إلى منتصف ساقيها وتغني الأغاني على مذهب ابن حزم إذاً: فهذه ممكن تكون أختاً ملتزمة! وكذلك يشرب نبيذ التمر على قول أبي حنيفة والبغداديين، وبعد ذلك لا يوجد التزام بالدين، وهذا يؤدي بصاحبه إلى الزندقة، كما قال أهل العلم: من تتبع رخص العلماء وأقوال العلماء الخاطئة وجعل منها ديناً يدين الله عز وجل به فهذا يؤدي به إلى الزندقة، فإن كان يوجد رخصة شرعية فافعلها فإن هذا من رحمة الله تبارك وتعالى بك، وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه. الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق: ومعنى ذلك أنك أولاً تعرف الصدق، وما هو المخالف له، وما هي درجاته، ثم بعد ذلك تبدأ في بنيان أمرك على هذا، ونتيجة الصدق أن يرضى عنك ربنا، وتعرف أن الله عز وجل راضٍ عنك قالوا: حتى تصل إلى هذا فإنك تضطر إلى متابعة رسول الله في أي شيء، فإذا رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً وتابعته رضي الله عنك في النهاية. إذاً: عليك أن تتحرى المتابعة لتفوز برضا الله عز وجل ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم. وهناك صدق بعد هذا من مقامات الدين، وهو صدق في المحاسبة، فهل أنت فعلاً تحاسب نفسك؟ قال ميمون بن مهران: الصادق في محاسبته يحاسب نفسه على الفلتات والزلات والهفوات مثل الشريك البخيل، يظل قائماً على رأسك فيحاسبك على الشيء اليسير، وكذلك أنت تحاسب نفسك على كل هفوة وغفلة، وعلى كل بادرة بدرت منك في حق مولاك. يقول عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر على ربكم، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. كان أحد العباد يأتي في موطن الجهاد يقول: اللهم إن نفسي هذه تزعم في الرخاء أنها تحبك، اللهم إن كانت صادقة فأعطها ما تريد، وإن كانت كاذبة فاحملها على ما تكره، وأطعم لحمي سباعاً وطيراً، وكان له ما أراد. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال: (أفلح إن صدق). وهذا رجل من العباد لبس أحسن ثيابه، وكان ثوباً أبيض وجبة بيضاء، فلما مر بمروج قال: ما أحلى تحدر الدم على هذه الجبة، وأشار إلى منطقة في صدره، فلما مر بهذا المرج قال: ما أجمل هذا الوادي لو أن رجلاً صاح: يا خيل الله اركبي! قالوا: فوالله! ما أتم كلمته حتى دعا داعي الجهاد، وقد رأى هو في المنام قبلها أن امرأة من أهل الجنة تقول له: سيكون إفطارك غداً عندنا في الجنة، فأصبح من يومه صائماً، فلما دعا داعي الجهاد كان في طليعة القوم، فقذف بالرمح في نفس المكان الذي أشار إليه، ولكن كان الجرح صغيراً لا يقتل نملة، فظل يداعب جرحه، ويقول: والله! إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، ومع غروب الشمس فاضت روحه إلى بارئها، ومات وهو صائم. الصدق في محاسبة النفس: توبة بن الصمة كان بالرقة وكان محاسباً لنفسه، وكان عمره اثنتين وستين سنة، فحسب عدد أيام عمره فوجدها (21500) يوم، قال: كيف ألقى الجليل بـ (21500) ذنب، هذا إذا كان في كل يوم ذنب واحد، فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟ فغشي عليه فمات من شدة محاسبته نفسه وكان صادقاً، فرأى ابنه من يقول له: يا لك رقدة إلى الفردوس الأعلى! أبوك حاسب نفسه حتى أنه مات في المحاسبة. والصدق في التوبة: فلا تكون توبتك توبة علة، فقد يكون سن الرجل سبعين سنة، وبعد ذلك يقول: الحمد لله تبنا إلى الله عز وجل، وهو لم يتب بعد، ولكن بسبب انقطاع مادة الشهوة، ولذلك يتمنى الرجوع ويقول: ما أجمل الشباب! ويتذكر حلاوة مواقعة الذنب الفينة بعد الفينة، فهذه علامة أنه كذاب. رجل يتوب لغرض دنيوي، يقول: أتوب من أجل أن يوسع الله لي الرزق، فهذا يتوب لعز التوبة ولا يتوب لذي الجلال، والرجل الذي يتذكر حلاوة الذنب الفينة بعد الفينة، هذا يدل على أن توبته توبة علة. أما توبة الصدق مثل توبة ماعز فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (والله! لقد تاب توبة لو فرقت على أمة لوسعتهم)، ومثل صدق الغامدية في توبتها، عند أن سبها سيدنا خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهلاً يا خالد! والله! لقد تابت توبة لو فعلها صاحب مكس لوسعته). ومثل توبة الفضيل بن عياض فقد كان سارقاً، وكان صاحب نساء، وبينما هو ذات يوم يتسلق الجدار ليصل إلى معشوقته سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] قال: آن الأوان يا رب! ونزل من على الجدار وأراد أن يذهب إلى خربة لينام فيها، فسمع التجار الذين كانوا في الخربة قالوا: إن الفضيل اليوم على الطريق، فلا تخرجوا. فأعلن توبته، وتمر الأيام وسيدنا سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي يميل على يد الفضيل ويقبلها، وعندما مات قال هارون الرشيد: بموت الفضيل يرتفع الحزن والورع من الأرض. سيدنا عبد الله بن المبارك يقول: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فجدد لي الحزن فأمقت نفسي. الفضيل بن عياض علم وسيد من سادات الربانيين، يثني عليه العلماء، وكان في البداية سارقاً وقاطعاً للطريق، وصاحباً للنساء. وبشر بن الحارث الحافي فالإمام أحمد عندما ثبت في محنة خلق القرآن قال لهم: ماذا قال عنا بشر؟ قالوا: قد رضي قولك وفعلك، قال: الحمد الله الذي رضى بشراً بما صنعنا، وكان في بداية أمره يعشق اللهو، وكان غنياً من الأغنياء وكان يجمع في بيته مغنيات وقياناً، فمر بالقصر رجل من الزهاد، قال: لمن هذا القصر؛ لعبد أم لحر؟ -يسأل خادمة البيت- قالت: لحر، قال: صدقت يا بنية! والله لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، أي: لو كان عبداً لله بالفعل فإنه سيتأدب مع ربه، فسمع بشر بن الحارث الحافي، فخرج وراءه وارتمى على الأرض ومرغ خديه على الأرض، وقال: بل عبد، ثم تاب، ولم يلبس حذاء طول عمره، وكان يقول: طريق صالحت به ربي ألتزمه ما حييت. وعندما أكون صادقاً في التوبة فإن ربنا يعطني بساتين طاعات في القلب لا أشعر بها. قال ذو النون المصري: رأيت ضفدعة خرجت من غدير وإذا بأفعى ترتقي ظهرها، فقلت: والله إن لهذه الضفدعة والحية لشأنا

الصدق في النيات والأعمال

الصدق في النيات والأعمال ومن درجات الصدق: الصدق في النيات، في أن تنوي بباطنك أن يكون هذا العمل خالصاً لله عز وجل، لا تبتغي جاهاً ولا منزلة ولا هرباً من ذم الناس، وإنما تريد بباطن عملك وجه الله عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21]. ثم بعد ذلك: الصدق في الأعمال، وهو استواء ظاهر العمل على المتابعة لله ولرسوله، أي: أن يكون ظاهر العمل وعلى الكتاب والسنة. بل قال أبو يعقوب النهرجوري: الصدق استواء السريرة والعلانية بأن يكون ما تبطن مثلما تظهر تماماً، ولذلك بكى أحد العباد وهو أبو عبد الرحمن الزاهد وقال: يا رب! عاملت عبادك فيما بيني وبينهم بالأمانة وعاملتك فيما بيني وبينك بالخيانة. إذاً: الصدق في الأعمال استواء ظاهر العمل وباطنه، أن يكون ظاهر العمل على الكتاب والسنة واستواء السريرة والعلانية.

الصدق في العزم

الصدق في العزم ثم هناك صدق في العزم، مثلاً: يقول رجل: أعزم لو أعطاني الله عز وجل مالاً لأتصدقن به أو سأخرج لله منه، مثلما قال سيدنا عمر: والله! لئن أتقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق، وهو صادق في عزمه هذا. وهناك كثير من الخطباء يذكر قصة الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب وهذه القصة كلها كذب وحديثها لا يصح، وهي: أن ثعلبة كان يسمى حمامة المسجد، وقال: إن أعطاني الله مالاً لأتصدقن. والله عز وجل أعطاه مالاً فلم يتصدق، والرسول سأل عنه، فقالوا: لقد غاب عن الجماعة، ولم يخرج زكاة ماله. وهذا الكلام كله كذب لم يحصل، وإن قال به بعض الخطباء؛ لأن الرجل الذي يمتنع عن الزكاة في الدولة الإسلامية يؤخذ منه شطر ماله، فشطر ماله عزمة من عزمات ربنا كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصدق على الوفاء بالعزم بأن يعزم قبل أن يعمل الشيء، ثم يوفي بعزمه هذا، لذلك لما غاب سيدنا أنس بن النضر عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غزوة بدر حز ذلك في نفسه، ثم قال: والله! لئن أشهدني الله مشهداً معهم ليرين الله ما أصنع. أي: سيرى الله ماذا سأعمل بالكافرين، فلما كان يوم أحد واستقبل الجبل، قال له سيدنا سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟! قال: إليك عني، واها لريح الجنة! إني لأشم ريحها دون أحد. ولذلك قال أبو تراب النخشبي: إن الصادق يعطيه الله عز وجل حلاوة العمل قبل الشروع فيه، فسيدنا أنس بن النضر لم يحارب بعد وإذا به يشم رائحة الجنة. قالوا: ثلاثة لا تخطئ الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة، حلاوة المنطق مثل سيدنا الحسن البصري، والملاحة مثل سيدنا وكيع بن الجراح الذي ينظر إليه الإنسان فيقول: هذا ملك كريم، والهيبة مثل سيدنا مالك بن أنس، فقد كان أمير المدينة يقول: والله! لحملي غبار العقيق على رأسي -أي: أن أحمل غبار جبل على رأسي- أهون علي من لقاء مالك. فوالله! ما عرفت الذل إلا ببابه. فسيدنا أنس بن النضر قال: إليك عني واها لريح الجنة! إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد، فلما تقدم إلى القتال قاتل حتى قتل، قالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفته إلا ببنانه، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. ومن الصادقين صديق الأنصار سيدنا سعد بن معاذ كما يلقبه ابن القيم يقول: إنه صديق الأنصار، فقد كانت منزلته لصدقه في الأنصار مثل منزلة أبي بكر في المهاجرين، وفي يوم بدر قال لرسول صلى الله عليه وسلم: إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك. هذا الصديق العظيم ثاني الصديقين في هذه الأمة سيدنا سعد بن معاذ، أصيب في أكحله في غزوة من الغزوات فتناثر الدم -وأكبر شريان في جسمه هو الشريان الموجود في الكاحل- وتقاطر الدم على كل من في الخيمة، وأراد رسول الله أن يعالجه فلم يبرأ الجرح، وكذلك فعل سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر حتى بكى سيدنا رسول الله، وضعه في حجره وبكى، قال: (اللهم إني قد رضيت عن سعد، فارض عنه). ومازال يعالجه والجرح لم يشف، انظر قوة دفع الدم من الشريان فنطق هذا الصديق بكلمة واحدة قال: اللهم إن كنت قد أبقيت رسولك لحرب يهود فأبقني، قالوا: فوالله! ما نزف الشريان وما قطر الشريان قطرة واحدة بعد ذلك، واحتبس الدم وعالجوه عند رفيدة الطبيبة الأنصارية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم، ونزل سيدنا جبريل في يوم من الأيام على رسول الله وكان مؤتزراً بعمامته فقال: من هذا الذي مات من أمتك؟ ونزل إلى الأرض من الملائكة سبعون ألف ملك لجنازته ما نزلوا إلى الأرض قبل يومهم هذا، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع إلى رفيدة، فقالت: يا رسول الله! اشتد به الوجع فأتى قومه بنو عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، فأسرع رسول الله السير لتشييعه، فقالوا: يا رسول الله! أتعبتنا جداً تقطعت شسوعنا، قال: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة، فلما وقف رسول الله على بابه وجد أمه تنوح)، وأغلب النساء النائحات يكن كاذبات، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن الصدق وصل من قلب سعد إلى أمه، فما ناحت عليه إلا بصدق، قالت له: ويل ابنك سعد حزامة وجداً وفارساً معداً، تبكي فروسيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد أو إلا نائحة سعد). ولما وضعوه في قبره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد)، لأنه بعدما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فرفضوا أن ينزلوا على حكم رسول الله، وقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ؛ ظناً منهم أنه سيحابيهم، فسيدنا سعد حكم فيهم وقال: حكمي فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى نساؤهم وذراريهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله! لقد حكمت فيهم يا سعد! بحكم الله من فوق سبع سماوات)، وفي رواية: (والله يا سعد! لقد حكمت فيهم بحكم الملك) أي: الحكم الذي يريده الله، وحكم الله هو الذي نطقت به يا سعد، فانظر لرجل موافق حكمه وقوله قول الله عز وجل، أي رجال أعز من هؤلاء؟! ثم بعد أن تم إعدام اليهود على ضوء سعف النخيل، وكان سيدنا علي بن أبي طالب هو الذي يتولى قطع أعناقهم، وبعد أن رجموهم ذهب سيدنا سعد ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم افجره؛ شوقاً إليك، أي: الشريان الذي كان ينزف، فانفجر الشريان؛ لأنه صدق في الدعاء وفي القول، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد)، وفي رواية جود إسنادها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد اشتاق إلى الله عز وجل)، ولما أخذوا في دفنه خرجت روائح المسك من قبره.

الصدق في الأقوال

الصدق في الأقوال أول درجات الصدق: الصدق في الأقوال: حتى يتم للعبد كمال الصدق، فلابد أن يكون عنده صدق في الأقوال، وصدق في الأحوال، وصدق في الأعمال. صدق في الأقوال: استواء اللسان على الصدق. صدق الأعمال: أن يكون ظاهر العمل على المتابعة للكتاب والسنة. صدق في الأحوال: أن تكون النية لله عز وجل، وأن يكون باطن العمل لله عز وجل. والصدق مفتاح الصديقية، ولا ينال هذه الدرجة كاذب على الله عز وجل بنفي ما أثبت من الأسماء والصفات، أو إثبات ما نفي، أو بتحريم ما أحل، أو بتحليل ما حرم، ولا ينالها كاذب على الله عز وجل فيما شرعه. وكمال هذه الدرجة أن يحترز الإنسان عن المعاريض، يعني: لا يلجأ إلى المعاريض إلا إذا علم هلاك عمره، يعني: لا تعلم ابنك وتقول له: قل: أبي ليس هاهنا، بحيث إنه يعمل دائرة ويضع أصبعه في نصف الدائرة، فيقصد: أبي ليس في هذه الدائرة، فلا يلجأ لهذه المعاريض إلا عندما تتيقن أنه سيضيع عمرك، وأنه سيظل السائل عنك يتكلم معك عشر ساعات، أما أن تعلم لابنك أن يقول: أبي ليس هاهنا ويضع أصبعه في نصف الدائرة، ويظن بهذا أنه ليس كاذباً، فيجب أن يراعي حقيقة المعاني التي ينطق بها. رجل عند أن يدخل في الصلاة يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وقلبه عند مباراة الأهلي والزمالك، فلا ينفع هذا، فهو لم يوجه وجهه ولا شيء من هذا القبيل. رجل عند أن يدخل في الصلاة يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، إذاً: لن يتحلى العبد بالعبودية التامة لله عز وجل حتى يتخلص من كل رق: رق الشهوات والأموال والجاه والرياسة، وهنا تحل العبودية الكاملة لله عز وجل. إذاً: للعبودية معنى، فكل من تقيد بقيد شيء فهو عبد له، قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة!). وكمال الصدق في القول أن تصدق في موطن لا ينجيك فيه إلا الكذب، مثل سيدنا ربعي بن حراش وهو أحد رواة الكتب الستة، وهذا العبد الصادق ما كذب قط، وكان الحجاج يطارد ابنيه، فقالوا للحجاج: لو قلت لـ ربعي عن مكان ولديه لم يكذبك أبداً، فأتى بـ ربعي بن حراش فقال له: أين ولداك؟ قال: الله المستعان! هما في البيت، يعني: مخبئهم في البيت، فأعجبه صدقه فعفا عن ولديه، قال: عفونا عنهما من أجل صدقك. الجيلاني إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، من أئمة الحنابلة، تعلم على يديه ابن قدامة، والإمام ابن قدامة شيخ كبار الحنابلة، قال الجيلاني: خرجت في طلب العلم وأنا ابن سبع، فمررنا بأرض يقال لها همدان، فخرج علينا جماعة من الأعراب -من اللصوص- سرقوا كل ما عندنا، فأتى إلي لص كبير، وقال: ما معك؟ قلت: أربعون ديناراً -يعني: أربعون جنيهاً من الذهب- فتركه، ثم أتى إليه لص آخر قال: ما تحمل؟ قال: أربعون ديناراً، فأتى به إلى كبير اللصوص، قال: ما حملك على أن تقول ذلك، لماذا لم تكذب؟ قال: عاهدت أمي على الصدق فلا أخون عهدها، فبكى كبير قطاع اللصوص وقال: أنت لا تخون عهد أمك وأنا لا أبالي ألا أخون عهد الله عز وجل، فأنا تائب اليوم على يديك، فقال بقية اللصوص: كنت كبيرنا في السرقة، فأنت اليوم كبيرنا في التوبة، وتابوا على يد الجيلاني على يد طفل صادق.

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لقد خلق الله السماوات والأرض قبل أن يخلق بني آدم، وقدر فيها الخير والشر، وجعل من عباده الأخيار والفجار، وفاوت بينهم في الأعمال والمنازل في الدنيا والآخرة، فلا يستوي أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في كل المراحل والأزمان.

محنة في فلسطين في زمن الذل والهوان

محنة في فلسطين في زمن الذل والهوان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: فكل كلمات المعاجم لا تكفي لتصوير ذل المسلمين وبؤسهم في فلسطين: القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا قدساه في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا ولكن لن تعود القدس بالمظاهرات، ولن تعود القدس بالتهييج الفارغ، ولن تعود القدس بخروج بنت مدرسة ثانوية متبرجة غاية التبرج ثم تهيج الناس في الشوارع بأغان أو بكذا، أو برجل لابس بنطلون (شرلستون) أو كذا ويمسك بيده فتاة مثلاً وهم في قلب المظاهرة، وإنما تعود القدس بعودة جيوش صلاح الدين الأيوبي. والتاريخ يعيد نفسه، وصلت الأمة الإسلامية في أوقات من الذل والهوان إلى أكثر مما نحن فيه في أيام التتر، كان الجندي التتري يقول للمسلم: انتظرني هاهنا حتى آتي بحجر أقتلك به، فينتظره المسلم. ثم من الله عز وجل بـ قطز، وسيمن الله عز وجل بـ صلاح الدين الأيوبي من جديد يوم أن تكون الأمة مهيأة لذلك، يوم أن يكون الصفوة من الكوادر مهيئين لذلك بالدعوة إلى الله عز وجل، والصبر على الدعوة أفضل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال القرطبي: تدعو! وتدعو! وتدعو! حتى يأذن الله تبارك وتعالى بالفرج وليس لك إلا هذا، وأن توضح للناس أن عداءنا لهؤلاء القوم عداوة دينية مستحكمة، كما يقول المولى عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]. والدين كله فرق، سمى الله عز وجل كتابه فرقاناً، وسمى يوم بدر يوم الفرقان، وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم فرقاً ما بين الباطل والحق. ولقد أقسم الله عز وجل أنه لا يسوي بين المتضادين، ويجمع بين المتماثلين، قال الله عز وجل: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] قولوا للناس: تعالوا إلى رحاب الله عز وجل، إذا أردتم أن تدخلوا فلسطين فاستقيموا على درب الله عز وجل. إن فلسطين لن تعود إلا بالاتباع، انظر هل أنت مع الله عز وجل؟! هل أنت ممن بقي مع الله عز وجل أو من بقي عن الله عز وجل؟! هل أنت راغب عن الله عز وجل أم راغب إلى الله عز وجل؟! هل أنت منقطع إلى الله عز وجل أم شارد عن طريق الله عز وجل؟!

مقارنات بين المؤمن والفاجر

مقارنات بين المؤمن والفاجر

الفرق بين المؤمن والفاجر في العيش

الفرق بين المؤمن والفاجر في العيش كم بين الأولياء والأعداء؟ وهل تستوي الظلمة والضياء، واليقين والتهمة، والوصلة والفرقة، والمعتكف على بساط الأنس، والمنحرف عن الباب، والمتصف بالولاء، والمنحرف عن الوفاء؟ لا يستوي المشغول بهم والمشغول عنهم، والمنقطع إليهم والمحجوب عنهم، لا يستوي من اصطفاه في الأزل ومن ران على قلبه سوء العمل. أفمن كان في حال القرب يجر أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسي وباله؟! أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعاني مشقة الكلفة؟! أفمن هو في روح إقبالهم عليه كمن هو في محنة إعراضهم عنه؟! أفمن بقي مع الله عز وجل كمن رغب عن الله عز وجل؟! أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالي الكفران ووحشة العصيان؟! أفمن أيد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن اتسم بالخذلان ووسم بالحرمان؟! لا يستويان ولا يلتقيان. هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقصت خطى حمالة الخطب فكما لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار. هما طريقان: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي ليس من بات قريراً عينه مثل من أصبح قصراً دارسا ليس من أكرم بالقرب كمن ظل يهذي بلعل وعسى ليس من ألبس أثواب التقى مثل من ألبس ثوباً دنسا ليس من سير به مثل الذي بات يرعى للحمى مبتئسا ليس من شاهد صبحاً واضحاً مثل من شاهد ليلاً غلسا ليس من أشبه غصناً يانعاً مثل من أشبه عوداً يابسا قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]. وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:20 - 22]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]. وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]. وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109]. وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]. وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19]. وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. من أخصر القضايا في القرآن الكريم: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، تجد في القرآن أربعمائة وخمسين وجهاً تقريباً للمقارنة بين المقبل على الله عز وجل والمعرض عنه، وهذا يحتاج جمعه لمدة سنتين، فلو أخذنا نقطة واحدة: عيش هذا وعيش هذا، كما قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]. قال الإمام ابن القيم في الحياة الطيبة: قد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن، وغير ذلك والصواب: أنها حياة القلب وسروره، وبهجته ونعيمه، ومعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه والتوكل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة. ألم يقل الإمام ابن القيم: مساكين أهل الدنيا! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها: لذة الأنس بالله عز وجل. ويقول: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. ويقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب. ويقول إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف. إن كنت في سعادة حقاً فلم تحرم غيرك من المسلمين من الدعوة إلى هذه السعادة؟! إن كنت في نعيم الأنس بالله عز وجل فلم لا تصبر على دعوة الناس؟! لو أن معك ألف ملتزم فقط، وصبرت على الدعوة إلى الله عز وجل، وتهذيب من معك بالعلم والعمل والصبر على الدعوة، فكم سيكون معك بعد عشر سنوات؟ لو علمت أن هذا الذي تربيه أنت يدعو إلى الله عز وجل، وينشر ما يتعلمه كم سيكون العدد بعد عشر سنوات؟! لو صبرت بدلاً من التهييج الفارغ سيكون هناك عدد كبير جداً، احصره ثم اسأل نفسك كم ضيعت من السنوات مع الله عز وجل؟ اصبر على الدعوة إلى الله عز وجل، واصطبر لعبادته مثلما صبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

الفرق بين المؤمن والفاجر في الحياة

الفرق بين المؤمن والفاجر في الحياة يقول ابن القيم: قد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وغيره: أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة أي: أن أعمال المؤمنين في الدنيا من صلاة، وزكاة، وجهاد نفس، ومحبة لله عز وجل، وشوق إلى الله عز وجل: أفضل من نعيم الجنة، لماذا؟ قال: لأن نعيم الجنة حظ الناس من الله عز وجل وتمتعهم، فأين يقاس إلى الإيمان؟ حظ الناس من التمتع والأكل والشرب ونكاح الحور العين أين يقاس مع الإيمان وأعماله، والصلوات، وقراءة القرآن، والجهاد في سبيل الله؟! فالإيمان متعلق به سبحانه، وهو حقه على العباد. ونعيم الجنة متعلق بهم وهو حظهم، فهم إنما خلقوا للعبادة وعلى الطرف الآخر قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] جمهور المفسرين فسروها أنها عذاب القبر. قال ابن القيم: والحقيقة أن المعيشة الضنك في الدور الثلاث، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر، ونكد العيش، وكثرة الخوف، وشدة الحرص والتعب على الدنيا، والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر، فأي عيش أضيق من هذا العيش لو كان في القلب شعور؟! في قلبه الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة، فهو في جحيم قبل الجحيم الأكبر: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:71 - 72] ذقتم قليلاً من العيش النكد قبل الجحيم الأكبر في الدار الآخرة. يقول ابن القيم: فهذا المتاع ذاته شقوة في الدنيا والآخرة، غصة تعقبه، وعقابيل تتبعه، يتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف، ضنك الانقطاع عن الله عز وجل، وضنك القلق والشك والحرص والحذر والحسرة على كل ما يفوت، هو منكوس موكوس منحوس، عنده غبش ولبس في الرؤية وتأرجح في الخطوة، وحيرة وشرود في الاتجاه، وطريق بهيم لا معالم فيه. قولوا للناس: من وجد الله فماذا فقد؟! ومن فقد الله فماذا وجد؟!! كما لا يجتنى من الشوك العنب، لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها، ومن كانت الآخرة همه؛ جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

الفرق بين المؤمن والفاجر في القرب من الله

الفرق بين المؤمن والفاجر في القرب من الله الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فهذا مع الله عز وجل، وذاك مع الشياطين هذا في معية الله الخاصة وهذا تتنزل عليه الشياطين!! هذا تتنزل عليه الملائكة تثبته، وربما تسلم عليه، مثلما فعلت مع عمران بن حصين لما صبر على أذى المرض قال: إن الملائكة لتسلم علي. وكما قال الصحابة: إن السكينة تنطق على لسان عمر، أي: إن الملائكة تنطق على لسان عمر. أي حال حال هذا الذي يفر الشيطان من وجهه؛ (ما رآك الشيطان في طريق يا ابن الخطاب إلا وسلك سبيلاً غيره). فاروق الإسلام، سمي الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل. من وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟!! من كان مع الله فإن الله يدافع عنه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. ويصلي عليه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43] صلاة الله ثناؤه على العبد، فماذا تريد بعد ذلك؟! كفاك جزاء على الطاعة أن رضي منك أن يستغفر لك حملة العرش ما تساوي الأرض ومن عليها حتى يستغفر حملة العرش لعابد؟! يستغفر لك الأنبياء قبل مجيئك إلى دار الدنيا نوح عليه السلام أول نبي أرسل يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] إذاً: دخلت في الجملة، بل يقيم الله عز وجل رسوله ليستغفر لك قبل مجيئك إلى الدنيا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. فلو حسبت عملك كله في دار الدنيا مدة سبع سنوات وتخرج منه مكالمة الهاتف والموبايلات والأكل والشرب والذهاب إلى العمل وحصرت العبادة المحضة مدة سبع سنوات لوجدت أنها لا تساوي شيئاً؛ لكن ينمي الله عز وجل هذا العمل القليل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة - مليون حسنة - ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفعه ألف ألف درجة في الجنة، وبنى له بيتاً في الجنة) قولوا للناس هذا حببوا إلى الناس الإيمان والعمل الصالح ذكروهم بفضل الله يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] يعني: يقتلون أولياءه، ثم يدعوهم بعد ذلك إلى التوبة، وهذه حاله مع من أعرض عنه مع من فتن أولياءه ثم تاب فكيف حاله مع من بقي مع الله عز وجل؟! والآخر يقول عنه المولى عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] رجل في سلم مع الله عز وجل سلام العقل والضمير والأسرة والمجتمع سلم مع الكون سلم مع الحياة وآخر في حرب مع الله عز وجل! هذا يسلم المولى عز وجل عليه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:78] {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:109] والآخر يقول فيه المولى عز وجل: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:99]. هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، إنهم وأن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم. هؤلاء مولاهم الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. هذا تفرح الأرض به، وتشتاق لمشيه عليها، وهذا تشمئز الأرض منه تلعنه حشرات الأرض وهوامها ينادي الجبل باسمه: هل مر بك ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال: نعم، قال: أبشر بخير يوم طلع عليك. {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29] هذا في شأن العاصي أو الكافر، أما المؤمن فإن الأرض تبكي عليه عند موته، تبكي غدوه ورواحه إلى المسجد، ومصعد عمله من السماء! فما ظنك بنهار هذا ونهار ذاك، وليل هذا وليل ذاك، وسماء هذا وسماء ذاك، وعلم هذا وعلم ذاك، ونوم هذا ونوم ذاك، وثوب هذا وثوب ذاك؟! يعني: حتى لو لم يكن الثوب ملبوساً، فستجد هذا الثوب جلباباً أبيض وطاقية فيها مسك وسواك، وثوب العاصي فيه ضنك، فهذا الثوب يعرف وإن لم يكن ملبوساً، فما ظنك بكل لحظة من لحظات حياته، فهذا في جحيم وهذا في نعيم! انظر إلى قلب هذا وقلب ذاك طمأنينة هذا القلب وريبة هذا القلب سلامة هذا القلب ومرض هذا القلب خشوع هذا القلب وكبر ذاك القلب تقوى هذا القلب وزيغ هذا القلب لين هذا القلب وقسوة هذا القلب وجل هذا القلب وغيظ ذاك القلب! هذا القلب المنيب الصالح، وذاك القلب اللاهي والمغمور في المنكر، طول عمله في استحسان القبائح والركون إلى الظلمة قبول الفتن واطراح الحياء من الخلق والجرأة على الخالق والشح والإعجاب والوهن والاستكانة للعدو والاشمئزاز القلب والصد والشذوذ كل هذا بعد عن الله! يقول الله في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذارعاً، ومن تقرب إلي ذارعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) ومن أتاني هرولة؟! سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) هذا في الجوارح فكيف بمن تقرب إلى الله عز وجل بروحه وقلبه؟! قال ابن القيم: وهذه منازل في القرب لا تحيط بها العقول وتكفي الإشارة إليها فقط: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب دون نزوله ما معنى: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) وقوله: (من أتاني يمشي أتيته هرولة)، إذاً يأتيه المولى عز وجل كيف؟!! منازل في القرب لا تحيط بها العقول، وهذه منازل في الجفوة والإعراض ووحشة القلب لا يحيط بها شيء.

الفرق بين المؤمن والفاجر عند سكرات الموت وما بعدها

الفرق بين المؤمن والفاجر عند سكرات الموت وما بعدها وعند السكرات هذا تتنزل عليه الملائكة فتقول له: (اخرجي أيتها الروح الطيبة! كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان) وهو يتقلب في نعيم الجنة، بعد ذاك لا ينسى بشارة ملك الموت له. وهذا الآخر كما قال الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]. انظر إلى هذا وذاك! هذا تصعد روحه في كفن من أكفان الجنة، هل يساوي عمله هذا الكفن؟! والله لا يساويه، وهذا جاءه الكفن خصيصاً من الجنة، بل لا تخرج روحه إلا في ضبائر الريحان يؤتى له: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة:88 - 89] يؤتى له بضبائر الريحان من الجنة يشمها، وعند شمها تقبض روحه. هذا يشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، بعد ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة عام، يعني: تشيعه الملائكة مسيرة ألف سنة ضوئية أنت لو مشيت في جنازة شخص ست ساعات تقول: ارموا بها في هذا المكان، كفى مشياً! أما الفاجر فلا تفتح له أبواب السماوات هذا يقال له: (أن صدق عبدي) وهذا يقال له: (أن كذب عبدي)؟! والله لو لم يكن من جزاء إلا هذا لكفى. اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! اللهم صل على محمد وآله. اللهم إنا لا نملك إلا الدعاء لإخواننا من أهل فلسطين، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ثبتهم، اللهم ثبتهم، اللهم ثبتهم، اللهم احم أعراضهم، واحقن دمائهم، احم أعراضهم واحقن دمائهم، واحفظ أبطالهم، اللهم احفظ أبطالهم، اللهم احفظ أبطالهم. اللهم ثبت قلوبهم، وسدد رميهم، اللهم عليك بمن ظلمهم، خذ لدينك منهم حتى ترضى، وخذ لأعراض المسلمين حتى ترضى، خذ لبيوت المسلمين حتى ترضى، وخذ لأطفال المسلمين حتى ترضى، خذ لنساء المسلمين حتى ترضى. إذا أردتم أن تنصروا أهل فلسطين فكونوا من الصالحين وادعوا الناس إلى صراط الله عز وجل، وسيأذن الله عز وجل بالنصر، نحن أحرص على أمن هذا البلد من أي إنسان كائناً من كان، هذه البلدة بلدتنا، حبيبة إلينا؛ لأنها أرض من أرض الإسلام ندعو إلى الله عز وجل فيها، فاملئوا البلاد طولاً وعرضاً بالدعوة إلى الله عز وجل، علموا الناس وادعوهم إلى صراط الله عز وجل، واصبروا على دعوتهم عسى الله عز وجل أن يأذن بنصر من عنده.

القدس

القدس إن للقدس مكانة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، فهي مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الملائكة، ومهد عيسى، وملك سليمان بن داود، ومهاجر إبراهيم، ومأوى الرسالات، وقد شرفها سبحانه وذكرها في كتابه، وجعل أمرها للمسلمين في كل زمان ومكان، فواجبنا نحوها أن نسعى إلى تحريرها من أيدي اليهود الغاصبين، كما حررها عمر وصلاح الدين.

مكانة القدس في الإسلام وواجب المسلمين نحوها

مكانة القدس في الإسلام وواجب المسلمين نحوها إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. القدس مدينة السلام، ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الملائكة، ومهد عيسى، وملك سليمان بن داود، ومهاجر إبراهيم عليه السلام، ومأوى الرسالات والديانات. هذه القدس التي شرفها الله عز وجل بذكرها في كتابه الكريم، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] فهي قدسية الفرع والآباء والأجداد، قدسية التراب المبارك حوله، فقد نص القرآن على قدسيتها وعلى طهارتها، وبسببها أوقف الله عز وجل الشمس ليوشع بن نون نبي من أنبياء الله عز وجل، وهو فتى موسى الذي تولى حكم بني إسرائيل بعد وفاة نبي الله موسى، فلما توفي نبي الله موسى بأرض التيه قبل أن يفتح بيت المقدس فتحه فتاه يوشع بن نون نبي بني إسرائيل، فكان يقاتل الكفار الذين في هذه المدينة، فحبس الله عز وجل له الشمس عن المغيب حتى يستكمل فتح هذه المدينة المباركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حبست الشمس على بشر قط إلا على يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن سليمان عليه السلام: (إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالاً ثلاثة: سأله حكماً يصادف حكمه فأوتيه) يعني: أن يحكم فيما يتعرض له من الفتاوى بحكم يوافق حكم الله عز وجل، ثم قال: (وسأل الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا تنهزه -أي: لا تأتي به- إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) هذا الحديث صححه الشيخ الألباني. يعني: أن سيدنا سليمان بن داود سأل ربه حكماً يوافق حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي أحد بيت المقدس للصلاة فيه لا يخرجه من بيته إلا الصلاة فيه، أن يغفر الله عز وجل له كل ذنوبه، وأن يخرجه من خطاياه كيوم ولدته أمه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) يعني: لا يأتي أحد للصلاة في بيت المقدس إلا غفر الله له ذنوبه كلها وكل ما تقدم من ذنبه، وهذه كرامة عظيمة ومنقبة لبيت المقدس، والخلافة المقدسة التي ستكون علامة هذه النبوة في آخر الزمان سيكون مقرها بيت المقدس في فلسطين، كما جاء في حديث عبد الله بن حوالة لما وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه قال له: (كيف أنت يا ابن حوالة إذا نزلت الخلافة بالأرض المقدسة؟ لساعة يومئذ أقرب إليكم من قرب يدي هذه من رأسك). هذه المدينة المقدسة وجّه النبي صلى الله عليه وسلم جل اهتمامه -بعد أن حرر الكعبة من الأوثان- وجّه كل همّه تجاه بيت المقدس، فأرسل أعز أحبابه زيد بن حارثة وابن عمه جعفر الطيار الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أشبهت خلقي وخُلُقي) وعبد الله بن رواحة، وجههم إلى مؤتة، وهي من أرض فلسطين، وسالت دماء زيد وجعفر الطيار وعبد الله بن رواحة على ثرى فلسطين في مؤتة، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقد بيده الشريفة اللواء لـ أسامة بن زيد يدفعه لملاقاة الروم، ولما داهمت جيوش المرتدين المدينة وأحاطت بالمدينة كلها، قالوا لـ أبي بكر الصديق: لا تنفذ بعث أسامة، قال: والله! لو أخذت خيول الروم بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذت بعث أسامة، وما كنت لأحل عقداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. ووجّه الصديق الجيوش لفتح بلاد الشام، وفتح سيدنا عمرو بن العاص أكثر مدن فلسطين، فتح غزة ويافا ونابلس، وكانت الجيوش التي وقفت على أبواب فلسطين تحت قيادة أمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، ورفض القساوسة ببيت المقدس أن يسلموا المفتاح إلا لـ عمر، وأرسل أبو عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأن يأتي لفتح بيت المقدس، فأتى على دابته، فقال له أبو عبيدة لما تلقاه في الشام: يا أمير المؤمنين! إنك تلقى وجهاء الناس وكبراءهم فلو غيرت دابتك وثوبك، وقد أعطاه ثوب كتان بدلاً من ثوبه المرقع، فضربه عمر في صدره وقال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! ليس الأمر هاهنا -يعني: ليس الأمر من شأن الأرض ومن عليها- إنما الأمر هناك وأشار إلى السماء، ثم قال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ثم جعل عمر يقول: أما تنظر إلى هؤلاء ينظرون إلى مراكب قوم لا خلاق لهم، ولما دخل عمر بيت المقدس وجدهم قد جمعوا النجاسات والحيض ووضعوها في بيت المقدس، فجعل عمر رضي الله عنه يجمع بثوبه الشريف هذه النجاسات ويخرجها منه، فلما رأى الصحابة والتابعون فعل أمير المؤمنين عمر جعلوا يفعلون ما يفعل، وأخذ عمر العهد على نصارى إيليا (بيت المقدس)، وهذه الوثيقة العمرية مسجلة في التاريخ، واشترط النصارى على أنفسهم الآتي: أن نوقر المسلمين في مجالسهم، وأن يقام لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، وأن تدق الأجراس في جوف الكنائس دقاً خفيفاً بحيث لا يسمعها المسلمون، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس نعل ولا في فرق شعر إلى غير ذلك. هذه وثيقة فيها كل العز، وكان من نص الوثيقة: أنه لا يسمح لليهود بدخولها. وهؤلاء اليهود يكذبون ويقولون: إن لنا أصلاً في القدس وإن الهيكل دُمِّر تدميراً كاملاً، والحفريات طوال مائة سنة في الواقع لم تعثر على حجر واحد من حجارة الهيكل المزعوم، ويقولون: إن لنا حضارة في بيت المقدس منذ ثلاثة آلاف سنة، مع أن النصارى بأنفسهم اشترطوا على المسلمين ألا يسكن اليهود في بيت المقدس، وظلت القدس عزيزة عظيمة في أيدي المسلمين، وسيدنا عمر بن عبد العزيز لما أراد البيعة جمع ولاة الأمر وأخذ البيعة له منهم في بيت المقدس، وعبد الملك بن مروان أخذ بيعة الخلافة في بيت المقدس، والوليد بن عبد الملك باني قبة الصخرة أيضاً أخذ الخلافة في بيت المقدس، وزكوات مصر أوقفت في الخلافة الأموية لمدة سبع سنوات كاملة، أوقفها الوليد بن عبد الملك على بناء قبة الصخرة وما حول بيت المقدس؛ فلماذا هان هذا المسجد وهذه الأماكن الطيبة الطاهرة علينا؟ بيروت في اليم ماتت قدسنا ذُبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا أقزامنا ضيعونا حينما فسقوا باعوا المآذن والقرآن والدينا أقزامنا من توارى صوتهم فزعاً والأرض تسبى وبيروت تنادينا أقزامنا من أضاعوا السيف من يدنا وأودعونا سجون الليل تطوينا قم من ترابك يا بن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يداوي جرح أمته ويطلع الصبح ناراً من ليالينا هل من صلاح لشعب هده أمل ما زال رغم عناد الجرح يشفينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا

ذكر وقت احتلال الصليبيين للقدس ودور آل زنكي وصلاح الدين في تحريرها منهم

ذكر وقت احتلال الصليبيين للقدس ودور آل زنكي وصلاح الدين في تحريرها منهم لقد كان أول احتلال للصليبيين للقدس في يوم الجمعة سنة (482هـ) وكان في عهد الفاطميين غلاة الشيعة الزنادقة المارقين بمصر، ويومها سلموا القدس للصليبيين ولم يدافعوا عنها، ولم يقاتلوا في سبيلها، ولم يرفعوا سلاحاً في وجه الصليبيين، فتكالبت الجيوش الصليبية على احتلال بيت المقدس، واحتلوا الرها أول مدينة احتلت من بلاد الشام، ثم احتلوا أنطاكية، ثم دخلوا إلى بيت المقدس بعد حصار أربعين يوماً، ولما دخلوها لم يوفوا للمسلمين بأي عهد، حتى سار القائد الصليبي الذي فتح بيت المقدس في شوارع القدس وصار الدم إلى ركبتيه، وقتلوا سبعين ألف مسلم، وجعلوا الصليب على قبة الصخرة، وجعلوا من المحراب مربطاً لخيولهم وخنازيرهم، وبقي الصليبيون (91) سنة في القدس، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل. وهناك رسالة دكتوراه محضرة في جامع الأزهر عن الحقد الصليبي تثبت أنه في أثناء احتلال الصليبيين لمدينة معرة النعمان ذبحوا بعض المسلمين وشووهم وأكلوا لحومهم، وهذا ثابت، وهو ينم عن الحقد الصليبي والتعصب الصليبي ضد الإسلام والمسلمين. ثم بدأ المسلمون يستيقظون في عهد عماد الدين زنكي، واستردوا مدينة الرها، وهي أول مدينة استردوها من الصليبيين، وفرح المسلمون فرحاً عظيماً، حتى سموها فتح الفتوح، ثم مات عماد الدين زنكي قبل أن يكمل تحرير بيت المقدس، فتولى الأمر من بعده ولده نور الدين محمود زنكي سلطان الشام، وكان صلاح الدين الأيوبي عاملاً من عمّاله فأرسله إلى مصر مع عمه أسد الدين شيركوه. ونور الدين محمود زنكي السلطان الزاهد العابد أعد منبراً ليدخل به بيت المقدس يوم تحريره ليخطب عليه؛ وعندما حاصر الصليبيون مدينة دمياط أرسل إلى أسد الدين شيركوه وصلاح الدين بالجيوش من الشام، واشتد به الأمر واجتمع مع أركان حربه فقالوا له: إن لك حديثاً يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلسلة كلها بالتبسم فتبسم أنت حتى تكمل السلسلة لك قال: إني لأستحي من الله عز وجل أن يراني مبتسماً والفرنج محاصرون لدمياط، يقول عنه إمام مسجده: ولقد امتنع والله عن تناول الطعام والشراب من كثرة الغم والحزن الذي اعتراه. هذا السلطان العظيم سلطان الشام كانت له مواقف عظيمة في صد الصليبيين، منها: موقعة حارم فقد اجتمع له ثلاثون ألف صليبي يتزعمهم كل ملوك أوروبا، فقتل عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف، ولما اشتدت الوطأة في موقعة حارم نزل عن فرسه واحتمى خلف تل وجعل يعفر خده في التراب ويقول: اللهم لا تنصر عبدك محموداً وانصر دينك وعبادك، ما شأن محمود الكلب بين الله وبين عباده؟ فلما اشتد حصار الصليبيين لدمياط رأى إمام المسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: بشِّر نور الدين محمود زنكي بأن الله قد رفع الحصار عن دمياط، قال: قلت: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: قل له: العلامة علامة تل حارم؛ قال: فتلقيته عند دخوله المسجد قبيل صلاة الفجر فقلت له: أيها السلطان أبشرك بانتصار المسلمين في دمياط، فقال: وما علامة ذلك؟ قال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: قل لـ محمود: العلامة علامة تل حارم يوم أن عفرت وجهك في التراب وقلت: اللهم انصر بلادك ودينك ولا تنصر محموداً ما شأن محمود بين الله وبين عباده؟ هذه القصة ذكرها ابن الأثير وابن كثير والإمام الذهبي في تاريخه. فخر نور الدين محمود زنكي ساجداً لله عز وجل فرحاً باكياً. هذا السلطان العظيم كان يكثر التهجد بالليل، وكذلك كانت زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، ففي ذات ليلة قامت امرأته غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها فقالت: فاتني ورد البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، وقال ابن الأثير: إن بعض المسلمين لما دخلوا بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة لها سمعوهم يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون نور الدين محمود زنكي - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه بين يدي ربه ليلاً، فلا بد أن ربه ناصره علينا. قال ابن الأثير: فهذه شهادة الكفار في حقه، شهدوا له أن هذا العبد صالح وسينصره الله تبارك وتعالى.

تولي صلاح الدين أمور الحكم ودوره في تحرير القدس

تولي صلاح الدين أمور الحكم ودوره في تحرير القدس ومات نور الدين محمود زنكي قبل أن يكحّل ناظريه بفتح بيت المقدس، وأكمل المسيرة صلاح الدين الأيوبي سنة (555) هجرية. قال أبو حميد الطويل: دخلت على إمام الموصل الشيخ عمر الملا فوجدت رجلاً من المصريين يقول له: رأيت فيما يرى النائم أن أرضاً مملوئة بالخنازير وأن رجلاً معه سيف يقتل هذه الخنازير، قال: فظننت أنه المسيح عيسى بن مريم فقلت: المسيح عيسى بن مريم؟ قال: لا، بل يوسف -فـ يوسف هذا هو صلاح الدين الأيوبي - والناس ظنوا أن يوسف بن تاشفين هو الذي سيحرر بيت المقدس، أو ظنوه المستنجد بالله الخليفة العباسي، فلما كان تحرير بيت المقدس على يد يوسف صلاح الدين الأيوبي تذكر هذا العبد الصالح تلك الرؤية الصالحة. ورأت أم صلاح الدين يوم حملت به من يبشرها: أن بطنك هذه تحمل سيفاً من سيوف الله عز وجل، ألا يا صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر يحاصرنا في اليوم بليون كافر ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر حصانك في سيناء يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكر وتأبى جراحي أن تضم شفاها كأن جراح الحب لا تتخثر تناديك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نساء فلسطين تكحلن الأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصّر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر وأصرخ يا أرض المروآت احبلي لعل صلاحاً ثانياً سوف يظهر مرض صلاح الدين الأيوبي فقال له قاضيه الفاضل ووزيره: انذر لله عز وجل إن شفاك الله من مرضك أن توجه كل همك لتحرير بيت المقدس، فنذر لله عز وجل بذلك، فلما شفاه الله من مرضه وفّى بهذا النذر، وأرسل إليه شاب من دمشق كان سجيناً في بيت المقدس يقول له: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس جاءت إليك رسالة تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس فتوجه صلاح الدين الأيوبي لفتح بيت المقدس والتقى بالصليبيين في حطين في آخر ربيع الآخر، وكان عدد الصليبيين ستين ألفاً ومعهم ملوك أوروبا، وانتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين، وكانت معركة عظيمة لم يُسمع بها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فمن رأى الأسرى قال: ليس هناك قتيل، ومن رأى القتلى قال: ليس هناك أسير، فقد أسر ثلاثين ألفاً، وقتل ثلاثين ألفاً، ووقع كل ملوك أوروبا في الأسر ومنهم رجل اسمه البرنس أرناط وكان شديد العداوة لله ورسوله، حتى أنه قبض على جماعة من المسلمين عند قرية الشوبك، فجعلوا يسألونه بالله وبالعهد الذي قطعه مع المسلمين فقال: نادوا محمداً ليخلصكم ثم قتلهم، فنذر صلاح الدين الأيوبي إن مكنه الله من أرناط أن يقتله، فلما وقع ملوك أوروبا كلهم في الأسر قتله، وكان يوماً عظيماً للمسلمين. قال ابن الأثير: ولقد رأينا الفلاَّح من بلاد الشام يجر بطنب خيمته يسوق ستة وثلاثين أو خمسة وثلاثين من أسرى الفرنجة، ورأينا الرجل من الصليبيين يُباع بـ (زربول) يعني: نعل في لغة الشام -يباع الرجل منهم (بزربول) وهذا يدل على هوانهم في تلك الموقعة. ولما تقدم الملوك الأسرى فكان من عادة العرب لو سقوا أسيراً أو أطعموه لا يقتلونه، فالسلطان جفري صاحب الكرك أراد أن ينجي أرناط من قتل صلاح الدين له فأعطاه الشراب الذي قدّمه له صلاح الدين ليسقيه من عطشه، فقال له صلاح الدين: أنت الذي سقيته، أنا ما سقيته، ثم قال: أنا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الإسلام فأبى، فقتله بسيفه؛ غضبة لله ولرسوله. وفي السابع والعشرين من رجب سنة (583 هجرية) حاصرت جيوش صلاح الدين بيت المقدس من كل الجوانب، واستعد المجاهدون والمتطوعة برميها بالنفاطات وبالمجانيق، وعند ذلك عرض بليان بن نيزران والي القدس من قبل الصليبيين على صلاح الدين الأيوبي أن يتنازل له بالقدس صلحاً، فقال له صلاح الدين: والله! لا آخذها إلا عنوة كما أخذتموها من المسلمين عنوة، وأقتل رجالكم وأسبي نساءكم، فقال له بليان بن برزان: إذاً والله نقتل كل من معنا من أسرى المسلمين -وكانوا خمسة آلاف أسير- ونقتل نساءنا وأطفالنا، ونهدم المصانع -يعني: البيوت- ونغور نبع بيسان، ثم نخرج إليكم نقاتلكم في الصحراء، لا يقتل منا قتيل إلا قتل منكم عشرة ودون قيامة تقوم القيامة، وهنا استشار صلاح الدين رجال مشورته ورق لأسرى المسلمين، ورضي أن يخرجوا من بيت المقدس وترك لهم مهلة أربعين يوماً، والذي لا يستطيع أن يدفع من الرجال عشرة دنانير ومن النساء خمسة دنانير وعن كل طفل وطفلة ديناران يقع في أسر المسلمين، فوقع في أسر المسلمين بهذا الشرط بعد أربعين يوماً ستة عشر ألف أسير، وضم إلى بيت مال المسلمين مائتا ألف دينار، ودخل المسلمون في السابع والعشرين من شهر رجب بيت المقدس وكان يوم جمعة، ولم يستطيعوا أن يصلوا الجمعة في ذلك اليوم؛ لكثرة ما كان فيه من النجاسات والخنازير، وظلوا أسبوعاً كاملاً يغسلون بيت المقدس بالماء الطاهر، ثم بعد ذلك بماء الورد الفاخر، وأنزل الصليب من فوق قبة الصخرة، وعلا الأذان، وخفت صوت القسيسين والرهبان، وعُبد الواحد، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وصدر المنشور من السلطان أن يتولى رجل من قريش الإمامة في المسجد، فأتى بكل آيات الحمد المذكورة في القرآن الكريم؛ وكانت هذه الأيام أياماً عظيمة. ويا قدس هل أبقيت دمعاً لنائح حنانيك من شوق ومن عبرات ثم قام صلاح الدين الأيوبي بعد تحريره لبيت المقدس بتحرير باقي القلاع، وقبل أن يحرر بيت المقدس فتح عكا وصلى الجمعة في مسجدها في شهر محرم سنة (583 هجرية) بعد غياب صلاة الجمعة مدة اثنين وسبعين سنة عن عكا، وحرر أربعة آلاف أسير مسلم كانوا في عكا، وافتتح خمسين مدينة. هذا الرجل العظيم صلاح الدين الأيوبي كان يشكو من الدماميل في ظهره وفي وسطه، حتى إنه ما كان يأكل إلا متكئاً على جنبه، وبرغم هذا كان يعتلي صهوة جواده ويظل من الفجر إلى قرب صلاة الظهر، ومن العصر إلى المغرب وهو يطوف على أمراء جيشه، فيقول له قاضيه ابن شداد: إنك لا تستطيع الأكل إلا متكئاً! فيقول: والله إني إذا ارتقيت ظهر جوادي أنسى هذه الدماميل. هذا السلطان العظيم الذي يقول: ما لنا بالإقامة في دمشق، إنما خلقنا للجهاد في سبيل الله عز وجل ويقول قاضيه ابن شداد عن هذا البطل العظيم الذي قنع بالسكون في ظل خيمة، وترك أولاده ثلاث سنوات في مصر وهو مرابط ومجاهد هناك في حصون الشام، يقول القاضي ابن شداد: لما رأيت البحر في عكا وكان أول يوم أرى فيه البحر قال: لو قيل نعطيك ملك الدنيا كله في سبيل أن تخوض البحر ميلاً واحداً قال: والله ما استطعت ذلك، قال: فلما وقف صلاح الدين الأيوبي قال: أتدري ما أمنيتي؟ قال: لا، قال: إذا أكملت فتح بقية الساحل قسمت البلاد بين أولادي وودعت وأوصيت، ثم ركبت البحر فلا أدع جزيرة يكفر فيها بالله عز وجل إلا وأدخلتهم في دين الله عز وجل. قلت له: يا أمير المؤمنين! إنك سور الإسلام ومنعته، وفي هذا خطر على الإسلام. قال: ما هي أشرف الميتات؟ قلت: الشهادة في سبيل الله عز وجل، قال: حسبي هذا. وظلت القدس في أيدي المسلمين حتى أيام الدولة العثمانية، ولما فككت الدولة العثمانية دخل الجنرال اللنبي قائد القوات الصليبية في (9) ديسمبر سنة (1917م) مدينة القدس، ثم ذهب إلى قبر صلاح الدين وركله بقدمه وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية يا صلاح الدين. وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رُسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب

أسباب ضياع القدس من المسلمين

أسباب ضياع القدس من المسلمين الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: لقد كان تقسيم فلسطين بقرار من الأمم المتحدة، وكان تحت الانتداب البريطاني ووعد بلفور، واجتمع الخونة كلهم على بلاد المسلمين، وسقطت القدس، ثم أتت بعد ذلك حرب (1967م) لتكمل على البقية الباقية، وغُيّب دين الله عز وجل عن المعركة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض والنصر، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب)، فعندما يُغيّب الإسلام عن المعركة وتكون المعركة علمانية بحتة يضيع ملك المسلمين. فضاعت فلسطين وسط الاتفاقيات، ومن المخزي أن في يوم (28) سبتمبر عام (1995م) بعد توقيع اتفاقية توسع الحكم الذاتي الفلسطيني في واشنطن دخل رابين مع عرفات بعض المتاحف، وكانت هناك خطبة لـ رابين وخطبة لـ عرفات؛ فبدأ عرفات بالخطبة ثم تلاه رابين، فأنصت إلى عرفات جيداً، ثم قال: في تراثنا اليهودي قول مأثور: أن رياضة اليهودي هي فن الخطابة، ثم بعد فترة من الصمت وبكثير من الجدية قال مخاطباً عرفات: بدأت أعتقد أيها الرئيس عرفات أنك قد تكون يهودياً! وهنا علا الضحك واستمر التصفيق. يقول الشاعر عن القدس: سافرت فيك ولم يزل يحلو السفر سفري يصارع كل أشكال الوهن سافرت فيك وأنتِ عذراء الوطن سافرت فيكِ ولستِ خضراء الدمن لا أصل جدكِ ساقط لا فرع أمك هابط لا اسم أهلكِ يغتبن يا عطر كل الأنبياء المخلصين يا زهر كل الأولياء المتقين من قال اسمك ممتهن؟ من قال سيفك يرتهن؟ هذا حديث الإفك مصنوع ومدفوع ومقبوض الثمن قديسة الآباء والأجداد والتاريخ والفرع الحسن قديسة الترب المبارك حوله يا حبنا يا قدسنا قديسة الرؤيا الجليلة والأماني والصور سافرت فيكِ وفوق راحلتي عمر وأنا رفيق ركابه والقدس في مرمى البصر وصهيل خيلكِ في الشمال وفي الجنوب وفي البوادي والحضر وفوارس الجيل العظيم تدق أبواب الظفر وأبو عبيدة والمثنى وابن وقاص وخالد في دمي وسيوفهم نشوى تذود عن الأقصى الخطر عمري على مهري ومهري فوق ساحكِ لا يبالي بالجنود وبالقرود وبالذباب وبالحمر سافرت فيكِ وحبنا ينمو على لهب الطهارة والغضب فلترضعيه من الشرايين التي لم تأكل الثمر المحرم لم تصل للكراسي والركب فلترضعيه من الشرايين التي ما لاكت الكذب الشريف ولا نمت في حضن حاملة الحطب فلترضعيه من الشرايين التي ما حاصرت شعب الصمود ولم تذل للمستبد أبي لهب فلترضعيه من الشرايين التي لم تحتسي بحر السراب ولم تلقن من مسيلمة الكذب فلترضعيه من الشرايين التي ما سلمت لبني قريظة دينها أو أنفها أو سيفها أو حرفها أو أغلى صباح يرتقب لن تعود القدس إلا حينما تكون الراية إسلامية بحتة، ولن تفتح القدس إلا على يد رجال مثل صلاح الدين الأيوبي. وعندما أرسل إليه الفرنجة يفاوضونه في القدس قال: القدس مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، لا أستطيع أن أتلفظ بلفظ واحد بين المسلمين عن القدس. وذلك عندما قالوا له: ضاعت الدماء بسبب القدس هذه! فالحرب بيننا وبين الصليبيين حرب دينية بحتة. في سنة (1967م) في كتاب لبنت موشي ديان اسمه (جندي من إسرائيل) تُرجم إلى أغلب لغات العالم، تقول فيه: كان الجنود الإسرائيليون ترتعد فرائصها منا، قالت: ثم أتى إلينا حاخام من اليهود فاستحال الخوف أمناً، بينما كانت إذاعات العدو -يعني: إذاعات مصر- تقول: قاتل وأم كلثوم معك في المعركة، قاتل أعداء الربيع، قاتل أعداء الحياة، قاتل وعبد الحليم معك في المعركة، فكانت الهزيمة السافرة. وعندما تكون دينية بحتة، فهؤلاء اليهود قتلة الأنبياء وإخوان القردة والخنازير، وهم من غضب الله تبارك وتعالى عليهم، وهم الذين وضعوا السم لنبيك عليه الصلاة والسلام، وأنهم الذين قتلوا زكريا، وقتلوا يحيى حينها تكون للحرب قيمة؛ أما حين تدافع عن الرمل وعن تراب، صحيح هي بلادنا وفي حدقة أعيننا، ولكن يجب أن يكون الشعار لله عز وجل، فيوم أن دوى شعار (الله أكبر) انتصر المسلمون في (1973م)، فلنعد إلى ديننا والعود أحمد. اللهم أبرم لأمتك من يعلي شأن دينها، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. رب اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، إليك أواهين مخبتين منيبين. تقبّل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا. بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، ولبابك نطرق فلا تطردنا. اللهم عليك باليهود أعداء دينك، اللهم عليك باليهود أعداء دينك، اللهم عليك باليهود أعداء دينك. اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. اللهم اجعل خلاص البلاد منهم على أيدينا. اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك تبيض بها وجوهنا يوم نلقاك. اللهم أقبل بقلوب شباب المسلمين إلى كتابك وسنة نبيك. اللهم ارزقنا الفقه والإخلاص. اللهم اهد حكام المسلمين إلى العمل بكتابك وبسنة نبيك. اللهم اهد حكام المسلمين إلى تحرير بيت المقدس. اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك. اللهم أعل هممنا، وانصر المسلمين في الشيشان وفي كشمير وفي الفلبين وفي فلسطين، وانصر المسلمين المستضعفين في كل مكان.

واجب المسلمين تجاه نصرة المستضعفين منهم

واجب المسلمين تجاه نصرة المستضعفين منهم نقلت وكالات الأنباء في صورة الطفل الذي قتل في حضن أبيه، هذه المأساة التي هزّت المجتمع الغربي الصليبي فما بالها لا توقظ النوّم من المسلمين! يقول الشاعر: وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رُسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب فالواحد لا يتصور أن ملياراً وربع مليار مسلم، يعني: ألف مليون ومائتان وخمسون مليون مسلم لا يستطيعون أن ينتصروا على سبعة أو عشرة ملايين من اليهود، فلا يستطيع الإنسان أن يتصور هذا أبداً؛ لأن المسلمين لم يعد لهم إلا بطونهم وشهواتهم، وأما أويس القرني العبد الصالح الشهير، هذا الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (سيشفع في مثل الحيين: ربيعة ومضر، ولو أقسم على الله لأبره، مروه فليستغفر لكم)، وقد توفي في صفين في جيش علي، هذا الرجل العظيم كان إذا أمسى ما يكون في بيته شيء من الطعام ولا الشراب ولا الثياب إلا الثوب الذي يواري عورته فقط، فكان يقول: اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائع للمسلمين، وعن كل بدن عارٍ، اللهم إنك تعلم أنه ليس في بيتي من الثياب إلا ما يواري عورتي، وليس في بيتي من الطعام إلا ما في جوفي. فلا بد للناس من أن يهتموا بقضية المسلمين المستضعفين في كل مكان، وسل نفسك أنت: ماذا قدمت لدينك؟ وهل بالفعل لو فتح باب الجهاد ستكون على استعداد أن تذهب إلى الجهاد؟! هل صدقت مع الله عز وجل؟! وقبل ذلك كم صليت الفجر في حياتك مع جماعة المسلمين؟ فعندما لا تكون صادقاً في صلاة الفجر كيف ستذهب لتقتل وترمل زوجك وأولادك؟! فأنت الآن تملك أن تسجد لله عز وجل في ظلمات الليل، وتدعوه أن يرفع الله هذا الكرب عن بلاد المسلمين، وأن تكون صادقاً مع نفسك ومع ربك، فماذا قدمت لدينك؟ وكم كنت محافظاً على الصلوات الخمس في المسجد؟ وهل عطفت على يتامى المسلمين وعلى المساكين؟ وهل اهتممت بقضايا المسلمين؟ وهل حفظت آية من كتاب الله عز وجل؟ نسأل الله عز وجل أن يرفع الغمة عن بلاد المسلمين، امرأة في التاريخ دوخت المسلمين، امرأة في تاريخ إسبانيا هي إيزابيلا زوجة فرديناند ملك إسبانيا، هذه الملكة أقسمت أن لا تخلع ثوبها الداخلي حتى يسقط حكم المسلمين في الأندلس، وهناك أشهر رواية في التاريخ الإسباني اسمها (إيزابيلا صاحبة القميص العتيق) فهذه المرأة ظلت وراء أبي عبد الله الصغير آخر ملوك المسلمين في الأندلس حتى سقط ملك المسلمين في إسبانيا، وذلك لأن المسلمين ابتعدوا عن دينهم واقترفوا المحرمات وشربوا الخمر، وقد كانت جيوش المسلمين قبل ذلك قد وصلت إلى جنوب باريس، وكانت جيوش سليمان القانوني قد وصلت إلى وسط فيينا عاصمة النمسا، ودخلت بودابست في بلاد المجر. فلما بكى أبو عبد الله الصغير بعد ضياع الملك في الأندلس، قالت له أمه عائشة: ابك بكاء النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال. والعلمانيون ضيعوا القدس؛ لأن حاميها حراميها، أهؤلاء سيعيدون القدس؟ لا والله! لن تعود القدس على أيدي هؤلاء أبداً، القدس الطاهرة العظيمة مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم لا تعود إلا على أيدي إسلامية متوضئة طاهرة، أما الذين بنوا القصور على شاطئ رفيرا، ونهر الراين، والذين تفاوضوا مع اليهود يوم الجمعة فتركوا الصلاة فلما جاء يوم السبت قال اليهودي: لا أستطيع أن أتفاوض معكم في يوم العيد. انظروا في يوم الجمعة تفاوضوا وترك المتفاوضون من المسلمين الصلاة! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكبر والتواضع

الكبر والتواضع لقد حرم الإسلام الكبر والخيلاء؛ فهما لا يليقان بالإنسان لأنه عبد مخلوق، وإنما هما من صفات الخالق جل وعلا، وقد حرم الله كل سبب يدعو إلى الكبر، وفي المقابل حبب الإسلام التواضع، ودعا إليه، ومدح أهله.

تعريف الكبر والعجب والفرق بينهما

تعريف الكبر والعجب والفرق بينهما إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: الكبر عبارة عن خلق في النفس، وهو شعورها بعظمتها وأنها فوق الآخرين. إذاً: فلابد للكبر من متكبر به ومتكبر عليه، فالمتكبر عليه هو الإنسان الذي تظن نفس المتكبر أنها خير منه. أما العجب فهو حالة افتخار بالنعمة بدون مقارنة بالغير، فلو أن رجلاً في صحراء بمفرده وعنده حالة عظمة يظن لنفسه قدراً، فهذا معجب ولا نقول أنه متكبر، وإذا عقد مقارنة بينه وبين غيره فإنه يطلق عليه المتكبر. والكبر شيء دخيل في النفس، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:56]، قال ابن عباس: أي: عظمة، وإذا ظهر هذا على الجوارح من لي للعنق وغرور، ومن تصعير للخد، ومن خيلاء في النفس فهذا يسمى تكبراً. فالتكبر عمل الجوارح، وثمرة الكبر، نداء الباطل. فهذا هو الفارق بين العجب والكبر.

أسباب التكبر

أسباب التكبر والعجب سبب من أسباب التكبر، ولكنه ليس السبب الوحيد. ومن ضمن أسباب التكبر الرياء، فقد يتطاول إنسان على من هو أعلم منه ويتكبر عليه في الملأ: {رِئَاءَ النَّاسِ} [النساء:38]؛ لأنه يريد أن يشار إليه بالأصابع، فهذا يرائي فيتكبر ويتطاول على من هو أفضل منه في الملأ، ولكنه إذا خلا بالمتكبر عليه ذل له واعترف له، فهذا رياء ممزوج بكبر. السبب الثالث: الحقد، فهو الذي يهيج الكبر ويزيده طامة، وهو أن يحقد إنسان على إنسان غائب إنسان فلا يقبل منه أي نصح ويظن أنه خير منه. السبب الرابع المهيج للكبر: الحسد: فمن حسد إنساناً لن يتقبل منه أي شيء، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206]، فلو وعظه لا يقبل منه هذه الموعظة، فهذه أربعة أسباب مؤيدة للكبر. والحقد والحسد والعجب تكون في صاحبها سواء خلا بالمتكبر عليه أو لم يخلُ به. أما الرياء فهو كبر في مواجهة الناس، فإذا خلا به اعترف له بالذنب. هذه أربعة أسباب مهيجة للكبر: عجب في النفس، ورياء للناس، وحقد، وحسد.

آيات قرآنية في ذم الكبر وأهله

آيات قرآنية في ذم الكبر وأهله والمولى عز وجل ذم الكبر وأهله، فقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]. فالمولى عز وجل يحول بين آياته وكلماته وعجائبه في الكون وبين الظالمين أن يفهموها، مثلما يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء:45 - 46]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]. ويقول الله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]، فالكبر خيبة في الدنيا والآخرة؛ فهو خيبة في الدنيا بأن يصرفهم الله عز وجل عن فهم آياته في الكون، وخيبة في الآخرة لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله رداءه، ورجل نازع الله كبريائه، ورجل اتخذ الأيمان بضاعة)، يعني: لا تعرف ماذا سينزل عليهم من المصائب؟ ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان) يعني: شيخ بينه وبين القبر شبر، ثم يلجأ إلى الفاحشة، (وعائل مستكبر)، يعني: رجل فقير وعنده كبر، (ورجل اتخذ الأيمان بضاعة). فخيبة الآخرة ألا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة ولا يزكيه وأن يبشره بالعذاب وهو في دار الدنيا، ولا يحبه، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23]. مر الحسين بن علي بجماعة من المساكين فقالوا له: إلينا يا أبا عبد الله؟! أي: عندهم كثرة من طعام، فقال: نعم: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23]، ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني، فقاموا معه، فقال لامرأته الرباب: إلي ما ادخرت، أي: هات الذي عندك كله من أنواع الأطعمة التي ادخرتها، فأطعمهم. وطلب صبية معهم كسرة خبز مرة الحسن البصري أن يأكل معهم، فجلس وأكل معهم، ثم استحلفهم بالله أن يقوموا إلى بيته فأطعمهم أجود الأطعمة، ثم قال: لهم الفضل علينا؛ لأنهم جادوا بما يملكون ونحن ما جدنا إلا بأقل شيء مما نملك، لا يوجد عندهم إلا كسرة خبز جادوا بها، ولكن نحن عندنا بقية. ومن الآيات القرآنية في ذم الكبر والمتكبرين: قول الله تبارك وتعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]. ويقول الله تبارك وتعالى عن المتكبرين وعن مصيرهم عند الموت: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93]، أي: يضربونهم على أدبارهم: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. ويقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69]. ويقول الله تبارك وتعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22].

أنواع الكبر

أنواع الكبر

التكبر على الله تعالى وعلى شرعه

التكبر على الله تعالى وعلى شرعه وأنواع الكبر ثلاثة: كبر على الله، وكبر على رسل الله، وكبر على عباد الله. النوع الأول: الكبر على الله: وهو أشد من الكفر كما قال ابن تيمية، فالكافر هو الرجل الذي يشرك مع الله غيره، أما المتكبر فلا يرضى بالله رباً، ولا إلهاً، وكثير من الكفار يرضى بالله رباً، ولكن لا يرضى به إلهاً يحكمه ويحتكم إلى أمره، فيعترفون بالربوبية، ولا يسلمون للألوهية. والنمرود بن كنعان عندما تكبر على الله فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، سلط الله عليه بعوضة سلبته حياته، فدخلت في أحد منخريه وتظل به حتى يضربونه بالنعال على أم رأسه، وطنين البعوضة في أنفه جعله لا يستريح إلا بضرب النعل على رأسه. وفرعون لما تكبر وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص:38]، نغص الله عز وجل عليه حياته في الدنيا قبل الآخرة. ولما قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فعندما افتخر بأنه أجرى النهر نغص الله عز وجل عليه انتفاعه بهذا النهر، فكان لا يتناول قدحاً من الماء ليشربه إلا واستحال دماً عبيطاً، وما ملأ قدحاً من الماء إلا وامتلأ بالضفادع، وتدخل الضفادع الأفران لتأتي على طعامه أو لتمتزج بطعامه، والإنسان الذي يديم الغسل لا تجد عليه القمل، ومع ذلك فقد ابتلاه الله عز وجل بالقمل مع أن معه ماء النهر، وهذه الآيات متصلة بالماء الذي افتخر به. فالقمل، والدم، والضفادع كلها مرتبطة بجنس ما افتخر به، ثم لما عتا كان غرقه بجنس ما افتخر به. وعندما كان يقول: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص:38]. إذا بهذا الفم النجس يمتلئ طيناً نجساً، يقول سيدنا جبريل للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه من حال البحر حتى لا تدركه رحمة الله تعالى)، وحال البحر الطين المنتن. ويدخل في ضمن الكبر على الله تبارك وتعالى، الكبر على شرع الله، وهو مثل التكبر على الله، ومن صور الكبر على شرع الله أنه لا يرضى بدليل نقلي من الكتاب أو من السنة ويستقذره، فإن قلت له مثلاً: هناك حديث: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليخرجه)، يستقذر هذا الأمر، ولو قلت له: هناك سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعق الإناء بثلاثة أصابع لكي يتبارك الطعام، لا يقبل هذا أيضاً ويستقذره، فهو لا يكتفي بالرد، بل ويستقذره أيضاً. أو أنه يصادم النقل بالعقل فيقول مثلاً: هؤلاء الناس الذين نزل عليهم القرآن كانت عقولهم ساذجة بسيطة، ونحن أوتينا قسطاً من العقول باطلاعنا على المنطق والفلسفة فيصادم النقل بالعقل. من أنت يا أرسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما هديت له وأرشد هل أنتم إلا الفراش رأى الشهاب وقد توقد فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد يقول الإمام الشافعي: ما فسد العرب إلا لما تركوا لسان الفطرة ومنطق القرآن واتبعوا لسان أرسطو طاليس، فكان بداية دمار العالم وضياع الدولة العباسية على يد المأمون. وهناك أناس يتكبرون على الله تبارك وتعالى بالعقل، وهم أصحاب مدرسة الاعتزال أو المدرسة العقلية، فهنالك من يفسر الطير الأبابيل بالمكروبات والجراثيم، وهنالك من ينكر وجود الجن أو يأتي بهذه المدرسة العقلية التي تحسر العقل في الشرع. وهناك من يتكبر على الله تبارك وتعالى بالذوق، فيقيس الدليل النقلي أمامه بالذوق، فيقول: ذوقي يمج هذا الدليل ولا يقبله، وإذا استمع إلى الأطلال فإنه يبكي وإذا استمع إلى آيات من كتاب الله تبارك وتعالى فإنه لا يبكي، ويقول: استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك. وموسيقارنا عبد الوهاب وكوكب شرقنا نبحت سنينا وذاك العندليب أخو الغراب أنتركه لدعوى الطاهرينا ورقص الشرق ذا فن تجلى وذاك الضيق عين الشاكرينا يقول عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم. فهنالك منن يفضل النقل على العقل، أو يفضل الذوق على النقل، أو يفضل السياسة على النقل، فإن تصادم دين الله تبارك وتعالى بالسياسة يقول: نحن أعلم، ولا نريد دولة كهنوتية ولا دولة دينية ولا نريد كذا، فنحن أعلم بالسياسية، وما شأنكم بالسياسة وأنتم لا تعلمون الكثير منها. فهذه المعارضات الثلاث من صور الكبر على الله تبارك وتعالى وعلى شرع الله تبارك وتعالى، ونقيضها التواضع. والتواضع لشرع الله تبارك وتعالى: ألا يقدم على النقل عقلاً ولا ذوقاً ولا سياسة، وأن يرضى بالدليل النقلي، وأن يسلم لهذا الدليل وكل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا صاحب الروضة الشريفة. فالمسلم يسلم للدليل عن رضا وعن اقتناع، وهذا معنى الرضا برسول الله رسولاً، وهو أن تسلم له حتى فقدان الحرج الظاهري والباطني، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

التكبر على رسل الله

التكبر على رسل الله النوع الثاني من التكبر: التكبر على رسل الله: يقول الله تبارك وتعالى حاكياً على لسان هؤلاء المتكبرين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:31 - 32]، فالكفار المتكبرون قالوا: لولا نُزِّل هذا القرآن على عروة بن مسعود الثقفي أو على الوليد بن المغيرة فإنهما سيدا القريتين: مكة والطائف. فنظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتيم أبي طالب، ولم ينظروا إليه بميزان النبوة، ونظروا إليه بأنه من البشر، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10] فالرسول صلى الله عليه وسلم من البشر، ولكنه زاد عليكم بالوحي وبالإيمان بالله تبارك وتعالى. ومن المتكبرين من يقول: نحن نعترف ببشرية الرسول، وطالما أنه بشر فيؤخذ من قوله ويرد. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان همزة الوصل ما بين السماء والأرض، وتحمل عقله وقلبه ما تندك منه الجبال الرواسي؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]، وقال الله تبارك تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]، أي: قالوا: لا نريد بشراً يكون مثلنا، نريد أناساً يكونون أنظف قليلاً، هاتوا لنا ملائكة، نحن لا نستطيع أن نتعامل إلا مع الملائكة. ولذلك تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال). وكانوا ثلاثة، فقال له رجل منهم: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الآخر: علي كسوة الكعبة إن كان الله قد أرسلك. وقال الثالث: أنا لا أكلمك، فإن كنت صادقاً فأنت أجل من أن أكلمك، وإن كنت كاذباً فأنا أجل من أن أكلمك. يعني: إذا أنت أعلى منا درجة فلا تنزل إلى مستوانا! بل ابحث لك عن أنبياء أو ملائكة -وهذا نوع من السخرية، ونوع من الاستهزاء برسل الله تبارك وتعالى- وإن كنت كاذباً فنحن خير منك ولا نكلم الكاذبين، وهذا نوع من التطاول على رسل الله تبارك وتعالى.

التكبر على عباد الله تعالى

التكبر على عباد الله تعالى النوع الثالث: الكبر والتطاول على عباد الله تبارك وتعالى، رضيهم الله عز وجل عباداً له أفلا ترتضيهم إخوة لك؟ فالمولى عز وجل ارتضاهم عباداً له وهو القاهر، وهو الرب، وهو الإله، ولم ترتضهم أنت إخوة لك في الدين، فتعاليت عليهم. ومظاهر التعالي كثيرة، فمنها: تصعير الخد، أي: إمالة الخد والإعراض بوجهه عنه، قال تعالى: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5]. المظهر الثاني: النظر شزراً، وهو أن تنظر إليه بنصف عين، وكأنك مستهزئ به. المظهر الثالث: تشديق الكلام وإخراج الكلام بنغمة معينة بملئ الفم، فيقول مثلاً: أحد الناس السذج نسأل الله ألا يبتليك بهم، فيظل يكلمك في ربع ساعة بما يمكن أن تقوله في نصف دقيقة، من أجل أن يخرج الكلام بطريقة معينة أو بنغمة معينة أو بلفظة معينة، ويمطط الكلام ويظهر الفصحى إن كان فصيحاً كنوع من التعالي على هؤلاء، ويرى الناس وكأنهم بقر. المظهر الرابع: أنه إذا جلس يقوم الناس بين يديه، وإذا مشى مشوا من خلفه، وحملوا متاعه، فهو لا يحمل متاعه بنفسه، ويرى أن له ديناً في رقاب العباد أن يحملوا متاعه، وإذا جلس يجلس متكئاً، ولا يرتضي بالدون من الثياب ملبساً، ولا يجلس مع الفقراء والمساكين ويزدريهم، فضلاً عن أن يجلس مع المرضى، فكل هذا من مظاهر الكبر. ومن مظاهر الكبر في المشي ما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم: (إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم، سلط الله بعضهم على بعض). فالمطيطاء مشية فيها كبر وخيلاء كما قال ابن العربي رحمه الله. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل ممن كان قبلكم يتبختر في مشيته إذ خسف الله عز وجل به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرمنها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فالإسبال لا يقتصر في الإزار، بل يكون في الإزار وفي القميص وفي العمامة، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من وطئ على إزار وطئه في النار). وقد يقول قائل: أنتم تشددون الأمور، فمسألة تقصير الثوب وإطالته من القشور، والأهم من ذلك هو المعنى الباطن. ونقول: إن إسبال الإزار من الخيلاء وهو من الكبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فهو ينظر إلى أن السلفيين يريدون توفير الأقمشة، ولا ينظرون إلى المعنى الباطن، إن هذا المنظر الخارجي يوحي بخيلاء وكبر في الباطن وأنه سيكون أبعد ما يكون عن الجنة. ومن مظاهر الكبر أن يتبختر في مشيته: قال تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة:33]. وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]. عمر بن عبد العزيز كانت له مشية تسمى المشية العمرية، فقد علموه آداب البرتوكول السياسي، وكانوا يدربون كل عضو منه على هذه المشية حتى تعلمها، فلما مشى بها أمام طاوس قبل أن يتولى الخلافة طعنه في خاصرته وقال: ليست هذه مشية من ملئ بطنه الخراءة. ورأى محمد بن واسع ابنه يتبختر في مشيته، فقال له: أمك اشتريتها بمائتي درهم، أما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين من أمثاله، فهذه المشية يبغضها الناس. ومشى الناس خلف الحسن البصري فقال: وهل أبقيتم في قلبي من شيء؟ وقال سيدنا عبد الله بن مسعود وقد مشى خلفه الناس: هذه مذلة للتابع وفتنة للمتبوع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جلس متكئاً، وما مشى خلفه رجلان. ولبس أحد الولاة ثياباً من خز ثم تاه في المشية أمام الحسن البصري، فقال له: أف أف، مصعر خده، ثاني عطفه، أحيمق يزدري نعمة الله تبارك وتعالى عليه، يا هذا! داو قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم. وقال لآخر: كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك قد لقيت ربك غداً، ثم قال له: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].

دواعي الكبر

دواعي الكبر وهناك أسباب تدعو الإنسان إلى الكبر: أن يظن أن له كمالاً دينياً أو كمالاً دنيوياً، فالكمال الديني منحصر في أمرين: العلم والعبادة، والكمال الدنيوي ينحصر في النفس والجمال والقوة والغنى.

التكبر بسبب العلم أو العبادة

التكبر بسبب العلم أو العبادة أما العلم: فينظر الرجل إلى الناس وكأنهم بهائم، ويقول مثلاً: أنا بخاري العصر وشافعي الزمان، ودرست على فلان وفلان من الشيوخ، أما غيري فعلى من درسوا؟ فيتطاول على عباد الله بما عنده من العلم، وينظر إلى الناس أن له فضلاً عليهم، وأنه فوقهم وهم تحته. يقول محمد بن كعب: إن للعلم طغياناً أشد من طغيان المال، ويطغى الإنسان بالعلم ويتكبر لسببين: السبب الأول: أن يتعلم علوماً غير نافعة هي إلى الصناعات أقرب منها إلى العلم، فلا تورثه خشية الله تبارك وتعالى، ولا تذكره بنعم الله عز وجل عليه، ولا تقربه من الدار الآخرة، وهذه العلوم كعلم الجبال وعلم المنطق وغيرهما. السبب الثاني: أن يكون في نفسه خبث وفي طويته شر، والعلم كما قال وهب: كالغيث ينزل على الأشجار فتمتد إليه عروقها، فكل بقدر طعمه، فمن كان مراً زاده مرارة، ومن كان حلواً زاده أريجاً. ولذلك كان مالك بن دينار يقول: يا أصحاب السورة! ويا أصحاب السورتين! ماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ إن القرآن ربيع قلب المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، إن الغيث قد ينزل على الحبة في الحش، وما يمنعه نتن موضعها من أن تزهر وتثمر وتربو، فماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ ورجل آخر يتطاول على الناس بعلمه ويقول: إني أسهرت ليلي وأظمأت نهاري في تحصيل العلوم الشرعية ولا يلتفت إلي أحد. وأما العباد فيتطاول الرجل على الناس بعبادته، كأن ينظر إليهم وكأنهم هلكى وهو الناجي فقط، فإذا ما رآهم عبس بوجهه، وينظر إليهم وكأنه في الأعلى وهم في الأسفل، فهذا الرجل فعله يخالف فعل الصالحين. كان عطاء السلمي إذا غلا السعر أمسك بطنه ودار وكأنه امرأة قد أتاها المخاض ويقول: كل هذا بسبب عطاء، لو مات عطاء لاستراح الناس. وقف بكر بن عبد الله المزني على عرفة فقال: اللهم لا تردهم من أجلي، أي: لا ترد هذا الجمع خائباً بسبب ذنوبي. ويقول الآخر: ما أحلى هذا الجمع لولا أنني فيهم. وقال الإمام مالك بن دينار: والله لو وقف رجل على باب المسجد ونادى: ليقم شر الناس، لقام مالك بن دينار. وقال أحد الصالحين: ذلي عطل ذل اليهود. وقال أبو سليمان الداراني: والله لا يستطيع أحد أن يضعني أكثر من وضعي لنفسي، فإني أعلم بمنزلتي. والتواضع كما قال الحسن البصري: ألا ترى لك فضلاً على أحد من الناس، فإذا رأيت من يصغرك بالسن قلت: والله لقد سبقته إلى المعصية، وإذا رأيت رجلاً كهلاً تقول: والله لقد سبقني إلى الإسلام وسبقني للطاعة، ومن ظن أنه متواضع فقد حاز الكبر بحذافيره؛ لأنه يظن أن له قدراً. وكان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف! ويقول يونس بن عبيد: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. ويقول الحسن البصري: صاحبت أقواماً كنت بجانبهم كاللص. فالرجل قد يتطاول على الناس بعبادته ويقول: والله لقد سهرت، وأنا أقوم الليل وأصوم النهار، أما فلان فغفر الله له ثم يغمزه غمزاً خفيفاً، أو ينظر إلى الناس وكأنه المتهجد الوحيد الذي عرف غور العبادة وغيره مشتغل بالعلوم فقط، فيقول: دعهم وعلمهم فهذا كبر خطير، وكأنه ينادي على الناس: أنا العابد، أنا العالم الوحيد، فمن ظن أن الناس هلكى فهو أهلكهم.

أمور يغفل عنها العالم عند نصحه للمبتدع

أمور يغفل عنها العالم عند نصحه للمبتدع فعندما يعظ العالم مبتدعاً لا يتكبر عليه. وهنالك ثلاثة أمور قد يغفل العالم عنها عند النصح: الأمر الأول: أن تنسى ذنبه، وتغفل عنه حين تعظه، فربما كان الظاهر من ذنبه أقل من المستور من ذنوبك التي لا يطلع عليها الخلائق، ولو اطلع عليها الخلائق لعكر عليهم الملاذ. ولذلك كان محمد بن واسع كان يقول: والله إن نتن أخلاقي أشد من نتن جسدي في التراب بعد ثلاث، وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو قد عرفوني حق معرفتي لنفسي ما دفنوني. وآخر يعظ شخصاً حليقاً كل يوم ويقول له: ألا تعرف أن اللحية فرض! وربما كان الواعظ يضرب أباه وأمه بالعصا يومياً. الأمر الثاني: أن تظن أن هذه النعمة التي أقامك الله عز وجل فيها هي منك، يعني: أن تظن أن الله تبارك وتعالى حين أقامك في مجال الدعوة وفي نعمة الطاعة أنها منك لا من الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21]، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لن ينجي أحد منكم من النار عمله)، فهذا يخلصك من داء الكبر. الأمر الثالث: أن تنسى الخاتمة، فربما ختم الله عز وجل له بالطاعة وختم لك بالبدعة، ونأتي بمثال: كان القصيمي أكبر عالم من علماء نجد، ومن أفضل الدعاة إلى التوحيد، فقد أفحم شيخ الأزهر حتى قال رجل من أهل التوحيد: ما كنت أظن أن شيخ الأزهر في زمانه يعيش بعد نقد القصيمي له، فقد انتقده فيما يزيد عن عشرين ألف ورقة من غرر العلم في العقيدة، ثم بعد هذا ختم له بأن كان قبورياً ومات على قبوريته. وكتبه موجودة عندنا في الأسواق في موضوع التوسل والشفاعة والاستغاثة لا يعلوها علم، ثم بعد هذا أضله الله على علم، ولعله كان عنده خبث طوية، ثم بعد ذلك ختم الله عز وجل له بسوء الخاتمة، ولذلك فإن سفيان الثوري يقول: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام. فالإنسان لا يغمط أحداً حتى لا يدل على أحد، ولا يفتخر على أحد حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره، وإذا خلفه قال كما قال أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] فهذا قمة التواضع. ليس كما يقال: إننا كنا في الدنيا نعمل كذا! وكم وعظنا وكم أقمنا دروساً؟ فمثل هذا لا يدخل الجنة؛ لأنه قد امتلأ كبراً، فهو لا يعبر الجسر بداية.

كيف يتخلص العابد من الكبر

كيف يتخلص العابد من الكبر والذي يخلص العابد من الكبر ويجعله يتواضع بعلمه وبعبادته أمران: الأمر الأول: أن يعلم أن حجة الله تبارك وتعالى على العالم آكد، يقول أبو الدرداء: ويل لمن لا يعلم، وويل سبع مرات لمن يعلم ولا يعمل، فإن نسي قدره عند الله تبارك وتعالى فهو حمار في ميزان الشرع، يقول الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فهو حمار يحمل علماً. والمثل الآخر: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]، فالذي لا ينتفع بعلمه يمثله الله عز وجل بالحمار أو الكلب، والذي يذل بعبادته ينظر إلى أن زجل المستغفرين أحب إلى الله من إجلال المسبحين. ولذلك فإن محمد بن واسع قال: واشوقاه إلى إخواني، فقالوا: أليس قد نشأ شباب يعلمون السنة؟ فتفل ثم قال: أفسدهم العجب. لو سلمت لك العبادة من صومك وقيام ليلك من العشاء إلى الفجر لأفلحت.

الكبر بسبب الحسب

الكبر بسبب الحسب أما الذي يفتخر بحسبه ونسبه فنقول له: لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا وفي المثل: قرعاء وتفتخر بشعر ابنتها، أو كما يقول القائل: يتعجب بكمال غيره وهو مسلوبه، إن كانت صفاته وذاته خسيسة فلا يجبر خسة ذاته وصفاته كمال غيره. ثم نقول له: لو كان هذا الذي تفتخر به موجوداً لقال لك: إنما أنت دودة من بولي، والآخر دودة من بول المتكبر عليه، ولا فخر لدودة على دودة، فالاثنان متساويان، فلا يوجد هناك فخر بينهما. ومع هذا فإننا نقول له: حسبك وهو جدك البعيد تراب بلي، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين. جلس مصعب بن الزبير على سرير الملك في العراق، وقد اتكأ على أريكته ومد رجله، فدخل الأحنف بن قيس فرئي ذلك في وجهه، فقال: لقد خرجت من مجرى البول مرتين. رأى مطرف بن عبد الله أميراً متبختراً فنهاه، فقال: ألا تعرفني؟ قال: أعرفك كما أعرف نفسي، جدك البعيد تراب بلي، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة. قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:77 - 78]. بئس العبد عبد سها ولها ونسى المبدأ والمنتهى! بئس العبد عبد طغى وعصى ونسى الجبار الأعلى! بئس العبد عبد سها ولها ونسى المقابر والبلى! أصلك التراب يوطأ بالأقدام، وفصلك ماء مهين تغسل منه الأبدان، فلا قدر لك، إنما قدرك التقوى، فلا يجوز لأحد أن يتطاول على أحد.

الكبر بسبب الجمال

الكبر بسبب الجمال الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فهناك أيضاً من يتطاول على الناس بجماله فيظن أن الميزان عند الله تبارك وتعالى بمسابقات الجمال، أو أنه سيدخل الجنة بزرقة عينيه. وهذا الأمر في النساء أكثر منه في الرجال، تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا وتشير إلى أنها قصيرة فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته). فالذي يفتخر بجماله ينظر إلى عباد الله تبارك وتعالى منتقصاً لهم، فإذا ما لمسه أحد المساكين ذهب إلى البيت ورش العطر على جسده، فهذا يصدق فيه قول الشاعر: كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه وقال آخر: أنف يسيل وأذن كلها سهكٌ والعين مرمشة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً قصر فإنك مأكول ومشروب فلا يفتخر بهذا إلا رجل يظن أن المقياس عند الله تبارك وتعالى الجمال.

الكبر بسبب القوة

الكبر بسبب القوة ورجل آخر يتطاول على عباد الله تبارك وتعالى بفضل قوة يعطيها الله عز وجل له، ويظن أن الشرف كل الشرف في شرف تسبق إليه البغال! وأي فضل في هذا، ولابد أن نقول له: أنت أقوى من بغل وأنت أعظم من حمار. فهذا الرجل الذي يفتخر بقوته أما علم أن الله تبارك وتعالى قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة؟ فقوم عاد عذبهم الله عز وجل بالريح، وأبرهة وقومه عذبهم الله عز وجل بالطير الأبابيل جزاء وفاقاً، وقد يسلبه الله عز وجل هذه القوة التي ما حفظها.

الكبر بسبب المال

الكبر بسبب المال ورجل آخر يفتخر بكثرة ما عنده من المال، وهذا شرف يسبق إليه اليهود، ويسرق منه اللصوص، فكيف يفتخر به؟ يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]، وهذا لعله نسي قارون وما كان من شأن قارون وأن الله تبارك وتعالى خسف به وبداره الأرض.

الكبر بسبب الفصاحة

الكبر بسبب الفصاحة ومن مظاهر الكبر والتكبر أن الرجل يتخلل الكلام بلسانه ويظهر الفصحى. يقول عمر بن الخطاب: شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الرجل البليغ الذي يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الناس عند الله الثرثارون المتشدقون المتفيهقون). يقال: فهق الرجل إذا امتلأ، والثرثارون هم الذين يكثرون الكلام. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عز وجل عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع عبد لله عز وجل إلا رفعه الله عز وجل).

أسباب التواضع

أسباب التواضع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار بالأسواق، واعتقل الشاة فحلبها). أي: فهذه الأشياء تطرد الكبر عن الإنسان، وهي أنه يركب الحمار بالأسواق، ويأكل مع عياله وخدمه، ويعتقل الشاة، أي: يربطها ثم يحلبها على ملأ من الناس. وهناك أشياء أخرى: وهي أن يخصف نعليه بيده، ويرقع ثوبه، ويرضى بلبس الصوف، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت، فإنما هو في حاجة أهله، وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا برأسه حَكَمَة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفعها، وإذا تكبر قيل للملك: دعها). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير المعصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة). (وجلس جبرائيل عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال له جبرائيل: إن هذا ملك لم ينزل قط منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك، أفملكاً نبيناً يجعلك أو عبداً رسولاً؟ فقال جبرائيل: تواضع لربك يا محمد! قال: بل عبداً رسولاً). وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد آكل أكل العبد وأجلس جلسة العبد). وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئاً. وتقول السيدة عائشة: إنكم لتُغفلون أفضل العبادة التواضع. فالتواضع هو أفضل العبادة؛ ومن التواضع رثاثة الثياب، كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن البذاذة من الإيمان)، والبذاذة هي أن ترضى بأن تلبس الثياب الدون. وبعض الإخوة ليس عنده إلا ثوب واحد، فلا يرضى أن يخرج من بيته إلا وثوبه مكوى، فإن لم فإنه يصلي في البيت، ويظل حبيس البيت حتى يأتوا له بقميص آخر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن البذاذة من الإيمان)، وكان في ثوب سيدنا عمر أمير المؤمنين أربع عشرة رقعة منها رقعة من الجلد، فكان يرقع الثوب، وكان في إزاره بين كتفيه أربع رقاع رآها أنس بن مالك وحكاها للناس. ويدخل سيدنا علي بن أبي طالب في وليمة أعدها أبو موسى الأشعري وليس لقميصه جيوب. ويدخل رجل إلى المدائن على سلمان الفارسي وعليه كساء ككساء الحمالين مرقوع، فقال له الرجل: تعال احمل معي هذا التبن، فحمل سيدنا سلمان التبن وهو الأمير، فلما رآه الناس قالوا له: أيها الأمير! فقال: والله لا أغير نيتي. والذي يلبس ثياباً طيبة ولا يخالف الشرع فهو ليس من قبيل الكبر. وسيدنا عيسى بن مريم يقول: جودة الثياب خيلاء القلب. ويقول طاوس: والله إني لأغسل ثوبي فيتغير قلبي. وعندما جاء سيدنا عمر لفتح بيت المقدس لبس ثوباً جديداً فتغير، ثم أتي ببرذون فركبه فشعر بالخيلاء فقال: هذا شيطان، إلي بقميصي وإلي بدابتي! ويقول عون بن عبد الله: من كان في صورة حسنة وموضع لا يشينه ووسع عليه في الرزق، ثم تواضع لله عز وجل، كان من خالص أولياء الله تبارك وتعالى.

علامات التواضع

علامات التواضع يقول سيدنا الفضيل بن عياض: التواضع أن تنقاد للحق ولو سمعته من صبي أو من جاهل. والتواضع عند سيدنا عبد الله بن المبارك شيء آخر: وهو أن تكون عندك عزة نفس عما في أيدي الناس. ويقول: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا، حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا؛ حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل. وهذا هو معنى قولهم: الكبر على أهل الكبر صدقة. وأتى رجل حسن الصورة من أبناء الدنيا إلى ابن المبارك فقال الرجل: ما أعظمك؟ قال: لا، بل هي عزة الإسلام، قل ما أعزك؟ ولذلك فإن التكبر على أبناء الدنيا تواضع؛ لأنه في الحقيقة عز النفس، وهذا غير مذموم، قال الله تبارك وتعالى: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]، ومعناه: أن هناك تكبراً بالحق بأن يترفع المرء بنفسه وقيمته عن أبناء الدنيا. ومن التكبر بالحق أن ابن دقيق العيد يمد يده لسلطان والسلطان يقبله، فهذا تكبر بالحق، وليس تكبراً مذموماً. ومن التكبر بالحق أن سيدنا مالك بن أنس كان لا يخص أحداً بالدرس، فيظل فإذا جاءه رجل فإنه يقف ببابه مستشرفاً من أجل أن يخرج عليه، فتخرج إليه جارية سوداء؛ ثم تأتي له بكرسي وتقول له: اجلس هاهنا حتى يخرج الشيخ. فهذا نوع من التكبر بالحق على أبناء الدنيا. ودخل ابن السماك على هارون الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين! والله لتواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، قال: ما أحسن هذا الكلام! ثم قال له: إن امرأً آتاه الله جمالاً في خلقه وموضعاً في حسبه، وبسط له يده، فعف في جماله وواسى في ماله وتواضع في حسبه كتب في ديوان الله عز وجل من خالص أوليائه، فدعا هارون الرشيد بدواة وقرطاس وكتب هذا الكلام بيده.

علامات الكبر

علامات الكبر ومن علامات الكبر: أن يفتخر الرجل بكثرة الأتباع من طلبة العلم أو غيرهم، فيحملون له أشياء، أو يمشي ومعه جنود يرافقونه، ويرى أن له منة عليهم، وربما فرح بنفسه فقال للتابع: احمد ربك أنني أحملك متاعي! إنك أقل من أن تحمل متاعي. فهذه علامة من علامات الكبر. كان سيدنا أبو عبيدة عامر بن الجراح وهو أمير يحمل سطلاً له من خشب فيه ماء ساخن ويذهب به إلى حمام أبان. وكان ذو الكلاع قيلاً من أقيال اليمن في الجاهلية، وكان الناس يقفون على بابه الهدايا من أجل أن يدخلوا عليه، فيقال لهم: لم يأت عليكم الدور، انتظروا فإن غيركم قد سبق بهدايا منذ سنة كاملة. وكان إذا اختفى ثم برز سجد له مائة ألف رجل، فلما أسلم أراد أن يعفو الله عز وجل عنه هذا الذنب فأعتق أربعة آلاف رقبة، وأراد عمر أن يشتريهم، فرفض ذلك وقال: عسى الله أن يغفر لي ذنبي، قال: وما ذنبك؟ قال: اختفيت عن الناس ثم خرجت فسجد لي مائة ألف رجل. وبعد أن أسلم كان يحمل اللحم بيده، ويأتي به لأولاده، فيقول له أتباعه: دعنا نحمل عنك، فيرفض، وعندما كان يحمل اللحم بيده كان يقول: أف لذي الدنيا إذا كانت كذا أنا منها كل يوم في أذى ولقد كنت إذا ما قيل من أنعم الناس معاشاً قيل ذا ثم بدلت بعيش شقوة حبذا هذا الشقاء حبذا وكان عمر بن الخطاب يعلق اللحم في يده اليسرى، ثم يحمل الدرة بيده اليمنى ويمضي في الأسواق حتى يأتي إلى أهله. وكان علي بن أبي طالب يحمل التمر بيده ويقول: أبو العيال أحق بالحمل. وكان الربيع بن خثيم يحمل عكة إلى عمته، أي: قفة من خوخ. ومن علامات الكبر: أن يأنف المتكبر من جلوسه مع المساكين. وكان جعفر بن أبي طالب يجالس المساكين حتى سمي بأبي المساكين، أما أم المساكين فهي أم المؤمنين زينب رضوان الله عليها. وكانت أم الدرداء تجلس إلى المساكين. ورثاثة الثوب من علامات التواضع وربما ارتضى الرجل أن يلبس الثياب الرثة وفيه من الرياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى. كان سيدنا عبد الرحمن بن عوف من أجل الصحابة، وكان لا يعرف من بين عبيده، لأنه كان يلبس نفس الثياب التي يلبسها عبيده. ولبس سلمان الفارسي ثياباً بالية، فانتهره الناس، فقال: إنما أنا عبد ألبس لبس العبد، فإذا عتقت -يعني في الآخرة- وفك القيد عني لبست ثياباً لا تبلى حواشيها. فمن التواضع ألا يمشي الإنسان مشية المطيطاء، ولا يترفع على المساكين، ولا يجعل الناس يحملون متاعه، ولا يترفع على أهل بيته. رزقني الله وإياكم حسن الخلق وتواضعاً في الصفات الخلقية. هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

قيام الليل علاج للكبر والرياء

قيام الليل علاج للكبر والرياء Q هل المرائي والمتكبر يبكيان إذا قاما من الليل؟ A قيام الليل يطرب الروح ويجلب الراحة للإنسان، يقول لـ قتادة: ما نافق من قام الليل. أي: فقيام الليل يعلم الناس الإخلاص، فليس في قيام الليل كبر ولا رياء، بل هو علاج الكبر والرياء.

نصيحة لرواد المساجد

نصيحة لرواد المساجد Q نرجو منكم نصيحة لبعض رواد المساجد والمصلين فيها؟ A أنصح الإخوة أن يحافظوا على هذا المسجد، ومن لا ينتسب لهذا المسجد ولم يكن من رواد هذا المسجد فعليه أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويصرف الأولاد عن اللعب في المسجد، وبعض الناس يريدون أن يهدموا آخر صرح من صروح الدعوة في الجيزة، فاتقوا الله تبارك وتعالى. فإذا كنت تريد أن تعمل شيئاً فلا تنسبه إلى المسجد، فكل الناس محتاجون لتربية طويلة جداً، ودولة الخلافة التي ننشدها لن نحصل عليها؛ لأننا فيما بيننا لا نقبل الحق ولا التناصح، ومن رحمة الله بنا أنه لم يمكن لنا، ولو مكن لنا لكنا قد قطعنا بعضنا، فواقعنا الذي نعيشه التطاول والكبر. ومن كان له منهج معين فليطبقه في مسجده بعيداً عن الناس، ولا يحمل الناس ابتلاءات لا يقدرون عليها، فالبعض يقوم الساعة الثانية بعد نصف الليل يريد أن ينشد قصيدة، فبينما كنت ذات مرة مع بعض الإخوة في قراءة قرآن وتعبد وصيام وقيام ليل، إذا برجل منهم يقول: يا فلان اكتب لي قصيده في خصالي! أو في صديق! والمنتقبات سمعن أفضع السباب في الشوارع، ولا أحد يستطيع أن يفتح فمه، والمساجد أخذت على مرأى من الناس ولا أحد يستطيع أن يتكلم، والإخوة لهم ثلاث سنين في السجن، والضرب موجود. فاتق الله في نفسك، وعليك نفسك، فأنت حر في نفسك، ولكن لست حراً في غيرك حتى تدخله في المآزق والورطات.

منوعات شعرية

منوعات شعرية Q نرجو من فضيلة الشيخ أن يذكر لنا أبياتاً شعرية في صنع الله تعالى؟ A القصيدة في صنع الله تبارك وتعالى: قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا قل للضرير خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا قل للبصير وكان يحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواكا قل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدًا وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاكا وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا ميت فاسأله من أحياكا قل للنبات يجف بعد تعهد ورعاية من بالجفاف رماكا وإذا رأيت النبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله من أرباكا وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواكا يا منبت الأزهار عاطرة الشذى هذا الشذى الفواح نفح شذاكا يا مجري الأنهار ما جريانها إلا انفعالة قطرة لنداكا أتراك عين والعيون لها مدى ما جاوزته ولا مدى لمداكا إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء استبين علاكا فاقبل دعائي واستجب لرجاوتي ما خاب يوماً من دعا ورجاكا ويقول آخر: سل الواحة الخضراء والماء جارياً وهذي الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شادياً وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع الحمد ساريا فلو جن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا ويقول ثالث: يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها نجاكا ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي أعلاكا ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساكا ويقول رابع: يا ذا الذي أمسى الفؤاد بذكره أنت الذي ما إن سواه أريد تفنى الليالي والزمان بأسره وهواك غض في الفؤاد جديد ويقول خامس: إذا كان حب الهائمين من الورى. يسلب اللب والعقلا فماذا عساه يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى ويقول سادس: أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الجوى فأجيب وأيامنا تفنى وشوقي زائد كأن زمان الشوق ليس يغيب ويقول سابع: أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا فلو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبق حبك لي حراكا إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فأما من بكى فيذوب وجداً وينطق بالهوى من قد تباكى

حكم الصيام على الحامل

حكم الصيام على الحامل Q زوجتي حامل في الشهر السابع، وهي ضعيفة جداً، ونحن على مشارف شهر الصيام، وهي تأبى إلا أن تصوم، وفي رمضان الذي مضى أصرت على الصيام وهي ضعيفة جداً، فنرجو من فضيلتكم النصح لها؟ A الأخت ليس عليها إلا الإطعام فقط، فتطعم عن كل يوم رحمة بجنينها، والله أعلم.

زكاة أرباح الاستثمار

زكاة أرباح الاستثمار Q إنني أعمل في شركة استثمار وتعطي أرباحاً سنوية، فهل علي زكاة المال؟ A إذا حال عليها الحول وجبت الزكاة.

حكم إطالة الثياب بدون نية التكبر

حكم إطالة الثياب بدون نية التكبر Q لو كان الرجل يطيل الثياب ولا يريد من ذلك التبختر فهل يجوز؟ A إطالة الثياب نفسها خيلاء، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما فعل أبي بكر فهذه خصوصية له، فقد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (لست منهم)، وبدليل أنه لم يرض عن الصحابة غير أبي بكر.

حكم وجود الفرق والجماعات الإسلامية

حكم وجود الفرق والجماعات الإسلامية Q ما رأيكم في وجود الفرق والجماعات في هذا الزمن مع أنهم متفقون في أساس العقيدة؟ A الذين يتفقون في العقيدة ليسوا فرقاً إنما هم جماعات، أما الفرق فإن بينها اختلافاً في العقيدة، ولله الحمد فإن أهل السنة والجماعة في كل مصر من الأمصار قد قضوا على بدع أهل الباطل، ومنها بدعة الخوارج أو جماعة التكفير والهجرة، أما اختلافهم في العقيدة فنسأل الله الهداية للجميع.

تزكية النفس

تزكية النفس إن الحاجة شديدة إلى تزكية النفس وتطهيرها مما علق بها من الأدران والشهوات، إذ بالتزكية تسمو النفس، وتعلو الهمة، وتتجه الروح نحو خالقها. وذلك لا يأتي من فراغ وعبث، وإنما له أسباب توصل إليه، وطرق تدل عليه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة وسير السلف الصالح.

أهمية التزكية

أهمية التزكية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: بادئ ذي بدء شكر الله لكم حسن استقبالكم لي، وأن مكنتموني من العودة إليكم مرة أخرى، وقديماً قال الشاعر: ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي موضوع اليوم موضوع هام متعلق بالدعوة التي تنتسب إلى السلف وترفع راية السلف، وكأنا نقول لكل المسلمين: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ومن أولى بالتزكية ممن يقتفون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم! وعجباً للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه، وهو أشد! وموت القلوب يكون بالبعد عن علام الغيوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه شيخنا الشيخ الألباني: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده). وموضوع التزكية موضوع هام، ونحمد الله، وله المنة والفضل من أن الذنوب لا تفوح رائحتها في دار الدنيا، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى علينا، أن ستر علينا الذنوب، فلو فاحت لضجت المشام. قال محمد بن واسع: لو كانت للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي. وهو من هو، هذا الذي كان يسمى بزين القرآن! فإذا ما مات الإنسان وكان صالحاً فإنها تفوح منه رائحة كأحسن رائحة مسك على وجه الأرض؛ حتى تقول الملائكة: روح من هذه الطيبة؟ وإذا كان العبد قد دنس نفسه بالمعصية في دار الدنيا فإنها تفوح منه كأنتن جيفة على وجه الأرض، فتتأذى منها الملائكة، حتى يقولون: روح من هذه الخبيثة وفي أي جسد خبيث كانت؟

الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالتزكية

الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالتزكية وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها). وتزكية النفوس عمل شاق، والأمر كله بيد الله عز وجل، وبعد فضله ومنته، فتزكية النفوس بالله لا بالنفس، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21]. وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي). وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى الخصال الموجبة لذوق طعم الإيمان، فإن للإيمان ذوقاً وحلاوةً، كما أن له فرحاً، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. وقد قال أحد الزهاد: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف. وقال الآخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي، إنما هي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني عن بلدي فنفيي سياحة، وإن سجنوني فأنا في خلوة مع ربي. إن المحبوس من حبس عن ربه، وإن الأسير من أسره هواه.

الفلاح معلق بالتزكية

الفلاح معلق بالتزكية ولقد أقسم الله تبارك وتعالى أحد عشر قسماً متتالياً ما أتت إلا في موضع واحد من كتاب الله عز وجل، على أن فلاح النفوس منوط بتزكيتها، فقال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:1 - 10]. وتزكية النفوس ملاك دعوة الرسل بعد التوحيد، فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19]. وتزكية النفوس يا إخوتاه! سبب للفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76].

التزكية ربع الرسالة

التزكية ربع الرسالة إن تزكية النفوس مطلب عظيم من مطالب الرسالة، بل هي ربع الرسالة المحمدية، وهي وظيفة الأنبياء، قال الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151]. وقال الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. وقال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. ولقد دعا خليل الرحمن إبراهيم لنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بمجموع طرقه كما رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد والحاكم والخرائطي في مكارم الأخلاق: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) صححه الحافظ ابن عبد البر.

معاني التزكية

معاني التزكية

معنى التزكية في اللغة والشرع

معنى التزكية في اللغة والشرع والتزكية -يا إخوتاه- في اللغة تدور حول الطهارة والنماء والبركة. وهي شرعاً تدور حول هذه أيضاً. فالتزكية شرعاً: تطهير النفس والقلب من أمراضها ومن ظلماتها ومن نجاستها ومن شهواتها الحسية والمعنوية. هذا هو المراد بالتزكية، أي: تطهير النفس من أمراض النفوس، من الكفر والنفاق والفسوق والبدعة والشرك والرياء -فمن سمع سمع الله به مسامع خلقه، وصغره وحقره يوم القيامة- ومن حب الجاه والرئاسة. وإن الرجل قد يزهد في المال ولا يزهد في الجاه، ولهذا كان صفوة الزهاد من عباد هذه الأمة أبعد الناس عن الجاه والرئاسة، فهذا محمد بن يوسف الأصبهاني المسمى بعروس العباد ما كان يشتري خبزه من بقال واحد، ولما سئل عن ذلك قال: أخاف أن يعرفوني فيكرموني من أجل ديني، فأكون ممن يعيش بدينه، أو ممن يأكل بدينه. ويدخل عبد الله بن محيريز عالم الشام وعابدها -الذي قال فيه الأوزاعي: إني أعد بقاء ابن محيريز أماناً لأهل الأرض- السوق فيشتري من بائع ولا يعرفه البائع، وبعد أن انتهى من الشراء أتى رجل إلى البائع فقال: إنه ابن محيريز عابد أهل الشام، فقال: ما كنت أعرفه، فولى عبد الله بن محيريز تاركاً السوق وقال: إنما نشتري بأموالنا لا بديننا. وأيضاً التزكية تطهير النفس من الحسد والعجب والكبر والسحت والغرور والغضب وحب الدنيا واتباع الهوى. وأيضاً تطهير النفس من طول الأمل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل). وإن سيد التابعين الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد التابعين أويس القرني رجل بار بأمه، لو أقسم على الله لأبره، مروه فليستغفر لكم)، يقول فيه الإمام أحمد: الزهد زهد أويس كان يمنعه العري من حضور الجماعات، فكان يجلس في قوصرة وربما منعه العري أحياناً من حضور الجماعات، وهو سيد التابعين. وأيضاً التزكية تطهير النفس من حب الدنيا، والعيش للدنيا لا يليق بمن شبوا عن الطوق، قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36]. فاللعب لا يليق بمن شبوا عن الطوق من الرجال، وأنت عندما تجد رجلاً كبيراً في السن يلعب بلعبة لطفل سنه خمس سنين، تقول له: يا رجل! اتركها للأطفال الصغار. فالعيش للدنيا والعمل للدنيا لا يليق بمن شبوا عن الطوق، والعيش في المستنقع الآسن والوحل وشهوات هذه الدنيا لا يليق بالرجال. يقول سيدنا يحيى بن زكريا: أو للعلب خلقنا؟! إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في دار غرسها الرحمن بيده.

التزكية هي مراقبة الله عز وجل

التزكية هي مراقبة الله عز وجل وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم التزكية بمقام الإحسان، وهو أعلى مقامات الدين، وفسرها بالمراقبة، وجعلها موجبة لذوق طعم الإيمان، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان: من عبد الله عز وجل وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيرها ولم يأمركم بشرها، وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ قال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان). إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما تخفيه عنه يغيب وكما قال الشاعر: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.

التزكية هي التقوى

التزكية هي التقوى وتزكية النفوس يا إخوتاه! هي التقوى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فهذه الآية نص صريح على أن التزكية هي التقوى. وقال الله عز وجل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18]. وقال الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7 - 9]. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً ينص على أن التقوى هي التزكية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: النفس تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات. وترك المحرمات مع فعل المأمورات هي التقوى. وقال ابن عيينة وقتادة في قول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال. وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: زكاها أي: طهرها من الذنوب وأصلحها بالطاعة.

موعظة في تكريم الله للإنسان وغناه عنه وفقر الإنسان إليه

موعظة في تكريم الله للإنسان وغناه عنه وفقر الإنسان إليه يا جوهرة بمزبلة لا تعرف قدرها، أنت المراد من هذا الكون، إن الله يريدك لجواره، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاماً وما شربوا شراباً منذ أن خلقهم الله عز وجل ليس لهم مدحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك). كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضاً منذ أن خلقهم الله عز وجل، ليس لهم مدحة، وأما المؤمن فقد قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]. يا من أسجد الله لأبيك الملائكة وأنت في صلبه، يا من أقام الله الأطهار من عباده الذين زكت أنفسهم يستغفرون لك قبل مجيئك إلى دار الدنيا، فهذا نوح عليه السلام يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] بل يأمر الله نبيه أن يستغفر لك، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. بل يجعل الله عز وجل حملة العرش يستغفرون لك. تطوي المراحل عن حبيبك جاهداً وتظل تبكيه بدمع ساخن كذبتك نفسك لست من أحبابه تشكو البعاد وأنت عين الظالم كيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، وتسييرك بيده، ورجوعك إليه؟ وكل مستحسن في الوجود هو الذي حسنه، وهو الذي جمله وزينه وعطف النفوس إليه، فقد أعطاك أيتها النفس مالاً فأملي، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام. كم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأنام خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك. من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن إجابته، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تعلم عثرة القلب عند الخوض في غير حديثه ثم لا ترتاح إلى ذكره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت فيما يبعدك عنه راغب. عالج النفس من شهواتها وأمراضها ثم بعد ذلك تحقق بأمهات المقامات القلبية من التوحيد والعبودية والإخلاص له عز وجل، والصدق معه، والزهد والمحبة له، والخوف والرجاء منه وحده، فإن في القلب شعثاً لا يلمه إلا إقبال على الله عز وجل وخوف منه وإنابة إليه وتبتل إليه. والخوف والرجاء والورع والصبر والرضا والتسليم والمراقبة والتوبة مقامات لابد للإنسان أن يحققها حتى تزكو نفسه، ثم بعد ذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من زكت نفسه.

بيان أن التزكية عمل الأنبياء

بيان أن التزكية عمل الأنبياء وتزكية النفوس هو عمل النبيين، يقول الشاعر: ومن لا يربيه الرسول ويسقه لباناً له قد در من ثدي قدسه فذاك لقيط ما له نسبة ولا يتعدى طور أبناء جنسه فكل روح لم يربها الرسل لا تفلح ولا تصلح للأحوال العلية.

فساد نظريات التزكية المستمدة من غير الوحي

فساد نظريات التزكية المستمدة من غير الوحي ومنهج التزكية ليس متروكاً لعلماء الكلام ولا للفلاسفة ولا لأصحاب المواجيد، ولا لنظريات علماء النفس ولا للمجاهدات البوذية، وإن كثيراً ممن كتبوا في أمور التربية من علماء النفس أتوا بنظريات متضاربة ومناهج متصارعة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولو اطلعت عليها -يا أخي- لوليت منها فراراً ولملئت منها رعباً، ولكن دعاتها لا يزالون يلقون عليها من زخرف القول غروراً حتى أحلوا المريدين مستنقعاً وبوراً، واتخذوا من أجلها هذا القرآن مهجوراً. وقد قال قائلهم: حدثني قلبي عن ربي. وقال آخر: لكم علم الورق ونحن لنا علم الخرق. وقال ثالث بإسقاط التكاليف. وقال الجنيد: من قال هذا فهو أشد كفراً من اليهود والنصارى، أي: الذين قالوا: إنهم وصلوا إلى الله عز وجل بإسقاط التكاليف، نعم وصلوا ولكن إلى سقر. وما بال الشيخ سعيد حواء -رحمه الله وغفر له- يقول: لقد جربت كثيراً ورأيت كثيراً، ونادراً ما وجدت كمالاً في النفس أو إحساناً في السلوك أو قدرة على التعامل إلا وجدت معها تربية صوفية صافية، وذلك لأن مفاتيح النفس البشرية إنما هي في هذه التربية وأصولها وقواعدها؛ لأن الصوفية هم الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم تربية النفس، وتخصصوا في ذلك، وتفرغوا له، وفطنوا لما لا يفطن له غيرهم، وقامت لهم ثروة من التجارب السارة في كل عصر، فما لم يأخذ الإنسان عنهم تبقى نفسه بعيدة عن الحال النبوية؛ لأن الصوفية هم الذين ملكوا العلم الذي تتهذب به النفس البشرية. هذا قول الشيخ سعيد حواء غفر الله له، ولا يقبل منه هذا الكلام في أي حال من الأحوال. بل يقول الغزالي رحمه الله: إن الصوفية في رقصاتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. وقوله هذا مخالف لحال السلف وعلمهم! قال إسحاق بن راهويه: سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات قال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون، والكلام في الوساوس والخطرات مثل رجل يمر على جب القاذورات، فإن أراد أن ينفشه لا ينتهي هذا الجب، ففي كل لحظة وفي كل مرحلة يتأذى بأنتان جديدة لا تخطر له على بال، ولكن إذا مر عليه مرور الكرام وعرض له منه عارض غسله فهذا أولى. وهذه طريقة الكمل كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم. فإن كان الرجل في طب الأبدان لا يذهب إلا إلى الطبيب المتخصص -ولو داوى جسده بمجرد التجارب التي لا تسمن ولا تغني من جوع فإن الناس ينكرون عليه- فما بالك بمرض القلوب؟ والقلب كالملك، والجوارح كالجنود، فهذا الأمر موكول إلى الرسل لا إلى غيرهم.

وسائل التزكية

وسائل التزكية

الصيام

الصيام والصوم تزكية للنفوس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، يعني: تزكو نفوسكم. فمن منا يكثر من صيام النافلة ويربط على بطنه قليلاً؟ من منا لا يطول شبعه، ويعمل بقاعدة السلف: جواز الشبع أحياناً، والأصل عدم الشبع؟ أي: يجوز لك أن تشبع أحياناً. وقد قيل لسيدنا يوسف -وكان على خزائن الأرض-: لم لا تشبع؟ قال: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع. وداود بن أبي هند أحد رواة الكتب الستة، صام أربعين سنة لا تشعر به زوجه، كان يأخذ الطعام من البيت بعد الفجر ويتصدق به في عرض الطريق، ثم بعد ذلك لا يصل إلى بيته إلا بعد صلاة المغرب، فتظن زوجته أنه قد أكل ما أخذه من طعام، ويظن أهل السوق أنه قد تناول إفطاره في البيت. وإبراهيم بن هانئ النيسابوري أخص تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل مات وهو صائم، حتى قال الإمام أحمد لابنه إسحاق: ومن يقدر أو من يطيق ما يطيقه والدك؟ وعروة بن الزبير مات وهو صائم. وأبو طلحة الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة أو خير من ألف رجل) هذا الصحابي الجليل قال الإمام الذهبي: إنه سرد الصوم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين سنة. وقال الحاكم: أربعين سنة. أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

الزكاة والصدقة

الزكاة والصدقة والزكاة طهارة، فالإنسان يزكي نفسه بالإنفاق ويتخلى عن أدوى الداء، وهو البخل. قال الله تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]. ومن منا يدور بخلده أن امرأة يأتي لها ثمانون ألف دينار فتفرقها، ثم لا تجد في آخر النهار طعاماً تفطر عليه وكانت صائمة؟ من منا يفعل هذا؟ ومن منا يفعل مثل ما فعل أويس القرني، كان إذا أتى الليل يتصدق بكل ما عنده، ثم يقول: اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائعة من المسلمين، فإنه ليس في بيتي إلا ما في بطني من الطعام، وما يستر عورتي من الثياب. فهؤلاء الناس وصل بهم الإحساس بالمسلمين إلى هذا، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). علي زين العابدين كان يبخل ويتهم بالبخل، فلما مات وجدوه يقوت أهل مائة بيت من بيوت المدينة، فمن منا يفعل هذا؟

الصلاة

الصلاة الصلاة تزكية، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]. ومن مثلك يا ابن آدم! خلي بينك وبين المحراب فتدخل على سيدك أنى تشاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من واظب على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار). وسيدنا سعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما سمعت الأذان إلا بالمسجد، ومنذ أربعين سنة ما نظرت إلى قفا مسلم في صلاة. وقال عدي بن حاتم الطائي الصحابي الجليل: ما أتى وقت صلاة إلا وأنا إليها بالأشواق. إن الذنوب رجس، والصلاة تطهر الإنسان من ذنوبه، قال ثابت البناني مسنداً إلى سيدنا أنس بن مالك أنه قال: لا يسمى العابد عابداً ولو كان فيه كل خصلة من خصال الخير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة؛ لأنهما تأخذان من لحمه ودمه، ولو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]. فالصلاة والمحافظة على السنن الرواتب وعلى قيام الليل من أسباب التزكية. إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان من بلال ادخلوها آمنين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين وأما كون الإنسان ينام إلى الصباح فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن رجل نام حتى أصبح: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه). وإذا قام إلى الصلاة أصبح نشيطاً طيب النفس كما جاء في الحديث؛ فالصلاة طهارة.

الطهارة والوضوء

الطهارة والوضوء ويزكي نفسه بالطهارة وبالوضوء، كما قال الله عز وجل: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. والطهارة في كتاب الله تنتظم طهارة القلب والجوارح، كما قال الله عز وجل: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]. وقال الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11]. وطهارة الأبدان طهارة الظاهر، وقد قرنت بطهارة القلوب، كما قال الله عز وجل: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]. وقال الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، أي: نفسك فطهرها.

التوحيد

التوحيد إن النفوس تزكو بتوحيد الله عز وجل، كما قال شيخ الإسلام الهروي لما سئل: هل كان هناك ولي لله على غير اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل؟ قال: ما كان هذا ولا يكون. فكيف تزكو نفس الجهمي وهو لا يعرف له رباً عليماً ولا قادراً ولا سميعاً ولا بصيراً؟ وإنما بالتوحيد تزكو النفوس. وأرواح المشركين نجسة ونفوسهم خبيثة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]. وقال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]. وقال الله تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، ولم تكن الزكاة قد فرضت بعد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، أي: قد أفلح من تطهر من الشرك. وقال الله تبارك وتعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] قال ابن عباس: أي: لا يشهدون أن لا إله إلا الله. والإنسان إذا عرف ربه، وخشع له، وسلم له، ورضي به، وخافه ورجاه فإنه يفعل ما يحبه الله عز وجل، ويبتعد أشد البعد عما ينهى الله تبارك وتعالى عنه، وهل التزكية إلا هذا؟ فالإنسان يزكي نفسه باعتقاد أهل السنة والجماعة، ويزكي نفسه بعقيدة السلف الصالح والقرون الخيرية أفضل تزكية.

الالتزام بالشريعة

الالتزام بالشريعة للتزكية النفس وسائل كثيرة، والشرائع كلها تزكية، فقد كللت العبادات وزينت المعاملات وتوجت العادات بحسن الخلق، ففي الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة)، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]. وفي الصيام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة). وفي الحج قال الله عز وجل: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]. وقال في الزكاة: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]. وفي البيوع قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خياركم أحاسنكم قضاءً). وفي المعاملات الزوجية قال تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229].

حسن الخلق

حسن الخلق

من أقوال العلماء في حسن الخلق

من أقوال العلماء في حسن الخلق قال يحيى بن معاذ: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق. وقال الفضيل: لئن يصاحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق. وأمهات محاسن الأخلاق كما قال العلامة ابن القيم: هي الصبر والعفة والشجاعة والعدل. فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ والأناة والرفق وعدم الطيش، والعفة تحمله على الحياء وفعل كل جميل، والشجاعة تحمله على عزة النفس والتحلي بمعالي الأخلاق والشيم وعلى الندى والجود. وأضف إلى ذلك كما قال الهروي: العلم والعدل؛ فهذه أمهات مكارم الأخلاق. والخلق -يا إخوتاه- يمكن اكتسابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زكها أنت خير من زكاها). وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم). فالأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بمجاورة الصالحين وبالتكيف حتى يعتادها الإنسان.

فضل حسن الخلق

فضل حسن الخلق فكل المقامات وكل الجهود رجعت إلى حسن الخلق، وتزكية النفوس تنقيتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافاها ويكره سفسافها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار).

مكانة حسن الخلق من الدين

مكانة حسن الخلق من الدين وتزكية النفوس -يا إخوتاه! هي التحلي بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمكارم الأخلاق. ولقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. قال ابن عباس: وإنك لعلى دين عظيم، -أي: لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي من دين الإسلام. فرضي الله عن ابن عباس الذي جعل الدين كله خلقاً، ومن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين. قال الحسن في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال: آداب القرآن. وقال ابن القيم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] الخلق الذي آثرك الله به في القرآن. وقالت السيدة عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن). وهذه الآية: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] آية عظيمة، نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام فلم يته على العباد بها. وسيدنا سعد بن أبي وقاص كان يقول: لقد جمع لي الرسول صلى الله عليه وسلم بين أبويه، وكان يتفاخر على الصحابة بما قاله، فما ظنك بالذي قال له الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وينزل بها كتاب الله عز وجل؟ من قائلها؟ وفي أي الكتب سطرت هذه الشهادة؟ ومع ذلك لم يتأثر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تزده إلا تواضعاً لربه. وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] يبرز أصالة الأخلاق في الإسلام، وأنها مطلب هام من مطالب الرسالة، كما قال أهل العلم. وأجمع آية لمكارم الأخلاق قول الله تبارك وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).

مشاهد حسن الخلق في التعامل مع أذى الخلق

مشاهد حسن الخلق في التعامل مع أذى الخلق والإنسان تعرض له مشاهد فيما يصيبه من أذى الخلق، وهذا بيت القصيد -إن شاء الله- الذي يمكن أن نقف عليه قليلاً. فعلى الإنسان أن يتحلى بالعدل مع ما يصيبه من أذى الخلق، وأن يعرف كيف يتعامل مع عباد الله عز وجل، وكما قال القائل: ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وحسن الخلق أن يحسن الإنسان خلقه بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وله في ذلك مشاهد:

خامسا مشهد الإحسان

خامساً مشهد الإحسان ثم فوق هذا مشهد الإحسان: أي: أن تقابل إساءة المسيء الذي أساء إليك بالإحسان، وأن تحسن إليه كلما أساء إليك، ويهون هذا عليك علمك بأنك قد ربحت عليه وأنه يعطيك من حسناته، والعلماء قالوا: اقتضاء الهبة الثواب، وهذا المسكين قد وهبك أغلى ما عنده، وهي حسناته، فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها حتى تثبت الهبة. والحسن البصري كان إذا بلغه عن أحد أنه شتمه يهديه طبقاً من التمر ويقول: بلغنا أنك تهدي إلينا من حسناتك، وليس عندنا إلا هذا التمر. ومما يهون عليك أيضاً مقابلة الإساءة بالإحسان علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإن كان هذا عملك وإحسانك إلى من أساء إليك مع ضعفك وحاجتك وفقرك وذلك، فهكذا يفعل المحسن عز وجل القادر العزيز الغني بك في إساءتك ويقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك، فهذا لابد لك منه. وانظر إلى الربيع بن خثيم تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود لما سرقت فرسه وكان قائماً بالليل، وكان قد ذهب غلامه ليحتش، فلما أتى الغلام قال: يا ربيع أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها! قال: ما كان شغل يشغلني عن الصلاة، ثم رفع الربيع يده وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فأغنه. هؤلاء هم السلفيون، وهذه هي الرقة التي تذوب في الأرض، فتملأ الأرض رياحين وجناناً، فهو يدعو لسارقه. ونحن عندنا في مصر مثلاً إذا سرق الواحد مثلاً ربع جنيه يقولون له: اقتله، ثم يدخل العناية المركزية؛ من أجل أنه سرق منه ربع جنيه، فيريد منه عشرة آلاف جنيه، والربيع بن خثيم يدعو لسارقه!

سادسا مشهد السلامة

سادساً مشهد السلامة والمشهد الذي هو أعلى من هذا السلامة وبرد القلب: فلا تشوش على قلبك بالتفكير في أن تؤذي هذا الرجل أو تنتقم منه، فإن الرشيد لا يرضى بأن يشوش قلبه، ولا يرضى بمجرد التفكير في أذى هذا الرجل، ولا يشغل همه بهذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).

رابعا مشهد الرضا

رابعاً مشهد الرضا ثم بعد ذلك مشهد الرضا، وهو: أن ترضى بما قسم الله تبارك وتعالى لك، وتقول: أحبه إليه أحبه إلي. عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني لما تحب أحب

ثانيا الصبر وكظم الغيظ

ثانياً الصبر وكظم الغيظ المشهد الثاني: الصبر: أن تصبر على أذى الخلق؛ لأنك تعلم عاقبة الصبر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما يشاء). فلو شتمك أحد مثلاً وأنت تقدر عليه ولكنك رأيت أنك لو كظمت غيظك فستتزوج من الحور العين ما تشاء؛ لأن هذا مهر لها، فلقد أسأت الخطبة إن لم تصبر. بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة). فكيف لا يدفعك هذا إلى الصبر على أذى الناس؟ وقد شتم رجل سيدنا سلمان الفارسي فقال له: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول. وشتم رجل الربيع بن خثيم فقال له: يا هذا! قد سمع الله كلامك، وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول. فعلى الإنسان أن يصبر على أذى الخلق.

ثالثا العفو والصفح والحلم

ثالثاً العفو والصفح والحلم المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً). وسيدنا الأحنف بن قيس الذي كان يضرب به المثل في الحلم قال له رجل: علمني الحلم، قال: هو الذل يا ابن أخي! أتصبر عليه؟ يعني: عندما تجد رجلاً يشتمك وأنت ساكت وتستطيع أن ترد عليه وترد له الصاع بمليون صاع، ولكنك تعفو عنه لوجه الله عز وجل، فهذا في ظاهره الذل، ولكن في باطنه كمال العز. ومن أخبار الأحنف بن قيس أن رجلاً شتمه فسكت عنه، فشتمه الرجل مرة ثانية فسكت عنه، فأعاد فسكت عنه، فبكى الرجل وقال: والهفاه! ما يمنعه أن يرد علي إلا هواني عنده! وشتمه رجل حتى أوصله إلى خيام أهله، أي: إلى منازل أهله، فلما وصل الأحنف بن قيس قال: يا هذا! إن كان بقي عندك شيء فهاته؛ لأنني قربت من منازل الحي، فلا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره. وسيدنا قيس بن عاصم المنقري الذي تعلم منه الأحنف بن قيس الحلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا سيد أهل الوبر). قال الأحنف: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم، فقد قتل ابنُ أخ له بعضَ بنيه، فأُتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى -أي: خوفتم الفتى- ثم أقبل على الفتى فقال: بئس ما فعلت، أنقصت عددك، وأوهنت عضدك، وأسندت عدوك، وأسأت لقومك، وأثمت بربك، وقطعت رحمك، ورميت نفسك بسهمك، خلوا سبيله واحملوا إلى أم القتيل الدية؛ فإنها من غير قومنا. ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه. يا من تنهش في أحشائي يا من جزء من أجزائي يا من تبدو للجهال كأنك دائي إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي هل يأتيك ندائي إنك مثلي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد إنك فيها من شركائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تسري الطعنة في أحشائي قل لي هل يأتيك ندائي ابغ العزة عند إلهك ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي

أولا مشهد القدر

أولاً مشهد القدر المشهد الأول: مشهد القدر: فحينما يصيبك أذىً من بعض عباد الله عز وجل فانظر إلى ذلك مثل نظرك إلى ما يصيبك من الحر والبرد الذي يؤذيك، ومثل نزول الأمطار، وقل: إن هذا قدره الله تبارك وتعالى علي، فتفنى عن حق نفسك وتوفي حق ربك. فإذا ضربك إنسان مثلاً أو اعتدى عليك وشتم عرضك أو تكلم فيك، فانظر إلى أن هذه مصيبة مثل المصيبة التي حلت بك من مثل نزول الأمطار والرياح، وقل: إن هذا حدث بقضاء الله عز وجل وقدره. ولتكن لك أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد قالت السيدة عائشة: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله). وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا دابةً ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله). وقال سيدنا أنس رضي الله عنه: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنعه؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله قال: دعوه فلو قضي شيء لكان). فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يترك أنساً، وينهى أهله أن يعاتبوه ويقول: (دعوه فلو قضي شيء لكان).

سابعا مشهد الأمن

سابعاً مشهد الأمن ثم فوق هذا مشهد الأمن، فإنك إذا تركت مقابلة الانتقام بمثله عشت في أمان، كما يقولون: عش مظلوماً سنة ولا تعش ظالماً يوماً؛ لأنك تأمن وتعيش في أمن إذا كنت مظلوماً. اللهم ارزقنا رحمةً ترحمنا بها، اللهم اجعل في قلوبنا رأفة ورحمة ووداً للمسلمين. ونختم بما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهلاً لأن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تفسير سورة البلد

تفسير سورة البلد لقد أقسم الله تعالى بالبلد الحرام؛ مكة المكرمة على أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يكابد أتعابها منذ خلق وإلى أن يموت. والله سبحانه وتعالى خلق للإنسان أدوات العلم والمعرفة، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وبين له طريق الحق وطريق الباطل، وبين له أن من الأعمال التي تنجي صاحبها من النار إعتاق الرقاب، وإطعام الناس في شدة المجاعة والمخمصة.

تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)

تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: فكلام الملوك ملوك الكلام، وخير الكلام كلام الله تبارك وتعالى القرآن الكريم؛ مزامير الأنس، من حضرة القدس بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، هذا طعم الخبر فكيف طعم النظر! {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]. والأنس بالله هو الأنس بالقرآن الكريم، ومعنا اليوم سورة مكية وهي سورة البلد. يقول الله تبارك وتعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1 - 4]. والربط بين أواخر سورة الفجر وبين أوائل سورة البلد؛ أن الله تبارك وتعالى لما ذكر النفس المطمئنة في آخر سورة الفجر، وقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. لما ذكر الله تبارك وتعالى المكان الطيب في الآخرة وهو الجنة، وذكر النفس المطمئنة، عقب الله تبارك وتعالى بالربط بين المكان الطيب في الآخرة وأطيب مكان في الدنيا وهي مكة، فأقسم الله تبارك وتعالى بها، ثم أقسم بأنفَس وأطهر نفس في تاريخ البشرية وخير من وطأ على الحصا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}. يقول الله تبارك وتعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1]، فهل معنى هذا أن الله لا يقسم بهذا البلد ولا يقسم بيوم القيامة؟ لا، بدليل أن الله تبارك وتعالى أقسم بمكة في سورة التين فقال: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3]، فكيف يقسم في سورة ولا يقسم في سورة أخرى؟ ولذلك قال علماء التفسير: إن (لا) هنا زائدة تفيد التوكيد، وقد أتت شواهد في اللغة العربية وفي القرآن على أن (لا) النافية تأتي بهذا، يقول الله تبارك وتعالى عن إبليس في سورة الأعراف: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]، وفي نفس السورة يقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص:75] إذاً: لا هنا زائدة. أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] لئلا أصلها: لأن لا، فأدغمت النون في اللام فصارت لئلا، والمقصود: لكي يعلم أهل الكتاب، فلا هنا زائدة للتوكيد، كما يقول الشاعر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع يعني: فكاد صميم القلب يتقطع.

تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)

تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد) وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] (ووالد) فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: هو آدم أبو البشرية، كما أقسم الله بأم القرى مكة -أي: أصل القرى- يقسم بأصل البشرية آدم. القول الثاني: إبراهيم عليه السلام. القول الثالث: وهو قول سعيد بن جبير: هو الرجل الذي يولد له. قوله: (وما ولد) أيضاً فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: الرجل العقيم الذي لا ينجب. القول الثاني: أن (ما) هنا مصدرية، أي: ووالد وولادته، فيقسم الله تبارك وتعالى بعملية خلق الإنسان، بإخراج الولد من صلب الذكر ورحم الأنثى، وبعملية خروج الجنين كما تخرج البذرة في الأرض السوداء، ثم تنفلق ويخرج منها نبات طيب أخضر، ثم بعد ذلك تخرج الثمار والزهور، فعملية خلق الإنسان أشد تعقيداً. والله تبارك وتعالى يوكل ملكاً بتصوير خلق الإنسان، فيجعل له العنينين والأذنين بأمر الله تبارك وتعالى، ويحدد له الرزق والعمر والشقاء أو السعادة، وكل هذا يتم وهو لا يعلم شيئاً. والله تعالى أنعم علينا بنعمة الإسلام إذ أخرجنا من بطون أمهاتنا مسلمين، فإن رجاء الجارودي ظل يبحث عن الإسلام في مدن فرنسا ستين سنة من عمره، ولو كانت العملية هكذا كان رجاء الجارودي من أوائل الناس الذين أسلموا، ولكن هذه نعمة من الله تبارك وتعالى علينا بها ما عقدنا عليها من خيل ولا ركاب، وإنما ساق إليك هذه النعمة وجعلك من أهل قبضة اليمين. ولو سجدنا لله على إبر محمي من الآن إلى يوم لقياه ما كافأناه بهذه النعمة. القول الثالث: أن (ما) هنا موصولة، والمعنى: ووالد والذي ولد، أو: ووالد ومن ولد، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:3] يعني: والذي خلق الذكر والأنثى، وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] أي: من طاب لكم من النساء، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36] يعني: والله أعلم بمن وضعت، ولكنها وإن كانت تستخدم لغير العاقل فإنها تستخدم هنا للعاقل، وحين تستخدم للعاقل تدل على صفة، أي: ووالد والعظيم الذي ولده، مثل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] أي: والسماء والخالق العظيم الذي بناها، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] ونفس والخالق العظيم الذي سواها. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق له أولاد ذكور، فالله يقسم بآدم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقسم بإبراهيم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68]. وهذا الكلام فيه تعريض لأهل مكة المشركين حين يقسم الله به وهم يريدون قتله، فيقسم به مرتين: بإقامته، ويقسم به في المرة الثانية: ((وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ)). وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، الكبد: المشقة والتعب، ومنه يسمى الكبد كبداً لأنه يحوي دماً متخثراً ومتجمداً. فالمسلم في مشقة، ولا راحة له إلا بعد أن يجتاز جسر جهنم ويدخل الجنة، فلا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى في الجنة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]. فالإنسان يعيش في كبد من أول ما تقطع سرته، فلو أن رجلاً كبيراً جرح جرحاً بسيطاً فإنه يعاني معاناة شديدة، ولا يسكن الألم إلا بفلين أو بيلوفين أو مسكن كذا وكذا، فما ظنك بالطفل الصغير يفصل شيئاً من جسده وهو السرة؟! ثم بعد ذلك يلبس هذه الملابس واللفافات التي توضع على الطفل الصغير، ولو أن شخصاً لبس ثوباً ضيقاً فقد لا يتحمل، فما ظنك بالطفل الرضيع وهو يشد ويربط بتلك الملابس!! ثم يعالج بعد ذلك الرضاع الذي لو فاته لجاع، ثم يعالج بعد ذلك الفطام الذي هو أشد من الوسام، ثم يعالج بعد ذلك نبت أسنانه، ثم يعالج بعد ذلك الوقوف بخطى ثابتة، والمشي بخطى ثابتة، وهكذا، ثم بعد ذلك يعالج بناء الدور وتشييد القصور، ثم بعد ذلك يعالج مشاكل الزواج وأتعابه، ثم بعد ذلك يعالج أمر الزوجات والأولاد، بعد ذلك يعاني من المواصلات وهمّ المواصلات، ثم بعد ذلك يعاني من المرض والأوجاع، ثم بعد ذلك يعاني سكرات الموت، ثم بعد ذلك يعاني من رؤية ملك الموت، ورؤية الملكين وعذاب القبر، ثم بعد ذلك يعالج ويكابد الوقوف أمام الله تبارك وتعالى في ساحة العرض على الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك الجنة أو النار. فهذا يكدح بعضلاته، وذاك يكدح بروحه، وهذا يكدح من أجل بناء القصور، وهذا يكدح من أجل الكساء، وكل يكدح، وكل يحمل همه على ظهره ويمضي، ولكن هناك فرق بين من يكدح في سبيل نزوة وشهوة ومن يكدح لعقيدة ودعوة، وهناك فرق بين الرجل الذي يعيش لشهواته والرجل الذي يعيش لدينه، إن من يعيش لنفسه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، وأما الذي يعيش إرضاء لربه فما له وللمال وللدعة؟! وما له وللفراش الوثير؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتهى عهد النوم يا خديجة)، قم للأمر الكبير الذي ينتظرك، قم لأمر الدعوة لله تبارك وتعالى. لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران دسوني لإسلامي لإسلامي ولو في السلك باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له عرقي له نبضي وسكوني أنا ماذا أقول أنا بلا ربي بلا ديني أنا ماذا أقول أنا أجيبوني أجيبوني هناك من يعاني كدح الدنيا ثم ينتهي به الأمر إلى كدح الآخرة وإلى النار، وهناك من يعاني كدح الدنيا من أجل دينه وينتهي به إلى ظل الله تبارك وتعالى، وإلى جوار الله تبارك وتعالى حيث الأمن، وحيث لا خوف ولا حزن. والذي يكدح في الدنيا فيتعب، ويكدح في الآخرة بمعالجة السلاسل والأغلال والنيران وسرابيل القطران، هذا جمع هماً إلى هم، فمثله كمن يغوص في الأوحال والطين مع أكل الديدان والحشرات. إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حياتك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها ومن تعب في سبيل الدعوة فإنه يحس بأنس وراحة، وطمأنينة بال، ورضا عن نفسه قال أحدهم: والله! إنها لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً. ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب. يعني: لو أن حياة أهل الجنة مثل هذه الحياة فإن أهل الجنة في سعادة. ويقول القائل: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف. ويقول أحدهم: العيش الهني العيش مع الله تبارك وتعالى؛ أن يرضى الله تبارك وتعالى عنك. ومن اشتاق إلى الله اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين.

تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)

تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) اختلف علماء التفسير في معنى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] على ثلاثة أقوال: القول الأول: حلال لك ما تفعله في هذا البلد لحظة دخولك إياها، فاقتل من شئت، واعف عمن شئت، وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان يقول: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بيته فهو آمن)، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل عشرة من مجرمي الحرب الذين ناصبوا الدعوة العداء وإن تعلقوا بأستار الكعبة، ومنهم: عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعكرمة بن أبي جهل وآخرون، ثم بعد ذلك عفا رسول الله عن سبعة، وقتل الصحابة الثلاثة، ومنهم رجل وجدوه قد تعلق بأستار الكعبة فقتلوه وهو متعلق بأستار الكعبة؛ تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لم يحل مكة لأحد من قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، وما أحلت لي إلا ساعة من نهار، ثم عادت حراماً بحرمة الله إلى يوم القيامة). وهذه خاصية أعطاها الله عز وجل للمصطفى صلى الله عليه وسلم ساعة دخول مكة فقط، وهذه من الخصائص المؤقتة لرسول الله. وهذه السورة مكية، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطهد معذب بمكة، فحينها يقول الله تبارك وتعالى له: ستفتح هذه البلدة التي ناصبتك العداء، وبأمر الله افعل فيها ما شئت، ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في يوم من الأيام ستفتح له مكة، وتنزل عليه هذه السورة برداً وسلاماً على قلبه. القول الثاني: ((وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)) أي: وكل شيء فيك حلال لأهل مكة، فهم لا يصطادون في مكة ولا يقتلون الدواب، ولا يقلعون الشجر ولا الحشيش الرطب في مكة، ويحرمون الصيد فيها، ومع ذلك يجتمعون ويتفقون على قتلك؟! كيف يصح هذا في الأذهان؟! لا يقتلون القاتل إذا دخل في رحاب مكة ثم يتفقون على قتلك أنت؟! ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) أي: وأنت مهدر الدم حلال أن يقتلوك، فأي مقياس هذا وأي منطق؟ إنهم يعفون عن المجرم القاتل وألا يقتلوا صيداً وألا يقطعوا شجراً، ثم يستحلون منك ما لا يستحلون من القاتل؟! فهل يعقل أن يقتلوك؟ أو أن يشردوك أو يخرجوك من بلدتك؟ ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ورده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، فكان كلما مرّ على هذا الحجر قال له: السلام عليك يا رسول الله! فالحجارة تعرف الصالحين، وتسلم على الأنبياء والمرسلين، وتقسو القلوب فتطرد أنبياء الله تبارك وتعالى! قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:56] وذنبهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]. وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. فإذا عرف الشباب طريق المساجد فهذا تطرف وإذا بعدوا عن المساجد وشربوا السجائر فهذا عين الصواب! القول الثالث: ((وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا البلد)) أي: وأنت مقيم بهذا البلد، يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة شرف لها، فهي حرام وأمان، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمان، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فهو مصدر الأمان لهم ومع هذا يهددون أمنك، ويودون قتلك! إذاً: يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله في مكة، فقد زادها شرفاً فوق شرفها. فالمولى تبارك وتعالى يقسم بإقامة الرسول في مكة، ويعلم أنه مضطهد ومعذب ومشرد بين قومه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل، فيمشي وراءه أبو لهب فيقول: لا تتبعوا هذا الصابئ، وكان يرشق بالحجارة إذا عرض نفسه على قومه، فكان يقول: (من يجيرني حتى أبلغ رسالات ربي أضمن له الجنة). فكان أبو جهل وأبو لهب والسفهاء وراءه، يعرض نفسه على القبائل وهو سيد الناس وقد لاقى ما لاقى حتى إنهم كانوا يضعون عليه سلا الجزور وهو ساجد -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم، فعز على سيدنا أبي بكر ما يفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يدفعهم عنه، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ قالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فالذي يدافع عنه مجنون، فتركوا رسول الله ثم أقبلوا على أبي بكر، فجعل عقبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين، وأبو بكر سماه الله تبارك وتعالى في السماء صديقاً، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وهو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40]، فكان هذا المجرم يضربه بنعلين مخصوفتين حتى انحرف وجهه، ونزا على بطنه برجله، حتى أتت بنو تيم فأنقذته وهم لا يشكون في موته، وغشي عليه، وأول كلمة نطق بها بعد أن أفاق: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت عند قبولي فجعل قومه يلوكونه بألسنتهم، ثم قال: والله لا أذوق طعاماً حتى أنظر ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول السيدة أسماء: فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من جدائل شعره إلا سقطت مع لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، واعتمد على أخت عمر بن الخطاب حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الصديق رق له وبكى، فما ظنك بفعلهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا شرف للدعاة أن المولى تبارك وتعالى يقسم بتعب رسول الله واضطهاده وكدحه في سبيل دينه في هذا البلد.

أسماء مكة

أسماء مكة قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1]: أقسم الله تبارك وتعالى بالبلد الحرام مكة، ومن أسماء مكة: البلد الحرام، والبلد الأمين، وأم القرى، يعني: أصل القرى، فكل القرى لها تبع وهي الأصل، وتسمى بكة بالباء؛ لأنها تدك أعناق الجبابرة، وتسمى بثاق أيضاً: له دفع الحديد إلى بثاق. وتسمى معاداً قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، وتسمى كوثى، والبلدة، والبنية. لو لم تكن خير البلاد على الثرى ما كان بيت الله فوق ترابها هي قلب هذي الأرض مقلة وجهها والصالحات عرفن من أهدابها فاكحل جفونك يا شريد بمائها أو شح ماء فاكتحل بترابها يعني: لو أن الرجل يكتحل بالتراب فتراب مكة أولى. ويقول الشاعر أحمد شوقي: على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات لدى الباب جبريل الأمين براحه رسائل رحمانية النفحات وزمزم تجري بين عينيك أعيناً من الكوثر المعسول منفجرات ويقول الشاعر أيضاً: هنا النبوة تحيا في أماكنها والطيب يبلى ونوء الدهر تندرس هنا الصحابة من حول النبي رنا أبو هريرة يوم الحل والأنس هنا السماوات تبدو قرب طالبها هنا رحاب فضاء حين يلتمس يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحظة الهجرة على مكة فيقول: (والله إنك لأطيب بلاد الله وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت، أو ما سكنت غيرك)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس)، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاها). وقد يقول قائل: إن الله تبارك وتعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ومع هذا قد يحدث قتل في مكة، فما معنى هذا التحريم؟ و A أن التحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم شرعي، وتحريم كوني، فالتحريم الكوني كقول الله تبارك وتعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء:95]. والتحريم الشرعي: أن ينهى الله تبارك وتعالى عن شيء، ثم يفعله بعض عباده، مثلما يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، فهذا قضاء شرعي، وإلا لو كان قضاء كونياً لعبد الناس كلهم الله عز وجل، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] أي: قضى الله بالوالدين إحساناً، ولكن مع ذلك تجد أناساً يعقون آباءهم. فهناك تحريم كوني وتحريم شرعي، وقضاء كوني وقضاء شرعي، وإذن كوني وإذن شرعي، وإرسال كوني وإرسال شرعي، وإرادة كونية وإرادة شرعية. واسم الإشارة في قوله تعالى: ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد)) يأتي للتعظيم وللتنويه بشرف مكة. وقوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2]، ولم يقل: لا أقسم بهذا البلد وأنت حل به، وإنما قال: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}، فكرر ذكر (بهذا البلد) مرة ثانية ولم يأت بها مضمرة، ليدل ذلك على فضل مكة.

تفسير قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد)

تفسير قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد) قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5]. قد يطغى إنسان بقوته وينسى كم أهلك الله من قبله من القرون، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]. قال أبو جعفر المنصور لأحد العلماء: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به أعناق الجبابرة فعندما تأتي إليه الذبابة لا يستطيع أن يحضر لها جيشاً مسلحاً من أجل طردها وإبعادها. ولهذا لما قال النمرود بن كنعان: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] أي: أقتل هذا وأعفو عن هذا، ابتلاه الله تبارك وتعالى ببعوضة دخلت في أحد منخريه إلى دماغه، فجعلت تطن، فكان صوت الطنين في دماغه كأنه صوت آلات مصانع حربية، فجعلوا يضربونه بالنعال على أم رأسه، فأذل الله هذا الرجل الذي قال: أنا أحيي وأميت. فالله يبتلي الإنسان بقوته، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6]، والله تبارك وتعالى يقول: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]، فليتق الله امرؤ في نفسه.

تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالا لبدا)

تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)

القراءات في قوله تعالى: (يقول أهلكت مالا لبدا)

القراءات في قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً) قال الله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] وفي قراءة: (يقول أهلكت مالاً لبَّداً) وهذه قراءة متواترة صحيحة. ومعنى قوله تعالى: ((يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)) يعني: مالاً كثيراً، فالشعر الملبد هو الشعر المتراكم بعضه على بعض. إذاً: لبداً مفردها: لبد، لكن لبَّداً مفردها: لابد، كما تقول: قام قائم، ركع راكع، سجد ساجد، شهد شاهد. ويقال: إن رجلاً أسلم ثم قال: والله منذ أن أسلمت أنفقت مالاً كثيراً في الكفارات، فربما تنتهي أموالي بسبب محمد! فالله تعالى ذم كلامه القبيح، فهذا المدح الكاذب نعرة من نعرات الجاهلية، وذلك مثل رجل يريد أن يفرح بولده، فينفق مائة ألف جنيه على راقصة ومغنية وطبل ومزمار، وكأنه يقول: أريد أن أشتري المعاصي بنقودي، فأصل التمادح الكاذب هذا موجود في الجاهلية.

تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد)

تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد) قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7]. إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب إذا ما مضى القوم الذي أنت فيهمُ وخلِّفت في قوم فأنت غريب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب قيل للإمام أحمد بن حنبل: ما تقول في الشعر؟ قال: مثل ماذا؟ قالوا: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني فقام الإمام أحمد وأخذ نعله وسمع نحيبه من خلف الباب وهو يبكي ويقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني ورجل راود امرأة على الزنا وقال لها: لا يرانا إلا الكواكب، فقالت له: فأين مكوكبها؟ أين الله! والراعي عندما قال له ابن عمر رضي الله عنه: أعطني شاة وقل لسيدك: سرقت الشاة مني، قال له: فأين الله؟ فهذه هي الرقابة لله تعالى. ولو أن إنساناً خلا بمحارم الله فانتهكها فقد جعل الله أهون الناظرين إليه، فلذلك جاء في الأثر: استح من الله كما تستحي من الرجل الكبير من قومك. فكما لا تستطيع أن تفعل العيب أمام رجل كبير في مدينتك حياء منه، فكذلك استح من الله، والذي يستحي من الله يقربه الله تبارك وتعالى، والذي يرتكب المعصية أقل أمره أنه قليل الحياء؛ لأن فعله حين يرتكب المعصية دائر بين أمرين: فإن قال: إني أرتكب المعصية والله غير ناظر إلي وغير مطلع علي، وأرتكب هذا الفعل بمغيب عن علم الله فهذا كفر وخروج من الإسلام بالكلية، فهو كافر. وإن قال: إني أفعل هذا وأعلم أن الله ناظر إلي، فهذا يدل على قلة الحياء. فلا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها، فإذا حرك الريح باب دارك وأنت في منظر معيب، فإنك تخشى من نظر الناس، أفلا تخشى بعد ذلك نظر الله إليك وأنت مقيم على المعاصي؟! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إن لم تستح فاصنع ما شئت).

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين)

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين) يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10]. سبحان من أنطق بلحم، وأسمع بشحم، ولا يقدر على ذلك إلا الله تبارك وتعالى. فقوله تعالى: ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ)) فهذه النعمة لا تستطيع أن تكافئها بسجود دائم إلى يوم القيامة، ولا تدرك عظمتها إلا إذا سلبها الله تبارك وتعالى عنك. قال الجنيد لابن أخته وهو طفل ابن سبع سنوات: ما أقل الشكر يا غلام؟ قال: ألَّا تعص الله بنعمه. فالله تبارك وتعالى أعطاك نعمة العينين، فإذا أردت أن تعصيه ولا تغض البصر، فاعمل لك بصراً عند أحد النجارين واعص به ما شئت، ولكن لا تعص الله بنعمه، فإن هذا يدل على قلة الحياء، وهو أن تستخدم هذه النعمة في الشيء المقابل. وقوله تعالى: {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9]، فالعرب قبل نزول القرآن الكريم كانت تسمي الكلمة بنت شفه، يعني: أنها تخرج من بين الشفتين، ولكن الأسلوب القرآني: ((وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)) أي: إياك من اللسان، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عليك بطول الصمت، وحسن الخلق، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما). وابن دقيق العيد يقول: والله منذ أربعين سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى. فالعينان واللسان والشفتان تشهد على الإنسان يوم القيامة، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، ويقول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] النجد: هو المكان المرتفع، ومنه سميت نجد نجداً؛ لأنها مرتفعة على تهامة، فسمى الله تبارك وتعالى طريق الحق بأنه نجد وعر، وسمى طريق الشر أيضاً بأنه وعر، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] أي: بينا له طريق الخير، وبينا له طريق الشر. إذاً: فمعنى هديناه النجدين: وضحنا له طريق الحق وطريق الضلالة، وطريق الحق وعر باعتبار البداية، ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره). وطريق الشر وعر باعتبار النهاية؛ لأنه يؤدي بك إلى النار، والإنسان في البداية يريد السرقة من أجل حصول المال ويريد الزنا وغير ذلك، فطريق الشر حلو باعتبار البداية، ولكنه وعر باعتبار النهاية، فتفنى اللذات ويبقى أثرها؟ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وحفت النار بالشهوات).

تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)

تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة) قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11]. يعني: فهلا اقتحم العقبة، والاقتحام أن ترمي نفسك في الشيء بدون تفكير وبدون روية، والعرب تقول: قحم الفرس فارسه إذا ألقاه من عليه على وجهه، وتقول: أصابت القوم القحمة، يعني: الشدة والجوع. فمعناه: فهلا اقتحم العقبة، أي: فهلا سارع في فكاك نفسه. قوله: ((فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)) هناك محذوف، والتقدير: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، والعقبة قالوا: إنها الصراط المار على جهنم، وقالوا أيضاً: إنها نار دون الجسر، وقالوا: إنها دركات النار -منازل أهل النار-، وقالوا: العقبة مجاهدة النفس حتى تزكو بأمر الله تبارك وتعالى. والإمام البخاري قال: ((فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)) يعني: فلن يقتحم العقبة، وهكذا فسرها مجاهد.

تفسير قوله: (وما أدراك ما العقبة)

تفسير قوله: (وما أدراك ما العقبة) قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد:12]. يقول سفيان بن عيينة: كل ما قاله الله تبارك وتعالى لنبيه: (وما أدراك) فقد أعلمه به، وكل ما قاله الله لنبيه: (وما يدريك) فلم يعلمه به، قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، فالله لم يعلمه بها، وأما العقبة فقد أعلمه بها مباشرة.

تفسير قوله تعالى: (فك رقبة)

تفسير قوله تعالى: (فك رقبة) قال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13]، والفرق بين فك الرقبة وإعتاق الرقبة: أن فك الرقبة هو أن تشترك بمال مع غيرك لأجل أن تعتق عبداً، فتشتريه لأجل أن تعتقه ثم تعتقه لوجه الله تبارك وتعالى. أما عتق الرقبة: فهو أن تشتريه بمالك الخالص ولا يشاركك فيه أحد غيرك. و ((فَكُّ رَقَبَةٍ)) أن تصنع كما صنع أبو بكر الصديق، فقد كان يشتري العبيد ويعتقهم لوجه الله تبارك وتعالى. وأعظم ما ينجيك من النار عتق الرقاب، والمستشرقين قالوا: إن الإسلام يدعو إلى الرق، وهم في ذلك كذبة فجرة؛ لأن الإسلام ضيق من الرق ووسع في سبيل الحرية، بدليل أنه جعل كفارة الظهار وكفارة اليمين عتق الرقاب. وأيضاً: لو أن رجلاً عنده عبد، فقال له هزلاً: أعتقتك لوجه الله، فهذا الكلام ينزل بمنزلة الجد، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتق). وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لطم مملوكه -أو ضربه- بغير حق فكفارته -يعني: فكفارة هذا الذنب- عتق هذا المملوك). والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق رقبة مسلمة كانت فداءه من النار؛ عظمه بعظمه حتى فرجه بفرجه).

تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة)

تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) وقال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14]. قوله تعالى: ((في يومٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)) يعني: في يوم شديد الجوع، تقول: فلان ساغب، أي: جائع. وهذا بيت القصيد وهو إطعام الناس لأجل الله تعالى في يوم الفقر، وفي يوم شديد الجوع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الصدقات أن تدخل سروراً على مسلم، أو تفك عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً).

تفسير قوله تعالى: (يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة)

تفسير قوله تعالى: (يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة) قال الله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] أي: يتيماً من أهلك، {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] والمسكين هو الفقير. ((ذَا مَتْرَبَةٍ)) يعني: كأنه لصق بالتراب، فلا يوجد لديه شيء. فقوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] يدل على أن أول شيء هو صلة الأرحام، ثم صلة اليتامى الأقربين، ثم بعد ذلك صلة يتامى المسلمين. ومراد الله من عباده لين قلوبهم ورقتها، فإذا رق القلب أتى منه كل خير، وإذا قسا القلب أتى منه كل شر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدخل أقواماً الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير). قال الإمام النووي: في رقتها وفي لينها وفي توكلها على الله تبارك وتعالى. ومن الأسباب لرقة القلب ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك -أي حاجة- فامسح رأس اليتيم، واطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك). وعندما يكون الإنسان صالحاً يتكفل الله بأولاده، قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، وقد يمر على أولادك ما يمر على يتامى المسلمين فاتق الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (قد غفر الله لبغي -وفي رواية: لمومسة أي: زانية- من بني إسرائيل وجدت كلباً يكاد أن يأكل التراب من شدة العطش، فنزعت موقها -أي: خفها- ثم حملت به الماء حتى سقته، فغفر الله لها). والله تبارك وتعالى غفر لامرأة زانية؛ لأنها لما وجدت رضيعيها يبكيان أسندتهما إلى صدرها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله غفر لهذه برحمتها بولديها، وإن الله لا يقدس أمة لا ترحم ضعيفها). والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، ومن الذي لا يريد أن يكون قريباً من المصطفى صلى الله عليه وسلم؟! وسيدنا أنس كان يبكي ويقول: (يا رسول الله! إن كنت معنا فرحنا بك، وإن غبت عنا اشتقنا إليك، فتذكرت مقامك في الجنة مع النبيين فآلمني هذا الأمر وشق علي فبكيت، فلما نزل قول الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] يقول سيدنا أنس: فوالله ما فرحنا بآية مثل فرحنا بهذه الآية). وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)، فإذا أردت أن تجاهد في سبيل الله فأد حق اليتامى والمساكين والأرامل. والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (كافل اليتيم له أو لغيره معي كهاتين في الجنة). فيتامى المسلمين كثيرون، ومن أكل طعاماً أو فاكهة وأطفال جاره يتضاغون من الجوع فليس على سنة المصطفى في ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع). وسيدنا عمر سجن الحطيئة لأنه كان يشتم الناس، فبعث إليه بيتين من الشعر فبكى سيدنا عمر بسبب هذين البيتين، وعفا عنه، وهما: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قاع مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر فسيدنا عمر بكى، وهذا من رقة قلبه، لأنه قال في الشعر: زغب الحواصل لا ماء ولا شجر أي: لا يوجد شخص يسأل عليهم. ولو كل الناس ينفقون على اليتامى فإن الله تعالى يبارك في المال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قل مال من صدقة)، وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7].

الفرق بين اليتيم والمسكين

الفرق بين اليتيم والمسكين الفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير حاله أشد ضنكاً من المسكين، بدليل قول الله تبارك وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فهم مساكين ومعهم سفينة، وسمي الفقير فقيراً من الفقرة، والفقرة هي الحفرة التي يحفرونها من أجل أن يضعوا فيها النخلة، وكأن الفقير قد نزل في هذه الحفرة. وقول آخر: أنه مأخوذ من فقرة الظهر، ومنه العمود الفقري، فعندما تأخذ فقرة من ظهر الإنسان فإنه لا يستطيع أن يتحرك، وهكذا الفقير لا يستطيع الحركة وكأنه قد أصيب بشلل. والفقير والمسكين لو أتيا في آية واحدة فالفقير له معنى والمسكين له معنى، ولو ذكر أحدهما دون الآخر فإنه يشمل معناه. إذاً: قوله: ((أَوْ مِسْكِينًا)) يشمل الفقير. والإسلام يستوصي بالفقراء وبالمساكين خيراً، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وتعوذ بالله من الفقر والإسراف.

تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا)

تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا) وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]. يعني: لا ينفع إطعام المساكين في الآخرة بدون إيمان وإسلام، والكافر وإن كان منفقاً في سبيل الخير فإن الله تبارك وتعالى يوفي إليه أجره في دار الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم: (أسلمت على ما أسلفت من خير) أي: أسلمت على ما كان منك من خير. قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:17] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)، فالمؤمنون يوصي بعضهم البعض بالصبر، لا يوصي بعضهم البعض بالعجلة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24]، والصبر يكون على طاعة الله، وعلى الأقدار المؤملة، وعن معاصي الله تبارك وتعالى. وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] المرحمة: هي رحمة العباد، وتكاد أن تكون رسالة الإسلام في الرحمة، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وما وإلّا من أساليب الحصر والقصر، يعني: رسالتك الرحمة ودينك الرحمة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا أحب شخصاً ألهمه الرفق، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إذا انقيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً: الموطئون أكنافاً اللينون). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف). والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل ذات كبد حرى أجر) يعني: لو أنك سقيت كلباً أو حيواناً وهو عطشان، فإن الله تبارك وتعالى يثيبه على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لا يرحم لا يرحم). وسيدنا جبريل يقول للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه -يعني: في في فرعون- من حمأ البحر -أي: من طين البحر-؛ حتى لا تدركه رحمة الله تبارك وتعالى)، لأن فرعون لم يرحم الأطفال فقد كان يذبحهم، فلم يرحمه جبريل، فجعل يدس الطين في فمه حتى يموت قبل أن تدركه رحمة الله تبارك وتعالى. ولما أخذ المؤمنون برأس الأمر وهو الصبر جعلهم الله رءوساً.

تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الميمنة)

تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الميمنة) قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18]. فهم الميامين على أنفسهم وعلى ذويهم وعلى غيرهم، أي: أنهم خيرة على أنفسهم، وعلى أهليهم، وعلى الناس الذين بجانبهم، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيمن، وهم الذين يكونون يوم القيامة عن يمين العرش، وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] أصحاب المشأمة: هم المشائيم على أنفسهم وذويهم، يعني: النحس على أنفسهم وعلى ذويهم، وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم يوم القيامة، وهم الذين يكونون عن يسار العرش، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيسر. اللهم ارزقنا الرحمة، واملأ قلوبنا رقةً، رب اجعلنا لك بكائين، إليك أواهين مخبتين منيبين، وتقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، وبك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا. إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل معه من حبك نصيباً. إلهي! ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، فكن دليلنا. إلهي! ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه، فكن أنيسنا. إلهي! أتينا أطباء عبادك ليداووا خطاينا، فكلهم عليك دلّنا. اللهم داو أمراض قلوبنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

رهبان الليل

رهبان الليل لقد سطر التاريخ رجال من سلف هذه الأمة ملئوا الأرض سجوداً وركوعاً ودموعاً، فما عرفوا النوم، ولا تلذذوا بالفراش، ولا ركنوا إلى الدنيا وزخرفها، ليلهم قنوت وطاعة وبكاء، ونهارهم قتال ومجالدة لأعداء الدين، ففازوا بمرضاة ربهم، وسارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأصبح الحديث عنهم حلماً وخيالاً، واللحاق بهم عجزاً ومحالاً إلا من رحم الله من هذه الأمة في هذا العصر، وقليل ما هم.

فضل قيام الليل في القرآن

فضل قيام الليل في القرآن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: فشكر الله لكم مجيئكم، فقد تكلفتم مشقة المجيء إلى هنا، وشكر الله لكم أن سهلتم لي سبيل المجيء لأحدثكم اليوم، وقديماً قال شعبة: من سمعت منه حرفاً فأنا له عبد. وابن مندة شيخ الحنابلة يقول: من استمع مني حرفاً فأنا له عبد. وشكر الله لكم حسن ضيافتكم لنا في هذه الأيام، وينطبق فينا وفيكم قول الشاعر: ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي موضوع اليوم هو: رهبان الليل. تتجافى جنوبهم عن لذيذ المضاجع، كلهم بين خائف مستجير وطامع، تركوا لذة الكرى في العيون الهواجع، ورعوا أنجم الدجى طالعاً بعد طالع، واستهلت دموعهم بانفضاض المدامع. يا إخوتاه! إنما قالوا التعبد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان لبلال ادخلوها آمنينا فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا وكلام الملوك ملوك الكلام! ولا أطيب من كلام الله عز وجل، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]. وقال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:1 - 8] أي: انقطع إليه انقطاعاً. إن الذي يعيش لنفسه يعيش صغيراً، ويموت صغيراً، أما الذي يعيش لدين الله عز وجل فما له وللنوم! وما له وللرقود! وما له ولدفء الفراش! قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه الصحابة اثنا عشر شهراً، وأمسك الله خاتمة المزمل في السماء، قالت السيدة عائشة: فلما علم الله صدقهم نزل التخفيف في نهاية السورة. وقال الله تبارك وتعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، قال محمد بن كعب القرظي: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه من آثار القيام. قيل للحسن البصري: ما بال القائمين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لا يسأمونا بقاع الأرض من شوق إليهم تحن متى عليها يسجدونا قال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]. قال ابن مسعود: إذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل. وقال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26]. وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39]، قال ابن عباس: نيرة من آثار القيام في دار الدنيا.

لماذا الحديث عن قيام الليل

لماذا الحديث عن قيام الليل

الصلاة خير موضوع

الصلاة خير موضوع لماذا قيام الليل؟ ولماذا الحديث عن قيام الليل؟ أولاً: لكونه صلاة، والصلاة خير موضوع، كما جاء في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)، وإذا أردت أن تزلف إلى الله عز وجل فلا بد أن تدخل عليه من باب الاستقامة، ومكانها المحراب. إذا توهم الدنيوي جناته في الدينار والدرهم، والقصر المنيف، والزوجة الحسناء، فإن جنة المؤمن في محرابه. فهذا ثابت البناني تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنه يقول فيه أنس: إن للخير مفاتيح، وإن ثابتاً مفتاح من مفاتيح الخير. يقول ثابت: لو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]. وقال: الصلاة خدمة الله في الأرض. وقال: لا يسمى العابد عابداً -ولو كان فيه كل خصلة من خصائل الخير- حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة، لأنهما تأخذان من لحمه ودمه. وقال رحمه الله: كابدت قيام الليل عشرين سنة، واستمتعت به عشرين سنة. قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، قد يضعف الصبر على طول الطريق الشائك، وقلة الناصر، وقساوة القلوب، وأن ترى الشر منتفشاً، والخير منزوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، فهنا قد يضعف الصبر، فالله عز وجل أمر الصبر في الصلاة؛ لأنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله الفسيح. إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة! إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود! وعلى أبواب المشقات العظام دائماً يوجه الله عز وجل المسلمين إلى الصلاة: (أرحنا بها يا بلال!) وقيام الليل زاد الدعاة إلى الله عز وجل في كل وقت وفي كل حين.

مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص

مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص السبب الثاني: أن مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص، وخليج صاف خير من بحر كدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة في الدين، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله عز وجل هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). ولما اصطف الناس لفتح كابل قال قتيبة بن مسلم: أين محمد بن واسع شيخ القراء؟ قالوا: في أقصى الميمنة رافع إصبعه إلى السماء، قال: أبشروا قد جاءكم النصر، لهذه الإصبع أحب إلي من ألف سيف شهير، وشاب طرير، فلما جاءه قال له: ماذا كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق. ومحمد بن واسع هذا ربما صلى الليل كله في محمله، ويأمر حاديه أن يصوت بالناس. محمد بن واسع رحمه الله يقول: والله إني لأعرف رجالاً تبتل مخدة أحدهم من أثر دموعه، وزوجه معه في الفراش لا تشعر. وهذا عبد الله بن المبارك كان في غزوة من الغزوات فتلثم وغطى وجهه، ودعا داعي الروم: من يبارز؟ فخرج عبد الله بن المبارك في لثامه، فقتل فارس الروم، ثم قتل الثاني والثالث والرابع، فتعجب الناس من بطولته، فأتى إليه رجل ورفع لثامه فإذا هو عبد الله بن المبارك وما كانوا يظنون أنه عبد الله المبارك، فقال لمن رفع لثامه: وأنت ممن يشنع علينا يا أبا عمرو! وكان محمد بن أعين رفيقاً لـ عبد الله بن المبارك في غزواته كلها، وكان كريماً عليه، قال محمد بن أعين: فذهب ليرني أنه ينام، قال: فوضعت رأسي على رمح، وذهبت أريه أني نائم، فلما ظن أني قد نمت قام فصلى إلى قبل طلوع الفجر، ثم أيقظني عند الفجر، فقلت له: إني لم أنم الليلة، فعرفت الغضب في وجهه، وما زال مجافياً لي إلى الممات. واليوم أصيبت الأمة بالرياء، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخاف عليكم شرك الصغائر، قالوا: وما شرك الصغائر يا رسول الله؟ قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه). قال قتادة: كان يقال: قلما سهر الليل منافق لم يرد الجاه عند الناس، ومدح الناس إياه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بمائتي آية كتب من القانتين المخلصين) صححه الحاكم وافقه الذهبي وتابعه الألباني.

علو الهمة وترك الأماني

علو الهمة وترك الأماني السبب الثالث: علو الهمة وترك الأماني، ومن لا أمنية له من الدعاة تجده على ريٍّ دائماً، وتجده سباقاً إلى الخير دائماً، فإن كان قوياً استسقى لنفسه واستسقى لغيره، وإن كان ضعيفاً وجد وريثاً لموسى يسقي له، ويزاحم عنه الرعاع. سيروا مع الهمم العالية، فلا يزال العبد مقيماً على التواني ما دام مقروناً بوعد الأماني. التواني والكسل والعجز من المصائب التي تصاب بها الأمة، وعلى الطرف الآخر يبعث قيام الليل على علو الهمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (علم ربك -وفي رواية: ضحك ربك- إلى رجل ثار عن لحافه وفراشه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد). وكان هشام الدستوائي إذا أتى إلى فراشه يقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، فراش الجنة خير منك. وكان عبد الله بن ثوب سيد من سادات التابعين، وكان له سوط يعلقه في مصلاه، فإذا فتر عن القيام يضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليك، والله لأزاحمنهم عليها حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً. وهذا الإمام العظيم مسروق بن عبد الرحمن وهو المعروف بـ مسروق بن الأجدع تقول عنه زوجه: ما كان يأتي لصلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام. تقول عنه زوجه: وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام. وجارية خالد الوراق كانت شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة؛ فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل، فقالت: يا خالد! إني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مسلم، ولكن قل لي يا خالد: كيف لي بحسرة السباق؟! فقال: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد! انظر لا يقطعك عن الله قاطع، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون. إن قيام الليل باب التزكية الأعظم، والتزكية وضعت للرسالة المحمدية، وقد أقسم الله عز وجل بأحد عشر قسماً متتالية أن فلاح النفوس معلق على التزكية. والذي يتخرج من مدرسة الليل رقيق، تطيب القلوب وترق من النظر إليه، وقد ذكر شيخنا الألباني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى لرؤيتهم)، فكيف بمن عاشرهم؟! كيف بمن تربى على أيديهم؟ فمجرد الرؤية تجعل الرجل يذكر الله، بل والله مجرد سماع كلام بعضهم، فأينا يقرأ كلام ابن القيم ولا يرق قلبه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم في الأرض قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها). فكم من أناس موتى تحيا القلوب بذكرهم! وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم! إن كانوا وهم موتى يحيي الله بهم الفئات العظيمة من الناس بكلامهم، فكيف برؤية وجوههم ومعاشرتهم؟! وكان محمد بن سيرين يبحث في النهار ويقول: من يدلني على رجل بسام بالنهار بكاء بالليل؟ قالت جاريته: كان إذا آواه الليل فكأنه قتل أهل القرية جميعاً. وكان الناس إذا رأوا وجه محمد بن سيرين سبحوا وعظموا الله من آثار النور الذي على وجهه. وهذا الحافظ عبد الغني المقدسي رفيق الإمام ابن قدامة في العلم وابن خالته، كان إذا خرج من بيته اصطف الناس لرؤية وجهه، وبات معه رجل شمسي -ممن يعبد الشمس- فلما رأى نحيبه طيلة الليل وتهجده زفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره. والذي لا يتخرج من هذه المدرسة تقسو قلوب الناس في النظر إليه، وأدلكم على واقع عملي، هذا سيدنا الشيخ أبو بكر الجزائري أتحدى أي رجل يقول: إنه لا يرق قلبه لرؤية الشيخ الجزائري، ولقد عاشرته شهراً بمصر أقسم بالله ما كان ينام طيلة اليوم والليلة إلا أربع ساعات فقط، وهو شيخ طاعن في السن. فالمتهجدون بالليل من أحسن الناس وجوهاً؛ لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره، وسيماهم في كلامهم مثلما هي في وجوههم. وكلام السلف قليل كثير البركة، وكلام غيرهم كثير قليل البركة، فقد قالوا لـ يوسف بن عبيد: هل رأيت من يعمل بعمل الحسن؟ قال: يا سبحان الله! والله ما رأيت من يتكلم بكلامه حتى أرى من يعمل بعمله! إن الحسن كان إذا تكلم أدمى القلوب، ووعظ غيره لا يبكي العيون. والجهاد يا إخوتاه يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك: في الليل رهبان وعند قتالهم لعدوهم من أشجع الشجعان والذي لا ينتصر على نفسه لا ينتصر على عدوه، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123]، وأعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، والذي لا يستطيع أن يصلي ركعتين لله تهجداً بالليل كيف يستطيع أن يقابل عدوه؟! لا والله لا يستطيع. وهذا سيدنا عباد بن بشر في غزوة ذات الرقاع تناوب هو وعمار بن ياسر الحراسة، وكانت النوبة على عباد بن بشر، فأتى رجل من المشركين فضربه بسهم من الخلف وهو يصلي، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فلما ضربه بالسهم الثالث استيقظ عمار وولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عباداً وقال: يرحمك الله! ما الذي منعك من أول سهم أن توقظني؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. وأسلمت هند زوج أبي سفيان صبيحة الفتح، ولما سألها أبو سفيان قال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي دفعك إلى الإسلام؟ قالت: والله ما رأيت الله عبد قبل هذا اليوم في هذا البيت، لقد رأيت صحابة رسول الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم تبتلاً إلى الله عز وجل، فقيام الصحابة بعد فتح مكة أثر في قلبها. وسيدنا علي يقول: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، وما كان فينا أحد إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تحت شجرة يصلي ويبكي ويدعو إلى الصباح، وبهذا يتنزل النصر. وفي غزوة الأحزاب قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرط لنسائه، ولقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: (من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد الله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي -أربعاً- استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته). وقبول الصلاة قدر زائد على صحة الصلاة، فقد قال الداودي: من قبل الله له حسنة واحدة لم يعذبه، ولهذا قال الحسن: وددت أني أعلم أن الله قبل لي سجدة واحدة، فصلاة الليل مقبولة على الدوام، وهذه البشارة الأولى من رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى الإمام البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل). قال سالم: فما كان عبد الله ينام من الليل إلا قليلاً، وفي رواية: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر من صلاة الليل). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه)، قال الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس). وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات؟! يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة). وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلة، فقال: ألا تصليان؟ قال علي: قلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، قال علي: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مولٍ يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]). يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني والطبري: لولا ما علم النبي صلى الله عليه وسلم من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان ليزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلق

اجتهاد رسول الله في قيام الليل

اجتهاد رسول الله في قيام الليل ثم نأتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن رواحة: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وقال أحمد شوقي: محيي الليالي صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإشفاق منسجم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق). وكان أيضاً إذا قام من الليل افتتح صلاته بهذا الدعاء: (اللهم رب جبرائيل وميكائل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). وجبريل هو ملك الوحي، وهو الروح، وميكائيل: هو ملك القطر، وبه حياة الأرض، وإسرافيل: هو الذي ينفخ في الصور، فيدعو بهذا الدعاء ليعلم أن صلاة الليل حياة للقلب. واعجباً للناس يبكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً). وعن عبد الله بن عمير قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، فقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، ثم قام فتطهر فقام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه للصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]). رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام ثلث الليل قام فقال: (أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) يذكر الناس بالموت وبالقيامة لعلهم يقومون لصلاة الليل، وربما قام الليل كله بآية يرددها إلى الصباح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].

اجتهاد السلف في قيام الليل

اجتهاد السلف في قيام الليل نأخذ نماذج من الصحابة ومن التابعين ومن المجاهدين ومن النساء. أما من الصحابة فقد كان عثمان بن أبي العاص جاراً لـ عمر بن الخطاب، فلما مات عمر تزوج عثمان بإحدى زوجاته، فقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر. أي: أنه تزوج أرملة سيدنا عمر لكي تخبره ماذا كان يفعل سيدنا عمر في الليل! وسيدنا عمر ربما مر بالآية في الليل فيمرض منها حتى يعوده الصحابة شهراً، وحفرت الدموع خطين أسودين في وجهه، فلو أتيت الآن بصنبور ماء وجعلته يقطر على جبينك سنة، فهل سيحفر خط أسود؟ لا؛ لأن الدمع ينزل بحرقة. من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكبادِ وسيدنا عمر بعد توليه الخلافة كان ينعس وهو قاعد، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ألا ترقد؟! ألا تنام؟! قال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله. ولسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا روى الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة بإسناد حسنه الشيخ الألباني: (أن رسول الله طلق السيدة حفصة ذات يوم؛ فنثر عمر التراب على وجهه وعلى رأسه، فقال: ما يفعل الله بـ عمر وابنة عمر، فنزل جبريل وقال: يا رسول الله! إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة). وهل ينبت الخطي إلا وشيجة ويزرع إلا في منابته النخلُ وسيدنا عثمان بن عفان الذي نزل فيه قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9]. انظر إلى هذه الآية فهي طيبة كشأن من أنزلت فيه، لما قتل الثوار المصريون سيدنا عثمان دخلت عليهم نائلة بنت الأحوص بن الفرافصة الكلبية زوجته، وقالت: قتلتموه، وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة. قال الشيخ شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط وغيرهما من المحدثين: إسناده جيد، والعلماء بوبوا باب: من أوتر بركعة واحدة ختم فيها القرآن. وسيسألني أحدكم ويقول: أين أنت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث). قال العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه (لطائف المعارف) هذا إذا كان فعله على الدوام، أما في الأيام التي يرجى فيها الخير، ويستحب فيها كثرة الدعاء فيجوز الختم في أقل من ثلاث، بل ويستحب، وعليه عمل الشافعي وقول أحمد وإسحاق بن راهويه. ويأتي الآن شخص يقول لك: أنا سلفي، وأنا مشغول عن قيام الليل بالأسانيد والمتون والعلل، أقول له: لا، لا تكون سلفياً أبداً، نام عند الإمام أحمد أحد طلاب العلم فوضع أحمد له ماءً، فلما قام الصباح وجد الماء كما هو، فقال الإمام: بئس طالب العلم لا يكون له ورد بالليل! وسيدنا أبو هريرة قسم الليل أثلاثاً هو وزوجه وخادمه، فإذا قام هذا نام هذا، وكانت له في النهار اثنتا عشرة ألف تسبيحة، ويقول: إنما أسبح بقدر ذنوبي! وفي الصحابة كثيرون منهم: معاذ بن جبل وأبو الدرداء وشداد بن أوس وكان عبد الله بن الزبير إذا سجد يأتي حمام المسجد فيحط على ظهره. وهذا تميم الداري يقول أبناء الصحابة: أدركنا تميماً الداري فما قمنا ولا قعدنا إلا وهو في صلاة. وهذا الإمام أحمد كان يحيي الليل هو وغلامه، والإمام الشافعي قسم الليل أثلاثاً، وأبو حنيفة كان يصلي عامة الليل. ويزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد قيل له: ما فعلت العينان الجميلتان يا أبا خالد؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار. وهذا شعبة يبس جلده على عظمه من قيام الليل. وهذا سفيان الثوري يقول عنه عبد الرحمن بن مهدي: ما صاحبت رجلاً من الناس أرق من سفيان الثوري، كنت أرقبه في الليل يقوم فزعاً مرعوباً ويقول: النار النار! ويقول: اللهم إنك تعلم أنه لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، اللهم إن كلاً في حاجته وإن حاجة سفيان أن تغفر له. وهذا نور الدين محمود زنكي وصفه ابن كثير وابن الأثير أنه كان مدمناً على قيام الليل، والناس اليوم يدمنون الآن على (الهيروين) و (الكوكايين) وهذا كان مدمناً على قيام الليل، وكذلك كانت زوجته عصمت الدين بنت الأتابك، فهي كانت زوجة ملك، يقول عنها: هبت ذات ليلة غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها، قالت: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً. وهذه المرأة لما مات عنها نور الدين محمود زنكي تزوجها صلاح الدين الأيوبي. ونور الدين محمود زنكي قال عنه العلامة ابن كثير: إن أحد المسلمين دخل بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة فقالوا: نور الدين محمود زنكي لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، لأنه قتل منهم في موقعة حلب ثلاثين ألف، وكان يعد العدة لفتح بيت المقدس قالوا: نور الدين لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه ليلاً بين يدي مولاه، فلا بد أن ربه ناصره علينا. قال ابن كثير وابن الأثير: فهذه شهادة الكفار فيه. وصلاح الدين الأيوبي يقول عنه ابن شداد: كان يطوف الأمصار وعيناه تذرفان الدموع يقول: يا للإسلام يا لعكا، يا للإسلام فإذا آواه الليل يأتي إلى سجادته وتتقاطر دموعه على جبينه وفي مصلاه، وأسمعه يقول في سجوده: إلهي! قد انقطعت الأسباب الأرضية عن نصرة دينك، وليس لي إلا الإخلاف إلى جلالك، يقول: فوالله ما ينبثق الفجر إلا ومعه خبر النصر على الأعداء الجراحات تستغيث وتشكو ملء سمع الوجود قم يا صلاح وبعد: يا داعية الإسلام! من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد، أين رجال الليل؟ أين ابن أدهم والفضيل؟ ذهب الأبطال وبقي كل بطال، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بألف آية كتب من المقنطرين) والمقنطرون: من لهم قنطار من الأجر، والقنطار من الأجر خير من الدنيا وما فيها، إما أن يكون من المقنطرين، وإما أن يكون من الذين يحملون الطين. أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: عدد آيات جزء تبارك وجزء عم ألف آية. اللهم اكفنا من النوم باليسير، وارزقنا سهراً في طاعتك، وبغض إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا، واكفنا من النوم باليسير، وسهرنا على ما نامت عنه أعين الغافلين، وارزقنا حبك وحب من أحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك. اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نرجو فلا تحرمنا، وببابك نغدو فلا تطردنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين، فاجعلنا من الصالحين. اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم صل على عبدك ونبيك، اللهم وحد صفوفنا على منهاج نبيك، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا، ولا تسئ بنا إخواننا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

عبودية الكائنات

عبودية الكائنات كل الكائنات خاضعة لأمر الله سبحانه، ولها عبوديتها الخاصة لله سبحانه، فكل الدواب والشجر والحجر تسبح بحمد الله وتقدسه، لكن الإنسان لا يفقه ذلك، وقد ورد في السنة والقرآن أمثلة لذلك يعتبر بها أولوا الألباب.

أنواع العبودية لله سبحانه

أنواع العبودية لله سبحانه الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فعليه بلزوم عتبة العبودية. والعبودية لله تبارك وتعالى لا ينفك عنها كائن من الكائنات، ولا مخلوق من المخلوقات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم). هناك عبودية عامة لكل من في السموات ومن في الأرض: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]. هذه العبودية لا ينفك عنها مسلم أو كافر أو نبات أو شجر أو جماد، هذه العبودية هي عبودية القهر، وهي متعلقة بربوبية الله تبارك وتعالى، عبودية القهر والذل لله تبارك وتعالى، وأن أوامر الله تبارك وتعالى ومشيئته في خلقه نافذة، وأن كلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فالكل خاضعون لمشيئته، إذا أراد منهم أن يناموا ناموا، يمشي الدم في جسم الإنسان مثلاً بطريقة معينة لا ينفك عنها، ولا يستطيع حتى الشيوعي أن يقول: إني سأصنع لنفسي دورة دموية خاصة بي، حتى ولو لم يعترف بألوهية الله تبارك وتعالى. فمشيئة الله والنواميس في الكون ينفذها طوعاً أو كرهاً، فهذه عبودية القهر والذل لله تبارك وتعالى، وطاعتهم الابتدائية لله تبارك وتعالى، وهذه العبودية لا تستوجب جنة، بل هي كما يقول العلماء: السجود العام لكل الكائنات، والقنوت العام لكل الكائنات، كما يقول الله تبارك وتعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116]. وهناك قنوت خاص وعبودية خاصة وسجود خاص يترتب عليه دخول الجنة والنار، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31]. فالأول: قنوت عام: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116]. والثاني: قنوت خاص يستوجب دخول الجنة. وقوله: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، هذا سجود خاص، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. كثير من الذين كتبوا في العبودية قالوا: هذه العبودية الخاصة للجن والإنس، واختلفوا في عبودية الملائكة الخاصة، هل هم عبيد لله تبارك وتعالى يعبدونه باختيارهم، أم هم مسخرون؟ وكثير من العلماء يذهب إلى أن الجن والإنس -تنشأ عبودياتهم عن اختيار، أما غيرهم فهي عبودية تسيير وقهر، ولقد أثبت بعض من كتب في هذا: أن للكائنات إدراكاً، وأنها تعبد الله تبارك وتعالى طائعة بما في ذلك الحيوانات والجماد، والجن والملائكة والقلم والجنة والنار، والرياح والشمس والقمر.

عبودية الدواب لله سبحانه وتعالى

عبودية الدواب لله سبحانه وتعالى فلو بدأنا مثلاً بكل ما يدب على الأرض، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38]. قال مجاهد: أي: إلا أصنافاً أمثالكم، يعني: كل ما يدب على الأرض من دابة أصناف مثل أمم البشر. يقول العلماء في ذلك: إن حيوانات البروتوزوا مثلاً (7000 نوع)، والحشرات (720000 نوع)، والثديات (15000 نوع)، والبرمائيات (2000نوع)، والحيوانات الأسفنجية (3000 نوع)، والديدان الأسطوانية (6000 نوع)، والديدان المفلطحة (7000 نوع)، وشوقية الجن (8000 نوع)، والرخويات (80000 نوع)، ومفصلية الأرجل ما بين (400 - 700 - 32000 نوع)، كل هذه أمم تسجد لله تبارك وتعالى، وتسبحه، يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18]، فهذه الآية تنص على سجود الدواب لله تبارك وتعالى. الأمر الثاني: أن هذه الدواب تشفق من طلوع يوم الجمعة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية القيامة) يعني: الدواب تنصت وتستمع إذا بزغ صباح يوم الجمعة خشية طلوع يوم القيامة؛ لأنها تعلم أن العذاب في يوم القيامة، فما من يوم أعظم عند الله تبارك وتعالى من يوم الجمعة، وكل دابة تخاف هذا اليوم عبوديةً منها لله تبارك وتعالى، فهو مالك يوم الدين.

موالاة الدواب للمؤمن

موالاة الدواب للمؤمن أيضاً: الدواب عندها موالاة للمؤمن، وبغض للكافر، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما مرت عليه جنازة: (مستريح أو مستراح منه؟ قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: المستريح العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وتعبها إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، قالوا: وما المستراح منه؟ قال: العبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب). فالدواب تبغض الكفر وأهله، وتحب الخير وأهله، وجنازة الكافر عيد لأهل الأرض؛ لأنه فساد في هذا الكون المسبح، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]. وخذ أمثلة من الدواب بما شئت: البقر، وللأسف من البشر من يعبد البقر، والبقرة تعبد الله تبارك وتعالى، ولكن الناس عبدوها وصفقوا وطبلوا لها وبعدها رجل كبير من زعماء الدول، هذا الرجل يقول: إني أتوجه ومعي ملايين الهنود لعبادة البقرة، يقول: غيرها تحتاج منا إلى تعب وطول خدمة، أما البقرة فلا تحتاج إلا إلى عناية بسيطة. بل أسخف من هذا يقولون: إن هناك معابد في الهند أنفق عليها ملايين المليارات من الجنيهات مختومةً برخام أبيض، ويكفيك عجباً أن تعلم أن الإله الذي تتوجه إليه الآلاف من الهند عبادة هو: الفئران. فالبقرة تعبد الله تبارك وتعالى كما ورد في صحيح الإمام البخاري قال: (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فطردها، فقالت له: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر) هذه بقرة تخبرنا أن الله تبارك وتعالى سخرها لمهمة معينة، فهي معبدة ومذللة لمهمة معينة في هذا الكون. خذ مثلاً: الجمال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:71 - 72]. فما سمعنا أن رجلاً يختلي بسبع أو نمر أو فيل أو أسد في بيته، أما الجمال فقد يصحبها الصبي الصغير، بل قد يصحب قافلة من الجمال؛ لأن الله سخرها، وذللها لبني آدم، وحين يغضب قد يقتل عشرات الرجال، ويفر الناس من أمامه، وهناك حديث صحيح يدل على عبودية هذا الجمل لله تبارك وتعالى، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً لأحد رجالات الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى هذا الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حن إليه وبكى، فذهب إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومسح ذفراه بيده فسكن الجمل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صاحب هذا الجمل؟ فقال فتى من الأنصار: لي يا رسول الله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن هذا الجمل يشكو إلي أنك تجيعه وتدئبه) هذا الجمل يعلم أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من قبل الله تبارك وتعالى، فيبثه شكواه ويذرف الدموع بين يديه. وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في حائط لرجل من بني النجار وفي هذا الحائط حديقة فيها جمل، كلما دخل رجل من الحائط شد عليه، فأشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم فأتى وبرك بين يديه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ائتوني بخطامه، ثم خطمه ثم دفعه إلى صاحبه، ثم نظر إلى الصحابة وقال: إنه ليس من شيء بين الأرض والسماء إلا ويعلم أني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عاصي الإنس والجن). وفي حجة الوداع أتى المصطفى صلى الله عليه وسلم بمائة ناقة لينحرها، فتسابقت النوق بين يديه أيتها ينحر أولها، وكأن الموت بين يديه حياة: أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا المحبوب ذكرك نير تعاودني ذكراك في كل لحظة ويورق فكري حين كنت أفكر تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر نزار قباني يقول لـ عبد الناصر: تضيق قبور الميتين بمن بها وفي كل يوم أنت في القبر تكبر وهذا غير صحيح فيه، وأولى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر نسينا في ودادك كل حي فأنت اليوم أغلى ما لدينا نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلونا

منهج الإسلام في معاملة الحيوان

منهج الإسلام في معاملة الحيوان هذه هي عبودية العجماوات، والعجيب أن الفساق الذين مسخت الفطر منهم يأتون إلى الجمل ويضعون في أنفه (السيجارة) يريدون أن يغيروا هذه الفطرة التي خلقها الله تبارك وتعالى عليها. ومن ذلك الفرس، ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من فرس عربي إلا ويؤذن له عند كل سحر بدعوتين: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وقد أجيبت دعوة الفرس) هذه دعوة مجابة، فالفرس يتوجه بالعبادة إلى الله تبارك وتعالى وبالدعاء، وما سمعنا أن فرساً يعبد فرساً، ولا نملة تعبد نملة، ولكن سمعنا أن أناساً يعبدون أناساً، ويجعلون منهم طواغيت. والفرس يدعو الله بقوله: (اللهم إنك خولتني من خولتني من ابن آدم فاجعلني من أحب ماله وولده إليك). قال الله تعالى في الفرس: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:1 - 5]. بالله عليكم أين سخرت هذه الدعوة أما رفعها الله تبارك وتعالى؟ والنمل كما يقول العلماء: حيوان صغير، يقول فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية فأخرج من تحت الشجرة، ثم أحرق قرية النمل فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح) كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]. كل كنى عن شوقه بلغاته ولربما أبكى الفصيح الأعجم فهل النمل حيوان قاتل، هل النمل يعقل؟ يخلق الله تبارك وتعالى فيه إدراكاً قد يغيب عن بعض البشر. أنت إذا استمعت إلى كتاب في أيامنا هذه فإنها ستختلط عليك الأمور، ويصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً حتى من يصلون معك، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ستأتي على الناس قرون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة؛ قال: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة). فالزنادقة تتكلم في أمر العامة والسفيه يتكلم في أمر العامة، أما النمل فحاله كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليستغفرون لمعلم الخلق). يعني: نملة تسبح لله تبارك وتعالى، وتعلم أن هذا معلم خير فتستغفر له، وأن هذا داعية إلى الضلالة والفسق، فلا تستغفر له، فالنملة وهي في جحرها لتستغفر لمعلم الناس الخير، والحيتان في قاع البحار تقول: اللهم اغفر لعبدك، اللهم اغفر لعبدك، فإنه يدعو إلى قرآنك وإلى كتابك ولا تختلط عليه الأمور، وإن اختلطت على بعض الناس فهو إضرار يجعله الله تبارك وتعالى في خلقه.

تسخير الله الحيوانات لخدمة الناس

تسخير الله الحيوانات لخدمة الناس كذلك الديك يدعو الناس إلى الصلاة، كما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الديك فإنه يدعو للصلاة) فهو لا يدعو إلى اللهو إنما يدعو للصلاة، فالذين يغلقون المساجد ألم يعلموا أن هذا الديك يدعو الناس للصلاة، وفي رواية: (فإنه يوقظ للصلاة). ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله؛ لأنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله؛ لأنها ترى شيطاناً) وهذه من عبودية الديكة وسخره الله لإيقاظ الناس لصلاة الفجر أو للتهجد، تقول السيدة عائشة: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ) وهو الديك. قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أقرب منا كذلك الذئاب تعبد الله تبارك وتعالى كما في الحديث الصحيح: (أن ذئباً عدا على شاة فأخذها فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال: ألا تتقي الله تنتزع مني رزقاً ساقه الله لي؟ فقال الراعي: يا عجبي ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال له الذئب: ألا أخبرك بما هو أعجب من ذلك؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يحدث الناس بأخبار ما قد سبق، فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى وصل إلى المدينة فزواها في زاوية من زواياها ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه ما قص). فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادى: الصلاة جامعة، ثم أمر الراعي أن يقص عليهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق والذي نفسي بيده). في هذا الحديث إشارة إلى أن الذئب يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ويقص على الناس أخبار من قد سبق من الأمم السابقة، ومعنى هذا أن الذئب يعلم أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدرك نوعية الكلام ويخبر به الراعي، ويدرك أن هذه الشاة رزق ساقه الله تبارك وتعالى إليه. نقول للذين لم يرتفعوا إلى مصاف الصالحين: كونوا كهذه الحيوانات التي تعبد الله تبارك تعالى؛ ولذا يقول الله تبارك وتعالى لهؤلاء الضالين: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]؛ لأن الأنعام تدرك وتسبح الله تبارك وتعالى وتسجد له.

عبودية النباتات لله سبحانه

عبودية النباتات لله سبحانه أما عن النباتات فهي أيضاً تسجد لله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]. النجم: هو ضعيف النبات الذي ليس له ساق: يسبحه النبات جمعه وفريده والشجر عتيقه وجديده تمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده كلما ذرف الهزار دهف سكره فالبلبل بالحمد يعيده وكلما قام خطيب الحمام ينوح على منابر الدوح قلد المستهام تغريده {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19]. ويقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18]. فبنص القرآن: الشجر يسجد لله تبارك وتعالى، فالشجر له عبودية خاصة، وهو يشهد للمؤذن يوم القيامة، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤذن يؤذن فيسمعه إنس ولا جن ولا حجر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة). فالشجر يشهد للمؤذنين يوم القيامة. كذلك له عبودية خاصة وهي التلبية، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا). ولكن الشجر لا تنقطع، لكن إذا سمعت الملبي لبت معه.

مواقف الشجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم

مواقف الشجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إن الشجر له مواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله ولاء وبراء للمسلمين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي: (أتشهد أني رسول الله؟ قال: من يشهد على هذا؟ قال: هذه الشجرة، فأشار إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأقبلت تخط الأرض) يعني: تشق الأرض إليه صلى الله عليه وسلم، ثم أشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً أنه رسول الله، فنطقت ثلاثاً أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بينا أنا نائم رأيت فيما يرى النائم أني أقرأ من سورة السجدة، فلما أتت السجدة سجدت، فإذا بشجرة قبالتي تسجد، فسمعت الشجرة تقول في سجودها: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وحط عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، فقرأ صلى الله عليه وسلم السجدة، فلما أتى إلى السجدة سجد، وقال ابن عباس: فسمعته يقول ما قالت الشجرة). فهذه شجرة يتعلم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك لما اعتدى المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وقال لجبرائيل: (أما ترى ما يفعل بي مشركو قريش؟ فقال: ألا أريك آية؟ فأشار إلى شجرة فأتت إليه، ثم جعلها تذهب إلى مكانها مرة ثانية فذهبت، فقال: حسبي).

عبودية الجنة والنار لله سبحانه

عبودية الجنة والنار لله سبحانه وإن الجنة لتشتاق إلى علي وعمار وسلمان؛ لأنهم اشتاقوا إلى الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى، كذلك اشتكت الجنة والنار إلى ربها كما في الحديث، وهذا يدل أيضاً على عبودية الجنة لله تبارك وتعالى، وجاء في الحديث أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما توفاه الله كانت امرأة تقول: هنيئاً لك يا ابن مظعون الجنة! فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (أنا رسول الله، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم). فالجنة تشتاق إلى الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى، أما عبودية النار لله تبارك وتعالى فيقول الله تبارك وتعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8]. وأيضاً مما يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى: قوله تبارك وتعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12].

عبودية العرش لله سبحانه

عبودية العرش لله سبحانه أما عبودية العرش لله تبارك وتعالى فإن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات). والصحابة لما لمسوا مناديل لينة، قال: (أتعجبون من لين هذه؟ والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه). وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما مات: (لقد هبط إلى الأرض سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبل يومنا هذا، كلهم حملوه معكم). وتشترك الملائكة في جنازته وحمله، وهذا من عبودية الملائكة لله تبارك وتعالى وطاعته.

عبودية الجبال لله سبحانه

عبودية الجبال لله سبحانه كذلك الجبال تتصدع من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]. فسجود الجبال لله تبارك وتعالى معلوم بنص القرآن الكريم. وكذلك تشفق الجبال تعظيماً لأمر الله تبارك وتعالى من حمل الأمانة، فإن الله تبارك وتعالى لما عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال أبين أن يحملنها، لا عن معصية، وإنما تعظيماً لشأن هذه الأمانة كما قال ابن عباس قال تعالى: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]. كذلك الجبال بما فيها من حجارة تخاف من يوم الجمعة، وتسبح الله تبارك وتعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] أي: تسبح الجبال معه لله تبارك وتعالى، كذلك تلبي مع الحاج حين يرفع صوته بالتلبية.

ولاء الجبال للمؤمنين وبراءتها من الكافرين

ولاء الجبال للمؤمنين وبراءتها من الكافرين إن الجبال لها ولاء وبراء، ولاء مع المؤمنين وبراء من الكافرين، والمصطفى صلى الله عليه وسلم لما صعد على أحد قال: (هذا جبل يحبنا ونحبه). ولما اهتز جبل أحد قال: (اسكن أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان). هذا يدل على ولاء الجبل للمؤمنين، وبغضه للكفار، والبراءة منهم، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91]. فالجبال تأنف من الكفر وأهله، وتفرح بمرور العبد الصالح عليها، كما قال ابن مسعود: ينادي الجبل الجبل باسمه: هل مر بك ذاكر لله تبارك وتعالى، فإن قال: نعم، قال: أبشر.

عبودية البحر لله سبحانه

عبودية البحر لله سبحانه روى الإمام أحمد في مسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض، يستأذن الله في أن ينفضح عليهم فيكفه الله تبارك وتعالى). وفي رواية: (إنه ما من يوم إلا والبحار تستأذن ربها أن تغرق بلاداً والملائكة أن تعاجله فتهلكه، فيقول لهم الله تبارك وتعالى: دعوا لي عبدي). وفي رواية: (إن كان عبدكم فشأنكم، وإن كان عبدي فمني وإلي). وقد ورد في الحديث أن الرجل قال لأهله: (إذا أنا مت فذروني ثم ألقوا بنصفي في البحر، ونصفي في البر، فأمر الله تبارك وتعالى البحر أن يجمع ما فيه، والبر أن يجمع ما فيه، ثم أحيا الله تبارك وتعالى هذا الرجل، فقال: لم سألت ما سألت؟ قال: من خشيتك وربي، فغفر الله له). المهم: أن المولى تبارك وتعالى يأمر البحر أن يجمع ما فيه، فيجيب طاعةً لله تبارك وتعالى. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] قال ابن عباس: أي: المكفوف يكفه الله تبارك وتعالى أن يغرق بني آدم؛ لأن مياه البحار والمحيطات ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، واليابسة ربع الأرض فقط، ومنسوب البحار أعلى من البر، ولكن الله تبارك وتعالى يكف البحر أن يغرق هذه البقعة من الكرة الأرضية، فقوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] أي: المكفوف عن إغراق بني آدم.

عبودية الشمس والقمر لله سبحانه

عبودية الشمس والقمر لله سبحانه وانظر إلى عبودية الشمس والقمر، يقول الله تبارك وتعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38]. روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون أين تذهب الشمس؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب فتستأذن فتسجد تحت العرش فيأذن لها فتسجد، ثم تستأذن أن تخرج طالعة فيقول: اطلعي وارجعي من حيث أتيت، فتخرج طالعة من المغرب، حتى إذا كان قبل يوم القيامة تستأذن أن تخرج، فيقال لها: اخرجي طالعة من المغرب، فذاك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً).

عبودية السماوات والأرض لله سبحانه وتعالى

عبودية السماوات والأرض لله سبحانه وتعالى إن علماء الفلك يقولون: إن حجم الشمس مثل حجم الأرض مليون وثلاثمائة ألف مرة، وعلماء الفلك يقولون إن في السماء مجرات، وإن مجرة درب التبانة التي تقع فيها الأرض فيها ثلاثون مليار نجم، يعني: ثلاثون ألف مليون نجم، وإن منكب الجوزاء حجمه مثل حجم الشمس مائة مليون مرة، قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]. يقولون: إن أقرب نجم يبعد عن الأرض مسافة أربع سنوات ضوئية، يعني: ثلاثةً وعشرين مليون مليون ميل، وقالوا: إن النجم الذي يسمى سديم المرأة المسلسلة يبعد عن الأرض مليون سنة ضوئية: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:47 - 48]. فالسماوات بما فيها من نجوم وبما فيها من شمس وبما فيها من قمر، تسبح وتسجد لله تبارك وتعالى. لما طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، أشار إلى القمر فانشق حتى صار فلقتين، فلقة وراء الجبل، وفلقة وراء الجبل من الجهة الأخرى، وهذا من عبودية السموات والأرض لله تبارك وتعالى. أيضاً السماوات والأرض تبكي لموت العبد الصالح، يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]. يقول الله تبارك وتعالى للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. والله تبارك وتعالى يقول: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، فهذا تسبيح السموات، وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى وتعظيمها لأمر هذه الأمانة. أما عبودية الأرض لله تبارك وتعالى، فلما ورد في حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ووفى بالراهب المائة: (فقال الله لأرض السوء: أن تباعدي ولأرض الخير: أن تقاربي) فأطاعتا أمره، وهذا من موالاة الأرض وبغضها. وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91]. وذكر أن رجلاً من بني النجار حفظ سورة البقرة وآل عمران، ثم ارتد ولحق باليهود فعجبوا منه وقالوا: هذا كان يقرأ ويكتب لمحمد صلى الله عليه وسلم، فدق الله عنقه فمات، فلما واروه التراب لفظته الأرض، فواروه ثانياً فلفظته الأرض، وواروه ثالثاً فلفظته الأرض، فتركوه منبوذاً، وهذا يدل على عبودية الأرض لله تبارك وتعالى. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) فأطاعت أمره عبودية له سبحانه وتعالى.

عبودية الرياح والسحاب لله سبحانه

عبودية الرياح والسحاب لله سبحانه يقول الله تبارك وتعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]. سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد، فقال: (ملك من الملائكة معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب). ولما سألوه عن الصوت الذي فيه، قال: (هذا صوت ملك بالسحاب)، قال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يمشي في فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق حديقة فلان، قال: فسمع الرجل السحابة فأتت إلى حديقة، فلما توسطتها أفرغت ما فيها من ماء، فرأى رجلاً يحثو بمسحاة فقال: ما اسمك؟ فسماه بالاسم الذي سمعه في السحابة، قال: لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، قال: أما إن قلت ما قلت، فإني كنت أتصدق بثلثها، وآكل أنا وعيالي ثلثها، وأرد الثلث الباقي فيها).

تسبيح الطعام وتسليم الأحجار على رسول الله صلى الله عليه وسلم

تسبيح الطعام وتسليم الأحجار على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن مسعود: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل في الظلام، وسجودها لله تبارك وتعالى معلوم بنص كتاب الله تبارك وتعالى. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن). ويقول علي رضي الله عنه في الحديث الصحيح: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج مكة فما استقبله حجر ولا شجر إلا وقال: السلام عليك يا رسول الله!)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.

عبودية الملائكة لله سبحانه

عبودية الملائكة لله سبحانه يقول ابن عباس رضي الله عنهما: تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في الله، فإن بين السماء السابعة وكرسيه سبعة آلاف سنة نور، والله فوق ذلك. قال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في الأرض السابعة، وعنقه مثنية تحت العرش). ويقول صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش قد مرقت رجلاه في الأرض السابعة، والعرش على قرنه خفقان الطير ما بين منكبيه سبعة آلاف سنة) فلماذا يكفر الإنسان؟ {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17]. ومن أعمال الملائكة أنهم يسبحون الله تبارك وتعالى ويصلون: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). ولقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البيت المعمور: (يصلي إليه كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم). والملائكة يحجون ويصلون، ويسبحون الله تبارك وتعالى، ويخافون الله من فوقهم، ويوالون المؤمنين ويستغفرون لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة، كلما دعا وكل الله به ملكاً يقول: آمين ولك بمثل). وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].

فضائل الشام وبيت المقدس

فضائل الشام وبيت المقدس للشام فضائل كثيرة، ومناقب جمة وفيرة، ذكرها الله في كتابه، وأخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام، فهي الأرض المباركة، وهي أرض الرباط والجهاد، ومقر الطائفة المنصورة، وبها عمود الكتاب والسنة. ويكفيها من الفضائل أن بها بيت المقدس ثاني مسجد عبد فيه الله على وجه الأرض، وللمسجد الأقصى مناقب كثيرة كذلك.

رثاء شهداء الأقصى

رثاء شهداء الأقصى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: شهداؤنا بين المقابر يهمسون: والله إنا قادمون في الأرض ترتفع الأيادي تنبت الأصوات في صمت السكون تتساقط الأحجار يرتفع الغبار تضيء كالشمس العيون والله إنا راجعون شهداؤنا خرجوا من الأكفان فانطلقوا صفوفاً ثم راحوا يهتفون عار عليكم أيها المستسلمون وطن يباع وأمة تجتاح قطعاناً وأنتم نائمون شهداؤنا فوق المنابر يخطبون قاموا إلى نابلس فصلوا في مساجدها وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون شهداؤنا في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون في كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون: الله أكبر منك يا زمن الجنون! شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار نابلس الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون رغم انتشار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والدمامة والمجون والله إنا عائدون أكفاننا ستضيء يوماً في رحاب القدس سوف تعود تقتحم المعاقل والحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون. يا أيها المتنصرون! كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطن بعرض الكون يعرض في المزاد وطغمة الجرذان في الوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يسكرون من أجهض الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون يا أيها المتشرذمون! سنخلص الموتى من الأحياء من سفه الزمان العابث المجنون والله إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون: يا أيها الأحياء ماذا تفعلون؟! في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وأمام أمريكا تقام صلاتكم فتسبحون وتطوف أعينكم على الدولار فوق ربوعه الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات جرذان تصافح بعضها والناس من ألم الفجيعة يضحكون في صورتين تباع أوطان وتسقط أمة ورءوسكم تحت النعال وتركعون في صورتين تسلم القدس العريقة للذئاب ويسكر المتآمرون شهداؤنا في كل شبر يصرخون: القدس تسبح في الدماء وفوقها الطاغوت يهدر في جنون القدس تسألكم: أليس لعرضها حق عليكم؟ أين فر الراقدون؟! وأين غاب البائعون؟! وأين راح الهاربون الصامتون الغافلون الكاذبون؟! صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون. وإذا سألت سمعتهم يتصايحون. هذا الزمان زمانهم -أي: من يقدر على أمريكا؟ - في كل شيء في الورى يتحكمون. لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون. تجرون خلف الموت والنخاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون كهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون في نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت ونامت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون متى يفيق النائمون؟

فضائل بلاد الشام في القرآن

فضائل بلاد الشام في القرآن بيت المقدس كنز الله من أرضه، وفيه كنزه من عباده، والبركة في بيت المقدس وبلاد الشام ثبتت بآيات من كتاب الله عز وجل، فحين نقول: إقليم الشام، فإنا نعني به الإقليم الذي كان إقليماً موحداً في ظل دولة الخلافة العثمانية حتى اتفاقية سايكس بيكو، فجاء الإنجليز والفرنسيون وقسموا ذلك الإقليم إلى أربع دويلات هي: سورية ولبنان والأردن وفلسطين، فعندما يقال في الشرع: الشام، فإن المقصود بها: سورية ولبنان والأردن وفلسطين. ولهذه البقاع مكانة في كتاب الله عز وجل وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيها سيكون تمام دولة الإسلام وملكه في آخر الزمان، وهي حرز المؤمنين عند وقوع الفتن، وإليها يهاجر خيار أولياء الله. تعالوا معي في رحلة لفضائل الشام وبيت المقدس. قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: معلوم أن إبراهيم إنما نجاه الله ولوطاً إلى أرض الشام من أرض الجزيرة والعراق. وقال ابن جرير الطبري: لا خلاف بين أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام. فهذه الآية تثبت البركة لبلاد الشام وفلسطين. وقال الله تبارك وتعالى عن موسى ومن معه بعد أن نجاه من فرعون: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]. قال الحسن: هي الشام. وقال قتادة: هي أرض الشام. وقال ابن تيمية: معلوم أن بني إسرائيل إنما أورثوا مشارق أرض الشام ومغاربها بعد أن أغرق فرعون في اليم. وقال الله تبارك وتعالى على لسان موسى لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، والأرض المقدسة أي المطهرة. قال قتادة: هي أرض الشام. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي أرض الشام. ومملكة سليمان بارك الله تبارك وتعالى فيها وكانت في بيت المقدس، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، قال ابن زيد: هي بلاد الشام. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما كانت تجري إلى أرض الشام التي فيها مملكة سليمان وبالذات في بيت المقدس. وقال تعالى في قصة سبأ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18]، قال مجاهد: القرى التي بارك الله فيها هي الشام. وقال قتادة: هي أرض الشام. وقال ابن عباس: هي الأرض المقدسة. وقال الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، فأيضاً بارك الله حول بيت المقدس. قد يفت في عضد الناس أن إسرائيل معها قنابل وصواريخ وتستطيع أن تدك المسجد الأقصى في لحظة، فيسقط في أيدي الناس ويخلدون إلى اليأس وإلى النوم العميق. نقول لهم: إن هذه الأرض مباركة، ومكان المسجد نفسه مبارك، فالمسجد الأقصى ثاني مسجد بني على وجه الأرض، فبينه وبين بناء الكعبة أربعون عاماً كما سنبين. واختلف العلماء فيمن بناه أولاً هل هو آدم أم إبراهيم أم إسرائيل؟ ثم جدد بناءه سيدنا سليمان، وحينما دخله النبي صلى الله عليه وسلم كان عبارة عن أطلال وبقايا سور تحيط بالمسجد، فحتى لو أن الإسرائيليين هدموا المسجد الأقصى فإنه يبنى مرة ثانية، فقد جدد بناءه عبد الملك بن مروان، وجدد بناءه أبو جعفر المنصور، وجدد بناءه خلفاء عباسيون وزادوا فيه. العبرة هي أن الأرض التي أقيم عليها المسجد أرض مباركة فلا يفت في عضد الناس، بل هيكل اليهود نسف مرتين ودمر تدميراً كاملاً ولم يبق فيه أثر لطوبة واحدة، وبرغم ذلك يقولون: الهيكل. والمسلمون يقولون: إسرائيل هدت الجامع إذاً نحن لا نستطيع أن نعمل شيئاً، وسنبقى قاعدين!! فهذه القشة إنما تقصم ظهر المتغافل. قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} [سبأ:18] أي: بين مملكة سبأ. {وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18] التي هي بلاد الشام. {قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس:93]، قال الضحاك: هي بلاد الشام. وقال قتادة: هي الشام وبيت المقدس. {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس:93] يعني هذه الأرض أرض صدق أقسم الله تعالى بها. تكلم الله عن الربوة فقال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] هي بيت المقدس. وأقسم الله عز وجل بمنابت التين والزيتون فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3] ومنابت التين في بلاد الشام، ومنابت الزيتون في الجبل الذي عليه بيت المقدس. وأرض الشام وفلسطين هي أرض المحشر، قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41]. قال ابن جرير الطبري: واستمع يا محمد -صلى الله عليه وسلم- صيحة القيامة يوم ينادي بها منادينا من موضع قريب، وكأنه ينادي بها من صخرة بيت المقدس، وهذا قول قتادة وكعب قال: ملك قائم على صخرة بيت المقدس. والسور الذي يضربه الله جل وعلا بين المنافقين والمؤمنين في عرصات القيامة هو السور الشرقي لبيت المقدس، الذي يطل باطنه على المسجد الأقصى ويطل على وادٍ يسمى وادي جهنم، وهذا الوادي في القدس، قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. قال عبد الله بن عمرو بن العاص عن هذا السور: هو السور الشرقي باطنه المسجد وظاهره وادي جهنم. فهذه آيات تكلمت عن بركة وطهارة وقدسية هذه الأراضي.

فضائل بلاد الشام على لسان الرسول المصطفى

فضائل بلاد الشام على لسان الرسول المصطفى

بسط الملائكة أجنحتها على الشام

بسط الملائكة أجنحتها على الشام أما الفضائل التي ثبتت لبلاد الشام ولبيت المقدس بالسنة فعظيمة، وكل فضيلة ثبتت لبلاد الشام فهي أيضاً ثابتة لبيت المقدس؛ لأنه جزء من بلاد الشام. أولاً: بسط الملائكة أجنحتها على الشام. فعن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، يا طوبى للشام! قالوا: يا رسول الله! وبم ذاك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام). وطوبى تأنيث أطيب، وهو دعاء بطيب العيش والراحة والسعة، قال عز الدين بن عبد السلام: أشار صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى وكل الملائكة بالشام يحرسونها ويحفظونها.

الشام صفوة بلاد الله

الشام صفوة بلاد الله الفضيلة الثانية لبلاد الشام: أنها صفوة بلاد الله من أرضه يُسكنها عز وجل خيرته من خلقه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالشام، فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من خلقه، فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهله). (فمن أبى) أي: من أبى السكنى بالشام. (وليسق من غدره) الغدر جمع غدير، والغدير هو الجزء من الماء الذي يتركه السيل بعد انصرافه من الأرض، وهذا معروف في بلاد الشام كثيراً، يعني: لا يتنازع الناس على الماء وليشرب كل من غديره الخاص به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن حوالة: (عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فإما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله). وجاء في حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشام صفوة الله من أرضه، وفيها صفوته من عباده).

تكفل الله بأهل الشام

تكفل الله بأهل الشام المنقبة الثالثة لأهل الشام ومنها أهل فلسطين: أن الله تكفل بأهل الشام: قال سيدنا عبد الله بن حوالة الصحابي الجليل، وسيدنا سعيد بن عبد العزيز إمام أهل الشام: من تكفل الله به فلا ضيعة عليه. فقد يقول لك قائل: كيف يكون قوله: (فلا ضيعة عليه) وهاهي إسرائيل تدك الأرض دكاً؟! والجواب لمثل هذا: لا تأخذ حقبة معينة من الزمن أو مدة قصيرة من الزمن وتنظر إليها على أنها تاريخ الأمم، وإلا فبالله عليك ماذا تساوي إسرائيل بجانب التتر؟ وماذا تساوي إسرائيل بجانب الحملات الصليبية التي اشتركت فيها كل جيوش الغرب؟ وكلها تحطمت على صخرة بيت المقدس. سيدنا شيخ الإسلام ابن تيمية كان يعلم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد الشام، فلما جاءت معركة مرج الصفر التي شارك فيها بنفسه أمام جيوش المغول والتتر أشار على السلطان محمد بن قلاوون أن يخرج بالجيش المصري لتكون المعركة على أرض الشام، لكي لا يلتقوا بجيش التتر في مصر، وإنما يخرجون من مصر ويجتمعون مع الجيش الشامي، فاجتمعوا وكانت المعركة على أرض الشام في معركة مرج الصفر وكان فيها انتصار عظيم للمسلمين. وعندما دُمِّر جيش الخلافة وقتل الخليفة واجتاحت جيوش التتر دولة الخلافة تصدى للتتر الجيش المصري المسلم، فخرج قطز من مصر إلى بلاد الشام لتكون المعركة على أرض الشام وهي معركة عين جالوت، وكان بطلها الجيش المصري ومعه الشامي ولكن المعركة كانت في بلاد الشام. وكذلك معركة حطين، فعندما جاءت الحملات الصليبية التي قتلت من المسلمين سبعين ألف مسلم يوم أخذوا بيت المقدس، وقد قتلوهم في سبعة أيام أو في ثلاثة أيام حتى غاص القائد الصليبي -الذي أخذ بيت المقدس- في جثث المسلمين وفي دمائهم إلى ركبتيه. ثم أتى صلاح الدين ليدمر جيوش الصليبيين في معركة حطين الفاصلة، التي كانت نهاية الوجود الرومي كله، وكانت في بلاد الشام. وقد قال هرقل: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يراك بعد هذا أبداً، وذلك حين خرج من الشام وكانت تصفية الإمبراطورية الرومية من أرض الشام. وهذا لا يعني أن إسرائيل قوة صغيرة. ومما يذكر أنه في السبعينات هبطت طائرة شراعية فيها سوري وتونسي وفلسطينيان، وفتحوا رشاشاتهم على قاعدة عسكرية من قواعد الجيش الإسرائيلي فقتلوا العشرات بل بالمئات ثم قتلوا، فوقف قائد الكتيبة الإسرائيلي وعظم هؤلاء الأبطال؛ وأدى لهم التحية العسكرية بعد موتهم اعترافاً ببطولتهم. فالإنسان لا ينظر إلى وقت الضيق، ولكن نقول: إن العاقبة للمتقين، بل انظر إلى رجل مبتدع دوخ إسرائيل، فما ظنك لو جاء رجل من أهل السنة والجماعة. فهذا خميني العرب حسن نصر الله، مع أنه مبتدع ويتكلم على الصحابة وعلى السيدة عائشة، وكذلك حزب الله، ولكن على الرغم من ابتداعهم فقد أدبوا إسرائيل، فما ظنك إذاً بالملتزمين من أهل السنة؟

عمود الكتاب والإسلام سيكون بالشام

عمود الكتاب والإسلام سيكون بالشام وعمود الكتاب والإسلام سيكون بالشام: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن حوالة: (رأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة. فقلت: ماذا تحملون؟ فقالوا: عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام، وبينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب اختلس من تحت رأسي فظننت أن الله تخلى عن أهل الأرض فأتبعته بصري وإذا هو نور ساطع بين يدي حتى وضع بالشام، فقال ابن حوالة: يا رسول الله! خر لي. قال: عليك بالشام). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء: (بينا أنا قائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) وعمود الكتاب -كما قال عز الدين بن عبد السلام - هو الإيمان.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للشام بالبركة

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للشام بالبركة والنبي صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة للشام، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل على القوم فقال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في حرمنا، وبارك لنا في شامنا. فقال رجل من أهل العراق: وفي العراق؟ فسكت ثم عاد قال الرجل: وفي عراقنا. فسكت ثم قال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم اجعل مع البركة بركة، والذي نفسي بيده! ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا عليها). وفي حديث آخر أن النبي قال: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل والفتن، وهناك يطلع قرن الشيطان)، وفي رواية: (وفيها تسعة أعشار الشر). والصوفية قالوا: إن المقصود الشر الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الوهاب، إذاً محمد بن عبد الوهاب شيطان الأمة! وقد فهم الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام الخطابي أن المقصود بقوله: (وفي نجدنا) ما نجد من الأرض، أي: ما ارتفع من الأرض، وهي أرض العراق، ولو لم يكن في العراق إلا صدام لكفى، فقد كان سبباً في موت مليون ونصف طفل، وهو ممن تبنوا دعوى العنترية الجاهلية القومية العربية، ومؤسس حزب البعث، وقد دك المسلمين من الأكراد بالنووي وبالصواريخ ودمّر قراهم تدميراً كاملاً، وهو تلميذ نجيب لـ ميشيل عفلق. والقومية العربية كانت سبباً في كل الهزايم والدمار، وسبباً في التصاق الناس بالأرض وبعدهم عن السماء، وارتباطهم بالوحي انتهى، وأصبح ارتباطهم بالتعاليم الكاذبة؛ تعاليم الأرض المخالفة لتعاليم السماء، ثم بعد ذلك تكون النهاية المؤسفة، فما انتصر الناس في معركة إلا بالإسلام.

الشام ميزان لصلاح الناس

الشام ميزان لصلاح الناس من مناقب الشام: أنها ميزان لصلاح الناس، وميزان للصلاح والفساد في أمة الإسلام: فهي ميزان القسط لأمة الإسلام، وهذا بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيك). وقال: (لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة). ويوصي النبي صلى الله عليه وسلم بسكنى بلاد الشام ويفضلها على اليمن وعلى غيرها في آخر الزمان فهذا دليل على أفضليتها.

أرض الشام أرض رباط وثغر جهاد

أرض الشام أرض رباط وثغر جهاد وأرض الشام أرض رباط وثغر وجهاد إلى يوم القيامة كما قال بذلك عز الدين بن عبد السلام، وكما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه قال: (كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله! أهان الناس الخيل، أهان الناس الخيل وامتهنوها وقالوا: لا جهاد) ولنا هنا وقفة، فقد أقسم الله عز وجل بخيل الحرب فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:1 - 3] فهل خيلنا خيل حرب؟! والله ما هي بالعاديات ضبحاً، ولا هي بالموريات قدحاً، ولا هي بالمغيرات صبحاً، بل هي خيل لعب ولهو ودنيا. بعد أن كان يركب عليها أبو سليمان خالد بن الوليد، لصباحه المجد ولذكراه السلام، وكان يركب عليها صلاح الدين، فمن الذي يركب عليها الآن؟! هذا الفرق بيننا وبينهم. ألا يا صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ حصانك في سينا يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكرُ وتأبى جراحي أن تضم كفاها كأن جراح الحب لا تتخثرُ تأخرت يا أغلى الرجال فليلنا طويل وأضواء القناديل تسهرُ حصانك في سيناء يشرب دمعه وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبرُ ويبكيك سفساط الشام ودورها ويبكيك ظهر الغوطتين وتدمرُ نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصَّرُ وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يُثمرُ وأصرخ يا أرض المروءات فاحبلي لعل صلاحاً ثانياً سوف يظهرُ جاء في الحديث: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: كذبوا؛ الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحى إلي أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني؛ ألا فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين بالشام) وهذا هو الشاهد. فيكذِّب النبي صلى الله عليه وسلم من يقول إن الحرب قد وضعت أوزارها، ثم قال: (عقر دار المؤمنين بالشام) يعني: موطن أصل الإيمان سيكون بالشام عند نزول الفتن.

خيار أهل الأرض ألزمهم للشام

خيار أهل الأرض ألزمهم للشام ومن فضائل أهل الشام: أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ومهاجر إبراهيم هي بلاد الشام وخاصة فلسطين. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم). ألزمهم: يعني من يلتزمون المكان ولا يرحلون عنه، فهم لا يجلسون فيه فترة ويتركونه وإنما يقيمون فيه إقامة دائمة. قال: (ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الله وتحشرهم النار مع القردة والخنازير). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن رسولنا صلى الله عليه وسلم جعل مهاجر إبراهيم يعدل مهاجره صلى الله عليه وسلم، وقد انقطعت الهجرة إلى مهاجره صلى الله عليه وسلم بفتح مكة ولا تبقى إلا الهجرة إلى بلاد الشام.

الطائفة المنصورة في بلاد الشام

الطائفة المنصورة في بلاد الشام وفي بلاد الشام الطائفة المنصورة: فعن عمير بن هانئ رضي الله عنه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما على هذا المنبر يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس). قال مالك بن يخامر السكسكي: يا أمير المؤمنين! سمعت معاذ بن جبل يقول: هم بالشام. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة). قال الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية: أهل الغرب هم أهل الشام، فهم غرب المدينة المنورة، فلقد كان أهل المدينة يطلقون على الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام: إمام أهل المغرب، فالمشرق والمغرب شيء نسبي، كل مدينة لها شرق وغرب، فالشام مغرب بالنسبة للمدينة. وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الطائفة المنصورة هنا بأنها طائفة مقاتلة تقوم بأمر الله وحددها في بلاد الشام، والإمام أحمد بن حنبل وشيخه يزيد بن هارون وعلي بن المديني قرينه في طلب العلم، والإمام البخاري قالوا: الطائفة المنصورة هم أهل الحديث. فكيف توفق بين القولين؟ قال الإمام النووي: إن الطائفة المنصورة مفرقة بين أنواع المؤمنين، فمنهم شجعان مقاتلون، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، ومنهم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، والطائفة باعتبار زمانها، ففي أيام الإمام أحمد بن حنبل كان حفاظ الحديث والمحدثون هم الذين ينافحون عن الإسلام ويدافعون عنه أمام فلسفة اليونان وعلم الكلام، فهم الذين تصدوا للفلسفة اليونانية وحفظوا دين الأمة، ورفعوا النقل فوق العقل، ولولا صمود الإمام أحمد في محنة خلق القرآن لضاع الإسلام كما قال ذلك علي بن المديني، ففي وقت من الأوقات كان حفاظ الحديث هم الدرع الواقي للإسلام، وقد ينخفض صوتهم في زمان وتظل البركة فيهم، ولكن يقوم بأمر الله طائفة أخرى من الأمة وهم المقاتلون الذين يذودون عن الإسلام وعن حمى الإسلام، فهم طائفة مفرقة بين أنواع الطوائف الإسلامية من أهل السنة.

كثرة الشهداء ببلاد الشام

كثرة الشهداء ببلاد الشام ومن فضائل بلاد الشام: كثرة شهداء بلاد الشام وأرض فلسطين، ونوع من شهدائهم أفضل الشهداء عند الله بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأرسلت الحمى إلى المدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام). فأكثر المناطق في الأمة تعرضاً للطاعون بلاد الشام، وأكثر المناطق تعرضاً للحمى هم أهل المدينة. قال: (الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجس على الكافرين). وطاعون عمواس مات فيه الآلاف، ومنهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة، وأعلم الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل. ومات فيه شرحبيل بن حسنة، وعبد الرحمن بن معاذ بن جبل، دخل عليه والده معاذ بن جبل قبل الموت، فقال: يا عبد الرحمن! كيف تجدك؟ قال: يا أبت {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60]، ثم أصيب معاذ في إبهامه فجعل يقبله ويقول: إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، فلما جاءه الموت قال: اخنق خنقك، فوعزتك إنني أحبك، حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار ولا لكري الأنهار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. أما كون أفضل الشهداء هم من أهل الشام فهذا في آخر الزمان وفي يوم الملحمة وفي أكبر معركة بين النصارى والمسلمين في الغوطة، وأرض الغوطة قريبة من دمشق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليه جيش من المدينة -والمدينة هنا هي دمشق بنص الأحاديث التي سنذكرها- من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم -أي النصارى الذين هم بنو الأصفر- خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتتحون القسطنطينية). والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث آخر: (والله! إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم ولون خيولهم). والقسطنطينية تفتح مرتين، والتي هي أسطنبول، مرة على يد محمد الفاتح الذي فتحها وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وكان شيخه الشيخ آغا شمس الدين يغدو به وهو لا زال صغيراً حتى يشرف به على البحر ويقول: أتنظر هذه المدينة يا بني؟ هذه مدينة القسطنطينية سيفتحها أمير مسلم هو خير الأمراء، ويفتحها جيش من خير الجيوش عند الله، ثم يخرج به مرة ثانية بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام كذلك، فكبر الطفل ومعه الأمل أنه ربما يكون هو الفاتح. وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وإذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص والفتح الثاني سيكون آخر الزمان بعد يوم الملحمة الكبرى التي ينتصر فيها المسلمون على الجمع الكبير من النصارى، وهم أربعون لواء تحت كل لواء اثنا عشر ألف مقاتل يهزمهم المسلمون. وما قاله نبينا على العين والرأس نصدق به ونوقن به، فممكن أن تكون حرب آخر الزمان بالسيوف، ولا تتعجب فإن أكبر علماء الجيولوجيا في الغرب يقولون: إن نجوماً كبيرة تنفجر في الجو بما يسمى موت النجوم، وإذا التصق نجم منها بالأرض وانفجر فسينهي كل ما على الأرض من أدوات إلكترونية.

في الشام شجر يشبه شجرة طوبى في الجنة

في الشام شجر يشبه شجرة طوبى في الجنة ومن فضائل الشام: أن بها شجر الجوز يشبه شجرة طوبى في الجنة: ففي حديث عتبة بن عبد السلمي حديث الأعرابي الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (في الجنة فاكهة؟ قال: نعم، وبها شجرة تدعى شجرة طوبى وهي شجرة تطابق الفردوس. قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليس شبه شيء من شجر أرضك، ولكن أتيت بلاد الشام؟ قال: لا. قال: إن فيها شجرة تسمى الجوزة تنبت على ساق واحدة ثم تتفرع ثم تنتشر ثم ينتشر أعلاها) فهذه الشجرة تشبه شجرة طوبى بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

الشام آخر ديار الإسلام خرابا

الشام آخر ديار الإسلام خراباً ومن فضائلها: أنها آخر الديار الإسلامية خراباً: كما روى سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خراب بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية) يعني: وبعد فتح القسطنطينية خروج الدجال، آيات يتلو بعضها البعض، والشام كما قلنا أرض المحشر والمنشر.

بشرى المولد النبوي كانت من الشام

بشرى المولد النبوي كانت من الشام وهناك شيء جميل من فضائل الشام متعلق بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (قلت: يا نبي الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي نوراً أضاءت منه قصور الشام)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني في كتابه صحيح السيرة، والمقصود بقصور الشام أي: التي ببصرى، قال العلامة ابن كثير: وهذه بشرى طيبة ومكانة عظيمة لأهل محلتنا بصرى. ولذلك كانت أول مدينة من بلاد الشام حررت من قبضة الروم صلحاً، وأول فتح للمسلمين في بلاد الشام كانت مدينة بصرى.

فضائل بيت المقدس

فضائل بيت المقدس

وجود المسجد الأقصى ببيت المقدس

وجود المسجد الأقصى ببيت المقدس ثم بعد ذلك خص الله عز وجل بيت المقدس بفضائل منها أن بها المسجد الأقصى. فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع على الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد). قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إن أول من بنى الكعبة هو آدم عليه السلام، ثم بناه بنوه من بعده. وقول ثان: إن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى المسجد الحرام ثم ارتحل بعد بناء المسجد الحرام إلى الشام موطنه ومهاجره فبنى بها المسجد الأقصى، فإبراهيم خليل الرحمن هو باني المسجدين. والقول الثالث: إن إبراهيم بنى الكعبة ثم بنى من بعده حفيده يعقوب المسجد الأقصى، والذي جدد البناء بعد ذلك هو سليمان بن داود عليه السلام.

بيت المقدس مهاجر بعض الأنبياء وموطن موتهم

بيت المقدس مهاجر بعض الأنبياء وموطن موتهم ومن الفضائل: أنها أرض هاجر إليها إبراهيم ولوط، فمات إبراهيم بمدينة الخليل، فهي أرض يموت فيها خليل الرحمن إذاً هي أرض مباركة، ثم بعد ذلك تطؤها أقدام أنجاس الأرض من اليهود الملاعين. وموسى عليه السلام يسأل ربه عند الموت أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه وقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه وقل يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده من الثور بكل شعرة سنة، قال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة -من فلسطين- رمية بحجر، ولكنه مات بالأردن عليه السلام، قال: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر). فسيدنا موسى خرج ببني إسرائيل لفتح بيت المقدس ولكن لم يجعل الله تبارك وتعالى الفتح على يديه، فلما جاءه الموت تمنى من ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة فمات قريباً منها.

حبس الشمس ليوشع بن نون حتى يفتح بيت المقدس

حبس الشمس ليوشع بن نون حتى يفتح بيت المقدس ومن الفضائل: أن يوشع بن نون فتى موسى الذي قال الله فيه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60] حبست له الشمس حتى يفتحها. وهو نبي عظيم من بني إسرائيل صلى الله عليه وسلم، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حبست الشمس على بشر قط إلا على يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس) أي: أن ربنا حبس له الشمس حتى يتم فتح بيت المقدس؛ لأنه دخل بيت المقدس لأجل أن يفتحه وكان عصر يوم الجمعة، وقد قاربت الشمس على المغيب، فقال: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا. فحبسها وأوقف الشمس لهذه المدينة المباركة حتى أتم يوشع بن نون فتحها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها) أي: أنه عقد على واحدة ولم يدخل بها، (ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينظر ولادها، فدنا من القرية صلاة العصر -أو قريباً من ذلك- فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه). فهذه من فضائل القدس التي حبس الله من أجلها الشمس. حدائي حزين ترى هل سئمتم حدائي الحزين وماذا سأفعل قلبي حزين؟ زماني حزين تقاطيع وجهي وجدران بيتي حزين حزين حزين حزين فجدران بيتي دمار وريح وبين الجوانح قلب جريح فحيح الأفاعي يحاصر بيتي ويعبث في الصمت صوت كريه. متى راح عهد قبيح السمات. رأينا له كل يوم شبيه حزين الدار يا صاح. جراحاتي تغذيني. ودوماً تنزف القدسُ تعاتبنا وتسألنا ويصرخ خلفنا الأمسُ وما يضنيك يا قدساه يا أختاه يضنيني وما يبكيك يبكيني لأنك عشت في دمنا فهذا الجرح في عينيك شيء لا تداريه وجرحي آه من جرحي قضيت العمر يؤلمني وأخفيه وما يضنيك يا قدساه يا أختاه يضنيني وما يبكيك يبكيني لأنك عشت في دمنا فلن ننساك رغم البعد كنت أنيس وحدتنا ونهراً من ظلال الغيب يروينا يطهرنا وقد ننسى أمانينا وقد ننسى محبينا وقد ننسى طلوع الشمس من غدنا وقد ننسى غروب الحلم من يدنا ولن ننسى مآذننا ستجمعنا دماء قد سكبناها وأيام أضعناها ويجمعنا ويجمعنا ولن ننساك لن ننساك يا قدس!!

بيت المقدس ديار الأنبياء

بيت المقدس ديار الأنبياء ومن فضائل بيت المقدس أنها ديار يعقوب عليه السلام، فإسرائيل هو الذي بنى المسجد الأقصى، على أحد أقوال أهل العلم. بينما الملاعين من يهود يقولون: إن روابيل بن إسرائيل زنا بامرأة أبيه، وإن يعقوب علم بذلك وسكت، فهذا النبي العظيم أبو يوسف جعلتموه ديوثاً، النبي الكريم بن الكريم جعلتموه قواداً؟ بل قالوا: إن يعقوب سرق مواشي حميهم، وهذا كله كذب وافتراء على أنبياء الله. ومن الفضائل: أنه كان بالقدس محراب داود عليه السلام قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (كان داود أعبد البشر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه ثم ينام سدسه). ولم يسلم داود عليه السلام من اليهود فقد قالوا عنه: إنه عندما كبر داود وشاخ أتوا إليه بفتيات صغيرات يدفئنه، وقالوا: إن ابن داود زنا بأخته. وقالوا: إن لوط سقتاه ابنتاه الخمر فلما سكر ضاجعهما وحملتا منه. فهم قتلة الأنبياء، والسفاكون، فالحرب بيننا وبينهم ليست لأجل قطعة أرض فقط، بل هي حرب دينية فقد سموا نبينا وقتلوا أنبياء الله عز وجل، وقالوا في مريم ما قالوا، وهم قتلة يحيى وزكريا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل ربه خلالاً ثلاثاً: سأل الله حكماً يصادف حكمه -أي يوافق حكم الله عز وجل- فأعطيه، وسأل الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطيه، وسأل الله حين فرغ من بناء البيت ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه، أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) فمن خرج من بيته يريد الصلاة ببيت المقدس غفر الله له كل ذنوبه ما تقدم من ذنوبه. فكيف تترك هذه الأرض لليهود؟ أفلا يشتاق كل منا إلى غفران ذنبه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي سنتلوه: (وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض بحيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا وما فيها).

محراب مريم في بيت المقدس

محراب مريم في بيت المقدس ومن فضائل هذه الأرض: أن فيها محراب مريم التي تولت خدمة بيت المقدس: قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران:37] أي: في المسجد الأقصى، {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، والمقصود بالمحراب: محراب المسجد الأقصى، وهو محراب زكريا عليه السلام. ففي المسجد الأقصى سالت دموع زكريا وانطلقت دعواته خاشعة تبلل أجواء المسجد، فسأل ربه أن يهبه غلاماً يرث به ميراث يعقوب من النبوة فقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:6] فأعطى الله عز وجل لزكريا ما تمنى في بيت المقدس. فكان الميلاد الفذ ليحيى، فيعطاه والده وقد كبر وطعن في السن وشاخ، وأمه كانت عاقراً، لكن يعطيه الله تبارك وتعالى جزاء التبتل والطاعة والرغبة والرهبة والخشوع لله تبارك وتعالى. ويسميه الله جل وعلا يحيى وما سمى قبله أحداً، فهذا الاسم الفريد الذي ما تسمى به أحد سمي الله عز وجل ابن زكريا به، وجعله الله سيداً وحصوراً ونبياً من أنبياء بني إسرائيل، فذبحوه من أجل راقصة تسمى سالومي كانت عشيقة للملك هي وأمها، وأراد الملك أن يتزوج من بعض محارمه فوقف له نبي الله يحيى، وكانت عشيقة الملك تريد شيئاً من الفجور مع يحيى فأبى عليها وهو السيد الحصور، فتمنت أن تكيد ليحيى فقالت لابنتها: إذا قال لك الملك في ساعة صفاء ما تريدين فقولي له: أريد رأس يحيى. ففعلت، فدعا بقاتلين من بني إسرائيل فذهبا وذبحا نبي الله يحيى، ثم أتت البنت برأس يحيى إلى أمها، ثم أتت إلى أمها فغاصت في الأرض إلى كعبيها، ثم إلى ركبتيها، ثم إلى حقويها، فنادت أمها السياف فقالت: جز رأس بنتي، فقد خافت عليها أن تغوص في الأرض بشكل كامل كما جزت رأس يحيى جُزَّ رأسها أمام أمها، بل وبأمر أمها. ثم بعد ذلك كان الميلاد الفذ لسيدنا عيسى عليه السلام وقد كان بأرض فلسطين؛ لكن اليهود قالوا في مريم ما قالوا: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156]. ثم أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وكان الإسراء بالروح والجسد، فقد رأى المسجد الأقصى رؤيا عين وليست رؤيا منامية. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثلها قط، قال: فرفعه الله إلي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني: نفسه- فحانت الصلاة فآذنتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام). وقد أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالنبيين سيدنا حذيفة بن اليمان ولكن هذا القول خالف فيه كل الصحابة، وأنكر كذلك أنه ربط البراق بالحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء، ولكن هذا القول لا يصح. الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء إماماً في هذه الليلة، والصلاة اختلف فيها أهل العلم فمن قائل يقول: إنه صلى قبل أن يعرج إلى السماء، ولكن الشيخ الألباني يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به فدخل المسجد ثم صلى فيه ركعتين وربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، ثم عرج إلى السماء فعرفه جبريل بالأنبياء كل في سماء، وبعد أن عرفه نزل بهم إلى الأرض فصلى بهم في بيت المقدس. قال الشيخ الألباني: وهذا هو الصحيح. والشيخ ابن كثير يقول: سواء كان هذا أو ذاك فهما ثابتان، والأصح أنه صلى بهم بعد أن نزل بهم من فصلى بهم في المسجد الأقصى، يعني: عرفهم أولاً في السماوات ثم أتى فصلى بهم في المسجد الأقصى. وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً واعترفوا له بأنه نبي هذا الزمان، وإليه صارت ملكية هذا المكان ولقومه من بعده. خطا موسى على زبد الصحاري تشق عن الرمال هوى دفينا هوى تتفتح الأكمام منه وتنفح من بشائره يقينا دعاء أبيه إبراهيم بشرى يرجع من صداها المرسلونا تفض على صفوف العيب نصراً لأحمد يأخذ العهد الأمينا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

فضائل المسجد الأقصى

فضائل المسجد الأقصى والمسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى، صلى النبي صلى الله عليه وسلم نحوها وهو في مكة، ثم صلى نحوها ستة عشر وهو في المدينة، فكانت قبلة المسلمين الأولى. وبيت المقدس أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). والصلاة فيه بمائتين وخمسين صلاة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً)، وهذا الحديث أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه المقدسي في فضائل بيت المقدس، وصححه الشيخ الألباني في تحذير الساجد. وعن ميمونة بنت كعب مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أحمل إليه؟ قال: من لم يستطع أن يأتيه فليهد إليه زيتاً يسرج فيه؛ فإن من أهدى إليه زيتاً كمن أتاه) صححه البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة والحافظ العراقي والإمام الطحاوي وأيضاً قواه الإمام النووي في المجموع، وصححه الشيخ الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق، ثم عاد وضعفه في ضعيف سنن ابن ماجة، والصحيح أن هذا الحديث ضعيف، ولكن حديث أبي ذر هو الحديث الصحيح.

قصيدة في البكاء على القدس

قصيدة في البكاء على القدس ونختم بهذه القصيدة نحدوها لكم باسم مرثية حزن: دعني وجرحي فقد خابت أمانينا هل من زمان يعيد النبض يحيينا يا ساقي الحزن لا تعجب ففي وطني نهر من الحزن يجري في روابينا كم من زمان كئيب الوجه فرقنا واليوم عدنا ونفس الجرح يدنينا جرح عميق خدعنا في المداوينا لا الجرح يشفى ولا الشكوى تعزينا كان الدواء سموماً في ضمائرها فكيف جئنا بداء كي يداوينا هل من طبيب يداوي جرح أمته هل من إمام لدرب الحق يهدينا كان الحنين إلى الماضي يؤرقنا واليوم نبكي على الماضي ويبكينا من يرجع العمر منكم من يبادلني يوماً بعمري ويحيي طيف ماضينا إنا نموت فمن بالحق يبعثنا لم يبق شيء سوى صمت يواسينا صرنا عرايا أمام الناس يفزعنا ليل تخطى طويلاً في مآقينا صرنا عرايا وكل الأرض قد شهدت أنا قطعنا بأيدينا أيادينا يوماً بنينا قصور المجد شامخة والآن نسأل عن حلم يوارينا نابلس في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا هذي دمانا رسول الله تغرقنا هل من زمان بنور العدل يحمينا أي الدماء شهيد كلها حملت في الليل يوماً سهام القهر تردينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا أقزامنا ضيعونا حينما فسقوا باعوا المآذن والقرآن والدينا أقزامنا أشعلوا النيران في غدنا ومزقوا الصبح في أحشاء وادينا ما لي أرى الخوف فينا ساكناً أبدا ممن نخاف ألم نعرف أعادينا أقزامنا من أضاعوا السيف من يدنا وأودعونا سجون الليل تطوينا أقزامنا من توارى صوتهم فزعاً والأرض تسبى ونابلس تنادينا أقزامنا أوهمونا آه كم زعموا وكم خدعنا بوعد عاش يشقينا قد خدرونا بصبح كاذب زمناً فكيف نأمل في يأس يمنينا أي الحكايا تروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا من باعنا خبروني كلهم صمتوا والأرض صارت مزاداً للمرابينا هل من زمان نقي في ضمائرنا يحيي الشموخ الذي ولى فيحيينا يا ساقي الحزن دعني إنني ثمل إنا شربناه قهراً ما بأيدينا عمري شموع على درب المنى احترقت والعمر ذاب وصار الحلم سكينا قم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يداوي جرح أمته ويطلع الصبح ناراً من ليالينا هل من صلاح يعيد السيف في يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا وقد ننسى أمانينا وقد ننسى محبينا وقد ننسى طلوع الشمس من غدنا وقد ننسى غروب الحلم من يدنا ولن ننسى مآذننا ولن ننسى مآذننا ستجمعنا دماء قد سكبناها وأمجاد أضعناها وأيام حلمناها ويجمعنا ويجمعنا ويجمعنا ولن ننساك لن ننساك يا قدس

برد السماء في فضل الرحمة والرحماء

برد السماء في فضل الرحمة والرحماء رحمة الله وسعت كل شيء، وأحاطت بكل حي، لا يعدها عدد، ولا يصدها حد، آثارها على الإنسان معروفة موجودة، وفي كل شيء ليست مفقودة. وقد ذكر الله الرحمة في كتابه وأطلقها على عدة معانٍ تتجلى من خلالها سعة رحمة الله عز وجل، وقد وردت الكثير من الأحاديث، والغزير من الآثار والتي تحث على الرحمة والعمل بها منهجاً في الحياة.

معاني الرحمة

معاني الرحمة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. الرحمة لغة: الرقة والعطف والرأفة، يقال: رحمه يرحمه إذا رق له وعطف عليه، والرحم والمرحمة والرحمة يقال: رجل مرحوم ومرحم، والرُّحم بالضمة، الرحمة، كما قال أهل العلم، رحمهَ رحماً ورُحماً ورَحمةً ورُحمة كما قال سيبويه.

الجنة رحمة

الجنة رحمة ولقد أطلق الله عز وجل الرحمة في كتابه على أكثر من معنى، فسمى الجنة رحمة، قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]، أي: ففي جنة الله هم فيها خالدون، وقال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت:23]، والجنة أعظم الرحمات، ففي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، فالجنة رحمة يأمن فيها الناس من الخوف ويأمن فيها الناس من الحزن، هي دار السلام يدخلها الملائكة على عباد الله عز وجل من كل باب، قال تعال: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. قال الله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، وآخر من يخرج من النار يقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك، فكيف إذا أدخله الله عز وجل دار رحمته ورضوانه؟

الإسلام رحمة

الإسلام رحمة والإسلام رحمة، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]، وقال تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى:8] فقد كان الإسلام رحمة للعالمين، إذ أنقذهم الله من ذل العبودية لغير الله عز وجل، كما قال ربعي بن عامر: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ذل الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] يعني: رفعة لك ولقومك. إذا أنت غُمَّت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها وقبل أن يأتي الإسلام كان سابور ذو الأكتاف قد قتل من العرب خمسين ألفاً بنزع أكتافهم، حتى سمي سابور ذو الأكتاف، فقد كان العرب رعاة شياه وماعز لا شأن لهم في الأرض ولا ذكرى، فرحمهم الله عز وجل بالإسلام. والإيمان رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28]، فالإيمان رحمة فما يعطيه الله تبارك وتعالى للعبد المؤمن من ذوق طعم الإيمان، ووجدان حلاوته، والفرح والسرور بالله تبارك وتعالى، وبما يغرس في قلبه من بساتين الطاعة قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. يقول ابن القيم: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً ويقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب. ويقول ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي. ويقول ابن القيم: من قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن اشتاق إلى الله عز وجل اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن أنس بالله عز وجل أطاب به كل خبيث، وأنس به كل مستوحش.

النبوة رحمة

النبوة رحمة والنبوة رحمة، قال الله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، فالرحمة هنا بمعنى النبوة، فقد أتت النبوة رحمةً للعالمين، قال الله عز وجل لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وكأن النبوة كلها قد حصرت في رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباد، أن يبين لهم طريق الخير فيتبعوه وطريق الشر فيجتنبوه، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: خلقت النار رحمة يخوف الله بها عباده لينتهوا. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر الناس من النار ويرغبهم في الجنة، هل بعد ذلك من رحمة؟

القرآن رحمة

القرآن رحمة والقرآن رحمة قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته الإسلام. وقال ابن عباس: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، فالقرآن رحمة حفظ الله به حقوق الناس ورحم العباد بدستوره العلوي الذي لا يظلم مثقال ذرة، فرحمهم من ظلم الطواغيت: عجت فروج الناس ثم حقوقهم لله بالبكرات والآصال كم تستباح بكل شرع باطل لا يرتضيه ربنا المتعال والكل في قعر الجحيم سوى الذي يقضي بحكم الله لا لنوال أو ما سمعت بأن ثلثيهم غداً في النار في ذاك الزمان الخالي وزماننا هذا وربك أعلم هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي أتى القرآن رحمةً للناس، ورفعهم إلى آفاق ما كانوا يتطلعون إليها، فقد رفعهم من مستنقع الجاهلية الآسن ومن حمأ الأرض المسنون ومن الطين والوحل، ووضعهم في مصاف تتقطع دونها أعناق الملائكة، رحم الله عباده بالقرآن إذ وضع لهم ميدان الناس الحقيقي، ومقادير الناس عنده تبارك وتعالى، فإن توهم ذو الدنيا أن جنته في الدرهم والدينار والقصر المنيف والزوجة الحسناء، فعند الله عز وجل قيم ومعايير أخرى، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

المطر والرزق والعافية رحمة

المطر والرزق والعافية رحمة وسمى الله عز وجل المطر رحمة، قال: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63]، وقال الله عز وجل: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50]، فيرحم الله تبارك وتعالى عباده بالمطر، ولولا الشيوخ الركع والأطفال الرضع لصب الله تبارك وتعالى العذاب صباً. كان مالك بن دينار رحمه الله يقول: أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطئ نزول الحجارة. كان أحد الصالحين يرفع يديه إلى السماء في الاستسقاء ويقول: اللهم لا تهلك بلادك بذنوب عبادك. وفي الأثر: أن الأرض وهوامها تقول: لعن الله ابن آدم منعنا القطر بشؤم معصيته. والرزق رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، وقال الله عز وجل: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، أي: من رزقه، والنعمة رحمة، قال الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21]. والعافية رحمة، قال الله عز وجل: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38].

تابع معاني الرحمة

تابع معاني الرحمة والنصر رحمة، قال الله عز وجل: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17]، كما جاء في سورة الأحزاب. فالنصر رحمة والهزيمة ذل ودمار وعار وشنار، انظر إلى الجندي المسلم حين يقع أسيراً في يد الرجل التتري فيقول له التتري: امكث ههنا حتى آتيك بحجر لأقتلك به، وكثير منا شاهد الجندي العراقي وهو يقبل قدم الجندي الأمريكي في حرب الخليج في عاصفة الصحراء حتى لا يقتله، وتتناقلها وكالات الأنباء. يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمركب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا ورقة القلب رحمة، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، امسح رأس اليتيم وادنه منك وأطعمه من طعامك واسقه من شرابك). والمنة رحمة، قال الله عز وجل: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:46]. ومغفرة الذنوب رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]. والسعة في الأمور الشرعية والأحكام الفقهية رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178]. والمودة رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} [الفتح:29]، لا تكتمل الصحبة حتى تقول لأخيك: يا أنا. يا من تنهش في أحشائي! يا من أنت جزء من أجزائي! يا من تبدو للجهال كأنك دائي! إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي: هل يأتيك ندائي؟ إنك مني أنت كأني لست أرائي أنت كأني حين شقائي حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد إنك فيها من شركائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي في كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تشري الطعنة في أحشائي قل لي هل يأتيك ندائي؟ العزة عند إلهي ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي والعصمة من الذنوب رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53]. وطول العمر رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} [الملك:28]، يعني: مد في آجالنا وأطال أعمارنا. وقال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، بعض العلماء قال: الرحمة هنا: هي الولد، فهذه هي المعاني التي ذكرت فيها الرحمة في القرآن الكريم. ومن أسماء الله عز وجل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، وهما اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمن خاص بالله لا يسمى به غيره، ورحمن أبلغ من رحيم، والرحيم يوصف به غير الله عز وجل، فيقال: رجل رحيم، ولا يقال: رحمن، والرحمة من صفات الذات لله تبارك وتعالى، والرحمن: ذو الرحمة الشاملة للخلق، والرحيم خاص بالمؤمنين. يقول العلامة ابن القيم: من رحمته سبحانه ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي، رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياق الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم، ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، ومن رحمته أن أنزل لهم كتباً وأرسل إليهم الرسل، ولكن الناس افترقوا إلى فريقين: فأما المؤمنون فقد اتصل الهدى في حقهم بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى ورحمة، وأما الكافرون فلم يتصل الهدى بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى بلا رحمة، وهذه الرحمة المقترنة بالهدى في حق المؤمنين رحمة عاجلة وآجلة. فأما العاجلة فبما يعطيهم الله تبارك وتعالى من ذوق طعم الإيمان ومحبة الخير والبر ووجدان حلاوة الإيمان. وأما الرحمة الآجلة فهي سكناهم في جواره وفي دار رحمته، ومن عظم الرحمة عند الله تبارك وتعالى أن الله كتب كتابها بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب بنفسه يوم خلق السماوات والأرض كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي).

أحاديث تحث على الرحمة وترغب فيها

أحاديث تحث على الرحمة وترغب فيها وهناك آيات وأحاديث كثيرة في فضل الرحمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي وهو غير متعتع). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي النار فجعلت أتأخر رهبة أن تغشاني، ورأيت امرأة حميرية سوداء طويلة تعذب في هرة لها ربطتها، فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن قتل المصلين). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل السنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسك خفه بفيه ثم رقى، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، ثم قال صلى الله عليه وسلم: في كل كبد رطبة أجر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما كلب يصيح بركية كاد يقتله العطش جاءته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به فغفر لها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن). وقال صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من مثل بالحيوان). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة). وفي الحديث: (أن رجلاً فرق بين امرأة من السبي وبين ولدها فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده عليها، ثم قال: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر له ومن لا يتب لا يتب عليه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دمعت عينه لما مات ابن ابنته: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله) قاله لرجل يذبح شاة ويرحمها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمثلوا بالبهائم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي). وفي الحديث: (أنه أتى إليه رجل ورآه يقبل حفيداً من أحفاده قال: يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم قط، قال: وما أملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة؟!). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الأمة مرحومة جعل الله عذابها بينها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل منهم رجلاً من أهل الأديان، فقال: هذا يكون فداؤك من النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحداً الجنة عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تؤمنوا حتى ترحموا قالوا: كلنا رحيم يا رسول الله! قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس ورحمة العامة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم عليها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53])، وإسناد هذا الحديث حسن. وقال سول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب). وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة لما قيل له: يا رسول الله! ادع على المشركين فقال: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجود في صلاتي كراهية أن أشق على أمه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي أو على الناس ما تخلفت عن سرية، ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم دعاؤه لمن عذبوه ولمن أرادوا قتله، قال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً).

من مظاهر الرحمة

من مظاهر الرحمة من مظاهر الرحمة: رحمة الحيوان، وقد كان هناك في دولة الإسلام وقف للكلاب الضالة ينفق منه على الكلاب التي ليس لها صاحب، رحمة بها. وكان هناك أيضاً وقف في بعض البلدان الإسلامية وخاصة في المغرب يطلق عليه مؤنس الوحشان، وذلك أن الرجل الغريب إذا نزل بأرض أتاه رجل يسامره ويزيل عنه وحشة الغربة ويأخذ من هذا الوقف. ومن مظاهر الرحمة: بر الوالدين، فأنت تحب أولادك طبعاً فأحبب والديك شرعاً، وارع أصلاً ينبت لك فرعاً، وتذكر خصيب المرعى أولاً وأخيراً: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، كم من ليلة باتا معك إلى الفجر يداريانك مداراة العاشق في الهجر، والله! إنهما لن يرضيا لك غير الكف والحجر سريراً، {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، حياتهما عندك بقايا شمس، لا تشتاق لقاءهما ويشتاقان إلى لقائك، وإن لقيت منهما أذى شكوت شقاءك، والله! لقد سقياك حلواً وسقيتهما مريراً، {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24]. يقول الشاعر: زر والديك وقف على قبريهما فكأنني بك قد نقلت إليهما لو كنت هما وكانا بالبقاء زاراك حبوا ًلا على قدميهما أنسيت عهدهما عشية أسكنا دار البلى وسكنت في داريهما ما كان ذنبهما إليك وإنما منحاك محض الود من نفسيهما كانا إذا ما أبصرا بك علةً جزعا لما تشكو وشق عليهما كانا إذا سمعا أنينك أسبلا دمعيهما أسفاً على خديهما وتمنيا لو صادفا لك راحةً بجميع ما يحويه ملك يديهما فَلَتلْحقنَّهما غداً أو بعده حتماً كما لحقاهما أبويهما ولتندمنَّ على فعالك مثلما ندما هما أيضاً على فعليهما بشراك إن قدمت فعلاً صالحاً وقضيت بعض الحق من حقيهما من مظاهر الرحمة: صلة أهل رحمك، والرحم تأتي يوم القيامة وهي معلقة بقوائم العرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني. ومن مظاهر الرحمة: إكرام اليتيم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله عز وجل). ومن مظاهر الرحمة: العطف على الفقراء والمساكين والخدم، وانظر إلى سالم مولى أبي حذيفة وكان رجلاً صالحاً فزوجه أبو حذيفة من بنت أخيه الحرة القرشية بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن مظاهر الرحمة: عيادة المرضى، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشيةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة). ومن مظاهر الرحمة أيضاً: التعاطف بين الإخوان والجيران، والشفاعة الحسنة، ولين الجانب للإخوان، قال الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله). ومن مظاهر الرحمة: العفو عن المسيء ورحمة النساء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هن عوان عندكم)، يعني: أسيرات عندكم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). ومن مظاهر الرحمة: رحمة الصغار وانظر إلى مداعبة الرسول صلى الله عليه وسلم للطفل الصَّغير أبي عمير يقول عليه الصلاة والسلام: (يا أبا عمير ما فعل النغير). ومن مظاهر الرحمة أيضاً: رحمة العدو، وانظر إلى رحمة النبي بـ ثمامة بن أثال وقد كان من زعماء الجاهلية ومن صناديد الشرك، فلما رحمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وحسن إسلامه.

نماذج للرحماء من الصالحين

نماذج للرحماء من الصالحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي أبو بكر)، ومن في الناس كـ الصديق؟ فهو الإمام العظيم الذي كان يحلب شياه اليتامى. قال ابن الجوزي في التبصرة: لما استخلف الصديق أصبح غادياً إلى السوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلما بويع قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا، فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه، فهو إنسان عظيم انتهى إليه كل ما في الإسلام من حنان وعطف، قالت عائشة رضي الله عنها: أعتق أبو بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله عز وجل، منهم بلال وعامر بن فهيرة. وفاروق الإسلام ذو الرحمة السابقة وهو القوي الذي يرهبه ويخافه الشيطان، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقد حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال: يا زيد! إني أرى ههنا ركباً ضربهم الليل والبرد انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم؛ فإذا امرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون -يبكون ويصيحون- فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليكم السلام، فقال: أأدنو، قالت: أدن بخير أو دع، فدنا منها فقال: ما بالكم؟ قالت: ضربنا الليل والبرد، قال: وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؛ قالت: الجوع، قال: أي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، قال: أي رحمك الله! وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، قال زيد: فأقبل علي وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عجلاً من دقيق وقبةً من شحم وقال: احمله علي فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها، فقال: ابغيني شيئاً، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، فجعل يقول لها: أطعميهم وأنا أصفح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك وقام، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربط مربطاً فقلت: لك شأن غير هذا، فلا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدئوا، فقال: يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت. وعن أنس بن مالك قال: بينا عمر رضوان الله عليه يعس بالمدينة، إذ مر برحبة من رحابها؛ فإذا هو ببيت من شعر لم يكن بالأمس فدنا منه فسمع أنين امرأة، ورأى رجلاً قاعداً فدنا منه فسلم عليه، ثم قال: من الرجل؟ فقال: رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله، فقال: ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟ فقال: انطلق رحمك الله لحاجتك، قال: علي ذاك ما هو؟ قال: امرأة تمخض، قال: هل عندها أحد؟ قال: لا، قال: فانطلق حتى أتى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما: هل لك في أجر ساقه الله إليك، قالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض ليس عندها أحد، قالت: نعم، إن شئت، قال: فخذي ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب، قال: فجاءت به، فقال لها: انطلقي، وحمل البرم ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت فقال لها: ادخلي إلى المرأة، وجاء حتى قعد إلى الرجل، فقال له: أوقد لي ناراً فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها، وولدت المرأة فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين! بشر صاحبك بغلام، فلما سمع بأمير المؤمنين كأنه هابه فجعل يتنحى عنه، فقال له: مكانك كما أنت، فحمل البرمة ووضعها على الباب، ثم قال: أشبعيها ففعلت، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب فقام عمر رضي الله عنها فأخذها فوضعها بين يدي الرجل، فقال: كل ويحك! فإنك قد سهرت من الليل، ثم قال لامرأته: اخرجي، وقال للرجل: إذا كان غداً فائتنا نأمر لك بما يصلحك، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه. إنه أمير المؤمنين الذي تفتحت لأعلامه أقطار الدنيا، واستقبلت الدنيا دروسه كلها كأنها البشريات، تدك جيوشه معاقل كسرى وقيصر يؤرقه بكاء طفل ويزلزله حتى يشرق بالدموع وهو يصلي بالناس، تتولى زوجه في الهجيع الأخير من الليل أمر سيدة غريبة أدركها المخاض، يجلس هو خارج الكوخ ينضج لها الطعام، ويوقد تحت البرمة، هذا عمر منارة الله في الدنيا هديته إلى الحياة، على مائدة سيرته أطايب العظمة والرحمة، عبقري صحح مفاهيم الحياة، وأفرغ عليها نوراً من روحه، وكساها عظمة من سلوكه وكان للمتقين إماماً، أعظم آيات التفوق الإنساني، ونبوغ النفس، وبطولة الروح، وإعداد السلوك، هنا ترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يكاد يخطر على قلب بشر. هنا العظائم تتفوق على نفسها ويزحم بعضها بعضاً، هنا عمر رضي الله عنه، هذا موقفه من الضعيف. وعثمان الأواب الرحيم التائب، كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت، عثمان الرحيم الذي تشع الرحمة في حياته نبراساً لكل تصرفاته العادية، والتي يتوقف عليها أمر الحياة والموت، كانت الرحمة نبراس تلك التصرفات جميعها! يغضب على خادم له يوماً فيفرك أذنه حتى يوجعه، ثم سرعان ما يدعو خادمه ويأمره أن يقتص منه فيفرك أذنه، فيأبى الغلام ويأمره عثمان فيطيع، ثم يقول: زد يا غلام! فإن قصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة. عثمان رضي الله عنه الخليفة الطاعن في السن الذي يرفض أن يوقظ خادمه كي يعد له وضوءه، ويتحامل على شيخوخة مجهدة في إحضار الماء وإسباغ الوضوء. ولما اشتد حصار الثوار لداره قال للصحابة الذين تجمعوا حول داره ليواجهوا الثوار بالسلاح: إن أعظمكم عندي غناءً رجل كف يده وسلاحه، ويقول لـ أبي هريرة وقد جاء شاهراً سلاحه مدافعاً عنه: أما إنك والله! لو قتلت رجلاً واحداً لكأنما قتلت الناس جميعاً، ويقول للحسن والحسين وابن عمر وعبد الله بن الزبير وشباب الصحابة الذين أخذوا مكانهم لحراسته: أناشدكم الله وأسألكم به ألا تراق بسبب محجم دم، لله درك يا عثمان! رحمة جامعة تغطي بعطائها المقسط جلائل الأحداث وصغارها، للخادم منها حظه وحقه في أن ينعم براحة النوم، وإن أضنى الخليفة نفسه وشيخوخته في ظلمة الليل البهيم، ولقطرات الدم حظها وحقها في أن تنعم بالسلام والعافية، وإن كان بديل ذلك أن تزهق روح الخليفة الشيخ بيد معتد أثيم وغادر زنيم، توغلت الرحمة في حياته وفي سلوكه حتى اقتضته في آخر الأمر حياته نفسها فجاد بها، ولقد كان من الطبيعي لرجل وسعت رحمته الناس جميعاً أن تغطي رحمته ذوي القربى، قال علي رضي الله عنه: أوصلنا للرحم عثمان، لقد كان عثمان في ذلك نشيجاً وحده. وانظر إلى عظم الرحمة عند عمر بن عبد العزيز وإلى رفقه بالحيوان، عن أبي عثمان الثقفي قال: كان لـ عمر بن عبد العزيز غلام على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوماً بدرهم ونصف، فقال: ما بدا لك؟ قال: نفقت السوق، قال: لا، ولكنك أتعبت البغل، فأجمه ثلاثة أيام. وكتبت إليه امرأة مسكينة تسمى فرتونة السوداء من الجيزة بمصر: أن لها حائطاً متهدماً لدارها يتسوره اللصوص ويسرقون دجاجها، وليس معها مال تنفقه في هذا السبيل، فيكتب عمر إلى واليه على مصر أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أيوب بن شرحبيل سلام الله عليكم، أما بعد: فإن فرتونة السوداء كتبت إلي تشكو إلي قصر حائطها وأن دجاجها يسرق منه وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب بنفسك وحصنه لها، وكتب إلى فرتونة: من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء سلام الله عليك أما بعد: فقد بلغني كتابك وما ذكرته فيه من قصر حائطك حيث يقتحم عليك ويسرق دجاجك، ولقد كتبت إلى أيوب بن شرحبيل آمره أن يبني لك الحائط حتى يحصنه مما تخافين إن شاء الله. يقول ابن عبد الحكم راوي هذه القصة الباهرة: فلما جاء الكتاب إلى أيوب بن شرحبيل ركب بنفسه حتى أتى الجيزة، وظل يسأل عن فرتونة حتى وجدها فإذا هي سوداء مسكينة، فأعلى لها حائطها: كم من شريعة حق قد نعشت لهم كانت أميتت وأخرى منك تنتظر يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي على العدول التي تغتالها الحفر لو أعظم الموت خلقاً أن يوقعه لعدله لم يصبك الموت يا عمر ويقول القائل: أقول لما نعى الناعون لي عمر لا يبعدن قوام الحق والدين لم تلهه عمره عين يفجرها ولا النخيل ولا ركض البراذين قد غادر القوم في القبر الذي لحدوا بدير سمعان قسطاس الموازين عن الأوزاعي قال: شهدت جنازة عمر بن عبد العزيز؛ ثم خرجت أريد مدينة قنسرين، فمررت على راهب فقال: يا هذا أحسبك شهدت وفاة هذا الرجل، قال: فقلت: نعم، فأرقى عينيه فبكى فقلت له: ما يبكيك ولست من أهل دينه، فقال: إني لست أبكي عليه، ولكن أبكي على نور كان في الأرض فانطفأ. ولما مات أذهل موته إمبراطور الروم، قال: والله! مات ملك عادل ليس لعدله مثيل، مات الرجل الصالح، لأحسب أنه لو كان أحد يحيي الموتى بعد عيسى بن مريم لأحياهم عمر بن عبد العزيز. هذه رحمة عمر بن عبد العزيز بالناس، أين هو ممن وسع ا

موجبات الرحمة

موجبات الرحمة أما موجبات الرحمة: من ذلك رحمة الناس يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض)، وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14]، ولقد قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، حتى رحمة الخلائق كلها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من إمام أو والٍ يوليه الله تبارك وتعالى إمارة فيغلق بابه دون ذوي الخلة والحاجة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته ومسكنته وفقره يوم القيامة). ومن موجبات الرحمة: ذكر الله تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده). تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا بعادكم موت وقربكم حيا ولو غبتم عنا ولو نفساً متنا نعيش بذكراكم ونحيا بقربكم ألا إن تذكار الأحبة ينعشنا ومن موجبات الرحمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله عز وجل: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71]، وانظر إلى الرجل العظيم الصالح الذي كان سبباً في نصرة الجيش الإسلامي المصري على جنود الصليبين عز الدين بن عبد السلام، لما تحالف سلطان دمشق مع الفرنجة وأجاز بيع السلاح لهم، وقف هذا العالم على منبره وحرم بيع السلاح لهم، وقطع خطبته الحاكم، ومنعوه من الخطابة، ثم أرادوا أن يساوموه على دينه، فيرسل السلطان وزيره آملاً أن يستجيب عز الدين بن عبد السلام قال: إن سلطاننا يرضى منك أن تقبل يده على الملأ، فتعجب عز الدين بن عبد السلام وقال: يا سبحان الله! أنتم في واد وأنا في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، والله! ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل أنا يده. ولما جاءت جيوش الفرنجة حبسه سلطان دمشق في خيمة بجواره، فتهدد عز الدين بن عبد السلام وهو يرفع صوته بالقرآن، فقال سلطان دمشق لكبير ملوك الفرنجة: أترون هذا الرجل الذي تسمعون قراءته للقرآن، هذا أكبر قسيسي المسلمين أفتى بحرمة بيع السلاح لكم فكافأته بالسجن، فقال: والله! لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه ولشربنا مرقته. ومن موجبات الرحمة: تعليم الناس الكتاب والسنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير) والصلاة من الله رحمة. ومن موجبات الرحمة: السحور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته ليصلون على المتسحرين) لما فيه من مخالفة لأهل الكتاب من النصارى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر). ومن موجبات الرحمة: مسارعة الرجل للصلاة في الصف المقدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم). أيضاً من موجبات الرحمة: عيادة المرضى، فإن الرجل إذا زاد أخاً مريضاً له صلى عليه سبعون ألف ملك واستغفر له سبعون ألف ملك حتى يمسي. ومن موجبات الرحمة: رحمة البهائم، ورحمة البنات والإحسان إليهن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين كنت أنا وهو كهاتين). ومن موجبات الرحمة أيضاً: العطف على اليتيم، والجهاد في سبيل الله عز وجل، والهجرة، والاستماع للقرآن الكريم، والاتباع والتقوى والصبر على المرض.

ما يضاد الرحمة والرحماء

ما يضاد الرحمة والرحماء ويضاد الرحمة قسوة القلب فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها). وهناك أناس لعنهم الله تبارك وتعالى وطردهم من رحمته وممن لعنهم الله ولعنهم رسوله صلى الله عليه وسلم إبليس، كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:35]، والشياطين. ومن أتى البهائم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من أتى البهائم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من مثل بالحيوان) وفي الحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)، وحديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) وحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش) وحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله ومن غير تخوم الأرض ومن كمه أعمى عن السبيل ومن عق والديه ومن عمل عمل قوم لوط)، ولعن الله قاطع الرحم، ولعن الله الكافرين والمنافقين والظالمين والكاذبين. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، ولعن الذين يرمون أزواجهم، ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. يا رجالَ الدين يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي الأمة قراؤها)، ومن الذين لعنهم الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]، ومن الذين لعنهم الله ورسوله من قتل مؤمناً متعمداً، ومن فرق بين والدة وولدها ومن أخفى مسلماً في ذمته ومن أحدث أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن أشار إلى أخيه بحديده فإن الملائكة تلعنه، ولعن الله من ادعى لغير أبيه، ولعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده، ولعن الله المحلل والمحلل له، لعن الله من أتى امرأة في دبرها، ولعن الله المرأة تبيت وزوجها عليها ساخط، ولعن النائحة والحالقة والصالقة والخامشة وجهها، والشاقة جيبها، وزوارات القبور، والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات بالحسن. اللهم ارزقنا رحمة ترحمنا بها، اللهم اجعل في قلوبنا رأفة ورحمة ووداً للمسلمين. ونختم بما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهلاً لأن أبلغ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني، فرحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

موجبات المحبة

موجبات المحبة إن أعظم وأجل ما يتمناه أولياء الله هو الظفر بمحبة الله، فهي سعادة العبد وأمانه عند هول المطلع، ولذا من أراد أن يلحق بركب المتنافسين فعليه بمعرفة الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل، وتطبيقها والعمل بها، فإنها كافية لنيل مرضاة الله، والفوز بمحبته.

أهمية المحبة في كتاب الله وسنة رسوله

أهمية المحبة في كتاب الله وسنة رسوله إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. والمحبة لله عز وجل هي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وعليها تفانى المحبون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، هي الحياة والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، ولقد قضى الله بمشيئته وحكمه أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة سابغة على المحبين أنهم مع الله عز وجل في دار الدنيا بحفظه وكلئه ومعيته، ومع الله عز وجل في دار الآخرة في جواره وفي فردوسه. قال سمنون المحب: ذهب المحبون لله عز وجل بشرف الدنيا والآخرة. وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: والله يا رسول الله! ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت)، قال سيدنا أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحنا بشيء أشد من فرحنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث اختصام الملأ الأعلى من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة، فقال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: لا أدري أي رب، قال: فوضع يده بين منكبي حتى أحسست ببردها بين ثديي، فقال: الكفارات، والدرجات، والكفارات: نقل الخطا إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في المكاره، فقال له الله عز وجل: صدقت يا محمد! من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ثم قال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربني إلى حبك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهن حق، فتعلموهن، وادرسوهن). (إنهن حق) أي هذه الوصايا.

الأسباب الجالبة لمحبة الله

الأسباب الجالبة لمحبة الله تكلمنا قبل ذلك أن الله عز وجل أهل لأن يحب؛ لأن له جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، ولنعمه وآلائه الواصلة إلى الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن القيم في الأسباب الموجبة أو الجالبة لمحبة الله عز وجل، كل الناس يقولون: إنا نحب الله عز وجل، وحتى لا يدعي الخلي حرقة الشجي، جعلت علامات للمحبة، شأن عظيم أن تحب مولاك، وأعظم منه أن يحبك الله عز وجل! ليس شأناً عظيماً أن تحِب، إنما الشأن أن تُحَب. فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ العلامة شيخ الإسلام ابن القيم ذكر منها عشرة أسباب، وذكر غيره من أهل العلم خمسة وثلاثين سبباً موصلة إلى حب الله عز وجل لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).

قراءة القرآن مع التدبر والفهم

قراءة القرآن مع التدبر والفهم السبب الأول الجالب للمحبة: قراءة القرآن بالتدبر لمعانيه، والتفهم لمقاصد كلام الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف)، صححه الألباني. وقال الحسن البصري: رحم الله أقواماً قرءوا القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل إليهم، فقدروا قدر الرسائل، وقدروا قدر المرسل، قرءوا القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل نازلة إليهم في التو، فالقرآن أحدث الكتب نزولاً من عند ربنا، قد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى المطر بثوبه، ولما سئل عن ذلك قال: (إنه حديث عهد بربه) فما ظنك بالقرآن! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستمع القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليستمعه من ابن أم عبد) سيدنا عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل إليه، فيتفاعل مع القرآن، وينزل القرآن على واقع عصره لا يغيره عن عصره، ويداوي به أدواء قلبه من الشهوات والشبهات. وهذا أحمد بن أبي الحواري تلميذ الإمام أحمد وهو المسمى بريحانة الشام يقول: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله فله ثوابها ما تليت). يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). (إن الله يرفع بهذا الكلام أقواماً ويضع به آخرين). يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرؤها). يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له به أجران). ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليك بالجهاد والقرآن؛ إنه ذكرك في الأرض، وروحك في السماء). ويقول سيدنا عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم. ويقول خباب بن الأرت: يا هنتاه! تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه. منع القران بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع فهموا عن الملك الكريم كلامه فهماً تذل له الرقاب وتخضع قال ابن الصلاح فيما رواه السيوطي في الإتقان: وتلاوة كلام الله عز وجل كرامة اختص الله بها البشر دون الملائكة، فإنهم لا يتلونه، ولكنهم يستمعون إليه من البشر. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] العجب من قول الله عز وجل: (اذكروني)! من نحن حتى يأذن الله عز وجل ويسمح بكرمه ومنه وفضله أن تتلى آياته بألسنتنا الخطاءة الجافية التي تخوض في الباطل؟! هذه نعمة كبيرة من الله عز وجل، فكيف إذا ذكرك الله عز وجل؟! يا كسول! يا جهول! لو سمعت صريف الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمت شوقاً إلى مولاك! {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]. وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام. وقال الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] آيات منزلة من فوق العرش، الأرض منها سماء، وهي منها كواكب، إذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، وإذا هدرت فأمواج البحار الزاخرة، فلم الإعراض عن القرآن؟ لم أترك القرآن تلاوةً وتدبراً وتحاكماً إليه؟ عجت فروج الناس ثم حقوقهم لله بالبكرات والآصال كم تستباح بكل شرع باطل لا يرتضيه ربنا المتعال والكل في قعر الجحيم سوى الذي يقضي بحكم الله لا لنوال أو ما سمعت بأن ثلثيهم غداً في النار في ذاك الزمان الخالي وزماننا هذا وربك أعلم هل فيه ذاك الثلث أو هو خالي هذه الأيام هي أيام القرآن، هذه الأيام خير أيام الدنيا، كما جاء في حديث جابر عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر)، هذه الأيام يجوز فيها ختم القرآن في يوم وليلة، كما قال ابن رجب الحنبلي، وعلى هذا جمهور أهل العلم، فأين أنت من القرآن؛ من تعليمه لزوجتك وأطفالك؟ ومن حفظك إياه؟ لو حفظ كل إنسان فينا آيتين عند الفجر، وآيتين عند الظهر، وآيتين عند العصر، والمغرب والعشاء، وقام بهن الليل حتى من المصحف يرددهن فإنه سيحفظ القرآن ولا ينساه، يحفظ القرآن في عشر آيات يومية مقسمة على خمسة أوقات، يحفظ القرآن في مدة سنتين، فأين نحن من كلام الله عز وجل؟!

أداء النوافل والمحافظة عليها

أداء النوافل والمحافظة عليها السبب الثاني: أداء النوافل بعد الفرائض، فإنها ترفعك من مقام المحب إلى مقام المحبوب، كما قال الله تبارك وتعالى: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، ولا يعقل أن يقوم شخص الليل ثم ينام عن صلاة الفجر! إن النوافل جاءت لجبر الفرائض، ورفعة الدرجات، وحال الإنسان الذي لا يهتم بالفرائض ويهتم بالنوافل كحال رجل عليه وحل يقول لك: ضع علي مسكاً، أنت بحاجة إلى أن تغتسل ببرميل ماء، حتى ينزل الوحل الذي عليك، ثم بعد ذلك يطيبونك بالمسك! فلا تنفع النوافل إلا بعد الفرائض، فتأتي بالفرائض كاملة ثم تأتي بنوافل الصلاة والصيام والصدقات والحج والعمرة، نوافل الصلاة كالسنن الرواتب أو التطوع المطلق أو التطوع المقيد، تصلي اثنتي عشرة ركعة يبني الله لك بها بيتاً في الجنة. ثم التطوعات كصلاة الضحى التي لا يحافظ عليها إلا أواب، والتطوع المطلق كقيام الليل والمحافظة على الوتر، قال الإمام أحمد: من واظب على ترك الوتر فهو سفيه ترد شهادته. فكيف بالذي لا يصلي الفجر ولا الظهر ولا العصر؟! من واظب على ترك الوتر فهو سفيه ترد شهادته. هناك أيضاً سنن وتطوعات في الصيام كصيام الإثنين والخميس، وصيام يوم عرفة وصيام عاشوراء وتاسوعاء، وصيام الثلاثة الأيام البيض، وهناك تطوع مطلق بعد ذلك كما قال أهل العلم، كصيام يوم في الشهر أو يومين أو ثلاثة أيام من أول الشهر، أو يوم كل عشرة أيام، أو السبت والأحد والإثنين من شهر، كما كانت تفعل السيدة عائشة، والثلاثاء والأربعاء والخميس من شهر. صيام أربعة أيام، يوم خمسة وسبعة وتسعة وعشرة وأحد عشر، كل هذا ثابت، كما جاء في سنن النسائي وابن خزيمة وسنن أبي داود، وكذلك صيام يوم وإفطار يوم أو صيام يوم وإفطار يومين. ثم صدقة التطوع بعد الزكاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة) إذا أردت أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك، فامسح رأس اليتيم، وادنه منك وأطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله). كذلك أن يتطوع الإنسان بجاهه فيخدم المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس عند الله أنفعهم للناس)، قد لا يكون عندك المال، ولكن جاهك قد ينفع بعض المسنين: (اشفعوا تؤجروا) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك التطوع بما هو خير من المال، وهو تعليمك الناس لكتاب الله عز وجل، وتعليمك للقرآن، وتعليمك الناس العلوم الشرعية النافعة، وما يفيدهم في دينهم ودنياهم، فهذا تطوع بالإنفاق، ثم بعد ذلك التطوع بالحج والعمرة وغيرها من النوافل. فالحرص على أداء النوافل بعد الفرائض يوصلك إلى درجات من القرب لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) وسكت، وما بعد الباع لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي درجات من القرب لا يستوعبها العقل، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: خلِّ الهوى لأناس يعرفون به قد كابدوا الحب حتى لان جانبه ويقول المولى عز وجل: (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، ومن أتاه هرولة ماذا يكون الجزاء؟ درجات من القرب لا يحيط بها العبد، من تقرب إلي بالجوارح (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها). فمن تقرب إلي بكليته بروحه بقلبه بكل ما عنده ماذا يكون الجزاء؟ يقول الشاعر: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نزوله فهذا القرب لا تحيط به العقول، والله عز وجل فوق عرشه، وهو قريب من محبيه: (إن لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته).

المحافظة على ذكر الله في الدوام

المحافظة على ذكر الله في الدوام السبب الثالث: دوام ذكرك لله عز وجل على كل حال، باللسان والقلب والعمل والحال، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، والذاكرون لله عز وجل كثيراً دعاؤهم مجاب بنص الحديث الذي حسنه الألباني. وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] عنترة كان يذكر عبلة -وهو صعلوك- في المعارك عند صليل السيوف، فما ظنك بمن يحب مولاه، الذي هو عنصر الجمال؟! إذا كان حب الهائمين من الورى بليلى وسعدى يسلب اللب والعقلا فماذا عساه يصنع الهائم الذي ترى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه الألباني: (أكثر من ذكر الله حتى يقال إنك مجنون) لن تجد شخصاً يقول لك: إنك أنت مجنون، ستجد شخصاً يقول مثلاً: مجنون لعبة الكرة مجنون الممثلين مجنون المغنين لكن لا يوجد أحد يقال عنه: إنه مجنون بذكر الله؛ لأنه كلما زدت من حب الله أفقت من غيبوبتك. كما قال عتبة الغلام: من عرف الله أحبه، ومن أحبه أكرمه، ومن أكرمه أسكنه في جواره، ومن أسكنه في جواره فطوباه وطوباه وطوباه وطوباه! فما زال يقول: يا طوباه! حتى غشي عليه. قال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب، فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال، فكيف حبه؟! حبه يدهش العقول، فكيف وده؟ ووده ينسي ما دونه فكيف لطفه؟! هذا لا يكون إلا لله عز وجل. كل محبوب سوى الله سرف وهموم وغموم وأسف كل محبوب منه لي خلف ما خلا الله مالي منه خلف كل إنسان يحب الصالحين ليكسب منهم، أما الله عز وجل فإنه يحبك لتكسب أنت منه: (ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا خير لك من كل شيء). يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثر من ذكر الله حتى يقال: إنك مجنون). العلماء اختلفوا هل يشرع الجهر بالتكبير في هذه الأيام؟ لحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير) قال ابن رجب: أنكره طائفة، واستحبه أحمد والشافعي، ولكن الإمام الشافعي قيده برؤية بهيمة الأنعام، والإمام أحمد استحبه على الإطلاق. وذكر الإمام البخاري أن أبا هريرة وابن عمر كانا يدخلان السوق فيكبران فيكبر الناس لتكبيرهما. وروى الفريابي في كتاب العيدين: أن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد كانوا يدخلون السوق فيكبرون، لا يدخلون إلا لذلك، تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، تعلن الدينونة في هذه الأيام لله عز وجل، كدينونة الشجر والجماد، ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مطر، حتى تنقطع الأرض يميناً وشمالاً. قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله، طلبة العلم نقول لهم: سيدنا الإمام أبو هريرة كانت له اثنتا عشرة ألف تسبيحة بعد صلاة الفجر، قيل: كل يوم يقول: إنما أسبح بقدر ذنبي. خطرات ذكري تستشير مودتي وأحس منها في القلوب دبيبا لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوبا يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن جنباتها قلب إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يخفق ضارباً بجناحه يا ليت شعري هل تطير قلوب

إيثار محاب الله على محابك

إيثار محاب الله على محابك السبب الرابع: إيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى، والتسلم إلى مراقيه وإن صعب المرتقى إلى محابه: إذا عرض لك أمران أمر فيه محبة لله عز وجل، وأمر فيه حظ نفسك، فابدأ بحق الله أولاً، كما قال المحاسبي: البصير الصادق لا يبالي ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه قيد أنملة. انظر إلى الناس فامقتهم كلهم في جنب الله عز وجل، ثم انظر إلى نفسك تكون أشد مقتاً لها، راع حق الله عز وجل، انظر إلى خليل الرحمن إبراهيم يرزق الولد على الكبر، فتتعلق شعبة من قلبه بحب ابنه، وهذا شيء جبلي وفطري وغريزي، والله عز وجل يغار على قلب خليله، وهذه للخليل ليست لغيره، والله يغار على قلب خليله أن يسكن إلى غيره، فأمره بذبح الغلام. فلما تحقق صدق عزمه وهم بذبح الغلام حصل المقصود، وطرد المزاحم من قلب الخليل! فأقر الله عينه بولده مثلما قرت عينه بالله عز وجل، سيدنا إبراهيم يأتي برضيعه وبزوجه إلى جبال فاران موضع مكة الآن، تقول له زوجته: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ يقول لها: نعم، تقول: إذاً فلن يضيعنا، كلمات يعجز عنها كل من في الدنيا وقد قالتها امرأة مصرية! الذين يريدون أن يفتخروا بصعاليك الفراعنة نقول لهم: افتخروا بـ أم إسماعيل، هي الطهر كل الطهر، خطواتها جعلها الله ركناً من أركان الحج، هذا ما أورثتكموه أم إسماعيل بصدقها، الخطوات التي مشتها بين الصفا والمروة والهرولة جعلها الله ركناً من أركان الحج لا ينعقد الحج إلا به، بصدق المرأة. فما ظنك بالرجال! سيدنا إبراهيم لم يتلكأ، ولم يضطرب، والله عز وجل يأمره بترك ولده الرضيع، وبترك زوجه، أنت الآن عندك ثلاجة اثنا عشر قدماً، وتضع فيها لحمة في الفريزر قدر جمل، ولا تقنع بهذا! عندك أكلك وشربك وفي نعمة مرتاح فيها، أما أنت يا هاجر في مكة بين الهجير والحر، إلى من وكلكما إبراهيم؟ إلى الله، وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة إن الله لا يضيع أهله. يأمره الله عز وجل بذبح ولده في رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء حق ووحي، ولم يتلكأ ولم يضطرب، ويأمره بأن يباشر هو بنفسه عملية الذبح، وهذا مشهد عظيم لم يتكرر ولن يتكرر، منارة عالية من منارات الإيمان والتضحية والتسليم لأمر الله عز وجل، جعلت من يوم النحر أعظم يوم عند الله عز وجل، أعظم أيام الدنيا، يأمره الله عز وجل بذبح ولده، فيباشر ويهم ببدء عملية الذبح. ولكن يريد أن يرفع ابنه إلى درجة الإيمان وحلاوته حتى يتذوقه، فقال له: يا بني! إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟! {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. الشيخ سيد قطب رحمه الله يقول: قد يندفع المجاهد في المعركة ليخفي جبنه وهلعه وخوفه؛ لأنه لو قعد وفكر قليلاً فيمكن أن ينكص على عقبيه، فلم يكن الأمر عند سيدنا إبراهيم اندفاعاً من أجل أن يخلص من الضغط النفسي بذبح ابنه، هذا يريد أن يكون على طمأنينة وتريث، يريد أن يذوق جمال التسليم لأمر الله عز وجل، هو وابنه. فما كل عين في الحبيب قريرة فدينك عرضك، دينك لحمك، دينك دمك، إن كان هذا الكلام كبيراً علي وعليك، فيبقى مقالة أبي حازم الأعرج حيث قال: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، إن الرجل إذا اتسع خرق نعله قام ليصلحه. نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع العلامة ابن القيم يقول: إيثار الله على غيره، وهذا مقام كان الأوحد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، آثر الله، وآثر محاب الله عز وجل على من سواه.

مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته

مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته: قال العلامة ابن القيم: وهذا أشرف أنواع العلوم وأجلها على الإطلاق، تدبرك ومعرفتك، والمعرفة أخص من العلم؛ لأنها إدراك العلم بعد تفكر وتدبر، المعرفة يا إخوة فعل القلب، روى الإمام البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) قال: المعرفة فعل القلب، فرق بين المعرفة والعلم، إنها علم مقرون بعمل. تدبر أن لك رباً استوى على العرش يدبر أمر الممالك، يأمر وينهى، يعز ويذل، يداول الأيام بين الناس، يقلب الليل والنهار، له الملك كله، وله الحمد كله، وإليه يرجع الأمر كله، قلوب العباد إليه مفضية، والغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم ما كان وما هو كائن، وما لم يكن لو كان كيف يكون، هو أحق من حمد، وأولى من شكر، وأرأف من ملك، وأعز من استنصر، ينادى على باب عزته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويصاح على محجة حجته: {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] ينزل جاسوس علمه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] يترنم وينشد بفضله {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] يقول سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. وباب الأسماء والصفات سيدنا الشيخ فوزي بحر، له خطب كثيرة في هذا الباب. ثم بعد ذلك مطالعة ومشاهدة نعم الله عز وجل وبره وآلائه وإحسانه، فمن رحمة الله عز وجل أن الإسلام لا يشترى، يعني: لو كان الإسلام يشترى مثل الشقق، فلن يحصل عليه كثير من الناس، يعني: لو ثبت أن الإسلام يشترى بعشرين ألف جنيه، لكان كثير من الناس سيفوتهم الإسلام. ولو سوينا مسابقة في العقول، والذي يبقى له نسبة (60%) يكون مسلماً، لكان هناك أناس كثيرون سيفوتهم، لأنهم لا يفهمون النصوص والأحكام. رجاء الجارودي يبحث عن الإسلام مدة سبعين سنة، ولما دخل الإسلام دخل من باب وحدة الأديان، وأنت -ولله الحمد- تموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور، رحمة من الله تبارك وتعالى أن أرسل إليك رسوله، فالله أخبر بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنزل إليك كتابه، وأعطاك مئونة السفر إلى الجنة، وأعطاك سمعاً وبصراً وفؤاداً، وطرد إبليس من جنته إذ لم يسجد لأبيك وأنت في صلبه: كم عدو حط منك للذنب فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك؟ كم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك؟ أعطاك أيتها النفس ما لم تأملي، وبلغك ما لم تطلبي. كل هذا من نعم الله عز وجل، غير النعم الموجودة في الكون من تسخير الكائنات والحيوانات، فإنه سخر الإبل حيث إن الطفل الصغير يذهب بالجمل إلى المزارع ثم يعود به، ولكن لم يسخر لك الثعبان فلا تستطيع أن تلمسه، ولم يسخر لك الذئب فلا تستطيع أن تأتي بالذئب وتدخله بيتك مثل الجمل. هذه من نعم الله تبارك وتعالى، وهي نعم كثيرة يعطيها لك الله تبارك وتعالى، يقيم الصالحين من عباده وأنبيائه يستغفرون لك وأنت لم تخلق بعد، سيدنا إبراهيم يدعو لك، وسيدنا نوح يدعو لك، حيث قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]. سيدنا رسول الله يدعو لك، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] من أنت؟! ما قدرك؟! أنت إذا بعدت عن طريق الله عز وجل لا تساوي حشرة في ملك الله، فالنحلة أعلم بما يخرج من بطنها، وأنت أعلم بما يخرج من بطنك. فما الذي بعد ذلك إلا انكسار القلب وذله بين يدي الله عز وجل وإخبات القلب على عتبة العبودية، أن تفنى عن حقك وعن قدرك، أن تنظر إلى نفسك بعين النقص وإلى مولاك بعين الكمال، تقول لله عز وجل: أسألك بغناك عني وفقري إليك، أسألك بعزك وذلي، إلا رحمتني، هذه ناصية خاطئة كاذبة بين يديك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل. ترى أن ما حباك الله تبارك وتعالى إنما هو محض منة وفضل منه عز وجل، وأنك بالله لا بنفسك: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].

الخلوة بالله في أوقات الإجابة

الخلوة بالله في أوقات الإجابة السبب السادس: الخلوة بالله عز وجل في وقت تنزل الله، وقيام الليل بين يدي الله عز وجل، والتأدب بمناجاته: إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التسجد هبت الريح الرطيبة وأذان من بلال ادخلوها آمنين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس). هذا الإمام الأوزاعي دخلت إحدى الجارات في بيته في الصباح فوجدت بللاً في مصلاه، فعاتبت زوجته فقالت لها: ثكلتك أمك تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ! قالت: ما هذا بول الصبيان، إنما هذا من أثر دموع الشيخ وهو يبكي في الليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم).

مجالسة المحبين الصادقين

مجالسة المحبين الصادقين السبب السابع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب كلامهم: فهذا دواء من أدوية القلب، كما قال إبراهيم الخواص، وإذا كان مجرد أنك تعرف كتبهم وهم موتى فيحيي الله عز وجل قلبك -ومن ذلك عندما تقرأ كلام الإمام ابن القيم أو ابن رجب أو ابن الجوزي أو غيرهم- فما ظنك برؤية وجوههم. يقول صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى برؤيتهم) حسنه الألباني. الصالحون عندما تقعد معهم تتأدب بآدابهم، وإن شيخك من حدثك بلحظه قبل أن يحدث بلفظه، ومن لم ينتفع بسمت العالم لا ينتفع بعلمه. يقول الإمام ابن المبارك: طلبنا الأدب عندما فاتنا المؤدبون. فلا بد من الجلوس مع المحبين الصادقين، والتقاط أطايب كلامهم.

قطع كل سبب يحول بينك وبين الله

قطع كل سبب يحول بينك وبين الله السبب الثامن: مباعدة كل سبب يحول بينك وبين الله عز وجل، وقطع جميع العلائق والعوائق: أيُّ شيء يقطعك عن الله عز وجل فاقطعه، وكذلك أي شخص يضيع عليك وقتك وعمرك. احذر الفوت في هذه الدنيا وضياع الوقت، فإن الفوت أشد من الموت، فإن الموت يقطعك عن الدنيا وأهلها، أما الفوت فإنه يقطعك عن الله والدار الآخرة؛ ولذلك جاء أناس إلى معروف الكرخي فأطالوا عنده الجلوس، فقال: إن ملك الشمس يسوقها فما تريدون القيام؟ وكان داود الطائي يسف خبزه سفاً ويقول: بين السف والمضغ خمسون تسبيحة. قاطع الطريق من الدنيا يقطع جيبك، أما قاطع الطريق إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة فإنه يقطع ما بينك وبين الله عز وجل، فإياك وأهل الغفلات! اصحب من يحملك في سيرك إلى الله عز وجل، لا من تحمله، كما يقول العلامة ابن القيم: ولا تتخذ في السير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا

الزهد في الدنيا

الزهد في الدنيا السبب التاسع: الزهد في الدنيا: جاء في حديث سهل بن سعد الذي رواه الإمام البيهقي والطبراني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس). لو طلبت الدنيا بأسرها فهي حقيرة، كأنك تركت شيئاً أقل من جناح البعوضة، وأشد الزهد في الدنيا قصر الأمل، وزهدك في نفسك وفي الرئاسة، إن الرجل قد يزهد في المال والطعام، ولكنه لا يزهد في الجاه ولا في الرئاسة. الدنيا حقيرة، ووحل مستنقع آسن، حياة تليق بالديدان والحشرات والهوام والزواحف والسباع، حياة لا تليق بمن شبوا عن الطوق، الحياة الدنيا لعب، الذي يريد السباق والغلاب وطلاب الآخرة فأمامه أفق عريض، وغاية تستحق الغلاب، وهو ما عند الله عز وجل، أما الدنيا فهي أسيفة فلا تركنوا إليها.

الإخلاص والصدق مع الله والإحسان والمراقبة والرفق والرحمة

الإخلاص والصدق مع الله والإحسان والمراقبة والرفق والرحمة السبب العاشر: الإخلاص: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد الغني التقي الخفي)، لابد أن يكون للعبد خبء من عمل صالح بينه وبين الله عز وجل لا يطلع عليه أحد. السبب الحادي عشر: الصدق؛ فقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. سئل الإمام أحمد عن الصدق والإخلاص فقال: بهذا ارتفع القوم. السبب الثاني عشر: الإحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] فمن أحب الله فعله أحب ذاته، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. الأسباب الثالث عشر إلى الخامس عشر: المراقبة لله تبارك وتعالى، والرفق والرحمة: إن الله رفيق يحب أهل الرفق، فهذا حديث صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله). وقال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وقال: (إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء). ولا بد أن تكون عالي الهمة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها). لا تقل لي: نادي الأهلي عمل في تونس كذا أو عمل في أدغال أفريقيا، أين الناس المجانين الذين يركبون السيارات الصفراء أو الحمراء، ومعهم أعلام حمراء وبيضاء، ويشغلون (الكوتشات) في الشارع؟! يا سبحان الله! هؤلاء حجروا على عقولهم والله، وبعضهم يصرف في شريط أغان سبعة جنيهات، شريط أغان كلها تافهة! اسمها: من سرق العمود! يأتيني شخص يبيع الشريط بسبعة جنيهات، والناس يسبونه كيف تستمع إلى شريط مثل هذا وفيه مزامير، فأين أنت من مزامير القرآن؟

حسن الخلق والجود والكرم

حسن الخلق والجود والكرم السبب السادس عشر: حسن الخلق: إن الله يحب معالي الأخلاق وأشرافها، ويكره سفسافها، وأثقل شيء في الميزان حسن الخلق، كما قال سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم. السبب السابع عشر: الجود والكرم: يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله جواد يحب الجودة، وكريم يحب الكرماء). وفي هذه الأيام تجد اليتامى والمساكين والفقراء محتاجين إلى الطعام إلى اللحم فماذا ستؤكلونهم أنتم؟! وهذا المسجد ولله الحمد يعطي الفقراء واليتامى والمساكين، فساعدوا أهل هذا المسجد، أعط على الأقل خروفاً، أنزل اليتامى هؤلاء منزلة ابنك بعد أن فقدوا العائل، ولا تدري ما يصنع الله في الأيام! فحاول بقدر الإمكان أن تنفق عشرة جنيهات عشرين جنيهاً ثلاثين جنيهاً، فإنها تصل إلى أيد أمينة، وستذهب إلى أهلها: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال سرور تدخله على مسلم، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً)، وفي رواية: (أو تطعمه خبزاً).

المتابعة

المتابعة السبب الثامن عشر: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. فالمتابعة تعطيك صفة المحب لله عز وجل، وهي متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، والعبد يسير بين هجرتين، هجرة إلى الله عز وجل، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: (وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في).

التواضع والحياء

التواضع والحياء السبب التاسع عشر: التواضع: قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. السبب العشرون: الحياء: (إن الله حيي ستير يحب أهل الحياء).

حب صحابة رسول الله

حب صحابة رسول الله السبب الحادي والعشرون: حب الأنصار وحب صحابة رسول الله: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب حسيناً أحبه الله). (يعجب ربك من شاب ليس له صبوة)، يعني: يترك شهواته ويوقف روحه لله تبارك وتعالى. وأيضاً ورد في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، والدعوة إلى الله عز وجل طهارة كاملة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]. الداعية يحتاج إلى كمية كبيرة من الطهارة؛ حتى يغوص في الوحل لينقذ من تنجسوا بدون أن يصيبه رذاذ من النجاسة، فعندما يخالط الملوثين بدون أن يتلوث، فإنه يحتاج إلى طهارة كاملة، طهارة حسية وطهارة معنوية: (إن الله جميل يحب الجمال). والله تبارك وتعالى يحب المتوكلين، والله تبارك وتعالى يحب التوابين، والله تبارك وتعالى يحب المتقين، والله تبارك وتعالى يحب الذين يجاهدون في سبيله صفاً كأنهم بينان مرصوص، والله تبارك وتعالى يحب من يصبر على أذى جاره، حتى يفرق بينهما طعن أو موت، فهذه أسباب -ذكرناها ليست على التفصيل- جالبة لحب الله تبارك وتعالى إياك. سئل الجنيد عن المحبة فقال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، إن تكلم فعن الله، وإن سكت فمع الله، وهو لله وبالله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا سيد العارفين. هناك كتاب قيم لسيدنا الدكتور السيد العربي، فيه كلمات البخاري في العقيدة، فاحرصوا على اقتناء هذا الكتاب، ولقد رخص حتى يشتريه الجميع، فأقبلوا عليه. اللهم ارزقنا حبك، وحب من أحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم وما رزقتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم وما زويت عنا مما نحب فاجعله لنا فيما تحب، اللهم أحي قلوبنا بحبك، واجعل سعينا كله خالصاً لوجهك الكريم، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين، مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم اجعلنا جنداً لدينك، اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، يا أكرم الأشياء علينا لا تجعلنا أهون الأشياء عليك، بغض إلينا سعة أكلنا وشربنا ونومنا، وارزقنا سهراً في طاعتك، واكفنا من النوم باليسير، اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، وحظ النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، عرفنا وجه نبينا في رضوانك والجنة، واحشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا مبدلين ولا شاكين، ولا مفتونين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

هل ذقت طعم الإيمان

هل ذقت طعم الإيمان الحياة في ظل الإيمان نعمة لا يعرفها إلا من ذاق حلاوتها وطعمها؛ إذ إنه أفضل الأعمال المقربة من الله عز وجل، ومن أجله بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وقام سوق الجنة والنار، وبه تتفاضل الأعمال عند الله عز وجل. ولحلاوة الإيمان أسباب تجلبها وتقويها، وهي سهلة يسيرة لمن أرادها بصدق وإخلاص.

للإيمان نور وحلاوة وطعم

للإيمان نور وحلاوة وطعم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: الإيمان جمال الدنيا ودنيا الجمال، نور الطريق وطريق النور، وحياة الروح وعالم الأسرار. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم زينا بزينة الإيمان). للإيمان زينة ونور وحلاوة وطعم، لذا هناك نداء للإيمان، وله تبوء وكتابة، وله زيادة ونقصان ومجالس ومواكب، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن كمال الإيمان وحقيقته مرة بالحلاوة، ومرة بالطعم، ومرة بالطعام والشراب. فللإيمان حلاوة تباشرها القلوب أشد من مباشرة الألسن لطعم الحلاوة الحسية، فإن لمذاقه حلاوة تحس بها القلوب والأرواح. يقول إبراهيم بن أدهم: مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها، لذة الأنس بالله عز وجل. ويقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف. وقال الإمام ابن القيم من قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن اشتاق إلى الله اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن سر بخدمته لله سرت الأشياء بخدمته، ومن طابت نفسه بالله طابت به كل نفس وآنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث. والنبي صلى الله عليه وسلم عبر عن حقيقة الإيمان بالحلاوة كما في حديث أنس الذي قال فيه: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجد طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً). ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن الوصال قالوا (إنك تواصل يا رسول الله! قال: إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني). وليس هذا الطعام والشراب حسياً وإلا لبطل صومه.

قيمة الإنسان عند الماديين

قيمة الإنسان عند الماديين إن الماديين وضعوا من قدر الإنسان حين رفع الإسلام من كرامته، فقد قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فالعصنر البشري -أصلاً- مقرب عند الله عز وجل، أما ملاحدة الغرب فيقولون: لا فرق بيننا وبين أدنى حشرة، بل إنهم يقيسون الإنسان بالنظرية المادية البحتة. وأحد علماء المسلمين يقول: إن أحد العلماء الماديين قاس قيمة العناصر الموجودة في جسم الإنسان فوجدها لا تزيد عن (60 أو 70) قرشاً، ففي جسم الإنسان -مثلاً- من الدهن ما يكفي لصنع 7 قطع من الصابون فقط، وفيه من الكربون ما يكفي لصنع سبعة أقلام من الرصاص، وفيه من الفسفور ما يكفي لصنع 120 رأس عود ثقاب، -يعني: علبة كبريت- وفيه من ملح الماغنيسيوم ما يكفي لجرعة واحدة من المسهلات. أما الجير الموجود في جسم الإنسان فقدره يكفي فقط لتبييض حجرة دجاج -يعني: عش فراخ- وفيه من الكبريت ما يطهر جلد كلب واحد من البراغيث، وفيه من الماء سعة عشرة جالونات، فإذا جمع كل هذا فلا يزيد عن جنيه واحد. إذاً: الإنسان عندهم يساوي جنيهاً، مع أن الله قد أسجد الملائكة لأبيهم آدم وهم في صلبه، وحملة العرش يستغفرون له. وقل للذي قد غاب يبكي عقوبة مغيبك عند الشأن لو كنت واعياً

الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان

الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان وأما الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان فنعدها أولاً، ثم بعد ذلك نشرح بعضاً منها: فحديث سيدنا أنس، فيه ثلاثة أسباب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). والحديث الثاني يشمل أيضاً ثلاثة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً). فهذه ثلاثة أخرى يكتمل بها العدد ستة. ثم الحديث الذي رواه الإمام الطبراني وصححه الشيخ الألباني يقول: (ثلاث من كن فيه فقد وجد بهن طعم الإيمان: من عبد الله وحده وعلم أن لا إله إلا هو، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرطة ولا اللئيمة، ولكن من أوسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره، وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية نفسه يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان). وثلاثة أخرى يجمعها حديث القلب المخموم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الناس خير؟ قال: ذو القلب المخموم، قالوا: وما القلب المخموم يا رسول الله؟! قال: التقي النقي الذي لا غل فيه ولا حقد ولا حسد، قالوا: فمن على أثره يا رسول الله؟! قال: الذي يشنأ الدنيا -أي: الذي يكره الدنيا- قالوا: فمن على أثره يا رسول الله؟! قال: مؤمن ذو خلق حسن). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين أيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان الصبر والسماحة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً). أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان حديث سيدنا عمار بن ياسر الموقوف وله حكم الرفع، والذي رواه الإمام البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق وابن أبي شيبة في مصنفه وعبد الرزاق ووكيع في الزهد: قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وإنصاف الناس من نفسك، وبذل السلام للعالم). فهذه أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان. أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: اليقين، قال عبد الله بن مسعود: (اليقين الإيمان كله). وقال أبو بكر الوراق: (ملاك القلب اليقين، وبه كمال الإيمان). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن اليقين: (الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله). وقال: (إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]). وأيضاً من كمال الإيمان الورع، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (وخير دينكم الورع). أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: الرضى بقضاء الله عز وجل وقدره، كما جاء في مسند البزار بإسناد حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه). وقال أبو الدرداء أيضاً فيما رواه عنه الإمام ابن القيم: (ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم -يعني: لأحكام الله عز وجل- والرضا بالقدر). ومن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة). وكما قال أبو سليمان الداراني: (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم). قال الحسن البصري: (اطلبوا الحلاوة في ثلاث: في الصلاة والذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتموها فذلك خير، وإلا فاسألوا الله العافية واعلموا أن الباب مغلق، ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله عز وجل). والقرآن الكريم جعله النبي صلى الله عليه وسلم ربيع القلوب، وقال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. وقال أبو سعيد الخدري: (فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام). وقال ابن عباس: (فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن). فلا شيء أنعم للأرواح ولا ألذ من تلاوة كلام الله عز وجل، كما قال أحد الصالحين لتلميذه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا. قال: واموتاه من رجل لا يحفظ القرآن؛ فبم تترنم؟ فبم تتنعم؟ فبم تناجي مولاك؟! أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: الأنس بالله عز وجل والمناداة والتملق والتذلل بين يدي الله عز وجل، والانطراح على عتبة العبودية، وأن تأتي مولاك ذليلاً عارياً من كل دعوى، وتلقي نفسك وتنطرح على عتبة مولاك بكامل الفقر والذل والخضوع لمولاك. ثم ومن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان كما قال أهل العلم: الجهاد، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]. وقال شقيق البلخي لرجل في أحد المعارك والناس بين الصفين: (هذا اليوم مثل اليوم الذي زفت فيه إليك امرأتك؟ قال: لا، والله إنه يوم تضرب فيه الرءوس وتقطع فيه الأعناق، قال: والله هذا اليوم أحب إلي). وكما قال سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه: (والله ما من ليلة تهدى إلي فيها عروس أو أبشر فيها بمولود أحب إلي من ليلة أصبح بها العدو في جند من جنود المسلمين في ليلة باردة أو ليلة شاتية)، أو كما قال. أيضاً: المعرفة بأسماء الله وصفاته جالبة لحلاوة الإيمان. وأيضاً: ترك الهوى ومخالفته وترك الشهوات. ومن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان ما قاله بشر بن الحارث الحافي: (لا يجد العبد طعم العبادة ولا حلاوة العبادة حتى يجعل بينه وبين الشهوات حائطاً من حديد). وأيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: الاستقامة على أمر الله عز وجل، فقد قالوا لـ حبيب بن الورد صديق القلوب: (هل يجد من فعل المعصية حلاوة الإيمان؟ قال: لا، ولا من هم بها). فالرجل الذي تحدثه نفسه بالمعصية لا يجد حلاوة الإيمان وطعمه، والمتقون هم الذين تركوا ما نهى تبارك وتعالى عنه وأتوا ما أمر الله تعالى به ثم خافوا ألا يقبل منهم، كما قال الفضيل. والفضيل قال عنه عبد الله بن مبارك: (لقد جمعت علم العلماء فما وجدت أحب لقلبي من علم الفضيل بن عياض). وقال الفضيل رحمه الله: (حرام على القلوب أن تجد حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا). ويقول إبراهيم بن أدهم: (لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف). ثم الشوق إلى الله تبارك وتعالى أعلى نعيم في الدنيا، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم). فجمع بين أعلى نعيم في الدنيا وأعلى النعيم في الآخرة، وجمع بين نعيم الأبدان ونعيم القلوب فقال: (أسألك نعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع). فالنعيم الأول نعيم الأجساد، وقرة العين التي لا تنقطع هي نعيم القلوب. فهذه خمسة وثلاثون أو اثنان وثلاثون سبباً لجلب حلاوة الإيمان.

كيف يكون الله أحب إليك مما سواه

كيف يكون الله أحب إليك مما سواه أما السبب الأول فهو أن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما: أي أن يكون الله أحب إليك مما سواه، وهذا لا يتحقق ولا يكون إلا بأن تكون محبتك لله عز وجل أولى من كل محبة، وقاهرة لكل محبة، وتكون كل محبة خاضعة وتابعها لها، فيكون الله عز وجل أولى الأشياء عندك بالتعظيم والتوقير وأحب شيء إليك، ولا يكون إلا بأن تكون محبته أعلى محبة وقاهرة لكل محبة، وكل محبة خاضعة لها. قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].

بيان محبة القلوب للجمال

بيان محبة القلوب للجمال سبحان الله! جبلت القلوب على محبة الشيء الجميل، فلا ترى إنساناً يحب مثلاً نقيق الضفادع أو صوت فحيح الثعبان أو صوت البوم، وإنما تجد الإنسان يحب نسيم الأشجار في الفجر الوليد، وتبسم الورود وخرير المياه؛ لأن الله جبل القلوب على محبة الشيء الجميل، فما ظنك بمن كل جمال في الوجود من آثار جماله؟ وما ظنك بمن نسبة كل جمال في الوجود إلى جمال وجهه أقل من نسبته الفتيل إلى ضوء الشمس، ولله المثل الأعلى. فالناس والآلاف المؤلفة الذين خرجوا وراء السندرلة لم يخرجوا وراءها لأنها كانت قوامة قانتة منتقبة أو محجبة أو تلقي دروساً في المساجد، بل كانوا يعرفون أنها زوجة علي بدر خان الشيوعي، وهذا الكلام قالته صحيفة الأهرام العربي. فإن كان الناس يهيمون في الصور والأشباح فما ظنك بنساء الجنة! فإن الله خلق حوراء -كما قال الإمام ابن القيم - في الجنة لولا أن الله كتب الخلود على أهل الجنة لماتوا من حسنها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولنصيف امرأة من أهل الجنة خير من الدنيا وما فيها)، يعني: الخمار الذي تضعه على رأسها وصدرها. وكما قال مطرف بن عبد الله: (وكل نعيم في الدنيا بالنسبة إلى نعيم الجنة لا يساوي هباء بالنسبة إلى جبل)، ونعيم الجنة كله مخلوق فما ظنك بجمال الخالق؟! أليس الجمال حبيب القلوب لذات الجمال وذات القلوب أليس جميلاً يحب الجمال تعالى إله الورى عن ضريب

معرفة الله لا تدخل قلبا مشربا بحب الصور والشهوات

معرفة الله لا تدخل قلباً مشرباً بحب الصور والشهوات والإمامان ابن تيمية وابن القيم لهما إشارات جميلة وطيبة وموافقة للكتاب والسنة، فقالا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة): إن كانت الملائكة -وهي من مخلوقات الله عز وجل- لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، فكيف تدخل المعرفة بالله عز وجل والأنس بالله عز وجل ومحبة الله عز وجل وتوحيده قلباً مليئاً بكلاب الشهوات وصورها؟! وقالا: إن الاتجاه إلى القبلة شرط في صحة الصلاة، والقبلة بيت الرب، فمن باب أولى أن يكون التوجه إلى الله عز وجل والإقبال عليه، أي: إن كان الاتجاه إلى القبلة شرطاً في صحة الصلاة فإذاً استقامة القلب وتوجهه إلى ربه أولى، والأشياء الظاهرة المراد بها تمثيل الأشياء الباطنة، فإذاً من باب أولى أن يلتفت القلب إلى الله عز وجل وحده، فمن وجد الله فماذا فقد، ومن فقد الله فماذا وجد؟ هنيئاً لمن أضحى وأنت حبيبه ولو أن لوعات الغرام تذيبه وطوبى لصب أنت ساكن سره ولو بان عنه إلفه وقريبه وما ضر صباً أن يعيش وما له نصيب من الدنيا وأنت نصيبه فيا علة في الصدر أنت شفاؤها ويا مرضاً في القلب أنت طبيبه عبيدك في باب الرجا متضرع إذا لم تجبه أنت من ذا يجيبه غريب عن الأوطان يبكي بذلة وهل ذاق طعم الذل إلا غريبه تصدق على من ضاع منه زمانه وأوشك حتى لاح منه مشيبه من فاته منك حظ حظه الندم ومن تكن همه تسمو به الهمم وناظر في سوى معناك حق له يقتص من جفنه بالدمع وهو دم نسيت كل طريق كنت أعرفه إلا طريقاً يؤديني لبابكم كيف لا تحب من أنت به، وتدبيرك منه ورجوعك إليه، وكل مستحسن في الوجود هو حسنه وجمله وزينه وعطف النفوس إليه؟

أوصاف الله العظيمة تقتضي أنه أحق بمحبة العبد

أوصاف الله العظيمة تقتضي أنه أحق بمحبة العبد لقد أعطاك أيتها النفس! ما لم تأملي، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح ضجت المشام، كم عدو حط منك بالذم فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك؟ كم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك؟ من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر في إجابته، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه وأنك أحوج شيء إليه وأنت فيما يبعدك عنه راغب. تدبر أن لك رباً استوى على العرش يدبر أمر الممالك يأمر وينهى، يعز ويذل، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، قلوب العباد إليه مفضية، الغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. أحاط بجميع الأصوات وعلمها، على اختلاف لهجاتها، وعلى كثرة شكايتها وحاجتها، لا يعجزه صوت عن صوت، ولا يتبرم بكثرة المسألة، أحاط بصره بجميع المرئيات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان وكذاك يعلم ما يكون غداً وما قد كان والموجود في ذا الآن وكذاك أمر لم يكن لو كان كيف يكون ذاك الأمر ذا إمكانا وهو البصير يرى دبيب النملة السوداء فوق الصخر والصوان ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى بياض عروقها بعيان ويرى خيانات العيون بلحظها ويرى كذاك تقلب الأجفان والله أمر أهل طاعته وأهل مجالسته ألا يقنطوا من رحمته، إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعائب، كل إنسان إذا خفته تهرب منه، أما الله عز وجل فإنك إذا خفته تهرب إليه. ينادى على باب عزته: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ويصاح على محجة حجته: {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84]. تترنم المخلوقات بفضله، {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].

نعم الله سبحانه على خلقه سبب لمحبة العباد له

نعم الله سبحانه على خلقه سبب لمحبة العباد له ويقول تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:13 - 14]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام:59]. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]. ينادي على باب عزته: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ويصاح على محجة حجته: {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84]، ويخبر عن علمه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]. تترنم المخلوقات بفضله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]. ويقول سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. يسبحه النبات جميعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده، تمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار، فيطرب السامع تمجيده، فالبلبل بالحمد عابده، وكلما أقام خطيب الحمام النوح على منابر الدوح هيج المستهام تغريده، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19]. قل للطبيب تخطفته يد الردى أمداوي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا قل للضرير خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا قل للبصير وكان يحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواك اقل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت شهدًا وقل للشهد من حلاَّكا بل سائل اللبن المُصَفَّى كان بين دم وفرث ما الذي صفَّاكا وإذا رأيت الحي يخرج من حنا يا ميتٍ فاسأله من أحياكا قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ ورعاية من بالجفاف رَمَاكا وإذا رأيت النَّبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله من أَرباكا قل للمرير من الثمار من الذي بالمرِّ من دون الثمار غذاكا وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شقَّ نواكا يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى هذا الشذى الفواح نفح شذاكا يا مجري الأنهار ما جريانها إن لم تعانق قطرة بنداكا فاقبل دعائي واستجب لرجاوتي ما خاب يوماً من دعا ورجاكا يا أيها الماء المهين من الذي سوَّاك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا ومن الذي غذَّاك من نَعْمَائِه ومن الكروب جميعها نجَّاكا؟ ومن الذي شقَّ العيون فأبصرت ومن الذي بالعقل قد حلاَّكا؟ ومن الذي تعصي ويغفر دائمًا؟ ومن الذي تنسى ولا ينساكا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الاستفتاح في صلاة الليل يقول: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك آمنت، وبك أسلمت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت).

بيان محبة النبي صلى الله عليه وسلم

بيان محبة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد الله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فقال في الحديث: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سوهما)، ولا يكمل إيمان العبد حتى يحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من حبه لنفسه، كما قال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله! لأنت الآن أحب إلي من نفسي، فقال: (الآن يا عمر)، يعني: الآن كمل إيمانك يا عمر. ادعى قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم محبة الله عز وجل فابتلاهم الله عز وجل بهذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، أي: بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه، والذي لا يريد طريق النبي صلى الله عليه وسلم فلن يدخل معه الجنة؛ لأنه كما قال الجنيد: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم). ويقول الله عز وجل: والله لو أتوني من كل باب واستفتحوني من كل طريق، لم يدخلوا إلا من ورائه. فالذي يريد أن يدخل الجنة ليس أمامه إلا طريق واحد، وهو اتباع سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم ولما قال عمر: يا رسول الله! إنا نجد بعض صحف اليهود فتعجبنا، غضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، وحتى قال الصديق للفاروق ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتهوكون أنتم بعدي)؟ يعني: أمتحيرون أنتم بعدي، (وقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده! لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). فسيدنا موسى عليه السلام كليم الرحمن لو كان موجوداً في عهد النبوة لما وسعه إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بي أنا وأنت الأذلاء المنقطعون عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك).

محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت عجيبة. فهذه امرأة يقتل زوجها وابنها وأبوها في الحرب فتقول: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون لها: هو بخير، فتقول: أروني أنظر إليه، فلما رأته قالت: يا رسول الله! كل مصيبة دونك جلل. تعني: صغيرة؛ لأن الجلل من ألفاظ الأضداد، فتستخدم للشيء التافه والشيء الضخم العظيم، فكل مصيبة دونك جلل أو كل مصيبة بعدك جلل. وما أحب أصحاب رجل هذا الرجل مثل ما أحب الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهم أخبار عجيبة في حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو للآثار التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا العباس بن المطلب كان له ميزاب على طريق فكان ينزل منه الماء إلى الطريق، فقال له عمر بن الخطاب: اخلعه، قال: والله لقد وضعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فقال: والله لتطأن على رقبتي ولتردنه مكانه. ولما أصيب النبي صلى الله عليه وسلم في وجنتيه لما ضربه عبد الله بن قمئة فدخلت حلقة المغفر في وجنتيه استحلف أبو عبيده بن الجراح أمين هذه الأمة النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعهما هو، ثم قال: أنزعها بأسناني، فيشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا، فجعل ينزعهما بشفتيه؛ حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فسقطت من أجل ذلك ثنيته، فكان أهتم بين المسلمين. وسيدنا طلحة بن عبيد الله أصيب بالعرج في غزوة أحد من كثرة ما أصابه من الطعن وضربات الرمح أو السيوف أو السهام، ثم قعد للنبي صلى الله عليه وسلم ليصعد على ظهره، وتكلف أن يمشي صحيحاً؛ حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأصلح الله عرجته. ونحن ندعي حب النبي صلى الله عليه وسلم ونترك سيرته وأخلاقه، وإنما بمجرد الأقوال فقط إن عرفناه، أما السيرة والأخلاق ومعايشته للناس ووضعه في بيته ومعاونته للناس فنحن أبعد ما نكون عنها، فالتطبيق العملي أن تكون موافقاً للنبي صلى الله عليه وسلم في سنته التقريرية والقولية والفعلية، وتنظر إلى حياته وإلى سيرته.

الحب في الله

الحب في الله (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله). ويقول الله تبارك وتعالى: (حقت محبتي للمتاحبين في والمتباذلين في والمتزاورين في). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك وتعالى: (المتحابون في والمتجالسون في والمتزاورون في على منابر من نور في ظل عرش الرحمن، يغبطهم النبيون والشهداء)؛ لقربهم من الرحمن، فلا تحب المرء إلا لوجه الله عز وجل، محبة خالصة من أي غرض دنيوي، لا لتجارة ولا لمال ولا لقرابة، وإنما تكون المحبة خالصة لوجه الله عز وجل، وكلما ازداد قرباً من الله عز وجل ازددت حباً له. وحينما تقع المحبة يكون بذل المال أحقر شيء، لما أتى فتح الموصلي إلى عيسى التمار وكان أخاً له في الله فقال للجارية: أين أخي؟ قالت: ليس موجوداً، قال لها: فأين كيس نقود أخي؟ فأتت بالكيس، فأخذ حاجته من الكيس، ثم رده مرة ثانية، فلما أتى قالت الجارية: أتى أخوك فتح الموصلي وقال: أين كيس نقود أخي، فأخذ حاجته ثم مضى، قال: أشهد الله أنك حرة لوجهه إن كان ما تقولينه حقاً. ولا تكتمل الصحبة حتى تقول لأخيك: يا أنا، إلا ما حرمه الله ورسوله، كلك لأخيك إلا ما حرمه الله ورسوله، أما واقع المسلمين فيوصف بقول الشاعر: يا من تنهش في أحشائي يا من مني يا من جزء من أجزائي يا من تبدو للجهال كأنك دائي إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي هل يأتيك ندائي إنك مني أنت كأني حين شقائي حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكفائي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد إنك فيها من شركائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تسري الطعنة في أحشائي قل لي هل يأتيك ندائي ابغ العزة عند إلهي ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي كان الرجل منهم يموت فيخلفه أخوه في بيته أربعين سنة في الطعام والشراب والكسوة والمال على أهله لمجرد أنه كان أخاً له في الله فقط. فمن لك بأخيك كله؟ كل منا تقع منه هفوات، ولكن أين المسامحة؟ فأنصف الناس من نفسك والكمال عزيز، ولن تجد الرجل كاملاً. فإذا وجدت أخاً في الله عز وجل فشد عليه، فإن مجالسة الصالحين تحيي القلوب كما قال الحسن البصري.

الرضا بالله ربا

الرضا بالله رباً ومن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: من رضي بالله رباً، والرضا بالله رباً: أن ترضى بتدبير الله عز وجل وبكفاية الله عز وجل وبتدبير الله عز وجل، وأن تنزل كل حاجاتك بالله عز وجل. ومن تمام الرضا بالله رباً: أن ترضى به سيداً وإلهاً، وترضى به حكماً، وتوحيد الربوبية لازم له، وكذا توحيد الألوهية، إذ كيف ترضى به خالقاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً ووكيلاً وناصراً ولا ترضى به معبوداً ولا إلهاً حكماً، وإذا رضيت به مدبراً لك فسلم الأمر تجده أولى بك منك. فسلم الأمور لله عز وجل وتوكل عليه وفوض الأمر إليه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، وهذا هو الجزاء الوحيد الذي لم يأت إلا في التوكل. وإذا أنزلت أمرك بالله عز وجل وفوضت الأمور إليه وجدت القرب منه على درجات لا تحيط بها العقول مثل ما يقول القائل: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً تقريبياً فقط ولم يأت بكل درجات القرب، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: (من أتاني يمشي أتيته هرولة). ولكنه لم يقل: ومن أتاني مهرولاً فعلت به كذا وكذا. ومثل هذه الهرولة لا نحيط نحن بها. (ومن تقرب مني شرباً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً). ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر ومن تقرب إليه باعاً. فهناك درجات في القرب له لا تحيط بها العقول، فمن تقرب إلى الله بجوارحه بأداء النوافل والفرائض أحبه الله عز وجل، وكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، وهذا فعل الجوارح. ومن أتى الله عز وجل بكليته -بقلبه كله وبروحه كله وبسره كله وبهمه كله- يكون الجزاء درجات في القرب لا تحيط بها العقول ولا الأفهام، وتكفي الإشارة إليها: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

الرضا بالإسلام دينا

الرضا بالإسلام ديناً والرضا بالإسلام ديناً، فالناس تهرب من الإسلام، ونحن محتاجون لعدة سنين حتى نكون أهلاً لأن ننسب إلى الإسلام الذي سأله خليل الرحمن عندما قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128]. وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]. والسفيه هو الذي لا يرضى بدين الإسلام ولا أن ينتسب إلى هذا الدين، ويعلم أنه في دنيا الفناء وأن الجمال كله في الدنيا والآخرة في الإسلام، فالذي يحس بهذا فعليه أن يقوم من جديد درجة انتمائه إلى الإسلام العزيز الرفيع: إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها فيا له من دين لو أن له رجالاً، فلو تمسك به أناس لرفعهم فوق هامات السحاب، ولما ابتعدنا نحن عنه أذلنا الله عز وجل، يقول سيدنا عمر بن الخطاب وهو على أبواب القدس: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله). {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:83].

الرضا بمحمد نبيا ورسولا

الرضا بمحمد نبياً ورسولاً والرضا بمحمد رسولاً: قال الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، أي: ويرضون بحكم الله عز وجل، وهذه مرتبة الإسلام، {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65]، وهذه مرتبة الإيمان، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وهذه مرتبة الإحسان، كما قال ابن القيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. رب اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا. إلهي عميت عين لا تراك عليها رقيباً! وخسر قلب لم يجعل له من حبك نصيباً! إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله فكن دليلنا، إلهي ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه فكن أنيسنا، إلهي آتنا أطباء عبادك يداووا لنا خطايانا فكلهم عليك يدلنا. اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين فاجعلنا من الصالحين، استرنا بالعافية ووفقنا لما تحب. اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، اللهم صل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر المسلمين المستضعفين في فلسطين، اللهم عليك باليهود، اللهم دمرهم، اللهم أرنا فيهم آية تنتقم بها منهم حتى ترضى، وتنتقم لأعراض المسلمين منهم حتى ترضى، ولبيوت المسلمين حتى ترضى، ولدماء المسلمين حتى ترضى. اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وبارك في أعمالنا. اللهم اجعل أموالنا وأولادنا وأنفاسنا وحركاتنا وسكناتنا وكل ما نملك خالصة لك، واجعل أموالنا وقفاً على دينك. اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

التاريخ يعيد نفسه

التاريخ يعيد نفسه إن لله في كونه سنناً ماضية من سلكها وأحسن التعامل معها وفق شرع الله وصل إلى غايته ومقصوده، ومن تنكب لها ولم يعتبر بها صادمته وأفرغت جهده سدى، وقد سار على هذه السنن سلف هذه الأمة، فحققوا لهذه الأمة المجد والسؤدد، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

بطولات إسلامية

بطولات إسلامية إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة). ويأبى الغرس إلا طبيعته، والذي يريد للغرس أن يثمر غير ثماره فهو كالأحمق الذي يقول لشجر التفاح: لا تثمر إلا الحنظل، فنقول: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها). اتفق المؤرخون على أن المجددين للإسلام في القرن السادس الهجري هما البطلان نور الدين محمود زنكي وتلميذه صلاح الدين الأيوبي. وعلى مدار التاريخ الإسلامي كان هناك غرس طيب وقفوا أمام المد الصليبي، بداية من ليث الإسلام وسيف الله خالد بن الوليد، إذ كان أول من خاض المعارك ضد الصليبيين، فمعركة الفراض اجتمعت فيها جيوش الكفر، ولأول مرة في التاريخ يجتمع الفرس والروم ونصارى العرب الموتورون في معركة واحدة ضد سيدنا خالد بن الوليد، فقد جمعوا له بعدما استولى وفتح العراق في أربعين يوماً فقط، وكانت آخر معركة تسمى معركة الفراض، وكان عددهم 150000 فارس، عبروا إلى خالد بن الوليد الفرات، فقتل منهم خالد 100000 مقاتل وطارد الفلول فكانت أكبر نكبة وقعت بالفرس وبالروم في آن واحد يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا رب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونة وأطعموها سخيف القول والخطبا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونزف شريانه ما أسهل العتبا من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا

من سنن الله الجزاء من جنس العمل

من سنن الله الجزاء من جنس العمل إن لله سنناً يغفل عنها الناس، وهي تبين أن الجزاء عند الله عز وجل من جنس العمل، وأن الظالم يظلم، وأنه وإن طال ظلمه فسينتقم الله عز وجل منه يوماً من الأيام، لكن الناس غافلون عن حكمة الله عز وجل الكونية القدرية. كان لسيف الإسلام خالد بن الوليد مع الصليبيين عدة مواقع، منها يوم الموقعة التي حدثت في 15 رجب في 14هـ، وفتح الله على يديه فيها دمشق، وقد اشتركت في هذه المعركة أربعة جيوش إسلامية جيش بقيادة فارس الإسلام أبي عبيدة بن الجراح، وجيش بقيادة شرحبيل بن حسنة وجيش بقيادة عمرو بن العاص والجيش الرابع بقيادة خالد بن الوليد، وقد ظل الجيش الإسلامي محاصراً لمدينة دمشق أربعة أشهر، ولما طال المدى بـ خالد بن الوليد وهو الذي وصف حينها بأنه كان لا ينام ولا ينيم، والذي قال فيه الخليفة أبو بكر الصديق: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، ولما ضاق ذرعاً من طول مدة الحصار، أوصلت إليه عيونه اليقظة التي لا تنام: أن كبير الروم بدمشق قد ولد له مولود، وأنه سيسقي حامية السور الخمر يوم الأحد، فأعد سيف الإسلام خالد حبالاً مفتولة من الليف، وجعل في نهاية الحبال خطاطيف. وأعد قرباً منفوخة بالهواء، وكان الروم قد حفروا خندقاً عظيماً حول السور وملؤه بالماء، ثم دعى مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو ومن معهم فجعلوا يرسلون الحبال على أعالي الأسوار حتى علق منها حبلان، فصعد مذعور بن عدي العجلي والقعقاع بن عمرو التميمي ومعهما بقية الحبال، فوثقوها في أعلى الأسوار، ثم قال خالد لمن معه: إذا سمعتم تكبيرنا من فوق الأسوار فانهدوا إلينا، ثم نزل خالد ومن معه من أعلى الأسوار وسط تكبيرهم، ثم قتلوا حارس الباب، ثم ضربوا الباب ففتحوه، وظل سيف الإسلام خالد الليل بأكمله يحصد من أمامه حصداً، حتى سارع جند الروم وقالوا: افتحوا الباب لـ أبي عبيدة لئلا يفنينا خالد، فالتقى جيش خالد بجيش أبي عبيدة عند سوق الزياتين بدمشق. أما المعركة الثانية التي خاضها سيف الإسلام خالد بن الوليد ضد الروم فهي معركة اليرموك، وقد أنهت الوجود الصليبي في بلاد الشام، وكانت بين قيصر وقائد جنده ماهان، وهو أقوى فارس في إمبراطورية الروم، وبين جيش الصحابة وفيه مائة بدري على رأسهم معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام، فقد كان قائد الميمنة، وفي القلب وعلى الفرسان سيف الله خالد بن الوليد، وهو البطل الذي أمر نفسه في هذه المعركة الفاصلة، وأبو عبيدة أمين هذه الأمة والقائد الأعلى للقوات، وقيس بن مكشوح المرادي، وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم من صناديد المسلمين. وكان سيدنا أبو هريرة ينادي: أتفرون عن الجنة، وأبو سفيان بن حرب يقول: يا نصر الله اقترب، يا نصر الله اقترب، وكانت المعركة الفاصلة التي أنهت وجود الروم في بلاد الشام، فقد بلغ عدد الذين قتلوا من الروم مائة وعشرين ألفاً، ثمانون ألفاً منهم قتلوا مقترنين بالسلاسل، وكانوا قد ربطوا أنفسهم بها، وأربعون فروا فقتلوا في منحدر جبلي تتبعهم المسلمون حتى سقطوا، وقتل صناديد الروم ورؤساءهم، وقتل أخ لـ هرقل، وانتهت قصة الروم في أرض الشام. أتوا وهم يرون أنهم لا غالب لهم من الناس، ففي بداية المعركة يجئ هرقل وينادي خالداً: عودوا نوصي لكل رجل منكم بعشرة دنانير، ونوصل إلى أميركم بالمدينة عشرين ديناراً، ونوصي لكل رجل منكم حمل بعير من التمر والبر والشعير، وكسوة الصيف، وكسوة الشتاء، نحن نعرف أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجوع والجهد، فعودوا، فأجابه سيف الإسلام خالد بعزة المسلم: والله إنا قوم نحب شرب الدماء، وقد بلغنا أن دماء الروم من أحلى الدماء مذاقاً، فلا نعود إلا بشرب دمائكم. وكان المغيرة بن شعبة قد قال للرسل قبل مثل كلام خالد إذ قال: والله إن حبة بأرضكم تسمونها الحنطة منذ أطعمناها لأولادنا وهم يصيحون بنا: لا تأتون إلا بها، فلا نعود إلا بهذه الحبة من الحنطة. إنها عزة المسلم المقبل على الله عز وجل ولا يتمنى إلا الشهادة في سبيله. ولما فر الروم من خالد بن الوليد وجيشه ولما اختبئوا في الحصون قال لهم: والله لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا حتى نقاتلكم. نحن في هذه الأيام بحاجة إلى قلامة ظفر من سيدنا خالد إلى شسع نعله إلى حافر فرسه هل يقدر لظهور الخيل التي ركبها أبو سليمان أن يمتطيها بطل غيره، فيعيد للإسلام عزته، ويعيد للمسلمين مكانتهم؟! فانظر إلى واقع المسلمين وإلى التاريخ حتى لا تصاب باليأس، وفي التاريخ أكبر العظة، فهذا مسلمة بن عبد الملك يسمى الجرادة من كثرة ما قتل من جيوش الروم، وكان أولى بالخلافة من إخوته جميعاً كما قال الإمام الذهبي، وهو أول قائد من قواد المسلمين يغزو بلاد الروم في عقر دارهم، وكان معه بطل من أبطال المسلمين يسمى عبد الله البطال، يذكر أن المرأة من بلاد الروم كانت إذا أرادت أن تخيف ابنها تقول: نم وإلا أقول: خذه يا بطال! وقد سئل مرة: ما أغرب ما رأيت؟ قال: بينما أنا أمشي في بلاد الروم وإذا بي أمر تحت نافذة أحد البيوت، وإذا بامرأة تقول لطفلها وقد استعصى عليها تريد أن تنيمه: اسكت وإلا أقول: خذه يا بطال، ثم أخرجته بيدها من النافذة فتلقفته منها، وهذا يبين مدى تأثير صناديد المسلمين في الروم وهم سادة الدنيا في ذلك الوقت.

هارون الرشيد وصده للمد الصليبي

هارون الرشيد وصده للمد الصليبي يذكر التاريخ أيضاً أن هناك قواد وأمراء وقفوا أمام المد الصليبي سواء من الغرب أم من الشرق، منهم هارون الرشيد، الخليفة البكاء المفترى عليه، الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً، وقد فدى أسرى المسلمين مرتين: المرة الأولى كانت عام 181هـ فدى فيها من أسرى المسلمين 3700 أسير، والمرة الثانية كانت سنة 192هـ فدى فيها من المسلمين 1500 أسير، ولم يبق في ديار الروم أسير واحد من المسلمين، والخليفة هارون الرشيد هو الذي فتح حصن الصفافي عنوة سنة 181هـ، ومما يذكر في التاريخ أن نقفور ملك الروم أرسل إليه خطاباً قال فيه: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ -والرخ طائر كبير يرتفع في السماء- وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها -أي من أموال الروم- ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها، ولكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأ هارون الرشيد الكتاب استفزه الغضب حتى لم يمكن لأحد أن ينظر إليه ويخاطبه، واستعجم الرأي على الوزير ماذا يكتب، فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتاب ملك الروم: من هارون ملك العرب، إلى نقفور كلب الروم أما بعد: يا ابن الكافرة! فالجواب ما ترى دون ما تسمع، ثم انطلق بجيش ضخم وأدب ملك الروم وألزمه الجزية. هكذا كان هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه، فأين القائلون أنه صاحب ألف ليلة وليلة، وأن هارون كان يتعاطى الخمر، والحق أن هارون ما كان يشرب إلا نبيذ التمر؛ لأن مفتيه كان حنفي المذهب وهو أبو يوسف القاضي، وكان يبيح نبيذ التمر، وقد عرف عنه أنه كان بكاء، وذكر أن مجموع ما كان يصليه هارون الرشيد في اليوم والليلة مائة ركعة.

جهود بعض قادة المسلمين في الحد من الزحف الصليبي

جهود بعض قادة المسلمين في الحد من الزحف الصليبي ويأتي بعد ذلك فاتح عمورية الخليفة المعتصم. أما سمعت بأرض الروم مسلمة تشكوا لمعتصم ظلم المغيرينا فتسبق الخيل أصوات استغاثتها وتملأ الكون صيحات الملبينا وتصرخ اليوم آلاف مؤلفة فهل سمعت سوى أحزان باكينا ونحن نسمع أصوات استغاثتها وليس نسمعها إلا أغانينا خضر مرابعنا بيض صنائعنا سود وقائعنا حمر مواضينا ويذبح الطهر طهر البكر في دمه ونحن نسبح في أحلام ماضينا يذكر التاريخ: أن امرأة اعتدى عليها رجل من الروم فقالت: وامعتصماه، فلما وصله خبر استغاثتها، وكان قد دعا بشراب ليشربه، فوالله ما شرب منه شيئاً، وقال للساقي: أبقه حتى أعود من غزو الروم، ثم قال: أي مدنهم أمنع، قالوا: عمورية، فانطلق على رأس الجيش إلى عمورية، وكان النصر والفتح بإذن الله. فقد وجه المسلمون للروم صفعات عظيمة لا تنسى على مدار التاريخ. ومن المعارك المشهورة في تاريخ الإسلام معركة ملاذكرد، وهي معركة عظيمة نصر الله عز وجل فيها المسلمين، وكانت بين السلطان ألب أرسلان وقسطنطين الرابع امبراطور الروم سنة 643هـ، وكان عدد المسلمين في هذه المعركة لا يزيد عن 15000 مقاتل، وعدد الروم 200000 فارس، ومعهم من الرجالة 35000 مقاتل، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية 15000، ومعهم 100000 نقاب وحفار، و400 عجلة تحمل النعال والمسامير، حتى إن ألب أرسلان عرض الهدنة وعرض المال؛ لأنه خاف أن تستأصل شأفة المسلمين عن آخرهم، وأن يباد الجيش المسلم عن آخره، فقد وصل مجموع جيش الروم إلى عدد مهول ومجموع المسلمين لا يزيد عن 15000 مقاتل. واقترب موعد اللقاء فصلى السلطان بالناس، ودعا وأمنوا، وبكى السلطان، وعفر وجهه في التراب، ثم خطب فقال: يا معشر الجند من شاء منكم أن ينصرف فلينصرف، فما هاهنا سلطان، وعقد ذنب حصانه بيده، ولبس البياض وتحنط، فأسرع الجيش وتحنط ولبس كل رجل كفناً، فكان يسمى هذا الجيش في التاريخ بجيش الأكفان، وكانت المفاجأة والنصر والتأييد، فقد دارت الدائرة على امبراطور الروم وهزم وقتل أصحابه وأعوانه، ونودي في آخر النهار: من يشتري أمبراطور الروم قسطنطين الرابع؟ فنادى أحد الجند من أقصى الجيش وقال: لا أشتري الكلب إلا بكلب. ولا عجب فقد أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لتغزون عصابة من أمتي البيت الأبيض)، وهو بيت كسرى. ومن الأمثلة على مدار التاريخ الإسلامي: أمير المؤمنين محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، صاحب موقعة قريش، كان من ملوك المسلمين بالأندلس، فجمع له النصارى في الأندلس ما جمعوا، حتى ضاق بخيل العدو الفضاء الواسع، فدخل الشك في نفوس الأمراء، وظنوا ألا نجاة من الكفار، فصاح رجل المسلمين بقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، ثم جاء إلى الأمير فقال له: يا أمير المؤمنين! والله ما حذرت نفسي، إنه لا رأي لمن لا يطاع، ولست أستطيع أن أجاهد وحدي، فقال له الأمير: وأنا معك، والله ما قذف بهذه الكلمة على لسانك إلا ملك، ثم كان النصر في نهاية اليوم، بعد أن تحالف كل ملوك أوروبا: ملك قشتالة، وملك البشكنش، وملك فرنسا كلهم يريد قتال محمد بن عبد الرحمن، فانتصر عليهم في معركة سليط. ومن النماذج في التاريخ الإسلامي أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر مؤدب ملكي ليون ونافار في غزوة موبش، إذ اعتصم في حصن موبش 100000 مقاتل، فرمى الملك الناصر الحصن بالمنجنيق، وأخرج مقاتلي الصليبين من صياصيهم، فقدموا إلى الناصر فقتلهم وأبادهم جميعاً، وغنم المسلمون ما في الحصن. وممن يذكره التاريخ الإسلامي قائداً عظيماً من قواد المسلمين، وأميراً من أمرائهم، وهو الملك العظيم الحاجب المنصور، ومن أعاجيب هذا الملك أن أغلب جنوده كانوا ممن وقعوا في السبي فأسلموا، ولم يتفق هذا لغيره من الأمراء، ولا لغيره من الملوك، ولم تهزم له راية قط، وكانت له غزوات في الصيف، وأخرى في الشتاء، وبلغ مجموع غزواته ضد الصليبين في أسبانيا وغيرها 50 غزوة. ومما يؤثر عنه أنه كان يجمع غبار المعارك فتوضع معه كحنوط، أو لتصنع منها لبنات توضع في قبره، وكان مرة من المرات يمر بين جبلين -وقد كان يفعل الأفاعيل بجيوش الصليبيين- فاجتمعوا خلفه يريدون حصاره وجيشه، فما كان منه إلا أن نصب البيوت في بلاد الأسبان، ثم قال: نحن لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى، ولذا فسنقيم هاهنا إلى وقت الغزوة الأخرى، فإذا غزونا عدنا. ثم ظل يقاتلهم حتى يئسوا منه، فما زال الفرنجة يسألونه أن يرحل إلى أن ألزمهم أن يحملوا على دوابهم الغنائم والسبي، وأن يمدوه بالطعام والمال ما يزوده في طريق عودته إلى أن يصل إلى بلاد المسلمين، وأن يحملوا وينحوا دية القتلى بأنفسهم. وهو بذلك يجسد عزة الرجل المسلم. ومن النماذج في التاريخ الإسلامي القائد المسلم الملقب بـ المنصور، فقد وصل إلى أقصى مدن الصليبيين، إذ ظل يسير قرابة أربعة أشهر في الجبال الشاهقة، وغزا مدينة تسمى شمس ياقب، وقد سميت هذه الغزوة باسم شمس ياقب، وكانت أعظم مدن النصارى بعد بيت المقدس، وكان غزوه لها سنة 387 هـ ووصل إلى أقصى مكان من أسبانيا في بلادهم، ومن ذلك الأقوال المأثورة لهذا الملك العظيم: الملك لا ينام إذا نامت الرعية، قال: ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة، يريد أنه لو نام لاحتلت جيوش الغزاة بلاد المسلمين. روى شجاع الملك المستعين بن هود القصة التالية: قال: عندما ذهبت لمقابلة ملك النصارى الفونسو وجدته في مدينة تالي، وقد نصب على قبر الحاجب المنصور سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه، فقال لي: يا شجاع! أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين، وجلست على قبر ملكهم، فحملتني الغيرة على أن قلت له: لو تنفس صاحب هذا القبر - الحاجب المنصور - ما سمع منك ما يكرهه، قال: فهم أن يبطش بي، فحالت امرأته -الملكة- بيني وبينه وقالت: صدقك والله. ومن النماذج في التاريخ الإسلامي أمير المرابطين يوسف بن تاشفين بطل معركة الزلاقة هو والمعتمد بن عباد التي وقعت في مثل هذا الشهر؛ شهر رجب، ففي هذا الشهر دارت رحى أكبر معركة خاضها المسلمون في الأندلس، والصليبيون يسمونها معركة فكر الياس، وقد كانت بين يوسف بن تاشفين بجيشه من البربر من المغرب والمسلمين في أسبانيا، وبين تحالف عباد الصليب وملوكهم: الفونسو السادس ملك قشتالة، وشانشو ملك أرغون، والقنط برنجار وفرسان من ولايات فرنسا الجنوبية، ولعب البابا دوراً عظيماً في الحث على قتال المسلمين، وأرسل الفونسو إلى ملوك النصارى في أوروبا لقتال المسلمين، فأرسل إليه يوسف بن تاشفين رسالة قال فيها: بلغنا أنك دعوت للاجتماع بك، وتمنيت أن يكون لك فلك تعبر بها البحر إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]. وكانت هذه المعركة العظيمة التي انتصر فيها الجيش المسلم، وهرب الفونسو عندما حل الظلام، ولم ينج من جيش الفونسو إلا 400 أو 500 رجل، وكان مجموع من قتل في هذه المعركة 18000 صليبي، وأسر الباقون. وفي نهاية المعركة صفت الرءوس على شكل هرم، ثم أمر فأذن للصلاة من عليها، وكانت معركة الزلاقة أو هذه المعركة التي يسمونها فكر الياس. ومن المعارك العظيمة التي دارت بين المسلمين وأعداء الله من الصليبين وغيرهم والتي تشبه معركة الزلاقة: معركة الأرك بين أمير المؤمنين يعقوب بن يوسف وبين الملك الفونسو الثامن ملك قشتالة قائد جيوش الصليبيين، فقد أرسل الفونسو الثامن برسالة إلى الملك المنصور فمزقها وكتب في ظهرها: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، وكانت المعركة العظيمة -معركة الأرك- التي انتصر فيها المسلمون. ولا يزال التاريخ الإسلامي يذكرنا بصفحاته البيضاء، في مشارق الأرض وفي مغاربها، ويرينا أبطالاً مسلمين، وحكاماً صناديد أعادوا العزة للمسلمين. ففي بلاد الهند كان السلطان فتح علي خان الذي استشهد في قتاله ضد الانجليز، وكان يقول: يوم من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى، أما الذين يرفضون هذه الحياة الكريمة، ويبخلون عن العطاء لدين الله عز وجل فإنهم يدفعون ضريبة الذل أضعاف أضعاف ما يقدمونه في ميدان البذل والعطاء. ومن سلاطين الأتراك الذين فعلوا الأفاعيل بدول أوروبا: السلطان مراد الثاني الذي حكم بلاد المسلمين وسنه 18 سنة، فقد تفرغ لقتال ملوك أوروبا، فقد قاتل أحد ملوك أوروبا وانتصر عليه، كما انتصر على أمير الصرب، وكان يدفع له جزية سنوية مقدارها 50000 دوق ذهبي، ولما اجتمعت أوروبا كلها لقتال هذا السلطان العظيم وحاصروا مدينة بارانا انتصر عليهم، وكان ذلك في 28 رجب سنة 848هـ، ومنيت جيوش أوروبا وهي مجتمعة بهزيمة منكرة. ومنهم السلطان العثماني سليمان القانوني، الذي فتح بلغراد في 25 رمضان سنة 927هـ، وحاصر بربع مليون جندي فينا عاصمة النمسا، ودفعوا الجزية له عن يد وهم صاغرون، وقد وصل الجيش المسلم بقيادته إلى الميدان الرئيسي في مدينة فينا عاصمة النمسا، إلا أن الشيعة بخياناتهم والدولة الصفوية اضطروه إلى أن يفك الحصار عن

مهما كبتت الأمة فلا بد أن تستيقظ

مهما كبتت الأمة فلا بد أن تستيقظ أتت على المسلمين أيام بلغوا فيها من الذل مبلغاً عظيماً، ومن الهوان ما ليس بعده هوان، ففي أيام حكم الفاطميين لمصر -والفاطميين من غلاة الشيعة الإسماعيلية- الذي استمر 208 سنوات أذلوا المصريين أيما إذلال، ومن ملوكهم الذين اشتهروا بذلك المعز لدين الله الفاطمي وكان أول خلفائهم، فقد أرسل جوهر الصقلي لبناء مدينة القاهرة وبناء المسجد الأزهر؛ لنشر الفكر الشيعي، ولسب الصحابة، ثم شاء الله عز وجل له أن يعود إلى أهل السنة على يد البطل السلطان صلاح الدين الأيوبي، ومن أعمال الفاطميين أنهم لما جاءوا إلى مصر أمسكوا بكبير علماء المصريين وكبير حفاظهم أبو بكر بن النابلسي، فقال له المعز لدين الله -الخليفة الفاطمي-: بلغنا أيها الرجل أنك تقول: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً للرافضة وتسعة لليهود والنصارى، قال: ما هكذا قلت، ولكن قلت: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً لليهود والتسعة الباقية للرافضة، فقال له المعز: لماذا؟ فأجابه: لأنكم غيرتم دين الأمة، وأطفأتم نور السنة، وادعيتم ما ليس لكم، فأمر بسلخه حياً، وأمر أن يقوم بسلخه يهودي، فسلخه اليهودي حتى وصل السلخ إلى منطقة القلب فرق له فطعنه بخنجر فقتله. حكى ذلك الحافظ الذهبي في كتابه القيم (سير أعلام النبلاء). وقد كان بدر الجمالي أمير الجيوش -وهو والي فلسطين من قبل الفاطميين- فلما جاءت جيوش أوروبا وجيوش النصارى يقودها بطرس الناسك ومعه ملوك أوروبا سقطت في أيديهم الرهى، وهي أول مدينة مسلمة تسقط في أيدي الصليبيين، ثم مدينة أنطاكية، وكانت في أيدي السلاجقة، ولم يكن لديهم أدوات حربية فسقطت الواحدة تلو الأخرى، ثم استمر زحفهم إلى بلاد المسلمين في بلاد الشام حتى وصلوا معرة النعمان فأوسعوا المسلمين قتلاً، والروايات الأوروبية التي تحكي الغزو الصليبي والحملات الصليبية تذكر أنهم قتلوا عدداً كبيراً من المسلمين في معرة النعمان، وقاموا بسلخهم بعد موتهم مباشرة، ثم شيهم وأكلوهم، وهذا ثابت في كل الروايات الأوربية التي تعرضت للحملات الصليبية. ثم بعد ذلك واصلوا زحفهم إلى بيت المقدس، وكان بدر الجمالي أمير الجيوش وغيره من قادة الفاطميين، فما شهروا في وجه الصليبيين سيفاً، ولا أرسلوا سهماً، وكل الذي عملوه أنهم سلموا للصليبين القدس، ولما سلموها قتل الصليبيون في هذا اليوم من المسلمين 70000 في بيت المقدس، حتى ما استطاع القائد الصليبي أن يدخل إلى المسجد الأقصى إلا بعد أن غاص بين جثث المسلمين إلى ركبتيه، وجعلوا من المحراب الأكبر مكاناً لخيولهم وخنازيرهم، وعلقوا على قبة الصخرة صليبهم الأعظم، وظلت ديار المسلمين يجول فيها الشيعة الرافضة فما أن يروا قائداً يهب لجهاد الصليبيين إلا وقتلوه، فقتلوا الأمير ممدود الذي كان من أبطال المسلمين الذين قاتلوا الصليبيين في بلاد الشام، قتلوه وهو خارج من المسجد بعدما صلى الجمعة، وقد أرسل ملك الصليبيين إلى كبير المسلمين يقول له معاتباً: إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، -يوم الجمعة- في بيت معبودها -في المسجد- حقيق على الله أن يبيدها. ثم أذن الله عز وجل أن يعود مجد المسلمين على يد بطل يسمى عماد الدين آق خنقر زنكي بن زنكي، وهو أبو البطل نور الدين محمود زنكي، فقد أذاق الفرنجة الويلات، يقول عنه ابن كثير: كان من أحسن الملوك سيرة، وأجودهم سريرة، وهو الذي أعاد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن دب الوهن في قلوبهم، وفتح مدينة الرهى، أول مدينة سقطت من بلاد المسلمين. ثم اغتاله المماليك وهو يحاصر حصون الصليبيين، فتولى الإمارة من بعده ابنه ليث الإسلام نور الدين محمود زنكي، يقول عنه الإمام أبو شامة الشافعي: أطربني ما رأيت من آثاره، وسمعت من أخباره، مع تأخر زمانه، ثم وقفت بعد ذلك على سيرة سيد الملوك من بعده الملك الناصر صلاح الدين، فوجدتهما في المتأخرين كالعمرين -أي: كـ أبي بكر وعمر - في المتقدمين، فلله درهما من ملكين تعاقبا على حكم السيرة، وجميل السريرة، والفضل للمتقدم -يريد نور الدين - فإنه أصل ذلك الخير كله للمسلمين -لأن صلاح الدين ما هو إلا عامل من عماله- فهو الذي مهد الأمور بعدله وجهاده وهيبته في جميع بلاده، ولكن صلاح الدين أكثر جهاداً، وأعم بلاداً، صبر وصابر، وسخر الله له من الفتوح أنفسها. وكان أول شيء عمله نور الدين محمود زنكي أنه أصلح الجبهة الداخلية، فقمع الرافضة، وأظهر السنة في حلب ودمشق بعدما كان الشيعة متسلطين عليها، ويذكر أنه لما حاول بعض أمراء المسلمين أن يعيدوا السنة كان الشيعة يسحبون الحصر في المسجد الجامع من تحت أرجل المصلين، ويقولون: هذه لـ علي بن أبي طالب، فإذا أراد أبو بكر أن يصلي فليأت بحصر له. وبعد أن قمع نور الدين محمود زنكي الرافضة والشيعة بحلب أرسل أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي إلى مصر؛ من أجل أن يعين المصريين على طرد الشيعة، ومما يذكر عن هذا البطل العظيم أنه ما فاتته صلاة الجماعة، وكان له قبيل الفجر ركعات يركعها في المسجد قبل أن يأتي الإمام، وقبل أن يأتي المؤذن ليؤذن لصلاة الفجر، وكان هو السلطان الذي ملك بلاد الشام كلها يعمل الأغلاف والسكاكر، وكانت له عجائز يبعن هذه الأغلاف والسكاكر سراً، ويعيش عليها، ويعيش من سهمه في الغنيمة. ويذكر أن زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون بنت معين الدين أنر كانت كثيرة الصدقة، وكانت ترسل إليه أن يأتي إليها بالمال فيقول: ليس لي إلا ثلاثة دكاكين بحمص فخذيها، وأما ما أنا فيه من المال فإنما أنا خازن فيه للمسلمين، لا أخوض النار في هواك. ويذكر أنه كان في رمضان يمتنع عن طعام المملكة ويرسل إلى شيخه عمر الملا بالموصل ليأتي إليه بالرقاق ليعيش عليه طيلة الشهر. هذا السلطان العظيم يقول عنه الذهبي: قل أن ترى العيون مثله. وقال ابن الأثير: ما حكم البلاد بعد عمر بن عبد العزيز أعدل من هذا الملك العظيم. ومما ذكروا عنه: أنه كان مدمناً لصلاة الليل. قال ابن الأثير: وكذلك كانت زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، فقد ذكروا أنها قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها، فقالت: فاتني وردي البارحة فلم أستطع أن أصلي من الليل شيئاً، فأمر بضرب طبل خانة توقظ الناس لصلاة وقيام الليل. وكان هذا الملك العظيم يتعرض للشهادة كما قال كاتبه أبو اليسر، ويسأل الله عز وجل أن يحشره إليه من حواصل الطير وبطون السباع، وكان شيخ الديار المصرية والشامية قطب الدين النيسابوري يقول له: بالله عليك يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فأنت سور الإسلام ومنعته، ولو قتلت ما بقى في المسلمين أحد إلا وأعملوا فيه السيف، فيرد عليه هذا البطل العظيم ويقول: اسكت يا قطب الدين! هذه إساءة أدب مع الله عز وجل، من كان يحفظ البلاد والعباد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ وكان قاضية القاضي كمال الدين يجلس للقضاء بعد أن تفشى الظلم في الجنود والقواد ويجلس معه في المجلس نور الدين مرتين كل أسبوع. ويذكر أن أسد الدين شيركوه نائبه على المملكة جمع الحاشية والجند ثم قال: لو أوقفتموني أمام نور الدين لصلبتكم، قالوا: إذاً يطمع في مالك العامة، قال: والله لضياع ملكي أهون عندي من أن ينظر إلي نور الدين بعين ظالم، فلما سمع بذلك نور الدين سجد لله شكراً وقال: الحمد لله الذي جعل عمالنا ينصفون من أنفسهم قبل المجيء إلينا. ومما يؤثر عنه أنه كان يكثر الصلات والنفقة على فقراء المسلمين وزهادهم وعبادهم، ويقول: كيف أقطع صلاتي بقوم يدافعون عني بسهام في الليل لا تخطئ، وإنما أنصر وأرزق بدعائهم وبإخلاصهم، وكان هذا البطل العظيم جذوة مشتعلة من الشعور بهم المسلمين، سكن الديار الشامية وكان سلطانها، وكان جيشه بمصر، فلما بلغه أن الفرنجة نزلوا على دمياط في الديار المصرية على الساحل المصري أرسل الجيش لقتال الفرنجة، وامتنع عشرين يوماً عن أكل الطعام، فما كان له إلا الشراب حتى بلغ به الضر والجهد، وأشار عليه الأطباء أنه يعرض نفسه للهلكة، فلم يكن يستطيع أن يسيغ الطعام والمسلمون محاصرون بمصر. ومما يذكر عنه أحد قواد جيشه أن حدثه بحديث مسلسل بالتبسم فلم يبتسم، فراجعه أن يبتسم حتى يتم له سلسلة السند، فقال: إني لأستحي من الله عز وجل أن يراني مبتسماً والفرنجة يحاصرون دمياط. واستمر به الحال حتى رأى إمام مسجده الإمام يحيى رسول الله في المنام يقول له: يا يحيى! بشر نور الدين محمود زنكي برحيل الفرنجة عن دمياط، قال: وهل من علامة يا رسول الله؟ قال: قل له: علامة تل حارم. ثم قص عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة: أنه لما اشتد الكرب بالمسلمين في يوم حارم، وهذه كانت أعظم معركة بينه وبين النصارى الصليبيين، وقتل فيها 10000 وأسر 10000، لما اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن فرسه وجواده وعفر خديه في التراب، وقال: اللهم إن هؤلاء عبادك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك -والقصة يرويها أبو شامة في عيون الروضتين في المجلد الأول- ثم قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محمود، أيش دخل محمود الكلب بين الله وبين عباده؟! وكان هذا النصر بداية وتمهيداً لفتح بيت المقدس على يد البطل صلاح الدين الأيوبي، وانتصر المسلمون في هذه

خلق الحياء

خلق الحياء إن لكل دين خلقاً، وخلق دين الإسلام الحياء، والحياء له فضل ومنزلة عظيمة عند الله عز وجل، وهو على أقسام أعلاها حياء العبد من ربه، فيقلع عن المعصية، وبالحياء يرزق المؤمن الخوف منه سبحانه لا من غيره، وحياء الأنبياء والصالحين نبراس لنا في ترك معاصيه سبحانه، والائتمار بأوامره.

خلق الحياء ومنزلته في شعب الإيمان

خلق الحياء ومنزلته في شعب الإيمان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين، ثم أما بعد: حديثنا اليوم بعون الله وتوفيقه إليكم عن العلم الأكبر كما قال ابن عطاء، وعن رأس مكارم الأخلاق كما قالت السيدة عائشة، عن خلق الإسلام: الحياء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وإن خلق الإسلام الحياء) والحياء تعبد لله عز وجل بأسمائه: الحيي والرقيب والعليم والخبير والشهيد. وهي حالة تنشأ كما قال الجنيد رحمه الله من رؤية الآلاء ورؤية التقصير، أي: رؤية نعم الله تبارك وتعالى عليك، وتقصيرك ومعاصيك، فتنشأ بينهما حالة تسمى الحياء. قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. وقال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]. وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52]. وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. وروى الإمام أبو داود في سننه بسند فيه انقطاع، ووصله الطبراني في الصغير والبيهقي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من فعلهن فقد طعِم طَعْم الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا هو، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من أوسط أموالكم)، وزاد البيهقي: (وزكى نفسه، فقال رجل: وما زكى نفسه يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان). وقال سيدنا عبد الله بن عمر: لن يجد العبد صريح الإيمان حتى يعلم أن الله معه حيث كان، فلا يعمل بسر يفتضح به يوم القيامة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من شعب الإيمان). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق). والعي: هو عدم الخوص باللسان كثيراً؛ مخافة أن يقع الإنسان في الباطل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الحياء في شيء إلا زانه، وما كان الفحش في شيء إلا شانه). فعكس الحياء: القحة والبذاءة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يستحيي أن يرفع إليه العبد يديه فيردهما صفراً خائبتين). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستِّير، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر). قال الإمام ابن القيم: وحياء الله عز وجل حياء لا تكيفه العقول، ولا تدركه الأفهام، فإنه حياء بر وجود وكرم، يستر على العاصي وهو يعلم أنه من عصاه. قال: والحياء صفة من صفات الله عز وجل، ومن تقرب إلى الله عز وجل بصفة من صفاته مما ينبغي أن يتقرب بها أدخلته على الله عز وجل، وقربته من الله عز وجل، وأدنته من الله عز وجل، وصيرته محبوباً، فإن الله عز وجل عليم يحب العلماء، رحيم يحب الرحماء، جواد يحب الجود. فالإنسان يتخلق بهذه الصفة من صفات الله عز وجل على معنىً يليق به، وليست كل صفات الله عز وجل مما ينبغي للعبد أن يتخلق بها، فصفة الكبرياء خاصة بالله تبارك وتعالى، وينبغي للعبد ألا يتخلق بها، وأما صفة الرحمة وصفة الحياء فينبغي للعبد أن يتخلق بهما على معنى يليق بالعبد، فالعبد عبد والرب رب.

أقسام الحياء

أقسام الحياء والحياء يأتي على أقسام عشرة: حياء الجناية، وحياء التقصير، وحياء الإجلال، وحياء الحشمة، وحياء الكرم، وحياء استصغار النفس، وحياء المحبة، وحياء العبودية، وحياء الشرف والعزة، وحياء المستحيي من نفسه.

الحياء من الناس

الحياء من الناس قالوا: أحي حياءك بمجالسة من يستحيا منه. وقال مجاهد: لو لم يكن من مصاحبتك للصالحين إلا أنهم يمنعونك من المعاصي حياءً لكان في هذا خير. أي: أنك لو لم تستفد من جلوسك وصحبتك للصالحين إلا أن تقلع عن الذنوب حياءً وخجلاً منهم لكفى. ومن الناس من يتساهل، فإذا نسيت نفسك ونسيت أهلك وزوجك وأولادك، فلا تنس ثلاثة مواقف: موقفاً بين يدي الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان، فعن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا سيخلو بربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا يرى إلا ما قدم). يوم يعاتبك الله عز وجل على سيئاتك ويذكرك بها: أتذكر ذنب كذا يوم كذا وكذا، هذا الموقف لا تنساه أبداً، فإذا نسيت كل من حولك فلا تنس أنك ستخلو بربك يوماً من الأيام. والموقف الثاني: وأنت على الحوض وتنظر إلى رسول الله لأول مرة، وما نظرت إليه قبلها، انظر بحياء المحبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكيف تخاطبه وكيف تكلمه حين يسألك عن ميراثه، ماذا فعلت به؟ موقف عظيم تتقطع دونه القلوب حسرة. والموقف الثالث: حين يصاح بك على رءوس الخلائق: فلان بن فلان، وتتشابه الأسماء، فوالله ما يستقر في قلبك إلا أنك أنت المراد، فتصرخ على رءوس الأشهاد، يقول صلى الله عليه وسلم: (يرفع لكل غادر لواء غدره يوم القيامة عند استه، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) هذا في غدر الناس بالناس، فكيف في قلبك مع ربك، وفي نقضك لعهدك مع الله عز وجل، وكيف بميثاق الفطرة الذي أودعه فيك، ماذا تقول لربك؟! قال تعالى: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، وقوفك بين يدي الله عز وجل ووقوفك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقوفك على رءوس الأشهاد. فيا سوأتا والله راءٍ وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا

الحياء من الملائكة

الحياء من الملائكة الحياء من الملائكة صفة من صفات الصالحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأصدق أمتي حياءً عثمان). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة)، فسيدنا عثمان كان لا يفيض الماء إلا وهو متستر بثوبه، وكان يغتسل ولا يقيم صلبه؛ حياء من الله عز وجل. وما أكذب عبد الرحمن الشرقاوي حين قال: إن سيدنا عثمان قص على الصحابة ما كان بينه وبين زوجه! فهذا الرجل قد يكذب على أي شخص، لكن على أحيا الأمة عثمان بن عفان فهذا مستحيل! فالحياء من الملائكة واجب، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11]، أي: فاستحيوا منهم. ولا أقبح ممن لا يستحيي من الجليس، ولذلك يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: ما على أحدكم إذا خلا بنفسه أن يقول لملكيه: اكتبوا على بركة الله، ثم يفعل الخير. وكان أبوه يستشعر قرب الملائكة من مجلسه فيقول: يا ملكي ادعوا الله لي، فأنتما أطوع لله مني. فالإنسان يستشعر قرب الملائكة الأقران فيكرمهم؛ لأنهم أحق بالكرم.

حياء المستحيي من نفسه

حياء المستحيي من نفسه الرجل الذي يستحيي من الناس ولا يستحيي من نفسه ليس لنفسه عنده قدر، فهو يفعل في السر ما يستحيي أن يطلع عليه الناس في العلانية، فليعلم أن نفسه عنده هينة، ولو كان لنفسه عنده قدر لاستحيا منها، فيجعل من نفسه نفسين: نفساً تفعل معصية، ونفساً تحاسبها وتعاتبها.

الحياء من الله سبحانه

الحياء من الله سبحانه والحياء على أنواع أعلاه وأفضله الحياء من الله تبارك وتعالى؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحيي من الله حق الحياء، قال: ليس ذاكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). فقوله: (فليحفظ الرأس وما وعى) أي: حتى الوساوس حتى خطرات النفس تحفظها لله عز وجل. وقوله: (وما وعى) أي: العين والشم والسمع تحفظه لله تبارك وتعالى، وقال أهل العلم: أعلى من هذا درجة حديث السر الذي ينشأ في رأسك، قال ثور بن عبد الله التستري: أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، أي: من العمل السيء. وقوله: (والبطن وما حوى) أي: ينظر من أين طعامه، ومن أين شرابه، فلا تكن الرجل الذي طعامه من حرام، وشرابه من حرام، ويطيل السفر أشعث أغبر، ثم يقول: اللهم ارزقني، لا يستحيي من الله تبارك وتعالى، فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى. قال بشر بن الحارث الحافي: لو صفا لي درهم من حلال لاشتريت به دقيقاً، ولصنعت منه خبزاً، ثم دققته، ثم مررت به على المرضى أداويهم به. قوله: (وليذكر الموت والبلى) فمن ذكر الموت هانت عليه شهواته، ومن تذكر عذاب القبر ومنكراً ونكيراً، هانت عليه شهواته. قوله: (ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا) فاستحي من الله عز وجل أن يراك ماضياً إلى الدنيا بقلبك، والله عز وجل لم ينظر إليها، فقد قال النبي صلى الله علي وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). الحياء من الله عز وجل يتولد من معرفة العبد لمقام الله عز وجل، ولذلك قال بلال بن سعيد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها. وقال أحدهم: يا رب! أتراك ترحم من لم تكن عيناه للمعاصي، حتى علم ألا عين تراه غيرك. فيا أخي المؤمن لم جعلت الله أهون الناظرين إليك؟ لم لا تستحيي من الله عز وجل؟ يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أوصيك أن تستحيي من الله عز وجل كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك). يا من يشير إليهم المتكلم وإليهم يتوجه المتظلم وشغلتم كلمي بكم وجوارحي وجوانحي أبداً تحن إليكم وإذا نظرت فلست أنظر غيركم وإذا سمعت فمنكم أو عنكم وإذا نطقت ففي صفات جمالكم وإذا سألت الكائنات فعنكم وإذا رويت فمن طهور شرابكم وبذكركم في خلوتي أترنم فعليك أن تجعل الله عز وجل أعظم ما تحن إليه. كان عمرو بن عبد القيس ينام في البراري، وهو من دهاة العرب، فقالوا له: أما تخشى من السبع؟ قال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن أخشى غيره وأنا في سلطانه. مع أن هذا خوف جبلّي، والإنسان يخاف من الأسد، ولكن هذا كان خوفه من الله أعلى مما جعله لا يخاف من الأسد. وسيدنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حسنه الشيخ الألباني أنه وقع في أسر الروم، ففر من الأسر، فبينما هو على الطريق إذ لقيه الأسد فقرب منه وقال له: يا أبا الحارث! -وهذه كنية الأسد- أنا مولى رسول الله، وكان من أمري كذا وكذا وكذا، وجلس يحكي للأسد، قال: فبصبص الأسد -أي: حرك ذنبه يميناً ويساراً- حتى أوصله إلى مأمن الجيش. وهذا عمرو بن عتبة بن فرقد الإمام التابعي العظيم كان والده قائداً لجيش من جيوش المسلمين، هذا الرجل الصالح ما كان يتحرك في صلاته، وفي ذات ليلة أتى السبع ففر الجيش وهو واقف في صلاته فما انصرف، فلما انصرف قال: ابحث عن رزقك في مكان آخر، فقالوا له: أما خفت السبع؟ قال: إني أستحيي من الله عز وجل أن أخاف غيره وأنا بين يديه. وبنان الحمال دخل على أحمد بن طولون أمير مصر فأمره ونهاه ووعظه، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فأتى بسبع وألقاه إلى بنان وهو في السجن، فإذا بالسبع يشم بناناً، فقالوا له: أين كان قلبك والأسد يشمك؟ قال: إني كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع. فهؤلاء قوم لا تخطر لهم المعصية على بال؟ لأن الإنسان قد يترك المعصية خوفاً من الوعيد وخوفاً من النار، ومقام أعلى منه أن يقلع عن المعصية حياءً من الله عز وجل، فيعلم بقرب الله عز وجل فيقلع عن المعصية، وأعلى منه أن يقلع عن المعصية حباً لله عز وجل، وأن يعظم حياؤه من الله عز وجل أن يعصيه وهو يحبه. يقول عمر بن الخطاب: (من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه). ويقول مقدم الجيوش الجراح بن عبد الله: تركت الذنوب أربعين سنة حياءً من الله عز وجل، ثم أدركني الورع. يعني: ظللت أجاهد نفسي وأترك الذنوب حياءً من الله أربعين سنة، ثم بعد ذلك أدركني الورع.

حياء المحبة

حياء المحبة أما حياء المحبة فمثاله في البشر أن الرجل مثلاً إذا عقد على امرأة ولم يدخل بها، ثم ذهب إلى بيت أبيها فمجرد أن تخرج عليه تجد أن الدم يتصاعد إلى جبينه من غير أن يدري، أو يتلعثم في كلامه إذا رآها أول مرة بعد العقد، وهذه حالة يعرفها كل الناس، قال الشاعر: فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب وإني لتعروني لذكراك هزة لها بين جلدي والعظام دبيب وأما حياء المحبة بالنسبة لله تبارك وتعالى فهذا يدفعك إلى كره المخالطة للخلق، فإذا أحببت الله عز وجل، وعلمت أن الله عز وجل قريب منك، فهذا يدفعك إلى حب الله عز وجل، وهذا الحب يدفعك إلى الأنس بالله عز وجل، ويكره إليك مخالطة الخلق، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كان إذا أصحر يقول: وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك القلب بالسر خاليا وما بقى من زمان الدنيا إلا الخلوة بالله تبارك وتعالى، قيل للإمام أحمد بن حنبل: ما تشتهي؟ قال: سرداب أخلو بالله تبارك وتعالى فيه. فإذا أبعدك الله عز وجل من مخالطة الخلق، وأنعم عليك بجواره ومحبته والأنس به، فقد اجتباك الله تبارك وتعالى، ولذلك مما يقسي القلب فضول مخالطة الناس ومجالستهم، وقد نهي عن السمر بعد العشاء إلا مع زوج، أو في مطالعة العلم، لكن الناس الآن تبدأ أمورهم بعد صلاة العشاء، وجلساتهم لا تطيب ولا يحلو لهم الجلوس إلا بعد صلاة العشاء، ثم بعد ذلك يضيع عليهم الفجر، فبالله عليك هل العدد الكبير الذين يصلون في العشاء يصلون الفجر؟ فلو أقللت من مخالطتك للناس، وعلمت أن لله حقاً في حرمات الليالي لما كان هذا حالنا مطلقاً.

حياء الحشمة وحياء استصغار النفس وحياء عزتها

حياء الحشمة وحياء استصغار النفس وحياء عزتها هذا الحياء اختفى من بين الناس، كحياء سيدنا علي بن أبي طالب، حيث قال: كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكانة ابنته، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فما بال الناس قد ارتفع هذا من دنياهم، فيجلس الرجل ويحدث بهذا وبجواره ابنته ولا يستحيي، بل ويكلم الرجل حميه ونسيبه في المسألة مما يتعلق بابنته ولا يستحيي منه. ومثل الرجل يستحيي أن يسأل ربه الدنيا وهو يعلم أنها لا تساوي عند الله عز وجل جناح بعوضة، يقول أحد العباد: إني لأستحيي أن أسأل ربي الدنيا وهو مالكها، فكيف أسألها من غير مالكها؟! حياء عزة النفس وشرفها، كالرجل الكريم الجواد العظيم في هباته لله، إذا صدر منه ما هو أقل من قدره فإنه يستحيي من هذا وكأنه هو الآخذ، ولا ينظر إلى عيني الآخذ؛ لأنه يعلم كثرة السؤال، فإذا كنت مثلاً متعوداً أن تعطي أحداً من إخوانك كلما قابلته جنيهين، وفي يوم من الأيام قابلته ولا يوجد معك سوى ربع جنيه، فتعطيه هذا الربع وأنت مستحي منه تغض بصرك إلى الأرض، وكأنك أنت الذي أخذت، ومن آداب الأعطية ألا تنظر إلى عيني الآخذ، فللسؤال كسرة، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا وإياكم من هذا.

حياء العبودية

حياء العبودية هو حياء كما قال ابن القيم: ممتزج بين خوف وبين حب، ويدفعك هذا إلى استصغار ما يصدر منك في حق الله عز وجل، فتقول في نفسك: بمثل هذه العبودية أقابل الله عز وجل! ولذلك فإن العباد الصالحين دائماً يستغفرون الله عز وجل عند كل طاعة، ويقولون: مثل هذه الطاعة لا تليق بمقام الله عز وجل، فالعبد إذا تحلل من صلاته قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر؛ لأن مثل هذه العبادة لا تليق بمالك الملوك سبحانه رحمان الدنيا والآخرة، وتستقل هذا من نفسك، فهذا حياء العبودية.

حياء الإجلال

حياء الإجلال وهذا الحياء يكون على قدر المعرفة بالكيف، مثل حياء سيدنا عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه الموت قال: والله ما كان شيء أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كنت أملأ عيني من رسول الله حياءً منه، ولو قلتم لي: صفه، لا أستطيع أن أصفه. أي: لم يكن يستطيع أن يملأ عينيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً منه وإجلالاً لمقامه العظيم، كما يقول الشاعر: أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله الموت في إدباره والعيش في إقباله وأصد عنه إذا بدا وأروم سبط خياله وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه جالساً في مجلس أبي بكر وعمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مثل المؤمن لا يسقط ورقها، فوقع في الناس أنها شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فلم أتكلم إجلالاً لمكانة أبي بكر وعمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) فحدث عبد الله بن عمر والده بعد ذلك، فقال: يا بني! لئن كنت قلتها أحب إلي من كذا وكذا. وقال سيدنا عبد الرحمن بن مهدي تلميذ سفيان الثوري: والله ما كنت أستطيع أن أنظر إلى سفيان الثوري حياءً منه وهيبة. وقيل عن سفيان الثوري: كان أصفق الناس وجهاً في الله عز وجل، يعني: لا يستحيي من أحد في الحق، وهذا من غاية الحياء وكماله: ألا تستحي من مقارعة المبطلين لمقام الله عز وجل، وترفع حياءك من الله عز وجل فوق حيائك من الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يمنعن أحد هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه). ولذلك لما دخل سفيان الثوري على المهدي أغلظ له في القول وهو خليفة المؤمنين، فقال له عبيد الله وزير المهدي: لقد أسأت وتعديت، قال: اسكت فما أهلك فرعون إلا هامان، فلما ولى وانصرف قال عبيد الله للخليفة المهدي: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال: اسكت! وهل بقى في الأرض من يستحيى منه غير سفيان.

حياء الكرم

حياء الكرم مثلما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم حين أكرم ضيوفاً له فأبوا إلا الجلوس، فعاتبهم الله عز وجل: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]. ومثال ذلك أيضاً: أن تأتي إلى أخ لك فيصنع لك حق الضيف، وحق الضيافة ثلاثة أيام، فلا تنتظر حتى تأخذ متاع البيت على كتفيك وترحل، وإنما تتقي الله تبارك وتعالى في إخوانك.

حياء التقصير

حياء التقصير أما النوع الثاني من الحياء فهو: حياء التقصير، كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ثم إذا رفعوا رءوسهم يوم القيامة قالوا لله عز وجل: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]. وأي ذنب يرتكبه العبد دائر بين أمرين كما قال ابن القيم، فإذا قال العبد -حتى ولو ارتكب صغيرة-: إني أفعل هذا الذنب والله عز وجل لم يرني، ولا يطلع علي، ولا يعلم بخطيئتي، ولا يعلم بقبحي، فهذا خرج من الإسلام بالكلية، حتى ولو ارتكب خطيئة. وأما إذا قال: إني أفعل هذا الذنب وأعلم أن الله تبارك وتعالى يراني من فوق سبع سموات، وأعلم أنه مطلع علي، فهذا يدل على قمة الحياء. وفي ذلك يقول سيدنا عبد الله بن عباس: يا صاحب الذنب لا تأمن عاقبته، فما بعد الذنب أهون من الذنب، حزنك على الذنب إذا فاتك وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا عملته أعظم من الذنب، وقعودك وإصرارك على الذنب وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وامتناع فؤادك إذا حركت الريح ستر بابك، ولا ينخلع قلبك ويضطرب لنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات أعظم من الذنب. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي عامر الألهاني: (إني أعلم أناساً يأتون يوم القيامة بحسنات مثل جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثوراً، فقال ثوبان: يا رسول الله! جلهم لنا، أي: صفهم لنا نعرفهم لئلا نكون منهم، قال: هم أناس من جلدتكم، ويأخذون من الليل مثلما تأخذون، ويصلون كما تصلون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). وكم ذي معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا وتصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات الذنوب كما هيا فيا سوأتا والله راءٍ وسامعٌ لعبد بعين الله يغشى المعاصيا

حياء الجناية

حياء الجناية أما حياء الجناية: فهو ناشئ عن اعتراف العبد بذنبه، فيعلم العبد أنه أذنب، ويعلم أن له رباً فيستحيي منه، كحياء آدم عليه السلام بعد أن فعل المعصية وفر في الجنة، فقال له الله عز وجل: أفراراً مني يا آدم؟! قال: لا يا رب! بل حياء منك. وروى الإمام البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن الناس إذا اجتمعوا في عرصات القيامة وهالهم الموقف، رجعوا إلى الأنبياء، فذهبوا إلى آدم أبي البشر، وقالوا له: يا آدم! أنت أبو الخلق خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة أن يسجدوا لك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا تستشفع لنا إلى ربنا، قال: فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، فيستحيي منها ويقول: اذهبوا إلى نوح) وهكذا مع كل نبي إلى سيدنا عيسى فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته فيستحيي منها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومذهب السلف -وليس لهم مذهب سواه- جواز الصغيرة على الأنبياء، ولكن هناك فرق بينهم وبين بقية البشر، وهو أنهم إذا فعلوا الصغيرة تابوا منها في الحال وأقلعوا عنها، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة. ومن هذا الحياء حياء الفضيل بن عياض رحمه الله، حيث قال: لو خيرت أن أبعث فأدخل الجنة وبين ألا أبعث لاخترت ألا أبعث. فقيل لـ محمد بن أبي حاتم: هذا من الحياء؟ قال: نعم، من حيائه من الله عز وجل. وشهد الفضيل بن عياض موقف الناس في عرفات، فأمسك بلحيته وتساقطت دموعه على وجنتيه، وهو يقول: واسوءتاه منك وإن عفوت، واخجلاه منك وإن عفوت. والأسود بن يزيد لما احتضر وجاءه الموت، بدا عليه الجزع، قالوا: ولم الجزع؟ قال: ومن أحق مني بالجزع، ومن أولى مني في هذا الموقف بالجزع، إن العبد ليذنب الذنب فيعلم أن الله غفره له، فيستحيي من موقفه بين يدي الله تبارك وتعالى. يا خجلة العبد من إحسان سيده يا حسرة القلب من ألطاف نعماه فكم أسأت وبالإحسان قابلني واخجلتي واحيائي حين ألقاه يا نفس كم بخفي اللطف عاملني وقد رآني على ما ليس يرضاه يا نفس كم زلة زلت بها قدمي وما أقال عثاري ثم إلاه دخل أبو حامد الخلقاني على الإمام أحمد إمام أهل السنة، فقال له: يا إمام! ما تقول في شعري؟ قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني فأمره الإمام أحمد أن يكررها، ثم أمسك بطرف ثوبه وأخذ نعله، ثم أغلق الباب، وسمع نحيبه من خلف الباب وهو يقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني قال الحسن البصري: لو لم يكن من البكاء إلا على هذا الموقف، لكان حرياً أن يطول بكاؤنا.

نماذج من حياء الأنبياء والصالحين

نماذج من حياء الأنبياء والصالحين إن سيدنا موسى عليه السلام أعلى الله مقامه بجهاده لليهود الذين كانوا لا يتناهون عن منكر يأتونه، وكان موسى عليه السلام حيياً ستيراً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كان لا يرى شيء من جلده حياءً، فقال اليهود عنه: إنه آدر، وبينما كان يغتسل ذات مرة إذ أخذ الحجر ثوبه، فأخذ يطارد الحجر ويقول: ثوبي يا حجر! وظل يضرب الحجر حتى بان أثر الضرب ندباً على الحجر). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياءً، إذ كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا رأى شيئاً يكرهه عرف الصحابة ذلك في وجهه. فمن حيائه أن امرأة أتت تسأله عن الغسل، فقال: اغتسلي لكذا وكذا، وضعي فرصة من المسك، فقالت: كيف أتطهر؟ فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على وجهه، وعلمت السيدة عائشة، فجذبت المرأة ثم جعلت تعلمها كيفية الغسل وكيفية الطهارة. وأما حياؤه من ربه فقد ورد في حديث مالك بن صعصعة لما قال له موسى: (سل ربك التخفيف؛ فإن أمتك لا تقدر، قال: لقد سألت حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم). وحياء ابنة الرجل الصالح الذي يسميه العامة شعيباً، وهو ليس نبي الله شعيباً، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] يعني: كأن الأرض زرعت حياءً وهي تمشي عليه. وقالت هذه المرأة الصالحة لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26]، وهي تريد أن تطلبه لنفسها، ولكنها تستحيي من والدها. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء أن يحققن الطريق). وجاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد أن تسأله خادماً، قال: ما أتى بك يا بنية؟! قالت: جئت أسلم عليك، ولم تخبره بما تريد حياءً، ولما كان اليوم القادم فعلت ما فعلت، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهي في مخدعها، فأدخلت نفسها في الغطاء حياءً من والدها. وأما حياء الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما فقالت: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي أبو بكر كنت أدخل واضعة ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما مات عمر ما كنت أدخل إلا في كامل ثوبي؛ حياءً من عمر، وهذا بعد موته.

دعوة إلى التمسك بخلق الحياء

دعوة إلى التمسك بخلق الحياء وقد كان من قبل تمشي المرأة في الشارع وتعلم أن عمها -مثلاً- في نهاية الشارع، فتراها تضع الخمار على وجهها، ولكن بعد دخول التلفاز مات كل شيء، فما يفعل في المدن يفعل في القرى على قدر ما عند الناس من مال. ومن العجيب أن الرجل يأتي بزوجته معه في حفل فيقولون: لن تكون رجلاً متحضراً إذا لم ترقص أنت وزوجتك أمام المدعوين. فعلامة موت القلب والروح فقدان الحياء، أو قلة الحياء. وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان فاستحيي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني فكيف وقد مات الحياء؟! فما بعد التلفاز إلا موت القلب، وذهاب الحياء، وضياع الأمة. ولما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد على النساء المسلمات من قريش قال: ولا تسرقن ولا تزنين، فجاءت هند بنت عتبة وقالت: أو تزني الحرة يا رسول الله؟! ووضعت فاطمة بنت عتبة يدها على رأسها حياءً، فقالت لها عائشة: أقري أيتها المرأة! فوالله ما بايعنا إلا على هذا. يقول الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، لباس التقوى: هو الحياء كما قال علماء التفسير، والتبرج ثمرة المعصية، قال تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه:121]، فبدو عورة آدم وزوجه كان من ثمرات المعصية. فالحياء زينة الرجال، ولكل دين خلق وخلق هذا الدين الحياء، فاستحيوا من الله عز وجل أن يرى منكم ريبة، واستحيوا من الله أن يراكم على غير هدي الإسلام، فالإنسان قد يصد عن دين الله وهو لا يدري، فليستح من الله في معاملاته مع ربه ومع الناس أجمعين. فاستح من الله تبارك وتعالى، واستح من الناس، واستح من رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم ارزقنا الحياء، واسترنا بالعافية، واجعل تحت الستر ما تحب؛ فربما سترت على ما تكره، اللهم أنت أصلحت الصالحين فاجعلنا من الصالحين. اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، اللهم وما أعطيتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم أحيي قلوبنا بحبك. ربنا اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أوابين منيبين، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا. إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله وتكن دليلاً له، إلهي ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه وتكن أنيساً له. اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم ارزقنا لذة العيش بعد الموت، وحب النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك. اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين. اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، وتقبلنا في عداد عبادك الصالحين، واستر علينا يا أرحم الراحمين، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم أحي قلوبنا، اللهم ارزقنا جواب السؤال عند لقياك، اللهم ارزقنا جواب السؤال عند لقيا رسولك، اللهم لا تفضحنا يوم يقوم الأشهاد، سترت علينا في الدنيا فاستر علينا في الآخرة، وعاملناك بالخيانة وعاملنا عبادك بالأمانة، فاستر علينا يا أرحم الراحمين، استر علينا يا أرحم الراحمين. اللهم نج إخواننا المسلمين المشردين في فلسطين، عليك باليهود، عليك باليهود، عليك باليهود خذ لدينك منهم حتى ترضى، خذ لأطفال المسلمين منهم حتى ترضى، خذ لعورات المسلمين منهم حتى ترضى، ونج إخواننا في كل مكان، وائذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. عبد الله! (عش ما شت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به). البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الصبر

الصبر من العبادات الجليلة التي ينبغي أن تلازم المؤمن في حياته ولا يمكنه الاستغناء عنها بحال عبادة الصبر، فهو الضياء في الظلمات والحوالك، والقائد إلى منابر الخير والفلاح، وركن الرفعة والسؤدد، ففضله عظيم، وخيره كبير، وجزاؤه أوفر جزاء، لا يعلمه إلا رب الأرض والسماء.

فضل الصبر

فضل الصبر

الصبر عدة المؤمن

الصبر عدة المؤمن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: فاعلم أخي أن الصبر جواد لا يكبو، وسيف لا ينبو، وجند لا يهزم، وجدار لا يهدم، فهو عدة المؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعم عيش أدركناه بالصبر، ولو كان الصبر من الرجال لكان كريماً. وقال علي بن أبي طالب: الصبر مطية لا تكبو، والإيمان نصف صبر ونصف شكر، وهو واجب بإجماع علماء الأمة، قال الإمام أحمد بن حنبل: ذكر الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعاً, من هذه التسعين ما هو أمر به مطلقاً، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]. وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. وقال الله تبارك وتعالى لنبيه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، فهذا أمر بالصبر مطلقاً. الأمر الثاني الذي جاء به في القرآن الكريم النهي عن ضده، قال الله تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، والعجلة ضد الصبر. وقال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، كل هذا نهي عن ضد الصبر من العجلة كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فإنه لما ترك قومه بعد أن دعاهم إلى الله عز وجل واستبطأ إجابة قلوبهم إلى الله عز وجل تركهم دونما إذن من الله عز وجل عاتبه الله عز وجل بحبسه في جوف الحوت، {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]. وقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فاستجاب رسولنا صلى الله عليه وسلم لأمر ربه سبحانه، فقد روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لاقينا من المشركين شدة) - وكانت مولاة خباب بن الأرت تأتي له بالحديد المحمى فتلقيه على ظهره وهو على رمال الصحراء فوالله ما ينطفئ هذا الحديد المحمى إلا بما يسيل من دهن ظهره. قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة -قال في رواية- فاحمر وجهه وقال: إنه كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيشطر نصفين ثم يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله عز وجل هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). وقد لاقى الصحابة من الشدة ما لم يلاقه بشر، فهذا عمار بن ياسر كان يعذب حتى ما يدري ما يقول، وكان مما يعذب به أن كانوا يضعونه في الزيت المغلي، وهذا بلال داعي السماء كانوا يضعونه في حر الصحراء وهجير مكة وهو لا ينسى نشيده الخالد: أحد أحد، ومع هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم تستعجلون). يمر على عمار بن ياسر وهو يعذب فيقول له: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، لم يمنهم بأي شيء إلا الجنة، حتى يعطيهم فسحة وأملاً في التفكير، وأملاً في بعد المعركة بينهم وبين الباطل، وأنها معركة تحتقر حدود الأرض حتى تصل إلى القيامة، (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، والحديث حسنه العلماء بمجموع الطرق. وعن النهي عن ضد الصبر من العجلة يقول الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله وهو الخبير المحنك الذي ابتلي بما ابتلي به من سجن وبلاء، وهو يقدم النصيحة في المجلد الأول من الظلال عند قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]: قال: القائد البصير المحنك لا ينخدع بحماس الجماهير من حوله، فإن بني إسرائيل طلبوا لقيا العدو وطلبوا جهاد أعدائهم، فلما كتبه الله تبارك وتعالى عليهم نكصوا على أعقابهم، وبدأو العد التنازلي والانسحاب، فالقائد البصير المحنك لا ينخدع بالحماس الثائر للجماهير من حوله؛ لأن هذه الجماهير التي لم ترب جيداً على الكتاب والسنة. ثم بعد ذلك أطلق البشارة للصابرين حين يقول الكريم الذي لا يحد كرمه والجواد على كل من جاد: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، فلم يقل وبشرهم بالجنة وإنما أطلق البشارة، وإطلاق البشارة مع كرم الله الذي لا يحد يدل على عظيم الأجر للصابرين كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54]، وكما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وبذلك علم أن أجر الصبر لا يعلم حده ولا ثوابه إلا الله عز وجل.

الصبر واليقين طريق الإمامة في الدين

الصبر واليقين طريق الإمامة في الدين الوجه الثاني في ذكر الصبر في القرآن الكريم: أن الله عز وجل ذكر أن الإمامة في الدين لا تنال ولا تدرك إلا بالصبر واليقين، قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فالإمامة في الدين والتبحر في دين الله عز وجل لا يأتي في يوم وليلة، فالرجل الذي لا يصبر على طلب العلم أكثر من سنتين أو ثلاث وهو يريد التبوء والتصدر ولما يرسخ بعد أنى له ذلك؟ أما وعى قول القائل: تفقهوا قبل أن تسودوا. كما أن الشهرة تمنع الرجل من طلب العلم كما يحلو له، وقال سفيان الثوري: ما صدق الله عبد أحب الشهرة، ولذا كان العلماء عبر التاريخ يفرون منها. فطالب العلم عندما يحرص على تبوء المنازل قبل أن يصل يقطعه ذلك عن طلب العلم والاستزادة منه، ولذلك قال ابن عباس: ذللت متعلماً وعززت عالماً، ومن خدم المحابر دانت له المنابر. فقوله: من خدم المحابر أي: من عكف على طلب العلم، ولذلك قيل للإمام أحمد بن حنبل: حتى متى أنت مع المحبرة؟ قال: مع المحبرة إلى المقبرة. قال ابن القيم: إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، وقال سيدنا سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوسا.

الحظوظ العظيمة من خصال الخير لا تنال إلا بالصبر

الحظوظ العظيمة من خصال الخير لا تنال إلا بالصبر الوجه الثالث: أن الحظوظ العظيمة من خصال الخير لا تنال إلا بالصبر، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. والجنة لا تنال إلا بالصبر قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. ومحبة الله عز وجل واجبة للصابرين قال الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. ومعية الله الخاصة -معية الحب والعناية- لا تكون إلا مع الصبر، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]. ولقد أخبر الله عز وجل بعد قسمه أن الصبر خير، قال سبحانه: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]، أتى بالواو ولام التوكيد مرتين {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]. ثم يخبر الله عز وجل أن آياته في الكون في أربع مواضع في القرآن الكريم لا ينتفع بها إلا الصابرون، قال الله تبارك وتعالى في شأن قوم سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى:32 - 33]. وأرسل الله تبارك وتعالى موسى إلى قومه {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5]، فآيات الله عز وجل في الكون لا ينتفع بها إلا الصابرون. والصبر عدة كما قال الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].

واقع مرير دواؤه الصبر

واقع مرير دواؤه الصبر الصبر على قلة الناصح وانتشار الباطل الصبر حين أن ترى الشر منتشراً والخير ثاوياً، لا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق الصبر على انتشار الباطل، من منا لا يرى دولة عربية أذلها تلميذ ميشيل عفلق وفعل بعلماء السنة ما فعل، وليس هذا وقت الشماتة بهذا الرجل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما اختلج عرق إلا بذنب وما يدفع الله أكثر)، أي: لا يصيبك ألم إلا بذنب. ولكن المصيبة تأتي على الصبيان والأطفال والنساء والشيوخ الذين لا حول لهم ولا قوة، وهو ببطشه وجبروته ناج في قصوره حتى نزار قباني وهو من هو يقول: يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فهذا حاكم طليطلة بعدما مات أمير الجماعة في الأندلس جلس على قبره وقال للقاضي المسلم وزوجته تسمع: أما ترى أني استوليت على ملك المسلمين وجلست على قبر ملكهم؟ فقال: هدئ من صوتك فوالله لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت فوقه ما سمع منك هذا الكلام. فقالت له زوجته: صدق والله. فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونة وأودعوها سخيف القول والخطبا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونة وخلفوها وباسوا كف من ضربا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا وها هي العراق التي أنجبت نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي وهو من أكراد العراق، ودولة الرشيد ودولة المعتصم: رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعنا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم الكثير منا عندما يتحدث عن الرشيد يقول: إنه كان صاحب ألف ليلة وليلة: وينسون أن هذا الخليفة المفترى عليه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، ولما كتب إليه نقفور ملك الروم ما كتب، قال: غرك ضعف الملكة السابقة فإن وصلك كتابي هذا فابعث إلي ما أخذته من الملكة وابعث إلي الجزية، فأخذ هارون الرشيد الكتاب وكتب على ظهره: من هارون ملك العرب: إلى نقفور كلب الروم أما بعد: يا ابن الكافرة! فالجواب ما ترى لا ما تسمع. أسأل الله عز وجل أن ينجي العراق بأبطاله ومسلميه بشيوخه وشبابه ونسائه؛ علهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل (والله لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مسلم بغير حق)، فكيف وأكثر من ثلاثة أرباع مليون طفل ماتوا بسبب أنهم لا يجدون طعاماً يأكلونه ولا يجدون شراباً يسد ظمأهم، والعجيب أن أناساً يموتون من التخمة وأطفال يموتون جوعاً ولا يجدون حتى اللبن. فنسأل الله عز وجل ألا يعاملهم بعدله وإنما يعاملهم بفضله.

الصبر سبيل النصر

الصبر سبيل النصر النصر رفيق الصبر وحليفه، فلا يأتي النصر إلا مع الصبر، والنصر حفظ وجنة من كيد الأعداء، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]. وقد علق الله تبارك وتعالى الفلاح على الصبر فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. وعلق الله عز وجل المغفرة والأجر العظيم على الصبر أيضاً فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]. وقال الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137]. والصبر من عزائم الأمور؛ قال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]. وقال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. كل هذا من النواحي التي ذكرها الله تبارك وتعالى عن الصبر، ذكر الإمام أحمد منها حوالي 90 موضعاً، وفصل الإمام ابن القيم في نحو 22 موضعاً كلها في الصبر في القرآن الكريم. وقد أخبر الله عز وجل أن أهل الصبر في نجاح دائم وغيرهم في خسران، قال الله تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. وأخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الميمنة أنهم ماذا؟ {تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]. وأثنى الله تبارك وتعالى على الصابرين كما قال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].

أنواع الصبر ودرجاته

أنواع الصبر ودرجاته والصبر على ثلاثة أنواع: صبر على الأقدار، وصبر عن المعصية، وصبر على الطاعة. وقد قسمها البعض تقسيماً آخر فقال: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله. فالصبر بالله: أن تصبر وتعلم أن الله عز وجل هو الذي يصبرك، وأنه لولا تمكين الله عز وجل لك من الصبر ما صبرت، فأنت بالله، وهذه استعانة، قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]. فليس الأمر شجاعة نفس وإنما مرد الفضل كله إلى الله عز وجل، كما قال سيدنا إسماعيل عليه السلام لأبيه لما قال له: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فاستثنى بالمشيئة والمعنى: إن شاء الله عز وجل لي الصبر صبرت، فالأمر كله يعود إلى الله عز وجل. وأعلى رتبة من الأول: صبر لله: وهو أن تصبر ويكون باعث الصبر في قلبك إرادة وجه الله عز وجل والدار الآخرة لا المحمدة عند الناس ولا إظهار قوة النفس. ثم بعد هذا صبر مع الله: وهو صبر الصديقين كما قال ابن القيم رحمه الله، وهذا شديد وهو أن تدور مع أوامر الله عز وجل ومع نواهي الله عز وجل، فحيث يأمرك الله عز وجل يجدك وحيث ينهاك يفتقدك. ولذا قال الجنيد رحمه الله: ترك الدنيا للآخرة سهل على المؤمن، وهجران الناس في جنب الله شديد، وهجران النفس إلى الله عز وجل صعب شديد، والصبر مع الله أشد.

الصبر المذموم

الصبر المذموم والصبر يحمد في كل المواطن إلا في لون واحد فقط وهو الصبر عن الله فهو صبر اللئام. أما كيف يصبر العبد عن الله فذلك أن يرى العبد أن ما بينه وبين الله عز وجل خراب ودمار ولا يصلح ما بينه وبين مولاه. والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد كيف تصبر عن الله عز وجل وملاك الخير كله منه، وأمرك كله بيده، ورجوعك كله إليه، وكل فضل أعطيته فهو منه، ولذا كان هذا صبر اللئام من الكفار والفجار وغيرهم، فمع أن الله يحلم عليهم إلا أنهم يسبونه ويشتمونه ويدعون له الولد. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنياً على ربه عز وجل: (ما أحد أصبر على الأذى من الله عز وجل)، يعني: يصبر على أذاهم مع كمال القدرة ومع كمال العلم، فهو يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الولد {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} [مريم:90] من هول هذا الكلام، {وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91]. فالسموات والأرض تكاد أن تزول من هذا لولا إمساك الله عز وجل لها، فلا أحد أصبر من الله عز وجل، ملك الملوك ومع أن جوده عم المخلوقات إلا أن هؤلاء يسبونه وينسبون إليه ما لا يليق به من الصاحبة والشريك والولد فخيره إلى العباد نازل وشرهم إليه صاعد. ولذلك كان الصبور من أسماء الله عز وجل الحسنى، قالوا: وجانب الحلم عن الله عز وجل أوسع وأتم، كما قال الإمام ابن القيم: صبر لله وصبر بالله وصبر مع الله.

تقسيم آخر للصبر

تقسيم آخر للصبر أما أنواع الصبر فثلاثة وإن شئت قسمتها قسمين: صبر على ما لا كسب للعبد فيه (اضطراري) وصبر اختياري. فالصبر الاضطراري هو الصبر على أقدار الله عز وجل من أذى الموت والمرض والفقر والغنى وغيرها. أما الاختياري فإنه على نوعين: صبر عن المعصية وصبر على الطاعة، وأفضلهما الصبر على الطاعة، وأقل منه درجة الصبر عن المعصية، وأقل منها درجة الصبر على الأقدار المؤلمة، فالصبر على الأقدار المؤلمة أقل درجات الصبر ثواباً. والناظر إلى عظم هذا الثواب مع أنه أقل أنواع الصبر يعظم في صدره ثواب ما هو أعلى منه. فأعلى من الصبر على الأقدار المؤلمة الصبر عن المعصية، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هل يقارن صبر يوسف على إلقاء إخوته له في الجب بصبره عن مراودة امرأة العزيز؟ لا شك أن صبره عن مراودة امرأة العزيز أشد؛ لأن الأول واقع سواء صبر أو لم يصبر فيكون صبره حينها صبراً اضطرارياً، أما صبره عن المعصية فهو صبر اختياري؛ فإنه صبر عند مراودة امرأة العزيز. ومثل ذلك يقال في صبر يعقوب على عماه وصبر إبراهيم على إلقائه في النار لا يقاس هذا بذاك، ومع ذلك فإن الصبر على الأقدار عظيم الأجر والثواب؛ فعن صبر من ابتلي بالعمى يقول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: إذا أنا سلبت كريمتي عبدي -أي عينيه- فصبر على ذلك لم أرض له ثواباً دون الجنة)، فهذا جزاء صبر من رزقه الله الصبر على العمى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم). ولذلك كانت عند خالد بن الوليد رضي الله عنه امرأة فطلقها، ثم أثنى عليها فقال: لم تبتل وهي عندنا بشيء، أي: لم تصب بأي مرض. والإنسان لا يتمنى البلاء ولكن إن نزل به يصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليودن أهل العافية أن لو قرضت جلودهم بالمقاريض في دار الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصالحين يشدد عليهم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل، كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها، وأحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء). وعن الصبر على موت الولد يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: (قبضتم روح ولد عبدي المؤمن. يقولون: نعم، يقول: أخذتم ثمرة فؤاده؟ يقولون: نعم، يقول: فماذا قال عبدي؟ يقولون: يا رب حمدك واسترجع، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرقوب من لا ولد لها)، والرقوب هي المرأة التي لا يعيش لها أولاد، والرقوب في الشرع هي التي لم تقدم أولاداً يموتون في حياتها؛ لأن الرجل إذا مات له ثلاثة من الأولاد أو اثنان من الأولاد كانا حجاباً له ولامرأته من النار. فينبغي على الإنسان أن يصبر انتظاراً لروح الفرج، فالأمراض كفارات تأخذ من ذنوب المرء، ولا يزال المرض بالمؤمن حتى يلقى الله تبارك وتعالى وليس عليه خطيئة، والذي يهون على الإنسان الصبر على قضاء الله عز وجل هو ذكر سوالف المنن التي امتن الله بها عليه، وتعداد أيادي المنن الحاضرة الموجودة بين يديه، إن من يأخذ منك شيئاً ليعطي لك الأجر كاملاً يوم القيامة لا شك أنه رحيم بك كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب). ومثل ذلك أن يكون لك ولد تحبه أصابه مرض ما فمنعك الدكتور أن تطعمه ثلاثة أيام وهو ابنك الوحيد، وأنت تملك كنوز الأرض وتتمنى أن تورثه مالك كله وتطعمه ما اشتهى من أطعمة الدنيا، ومع ذلك تلتزم بتعاليم الدكتور وتمنعه من الأكل لمدة ثلاثة أيام، فكذا يحمي الله عز وجل عبده المؤمن من الدنيا حتى لا تصيبه بأوضارها ونجاستها. ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم). الصبر على الأقدار المؤلمة قال سيدنا ابن عباس لـ عطاء: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة، قال: نعم، قال: هذه المرأة السوداء أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي قال: إن شئت صبرت ودعوت الله لك بالجنة وإن شئت دعوت الله لك فعافاك، قالت: أصبر ولي الجنة، قالت: يا رسول الله ولكني أتكشف)، بلا إرادة منها تأتيها نوبة الصرع فتظهر محاسنها وتتبرج بغير حول منها ولا قوة، فصبرت على الألم ولم تصبر على التبرج، (قالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف فدعا لها)، فكانت عندما يأتيها الصرع لا ينكشف شيء من عورتها، فصبرت على شدة الألم وكان لها الجنة.

صور من صبر السلف

صور من صبر السلف يقول العلماء وهو مذهب الإمام مالك: يجوز ترك التداوي لمن صبر على ذلك، وليس كل أحد يستطيع أن يصبر على ذلك، ونرى الواحد منا إذا أصابه قليل من الصداع يتذمر ويملأ الدنيا صراخاً وأنيناً. ولذلك قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه. وهذا الإمام أحمد بن حنبل أنَّ في مرض موته، فقالوا له: إن طاوساً يقول: إن أنين المريض من الشكوى، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات؛ على أن هناك فرقاً بين أنين وآخر. وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم فالأنين على نوعين: أنين شكوى وأنين فيه تفريج لألم الرجل، وذكر أنه دخلت على الإمام أحمد أخت بشر بن الحارث الحافي -أيام ما كانت النساء نساء والرجال رجال- وقالت له: يا إمام! أأنين المريض شكوى؟ قال: ما سئلت عن مثل هذه المسألة من قبل قط، أرجو ألا يكون كذلك. وهذه المسألة الوحيدة التي لم يستطع الإمام أحمد أن يجاوب فيها وما عرفها الإمام أحمد إلا في مرض الموت، ثم قال لابنه بعد أن خرجت المرأة: انظر أي البيوت تدخل هذه المرأة قال: دخلت بيت بشر بن حارث الحافي -وكان أسمها مخة بنت الحارث - فقال: من بيتهم خرج الورع. أما الشكوى إلى الله عز وجل فليست بشكوى؛ لأن نبي الله أيوب عليه السلام قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، ومع هذا قال الله عز وجل عنه، {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. وقال يعقوب عليه السلام أيضاً: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، فالشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر الجميل، والصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى معه، يقول الأحنف بن قيس سيد أهل المشرق: إني والله منذ أربعين سنة ما أبصر بعيني، وما تعلم بها زوجتي. أي: طيلة هذه الأربعين سنة عين من عينيه لا يرى بها وزوجته لا تعرف ذلك. وقال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي: منذ عشر سنوات لا أبصر بإحدى عيني، ولا تعلم ذلك زوجتي، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أفطر على رغيفين إن أتت بهما أمي أو أختي وإلا طويت جائعاً، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أفطر على رغيف واحد إن أتت به زوجتي وأولادي وإلا صبرت، قال: والله ما كنا نعرف إلا الباذنجان المشوي، لم يكونوا يعرفون أساليب الترفه. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها). أتى رجل سيدنا عبد الله بن عمر قال: إني رجل من فقراء المسلمين، قال: ألك بيت؟ قال: نعم، ألك زوجة؟ قال: نعم، قال: ولي خادم، قال: اذهب فأنت من الملوك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ما يسد به جوفه، وكان يمر الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط، ولا رأى شاة صميطاً قط، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي. أما هذه الأمة فقد أصبحت أمة متخمة فأمانيها مترفة وتفكيرها مترف وحياتها كلها ترف، فلابد أن يعاقبها الله عز وجل حتى تعود إلى دينها، والعود إلى الله عز وجل أحمد. قال سعد بن أبي وقاص: كنت سابع سبعة عشنا أياماً مع رسول الله ليس لنا طعام إلا ورق الشجر، وكنا نضع كما تضع البعير ليس له خلط، وهنا نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم، (والله ما الفقر أخشى عليكم)، وإنما يخشى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنى. ومما نشاهده اليوم أنه بمجرد ما تجد الأخ الملتزم المحافظ على الصلاة في المسجد حين يفتح الله عليه بعمل أو زواج تفوته صلاة الجماعة وقد لا يصلي في المساجد، فنسأل الله تبارك وتعالى لنا العون والثبات، ونعوذ بالله عز وجل من الحور بعد الكور. يذكر عن أبي قلابة الجرمي -تلميذ عبد الله بن عباس - أنه ابتلي في دينه فصبر، وابتلي في جسمه فصبر، فقد أُريد توليته القضاء فهرب من الشام حتى لا يولى القضاء، فهذا العبد الصابر كان انبه يرعاه بعد أن أصيب في يديه ورجليه وثقل سمعه وبصره فلم يبق منه إلا لسانه وقليل من السمع وقليل من البصر، وكان ابنه يوضئه ويقوم على خدمته. قال ابن حبان في الثقات: قال رجل: بينا أنا أمر في عريش مصر في الصحراء إذا بي أسمع صوت رجل يثني على الله عز وجل بمحامد ما سمعت مثلها من قبل في الثناء على الله عز وجل، فقلت: والله لأذهبن إلى تلك الخيمة، فإذا رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وكف سمعه وبصره إلا القليل، قلت له: أي نعمة من نعم الله تحمده عليها؟ قال له: وما لي لا أدعو الله عز وجل، فوالله لو أمر الجبال فنسفتني أو أمر النيران فأحرقتني أو الأرض فابتلعتني ما كففت عن ذكره وشكره، قال: رجعت أتفكر على أي شيء وقد كف سمعه وبصره وكل شيء فيه قد ذهب، قال لي: إليك حاجة، قلت: مثلك تجاب حاجته على الفور، تكلم والله إن من أحب شيء إلي أن أسعى في حاجة مثلك، قال: أنت تعلم ما أنا فيه، وقد كان لي ابن يوضئني ويقيم على عنايتي وقد ذهب منذ أيام، فقلت: والله لأبحثن عنه، فمضيت غير بعيد فإذا بعظام هذا الشاب وقد افترسه السبع قلت: يا رب بأي وجه أعود إلى هذا الرجل، ثم تفكرت في نبي الله أيوب وما حل به فقلت: أدخل عليه من هذا المدخل، قلت: أنت أفضل أم نبي الله أيوب؟ وتعلم كيف ابتلاه الله عز وجل في جسده وكذا وكذا، قال: نعم، قلت: فكيف وجده الله عز وجل؟ قال: وجده صابراً، قلت: ولم يزل الله عز وجل يبتليه حتى أوحش منه أهله وأحبابه فكيف وجده الله عز وجل؟ قال: صابراً، قال: ماذا تريد؟ قلت: إن ابنك قد افترسه السبع، فرفع يده إلى السماء وقال: الحمد لله الذي لم يجعل ولداً من صلبي محله النار، ثم شهق الرجل فمات، لما مات من كان يعول هذا العبد الصالح قضى الله بموت هذا العبد الصالح. وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي قال: فانشغلت بأمره، كيف أواري هذا الرجل أو كيف أفعل وإنما أنا رجل واحد؟ وإذا بجماعة يأتون، فقالوا: اكشف لنا عن وجهه فلما كشفت عن وجهه قالوا: أبو قلابة الجرمي تلميذ عبد الله بن عباس؟! قال: فجعلوا يقبلونه في رأسه وفي رجليه، ويقولون: بأبي وأمي عين طالما غضت عن محارم الله، وبأبي وأمي قدم طالما سعى في طاعة الله عز وجل قال: فتعاونا عليه حتى دفناه، قال: فلما دفنته وجدته في رؤيا وكأنه في واحة خضراء، قلت له: ألست بصاحبي؟ قال: نعم أنا هو، إن عند الله عز وجل درجات في الجنة لا يبلغها العبد إلا بالصبر. وهذا شقيق البلخي لما قابل إبراهيم بن أدهم قال له: ما تقول في الصبر والشكر؟ قال شقيق: إنا قوم نصبر عند البلاء، ونشكر في الرخاء، قال: هذا ما تفعله كلاب بلخ، قال: فما تقول أنت قال: إنا قوم نصبر عند الرخاء ونشكر في البلاء، أي: أنهم لا يتمنون البلاء ولكن حين يأتيهم الغنى يخافون أن يكون تحت هذا الغنى استدراج ومكر من الله عز وجل، ويؤيد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء). أما الصحابي الجليل عمران بن حصين فقد بلغ من شدة المرض أن ثقبوا له ثقباً في السرير ينزل منه الغائط، وهو صاحب الكرامات التي أوردها علماء أهل السنة التي منها أنه كانت تسلم عليه الملائكة. وهذا الإمام العابد عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، وهو ابن السيدة أسماء، ذهب إلى الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد فعانه، يعني: حسده ونظر إليه بنظرة عائنة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتستنزل الحالق)، أي أن هناك أناساً أعينهم توقع الجبل وتهده -قال: فعانه فتناعس فسقط في إسطبل للدواب فداسته الدواب حتى قتلته، ووقعت الأكلة -السوسة- في رجله فقال له الأطباء: لابد من قطعها، قالوا له: نعطي لك دواء يغيب عقلك، فأبى وقال: إن ربي اختبرني؛ ليرى مدى صبري، فلما علا المنشار على العرق ما زاد على أن قال: حسبي، ثم غشي عليه، فلما أفاق من غشيته استنار وجهه وقال: خذها يا بني فكفنها وطيبها وادفنها في مقابر المسلمين والله ما مشيت بها إلى فاحشة قط، ثم لما عاد إلى المدينة وأتى أهل المدينة ليعزونه قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، ورفع يده إلى السماء وقال: إلهي إن سلبت فلطالما أعطيت وإن أخذت فلطالما أبقيت. وهذه امرأة فتح الموصلي كانت من الصالحات، وقد أثنى عليها الإمام أحمد بن حنبل، ذكر عنها أنها لما قطع أصبعها ضحكت، فقال لها رجل: يقطع أصبعك فتضحكين، قالت: أحدثك على قدر عقلك: حلاوة أجرها أنستني مرارة قطعها. ولذلك كان فتح الموصلي إذا رجع إلى بيته ولم يجد في البيت طعاماً ولا شراباً ولا موقداً ووجد السقف قد وكس على أهله يرفع يده إلى السماء ويقول: إلهي سلبتني. أجعتني وأجعت أولادي وأعريتني وأعريت أولادي وقديماً كنت تفعل هذا بأنبيائك وأوليائك وعبادك الصالحين، فبأي خصلة من خصال الخير تقربت بها إليك يا مولاي فقبلتها مني حتى أداوم عليها.

أهل البدع يتبرمون من الأقدار

أهل البدع يتبرمون من الأقدار أما أهل البدع فقد كانوا يتبرمون من الأقدار ونزولها، فهذا رجل من أهل البدع كان عالماً فأصيب في رجله فلما قطعت قال في لحظتها: يا قاسم الرزق لم ضاقت بي القسم ما أنت متهم قل لي من أتهم تعطي اليهود قناطير مقنطرة من اللجين ورجلي ما لها قدم أعطيتني وَرَقاً لم تعطني وَرِقاً قل لي بلا وَرِقٍ ما تنفع الحكم والمعنى: لا أريد علماً بل أعطني فقط نقوداً. فرد عليه رجل من أهل السنة: قل للبيب الذي ضاقت به الحكم لو كنت ذا حكم لم تعترض حكماً عدل القضاء أميناً ليس يتهم هلا نظرت بعين الفكر معتبراً في معدم ما له مال ولا حكم فانظر إلى لطف الله عز وجل، وسوالف المنن وتعداد أيادي النعم وملاحظة روح الفرج، فإنك تعيش على أمل ورجاء أن تشفى من هذا المرض. وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي ثم مطالعة حسن الثواب في الآخرة. ذكر أن رجلاً كان يشكو إلى الناس، فقال له رجل من الصالحين: لك يد؟ قال: نعم، قال: لو قطعت؟ قال: أدفع فيها خمسة آلاف دينار، ثم قال له: ولك عين تبصر بها؟ قال: نعم، قال: لو أخذ الله نورها؟ ثم قال له: يا هذا عندك آلاف مؤلفة من الدنانير وأنت تشكو الفقر بعد ذلك. فالصبر على الأقدار المؤلمة انتظاراً لما عند الله عز وجل من حسن الجزاء، ثم يأتي بعد هذا الصبر عن معصية الله عز وجل وله موطن آخر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتقل فلا تبعدنا، وعلى بابك نقف فلا تطردنا. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا. اللهم أدبنا بأدب الصالحين من عبادك، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! اللهم لا تفضح بلادك بذنوب عبادك، بك نستنصر فانصرنا وعليك نتوكل فلا تكلنا. اللهم إنا نسألك لذة العيش مع الموت وحسن النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك. اللهم ارحم عبادك وبلادك، اللهم ارزقنا الأمن والأمان في بلادنا وأوطاننا.

أتأمرون الناس بالبر

أتأمرون الناس بالبر يعيب الله عز وجل على بني إسرائيل أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر دون أن يكون ذلك واقعاً عملياً ملموساً في حياتهم، فإنهم لا يأتون ما أمروا به، ولا ينتهون عن ما نهوا عنه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيشمل ذلك بني إسرائيل وغيرهم، وفي هذا تحذير من اتباع سيرة أحفاد القردة والخنازير.

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. المخاطبون بهذه الآية الكريمة هم اليهود خاصة، والكتاب المشار إليه في هذه الآية هو التوراة، أي: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون التوراة، ويلتحق باليهود كل من أمر بالبر ونسي نفسه من نصارى، وأهل نفاق، ومن قال قولاً لم يعمل به وكان قادراً على العمل به من المسلمين. {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] هذا الاستفهام المراد به: التوبيخ والتقريع، والبر بداية: هو كل طاعة، فكل طاعة لله عز وجل تسمى براً، والبر المقصود به في هذه الآية هو: التمسك بالتوراة، فقد كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بالتمسك بها ولا يتمسكون هم بها. وقيل: المراد بالبر هنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الرجل من اليهود يوصي أقاربه سراً باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: إنه هو الرسول الحق، ولا يتمسك هو بذلك، فقد أخرج الإمام البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي يعوده فقعد عند رأسه وقال له: (أسلم! فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار). وقيل أيضاً: المراد بالبر هنا: الصدقة، وقد كان علماء اليهود يأمرون بها ويحثون الناس عليها ولا يتصدقون هم. وقيل: المراد بالبر: الحث على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان جماعة من اليهود قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرون الناس بخروج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، ويحثون الناس على اتباعه، وهذا قبل أن يبعث، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به، وجحدوا نبوته، وأعرضوا عن دينه، وكان اليهود يقولون للعرب: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما سمع الأوس والخزرج بهذه المقالة آمنوا بالنبي لماء جاء، وانتظروا أن يؤمن به اليهود، فلم يؤمنوا وتولوا على أعقابهم. وقيل أيضاً: المقصود بالبر هنا: عموم الطاعات، وقد كان أحبار اليهود يحثون أتباعهم على طاعة الله عز وجل وتقواه، ثم يواقعون هم المعاصي ويقترفونها. وهذه الآية آية عظيمة جليلة من كتاب الله عز وجل، ومن أجلها ألف الإمام الحافظ الخطيب البغدادي كتابه الطيب العظيم (اقتضاء العلم العمل)، وهذا الكتاب خرج حاشيته فضيلة الشيخ الألباني، وقد قيل: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل المصباح يضيء للناس ويحرق نفسه). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع)، والقلب لا يخشع إذا لم يطيق ما يعلمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن علمه ماذا عمل به، وعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه). ولذلك قالوا: كن بالخير موصوفاً، ولا تكن للخير وصافاً، فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد، فإنما الرائحة من العبير، قالوا: العلم كله دنيا والعمل به هو الآخرة، وقالوا: العلم موقوف على العمل به، والعمل بالعلم موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله عز وجل يورث الفهم عن الله عز وجل، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، فكلما اتقى العبد ربه جعل له فرقان في قلبه يميز به بين الخطأ والصواب من المسائل. قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، وقسوة القلوب تكون بالبعد عن العمل، ولذلك حل على اليهود غضب الله عز وجل؛ لأنهم كانوا يعلمون ولا يطبقون، والنصارى كانوا يجهلون ولا يعلمون فسموا: ضالين، ولذلك قال العلماء: من ضل من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. ولذلك كان الصحابة إذا حفظ الرجل منهم البقرة وآل عمران عد فيهم عظيماً أو عالماً؛ لأنهم كانوا يعلمون فيعملون فيدعون الناس إلى ما يعلمون، ولذلك قالوا: من علم ثم عمل ثم دعا الناس إلى ما علم ثم صبر، عد في ملكوت السماوات عظيماً.

ما أعده الله للذين لا يعملون بعلمهم أو يخالفونه

ما أعده الله للذين لا يعملون بعلمهم أو يخالفونه وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرءون العشر آيات حتى يعملوا بها، فتعلموا العلم والإيمان معاً؛ ولذلك كان أبو سليمان الداراني يقول: يا أصحاب السورة! ويا أصحاب السورتين! ماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ ثم يقول: إن القرآن ربيع قلب المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض. وكان أحد أبناء العباد يقول لأبيه: يا أبتي! مالي أراك إذا تكلمت أبكيت، ووعظ غيرك لا يبكي العيون؟ قال: يا بني! إن العالم إذا لم ينتفع بعلمه زالت موعظته عن القلوب، ثم قال: يا بني! ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة. لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد ولذلك سئل يونس بن عبيد تلميذ الحسن البصري: هل رأيت من يعمل بعمل الحسن؟ قال: لا والله، ما رأيت من يقول بقول الحسن حتى أرى من يعمل بعمله، إن الحسن كان إذا تكلم أبكى القلوب، ووعظ غيره لا يبكي العيون. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل فيدور على أهل النار فتندلق أقتابه -يعني: أمعاؤه- فيقولون له: ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). وقد وصف الله عز وجل الذين لا يعملون بعلمهم بأبشع وصف، قال الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فالرجل الذي لا ينتفع بعلمه كالحمار يحمل الأسفار ولا ينتفع بها: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول بل وصفهم الله عز وجل أيضاً بوصف أبشع من الأول فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]. وقال صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال؛ الأئمة المضلون). وهم الذين لا يعملون بعلمهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)، فتسأله في المسألة فيجيب إجابة جيدة جداً ولكنه لا يطبق، فهذا أخوف ما يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، فكل إنسان يعظ الناس ثم لا يعمل هو بالوعظ فهذه مصيبة كبيرة. وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع وقال آخر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. وقال عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]. وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض إن قوماً يأمروننا بالذي لا يفعلون لمجانين وإنهم لم يكونوا يصرعون قال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص -يعني: الوعظ- لثلاث آيات: قول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة:44]، وقول الله عز وجل: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، وقول الله عز وجل: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]. فالقضية أن يتعلم الإنسان أولاً العلوم الشرعية من باب العلم قبل القول والعمل، والعلم شرط في صحة العمل؛ لأنك إذا لم تعلم لم تستطع أن تفرق بين البدعة وبين السنة، فلا بد أن تتعلم أولاً، ثم تطبق ما تتعلم على نفسك، وتدعو الناس إليه، وتصبر على دعوة الناس، فالذي لا يطيق العلم واقعاً عملياً ممارساً في حياته، يصيبه الله عز وجل بقسوة القلب، ويبتعد عن منهج الله عز وجل. وغالباً ما يؤدي الفصل بين العلم والعمل إلى وقوع الإنسان في الرياء، فإنسان يقول ولا يعمل بهذا القول يدفعه ذلك إلى طلب الشهرة؛ إذ لو كان الرجل يعمل بعلمه لابتعد أشد ما يبتعد عن الشهرة، قال سفيان الثوري: قلّ رجل تكبر حلقة درسه، أو يشتهر بين الناس إلا وابتعد عن الإخلاص. ولذلك مر الحسن البصري على طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس وهو في المسجد الحرام فيهمس له في أذنه: إن كانت نفسك تعجبك فقم. وطاوس بن كيسان هذا قال فيه ابن عباس: إنما طاوس طاووس، يعني: زين العباد، وكان إذا قال له هذا يقوم من فوره. فارتباط العلم بالعمل هو الذي يجعل الإنسان يستقيم على درب الله تبارك وتعالى، ولذلك تجد الرجل إذا عمل بعلمه وعظ الناس بحاله وبلحظه حتى وإن لم يتكلم، وقد قالوا: إن شيخك من وعظك بلحظه قبل أن يعظك بلفظه، وقالوا: إن أخاك من نفعك بحاله قبل أن ينفعك بمقاله، ومن لم ينتفع بصمت العالم لا ينتفع بعلمه، ولذلك كان الناس إذا رأوا محمد بن سيرين خارجاً إلى السوق كبروا للنور الذي على وجهه، وكان إذا أقبل على الناس تبسم، ووسع على الناس، فإذا كان بمفرده خالياً بربه فكأنه قتل أهل القرية جميعاً، ولا بد أن يكون بينك وبين الله عز وجل خبء من عمل صالح: بكاء، صيام، صلاة، قراءة قرآن، تسبيح، لا تشعر به حتى زوجك، وأخلص العمل فإن الناقد بصير.

معنى النسيان في قوله تعالى: (وتنسون أنفسكم)

معنى النسيان في قوله تعالى: (وتنسون أنفسكم) قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، والنسيان هنا ليس النسيان المعهود الذي هو ضد التذكر؛ لأن النسيان الذي هو ضد التذكر لا يؤاخذ الله به، قال الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. والنسيان يأتي أحياناً كثيرة بمعنى: الترك، كما قال الله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] أي: فأهملهم؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]. إذاً: فمعنى: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]: تتركون زكاة أنفسكم، وقلنا: إن النسيان هو ضد التذكر، ويأتي أيضاً بمعنى: الترك، قال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:51]، وقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126]، وقال الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، كل هذا من النسيان الذي بمعنى: الترك. قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44] أي: التوراة: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] يعني: أفلا تمنعون أنفسكم من الوقوع في هذه الحالة المخزية، أتأمر الناس بالبر وتنسى النفس. والعقل: هو المنع، وقد سمي العقل عقلاً لأنه يعقل الإنسان عن الصفات الذميمة، ومنه يسمى: عقال البعير؛ لأنه يمنع البعير من الحركة: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أي: أفلا تفهمون، أفلا تمنعون أنفسكم من هذه الحالة المخزية، وهل معنى هذا أن يترك الإنسان الأمر بالبر مطلقاً حتى يفعل هذا البر، أو أن للإنسان أن يأمر بالبر وإن لم يفعله؟ قال العلماء: لا يترك الإنسان الأمر بالبر، بل عليه أن يأمر بالبر وإن لم يفعله، فالآية الكريمة حوت ثلاث فقرات: المعنى الأول: أمر الناس بالبر، والمعنى الثاني: نسيان النفس، {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، والمعنى الثالث: تلاوة الكتاب: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44]، ولا شك أن الذم في الآية الكريمة والتوبيخ والتقريع منصب على الفقرة الثانية: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، فأمر الناس بالبر مستحب، وقد يصل هذا الأمر إلى الوجوب في بعض الأحيان، وكذلك تلاوة الكتاب، فمن نسي نفسه، وأمر الناس بالبر، وتلا الكتاب خير ممن نسي نفسه، وترك تلاوة الكتاب، وترك أمر الناس بالبر، وكذلك هو خير ممن نسي نفسه، وأمر بالمنكر، وترك تلاوة الكتاب، وهكذا جاءت أقوال أهل العلم. قال الحافظ ابن كثير: الغرض من هذه الآية: أن الله عز وجل ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم للبر، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الأحرى والأولى بالعالم أن يفعل ما أمرهم به ولا يختلف عنهم. إذاً: الأمر بالبر مستحب، وقد يصل أحياناً إلى الوجوب، هذا في الدرجة الأولى، ثم يطبق الإنسان هذا الأمر على نفسه كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].

لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبهما ممتثلا لهما

لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبهما ممتثلاً لهما فالأمر بالمعروف وفعل المعروف واجبان لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح أقوال أهل العلم، فأمرك بالمعروف واجب، وفعلك المعروف واجب، فلا يسقط أحدهما بترك الآخر، يعني: إن تركت واحداً منهما فلا تترك الأمر الثاني وهو الأمر بالمعروف، قال الإمام ابن كثير: كل من الأمر بالمعروف وفعله -يعني: فعل المعروف- واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح أقوال أهل العلم من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعصية لا ينه غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه من يتمسكون بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه. قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، ومن يعظ العاصين بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟! والأغلب أن الناس عصاة، فليس هناك من كمل في صفاته وأخلاقه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام مالك بن أنس: وصدق سعيد بن جبير: من ذا الذي ليس فيه شيء؟ وقال العلامة الشيخ السعدي: فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه دل على عدم عقله وجهله، خصوصاً إذا كان عالماً بذلك قد قامت عليه الحجة، وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في بني إسرائيل فهي عامة لكل أحد، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]. يقول: وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين: واجب الأمر بالمعروف، وواجب فعل هذا المعروف، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحد الواجبين لا يكون رخصة في ترك الآخر، والكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير. هذا كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.

الصبر وأنواعه

الصبر وأنواعه ثم يقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، الصبر على الثلاثة الأنواع: صبر على الأقدار المؤلمة، وصبر على المعصية، وصبر على الطاعة، وأكملها: الصبر على المعصية، فلا يستوي صبر يوسف على إلقاء إخوته له في الجب مع صبره على مراودة امرأة العزيز له، فصبره على مراودة امرأة العزيز له أعظم من صبره على إخوته، كما لا يستوي صبر إبراهيم على إلقائه في النار مع صبر يعقوب على فقدان يوسف. وهناك صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله. فالصبر بالله هو: الاستعانة، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] يعني: أن ترى أن الذي يصبرك هو الله عز وجل. والصبر لله: أن يكون دافع الصبر إرادة وجه الله عز وجل. والصبر مع الله -وهو الأكمل-: أن تدور مع الأحكام الشرعية حيث دارت. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] يعني: لما أخذوا برأس الأمر: الصبر واليقين جعلناهم رءوساً. وقال ابن تيمية: إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين. يقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] والمخاطبون بذلك: هم بنو إسرائيل، والمؤمنون تبع لهم في الخطاب. فيطلب الله عز وجل من بني إسرائيل الاستعانة على طاعة الله عز وجل بصفة عامة، فيقول: استعينوا بالصبر والصلاة لتذهب عنكم شهوة الرئاسة والجاه، فعندما يطول الأمد، ويشق الجهد يضعف الصبر، فعليك أن تصبر على طول الطريق الشاق، وعلى قلة الناصح، وعلى أن ترى الشر منتشراً، والخير خافتاً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، وعليك أن تصبر على قساوة القلوب، وإعراضها عن كتاب الله عز وجل، وهنا يمد الله عز وجل الصبر بالصلاة؛ لأنها التقاء النقطة بالكنز الذي يغني ويفيض، إنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله الفسيح، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال!). وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)، ودائماً يوصى الدعاة بالصبر وعدم العجلة؛ لأن العجلة تضيع ثمرة الخير التي في الدعوة، يقال بعضهم: إن القائد المحنك لا يخدع بحماس الجماهير الثائرة من ورائه، ثم يضرب المثل على ذلك بقول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]، وهم الذين طلبوا القتال والبذل والعطاء، فلما فرض عليهم القتال تولوا، وهذه هي الانتكاسة الأولى، والانتكاسة الثانية: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ * قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:247 - 248]. الانتكاسة الثالثة: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249]، {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]، وهذه الانتكاسة الرابعة. ولذلك يقول سيدنا خباب بن الأرت: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لاقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، وقال: إنه كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيوضع في حفرة، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ما يمنعه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، وذلك أن الصحابة لاقوا ما لاقوا وصبروا، فقد كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال ينشد نشيده القدسي: أحد أحد، فالفتنة التي تعرض لها الصحابة هي من أشد الفتن، قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]. إن طريق التربية الإيمانية هو أقرب الطرق لإعادة دولة الإسلام وإن ظنه الناس أنه أبعد طريق، ولا بد من ابتلاء كما قيل للشافعي: يبتلى الرجل أم يمكن؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى، فلابد من التربية الإيمانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه! قالوا: كيف يا رسول الله! يذل نفسه؟ قال: يعرضها من البلاء لما لا يطيق). فأين أنت يا مخنث العزم! والطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار في البكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشد الحجر على بطنه من شدة الجوع، ولله خزائن السماوات والأرض، وكسرت رباعيته، وشق رأسه، ولله جنود السماوات والأرض، وسم أبو بكر، وطعن عمر، وذبح عثمان، وطعن علي، وسم الحسن بن علي، وقتل الحسين بن علي، وسم عمر بن عبد العزيز، وقتل الحجاج سعيد بن جبير وما في الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه، فالأمر يحتاج إلى صبر، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مدة دعوته ثلاث وعشرين سنة، فضى منها أكثر من ثلاث عشر سنة في التربية الإيمانية، ولم يتم له النصر الأكبر والأكمل والأكثر تأثيراً المتمثل في فتح مكة إلا قبل وفاته بعامين فقط، فلا تطلب من الناس أن يلتزموا بكل الأحكام مباشرة، ولا تطلق الأحكام على الناس، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:94]، فجاهد نفسك، وهذه هي البداية، {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123]، فمن لم ينتصر على نفسه لا ينتصر على غيره، والإمام ابن القيم تكلم عن جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد أهل البدع، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

الجهاد مراحله وأنواعه

الجهاد مراحله وأنواعه وجهاد النفس أربع مراتب: العلم، والعمل، والدعوة، والصبر على أذى الناس، وجهاد الشيطان، وجهاد الشهوات التي يزينها الشيطان لك، ثم بعد ذلك جهاد الشبهات التي يلقيها عليك الشيطان، وجهاد الشهوات يكون بالصبر، أما جهاد الشبهات فيكون باليقين في آيات الله عز وجل، ثم بعد ذلك جهاد المبتدعة باللسان، ثم بعد ذلك جهاد المنافقين باللسان: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، فأي زنديق يطعن في دين الله عز وجل، أو يتكلم في دين الله عز وجل، أو يطعن في الصلاة التي هي أساس دين الله عز وجل فعليك أن تجاهده، وتبين عواره للناس. ثم جهاد الكفار، ويكون بالسيف واللسان كذلك، وقد مر الجهاد بمراحل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمرحلة الأولى: هي مرحلة الكف، وفيها لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال أي رجل من الكافرين في مكة، ثم بعد هذا جاء الإذن بقتال من قاتله، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، ثم بعد هذا جاء الأمر بوجوب قتال من قاتلك، وأما من سالمك من الكفار فلا تقاتله، ثم أتت المرحلة الرابعة: وهي مرحلة السيف، فابدأ بالقتال لكل الناس حتى يسلموا لله عز وجل، أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذه المرحلة الرابعة هي التي قال فيها جمهور أهل العلم: إنها ناسخة لما قبلها من المراحل، وهذا قول ابن كثير وابن تيمية وابن القيم والقرطبي وابن عباس ومجاهد وقتادة، ومعنى ناسخة أي: مزيلة لحكم المراحل التي قبلها، وليس هو النسخ بالمعنى الأصولي عند الفقهاء؛ لأن النسخ في اصطلاح المتقدمين من علماء السلف ليس كالنسخ في اصطلاح المتأخرين، فمثال النسخ في اصطلاح المتأخرين: أن الناس كانوا يصلون لبيت المقدس فنسخ هذا وأمرهم الله بالتحول إلى البيت الحرام، فالحكم الأول أزيل نهائياً ولا يعمل به في أي وقت من الأوقات، لكن النسخ عند العلماء المتقدمين معناه: التفسير والتبيين، ومن أمثلته: تقييد المطلق، وتخصيص العام، فعندما يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]. وقال في آية أخرى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فـ ابن تيمية يقول: إن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية، أي: مبينة ومفسرة لمعنى الآية الأولى؛ ولذا قال العلماء: إن آية السيف ليست ناسخة وإنما هي ناسئة، كما في قوله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106]، ومعنى الكلام كما قال بعض أهل العلم: أن على المسلمين العمل بآيات الصفح والعفو في زمن الاستضعاف، والعمل بآية السيف في حال القوة والتمكين.

مهاجمة المسلمين لعدوهم من غير فرض جزية، وجواز موادعة الكفار عند الضعف والحاجة

مهاجمة المسلمين لعدوهم من غير فرض جزية، وجواز موادعة الكفار عند الضعف والحاجة وقد سئل الإمام الشافعي: هل يجوز للمسلمين أن يهاجموا عدوهم من غير فرض جزية؟ قال: يجوز لهم هذا. بل قال الشافعي: ويجوز لهم عند الضرورة أن يعطوا المشركين مالاً إذا خشي الإمام استئصال شأفة المسلمين. يعني: دمار المسلمين دماراً نهائياً. والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى غطفان بأن يرحلوا عن المدينة مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة -إذاً: فالمسألة جائزة شرعاً- فقال سيدنا سعد بن عبادة: والله يا رسول الله! لقد كنا كفاراً وما كنا نعطيهم تمرة واحدة من ثمار المدينة، والذي بعثك بالحق لا نعطيهم إلا السيف. ومثل هذا حصل مع ألب أرسلان لما كان معه عشرون ألف مسلم، وقسطنطين الرابع ملك الروم كان معه ستمائة وخمسون ألف جندي مدجج بالسلاح، فسلطان المسلمين خاف على الجيش المسلم أن يباد عن بكرة أبيه، فبعث إلى قسطنطين الرابع وقال له: أبعث لك ما تشاء من المال واسمح للجيش بالمرور، فقال: لا، قال: أعطيك ما تشاء من الأرض، قال: لا، وذلك لخوفه على المسلمين، فأراد أن يسمح لجيشه بالانسحاب، فأبى ذلك الطاغية، ثم قال: من أراد أن يرجع منكم فلا شيء عليه، قالوا: لا، بل نقاتل طلباً للشهادة، فلبس سلطان المسلمين ألب أرسلان كفنه عند الفجر، ولبس كل الجيش أكفنتهم وذهبوا طامعين في قسطنطين الرابع ومعه ستمائة وخمسون ألفاً، وما هي إلا ساعة حتى كان النصر للمسلمين، وسقط قسطنطين في الأسر، ثم نادى ألب أرسلان على قسطنطين: من يشتري الكلب؟ فنادى رجل من مؤخرة جيش المسلمين: لا أشتري الكلب إلا بالكلب! يعني: أدفع في ملك الروم هذا وأشتريه بكلب، قال: ادفعوا إليه الكلب، فذهب الرجل وأتى بكلبه وأتى بـ قسطنطين وربطهما في حبل ليف واحد من العنق، ثم مشى الرجل بهما إلى القسطنطينية، فلما رأى أهل القسطنطينية ما فعل بملكهم سملوا عينيه. فالشاهد: أن الناس يمرون بمراحل، فمثلاً: المسلمون عندما يكونون في وقت مستضعفين فإنه يجوز لهم الموادعة، ولكن هذا لا يعفيهم من الإثم حتى يصلوا إلى الحالة التي يجاهدوا فيها الكفار، وإذا وقعت امرأة أو رجل من المسلمين في الأسر ولم يفد إلا بكل ما في بيت المسلمين من مال فإنه يجوز دفعه لافتدائه، فما ظنك بأعراض المسلمات التي تنتهك! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة لقد أنزل الله كتابه لهداية البشر من الضلالة والعمى إلى نور الإيمان والتوحيد، وكان هذا الكتاب معجزاً في ذاته، ولا تزال معجزاته تتوالى في كل عصر، ومن معجزاته: أن تحدى الله الخلق أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا. ولقد اشتمل هذا الكتاب على بيان قضايا الإيمان وقضايا الغيب؛ إذ بهما يعرف الصادق في إيمانه به من الكاذب، فآمن بها المؤمنون كما جاءت، وأنكرها وأولها الملاحدة من الفلاسفة وغيرهم. وأولى اهتماماً خاصاً بقضية الصلاة؛ إذ هي أجل الأعمال وأفضل القربات عند الله، وبقية الأعمال مرهونة بقبولها؛ من أجل ذلك تولى إيضاحها وبيانها والحث عليها في آياته، وكذلك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

من أسرار الحروف المقطعة في بداية السور

من أسرار الحروف المقطعة في بداية السور إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: يقول العلامة ابن القيم في كلام له طيب في أسرار الحروف من كتابه بدائع الفوائد يقول: تأمل سر (الم) كيف اشتملت على هذه الأحرف الثلاثة، فالألف التي بدأ بها أولاً مصدرها من أقصى الحلق، وهي أول المخارج من أقصى الحلق، واللام من حروف اللسان، ومن وسط مخارج الحروف منها، وهي أشد الحروف اعتماداً على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم من الشفتين. إذاً: الهمزة مخرجها من أقصى الحلق، واللام مخرجها من اللسان، والميم مخرجها من الشفتين وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف، الحلق واللسان والشفتان، ثم ترى الترتيب الألف أولاً، ثم اللام الوسط، ثم الميم، فترى الترتيب في النزول من البداية إلى الوسط إلى النهاية. يقول العلامة ابن القيم: فإن للألف البداية ولللام التوسط وللميم النهاية، فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة، وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة مشتملة على بدء الخلق ونهايته والتوسط فيه، ومشتملة على تخليق العالم، وعلى الغاية من خلقه، وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر، وقد اشتمل على ذلك كل سورة بدأت بـ (الم) مثل البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم. ثم يقول: فإذا أتيت إلى سورة (ق) تجد السورة كلها مبنية على الكلمة القافية، و (ق) هو الحرف الغالب في سورة (ق): من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين قول العبد، وذكر النقيض، وذكر القلب والقرون، والتنقيب في البلاد، والقيل، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وسوق النخل، والرزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، والقول والمحاورة، فترى حرف القاف هو الغالب على سورة (ق). قال: وكل معاني هذه السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح. قال: ثم تعال إلى سورة (ص) وما فيها من الخصومات المتعددة التي تناسب حرف الصاد، وفيها نبض الصاد. فأولها: خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم، واختصام الخصمين عند داود، وتخاصم أهل النار، واختصام الملأ الأعلى في العلم والدرجات والكفارات، ومخاصمة إبليس لربه واعتراضه على أمر السجود، ثم خصامه ثانياً في شأن بنيه، وقوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] إلا أهل الإخلاص. قال ابن القيم: فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حرفها؟!! قال ابن القيم: وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم. هذا قول سيدنا وتاج رأسنا العلامة ابن القيم السابح في بحار القرآن الكريم.

معاني التقوى

معاني التقوى قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]. والتقوى تأتي في القرآن بمعنى الإيمان تارة، وبمعنى التوبة تارة، وبمعنى الطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعة، وبمعنى الإخلاص خامسة. أما بمعنى التوحيد والإيمان فقد الله تبارك وتعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26] وهي كلمة التوحيد. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3]. وقال تعالى: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء:11] يعني: ألا يوحدون الله عز وجل، وألا يؤمنون. وأما التوبة ففي قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف:96] يعني: وتابوا إلى الله عز وجل. وأما الطاعة ففي قول الله عز وجل: {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2]. وأما ترك المعصية ففي قول الله عز وجل: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:189]. وأما الإخلاص ففي قول الله عز وجل: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].

معنى الإيمان

معنى الإيمان قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3]. والإيمان لغة معناه: التصديق، قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] يعني: وما أنت بمصدق لنا. والإيمان شرعاً: تصديق وقول وعمل، تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان. والتصديق بالجنان معناه: اعتقاد القلب بانفراد الله عز وجل بالألوهية، ولا تكفي المعرفة بأن الله عز وجل واحد، وعدم التصديق بذلك لا ينجي العبد من الخلود في النار، وقد قال الناس: إن قول القلب هو تصديق القلب بانفراد الله عز وجل بالألوهية ولا تكفي المعرفة فقط. وأبو طالب كان يقول: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وقال تعالى عن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. إذاً: فلا تكفي المعرفة، وإنما لابد من يقين القلب واعتقاده الجازم بانفراد الله بالألوهية وتصديقه بذلك. هذا قول القلب.

بيان أول واجب على الإنسان عند أهل السنة وعند الأشاعرة

بيان أول واجب على الإنسان عند أهل السنة وعند الأشاعرة وقول اللسان: هو النطق بالشهادتين، وهذا هو أول واجب على المكلف، خلافاً لقول الأشاعرة: إن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إلى النظر، وعندهم أنه لا ينفع التقليد في التوحيد. وهذا القول مما خالفهم فيه الحافظ ابن حجر في المجلدين الأول والثالث عشر من (فتح الباري)، وهذا الذي جعل بعض الناس يقولون: إن ابن حجر لم يكن من الأشاعرة، وإنما كان من مفوضة أهل السنة والجماعة ولم يكن من الأشاعرة؛ لأنه خالفهم في أول واجب على المكلف، وقال: لابد من النطق بالشهادتين إلا أن يحول بين ذلك حائل، كأن يكون أخرس لا يستطيع النطق بها لعيب في لسانه مثلاً.

بيان كيفية توبة المرتد

بيان كيفية توبة المرتد في دار الدنيا إن لم ينطق العبد بالشهادتين لا يكون مسلماً أبداً، وقول اللسان يكون بالنطق بالشهادتين، فلو أتى أحد وقال لك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فإنه يدخل بها الإسلام، فإذا علم من حاله أنه يقول: إن محمداً نبي العرب فقط وليس للأقباط ولا لنا فلا تكفي حتى يشهد أن الرسالة عامة للثقلين، وناسخة لما قبلها من الشرائع. والمرتد يرجع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين وبالتصديق بما أنكره. فلو قال لك أحد: لا يوجد في الإسلام صلاة، قلنا لك: أقم عليه حد الردة، فإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فلا يكفي ذلك، بل لا بد أن يقر بما جحده. وهو وجوب الصلاة. إذاً: الدخول في الإسلام يكون بالنطق الشهادتين، ثم بالتصديق بما جحده، وهذه مسألة هامه جداً.

بيان أفضل العمل

بيان أفضل العمل وعمل القلب أفضل الأعمال، وهو الخوف والرجاء والحب والتوكل والإخلاص. وهذه الأشياء الثلاثة أقل شيء يأتي به العبد حتى يكون مسلماً، وليس لازم أن يأتي بالأعمال كلها، فمثلاً الصلاة فيها اختلاف بين العلماء، فالإمام الشافعي يقول: إن لم يجحدها وإنما تركها تكاسلاً فلا يكفر.

بيان شروط تحقيق الإسلام في العبد

بيان شروط تحقيق الإسلام في العبد وأما النطق بالشهادتين فلازم، وكذلك تصديق القلب واعتقاده بانفراد الله عز وجل بالألوهية، ثم أصل أعمال القلوب. فمن أجل أن يكون العبد مسلماً عند الله عز وجل فلا بد أن ينطق بلسانه بالشهادتين، ويصدق ويوقن بقلبه، وهذا شيء خفي بينه وبين المولى عز وجل، ثم الأمر الثالث أصل أعمال القلوب والتي هي الخشية والخوف والرجاء والمحبة والإخلاص، فلا بد أن يكون في قلبه أقل شيء من الخوف لله عز وجل، وأقل شيء من المحبة، وأقل شيء من الإخلاص. فإن لم يوجد في قلبه تعظيم خالص لله عز وجل وانتفى منه الخوف مطلقاً من قلبه فلا يكون مسلماً.

بيان كيفية معرفة إسلام العبد

بيان كيفية معرفة إسلام العبد وأما كيفية معرفة أن في قلبه شيئاً من ذلك فلا بد من أن يأتي ببضعة من الأعمال تثبت ذلك، فمثلاً: الخوف لا بد أن يكون عنده ولو ذرة بسيطة في قلبه من الخوف، ونعرف أنه لا يوجد في قلبه ذرة من الخوف أو أنه لا يخاف ربنا أبداً كأن يأتي بالمصحف مثلاً بمزاجه هكذا وهو بكامل عقله وفي كامل قواه غير مكره ثم يطأ عليه، ولو كان في قلبه أدنى ذرة من التعظيم لله لما فعل ذلك؛ لأنه يعلم أن المصحف كلام الله عز وجل. فلو أتى بالمصحف وقطعه ووضعه تحت رجله بمزاجه هكذا وبدون إكراه أو ضغط عليه أو ضرب أو فقد لعقله أو شرب للخمر، فليس في قلبه أدنى ذرة من التعظيم لله عز وجل، فأصل أعمال القلوب أن يكون عنده أقل ذرة من المحبة لله عز وجل، وأقل ذرة من الخوف من الله عز وجل، وأقل ذرة من التوكل على الله عز وجل، وهذه هي الثلاثة التي ينجو بها العبد عند الله عز وجل، فإن انتفى ذلك تماماً من قلبه لم يكن مسلماً.

شبهة حول تكفير المرتد والجواب عنها

شبهة حول تكفير المرتد والجواب عنها يكفي في دار الدنيا النطق بالشهادتين حتى يكون الشخص ملسماً، وبعض الناس اليوم يقول: لا يستطيع أحد أن يحكم بالكفر على أحد، وكيف يستقيم هذا الكلام والعلماء قد كتبوا كتباً كثيرة في الردة، وكتب المذاهب الأربعة والكتب الفقهية مملوءة بالكلام عن الردة، وكذلك كتب السنة مملوءة بأحكام الردة، فإذا عمل أحد شيئاً كفرياً قلنا له: هذا كفر، فنأخذه إلى القاضي الشرعي حتى يقيم عليه الحجة ويقول له: ارجع، فلا تكون العملية سائبة، فلا يقول أحد: لا يوجد أحد يقدر أن يحكم بالكفر على أحد، ولا يملك التكفير إلا الله عز وجل، ومن الذي قال هذا الكلام من العلماء؟! قال حذيفة بن اليمان: كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما اليوم فإما الإسلام وإما السيف. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ربنا أطلعه على أسماء المنافقين، والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يقتل أحداً من أصحابه؛ خشية أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وأما الآن فقد انتهى النفاق، فكل من أظهر طعناً واضحاً جلياً في دين الله قلنا له: لست جاهلاً وإنما تريد طعناً في دين الله عز وجل، فتعال إلى العلماء، ليقيموا عليك الحجة وإلا حكموا عليك بالردة.

بيان كفر الحلاج وضلالاته

بيان كفر الحلاج وضلالاته ولو لم يكن أحد يملك تكفير أحد فلماذا العلماء كفر العلماء الحلاج وحكموا عليه بالقتل، وهل هؤلاء العلماء كانوا ظالمين له؟ ماكنول المستشرق الأجنبي جلس أربعين سنة ينخر في فكر الحلاج؛ فقد كان عنده بلايا وزندقة واضحة كما ذكر ذلك العلامة ابن كثير، ولسنا نحن من يقول هذا الكلام، بل قاله ابن كثير، وقد كان عالماً وسيداً من سادات العلماء، فقال في المجلد الثالث عشر من (البداية والنهاية): إن الحلاج كان يقول: ألا أبلغ أحبائي بأني ركبت البحر وانكسر السفينة على دين الصليب يكون موتي فلا البطحا أريد ولا المدينة وقال: إن الرجل يسقط عنه صوم رمضان بصيام ثلاثة أيام، ثم يصوم اليوم الرابع ويفطر على ورق الشجر -أي: مثل الجواميس والعجول- فيسقط عنه فرض الصوم. ويقول عن الحج: إن الرجل يأتي إلى حجرة مطيبة من بيته ويطوف حولها ويفعل عندها ما يفعل حول الكعبة، ويطعم ثلاثين مسكيناً بيده، ويعطي كلاً منهم 7 دراهم، وبهذا يسقط عنه فرض الحج. وبهذا يرتاح الناس جداً؛ لأن كل واحد منهم عنده اليوم غرفة فيها موكيت نظيف تمام النظافة، فيطوف حولها، فيسقط عنه فرض الحج. وأما القرآن فيقول عنه الحلاج لتلميذه: أستطيع أن أؤلف مثله. وهذا ليس كلامي وإنما هو كلام ابن كثير، وكل من يظهر طعناً واضحاً جلياً في دين الله عز وجل فهو زنديق. وحكم الزنديق في الإسلام إذا كان أمر زندقته مشهوراً أنه لا تقبل له توبة ويقتل درءاً للفتنة. والحدود لا يقيمها إلا الوالي أو الحاكم الشرعي؛ حتى لا تحدث الفتن.

بيان ما تتعدى به كلمة مؤمن

بيان ما تتعدى به كلمة مؤمن وكلمة مؤمن تتعدى بالباء أو باللام، مثل قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]، وقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى} [يونس:83]، وقوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:73]. ففعل (آمن) يتعدى باللام، أي: يأتي بعده لام الجر، ويتعدى بالباء، أي: تأتي بعده الباء، مثل قولنا: أنا مؤمن برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تقول: أنا مؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بالباء أو باللام.

بيان كون العمل من الإيمان

بيان كون العمل من الإيمان إن الأعمال ركن من أركان الإيمان، فقد الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان). أخرجه الإمامان البخاري ومسلم.

معنى الغيب والإيمان به

معنى الغيب والإيمان به وقال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] والغيب كما قال العلماء هو: كل ما غاب عن العباد وأخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدخل في ذلك الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بالملائكة، وبالكتب المتقدمة، وبالرسل المتقدمين، وباليوم الآخر، وبالجنة وبالنار، وبلقاء الله عز وجل، وبكل ما ذكر القرآن من الغيوب. ومن الإيمان بالملائكة ألا تصفها بأن لونها ذهبي؛ لأن هذا فيه استهزاء بالملائكة، وكذلك لا تقل: طعام الملائكة، أو أكل الملائكة، أو هذا يأكل مع الملائكة، وبعض العبارات التي تخرج من الناس وهم لا يشعرون بها توقعهم في سخط الله عز وجل، وهم يقولونها جهلاً منهم بدينهم. والغيب كل ما غاب عنا، فالله عز وجل غيب، والإيمان بالقدر غيب؛ لأن قدر الله عز وجل غائب عنا. ومن الإيمان بالغيب الإيمان باللوح المحفوظ، والإيمان بالحور العين، وبما ذكر الله عز وجل في الجنة، وبما ذكر في النار، وبعض العلماء يقولون: ومن الإيمان بالغيب: الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا آمنا به ولم نره. قال العلامة ابن عطية رحمه الله في كتابه (المحرر الوجيز): وهذه الأقوال كلها لا تتعارض في معنى الغيب، بل يقع الغيب على جميعها. فالغيب في اللغة: ما غاب عنك من الأمر. وبعض العلماء قالوا في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]: يؤمنون به حال غيبهم، يعني: يؤمنون به باطناً كما يؤمنون به ظاهراً، فيؤمنون بقلوبهم كما يؤمنون بألسنتهم، وبهذا يفارقون أهل النفاق الذين يؤمنون بألسنتهم وينافقون بقلوبهم. هذا كله من معاني الإيمان بالغيب.

بيان إنكار ابن سينا للحشر وللجنة

بيان إنكار ابن سينا للحشر وللجنة وابن سيناء يقول: لا يوجد شيء اسمه الجنة، ولا يوجد شيء اسمه حشر الأجساد، وإنما الحشر هو حشر النفوس، وأنه لا يوجد عقاب ولا جزاء، وأن جزاء الفيلسوف أن روحه تنتقل إلى فيلسوف ثان، فقال: بتناسخ الأرواح، وقال: إن عقاب الرجل الذي ليس فيلسوفاً وكان عاصياً أن روحه تنتقل إلى عاصٍ مثله، وأنكر حشر الأجساد، ووجود الجنة، والله تعالى يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:10 - 22]. فأثبت تعالى أن الجنة فيها أكل وشرب ونكاح. وقد كان ابن سيناء من طائفة الحشاشين، وهم من غلاة الإسماعيلية الشيعة. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يمشي الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها). فلا يقول أحد: لا يعقل أن شجرة يمشي الراكب في ظلها مائة عام وأنا أمشي من هنا إلى أسوان في شهرين، يعني: أن هذه الشجرة إلى حد موزبيق فلا يعقل هذا الكلام. ولكن علينا أن نؤمن بهذا ونصدقه. ولما قيل لـ أبي بكر الصديق: أما تنظر إلى صاحبك يزعم أنه قد أسري به ثم عاد الليلة! فقال: إن كان قاله فقد صدق.

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3]، أي: يداومون عليها. ونقل العلامة القاسمي في كتابه (محاسن التأويل) عن الراغب في إقامة الصلاة قال: إنها توفية حدودها، وإدامتها، والمحافظة عليها، وأداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، وملازمتها جماعة في الفرائض، والإكثار من النوافل.

فضل الصلاة وفضل إقامتها في أول وقتها

فضل الصلاة وفضل إقامتها في أول وقتها ونأتي إلى إقامة الصلاة عند علماء السلف وعبادهم والسابقين من هذه الأمة، وسجودهم في المحراب، واستغفارهم في الصلاة، ودموعهم عند المناجاة، وهذه يحتكرها المؤمنون، ولئن كانت جنة أهل الدنيا في الدينار والنساء والقصر المنيف فإن جنة المؤمن في محرابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان والحاكم وحسنه الألباني: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر). ومن إقامة الصلاة المحافظة عليها في أول وقتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الصلاة لوقتها، والجهاد في سبيل الله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعت النداء فأجب داعي الله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال! أقم الصلاة، أرحنا بها يا بلال).

فضل المشي إلى المساجد

فضل المشي إلى المساجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم). ومن إقامة الصلاة والمحافظة عليها: أن تمشي إلى المساجد متوضئاً، فأجر الخارج إلى صلاة مكتوبة متوضئاً متطهراً كأجر الحاج المحرم، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا يخرجه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين). والمشي إلى المساجد بوضوء هذا مما اختصمت فيه الملائكة.

فضل صلاة الجماعة

فضل صلاة الجماعة ومن إقامة الصلاة أيضاً: الحرص على صلاة الجماعة، وعلى التكبيرة الأولى. فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق). رواه الترمذي، وحسنه الشيخ الألباني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه: إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته). والبشبشة هي: الفرح، كما في رواية: (إلا فرح الله عز وجل به). رواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني.

فضل صلاة العصر والترهيب من تركها

فضل صلاة العصر والترهيب من تركها ومن إقامة الصلاة: حب الرجل للمساجد وتعلقه بها؛ حتى يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويبدو حرص الرجل على صلاته في حرصه على الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة -يعني: العصر- عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ منكم اليوم عليها كان له أجره مرتين). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله).

فضل صلاتي الفجر والعشاء والجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد حتى تطلع الشمس وصلاة ركعتين

فضل صلاتي الفجر والعشاء والجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد حتى تطلع الشمس وصلاة ركعتين ومن إقامة الصلاة والحرص عليه: المحافظة على صلاتي العشاء والصبح في جماعة والجلوس في المسجد للذكر حتى تطلع الشمس، ثم صلاة ركعتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله). يعني: الذي يصلي العشاء له النصف، والذي يصلي الصبح له نصف آخر، فيصبح كأنما قام الليل كله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في صلاة العشاء وصلاة الفجر لأتوهما ولو حبواً). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها). ودخول المسجد في صلاة الفجر له خاصية أخرى: فعن ميثم وهو رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بلغني أن الملك يغدو برايته -ملك من الملائكة- مع أول من يغدو إلى المسجد، فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منزله، وإن الشيطان يغدو برايته إلى السوق مع أول من يغدو فلا يزال معه حتى يرجع فيدخل منزله). وهذا القول له حكم الرفع؛ لأنه قول صحابي، وإذا قال الصحابي: بلغني فله حكم الرفع. وهذا الحديث رواه ابن أبي عاصم وأبو نعيم والمنذري. فأول واحد خارج من بيته لصلاة الفجر يمشي معه الملك بالراية حتى يدخله المسجد، ثم ينتظره بعد الصلاة حتى يوصله إلى بيته، فيا عظمة ذلك الرجل، وهو أفقر رجل في بلدنا لا يملك قوت يومه إلا بالعافية، وأقسم بالله أنه يومياً يمضي قبل الفجر بثلاث ساعات إلى المسجد متوكئاً على عكازه يتهجد، وما فاتته صلاة الجماعة قط. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار وكتب في وفد الرحمن). متى صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب فإذا فعلت ذلك كتبت عند الله عز وجل من الأبرار، وكتبت في وفد الرحمن. وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار لوجهه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: (من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة). فإذا فعلت ذلك كل يوم كان لك أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، إذاً: فاجلس حتى تشرق الشمس، وصل ركعتين، ثم ارجع إلى بيتك بأجر حجة وعمرة تامة؛ حتى يبارك لك ربك في بيتك وفي زوجتك وفي مالك وولدك، لا أن تخرج تجلس في الشارع إلى أن تشرق الشمس، ثم بعدها تذهب لعمل الدنيا فلا يبارك لك ربك في العمل.

فضل الصف الأول

فضل الصف الأول ومن إقامة الصلاة: حرصك على الصلاة في الصف الأول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)، وهذا فيه فضل الصلاة في الصف الأول.

فضل الصلاة في ميامن الصفوف ووصل الصفوف واللين بالمناكب

فضل الصلاة في ميامن الصفوف ووصل الصفوف واللين بالمناكب ومن تمام إقامة الصلاة: الصلاة في ميامن الصفوف، فعن عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)، فصلاتك عن يمين الإمام يوجب صلاة الله عز وجل والملائكة عليك. ومن إقامة الصلاة: صلة الصفوف، ولين المناكب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خياركم ألينكم مناكب في الصلاة) أي: تجعل منكبك بجانب منكب أخيك، لا أن تدفعه وكأنك تريد أن تخلع كتفه.

فضل السنن الرواتب

فضل السنن الرواتب وأيضاً من تمام إقامة الصلاة: الحرص على صلاة السنن الرواتب في البيوت، وأداؤها في البيوت سنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشر ركعة تطوعاً بنى الله له بيتاً في الجنة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الغداة).

الترغيب في صلاة السنن والنوافل في البيت

الترغيب في صلاة السنن والنوافل في البيت وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة السنن الرواتب والنافلة في البيوت، فقال: (فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل المكتوبة على النافلة).

فضل صلاة الضحى

فضل صلاة الضحى وأيضاً من تمام إقامة الصلاة ومن حرص الرجل على الصلاة: حرصه على صلاة الضحى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب، وهي صلاة الأوابين). وأفضل أوقاتها هو ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال).

بيان الاختلاف في صلاة التسبيح وذكر فضلها وكيفيتها

بيان الاختلاف في صلاة التسبيح وذكر فضلها وكيفيتها وأيضاً المحافظة على صلاة التسبيح، ومعظم فقهاء القاهرة يضعفون حديث صلاة التسابيح، وأنا سألت شيخنا الشيخ ابن عثيمين عن صلاة التسابيح فقال لي: لا أعرف عنها إلا ما تعرف، فأعطيته أسماء العلماء الذين صححوها وحسنوها، ومن ضعفها من أهل العلم، وممن حسن صلاة التسابيح الحافظ ابن حجر أستاذ الدنيا كلها في علم الحديث، وكذلك الشيخ الألباني، وشيخ الإسلام الإمام البلقيني، وأبو عبد الرحيم المصري، والإمام المنذري، والإمام الحاكم، والحافظ العلائي، وبلغ الذين صححوا صلاة التسابيح أو حكموا عليها بالحسن أكثر من أربعين عالماً، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في التعليق على (مشكاة المصابيح) ضعف الحديث أولاً ثم رجع عن تضعيفه. وذكر الحافظ ابن حجر هذا الكلام أيضاً في النكت على الأذكار. وابن حجر عندنا يساوي ملء الأرض من طلاب الحديث والعلماء من أمثالنا. و {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، ولكن علينا دائماً أن نرد الأمر إلى أهله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن صلاة التسابيح: (يا عباس! يا عماه! ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته؟ تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، فلو كانت ذنوبك مثل زبد البحر أو رمل عالج غفرها الله لك، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة). وصلاة الأربع الركعات مثنى مثنى.

الخشوع في الصلاة

الخشوع في الصلاة وأيضاً من إقامة الصلاة: أن تخشع فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تتكلم بكلام تعتذر منه، واجمع الإياس مما في أيدي الناس) أي: اجعل كل قلبك متصل بربك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته، فصل صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها، وإياك وكل أمر يعتذر منه) أي: صل وكأنها آخر صلاة لك. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة طول القنوت). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه، فلينظر كيف يناجيه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صل صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك).

أهمية مراعاة المعاني الباطنة للصلاة

أهمية مراعاة المعاني الباطنة للصلاة وأيضاً من إقامة الصلاة: أن تراعي المعاني الباطنة للصلاة من حضور القلب في الصلاة، وأن يكون قلبك تابعاً لهمتك، فلابد من حضور القلب في الصلاة، وتدبره وتفهمه لمعاني ألفاظ القرآن الكريم التي يتلوها، ثم تعظيم كلام الله عز وجل، ومعرفة حقارة النفس وخستها، وكونه عبداً مربوباً مسخراً. وإذا علمت أن ربك عظيم، وعلمت مدى حقارة النفس تبت إلى الله عز وجل، واستكنت وانكسرت وخشعت له عز وجل. وإذا استحضر العبد الهيبة والرجاء ولطف الله وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده بالجنة إذا صلى ثم استشعر الحياء وتقصيره في الصلاة وعلمه بالبعد عن القيام بحق الله عز وجل فإنه يستحيي من ربه أن يوجه إليه صلاة عرجاء.

وصف صلاة الخاشع

وصف صلاة الخاشع وقد وصف العلامة ابن القيم صلاة الخاشع فقال: يصلي ما كتب الله له صلاة محب ناصح لمحبوبه، متذلل منكسر بين يديه، لا صلاة مدل بها عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن استزاره ولم يطلب غيره، وأعزه وأهله بالقرب منه وحرم غيره، وهو يزداد بذلك محبة إلى محبته، ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة، وهو يتمنى طولها ويهتم بفراقها كما يتمنى المحب الفائز وصول محبوبه، كما يقول الشاعر: يود لو أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد القلب والبصر فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، يناديه بكلامه، معطياً لكل آية حظها من العبودية، فينجذب قلبه وروحه إلى آيات المحبة والوداد، والآيات التي فيها الأسماء والصفات، والآيات التي تعرف بها الله إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم، فتطيب له السير آيات الرجاء والرحمة وسعة البر والمغفرة، وتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيب له السير ويهونه، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه، ويمنعه أن يشرد قلبه عن الصلاة. فبالجملة يشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلى في الكلام، فيعطي كل آية حظها من عبودية القلب الخاصة الزائدة على مجرد تلاوتها والتصديق بأنها كلام الله، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها، ثم شأن آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان يلعب قبل ذلك، كما قيل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب وعندما يدخل الشخص الجنة ويرى النعيم الذي فيها وتفاوت الدرجات يقول: يا إلهي! لقد كنا نلعب في دار الدنيا، فصلاتنا كلها صلاة عرجاء، لا تؤهلنا إلى أن نأخذ فقط مقبض باب من أبواب الجنة، فمقبض الباب فقط يساوي الدنيا كلها وما عليها، (ولموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها). ولو قيل لك: لو صليت صلاة فسنعطيك فلة على البحر، فإنك ستصلي صلاة لم يصلها أحد؛ من أجل فلة فقط على البحر، فما ظنك بصلاة ترتفع بها إلى أعلى عليين؟

بيان تفاوت أهل الجنة في الدرجات

بيان تفاوت أهل الجنة في الدرجات إن الذين في أدنى درجات الجنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينظرون إلى أهل الغرف كما تنظرون أنتم إلى النجم الدري الغابر في الأفق؛ لتفاضل ما بينهما، وما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض). يعني: من التفاوت الذي بينهما. وهذا التفاوت موجود حتى في الدنيا، فهناك ناس في الدنيا لا يقدرون على شراء طعمية أو باذنجان، وهناك ناس يطيرون بطائرات من ذهب، فالتفاوت في دار الدنيا رهيب لا يخطر على بال أحد، حتى يكاد الشخص يجن، فتجد ناساً فقراء في هذه الدار، وناساً لا يخطر غناهم على بال أحد، إذاً: فكيف تكون الجنة؟! وسبحان مثبت العقول. فإن آخر من يدخل الجنة يبدو له قصر من در أبيض، وإذا رأى قهرمانه -وهو لم يره قبل ذلك- سجد له، فيقال له: ارفع رأسك، فيقول: كأنما تراءى لي ربي، فيقول: إنما أنا قهرمانك، وتحت يدي ألف على مثل ما أنا عليه.

التحذير من الغفلة عن الآخرة والركون إلى الدنيا

التحذير من الغفلة عن الآخرة والركون إلى الدنيا فيا ويلك يا من تترك كل هذا النعيم، وتجادل عن جيفة طلابها كلاب، فالملك يدعوك إلى جنانه وأنت مقيم على الجيف وتقول: والله لآخذنها، فنعيم أنت راحل إليه في كل لحظة أحق بالعمل له من نعيم خراب أنت راحل عنه في كل لحظة. يقول ابن القيم: فوا أسفاه وواحسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً، وموته كمداً، ومعاده حسرة!!

بيان معنى تطفيف الصلاة وسرقتها

بيان معنى تطفيف الصلاة وسرقتها يا ابن آدم! أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك! فالصلاة مكيال، وقد علمت ما قال الله في المطففين، وإن كان الله قد توعد المطففين في مكيال الدنيا من الحبوب والشعير فما ظنكم بالمطففين في مكيال الدين!! {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس من بخل بالسلام). فليس السارق هو الذي يقطع الجيوب، بل السارق الذي يسرق من صلاة؛ نفسه، فهو يسرق نفسه، فتجده يكبر في التراويح: الله أكبر بسرعة من أجل الفوازير، ويجادل بأن السنة في صلاة التراويح ثمان ركعات فقط، والوتر ركعة أو ثلاث من أجل الفوازير.

نماذج من خشوع السلف في الصلاة

نماذج من خشوع السلف في الصلاة وأين هذا من الإمام يحيى بن وثاب، فقد كان إذا قضى صلاته مكث ملياً تعرف فيه كآبة الصلاة، وكان إذا ركع أو سجد فكأنه قد وقف للحساب، ويقول: أي رب! أذنبت كذا وكذا فعفوت عني فلا أعود، وأذنبت كذا وكذا فعفوت عني فلا أعود. وكان إبراهيم النخعي إذا صلى يمكث بعد الصلاة ساعة كأنه مريض. وحاتم الأصم لما سئل عن صلاته قال: أقوم إلى صلاتي وأمثل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يمني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأظنها آخر صلاتي.

شدة محافظة السلف على صلاة الجماعة

شدة محافظة السلف على صلاة الجماعة وهناك أمثلة عطرة في تاريخ الإسلام لعلو كعب العلماء في المحافظة على صلاة الجماعة، والمسارعة إليها، وفي اختيارهم المكان البعيد؛ كي يكسبوا الثواب، فـ سعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أسمع صوت المؤذن في المسجد. ويقول: منذ أربعين سنة ما نظرت إلى قفا مسلم في صلاة؛ لأنه كان يصلي في الصف الأول، فلا يوجد أحد أمامه حتى يرى قفاه. وأما حضور صلاة الفجر ليلة الزواج فهذه لا تخطر على بال، وما الذي يمنعك إن أنت تزوجت أن تصلي في المسجد وترجع إلى زوجك؟ روى الإمام الطبراني عن عنبسة بن الأزهر قال: تزوج الحارث بن حسان وكان له صحبة، فأراد أن يخرج لصلاة الفجر فقيل له: أتخرج وإنما بنيت بأهلك في هذه الليلة؟! قال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة ومن صلاة الفجر في جمْع لامرأة سوء. والإمام سعيد بن المسيب لما اشتكى عينه قالوا: اذهب إلى البادية، قال: فكيف بصلاة الغداة والعشاء؟ أي: لا داعي لذلك، وعيني ستشفى إن شاء الله. وكانوا يحضرون وهم مرضى. فالإمام أبو عبد الرحمن السلمي كان يقول: قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) هو الذي أقعدني هذا المقعد منذ أربعين سنة. فقد درس الناس وعلمهم القرآن أربعين سنة، ثم لما مرض أبو عبد الرحمن السلمي وكان قد نزل المطر قال لهم: احملوني على أكتافكم وخذوني إلى المسجد، فكان يحمل وهو مريض إلى المسجد. والإمام سعيد بن المسيب قيل له: إن طارقاً يريد قتلك، فقال: أبحيث لا يقدر الله علي؟ فقيل له: اجلس في بيتك تحمي رقبتك، فقال: أسمع حي على الفلاح ولا أجيب؟!

مقارنة بين حالنا وحال السلف في المحافظة على صلاة الجماعة

مقارنة بين حالنا وحال السلف في المحافظة على صلاة الجماعة ونحن عندما تكون هناك مباراة للأهلي والزمالك في يوم الجمعة تمتلئ المدرجات بالمشاهدين، فإذا جاءت صلاة الجمعة وقلت لهم: صلوا، قالوا: أيعقل أن نترك المكان؟ لتذهب صلاة الجمعة في ستين داهية، وأما ترك المكان فلا. والإمام أبو عبد الرحمن السلمي حرص على أن يأتيه الموت وهو في انتظار الصلاة في المسجد، ورفض الانتقال من المسجد إلى فراشه لما حضرته المنية. فعن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن السلمي وهو في النزع الأخير في المسجد، فقلنا له: لو تحولت إلى فراشك فإنه أوسع لك، فقال: حدثني فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة)، قال أبو عبد الرحمن السلمي: فأريد أن أموت وأنا في مسجدي، ومات في المسجد.

حث الأبناء على صلاة الجماعة

حث الأبناء على صلاة الجماعة وينبغي لك أن تحث ابنك على ملازمة المسجد، قال أبو الدرداء لابنه: يا بني! ليكن المسجد بيتك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المساجد بيوت المتقين، فمن كانت المساجد بيوته ضمن الله له بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى الجنة). وهذا الحديث حديث صحيح. فالواجب على الأب أن يؤدب ابنه إذا تأخر عن صلاة الجماعة. وروي عن عبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز: أنه لما بعث ابنه عمر إلى المدينة ليتأدب بها كتب إلى صالح بن كيسان أن يتعاهده، وأن يلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة فقال له صالح بن كيسان: ما حبسك؟ قال: كانت خدامتي تسكن شعري، أي: تسرح لي شعري، فقال: أبلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟! وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

مجاهدة النفس

مجاهدة النفس إن العبد المؤمن القوي بحاجة إلى أن يعاتب نفسه ويحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، ولا يمكن أن يقوى العبد على طاعة وينشط في عبادة ربه إلا إذا عرف نفسه قدرها، وخيرها بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة فاختارت النعيم الأبدي السرمدي، فعملت لما بعد الموت، وانشغلت به عن ملذات الدنيا التي لا تساوي شيئاً

وقفة عتاب للنفس

وقفة عتاب للنفس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فنتكلم اليوم عن المرابطة الخامسة وهي: مجاهدة النفس، وقد تشق على الشخص ولكنها طريق فريد لشرف النفس وعلوها، وقد يطول بك الأمر فاصبر، وسبيلك في ذلك أن تسمع ما ورد في الأخبار من فضل مجاهدة النفس، ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبد من عباد الله، مجتهد في العبادة، فتلاحظ أقواله وتقتدي به. قال عبد الله بن المبارك: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فأجد فيه الحزن؛ فأمقت نفسي. وكان بعضهم يقول: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده، فعملت على ذلك أسبوعاً. إلا أن هذا العلاج قد أصبح عزيزاً؛ إذ قد فقد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الأولين، فينبغي أن يعدل من المشاهدة إلى السماع، فلا شيء أنفع من سماع أحوال الصالحين، ومن مطالعة أخبارهم، وما كانوا فيه من الجهد الجهيد، وقد انقضى تعبهم، وبقي ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع، فما أعظم ملكهم! وما أشد حسرة من لا يقتدي بهم! فيمتع نفسه أياماً قلائل بشهوات مكدرة، ثم يأتيه الموت ويحال بينه وبين كل ما يشتهيه أبد الآباد نعوذ بالله من ذلك! قال أبو حنيفة رحمه الله: الحكايات عن الصالحين أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها أخلاق القوم وآدابهم. قيل لـ فتح الموصلي: بالله عليك يا فتح كم بكيت الدم؟ قال: لولا أنك سألتني بالله ما أخبرتك، بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله تعالى، وبكيت الدم على الدموع؛ لئلا يكون ما صحت لي الدموع: والعين لها دم ودمع سح ذا يكتب شجوه وهذا يمحو كان الثوري رحمه الله يقول: عند الصباح يحمد القوم السرى وعند الممات يحمد القوم التقى فهكذا كانت سيرة السلف الصالحين في مجاهدة النفس وفي مراقبتها، فمهما تمردت نفسك عليك، وامتنعت من المواظبة على العبادة فطالع أحوال هؤلاء، ولو قدرت على مشاهدة من يقتدي بهم فهو أنفع، وأبعث على الاقتداء، فليس الخبر كالمعاينة، وإذا عجزت عن هذا فلا تغفل عن سماع أحوال هؤلاء، فإن لم تكن إبلاً فمعزا، وخير نفسك بين الاقتداء بهم والكون في زمرتهم وغمارهم وهم العقلاء والحكماء وذوو البصائر في دين الله، وبين الاقتداء بالجهلة الغافلين من أهل عصرك، ولا ترض لها أن تنخرط في سلك الحمقى وتقنع بالتشبه بالأغبياء، وتؤثر مخالفة العقلاء، فإن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات، وقل لها: يا نفس! ألا تستنكفي أن تكوني أقل من امرأة؟! فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها: كذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي أتسبقك وأنت رجل نسوة أما لك بالرجال أسوة كانت جارية خالد بن الوراق شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة، فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل؛ فبكت ثم قالت: إني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، وإني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، ولكن قل لي يا خالد: كيف لي بحسرة السباق؟ قلت لها: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر، إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي! لا يسبق مقصر مجداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد! انظر لا يقطعك عن الله قاطع، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الآمال توقظه إذا نام البطالون؟! وكانت عمرة زوجة أبي محمد حبيب العجمي توقظه لقيام الليل وتقول: قم يا سيدي، فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، وبين يدينا طريق طويل، وزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا. فعليك إن كنت من المرابطين المراقبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين؛ لينبعث نشاطك ويزيد حرصك، وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك! فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إياك أن تتدلى بحبل غرورها وتنخدع بتزويرها! قل لها: أرأيت لو هجم سيل جارف يغرق أهل البلد وثبتوا على مواضعهم، ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال، وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبي في سفينة تتخلصين بها من الغرق فهل يختلج في نفسك أن المصيبة إذا عمت طابت أم تتركين موافقتهم في صنيعهم وتأخذين حذرك مما دهاك؟ فإن كنت تتركين موافقتهم خوفاً من الغرق، وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة فكيف لا تهربين من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال، ومن أني تطيب المصيبة إذا عمت؟ ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص، ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم، حيث قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، خذ قول الله عز وجل لأهل النار: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، فعليك إذا اشتغلت بمعاتبة نفسك فاستعصت ألا تترك معاتبتها وتوبيخها، وتعريفها سوء نظرها لنفسها؛ فعساها تنزجر عن طغيانها.

توبيخ النفس ومعاتبتها

توبيخ النفس ومعاتبتها أما المرابطة الثانية: فهي توبيخ النفس ومعاتبتها. اعلم يا أخي! أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها، ومنعها عن شهواتها، وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن هزمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها، ورجوت أن تصير النفس المطمئنة، المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية، فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي من الله، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وسبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها وغباوتها، وأنها أبداً تتعزز بفطنتها وهدايتها، ويشتد أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الجهل، فقل لها: يا نفس! ما أعظم جهلك! تدعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار؟! وأنك صايرة إلى إحداهما على القرب؟ فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم؟ وعساك اليوم تخطفين أو غداً فأراك ترين الموت بعيداً، ويراه الله قريباً! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن البعيد ما ليس بآت؟ أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة ومواطأه، وأنه لا يأتي في شيء دون شيء، ولا في شتاء دون صيف، ولا في صيف دون شتاء، ولا في نهار دون ليل، ولا في ليل دون نهار، ولا يأتي في الصبا دون الشباب، ولا في الشباب دون الصبا؟ بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، فإن لم يكن الموت فجأة، فيكون المرض فجأة ثم يفضي إلى الموت، فمالك لا تستعدين للموت، وهو أقرب إليك من كل قريب؟! آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد ركوب نعشك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد عرصات القيامة ولقاء ربك، وإن النفس قد يخرج ولا يعود، إن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3]. ويحك يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك! وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حيائك! ويحك يا نفس! لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه؟! أفتظنين أنك تطيقين عذابه؟ هيهات هيهات! جربي نفسك إن ألهاك البطر عن أليم عذابه، فاحتبسي ساعة في الشمس أو في بيت الحمام، أو قربي أصبعك من النار لترين قدر طاقتك! إن كنت تغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك فمالك لا تعولين على كرم الله في مهمات دنياك؟! إذا قصدك عدو لم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله؟! وإن أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا تنال إلا بالدينار والدرهم فمالك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل فلا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز أو يسخر عبداً من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب؟ أفتحسبن أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا، وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها، وأن رب الآخرة والدنيا واحد، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؟! ويحك يا نفس ما أعجب نفاقك ودعاويك الباطلة! إنك تدعين الإيمان بلسانك، وأثر النفاق ظاهر عليك، ألم يقل لك سيدك ومولاك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقال في أمر الآخرة: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة، وصرفك عن السعي فيها فكذبتيه بأفعالك وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر، ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر، فليس هذا من علامات الإيمان، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!

توبيخ النفس وتذكيرها بيوم الحساب

توبيخ النفس وتذكيرها بيوم الحساب ويحك يا نفس! كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتظنين أنك إذا مت تخلصت، وهيهات هيهات! أتحسبين أنك تتركين سدى؟ ألم تكوني نطفة من مني يمنى، ثم كنت علقة فخلق فسوى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟! فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك! أما تتفكرين أنه خلقك من نطفة فقدرك، ثم السبيل يسرك، ثم أماتك فأقبرك، أفتكذبينه في قوله؟! ثم إذا شاء أنشرك فإن لم تكوني مكذبة فمالك لا تأخذين حذرك؟! ولو أن يهودياً أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه، ولتركته وجاهدت نفسك فيه، أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيراً من قول يهودي يخبرك عن حدس وتخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم؟! والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقرباً لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل ولا برهان، أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول الصبي من جملة الأغبياء، أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوماً أو أقل منه؟! ما هذه أفعال العقلاء، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك، وسخروا من عقلك، فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك، وآمنت به، فمالك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله يختطفك من غير مهلة؟ فبماذا أمنت استعجال الأجل؟! وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها؟ إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك! أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلاً بطالاً يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه هل كنت تضحكين من عقله؟! وظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة، أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه، اعتماداً على كرم الله سبحانه وتعالى، ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع، وأنه موصل إلى الدرجات العلى، فلعل اليوم آخر عمرك فلم لا تشتغلين فيه بذلك؟ فإن أوحي إليك بالإهمال فما المانع من المبادرة؟ وما الباعث لك على التسويف؟ هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة! أفتنتظرين يوماً يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات؟! هذا يوم لم يخلقه الله قط ولا يخلقه. فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره، ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس، هذا محال وجوده، أما تتأملين منذ كم تعدين نفسك وتقولين غداً غداً؟! فقد جاء الغد وصار يوماً فكيف وجدته؟ أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يوماً كان له حكم الأمس؟! لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنت غداً عنه أعجز وأعجز؛ لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعهد العبد بقلعها، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخاً، ويزيد القالع ضعفاً ووهناً، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب، بل من العناء رياضة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذيب، والقضيب الرطب يقبل الانحناء، فإذا دف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك، فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية وتركنين إلى التسويف فما بالك تتدعين الحكمة؟ وأي حماقة تزيد على هذه الحماقة؟! ورحم الله من قال: أنذرتكم سوف فإنها جند من جنود إبليس. لعلك يا نفس تقولين ما يمنعني عن الاستقامة إلا حرصي على لذة الشهوات، وقلة صبري على الآلام والمشقات، فما أشد غبواتك! وأقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك! فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية عن الكدورات الدائمة أبد الآباد، ولا مطمع في ذلك إلا في الجنة، فإن كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها، فرب أكلة تمنع أكلات، وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ليصح ويهنأ بشربه طول عمره، وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضاً مزمناً، وامتنع عليه شربه طول العمر فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر أم يقضي شهوته في الحال خوفاً من ألم المخالفة ثلاثة أيام حتى يلزمه ألم المخالفة ثلاثمائة يوم وثلاثة آلاف يوم، وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة، وعذاب النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، وإن طالت مدته، وليت شعري ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدة وأطول مدة أو ألم النار في دركات جهنم؟! فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله؟ ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك إلا لكفر خفي أو لحمق جلي. أما الكفر الخفي: فضعف إيمانك بيوم الحساب، وقلة معرفتك بعظم قدر الثواب والعقاب. وأما الحمق الجلي: فاعتمادك على كرم الله وعفوه، من غير التفات إلى مكره واستدراجه، واستغنائه عن عبادتك، مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز، أو حبة من المال، أو كلمة واحدة تسمعينها من الخلق، بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل، وبهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة، فالأحمق: من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

توبيخ النفس ومعاتبتها بترك الدنيا

توبيخ النفس ومعاتبتها بترك الدنيا ويحك يا نفس لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا، ولا يغرنك بالله الغرور، فانظري لنفسك، فما أمرك بمهم لغيرك، لا تضيع أوقاتك فالأنفاس معدودة، فكلما ذهب نفس فقد ذهب بعضك، فاغتنمي الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر، والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها. يا نفس! أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته تجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب، ولا تتكلين في ذلك على فضل الله حتى يدفع عنك البرد في غير جبة وحطب وغير ذلك فإنه قادر على ذلك؟! أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخف برداً وأقصر مدة من زمهرير الشتاء، أم تظنين أن ذلك دون هذا؟ كلا، لا مقارنة في الشدة والبرودة بينهما، أفتظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي؟ هيهات! كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالحطب والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حر النار وبردها إلا بحسن التوحيد، وخندق الطاعات، وإنما كرم الله في أن عرفك طريق التحصن، ويسر لك أسبابه، لا في أن يندفع عنك العذاب دون حصنه، كما أن كرم الله عز وجل في دفع برد الشتاء أن خلق النار وهداك لطريق استخراجها. ويحك يا نفس! انزعي عن جهلك، وقيسي آخرتك بدنياك: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] وسنة الله لا تجدين لها تبديلاً، ولا تحويلاً. ويحك يا نفس! ما أراك إلا ألفت الدنيا وأنست بها، فعسر عليك مفارقتها، وأنت مقبلة على مقاربتها، تؤكدين في نفسك مودتها، فاحسبي أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه، وعن أهوال القيامة وأحوالها، فما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك وبين محابك، أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر فرد بصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه؟! ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى؟ أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك وما لك فيها إلا مجاز، وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت، ولذلك قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه)؟! ويحك يا نفس! أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها -مع أن الموت من ورائه- إنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة، وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا يدري؟! أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟! وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم؟ أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، يبني كل واحد قصراً مرفوعاً إلى جهة السماء، ومقره قبر محفور تحت الأرض؟ فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا؟! يعمر الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقيناً، ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعاً! أما تستحين يا نفس! من مساعدة هؤلاء الحمقى على حماقتهم؟! احسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدي إلى هذه الأمور، وإنما تميلين بالطبع إلى التشبه، فقيسي عقل الأنبياء والعلماء والحكماء بعقل هؤلاء المنكبين على الدنيا، واقتدي من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل والذكاء. يا نفس! ما أعجب أمرك وأشد جهلك وأظهر طغيانك! عجباً لك كيف تعمين عن هذه الأمور الواضحة الجليلة، ولعلك يا نفس أسكرك حب الجاه، وأدهشك عن فهمها، أو ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض الناس إليك؟! فاحسبي أن كل من على وجه الأرض سجد لك وأطاعك، أفما تعرفين أنه بعد خمسين سنة لا تبقين أنت ولا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك وسجد لك؟! وسيأتي زمان لا يبقى ذكرك، ولا ذكر من ذكرك كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98]. كيف تبيعين يا نفس! ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقي؟! هذا إن كنت ملكاً من ملوك الأرض سلم لك الشرق والغرب، حتى أذعنت لك الرقاب، وانتظمت لك الأسباب، كيف ويأبى إدبارك وشقاوتك أن يسلم لك أمر محلتك بل أمر دارك فضلاً عن محلتك! فإن كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وعمى بصيرتك فمالك لا تتركينها ترفعاً عن خسة شركائها، وتنزهاً عن كثرة عنائها، وتوقياً من سرعة فنائها؟! ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها؟ وما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود والمجوس يسبقونك بها، ويزيدون عليك في نعيمها وزينتها؟! فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء! ما أجهلك، وأخس همتك، وأسقط رأيك! إذ رغبت في أن تكوني في زمرة المقربين من النبيين والصديقين في جوار رب العالمين أبد الآبادين، لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياماً قلائل، فيا حسرة عليك إن خسرت الدنيا والدين فبادري! ويحك يا نفس! قد أشرفت على الهلاك واقترب الموت، وورد النذير! فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟! من يتقرب إلى الله بالأعمال بعدك؟ ويحك يا نفس! ما لك إلا أيام معدودة هي بضاعتك إن اتجرت فيها، وقد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك، فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على عادتك؟ أما تعلمين يا نفس! أن الموت موعدك، والقبر بيتك، والتراب فراشك، والدود أنيسك، والفزع الأكبر بين يديك؟ أما علمت يا نفس! أن أكثر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك وقد آلوا على أنفسهم كلهم بالأيمان الغليظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم؟ أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوماً ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم وأنت في أمنيتهم ويوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لاشتروه لو قدروا عليه، وأنت تضيعين أيامك في الغفلة والبطالة: سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أقام القوم أياماً وقد رحلوا فقلت أين أطلبهم وأي منازل نزلوا فقالت في القبور ثووا رهاناً بالذي فعلوا وقال آخر: يا أيها الناس سيروا إن غايتكم أن تصبحوا يوماً لا تسيروا حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها قبل الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناساً كما كنتم فغيرنا دار فسوف كما كنا تكونونا وقال آخر: فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وأنت لا تدري وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر يا ليت شعري كيف أنت على نبش الضريح وظلمة القبر ويحك يا نفس أما تستحين؟ تزينين ظاهرك للخلق، وتبارزين الله في السر بالعظائم؟! أفتستحين من الخلق ولا تستحيين من الخالق؟! ويحك أهو أهون الناظرين عليك؟! أتأمرين الناس بالخير وأنت متلطخة بالرذائل، تدعين إلى الله وأنت عنه فارة، تذكرين بالله وأنت له ناسية! أما تعلمين يا نفس! أن المذنب أنتن من العذرة، وأن العذرة لا تطهر غيرها؟ فلم تطمعين في تطهير غيرك وأنت غير طيبة في نفسك؟! ويحك يا نفس لو عرفت نفسك حق معرفتها لظننت أن الناس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك، ويحك يا نفس قد جعلت نفسك حماراً لإبليس يقودك إلى حيث يريد، ويسخر بك، ومع هذا فتعجبين بعملك وفيه من الآفات ما لو نجوت منه رأساً برأس لكان الربح في يديك! وكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وزللك، وقد لعن الله إبليس بخطيئة واحدة مع عبادته له قبل ذلك، وأخرج آدم من الجنة بخطيئة واحدة مع كونه نبيه وصفيه؟ ويحك يا نفس ما أغدرك! ويحك يا نفس ما أوقحك! ويحك يا نفس ما أجهلك وما أجرأك على المعاصي! ويحك كم تعقدين فتنقضين؟! ويحك كم تعهدين فتغدرين؟! ويحك يا نفس أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها؟! أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا، جمعوا كثيراً، وبنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح دمعهم بوراً، وبنيانهم قبوراً، وعملهم غروراً؟! ويحك يا نفس! أما لك بهم عبرة؟ أما لك إليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وأنت من المخلدين؟ هيهات هيهات! ساء ما تتوهمين، ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فابني على وجه الأرض قصرك فإن بطنها عن قليل سيكون قبرك، أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقي، أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان، وكلح الوجوه، وبشرى بالعذاب؟ فهل ينفعك حينئذ الندم أو يقبل منك الحزن أو يرحم منك البكاء؟! والعجب كل العجب يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة والفطنة، ومن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك، ولا تحزنين بنقصان عمرك، وما نفع مال يزيد وعمر ينقص!

معاتبة النفس بلزوم العمل للآخرة

معاتبة النفس بلزوم العمل للآخرة ويحك يا نفس! تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله! وكم من مؤمل لغد لا يبلغه! أنت تشاهدين ذلك في إخوانك وأقاربك وجيرانك فترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عن جهالتك. احذري أيتها النفس المسكينة! يوماً آلى الله فيه على نفسه ألا يترك عبداً أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله، سره وعلانيته، فانظري يا نفس بأي موقف تقفين بين يدي الله، وبأي لسان تجيبين، فأعدي للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، اعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقامة، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، اعملي قبل ألا تعملي، اخرجي من الدنيا اختياراً خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار، لا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا، فرب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر! فويل لمن له الويل ثم لا يشعر! يضحك ويفرح، ويلهو ويمرح، ويأكل ويشرب وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار، فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتباراً، وسعيك لها اضطراراً، وردك لها اختياراً، وطلبك للآخرة ابتداراً، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، واعلمي يا نفس أنه ليس للدين عوض، ولا للإيمان بدل، ولا للجسد خلف، ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن لم يسر، فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة، واقبلي هذه النصيحة، فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار، وما أراك بها راضية، ولا لهذه الموعظة واعية، فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد والقيام، فإن لم تزل فبالمواظبة على الصيام، فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام، فإن لم تزل فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام، فإن لم تزل فاعلمي أن الله قد طبع على قلبك وأقفل عليه، وأنه قد تراكمت ظلمة الذنوب على ظاهره وباطنه، فوطني نفسك على النار، وقد خلق الله الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وكل ميسر لما خلق له، فإن لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطي من نفسك، والقنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك، فلا سبيل لك إلى القنوط، ولا سبيل لك إلى الرجاء، مع انسداد طرق الخير عليك، إن ذلك اغتراراً وليس برجاء، انظري الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التي ابتليت بها؟! وهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك؟! فإن سمحت فمستقى الدمع من بحر الرحمة، فقد بقي فيك موضع للرجاء، فواظبي على النياحة والبكاء، واستعيني بأرحم الراحمين، واشتكي إلى أكرم الأكرمين، وأدمني الاستغاثة، ولا تملي طول الشكاية؛ لعله أن يرحم ضعفك، وأن يغيثك، فإن مصيبتك قد عظمت، وبليتك قد تفاقمت، وتماديك قد طال، وقد انقطعت منك الحيل، وراحت عنك العلل، فلا مذهب ولا مطلب، ولا مستغاث ولا مهرب، ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى مولاك، فافزعي إليه بالتضرع، واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك، وكثرة ذنوبك، فإنه يرحم المتضرع الذليل، ويغيث الطالب المتلهف، يجيب دعوة المضطر، وقد أصبحت إليه اليوم مضطرة، وإلى رحمته محتاجة، قد ضاقت بك السبل، وامتدت عليك الطرق، وانقطعت منك الحيل، ولم تنجح فيك العظات، ولم ينفع التوبيخ، فالمطلوب منه كريم، والمسئول جواد، والمستغاث به بر رءوف، والرحمة واسعة، والكرم فائض، والعفو شامل، قولي: يا أرحم الراحمين! يا رحمان يا رحيم! يا حليم يا عظيم يا كريم! أنا المذنب المصر، أنا الجريء الذي لا أقلع، أنا المتمادي الذي لا أستحي، هذا مقام المتضرع المسكين، والبائس الفقير، والضعيف الحقير، والهالك الغريق، فعجل إغاثتي وفرجي، وأرني آثار رحمتك، أذقني برد عفوك ومغفرتك، ارزقني من عظمتك يا أرحم الراحمين!

معاتبة عون بن عبد الله لنفسه

معاتبة عون بن عبد الله لنفسه قال منصور بن عمار: سمعت في بعض الليالي بالكوفة عابداً يناجي ربه ويقول: يا رب! وعزتك ما أردت بمعصيتك مخالفتك، ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك شقوتي، وغرني سترك المرخى علي، فعصيتك بجهلي، وخالفتك بفعلي، فمن عذابك الآن من يستنقذني؟! وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه من الوقوف بين يديك غداً إذا قيل للمخفين: جوزوا، وقيل للمثقلين: حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما كبرت سني كثرت ذنوبي! ويلي كلما طال عمري كثرت معاصي! فإلى متى أتوب؟ وإلى متى أعود؟ أما آن لي أن أستحي من ربي؟! انظر يا أخي! هذه معاتبة نفس، زفرات صدر، وأشجان قلب يمم وجهه شطر الدار الآخرة مستراح العابدين يبثها في خشوع، تابعي جليل من القرون الخيرية، من تلامذة الصحابة، ربي وصنع على أيديهم، شرب من سلسبيل القرآن والسنة، وكحل أجفان قلبه بهما، فانظر إليه كيف يستنصر الدمع في مناجاته، إنه عون بن عبد الله بن عتبة، يقول: ويحي لم أعصي ربي؟! ويحي إنما عصيته بنعمته عندي! ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي في كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني! واسوأتاه لم أستحيهم ولم أراقب ربي! ويحي نسيت ما لم ينسوا مني! ويحي غفلت ولم يغلفوا عني! لم أستحيهم ولم أراقبه، ويحي حفظوا ما ضيعت مني! ويحي طاوعت نفسي وهي لا تطاوعني! ويحي طاوعتها فيما يضرها ويضرني! ويحي ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني؟! ويحها ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني؟! أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني، ويحها إني لأنصفها وما تنصفني! أدعوها لرشدها وتدعوني لتغويني! ويحها إنها لعدو لو أنزلتها تلك المنزلة مني! ويحها تريد اليوم أن ترديني وغداً تخاصمني! ويحي كيف أفر من الموت وقد وكل بي؟! ويحي كيف أنساه ولا ينساني؟! ويحي إنه يقص أثري! فإن فررت لقيني، وإن أقمت أدركني، ويحي هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني وصبحني، أو طرقني فبغتني؟! ويحي أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي، ولا يتجافى جنبي، ولا تدمع عيني ولا تأثر لي ولا يسهر ليلي؟! ويحي كيف أنام على مثلها ليلي؟! ويحي هل ينام على مثلها مثلي؟! ويحي لقد خشيت ألا يكون هذا الصدق مني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كيف لا توهن قوتي ولا تعطس هامتي؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كيف لا أنشط فيما يطيفها عني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي! كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي! لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى! فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي، ويحي لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال، فويلي إن لم يرحمني ربي! ويلي إن حجبت يوم القيامة عن ربي فلم يزكني، ولم ينظر إلي، ولم يكلمني! أعوذ بنور وجهه من خطيئتي، وأعوذ به أن أعطى كتابي بشمالي أو وراء ظهري؛ فيسود به وجهي، وتزرق به مع العمى عيني، بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي بأي شيء أستقبل ربي بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري؟! ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي، فويلي إن لم يرحمني ربي، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عن ما لا يعنيني؟! ويحك يا نفس ما لك تنسين ما لا ينسى، وقد أوتيت ما لا يؤتى، وكل ذلك عند ربي يحصى، في كتاب لا يبيد ولا يبلى، ويحك لا تخافين أن تجزي في من يجزى، يوم تجزى كل نفس بما تسعى، وقد آثرت ما يفنى على ما يبقى، يا نفس! ويحك ألا تستفيقين مما أنت فيه إن سقمت تندمين، إن صححت تأثمين، إن افتقرت تحزنين، إن استغنيت تفتنين، ما لك إن نشطت تزهدين، فلما إن دعيت تكسلين؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي، فلم لا تنصبين فيما ترغبين؟! يا نفس! ويحك لم تخالفين؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين، وتعملين فيها عمل الراغبين! ويحك لم تكرهين الموت؟! يا نفس ويحك أترجين أن ترضي ولا تراضين؟ ما لك إن سألت تكثرين، فلما إن أنفقت تقترين؟! تعظمين في الرهبة حين تسألين، وتقصرين في الرغبة حين تعملين، تريدين الآخرة بغير عمل، وتؤخرين التوبة لطول الأمل! لا تكوني كمن يقال: هو في القول مدل، ويستصعب عليه الفعل. ويح لنا ما أغرنا! ويح لنا ما أغفلنا! ويح لنا ما أجهلنا! ويح لأي شيء خلقنا؟! أللجنة أم للنار؟ ويح لنا أي خطر خطرنا، ويح لنا من أعمالنا! ويح لنا مما يراد بنا! ويح لنا كأنما يعنى غيرنا! ويح لنا إن ختم على أفواهنا، وتكلمت أيدينا، وشهدت أرجلنا! ويح لنا حين تفتش سرائرنا! ويح لنا حين تشهد أجسادنا! ويح لنا مما قصرنا! لا براءة لنا، لا عذر عندنا، ما أطول أملنا! ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا! ويح لنا والويل الطويل لنا إن لم يرحمنا ربنا، فارحمنا يا ربنا! ويحي! كيف أغفل ولا يغفل عني؟! كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟! كيف لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي، أم كيف تهنأ لي الحياة ولا أدري ما أجلي؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل منها يكفيني؟ أم كيف آمن ولا يدوم فيها حالي؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري؟! أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي؟ أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟ أم كيف لا أبادر بعمل قبل أن يغلق باب توبتي؟ أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني؟ أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني؟ أم كيف أجعل شغلي فيما قد تكفل لي به؟ أم كيف أعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي؟ أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها المنجاة مما أحذر على نفسي؟ أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني؟ أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له جسدي؟ أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي؟ أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي؟ كيف يطول أملي والموت في أثري؟ كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي؟ ويحي! هل ضرت غفلتي أحداً سواي؟ أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي؟! أم هل يكون عملي إلا لنفسي، فلم أدخر عن نفسي ما يكون نفعه لي؟ ويحي! كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي، ثم أشهد الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي، وشغلت بنفسي عن غيري! وبدلت السموات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي، سيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي، وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني. ويحي! ما أشد حالي وأعظم خطئي فاغفره.

معاتبة أعطر من أريج الزهور

معاتبة أعطر من أريج الزهور ومعاتبة أخرى أعطر من أريج الزهور: يا نفس! ما لي أراك مطمئنة والغالب عليك الفرح والسرور، وشواهد المقت بادية عليك، ودلائل الغضب بينة فيك، في كثير من أحوالك قد اطمأننت وسكنت، وكثيراً ما يغلب عليك الفرح والسرور في أكثر الأحوال، وأنت ترين فيك من الله دلائل الغضب وشواهد المقت، ثم لا تبكين ولا لذلك تكترثين، كأنك لغضب الله تطيقين، ولعذابه تجهلين، هيهات هيهات! إنك عن دون الله لتضعفين، ومن أقل أذى الدنيا تجزعين، فكيف بشدة غضب الله وأليم عذابه؟! ولكن عقوبات الله منعتك من أن تجزعي، فكيف يصنع الله بمن لا يجزع من غضبه، ولا يتوجع من أليم عذابه، ولا يصلح على آدابه، ولا يقبل عليه بالإقلاع شكراً لدوام نعمائه، ولا ينحاش ولا يهرب إليه؛ لما يرى من سوء آثار عقوباته في الدنيا خاصة دون معاشه في نفسه وعياله؟! ويحك يا نفس! ويحك يا نفس! ألم تري أن مولاك قد أبعدك عما كان يتعاهد به قلبك من هيجان التيقظ وقوة التنبه، والدوام على ذكره والجزع من نسيانه وشدة عذابه، ولقد رغب الله قلبك في أول أمرك، وتأديباً كانت بلية الله فيك، وتقريباً منه إليك، وتحنناً منه عليك فنبه قلبك عن الغفلات، ومن عليك بجود الحلاوة عند الطاعات، وشدة التلذذ بالمناجاة، فأصبحت وأمسيت مباعدة من الله، مطرودة عن بابه، منحاة من قربه، قد حل بك منه الخذلان، تتمادين في الغفلات فلا يوقظك، ويدوم منك النسيان فلا ينبهك، وتكون منك الزلة بعد الزلة فلا يدوم لك الحزن، ولا يطول بك الغم، بل قد قلب التنبه فيك فصار لا ينبهك ولا يذكرك، ثم يحدوك بالعقوبة عن استعمال التذكر وطاعة التنبه، فصرت في شر حال، وبعد ذلك طول الغفلة ودوام النسيان لنظر الجليل العظيم. ثم شهوتك لترك استعمال التذكر وطاعة التنبه، طول غفلة وجرأة وإقدام على الذنب، وما تخافين أن تحرمي الخلود في جواره، هل سمع السامعون بأسوأ منك حالاً؟ هل عرف العارفون بأشر من منزلتك؟ ثم مع ذلك الحزن عنك زائل، والغم لك مباين، والتوجع لك غير لازم، وقد رآك مولاك في أسباب الدنيا بأضداد ذلك كله، شغلك بطلبها دائم لا تملين، تنشطين وتقوين إذا رأيت الزيادات في معاشك، وتنكسرين إذا رأيت النقصان فيه، ولا يكون ذلك فيما بينك وبين ربك إلا في أقل الأوقات، قد أصبحت عند الله مفتضحة، ومن البعد منه غير مكترثة، لقد أصبحت وأمسيت وهو عليك غير مقبل، ولك غير مقرب، مقصاة منه، مباعدة عنه، ولولا تفضله عليك بالعفو لسلبك نعمة الدين كلها، ولكنه يبقي من العقوبة تفضلاً منه وإحساناً وكرماً على عبيده. ويحك ما لك في الجهل مفعمة مغموسة، وفي البلايا متلوثة؟ ويحك هل عقلت من تعصين؟ ويحك تتمادين في الغفلات فلا يوقظك، ويدوم منك النسيان فلا ينبهك، فكيف لا يغلب ذلك عليك وأنت في كل يوم في نقصان، في كل يوم لا تفرين من المعاصي؟! إن تبت لا تلبثين أن ترجعي عن توبتك وتعودين في تخبطك، إن عزمت لا تقلعين، وإن فعلت ما عزمت عليه فمن الآفات لا تسلمين عن حب محمدة أو عجب، تعاهدين فتغدرين، وتعدين فتخلفين، وتحلفين بالله ثم لا تفين، فلو كنت جاهلة كان أخف للحجة عليك، وكان أبعد لك عن الجرأة عن مولاك، ولكن عظمت عليك الحجة، ودامت منك الجرأة، إن كنت للآثار طالبة، وللقرآن حافظة، وفي الدقائق من الحكمة مناظرة، وبحسن العظات نافقة، تدعين إلى الله وأنت منه فارة، وتذكرين بالله وأنت له ناسية، تعظمين الله بالقول وأنت بالفعل غير معظمة، ويحك! أنت اليوم مهملة، والله لك منظر، وعن قليل تنقطع المدة وتزول النظرة ولو قد تغشاك الموت وسياقه، فلقد حضرك العدم فأعطيت النية الصحيحة حيث لا يقبل، ويحك أتدرين عما ينكشف الغطاء؟ أما تخافين لو بلغ منك النفس التراقي أن تبدو رسل الله منحدرة من السماء بسواد الألوان وبشرى العذاب؟ هل ينفعك حينئذ الندم؟ هل يقبل منك الحزن، أو يرحم منك البكاء؟ ويحك! بادري حلول الأجل بالتوبة، واغتنمي عيش كل ساعة فإنك في السير مجدة، وفي كل وقت من لقاء الله تقربين. ويحك! تكلفي الحزن واطلبيه، لعلك من الحزن الأكبر تنجين، ويحك كدري الفكر بما سلف منك من الذنوب، وعودي البكاء عيناً بالدموع قبل سيلها في نار جهنم. ويحك! استعيني بأرحم الراحمين، واشتكي إلى أكرم الأكرمين، وأديمي الاستغاثة، ولا تملي طول الشكاية، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك، فإن مصيبتك قد عظمت، وبليتك قد تفاقمت، وتماديك قد طال، قد انقطعت منك الحيل، وانزاحت إليك العلل، لا مهرب ولا مطلب، ولا استغاثة ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى مولاك، فاضرعي إلى مولاك واخشعي في تضرعك؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل، ويغيث الطالب المتلهف، ويجيب دعوة المضطر، وقد والله أصبحت إليه مضطرة، وإلى رحمته محتاجة، فألحي بالطلب للفرج، واشتكي لعظم المصيبة، فإن المطلوب إليه كريم، والمسئول إليه جواد، والمستغاث به رءوف، أديمي الاستغاثة فإنه يغيثك، وإن من إغاثته لك أن من عليك بالاستغاثة، فليرك مولاك في مقام المضطرين الحيارى الملهوفين؛ لأنه إن أخذك بعظيم جرمك لم يغثك، وإن صفح بجوده أن يؤاخذك أسرع بإجابتك. فادعي يا نفس! دعاء من لا يستأهل أن يجاب ولا يغاث، طامع من الجواد ألا يناقش السيئات، ولا يؤاخذ بالخطايا، يغيث من يدعو وهو عند نفسه لا يستأهل أن يجاب، ولكن حمله على التضرع معرفته بكرم المسئول وجود المطلوب ورحمة المستغاث. اعقلي يا نفس ما فاتك من طاعة ربك، وما أفنيت من عمرك في غير التقرب إليه، فيا أسفاه على طاعته! ويا حزناه على رضاه! ويا خجلاه مما اطلع عليه! يا طول كمدك إن حرمك جواره في الآخرة كما حرمك صدق المعاملة في الدنيا! يا تقلقلك في حر جهنم إن لم يعف عنك! ويحك اذكري ما يحل بأهل عذابه من اشتعال النار في جميع أجسامهم، ووصولها إلى أحداقهم، ودخولها في أجوافهم. ويحك كيف ترين وجع قلب عبد دخلت النار في عينه ونفذت إلى جميع بدنه؟! بل كيف بنار تأكل أمعاءه وكبده؟! بل كيف بلسان من نار يدخل في جوف قلبه ثم يلتهب في جميع أعضاء جسده؟! ويحك أتأمنين أن يكون هذا غداً نعتك وصفتك، وهذه حالك؟! ويحك ارحمي ضعف جسمك لا تخاطري به، ورقي لقلة صبرك ولا تغتري، إذا لم ترحمي بدنك من النار فمن ترحمين؟! وإن لم ترقي له فعلى من ترقين؟! والله لو تبت وأنبت وأطعت لم آمن عليك أن يردك ولا يقيلك، فاستقيليه عسى ألا يردك ولا تنالين ذلك إلا به، فافزعي إليه فزع الهالك، وتضرعي إليه تضرع الغريق، استغيثي به استغاثة العطب؛ فإن المستغيث مأمول له في الاستغاثة، والله الداعي موفق للدعاء، كما كان الكريم يمن بالاستغاثة، ويهيج على الطلب وهو لا يريد ممن فعل به ذلك ألا يجبه، ولكن ليكثر المتفضل عليه بالدعاء على مقدار نقمته، وليلح بالطلب على قدر مسكنته، فلتقصير في ذلك رد أكثر المستغاثين. أما من فتح الله عليه باب الاستغاثة، ومن عليه بالتضرع فعظم منته بذلك، وعلم أنه أعطي ما لم يستأهله، ثم داوم وواظب على الطلب فلن يخيب الله دعوته، ولن يمسك إجابته، أبى الجواد بكرمه وجوده أن يرد من أراده، فاشتكي إليه، داومي ولا تملي، فمن كان في مثل حالك لا يمل دوام التضرع بشدة المسكنة ولعظيم المصيبة. ويحك إن لم تخافي العذاب ولم ترحمي جسدك أما تشتاقين أن يحل بك من الله الرضا، وينظر إليك بالحظوه؟! ويحك أما تحنين إلى طيب جوار الله في جنته، في روح لا يزول، ونعيم لا يبيد، وقرة عين لا تنقطع، فوق الأماني مما تشتهيه الأنفس، مع البقاء واليقين بالرضوان، وأعظم من ذلك تشتاقين إلى أن تزوري مولاك، وتسمعي كلامه لك بالترحيب، ويكشف الحجاب فتنظري إلى من لا يشبهه شيء في جلاله؟! ويحك! في هذه الدار وجب ذلك كله للعمال، وفي هذه حل الحرمان كله على الجهال، فعيشك غنيمة، وبقية عمرك إقالة، فافرحي واشكري لمولاك أن يكون الموت عاجلك فحال بينك وبين الرجوع، وقطع بك عن النزوع، وفاتك طيب جوار الله العظيم الجليل. ويحك! لا تزهدي في الهرب من النار، ولا تستهيني بطيب الجوار، ولا تعرضي عن الرغبة في رضوان الله، إني لأقول لك هذا ولا أدري أي حال عند الله حالك، بماذا ينظر إليك في ساعتك هذه؟ بالمحبة والرضوان؟ أم بالغضب والسخط والحرمان؟ أي الدارين دارك؟ وأي القرارين قرارك؟ وأي العيش عيشك؟ فكلا الدارين قد امتلأ بسكانها، ووصل كل واحدة منها أهلها، فاطلع بقلب فارغ إلى الجنة وقد ثوى فيها سكانها إلى انفساح سعتها، وبرد طيب نسيمها، وإلى طيب ما يفوح من رائحتها، وإلى حسن بناء قصورها، وبهجة حليها وحريرها، وتلألأ نورها على أسرتها وحجالها، اطلع إلى حسن وجوه أهلها ونضرة أثر النعيم في وجوههم، وقربهم من مليكهم، ويقينهم برضا الله عز وجل عنهم، اطلع إلى اختلاف الملائكة رسلاً من الله إليهم، وتردد الولدان كاللؤلؤ في لذاتهم، اطلع إلى أنهارها على جنادل ياقوتها وقد تضمنت من أصناف البهجة في عرصاتها! ثم اشرفي بوجهك على دار الهوان والخزي انظري ببصر قلبك إلى شدة ضيقها إلى تكاثف ظلمتها وانطباق أبوابها، مسودة بالعمد عليهم، ووهج النيران فيها، انظري إلى قبيح صور المعذبين فيها وإلى شدة نتن دارهم، وتهتك أجسامهم، ونتن مقطعات ما بهم إلى النيران ملتهبة من فوق رءوسهم وأسافل أقدامهم وإلى حياض الحميم تفور معدة لشدة عطشهم، وتجاوب أصواتهم بالويل والثبور، وإلى تضرعهم إلى مالك والخزنة، وندائهم بالاستغاثة، ثم دعائهم إلى ربهم فأخسأهم فانقطعت أصواتهم، والتحمت أفواههم، وحبست أنفاسهم وبقوا بالغم والكرب لا يتنفسون إلى حلول غضب الله عليهم، وانقطاع رجائهم منه. توهمي ما تضمنته حواشيها من صنوف الهوان والألوان من العذاب، فإنك إن نظرت في ساعتك هذه إلى كل واحدة منها، وعظيم ما فيها، ثم لم تأمني حرمان جوار الله والخلود في دار عذابه أشفقت وإن أشفقت حذرت، وإن حذرت أيقنت بكل ما يتوعد به؛ فتبت وأنبت ومن كل ما يكره تطهرت، فتوهمي إلى عواقب من أطاع واتقى، وعواقب من عصى الله وأساء، ولا ترضي بأن تخاطري فيما إن وقعت فيه لن تقالين، ولا إلى الدنيا تردين. ويحك! إن الدنيا دار نجاة الآخرة، بقدر ما تحملين فيها من المكروه لله تعوضين، وبقدر ما تتركين من ملاذها تجزين، إن الجامعين بذلوا الأحزان في الدنيا

سقوط الأندلس

سقوط الأندلس لما أقام المسلمون على هذا الدين وعزروه ونصروه مكن الله لهم في الأرض، وجعلهم فيها خلائف، ولما تفرقوا وتنازعوا ونسوا حظاً مما ذكروا به تمزقوا إلى فرق وطوائف، وأوضح مثال على ذلك هو سقوط الأندلس في أيدي الصليبيين. إن الصليبيين واليهود سوف يظلون أعداء الإسلام مهما أوهموا المسلمين أنهم يريدون السلام؛ لأن حاضرهم وماضيهم لا يثبت صدق دعواهم.

الجهود المبذولة لمحاربة الإسلام والمسلمين

الجهود المبذولة لمحاربة الإسلام والمسلمين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: يقول الشيخ جلال العالم في كتابه: (قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله): حاول الصليبيون تدمير الإسلام في الحروب الصليبية ففشلت جيوشهم التي هاجمت بلاد الإسلام بالملايين، فعادوا يخططون من جديد لينهضوا، ثم ليعودوا إلينا بجيوش حديثة، وفكر جديد هدفه تدمير الإسلام من جديد. كان جنديهم البريطاني حين يلبس بزة الحرب قادماً لاستعمار بلاد الإسلام ليبيا ينشد نشيداً فيقول: أماه! أتمي صلاتك لا تبكي بل اضحكي وتأملي أنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً سأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة سأحارب الديانة الإسلامية سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن أما ما فعلوه في الحروب الصليبية فإنهم لما سألوا بطرس الناسك عند نقص المؤن، أمرهم بأن يأتوا بجثث المسلمين الذين ماتوا في التو، وأن يقوموا بسلخها، ثم شيها، ثم أكلها. وهذا ثابت في كل الروايات حتى التي كتبها مفكرو الغرب ومؤرخوهم، فقد كانوا يقومون بأكل جثث المسلمين بعد موتها. وأما في الأندلس فمحاكم التفتيش خير شاهد على ما فعلوه في الأندلس، تقول الدكتورة هونكه: في 2 يناير 1492 م رفع الكاردينال مندوزا الصليب على قلعة الحمراء، وهذا القصر كان موجوداً في غرناطة، وكان مكتوب عليه: لا ناصر إلا الله لا غالب إلا الله، فذهبوا وعملوا مسرحية: لا غالب إلا الحب. وقد وقع آخر خلفاء الأندلس أبو عبد الله الصغير معاهدة مع فرديناند وإيزابيلا، وهذه إيزابيلا صاحبة القميص العتيق، كانت ملكة الكنائس، وقد عاصرت آخر خليفة أندلسي عربي مسلم، وعلى يدها سقط ملك المسلمين في الأندلس، فقد تزوجت فرديناند وأقسمت للقسيس الذي كان يرعاها ويربيها أن سقوط خلافة المسلمين في الأندلس سيكون على يدها، وهذه يسمونها صاحبة القميص العتيق. وفي رواية إسبانية أن إيزابيلا صاحبة القميص العتيق لم تخلع ثوبها الداخلي منذ أقسمت أمام قسيسها حتى سقط ملك المسلمين، وأقسمت أنها لا تخلع ثوبها الداخلي لغسل حتى يسقط ملك المسلمين، وكان لها ما أرادت. أبو عبد الله الصغير هو الذي ضيع ملك المسلمين في الأندلس، وأتى ليبكي بعدما دخلوا القصر، فقالت له أمه عائشة: ابك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال. وكان من ضمن الأشياء التي أخذها على فرديناند وإيزابيلا أن تظل الرئاسة الفخرية أو العرش الفخري أو العرش الرئاسي -يملك ولا يحكم- لأول أحفاده من بعده. يقول مؤرخ عربي مغربي: فلقد وجدت أحفاده يتسولون الناس بفاس -مدينة المغرب-. فقد أضاع ملك المسلمين لكي يظل الملك لأولاده، وأحفاده كانوا يتسولون في بلاد المغرب العربي، وانتهى قبره أن أصبح مزاراً سياحياً على درجة من درجات سلم في مشهد من مشاهد الآثار، فعاش فقيراً، ومات فقيراً. تقول الدكتورة هونكه في 2 يناير 1492 م رفع الكاردينال الصليب على الحمراء، وهي القلعة الملكية للأسرة الناصرية، فكان إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على أسبانيا. وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوربا طوال العصور الوسطى، وقد احترمت المسيحية المنتصرة اتفاقاتها مع المسلمين لفترة وجيزة، ثم باشرت عملية القضاء على المسلمين وحضارتهم وثقافتهم. ثم تقول: لقد حُرِّم الإسلام على المسلمين، وفرض عليهم تركه، كما حُرِّم عليهم استخدام اللغة العربية، والأسماء العربية، وارتداء اللباس العربي، ومن يخالف ذلك كان يحرق حيًّا بعد أن يعذّب أشد العذاب. هكذا انتهى وجود الملايين من المسلمين في الأندلس فلم يبق في أسبانيا مسلم واحد يُظهر دينه.

تعذيب المسلمين في أسبانيا

تعذيب المسلمين في أسبانيا كان المسلمون يعذبون على أيدي ما يسمى بدواوين ومحاكم التفتيش، فبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس أرسل نابليون حملته إلى أسبانيا، وأصدر مرسوماً سنة 1808م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الأسبانية. لنرى ماذا حصل عندما ألغيت دواوين التفتيش: تحدث أحد الضباط الفرنسيين فقال: أخذنا حملة لتفتيش أحد الأديرة التي سمعنا أن فيها ديوان تفتيش، وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، فقد فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها، فلم نجد شيئاً يدل على وجود ديوان للتفتيش، فعزمنا على الخروج من الدير يائسين، كان الرهبان أثناء التفتيش يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهماً باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس، توشك عيناه أن تطفر بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت دي ليل استمهلني قائلاً: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنته حتى الآن؟ قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئاً مريباً، فماذا تريد يا لفتنانت؟ قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرفة فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها. عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة -وكنا نرقب الماء- فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف. فصفق الضابط دي ليل من شدة فرحه، وقال: ها هو الباب، انظروا، فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، كان قطعة من أرض الغرفة يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير. أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق، فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة، وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضيء أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، ولما هممت بالنزول وضع راهب يسوعي يده على كتفي متلطفاً، وقال لي: يا بني! لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال؛ فإنها شمعة مقدسة. فقلت له: يا هذا! إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسترى من النجس منا، ومن القاتل السفاك؟ وهبطت على درج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مربعة، وهي عندهم قاعة المحكمة، وفي وسطها عمود من الرخام به حلقة حديدية ضخمة ربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها. وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء، ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض. رأيت فيها ما يستنفر نفسي، ويدعوني إلى القشعريرة والتقزز طوال حياتي، رأينا غرفاً صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفاً على رجليه مدة سجنه حتى يموت ويبقى سجين الغرفة الأفقية ممدداً بها حتى الموت. وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي. قال: وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها. قال: كان السجناء رجالاً ونساءً، تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم، وهم في الرمق الأخير من الحياة. وكان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب، وكان السجناء جميعاً عراة، حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء. أخرجنا السجناء إلى النور تدريجياً حتى لا تذهب أبصارهم، فكانوا يبكون فرحاً وهم يقبلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، فكان مشهداً يبكي الصخور. ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدءون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجياً، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين. ثم عثرنا على صندوق في حجم رأس الإنسان تماماً، يوضع فيه رأس الذي يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال؛ حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة، وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت. وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة، كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره، فإذا أغلق مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إرباً إرباً. وعثرنا على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد فيخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنف حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين. وعثرنا على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم. هذا منقول من كتاب: (محاكم التفتيش) للدكتور علي مظهر، وكتاب التعقل والتسامح للشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله من صفحة (311 حتى 313). هذا العذاب كان موجهاً ضد الطوائف المخالفة من المسيحيين والمسلمين واليهود، وقد كان عذاب المسلمين أشد من ذلك، بل إن دواوين التفتيش هذه انتقلت إلى بقاع العالم الإسلامي، فسلطها حكام مجرمون فجرة على شعوبهم. قال الشيخ جلال العالم: وقد ذكر لي شاهد عيان بعض أنواع التعذيب التي كانت تنفذ في أحد البلدان الإسلامية ضد مجموعة من العلماء المجاهدين فقال: بعد يوم من التعذيب الشديد ساقنا الزبانية بالسياط إلى زنزاناتنا، وأمرنا الجلادون أن نستعد ليوم آخر شديد. وصباح اليوم التالي أمرنا الجلادون أن نخرج فوراً، كنا نستجمع كل قوانا في أقدامنا الواهنة هرباً من السياط التي كانت تنزل علينا من حرس كان عددهم أكبر منا. وأخيراً أوقفونا في سهل صحراوي تحت أشعة الشمس اللاهبة، حول كومة من الفحم الجيري، كان يعمل الحرس جاهدين لإشعالها، وقرب النار مصلبة خشبية تستند إلى ثلاثة أرجل. ولما اشتعلت كومة الفحم الحجري حتى احمرت، فجأة سمعنا شتائم تأتينا من بعيد، التفتنا فوجدنا خمسة من الرجال يقودون شاباً كان اسمه: جاويد خان إمامي أحد علماء ذلك البلد. وامتلأ الأفق بنباح كلاب مجنونة، رأينا عشرة من الحرس يقودون كلبين، ارتفاع كل واحد منهما متراً، علمنا بعد ذلك أنهما قد حرما من الطعام منذ يومين. اقترب الحرس بالشاب جاويد من كومة النار الحمراء، وعيناه مغمضة بحزام سميك. كنا نتفرج أكثر من مائة سجين، ومعنا أكثر من مائة وخمسين من الحرس معهم البنادق والرشاشات، وفجأة اقترب من الشاب جاويد عشرة من الحراس وأجلسوه على الأرض، ووضعوا في حضنه مثلثاً خشبياً ربطوه إليه ربطاً محكماً بحيث يبقى قاعداً، ولا يستطيع أن يتمدد، ثم حملوه جميعاً، وأجلسوه على الجمر الأحمر، فصرخ صرخة هائلة، ثم أغمى عليه. سقط منا أكثر من نصفنا مغمى عليهم، كانوا يصرخون متألمين، وعمت رائحة شواء لحم جاويد المنطقة كلها، ومن حسن حظي أنني بكيت بكاء مراً، لكنني لم أصب بالإغماء لأرى بقية القصة التي هي أفظع من أولها. حُمل الشاب، وفكت قيوده وهو غائب عن وعيه، وصلب على المصلبة الخشبية، وربط بها بإحكام، واقترب الجلادون بالكلبين الجائعين، وفكوا القيود عن أفواههما، وتركوهما يأكلان لحم ظهر جاويد المشوي، فبدأت أشعر بالانهيار، إنه لازال حياً والكلاب تأكل لحمه فقدت وعيي بعدها. لم أفق إلا وأنا أصرخ في زنزانتي كالمجنون دون أن أشعر: جاويد! جاويد! أكلتك الكلاب يا جاويد، كان إخواني في الزنزانة قد ربطوني وأحاطوا رأسي وفمي بالأربطة؛ حتى لا يسمع الجلادون صوتي فيكون مصيري كمصير جاويد، أو كمصير شاهان خاني الذي أصيب بالهستيريا مثلي، فأصبح يصرخ جاويد! جاويد! فأخذه الجلادون ووضعوا فوقه نصف برميل مملوء بالرمل، ثم سحبوه على الأسلاك الشائكة التي ربطوها صفاً أفقياً، فمات بعد أن تقطع لحمه ألف قطعة، وأخيراً أغمي عليّ. فتحت عيني ففوجئت أنني في أحد المشافي، وفوجئت أكثر من ذلك بسفير بلدي يقف فوق رأسي، قال لي: كيف حالك، يبدو أنك ستشفى إن شاء الله، لو لم تكن غريباً عن هذه البلاد لما استطعت إخراجك، فاجأني سائلاً: لكن بالله عليك! قل لي: من هو هذا جاويد الذي كنت تصرخ باسمه، فأخبرته بكل شيء، فامتقع لونه حتى خشيت أن يغمى عليه. فلم نكمل حديثنا إلا والشرطة تسأل عني، واقترب من سريري ضابط وسلمني أمراً بمغادرة البلاد فوراً، ولم تنجح تدخلات السفير في ضرورة إبقائي حتى الشفاء، حملوني ووضعوني في باخرة أوصلتني إلى ميناء بلدي، كنت بثياب المستشفى، ليس معي أي وثيقة تثبت شخصيتي، فاتصلت بأهلي تليفونياً، فلما حضروا لم يعرفوني لأول وهلة، فحملوني إلى أول مستشفى، بقيت فيه ثلاثة أشهر في بكاء مستمر، ثم شفاني الله. ولقد كان مدير السجون يهودياً، والمسئول عن التعذيب خبيراً ألمانياً نازياً، وقد أطلقت تلك الحكومة في ذلك البلد الإسلامي يده يفعل بعلماء المسلمين ما يشاء. هذه قصة بسيطة من قصص محاكم التفتيش التي كان من نتيجتها أن كل مسلم كان على أرض الأندلس تنصر. وقد رثى الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي سقوط الحكم الإسلامي على يد النصارى، حيث قال في مطلع قصيدته: لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا

تعذيب المسلمين في الحبشة

تعذيب المسلمين في الحبشة أما في الحبشة فهناك مثال على ما فعله الصليبيون في بلاد المسلمين. إريتريا المسلمة بتأييد من فرنسا وإنجلترا، فماذا فعلت الحبشة وحاكمها وإمبراطورها هيلاسيلاسي في المسلمين. صادرت معظم أراضيها، وأسلمتها لإقطاعيين من الحبشة، وكان الإقطاعي والكاهن مخولين بقتل أي مسلم دون الرجوع إلى السلطة، فكان الإقطاعي أو الكاهن يشنق فلاحيه من المسلمين أو يعذبهم في الوقت الذي يريد. وفُتحت للفلاحين المسلمين سجون جماعية رهيبة، يجلد فيها الفلاحون بسياط تزن أكثر من عشرة كيلو غرامات، وبعد إنزال أفظع أنواع العذاب بهم، كانوا يلقون في زنزانات بعد أن تربط أيديهم بأرجلهم، ويتركون هكذا لعشر سنين أو أكثر، وعندما كانوا يخرجون من السجون كانوا لا يستطيعون الوقوف؛ لأن ظهورهم قد أخذت شكل القوس. كل ذلك كان قبل استلام هيلاسيلاسي السلطة في الحبشة، فلما أصبح هيلاسيلاسي إمبراطور الحبشة وضع خطة لإنهاء المسلمين خلال خمسة عشر عاماً، وتباهى بخطته هذه أمام الكونغرس الأمريكي. فسن تشريعات لإذلال المسلمين منها: أن عليهم أن يركعوا لموظفي الدولة وإلا يقتلوا، وأمر أن تستباح دماؤهم لأقل سبب، فقد وجد شرطي قتيلاً قرب قرية مسلمة فأرسلت الحكومة كتيبة كاملة قتلت أهل القرية كلهم وأحرقتهم مع قريتهم، ثم تبين أن القاتل هو صديق المقتول الذي اعتدى على زوجته، وحاول أحد العلماء واسمه الشيخ عبد القادر أن يثور على هذه الإبادة فجمع الرجال، واختفى في الغابات، وجمعت الحكومة أطفالهم ونساءهم وشيوخهم في أكواخ من الحشيش والقصب، وسكبت عليهم البنزين وأحرقتهم جميعاً. ومن قبضت عليه من الثوار كانت تعذبه عذاباً رهيباً قبل قتله، من ذلك: إطفاء السجائر في عينيه وأذنيه، وهتك عرض بناته وزوجته وأخواته أمام عينيه، ودق خصيتيه بأعقاب البنادق، وجره على الأسلاك الشائكة حتى يتفتت، وإلقاؤه طريحاً قبل أن يموت لتأكله الحيوانات الجارحة، بعد أن تربطه بالسلاسل حتى لا يقاوم. وأصدر هيلاسيلاسي أمراً بإغلاق مدارس المسلمين، وأمر بفتح مدارس مسيحية، وأجبر المسلمين على إدخال أبنائهم فيها ليصبحوا مسيحيين. وعين حُكاماً فجرة على مقاطعات إرتيريا، منهم واحد عينه على مقاطعة جمة، فابتدأ عمله بأن أصدر أمراً ألا يقطف الفلاحون ثمار أرضهم إلا بعد موافقته، وكان لا يسمح بقطافها إلا بعد أن تتلف، وأخيراً صادر 90% من الأراضي، أخذ هو نصفها وأعطى الإمبراطور نصفها، ونهب جميع ممتلكات الفلاحين المسلمين. وأمرهم أن يبنوا كنيسة كبرى في الإقليم فبنوها، ثم أمرهم أن يعمروا كنيسة عند مدخل كل قرية أو بلدة، ولم يكتف بذلك بل بنى دوراً للعاهرات حول المساجد ومعها الحانات التي كان يسكر فيها الجنود، ثم يدخلون إلى المساجد ليبولوا ويتغوطوا فيها، وليراقصوا العاهرات فيها وهم سكارى. كما فرض على الفلاحين أن يبيعوا أبقارهم لشركة أنكودا اليهودية، فكافأه الإمبراطور على أعماله هذه بأن عينه وزيراً للداخلية. وكانت حكومة الإمبراطور تلاحق كل مثقف مسلم لتزجه في السجن حتى الموت، أو تجبره على مغادرة البلاد حتى يبقى شعب إرتيريا المسلم مستعبداً جاهلاً، وغير ذلك كثير. كما جاء في كتاب: (كفاح دين) للشيخ محمد الغزالي من صفحة (60 إلى صفحة 80).

ما فعله الصرب في البوسنة والهرسك

ما فعله الصرب في البوسنة والهرسك وما فعله الصرب في البوسنة والهرسك بالمسلمين معروف لكل من هب ودب. فكان يؤتى بطفلة عمرها خمس سنوات ويهتك عرضها الصربي، ويجبرها على أن تناديه بزوجي، ويهتك عرض المسلمة أمام أولادها وأمام زوجها، ثم يذبح زوجها وأطفالها أمامها، وأقاموا المقابر الجماعية للمسلمين، وأبادوا القرى، وهدموا المساجد، ولعبوا برءوس الأطفال مثل كرة القدم.

رثاء البوسنة والهرسك للعشماوي

رثاء البوسنة والهرسك للعشماوي يقول الدكتور عبد الرحمن العشماوي مصوراً تلك المأساة: نناديكم وقد كثر النحيب نناديكم ولكن من يجيب نناديكم وآهات الثكالى تحدثكم بما اقترف الصليب سراييفوا تقول لكم ثيابي ممزقة وجدراني ثقوب محاريبي تأن وقد تهاوى على جدرانها القصف الرهيب وأوردتي تقطع لا لأني جنيت ولا لأني لا أتوب ولكني رفعت شعار دين يضيق بصدق مبدأه الكذوب لأني لا أجامل أو أحابي ولا أرضى الخضوع ولا أذوب لهذا مزق الأعداء ثوبي وبين يدي أشعلت الحروب يا ليت المسلمين يأكلون ويشربون فقط، بل إن أمير الكويت تطوع بأربعة ملايين دولار لحديقة حيوانات في بريطانيا، وبالمقابل قال لي أخ كان يعمل ضمن أعضاء الرابطة في السعودية: والله العظيم إن الطفل المسلم الصومالي ينصر بشوال من الدقيق، يذهبون به إلى الكنيسة ويعطونه شوالاً من الدقيق فيصبح نصرانياً، وهذا يتطوع بأربعة ملايين دولار، فهو وأمثاله أولى بهم الفقر لكي يعودوا إلى دينهم، ملئوا الحانات والبارات والملاهي في أوروبا، فعلوا ما لا يفعله المجانين من العهر والفسق والرذيلة، وكل ما لا يخطر على بال. يقول الدكتور عبد الرحمن العشماوي: لكم يا إخوتي أكل وشرب وأكسية لها نسج عجيب لكم دار مشيدة وظل يظللكم به غصن رطيب لدى أطفالكم لعب وحلوى وعند نسائكم ذهب وطيب وما والله نحسدكم ولكن نقول أما لإخوتكم نصيب نذير الحرب في أرضي نذير لكم فالليل منشؤه الغروب وجدب الأرض يسبقه احتباس وعصف الريح يسبقه هبوب لنا في أرضنا نهر وماء وروض في مرابعنا خصوب لنا بيت وأطفال ولكن محت آثار منزلنا الخطوب بنات المسلمين هنا سبايا وشمس المكرمات هنا تغيب تبيت كريمة ليلى وتصحو وقد ألغى بكارتها الغريب يقبل وجهها يا ليت شعري بماذا ينطق الوجه الكئيب يموت الطفل في أحضان أم تهدهده وقد جف الحليب بكت حزناً عليه بغير دمع وأين الدمع والظمأ النصيب وكم يرعى خلايا الجسم داء فيهلكه وقد عز الطبيب سل الفجر الذي لم يبد فينا لماذا لا يغني العندليب بني الإسلام هذي حرب كفر لها في كل ناحية لهيب يحركها اليهود مع النصارى فقولوا لي متى يصحوا اللبيب أراكم تنظرون وأي جدوى لنظرتكم إذا غفت القلوب

نشيد أطفال سراييفو

نشيد أطفال سراييفو ويقول الدكتور حسن أمرائي وهو من كبار الأدباء المغاربة في نشيد أطفال سراييفو: نحن أطفال سراييفو العتيدة إن حرمنا من حنان الأمهات في الليالي الحالكات فلأنا مسلمون نحن أطفال سراييفو المجيدة إن رمونا للسجون أو سقونا في الصبا كأس المنون فلأنا مسلمون نحن رغم القيد والقهر اللعين سوف نبقى مسلمين نحن أطفال سراييفو الجملية نعشق العصفور والوردة تزهو في الخميلة نعشق الأرجوحة الخضراء في الحقل ونعدو نحو أفق لا يحد نعشق الشمس ولون البحر نلهو بالمحار مثل آلاف الصغار ونحب النهر يشدو والفراشة تملأ الكون حبوراً وبشاشة فلماذا يا إلهي! ضرب الصرب الحصار ولماذا سرقوا منا النهار ولماذا بالدماء لطخوا وجه السماء ولماذا تصبح الأحلام كابوساً ويغدو لبن الأم دماً يا أصدقائي ويطير الأمل الأخضر من قبل الفطام يا أحبائي حطاماً في حطام ولماذا يقتل الورد الرصاص نحن أطفال سراييفو القتيلة قيدونا عذبونا أحرقوا المسجد والروض وأحلام الطفولة صادروا الآباء منا والبراءة والحكايات الجميلة علمونا في ربيع العمر أن نلعق جرح الكبرياء علمونا أن نغني للردى الزاحف أن نعزف ألحان المنية علمونا أن نصلي ويد تحضن جسم البندقية ما أشد الابتلاء نحن أطفال سراييفو الشهيدة سنصلي ونصلي ونعيد الضوء باسم الله للشمس الطريدة من بعيد من بعيد نحن عدنا من بعيد من بساط الموت عدنا نلعق الجرح العتيد نحمل الفجر الوليد يغمر الناس كل الناس بالعدل الرشيد فليمت من مات منا وليهاجر من يهاجر سوف تخضر المنابر من جديد من جديد والمحاريب ترى الذكر ندياً من جديد من جديد وستزهو الأرض من دفء الأذان ويعم النور يا أحبابنا كل مكان سوف نعلي راية الإسلام في الأرض وإن طال الحصار وسنبني للحضارة هاهنا ألف منارة ومنارة يا سراييفو النبيلة يا سراييفو الشهيدة أذن الله بأن ترفع رايات الجهاد نحن أطفالك حراس العقيدة

وقفات مع الخائفين

وقفات مع الخائفين مخافة الله عز وجل رأس الأمر، إذ هو شعار أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك هي شعار الصالحين من بعدهم. فالخوف باعث قوي على عبادة الله عز وجل، وسبب في البعد عن معاصيه، ورادع في الكف عن شهوات النفس، فإن النفس الأمارة بالسوء لا يردعها إلا قوة خوف من خالقها سبحانه وتعالى.

بيان مقام الخوف وتعريفه

بيان مقام الخوف وتعريفه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: فالخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه، والخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، ولا يزال الناس على الطريق ما دام معهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا، وما فارق الخوف قلباً إلا وخرب، قال حاتم الأصم: لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف. وقال ابن مسعود: إنما العلم الخشية. والخوف هو: توقع العقوبة على مدار الأنفاس، كلما خرج منك نفس تخشى عذاب الله عز وجل. قال سيد التابعين أويس القرني: كن في أمر الله كأنك قتلت الناس أجمعين، أي: في الخوف من الله عز وجل.

بيان أن الخوف نعمة من الله وبيان فضله

بيان أن الخوف نعمة من الله وبيان فضله الخوف نعمة من الله عز وجل، ينعم بها على من يشاء من عباده، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة:23]. فبنص هذه الآية الخوف من الله عز وجل نعمة؛ لأنه هداية، ولأنه يهيئ القلوب للاستجابة لأمر الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10]. وكما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]. والخوف يوصل العبد لأقصى مقامات الإيمان، فيوصله إلى رضا الله تبارك وتعالى عنه، قال الله تبارك وتعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]. وقال الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. فالعبد عندما يعلم باطلاع الله تبارك وتعالى عليه فإنه يعظم هذا المقام، فيترك الذنب -وقد أمكنه فعله- خوفاً من الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين النظر إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه). الخوف يوصل العبد إلى رضا الله تبارك وتعالى عنه، بل ويوصله إلى أعلى مقامات الجنان، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5] والأبرار هم: المقربون {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:6 - 11]. والخوف علامة أهل الجنة، قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34]. فمن لم يخف يخشى عليه أن يكون من أهل النار، قال الله تبارك وتعالى عن أهل الجنة: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]. والإشفاق هو: رقة الخوف {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]. ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار عبد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دمع من خشية الله، وقطرة دم تراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله). والخوف سبب للنصر، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

بيان أن الخوف من صفات الأنبياء وعباد الرحمن

بيان أن الخوف من صفات الأنبياء وعباد الرحمن والخوف شعار الأنبياء، قال الله تبارك وتعالى عنهم: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]. وأما أصحاب التصوف الفلسفي فيقول الحلاج: ما الجنة؟ إنها لعبة صبيان، يضحكون بها على العيال الصغار، وما النار؟ أستطيع أن أبصق عليها فأطفئها، أي: أتفل عليها تفلة واحدة فأطفئها، وهذا لا يقوله رجل يخشى الله عز وجل، ولذلك حكم عليه جمهور أهل العلم بالزندقة، ولا تجد رجلاً ينافح عن الحلاج إلا وفي دينه خلل، مثل صلاح عبد الصبور الذي عندما كتب عن مصرع الحلاج جعله بطلاً دينياً وقومياً وبطلاً من أبطال الحرية، وجعل الفقهاء أصحاب سلطة وأصحاب مال. وأما عباد الله وعباد الرحمن فإن ديدنهم كما قال الله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].

أنواع الخوف

أنواع الخوف

خوف العقوبة

خوف العقوبة والخوف على أنواع، منه: خوف العقوبة، وهو خوف العامة، وهو يتولد من مشاهدة الذنب والتصديق بوعيد الله عز وجل، وخوف العقوبة إذا ترحل من القلب ترحل عنه الإيمان، فلا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة وكبرياء من واجهته بها. وإذا حركت الريح ستر بيت إنسان أو ستر باب بيته فإنه ينخلع فؤادك لنظر الناس إلى عورتك، فكيف تقيم على المعصية وأنت عالم بنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات واطلاعه عليك وأنت تقترف المعاصي ليلاً ونهاراً؟! فآدم عليه السلام لم يسامح بلقمة وهو صفي الله عز وجل، ونحن: نصل الذنوب إلى الذنوب ونرتجي درج الجنان ونيل فوز العابد ونسينا أن الله أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحد

خوف الخشية وخوف الوجل

خوف الخشية وخوف الوجل ومنه: الخشية، والخشية هي: خوف مقرون بعلم، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية). وهناك: خوف الوجل، والوجل: انقباض القلب وخوفه عند ذكر من يخاف سطوته وعقابه، فمثلاً: عندما يقال: إن الرجل الفلاني يقوم بإعدام الناس في دار الدنيا فإنه ينقبض القلب بمجرد ذكر اسمه، فالوجل هو: انقباض القلب أو خوف القلب عند ذكر من يخاف عذابه وسطوته.

خوف الإشفاق وخوف الهيبة

خوف الإشفاق وخوف الهيبة وفوق هذا: خوف الإشفاق، والإشفاق هو: رقة الخوف. وفوق هذا: خوف الهيبة، والهيبة -كما قال ابن القيم - هو: خوف مقرون بحب. فالخوف والخشية والوجل والإشفاق والهيبة كل هذا من مقامات الخوف، وما أنصب العباد والخدام إلا ذكر يوم القيامة، وكيف لا يخاف العباد ولا يحزنون منها؟! وما عبد الله عز وجل بمثل الخوف، فكيف لا يخافون والقيامة أمامهم، وفي العرصات مقامهم، وعلى الصراط جوازهم، والمهبط والصعود إما إلى الجنة وإما إلى النار.

نماذج من خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه

نماذج من خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه وإن كان سيد الرسل قد شاب من ذكر أهوال القيامة أفلا يشيب العبد؟ وقد ورد أن أبا بكر الصديق قال: (يا رسول الله! قد شبت قبل المشيب، قال: شيبتني هود وأخواتها)، وفي رواية: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت). ولما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قد اجتمعوا قال: (علام اجتمع هؤلاء؟ قيل: اجتمعوا على قبر يحفرونه، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدر من بين يدي إخوانه، ثم واجه القبر حتى بل الثرى من دموعه، وقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا) هذا خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قام إلى الصلاة يسمع لصوت صدره أزيز كأزيز المرجل). وكان إذا هبت الريح دخل وخرج، فتقول له السيدة عائشة: (يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيم استبشروا -أي: لأنه سيجيء من بعده المطر- ولكني أعرف الكآبة في وجهك، قال: وما يؤمنني، إن قوماً رأوا عذاب الله عز وجل فقالوا: هذا عارض ممطرنا). فبمجرد تغير الجو وهبوب الريح كان يعرف الخوف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد واضع جبهته لله عز وجل). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت الجنة والنار فلم أر كالخير والشر قط اليوم) ثم قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل). فغطى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، أي: صوت خارج من الأنف فائج عن البكاء.

نماذج من خوف الأنبياء من الله عز وجل

نماذج من خوف الأنبياء من الله عز وجل وقال الله تبارك وتعالى في ذكر خليل الرحمن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] قال الشوكاني: يكثر التأوه من ذنوبه، فإذا تذكر الذنب أكثر التأوه من ذلك، فمن لجوعك ومن لعطشك ومن لذنوبك إذا جئت بها تحملها على ظهرك؟ فواطول وقوفاه وتحيراه! وأوه من حمل الذنوب وثقلها، وأوه من الإقرار بها! نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للبكاء تعار وبكى آدم عند نزوله من الجنة حتى قالوا: لو قيس بكاء آدم ببكاء أهل الأرض جميعاًَ لعدل بهم، وقال: أبكي على دار كنت أسمع فيها زجل تسبيح الملائكة حول العرش. وما شرب نبي الله داود شراباً من الماء ولا تناول طعاماً إلا وبلله بدموعه، وكان يقول: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك، فكيف أستطيع حر نارك؟ يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك -وهو الرعد- فكيف أستطيع سماع صوت غضبك.

ذكر خوف جبريل وميكائيل من الله عز وجل

ذكر خوف جبريل وميكائيل من الله عز وجل يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله)، أي: كالكساء الممزق الذي يوضع على ظهر الدابة. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: (ما لي لم أر ميكائيل يضحك؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار)، وهذا الحديث حسنه الألباني.

نماذج من خوف الصحابة من الله عز وجل

نماذج من خوف الصحابة من الله عز وجل ثم تعال إلى الصالحين من عباد الله عز وجل، فـ صديق هذه الأمة الأكبر رضي الله عنه يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا ليتني لم أولد، ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسياً منسيا. وحفرت الدموع خطان أسودان في وجه الفاروق. وعندما قال له ابن عباس رضي الله عنه عند موته: إنك لشهيد، مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل بك وفعل قال: إن المغتر من غررتموه، والله! لو كان لي ما طلعت عليه الشمس ما أمنت سوء المطلع، أو لافتديت به من هول المطلع يومئذ، ويرحم الله عمر بن الخطاب فاروق الإسلام فقد مرض من جراء آية، وهي قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7]، يقول: قسم حق ورب الكعبة! وسيدنا علي رضي الله عنه يخرج ذات يوم على أصحابه ويقول: والله! لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزة، قد باتوا لله عز وجل سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، تنهمر دموعهم على خدودهم فتبتل منها ثيابهم، فما بال هؤلاء قد أصبحوا غافلين؟ فما روي ضاحكاً حتى ضربه عبد الرحمن بن ملجم. وكان تحت عيني سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان يقول ابن مسعود رضي الله عنهما: إن هاهنا رجالاً ودوا لو أنها قامت ألا يبعثوا. وعمران بن حصين رضي الله عنه الذي كان مجاب الدعوة يقول: يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح في يوم عاصف. وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: لأن أدمع دمعة من خشية الله عز وجل أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار. والصحابي الجليل شداد بن أوس رضي الله عنه كان إذا أوى إلى فراشه لا يستطيع النوم، ويقول: اللهم إن جهنم لا تدعني أنام.

نماذج من خوف التابعين من الله عز وجل

نماذج من خوف التابعين من الله عز وجل وعلي زين العابدين رضي الله عنه ابن الإمام الحسين كان إذا توضأ اصفر وجهه، ولما يسأل عن ذلك يقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟ وهبت نار عظيمة أتت على أكثر المسجد ففزع منها الناس، فلم يفزع ولم يترك صلاته، وقال: شغلتني النار الكبرى. والربيع بن خثيم حفر قبراً في منزله، وكان ينزل فيه في اليوم مرات، ويقول: يا ربيع! ها قد خرجت، فاعمل لقبر إن نزلت فيه تقول: رب ارجعون، إلى يوم القيامة ولا يستجاب لك. وربعي بن خراش -أحد رواة الكتب الستة- يقسم ألا يراه الله ضاحكاً حتى يعلم أي الدارين داره، يقول غاسله: فلما مات تبسم، ولما كان على المغسلة تبسم، ولما وضعناه في قبره تبسم. وهذه كرامة ثابتة. وكذا يزيد الرقاشي قال عنه الحسن البصري: آلا على نفسه ألا يضحك حتى يعلم مصيره. قال: فعزم على ذلك فوفى. والحسن البصري سيد البكائين وصفوه فقالوا: كان إذا تكلم فكأنه شاهد الآخرة، ثم جاء من الآخرة يخبر الناس عنها. وقالوا: كان إذا قدم فكأنما قدم من نفس حميم الله، وإذا جلس فكأنما هو أسير يستعد لضرب العنق، وإذا بكى فكأن النار لم تخلق إلا له. وكان يبكي ولما سئل عن سبب بكائه وقيل له: يا أبا سعيد! ما يبكيك قال: وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ذنوبي فقال: افعل ما شئت فلا غفرت لك. ويقول: أخاف أن يطرحني في النار غداً ولا يبالي. وإن كانت الأنبياء يقولون يوم القيامة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فقد كان يبكي الحسن ويقول: أخاف أن يطرحني في النار غداً ولا يبالي. ويقول: والله! لا يؤمن أحد بهذا القرآن إلا ذبل، وإلا نحل، وإلا تعب، وإلا ذاب. وعندما قال له رجل: كيف حالك يا أبا سعيد؟! قال: كيف حال قوم ركبوا سفينة فلما توسطوا البحر تكسرت السفينة وتعلق كل منهم بخشبة؟ قال: في حال شديدة. قال: حالي والله! أشد من حال هؤلاء. وكان صائماً فقدم له ماء ليفطر عليه فلما رآه بكى، فقيل له: لم؟ قال: تذكرت أمنية أهل النار، وقولهم لأهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. أما طاووس بن كيسان سيد العباد، وسيد أهل اليمن، وتلميذ سيدنا عبد الله بن عباس كان إذا مر برواس -الرجل الذي يشوي الرءوس- ووجده قد أخرج رأساً مشوياً غشي عليه، ولا يأكل أولا يتعشى تلك الليلة، وكان إذا أتى إلى مضجعه يقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين، ثم يستقبل محرابه إلى الصباح. أما سفيان الثوري -أمير المؤمنين في الحديث- فكان عجب عجاب، قال عنه الإمام أحمد: سفيان عندي هو الإمام، كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم، وكان إذا ذكر الموت لا ينتفع بعلمه أياماً، ويقول: لا أدري، لا أدري. وحمل بوله إلى طبيب في مرضه الأخير فقال: هذا ماء رجل قد أحرق الخوف جوفه، وكان يقول: خفت الله عز وجل خوفاً أعجب كيف ما مت منه، وكان إذا جلس يجلس فزعاً مرعوباً ويقول: اللهم سلم، اللهم سلم. ويقول عبد الرحمن بن مهدي -شيخ الإمام أحمد -: ما صاحبت رجلاً في الناس أرق من سفيان، كان يقوم من نومه فزعاً مرعوباً ويقول: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وإن حاجة سفيان أن تغفر له ذنبه، اللهم لو كان لي عذر في التخلي عن الناس ما أقمت مع الناس طرفة عين. ولما سئل سفيان عن سر بكائه قال: لو أعلم أني أموت على التوحيد ما بكيت، وقال: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام، وقال سهل بن عبد الله التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة ومن مكر الله عز وجل عند كل خطوة وعند كل حركة، وهم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، فـ سفيان الثوري الإمام المعظم المبرز يقول: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام. يخشى أن يموت على غير الإسلام. سفيان الثوري يقول لرجل: تعال لنبكي على علم الله فينا، وماذا سبق القضاء لنا في أم الكتاب، أي: في اللوح المحفوظ، أشقي أم سعيد؟ وليس سوء الخاتمة فقط، وإنما يخافون مما سبق في علم الله لهم، أأشقياء أم سعداء؟ ومسعر بن كدام يبكي ويطول بكاءه، فتقول له أمه: لم البكاء يا مسعر؟ فيقول لها: لما ننتظر. فتقول: وما هو يا بني؟! فيقول لها: القيامة وما فيها، القيامة وما فيها. وأتى مالك بن مغول إلى سفيان الثوري فبكيا حتى رقا، حتى قال سفيان: ما أحب أن أقوم من مكاني حتى أموت، فقال له مالك بن مغول: ولكني والله! لا أرضى ذلك -أي: لا أحب ذلك- قال له سفيان: ولم؟ قال: معاينة الرسل، -أي: رؤية ملك الموت وملائكة العذاب أو ملائكة الرحمة- ولم ترهم من قبل، وخوف السكرات، واصطكاك الأسماع، واختلاف الأضلاع، وترادف الحشارج، وتتابع الأنين، ثم رؤية ملك الموت. فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد وضعوك على ظهر السرير وأنت لا تدري وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر يا ليت شعري كيف أنت على نبش الضريح وظلمة القبر يا ليت شعري ما تقول إذا وضع الكتاب صبيحة الحشر

بيان أهوال الموت

بيان أهوال الموت قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]. وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:20 - 22]. رب مذكور لقوم غاب عنهم فنسوه وكأني بالمرء قد يبكي عليه أقربوه وكأن القوم قد قاموا فقالوا أدركوه حرفوه وجهوه غمضوه كفنوه ألحدوه أقبروه فارقوه خلفوه وكأن القوم لم يكونوا يعرفوه

الحث على تذكر الموت والهرب من النار

الحث على تذكر الموت والهرب من النار تذكر الموت، واجعله منك على بال حتى يدوم خوفك، واجعل السكرات منك على بال، ومعاينة الرسل ومشاهدة ملك الموت، وتفكر في هذا، وما تقول له ولم تره من قبل، فهذا كائن لا محالة، وأمتنا آخر الأمم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، وقد أسرع بإخبارنا فما ننتظر إلا المعاينة. ويقول مطرف بن عبد الله -وهو من أئمة التابعين-: لقد كاد الخوف من النار أن يمنعني من سؤال الله الجنة. يقول: غلب علي الخوف حتى كاد ينسيني سؤال الله عز وجل الجنة. إن آخر من يخرج من النار كما جاء في الحديث الصحيح رجل يحبو حبواً، ثم يقول للمولى عز وجل: (يا رب! اصرف وجهي عن النار، لا أسألك شيئاً غير ذلك)، فيأخذ المولى تبارك وتعالى عليه العهد والميثاق -فمع هول ما هو فيه ينسى الجنة- وإنما يقول: (اصرف وجهي عن النار، لا أسألك شيئاً غير ذلك). ويزيد بن مرثد يقول له عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: ما لي أرى عينك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عن هذا؟ قال: عسى الله أن ينفعني بك، قال: إن ربي توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، ولو لم يتوعدني إلا بالسجن في الحمام لكان حرياً ألا تجف لي عين. يعني: إن ربي قد توعدني لو عصيته بالنار، ولو لم يتوعدني إلا بسجني في الحمام تحت دش ساخن قد علت درجة حرارته قليلاً لكان حرياً ألا تجف لي عين. إن هذا الأمر ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني وبين ما أريد، وهو يعرض لي حين يقدم إلي الطعام فأبكي وتبكي صبيتي وزوجتي وتقول: ويحي وما اختصصت به من طول الحزن معك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس الإسلام وأهله).

من أسباب الخوف

من أسباب الخوف

الأول: خشية العذاب

الأول: خشية العذاب الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: من أسباب الخوف: أن يخشى الإنسان حلول العذاب، ويخشى أن يعاقبه الله عز وجل ويعجل له العقوبة في دار الدنيا على معاصيه، وكان هذا لا يدع الصالحين ينامون. فـ الربيع بن خثيم -تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود، وكان من أحب الناس إليه، وكان إذا خلا به لا يأذن عبد الله بن مسعود لغيره من التابعين- تقول له ابنته: ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فقال: إن أباك يخشى البيات. والبيات هو: حلول عذاب الله ليلاً. وتقول له أمه: يا ربيع! يا بني! أقتلت نفساً؟ فيقول: بلى. فتقول: فوالله! لو علم أهل القتيل ما تلاقي بسبب قتيلهم لرحموك من كثرة البكاء، فيقول: قتلت أعز الأنفس علي، قتلت نفسي بالمعاصي. ومالك بن دينار يقول: لولا أن تكون بدعة لوضعت التراب على رأسي وقلت: أيها الناس! من رآني فلا يعصي ربه، هذا ذل العاصي في دار الدنيا فكيف في الآخرة. وكان يقول: لو أن لي أعواناً لفرقتهم في منارات الدنيا يصيحون في الناس: النار النار، أي: لا تنسوا النار. وله شاهد من حديثه صلى الله عليه وسلم: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار). ويقول: لولا أن تكون بدعة لم أسبق إليها عند الموت، فإنه إذا جاءني الموت لوضعت الغل في عنقي وقلت لهم: اسحبوني وامضوا بي كما يمضى بالعبد الآبق إلى سيده. وقال: بينا أنا أطوف إذا بجويرية صغيرة تقول: يا رب! أفما كان لك أدب تؤدب به من عصاك إلا النار؟ أي: يا رب! أما اخترت عقوبة وأدباً للذي يعصيك غير النار؟ قال: فما زال هذا مقامها إلى الصباح. قال: فلما رأيت هذا من جويرية صغيرة وضعت يدي على رأسي وقلت: ثكلت مالكاً أمه، أفما كان لك أدب تؤدب به من عصاك إلا النار؟

بيان صفة جهنم

بيان صفة جهنم جهنم سوداء، نارها أسود، شجرها أسود، أهلها سود قبيحون، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس:27]، أكلوا من النار، وشربوا من النار، ومشوا على النار، وعاشوا في النار، لهم نعال من نار، وسرابيل من قطران، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:17 - 14]. فما ظنك أيها المفرط في عمره المقصر في دهره! بسكان هذه الدار، فهي ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، دار يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، فيها سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم واحد من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد بمن فيه). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل النار يبكون الدمع حتى ينفد الدمع، ثم يبكون الدم -أي: بدل الدمع- حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو سيرت فيه سفن لجرت). دمع النواصي مع الأقدام صيرهم كالقوس محنية من شدة الوتر

صالحون يموتون وتعمى أبصارهم خوفا

صالحون يموتون وتعمى أبصارهم خوفاً والله إن أناساً من هذه الأمة ماتوا من الخوف، كانت تتلى عليهم آيات العذاب أو يرددونها فتخرج أرواحهم. ومنهم علي بن الفضيل بن عياض وقد قرأ زرارة بن أوفى قاضي البصرة قول الله عز وجل: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر:8 - 9] في صلاة الصبح فخرجت روحه، وأبو جهير الضرير في مجلس صالح المري تخرج روحه، وكان الناس يحضرون مجالس عبد العزيز بن سليمان فيقول: النار، النار، القيامة، القيامة، فيرفع من المجلس الميت والميتان والثلاثة. ومنهم من بكى من خوف النار، ومن خوف الوقوف بين يدي الله عز وجل حتى عمي. والإمام الترمذي -الذي ما خلف البخاري بعده أفضل منه وأورع- بكى من خوف الله عز وجل حتى عمي. وعلي بن بكار الذي يقول: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر بكى حتى عمي. هشام الدستوائي بكى حتى عمي، وقبل أن يعمى كان إذا أبعدت زوجته عنه السراج يبكي فتقول له: لم تبكي؟ فيقول: أخشى ظلمة القبر. وأشيم البلخي بكى حتى عمي، وكان يقول: أواه القبر وظلمته، أواه اللحد وضيقه، ثم يبكي حتى عمي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سيدنا سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن: (ضيق عليه القبر لولا أن فرجه الله عنه) فانظر ماذا يكون حالي وحالك؟ وعطاء السلمي يبكي ويقول: ويل عطاء، ليت عطاء لم تلده أمه، وكان إذا غلا السعر في السوق يقول: كل هذا بذنب عطاء، لو مات عطاء لاستراح الناس، لو مات لاستراح الناس. والفضيل بن عياض يأتي إليه جابر بن سليمان من أصحاب الحديث، فيقول له: اجلس يا جابر! ليس عند أصحاب الحديث أحب إليهم من قرب الإسناد، وسآتي لك بإسناد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فأنا وأنت يا جابر من الناس، يعني: أنا وأنت من وقود النار، ثم غشي على الفضيل، وكذا على ابنه علي، ما كانوا يستطيعون ذكر القيامة، أو أي آية من آيات العذاب. وعمر بن عبد العزيز كان يبكي حتى تختلف أضلاعه ويقول: بطيء بطين متباطئ، ويتمنى على الله منازل الصالحين، وكان يبكي ويقول: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم وتكدح فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم

تابع أسباب الخوف

تابع أسباب الخوف

الثاني: الخوف من الموت قبل التوبة

الثاني: الخوف من الموت قبل التوبة ومن أسباب الخوف: خوف الموت قبل التوبة، فـ الحسن بن صالح بن حي لما كانوا يقولون له: صف لنا غسل الميت! فيبكي ولا يستطيع. وكان إذا قرأ: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] يغشى عليه ويقول: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] أنفاسك تعد، آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد لقاء ربك، {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، إن النفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل. هذا هو الخوف من الموت قبل التوبة. فيا إخوتاه! قوموا قيام قوم قد يئسوا من العودة إلى مجلسهم خوفاً من خطفات الموكل بأخذ النفوس، وما أدراك أنك ستأتي إلى المسجد بعد خروجك منه إن النفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل، فبادر بالتوبة.

الثالث: الخوف من نقض التوبة وعدم الوفاء بها

الثالث: الخوف من نقض التوبة وعدم الوفاء بها ثم بعد ذلك يخافون من نقض التوبة، أي: أن يعودوا بعد التوبة، وألا يوفوا بكلمة. إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني

الرابع: الخوف من الميل عن الاستقامة ومن مكر الله

الرابع: الخوف من الميل عن الاستقامة ومن مكر الله ثم الخوف من الميل عن الاستقامة، والخوف من مكر الله عز وجل، مثل أن تركن لأعمالك الصالحة فيوكلك الله عز وجل إليها. صفت لي الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فتخاف -يا أخي- من ضيق القلب وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليها الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، فتخاف مكر الله عز وجل، فكم من رجل كان له حال مع الله عز وجل، وكان يصلي الفجر في جماعة، وهو الآن يجلس على القهاوي. فاتق الله عز وجل هذا هو الخوف من الزيغ ومن مكر الله عز وجل.

الخامس: الخوف من تشتت القلب في أودية الدنيا

الخامس: الخوف من تشتت القلب في أودية الدنيا ثم الخوف من تشتت القلب في الدنيا وأهلها وهمومها. نسأل الله عز وجل أن يجمع قلبي وقلبك على هم الآخرة. وفي الخوف من تشتت القلب في أودية الدنيا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحدا كفاه الله سائر همومه).

السادس: الخوف من ضياع الوقت في المعاصي

السادس: الخوف من ضياع الوقت في المعاصي ثم الخوف من ضياع الوقت في غير طاعة لله عز وجل، كأن يعيش في غفلة وفي لعب ولهو حتى يأتيه الموت بغتة.

السابع: الخوف من رؤية الله للعبد على معصية وخوف كفر النعمة

السابع: الخوف من رؤية الله للعبد على معصية وخوف كفر النعمة وكذلك الخوف أن يراك الله عز وجل مقيماً على ما لا يرضاه منك، وخوف البطر والطغيان والكبر بكثرة النعم.

الثامن: الخوف من تعجيل العقوبة

الثامن: الخوف من تعجيل العقوبة ومن الأسباب: الخوف من تعجيل العقوبة في دار الدنيا، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. وهذه الآية نزلت في ناس كفروا ثم نقصوا في الموازين ففعل الله بهم ما فعل {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:102 - 105]، {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46]. والحسن بن صالح كان إذا رأى الجراد يطير يغشى عليه، وعندما يسأل عن سر ذلك يقول: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7].

التاسع: خوف السؤال في القبر

التاسع: خوف السؤال في القبر وكذلك الخوف من منكر ونكير، وسؤال الملكين حينما يسألان الإنسان: من ربك؟ وما دينك؟ وما الأمر الذي كنت عليه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال) يعني: فتنة توازي في هولها فتنة المسيخ الدجال، وهي أعظم فتنة منذ خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال، وعني تسألون).

العاشر: خوف يوم القيامة

العاشر: خوف يوم القيامة ثم الخوف من عرصات القيامة ومن الحساب واطلاع الله على النقير والفتيل والقطمير.

الحادي عشر: الخوف من الوقوف بين يدي الله عز وجل

الحادي عشر: الخوف من الوقوف بين يدي الله عز وجل ثم الخوف من الوقوف بين يدي الله عز وجل، فالرجل العابد لما قابله ابن السماك وقد حفر لنفسه قبراً ودلى رجليه إلى القبر وهو يقول: إن للناس موقفاً لا بد أن يوقفوه قال له ابن السماك: بين يدي من؟ فمات الرجل.

الثاني عشر: الخوف من تطاير الصحف والموازين والصراط

الثاني عشر: الخوف من تطاير الصحف والموازين والصراط ثم الخوف من تطاير الصحف، والوقوف بين يدي الله عز وجل، والموازين، والصراط وحده. وإذا كان دعاء النبيين وهم على الصراط: يا رب! سلم، يا رب! سلم، فماذا يكون حالي وحالك؟

الثالث عشر: الخوف من القصاص وخوف مكان المصير

الثالث عشر: الخوف من القصاص وخوف مكان المصير والخوف من القنطرة والقصاص، وعدم العلم بعد ذلك بالمأوى هل يكون إلى الجنة أم إلى النار.

الرابع عشر: خوف عدم قبول الأعمال وخوف الذنوب

الرابع عشر: خوف عدم قبول الأعمال وخوف الذنوب ثم بعد ذلك الخوف من الحسنات والخوف من الذنوب، فما ظنك بالخوف من الحسنات وألا يقبلها الله عز وجل، وألا توفي بها، وألا تستمر عليها إلى يوم القيامة. فعودوا أنفسكم الخوف من الله عز وجل، فإذا سكن الخوف القلوب طرد مواطن الشهوات عنها، وأحرق مواضع الشبهات منها، وعودوا أنفسكم ذكر الموت، واجعلوا الموت منكم على بال. فهذا الربيع بن خثيم يقول: لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة لفسد قلبي، ومن لم يتعظ بالموت ولا بالقرآن فلو تناطحت الجبال بين يديه ما اتعظ.

الحث على قصر الأمل

الحث على قصر الأمل وليكن عندك قصر في الأمل، وكل يوم قل: هذا اليوم الذي أموت فيه، وفلان يغسلني، ولتكن الوصية منك على بال، ودع نصب عينيك، فلان يغسلني، وفلان يكفنني، وفلان يصلي علي، فإذا أتى الليل فقل: يا نفس! هذه ليلتك التي فيها تموتين، وفلان يغسلني، وفلان يكفنني، وفلان يصلي علي. وحفصة بنت سيرين كانت إذا قامت إلى صلاتها من الليل لبست كفنها؛ إذ ربما تكون هذه آخر صلاة لها. فاجعل الموت منك على بال، واجعل السكرات منك على بال، واجعل القبر منك على بال، واجعل القيام منك على بال، وردد آيات العذاب، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54]، {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:27]. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].

بيان فوائد خوف الله عز وجل

بيان فوائد خوف الله عز وجل وعزة سيدي! لا يجعل الله عز وجل عبداً أسرع إليه كمن أبطأ عنه، والناس تتسابق في دار الدنيا وتتغافل عن الموت، وإن أمراً أنت راحل إليه في كل لحظة أحق بالعمل من دار أنت مسافر عنها في كل لحظة. اللهم ارزقنا الخوف منك وحدك، ومن خاف الله عز وجل وحده خوف الله منه كل شيء، ومن خاف غير الله عز وجل أخافه الله من كل شيء. فهذا عز الدين بن عبد السلام كان يقول لـ نجم الدين ملك مصر: يا نجم الدين! الخمر تباع في الحانة الفلانية، فقال: هذا كان في أيام أبي، فقال له: أنت ممن يقول الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فيقولون له: أما خفت نجم الدين أيوب ملك مصر، فيقول: تذكرت هيبة الله عز وجل فصار كالقط، والملك العادل ملك مصر كان إذا دخل عليه عبد الغني المقدسي -وكان إماماً عظيماً من أئمة الحديث- يقوم له مرتعداً، فيقولون له: هذا رجل صاحب قرآن وصاحب حديث فلماذا تخاف منه هكذا؟ فيقول: والله! ما دخل علي مرة إلا وخيل إلي أنه سبع. ومصطفى كمال أتاتورك الذي أذل المسلمين في تركيا وأسقط دولة الخلافة وجعل الصلاة باللغة التركية وهدم المساجد وحولها إلى متاحف، وصاحب الراقصات، هذا الرجل الذي فعل الأفاعيل جاء نوع من النمل الأبيض وأصابه بحكة غريبة، فجلس الأطباء يعالجوه منها سنتين، وهم لا يعرفون ما هو سبب المرض، ثم اكتشفوا أنه نمل أبيض، قدم من آسيا إلى أوروبا فأمر بمدمرة بحرية بكامل طاقمها تأتي إلى قصره؛ لتهاجم النمل، وألقى مرة خطابه في مجلس النواب فهبت ريح شديدة وغبار شديد فارتعد وأراد أن يخرج من المجلس، فأمسكوا به، وبعد لحظات إذا هي غنم كان يرعاها راع، فخاف من رؤية غبار الغنم، ومن لم يخف الله عز وجل خوفه الله من كل شيء. نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الخوف منه وحده، والعمل له وحده، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك مخبتين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخيمة صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا. اللهم اشف مرضانا وجميع مرضى المسلمين، اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، وحسن النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، اللهم اهد حكام الأمة، اللهم اهد حكام الأمة إلى العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

رسالة إلى كل مسلم

رسالة إلى كل مسلم إن المسلمين اليوم يعانون من ذل وهوان وتسلط عدوهم عليهم، فجروحهم نازفة وما أن يلتئم جرح حتى يفتح آخر، وكلها أحداث تدمي فؤاد كل مسلم غيور، ولا شك أن كل محب للمسلمين يبحث عن السبيل لإخراج الأمة مما هي فيه، ومن بذل ولو جهداً يسيراً في البحث فسيجد أن الطريق إلى المجد هو تحقيق الإيمان، والعيش في ظله الوارف، والتنعم بحلاوته، والتزين بزينته، واكتساء حلته.

رسالة إلى المسلمين

رسالة إلى المسلمين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: يقول الشاعر: يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونزف شريانه ما أسهل العتبى من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا أنا قبيلة آلام بأحزنها ومن جراحي سقيت المزن والسحبا يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا إن الأحداث أبلغ من أي كلام، وأعظم من أي دموع، وأكبر من أي دماء تسكب من العيون. فكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب أما آن للمسلمين الغفل النيام أن يعرفوا عدوهم، {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} [الممتحنة:2]، ويقول الله تبارك وتعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. والمطالع للتاريخ الإسلامي، ولمحاكم التفتيش التي نصبها النصارى، ولما فعله فرديناند وإيزابيلا بالمسلمين وإجبارهم على التنصر في أسبانيا، وما فعله عباد البقر وعباد الفئران في كشمير، وما فعلوه في الفلبين، وما فعلوه في معرة النعمان في بلاد الشام أيام الحملات الصليبية، وما فعلوه في بيت المقدس. يعلم إنها مآسي أبلغ من أي كلام، وهذه قصاصات من التاريخ تبين حجم وهول الأحداث على المسلمين. يقول مؤرخو الغرب لا مؤرخو المسلمين في وصف الحملات الصليبية ضد السلاجقة الأتراك: كان جنودنا يكرهون أولئك الكلاب القذرين -يعنون بذلك المسلمين- فتبعثرت أشلاء الكفرة -أي المسلمين- في كل مكان، وانتشر الكرب وعويل النسوة، وقد جرى ذبح آباء الأسر مع جميع أبنائهم، وجرى تدمير محتويات المنازل، وتملكت المنتصرين شهوة قتل جنونية وجشع ونهب، ولهذا لم يستثنوا من القتل لا الجنس ولا المنزلة الاجتماعية، ولم يقيموا للسن أدنى قيمة، ووضعوا السيوف على رقاب الأمهات وأبنائهن، ثم اقتسموا أثاث المنازل والذهب والثياب النفيسة، ويروى أنه قتل في اليوم الأول من احتلال أنطاكية أكثر من 15000 من أهاليها، وانتشرت جثث القتلى غير المدفونة على طول الطرقات. ويقول المؤرخ الغربي راءول دوكايين في أثناء الاحتلال الصليبي لمعرة النعمان -بلد أبي العلاء المعري في الشام -: إن جماعاتنا كانوا يقلون الكفار في القدور -أي: كانوا يأتون بالمسلم وهو حي ويضعونه في القدر- بل أفظع من هذا كانوا يأكلون جثث العرب المسلمين، وهذا ثابت في كل الروايات الأوربية التي تعرضت للغزوات الصليبية. وهناك دكتورة غربية مسلمة حاصلة على دكتوراه في التاريخ الصليبي، لما سألتها عن ذلك أخبرتني بصدق ذلك في كل الروايات الأوربية التي تعرضت للغزو الصليبي لبلاد المسلمين، حيث كانوا يتجمعون حول النار مساء من أجل التهام فرائسهم وهم يشوونها على تلك النيران، وأيام فتح بيت المقدس جعلوا من مسجد الصخرة مشتى لخنازيرهم، وجعلوا من الصخرة مذبحاً لهم، وعلقوا صليباً على قبة الصخرة، ثم قتلوا المسلمين الذين احتموا بالمسجد الأقصى، وبلغ عدد القتلى في المسجد الأقصى سبعين ألف قتيل، حتى إن القائد الصليبي حين دخوله لبيت المقدس في المسجد الأقصى غاص في قتلى المسلمين، وفي دماء المسلمين حتى ركبتيه. أما ما فعلوه في الأندلس فهو أكثر من أن يقال، حتى إن خير الدين بربوس عندما استغاث به نساء الأندلس أرسل الرسول الجزائري ثلاث مرات يحمل الأطفال ويحمل النساء الذين يريدون إجبارهم على التنصر، وأنقذ بمفرده سبعين ألف امرأة وطفل أسباني. فماذا يفعل المسلمون الآن؟ لا شيء سوى الشجب والاستنكار والإدانة، مع أن بمقدورهم أن يقاطعوا صربيا، وبمقدورهم أن يطردوا السفراء من كل الدول الإسلامية، وبمقدورهم أن يفعلوا الكثير، فإن كان الشعب لا يستطيع أن يفعل شيئاً حيال ما يجري، وإن كانت الحكومات عاجزة لا أقل من أن الإنسان يعرف ابنه من عدوه، ويصحح القصد، ويرفع يده إلى السماء أن يجير الله عز وجل لهؤلاء الأطفال والنساء والرجال الذين يقتلون، ونقول للناس: واإسلاماه! عودوا إلى ربكم، واعرفوا من عدوكم، وصححوا القصد مع الله عز وجل، فاليوم كوسوفو ولا تعلمون الدائرة على من في الغد، فإن لم تحس بجرح المسلمين اليوم فمتى؟ ولو قيل لك: قتل أخوك في القاهرة فإنك ستبكي العبرات، وهؤلاء إخوتنا نساءً وأطفالاً رضع أجبروا على ترك بيوتهم، وهجروا من بلادهم حتى بلغ عدد المهجرين ثلثي كوسوفو، بل إنهم لا يسلمون من القتل في طريق هجرتهم، ومع ذلك كله تجد أن الترف قتل المسلمين في كل مكان؛ في دول الخليج وفي غيرها. نعم تجد رجالاً صالحين مؤمنين ناسكين، ولكن تجد على الطريق الآخر مسابقة لاختيار أجمل خروف كما نشرت ذلك جريدة الوطن الكويتية! وتعقد هذه المسابقة ويقع اختيارهم على خروف سموه عندهم الزعيم، وقد بيع بمائتين وخمسين ألف جنيه مصري، أي: ما يعادل خمسة وعشرين ألف دينار كويتي، ومسابقة أخرى لاختيار أجمل حمامة، وقد رفض صاحبها أن يبيعها بسيارة مرسيدس آخر موديل في هذا العام. هذه حال المسلمين، وفي مصر ينشغل الناس بمباراة كرة القدم! يقول الشاعر: من حر قلب الشاعر الهدار تهمي الدموع فتكتوي أشعاري أبكي ألوف المسلمين بكوسفا تحيا مروعة بغير ديار باتوا كراماً آمنين فأصبحوا شعباً شريداً حف بالأخطار الصرب عادوا كالذئاب ضراوة جوعى أصيبوا كلهم بسعار في البوسنه اغتالوا الحياة ودنسوا عرض النساء وعفة الأبكار داسوا على وجه الزهور وأخرسوا همس النسيم ورنة الأطيار ثم استداروا كي يبيدوا مسلمي الـ ألبان في حنق وفي إصرار في كل شبر قد أقاموا مجزراً للمسلمين العزل الأحرار سالت دماء المسلمين شهيدة تجري من الأعناق كالأنهار عادوا لتكرار المآسي نفسها لم يسأموا من كثرة التكرار والهاربون إلى الجبال تلفحوا بالثلج يلسعهم ليل من الأحزان خيم فوقهم يمتد مسوداً بغير نهار قد هوجموا لكن بغير جريرة قد هاجروا لكن بلا أنصار والجوع يفترس البطون بنابه والجوع كالوحش الهصور الضاري يبكي الصغار فيطعمون صغارهم عشباً وأوراقاً من الأشجار ومن العجيب أن أمريكا تريد أن تأخذ 20. 000 لاجئ من الألبان، وكندا 5000، والنرويج 10. 000، وألمانيا 40. 000، وأما المسلمون فكأن الأمر لا يعنيهم، ولذا أقول لأخي المسلم: إن لم تستطع أن تفعل شيئاً فكن رجلاً يقدر أن أخاه يذبح، وأن أخته ينتهك عرضها، وأن أطفاله الرضع ربما شابوا من هول ما هم فيه، وليتذكر أنه على مسافة خمسة وعشرين كيلو متر يقف مئات الآلاف من أجل أن يدخلوا مقدونيا فراراً من الصرب. آمل أن هذه المأساة تجعل من الشباب المسلم يقول: تبت إلى الله عز وجل أنبت إلى الله عز وجل وأن يستدرك ما فاته حتى لا يأتي الدور عليه.

حلاوة الإيمان

حلاوة الإيمان إن للإيمان حلاوة وزينة ونعيماً ونوراً لا يدركها إلا من عايشها سلوكاً ومنهجاً، فمن عاشها سيدرك أن للإيمان حلاوة تباشرها القلوب أكثر من مباشرة اللسان لحلاوة الطعام الحسية، وهي ما عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة بالطعام، ومرة بالذوق، ومرة بحلاوة الإيمان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)، وهو من حديث العباس بن عبد المطلب. وروى الإمامان البخاري ومسلم من حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). كما أن للإيمان زينة وحلة يرتديها المؤمنون، ولذا كان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، وهذه الزينة إذا كست القلب بدت آثارها على الجسد والجوارح، قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. ومما لابد أن يعلم أن للقلب نعيماً مثل نعيم الأبدان، وهو الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقرة العين، قال الإمام ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان): قوله: (وأسألك نعيماً) هذا نعيم الأبدان، ثم قال: (وقرة عين لا تنقطع)، هذا نعيم القلوب. إن أجمل شيء يلقاه العبد في دار الدنيا هو لذة الأنس بالله عز وجل، والمعرفة بالله عز وجل، والفرار منه إليه، وهو يقابل لذة النظر إلى وجه الله الكريم في الدار الآخرة، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، فجمع بين لذة الدنيا ولذة الآخرة، فوالله ما طابت الدنيا إلا بذكره، وما طابت الآخرة إلا برؤيته. مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها؛ المعرفة بالله عز وجل، والأنس به، والمحبة له. يقول يحيى بن معاذ الرازي: من سر بخدمة الله عز وجل سرت بخدمته الأشياء، ومن قرت عينه بالله عز وجل قرت به كل عين.

الأسباب التي تجعل المسلم يذوق حلاوة الإيمان

الأسباب التي تجعل المسلم يذوق حلاوة الإيمان وهنالك أكثر من عشرين سبباً يجد بها العبد حلاوة الإيمان سنحاول أن نتتبعها سبباً سبباً.

الرضا بالله ربا

الرضا بالله رباً السبب الأول: الرضا بالله رباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً)، ومعنى: الرضا بالله رباً: أن ترضى بالله عز وجل وكيلاً مدبراً ولياً ناصراً، وأن تبغض إلى نفسك عبادة كل شيء سوى الله عز وجل، وأن يكون الله عز وجل أولى الأشياء عندك بالتعظيم، وأن تكون محبة الله عز وجل سابقة لكل محبة، وأن تكون كل محبة للبشر محبة إضافية ومحبة الله عز وجل محبة ذاتية، ولذلك عندما أمر المولى عز وجل سيدنا إبراهيم بذبح ابنه هم بالذبح؛ لأنه لا يحب إسماعيل ابنه لذات إسماعيل، وإنما يحبه لأن الله عز وجل أمره بحبه، فإذا دعاه الله تبارك وتعالى إلى ذبح ولده هم بذلك وسارع. فهذه غاية المحبة، وهي أن تكون محبة الله عز وجل هي المحبة الذاتية الأصلية، وكل محبة تابعة لها، وأن تقهر محبة الله عز وجل كل محبة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. فلابد أن تكون محبة الله عز وجل أولى من كل محبة، سابقة لكل محبة، قاهرة لكل محبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وهذا عين الرضا بالله. وأما الرضا عن الله: فهو الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه). والرضا بالله رباً أفضل من الرضا عنه رباً؛ لأن الرضا بالله رباً متعلق بأسماء الله عز وجل وبصفاته، وأما الرضا عن الله عز وجل فهو متعلق بثواب الله عز وجل، فالرضا بالله رباً فرض آكد على القلوب، وأما الرضا عن الله عز وجل فاختلف العلماء فيه هل هو واجب أم مستحب على قولين، كما أن الرضا عن الله رباً لازم للرضا بالله رباً.

الرضا بالإسلام دينا

الرضا بالإسلام ديناً السبب الثاني: الرضا بالإسلام ديناً، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 133]. إن أعداء الله لا يبغضون منا إلا الإسلام، فإذا تركنا ديننا كنا أحباء خلصاً لهم، فهم لا يبغضون إلا دين الله عز وجل الذي أسلم له من في السماوات ومن في الأرض، ونحن نوقن أن هذا الإسلام عزنا وشعارنا وفخرنا. قالها أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب لـ أبي عبيدة رضي الله عنهما حين قال له أبو عبيدة وهو يفد ليستلم مفاتيح القدس: لو أصلحت من شأنك يا أمير المؤمنين؛ فإنك تلقى وجهاء الناس وكبراءهم؟ فضرب في صدره وقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. فليس الأمر هاهنا، وإنما الأمر هاهنا: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)). يقول أبو حازم الأعرج: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، حينما يتسع خرق النعل تصلحه. ونحن: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع فلابد أن نعلم أنه إذا ضاع الإسلام ضاع كل شيء، تضيع الأعراض وتغتصب النساء، وتسفك الدماء، وتنتهب الأموال، وتسلب الأراضي وغيرها، والواقع خير شاهد، فحلف الناتو عند غزو الصرب لكوسوفو لم يعمل شيئاً للمسلمين، وإنما ضرب بعض المواقع تاركاً جنود الصرب يذبحون المسلمين، وكأنها مؤامرة الكل يتفقون عليها. لقد دك الصرب الناس دكاً، فماذا فعل حلف الناتو؟ لا شيء، فرغم أن عندهم جيوشاً برية وبحرية وجوية، لكن ليس عندهم استعداد أن يقتل قتيل واحد فقط من أجل مسلم، ونحن عندنا قلامة ظفر أصغر طفل من البوسنة أو من ألبانيا أو من كوسوفو برقاب كل الكافرين الذين على وجه الأرض.

الرضا بمحمد رسولا

الرضا بمحمد رسولاً والرضا برسول الله رسولاً هو عين الشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2]. وقال الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. قال سيدنا عمر يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين، قال: الآن يا رسول الله، قال: الآن يا عمر). وكونك ترضى به رسولاً يعني: ألا تتحاكم إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تطبق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تهاجر إلى سننه: في حركاته وسكناته وكلامه وصمته وأفعاله، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدك وشيخك، فتفزع إلى آرائه، وتترك كل الآراء لآرائه، وتترك زبالات الأذهان ونتائج الأفكار العفنة وأقوال العقول وهدايات الأفكار لهديه وشرعه، فتترك علم الكلام والمنطق لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ولتكن قاعدتنا دوماً: النقل مقدماً على العقل، والكتاب والسنة مقدم على غيره من عقول البشر، وعلى غيره من أذواق ومواجيد الصوفية، وأن يكون الذوق عند المسلم ذوقاً شرعياً مرتبطاً بالكتاب والسنة. لقد أعزنا الله بالإسلام والجهاد، ثم لما أغمدت السيوف أتت الهزيمة والذل والعار والوحل والسقوط والدناءة على يد من ابتعدوا عن دين الله عز وجل. إذا أنت غمت عليك السماء وظلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها

عبادة الله وحده

عبادة الله وحده السبب الرابع: عبادة الله وحده، وهناك ثلاث أخرى من فعلهن يحبه الله ورسوله، ويذوق طعم الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده)، والعبودية: هي الذل التام والحب التام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.

إخراج زكاة المال

إخراج زكاة المال السبب الخامس: أن يؤدي المسلم زكاة المال، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا الله وحده، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط: اللئيمة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولا يأمركم بشره). ولو أن حكومات وأثرياء المسلمين بعثوا زكاة الأموال لفقراء المسلمين النازحين من بلادهم لاغتنوا وما عاد يسمع في المسلمين فقير.

تزكية النفس

تزكية النفس السبب السادس: تزكية النفس. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (ويعطي زكاة ماله طيبة بها نفسه، وزكى نفسه، قالوا: وما تزكية النفس يا رسول الله؟ قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان). قال أحد السلف: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من واجهته بها. إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيات تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني وقال الآخر: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب فعلى العبد حينما يباشر أي معصية أن يتذكر أن الله عز وجل ناظر إليه من فوق سبع سماوات، عالم بحاله وأمره؛ مطلع على معصيته وظلمه. وقد ذكر أن رجلاً راود امرأة على الفاحشة فقالت بعد أن خلا بها: انظر هل يرانا من أحد، قال: ما يرانا إلا الكواكب، قالت له: فأين مكوكبها؟! ويذكر أن امرأة أخرى راودها رجل على الزنا، فقالت له: هل نام أهل القافلة جميعاً؟ قال: نعم، قالت له: فهل نام الله؟! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]. فأمرك حين تقترف أي ذنب دائر بين أمرين: إما أن تقول إن الله عز وجل حين أباشر هذه المعصية الصغيرة لم يرني ولم يطلع علي ولم يعلم بحالي، وأنت لو تيقنت هذا خرجت من الإسلام بالكلية ولو في فعل صغيرة، وأما إذا قلت: إني أباشر المعصية وأعلم أن الله يراني ومطلع علي، فهذا يدل على قلة الحياء. قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت). والمراقبة منزلة عظيمة من منازل الإحسان، وقد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ولو أن تعظم أمر الله عز وجل كما تعظم الرجل الصالح من قومك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تجعل الله عز وجل أجل الناظرين إليك).

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة السبب الثامن: قال أهل العلم عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة): إن قرة عينه هي نعيم القلب. قال الإمام ابن القيم في (إغاثة اللهفان): الصلاة عبارة عن حركات تباشرها الجوارح، وأساسها الخشوع، والخشوع من أعمال القلوب. كان علي زين العابدين إذا توضأ اصفر وجهه، فإذا وقف للصلاة بين يدي الله عز وجل يرتعد، ولما يسأل عن ذلك يقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟! فما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة في الصلاة، ولا بمثل الذل والتضرع ومد اليد إلى الله عز وجل، فهو والله النعيم الذي يحسه أهل الليل في ليلهم، فهم في لذة أعظم من أهل اللهو بلهوهم. قال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة واستمتعت بها عشرين سنة. قم في الدجى بين يدي الله عز وجل، وتحرى في قيامك الثلث الأخير؛ علك أن تصادف ساعة الإجابة فتسعد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة)، فقم واسجد لله عز وجل واغسل بدموعك خدودك، وسل الله عز وجل أن يفك أسرى المأسورين من المسلمين، وأن يفرج الكرب عن المسلمين. يذكر عن صلاح الدين الأيوبي لما حاصر الصليبيين أنه كان يطوف على الأمصار وعيناه تذرفان الدموع، ويقول: يا للإسلام! يا لعكا! وقالوا: كان يحمل الأحجار في حجره ليصلح من حصون عكا، ويحمل هماً كالجبال في صدره حزناً على الإسلام وغماً على حال المسلمين، مع أنه كان حينها قد أصيب بالدماميل في ظهره، وما كان يستطيع أن يأكل إلا وهو مستلق على بطنه من شدة الدماميل التي في ظهره، ولكن كان إذا ركب الخيل ينسى هذا كله، فكان يتعجب قاضيه ابن شداد ويقول: إنك لا تأكل إلا نائماً على بطنك، فكيف تركب الخيل؟ يقول: والله لا أحس بألمها حتى أعود مرة أخرى إلى الأرض، إنها معونة الله عز وجل. وظل يبني الأبراج ويبني الحصون إلى أن سلم أهل عكا، بعد أن ضيق عليهم النصارى الحصار من قبل البحر، وأتت السفن تضربهم كي يستسلموا، واشترطوا على النصارى الأمان، إلا أنهم غدروا فبعد أن سلم المسلمون لهم ذبحوا 3000 صبراً، جمعوهم وذبحوهم في الصحراء، ولم يوفوا للمسلمين بأي عهد، وبكى صلاح الدين في هذا اليوم بكاء لم يبك مثله في أي يوم آخر. وممن حمل هم الإسلام محمود زنكي، ومما يؤثر عنه أنه كان يروي الحديث بالسند، فجاء حديث أن رسول الله تبسم، وتبسم راوي الحديث الصحابي، ثم التابعي، فقالوا: تبسم حتى تكتمل السلسلة، فقال: والله إني أستحي من الله عز وجل أن يراني متبسماً والصليبيون يحاصرون دمياط، وكان الصليبيون وقتها محاصرين لدمياط، وما بنيت المنصورة إلا قلعة من قلاع الجهاد لوقف زحف الصليبيين على دمياط. إن مما ينبغي على المسلمين بعد أن يتعلموا دينهم أن يقرءوا التاريخ الإسلامي، وأخبار المعارك الإسلامية، فإن المسلم حين يجد أن المسلمين قد وصلوا إلى قرية سينس وهي تبعد عن باريس ثلاثين كيلو متراً من جهة الجنوب، ووصلوا إلى جبال الصين، ووصلوا إلى سيبريا، سيجد الفرق الهائل بين المجد القديم لأمة الإسلام والحاضر المزري الذي أبرز صورة عجز المسلمين عن الدفاع حتى عن القدس.

حسن الخلق

حسن الخلق السبب التاسع: حسن الخلق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أحسنهم خلقاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما أعطي الناس خلق حسن، ومن كمل إيمانه ذاق حلاوة الإيمان)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان الصبر والسماحة)، وأفضل الصبر الصبر على طاعة الله: من الإتيان لصلاة الجماعة في المسجد، والمواظبة على سماع دروس العلم، والإتيان لصلاة الفجر، والمداومة على قيام الليل، والحرص على صوم النافلة. ويلي الصبر على طاعة الله الصبر عن معاصي الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة. ولابد أن يعلم المسلم أن الله عز وجل أرحم بالمظلومين من المسلمين من كل المسلمين قاطبة، إن الله عز وجل اختص نفسه بتسع وتسعين من الرحمة، ثم أنزل إلى الأرض جزءاً يتراحم منه الجن والإنس والطير والهوام، والله عز وجل لا يريد للمسلمين إلا الخير، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها، وما يصيب المسلمين من أزمات لا يريد الله للناس بإصابتهم بها إلا الخير، ولعلهم أن يعودوا تدريجياً إلى دينهم، فتمتلئ المساجد، ويظهر الحجاب والنقاب واللحية وغيرها من شعائر الإسلام. قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة -من شدد الله عز وجل عليهم في الدنيا- فيغمس في الجنة غمسة واحدة فيقال: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا).

أن يحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه

أن يحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه السبب العاشر: أن يحب المسلم لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأحب للناس ما تحبه لنفسك تكن مؤمناً) أي: تكن مؤمناً كامل الإيمان كما فسره علماء الحديث.

بغض الدنيا

بغض الدنيا والسبب الحادي عشر: بغض الدنيا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس ذو القلب المحموم، واللسان الصادق، قالوا: وما القلب المحموم يا رسول الله؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قالوا: فمن على أثره يا رسول الله؟ قال: الذي يشنأ الدنيا -الرجل الذي يبغض الدنيا-، قالوا: فمن على أثره يا رسول الله؟ قال: مؤمن في خلق حسن)، فالمؤمن الذي يبغض الدنيا هو الذي يذوق حلاوة الإيمان، ولذلك يقول: إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.

الرجوع إلى القرآن تلاوة وتدبرا وتفهما

الرجوع إلى القرآن تلاوة وتدبراً وتفهماً السبب الثاني عشر: الرجوع إلى القرآن بتلاوته وتدبره وتفهمه، يقول الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58]، وهذا فرح القلب: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وفضل الله ورحمته هو الإسلام والقرآن، ففرح القلوب المؤمنة بالقرآن بتلاوته وتدبره هو نعيم القلب. يقول ابن تيمية: أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي. لسان حاله: إن معي كتاب الله وسنة نبيه، فجنتي وبستاني في صدري. ومن النعيم الذي يغمر قلوب المؤمنين نعيم الذكر، فما تلذذ المتنعمون بمثل ذكر الله عز وجل، ورحم الله أقواماً كان الذكر نعيمهم وعنوانهم، والقرآن نزهتهم وبستانهم وروحهم وريحانهم.

الصدق

الصدق السبب الثالث عشر: الصدق، فمن أراد طريقاً إلى الله عز وجل فعليه باليقين بوعد الله عز وجل، فلو كان لدى المؤمنين يقين بما وعد الله عز وجل به الصالحين من النعيم والخير لتنعموا بلذة الإيمان والتصديق، وستجد من أيقن بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة)، ملازماً لتلك العبادة قد ذاق حلاوة التصديق بما وعد الله عز وجل. كما أنه إن وصل إلى هذه الدرجة جعلت الآخرة منه على بال، وكان الموت أحب شيء إليه؛ لأنه يقربه من الله عز وجل، بينما اليوم أصبح دين أحدهم لعقة على لسانه، يقول: أؤمن بيوم القيامة، وكذب ومالك يوم الدين! فالموت أول وارد علينا من ربنا، فكلنا نؤمن بالموت ولا نرى له مستعداً، ونؤمن بالجنة ولا نرى لها مشتاقاً، ونؤمن بالنار ولا نرى منها خائفاً، ونؤمن بلقيا الله عز وجل ولا نستعد لهذا اللقاء. يقول الإمام العظيم ابن دقيق العيد: والله منذ أربعين سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها موقفاً بين يدي الله عز وجل.

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله السبب الرابع عشر: الجهاد في سبيل الله، فإن العبد يذوق حلاوة الإيمان إذا جاهد في سبيل الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15]، والجهاد المراد هو الجهاد بكل أنواعه؛ جهاد الكلمة ضد الزنادقة والمارقين الذين يبغضون إلى الناس دينهم، ويزرعون الشكوك في أنفس العامة، وهذا جهاد الخاصة، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وجهاد المنافين لا يكون إلا بالكلمة، قال الله عز وجل: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، فجهاد الخواص هو الدعوة إلى الله عز وجل. قال الإمام القرطبي: والدعاء إلى الإسلام أعلى مقامات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهنا ينبغي الحذر من الممارسات اللامسئولة التي يمارسها بعض المتحمسين باسم الجهاد والجهاد منها براء. ويذكر عن شقيق البلخي أنه لما اصطف المسلمون مع أعدائهم للقتال قال لمن بجانبه: هذا اليوم مثل الليلة التي زفت إليك فيها امرأتك؟ قال: لا والله، هذا يوم تنزل فيه الروح، ثم قال له: أتجعل يوم بنائي على زوجتي مثل يوم الجهاد؟ قال: والله لهما سواء عندي، هذا اليوم مثل اليوم الذي زفت إلي فيه امرأتي. يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولنا أن نتساءل أين نحن من هؤلاء الرجال؟ أين نحن من يوم من أيامهم، إن ما نبذله للإسلام لا يقاس بحافر في خيل خالد، أو بذرة غبار على وجه ابن المبارك، ولا بيوم من أيام معاذ بن جبل، ولا بيوم من أيام أبي هريرة حافظ المؤمنين في الحديث، وقد كان ينادي في قبيلته دوس: أتفرون من الجنة؟ أتهربون من الحور العين؟! ولا بيوم من أيام أبي سفيان وهو يصيح في يوم اليرموك: يا نصر الله اقترب، أين نحن من نصر الله عز وجل، ولا بيوم من أيام عكرمة بن أبي جهل وهو يقول: من يبايع على الموت؟ فيقول له خالد: أبقنا لنفسك يا أبا عمرو، يقول: إليك عني يا خالد، لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مكان، أفأفر اليوم عن الجنة؟! اللهم أكرمنا بالشهادة في سبيلك اللهم اهد حكام المسلمين، وارجعهم إلى دينك، اللهم ائذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود. اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين. وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا. اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم ارحم موتى المسلمين. اللهم عليك بالظالمين من الكافرين والملحدين، اللهم وارحم شهداء المسلمين في كل مكان، واحم أعراض نساء المسلمين في كل مكان، وارحم أطفال المسلمين في كل مكان، واحفظ دماء المسلمين في كل مكان، ووفر الأمن لبلاد المسلمين في كل مكان. اللهم أقبل بشباب المسلمين على كتابك وعلى سنة نبيك، اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت فينا أعداء حاسدين. اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم إنك ملك الملوك تقدر ولا يقدر غيرك، وتملك ولا يملك غيرك، اللهم ارحمهم، اللهم احم أعراضهم، اللهم احفظ أموالهم، واحفظ أولادهم، واحفظ شيوخهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على محمد، وعلى آله الطاهرين.

شذا الريحان بذكر جنة الرحمن

شذا الريحان بذكر جنة الرحمن الجنة دار الخلود، والفرح والسعود، لا يحصل عليها من أدمن القعود، وظل راكداً في ميادين الركود، وهي دار صفاء ونقاء، وجمال وكمال، فيها ما لم تره الأعين، ولم تسمعه الآذان، وفيها من شتى الفواكه لذيذة المذاق جميلة الألوان، وفيها الحور الحسان، وفيها راحة الجسد والأبدان، فهنيئاً لمن جعل الجنة نصب عينيه فجد واجتهد، وعمل وكد، وما نام ولا رقد، وشمر عن ساعد الاجتهاد والجد.

شوق جنة الرحمن إلى أولياء الرحمن

شوق جنة الرحمن إلى أولياء الرحمن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير من ما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: حديثنا اليوم بعون الله وتوفيقه سيكون بعنوان: شذا الريحان بذكر جنة الرحمن. هذه الدار التي دندن حولها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بقوله للصحابي الجليل: (حولها ندندن). هذه الدار التي ارتضاها الله مأوى لعباده الصالحين، هذه الدار التي غرس الله غراسها بيده، كما قال ابن عمر: إن الله عز وجل خلق جنة عدن بيده كما خلق آدم بيده، وخلق العرش بيده، وخلق القلم بيده، وخلق باقي الكائنات بكلمة كن. فالله عز وجل خلق الجنة بيده، فرحم الله أقواماً علموا أن الرحمن غرسها بيده، فحنوا إلى ما غرسه. خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأقبل مقبض بابه خذني إلى وطني أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه نحن اعتصرنا غيم كل طرائق الدنيا وأشعار الحنين إلى الوطن لا ماؤها يروي ولا أشعارها تكوي ولا تنسي عدن

نماذج من الصحابة اشتاقت إلى الجنة

نماذج من الصحابة اشتاقت إلى الجنة هذه الدار التي اشتاق إليها الصالحون، فهذا عمير بن الحمام الصحابي الجليل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال: بخ بخ، قال: ما حملك على أن تقول هذا؟ قال: والله يا رسول الله! ما قلت ذلك إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه جعل يأكل منهن ثم ألقاها وقال: إنها لحياة طويلة إن مكثت حتى آكل تمراتي هذه، وقاتل حتى قتل). إنها الدار التي اشتاق إليها حرام بن ملحان في يوم بئر معونة لما طعن وسال الدم على رأسه وقال: فزت ورب الكعبة. وهذا عامر بن فهيرة راعي أغنامٍ لـ أبي بكر الصديق، لما طعنه الجبار بن أبي سلمى يوم بئر معونة قال: فزت ورب الكعبة، فقال الجبار قاتله: بماذا فاز؟ قالوا: بالجنة، قال: فرأيت رجالاً يذهبون به في السماء علواً حتى كانت السماء بيني وبينه، ثم أسلم جبار في الحال. هذه الدار التي قال عنها جعفر الطيار: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها هذه الدار التي شم رائحتها أنس بن النضر رضي الله عنه لما خرج لغزوة أحد فقال له سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟ قال: إليك عني يا سعد بن معاذ! والله إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد.

نفحات من نعيم الجنة

نفحات من نعيم الجنة فلو أنك مررت على قصر لرجل عظيم من أبناء الدنيا، وزرع حول هذا القصر ريحاناً ونباتاً طيباً، فإنك تشم رائحة هذا القصر على مسافة كيلو متر أو نصف كيلو متر، ولكن الجنة رائحتها كما جاء في الحديث الصحيح تشم من مسيرة خمسمائة عام. فما ظنك بالعطر في نواحيها وبالطيب في أرجائها، قال الله تبارك وتعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] قال ابن عباس: عرفها لهم أي: طيبها لهم، والعرف: هو الطيب. هذه الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، فلو كنت بعيداً عن الديار ومعك العنوان ورقم الشارع، وقد تضل الطريق، فما ظنك بجنة عرضها السماوات والأرض؟ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده! لأحدهم أعرف بقصره من منزله في دار الدنيا). بل إن هذه الدار تقرب كرامة لصاحبها على الله عز وجل، يقول تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] يعني: قربت. قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11] ولم يقل هنا: أولئك المتقربون، وإنما قال: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:11] أي: المحمولون على العناية والرعاية الكاملتين. الجنة دار الطيبين، نعيم لا ينفد، ولا عهد للناس به في دار الدنيا، فلو أن واحداً فرش بيته ورفع الحصير وجاء بالسجاد الإيراني، فإنه نعيم صامت لا يتكلم، ولكن المولى عز وجل يزين الجنة ثم يأمرها أن تتكلم فتقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]. وإن من نعيم الجنة الذي يتكلم أن تمر سحابة فتقول: ماذا أمطركم؟ يقول يحيى بن أبي كثير: أشهد الله أن لو أراني هذا الموقف لأمرت السحابة أن تمطر علينا حور عين. وإذا عاب الناس قول من قال: اللهم ما عبدتك رغبةً في جنتك، وهذا القول قول منسوب إلى رابعة، وهو غير صحيح، لأن الكاملة من النساء آسية زوج فرعون طلبت الجنة، فكيف لا تطلبها رابعة وهي أقل قدراً منها؟ قال تعالى: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]. والله عز وجل لا يرى إلا في الجنة فكيف لا تطلبها رابعة وقد طلبها من هو أكمل منها وأفضل؟

ذكر ما جاء في سوق أهل الجنة وتحقيق أمنياتهم

ذكر ما جاء في سوق أهل الجنة وتحقيق أمنياتهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكن أحب أن أزرع. فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال) زرع وفي لحظة استوى النبات فكان كأمثال الجبال (فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء). فقال أعرابي كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول هذا: (والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فيها كثبان المسك -فيها جبال من مسك- فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً). فهل هناك أحد يخرج إلى سوق الدنيا ويرجع منه وقد زاد حسناً؟ لكن أهل الجنة يزدادون حسناً وجمالاً (فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلهم: والله! لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله! لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً).

ذكر خطيب أهل الجنة وتلذذهم برؤية وجه الله الكريم

ذكر خطيب أهل الجنة وتلذذهم برؤية وجه الله الكريم وأهل النار خطيبهم الشيطان، أما أهل الجنة فخطيبهم داود عليه السلام، يقول الله تبارك وتعالى لداود: (يا داود! مجدني كما كنت تمجدني في الدنيا)، إن نبي الله داود كان يسبح الله في الدنيا وتسبح الجبال معه والطير، أما في الجنة فإن نبي الله داود ينصب له منبر من لؤلؤ أو من نور، فإذا تلا داود القرآن أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فكيف إذا سمعوه من الملك العلام؟ وإنك حين تستمع للمنشاوي وهو يرتل فإنك تنسى نفسك، فكيف إذا سمعوه من داود عليه السلام؟ وكيف إذا سمعوه من الملك العلام؟ وهناك في الجنة يوم يشبه يوم الجمعة من أيام الدنيا يزورون فيه الله عز وجل، يأتي الملك فيقول: يا ولي الله! إن ربك يستأذنك في زيارتك، فيسيرون إليه، منهم من يجلس على كثبان اللؤلؤ، ومنهم من يجلس على كثبان المسك، ومنهم من يجلس على منابر من نور أمام عرش الرحمن، فيقول لهم الله عز وجل: (يا عبادي! ألكم حاجة؟ يقولون: كيف يا رب! ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة؟ فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، فترفع الحجب فينظرون إلى مولاهم وينظر مولاهم إليهم، فما أعطي أهل الجنة شيئاً ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم). فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وحي على روضاتها ورياضها وحي على عيش بها لا يسأم فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بي على تلك الربوع وسلموا وقولوا: محب قاده الشوق نحوكم قضى عمره فيكم تعيشوا وتسلموا أحبتنا عطفاً علينا فإننا بنا ظمأ والمورد العذب أنتم وحبكم أصل الهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم وتفنى عظام الصب بعد مماته وأشواق وقف عليه محرم

ذكر غناء أهل الجنة والتمتع بالحور العين

ذكر غناء أهل الجنة والتمتع بالحور العين وإن من النعيم في الجنة أن يسير الرجل تحت أشجار من ذهب مغروسة في أرض من فضة، تسقى بخمر ولبن وعسل، ثم تهب عليها الريح من المسك فتميل أغصان هذه الأشجار، وتغني الحور الحسان تحت هذه الأشجار فما يدري الرجل أيهن أشد حسناً. قال الإمام ابن القيم: قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان يا حسن ذياك السماع وطيبه من مثل أقمار على أغصان والشمس تجري في محاسن وجهها والليل تحت ذوائب الأغصان فيظل يعجب وهو موضع ذاك من ليل وشمس كيف يجتمعان وكذاك فسر شغلهم في سورة من بعد فاطر يا أخا العرفان قوله: من بعد فاطر يعني: سورة يس قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55] قال العلماء: مشغولون بفض الأبكار، يؤتى الرجل قوة مائة في الأكل والشراب والجماع.

النعيم الروحي لأهل الجنة

النعيم الروحي لأهل الجنة هل هناك نعيم روحي لأهل الجنة؟ فقد قال الله عز وجل: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] فمن النعيم الروحي الأمن أي: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولا خزي فيها أيضاً، قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8]. والجنة رحمة قال تعالى في الحديث القدسي: (أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء)، وقال تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]. والجنة حب وود قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. والصور جميلة قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس:38] يعني: نيرة جميلة. {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:39]. تضيء بالسعادة وجوههم قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]. يسعون إلى الجنة ومعهم النور قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12]. قد جاوروا النبيين: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. وهم في صحبة أسرهم وأصدقائهم: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23]. يقربهم الله عز وجل، ونعيم القرب من الله عز وجل ليس كأي نعيم ثانٍ: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:11] ويجعلهم في عليين، ويثيبهم من رضوانه. قال الله عز وجل: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] يعني: فرحين بما قدموا راضين عن جزاء الله عز وجل، راضين عن أنفسهم، يرددون دائماً: الحمد لله الذي صدقنا وعده، الحمد لله الذي هدانا لهذا، ليس لهم عند التسليم {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:26]. هي دار السلام دعواهم فيها التسبيح: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:10]. يسمعون صوت داود وصوت ربهم وصوت غناء الحور الحسان: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46]. والجنة فسيحة، قال الله عز وجل: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74] فيا بائعاً هذا ببخس معجل! ارجع وعد إلى هذه الدار، واجعل كل همك أن تحصل عليها. إن رحمة الله عز وجل عرضها السماوات والأرض، فإياك إياك ألا يكون لك قدم فيها، لمثل هذه الجنة فاعمل، لمثل هذه الدار فانشط وكد واتعب، إن من فارق الراحة وجد الراحة. يا ابن الإسلام! من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد. إذا قال لك الكسالى والبطالون: هلم إلى الدنيا فقل: ما عند الله عز وجل أعظم وأجل، إنما خلقنا لجوار الرحمن، للدار التي ارتضاها الرحمن مكافأةً لعباده، نسأل الله عز وجل أن يدخلنا هذه الجنة، فإن دخول الجنة محض منٍّ وكرم وفضل من الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن ينجو أحد منكم من النار بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). قال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. لو أن رجلاً سمع برجل هو أرفع إلى الله منه، فمات ذلك الرجل غماً، ما كان ذلك بكثير على من يريد أن يرث الفردوس، فلا تقلبوا الأمر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حال آخر من يخرج من النار إلى الجنة ووصف ثمار وفواكه الجنة

حال آخر من يخرج من النار إلى الجنة ووصف ثمار وفواكه الجنة وأما آخر من يدخل الجنة وآخر من يخرج من النار لا يخرج من النار إلا حبواً كما جاء في الحديث الصحيح: (يا رب! اصرف وجهي عن النار، لا أسألك شيئاً غير ذلك، فيأخذ عليه الله العهد والميثاق ألا يسأله شيئاً غير ذلك، ثم يمثل له شجرة ذات ظل فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم آخذ عليك العهد والميثاق ألا تسألني شيئاً غيره؟ ويعذره الله عز وجل؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، ثم يمثل له شجرة ذات ظل فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكون في ظلها وآكل من ثمرها فيقربه، ثم يمثل له شجرة ذات ظل وثمر وماء فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكون في ظلها وآكل من ثمرها وأشرب من مائها فيقربه، فيرى أهل الجنة فيقول: يا رب! أدخلني الجنة فيدخل الجنة، فإذا دخل الجنة قال: هذا لي وهذا لي وهذا لي، فيمنيه الله عز وجل: تمن من كذا وتمن من كذا وتمن من كذا، ثم يقول له: ولك عشر أمثال الدنيا من يوم خلقتها إلى يوم أفنيها، فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟)، هذا أقل وآخر رجل يدخل الجنة. فبعد أن نزل الناس منازلهم، يكون هذا الملك العظيم لأقل رجل يدخل الجنة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من شجرة في الجنة وإلا وساقها من خالص الذهب). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة). فيا أخي المسلم! سبح الله كثيراً، فإن هذا الحديث صحيح، وهذه هي وصية إبراهيم عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله) فلماذا ضيعنا وصية الخليل في زحمة الدنيا ووسط التكالب عليها؟ قال ابن عباس: نخل الجنة أصوله من خالص الذهب. وسعفها خيام أهل الجنة، ثمرها أشد بياضاً من الثلج، أحلى مذاقاً من العسل ليس فيه نوى، يغرس في أرض من فضة، ويسقى بخمر ولبن وعسل وماء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ولا ينتهي ظلها). قال الله عز وجل: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30]. وإن هذه الشجرة يخرج منها ثياب أهل الجنة جميعاً. ويقول سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] أي: شجر منزوع الشوك منه مليء بالثمار حتى يكون على الأشجار سبعين لوناً من الثمار، ما فيهن واحد يشبه لونه لون الآخر. ويقول تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] والطلح: إما شجر نزع شوكه، قد تجمعت ثماره في سباطة تجميع النور، أو شجر النوار الحلو الرائحة الذي في البادية. بشرها دليلها وقال غداً ترين الطلح والجبال ويقول تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:31 - 33] كان أحد الصالحين إذا مر بسوق الفاكهة ولا يستطيع شراء الفاكهة يقول: السلام عليكِ، أما فاكهة الجنة فليست بالمقطوعة ولا بالممنوعة، قال الله سبحانه: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54]. ويقول سبحانه: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14] أي: تميل عليه الشجرة حتى يأكل منها مستلقياً، ويأكل منها جالساً، ويأكل منها قائماً. فاكهة الدنيا مقطوعة وممنوعة، أما فاكهة الآخرة فليست بالمقطوعة ولا بالممنوعة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] والطعم غير الطعم والرائحة غير الرائحة، لا عهد لهم به في دار الدنيا.

وصف أرائك الجنة وخدامها وولدانها

وصف أرائك الجنة وخدامها وولدانها قال الله تبارك وتعالى عن أرائك أهل الجنة: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] البطانة: الحشو. فإذا كانت البطائن من إستبرق، فمم تكون ظواهرها؟ قال مالك بن دينار: من نور جامد. وقال سفيان الثوري: من نور يتلألأ. وعلى هذا الإستبرق تجلس الخيرات الحسان، فهي خيرة جمعت بين حسن الخلق وبين حسن الخلقة. {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] يقال للمرأة: إنها حوراء إذا كانت شديدة بياض العين شديدة سوادها، يعني: أن عينها كعين المها، يقال لعين المها أو عين البقرة الوحشية؛ لأنها شديدة اتساع الحدقة، وهذه المرأة تمتاز بميزة كما قال تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:33]. وقال: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] والعرب: جمع عروب، والعروب: هي المرأة التي تحسن تدليل زوجها، يعني: إذا تعب زوجها تحسن تدليله في الفراش، هذا بالنسبة للأسرة. أما ارتفاع السرير فقد قال سفيان الثوري: قدر ثمانين عاماً ليشرف على أعلى ملكه. وفي الحديث الصحيح؛ حديث عبد الله بن مسعود، الذي رواه الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في كتابه السنة: (آخر من يدخل الجنة يرى قصراً من در أبيض فيسجد له، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنما رأيت ربي أو تراءى لي ربي، فيقال: إنما هذا قصر من قصورك. فما ظنك بالجنة؟! ثم يمشي في الجنة فيرى رجلاً فيهم بالسجود له، فيقول: مه ارفع رأسك، فيقول: كأنك ملك من الجنة، يقول: لا، إنما أنا قهرمانك -يعني: أنا خادمك- تحت يدي ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه). أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي وجاء في الحديث أن الرجل يعرض عن زوجته ثم ينظر إليها فتزداد في عينيه سبعين ضعفاً ويزداد في عينيها سبعين ضعفاً، والحديث صححه الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام المنذري والإمام الذهبي رحمهم الله. هذا بعض نعيم أهل الجنة قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] يفجر الرجل نبع الماء، كما قال الله عز وجل: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6]. فأينما أراد تفجير نبع ماء تفجر، وفي أي أرض حل من أرض الجنة تخرج له العين النضاحة والعين الفوارة أي: العين الجارية، وكلاهما منظر للعين حسن. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أمتي منهم ثمانون صفاً) وباقي الأمم أربعين صفاً، وأمة النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي أهل الجنة. يا من أراد الله تبارك وتعالى لك الرفعة! {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] إن القرآن رفعة لهذه الأمة كما يقول الشاعر: إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها يا من أراد الله لك الرفعة حين تدخل الجنة! قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. وليس الملائكة فقط، بل المولى عز وجل، قال تعالى: {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2]. وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]. {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]. فالمولى عز وجل هو الذي يسلم على أهل الجنة، كما تسلم عليهم الملائكة ولا يسمعون فيها إلا السلام، والكلام الذي لا لغو فيه ولا تأثيم، قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]. واعلم أن ملك الجنة ليس له حدود، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20]. زوارك فيها أنبياء الله عز وجل، والطوافون عليك فيها الولدان المخلدون: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19] أي: في جمال اللؤلؤ المكنون والمنثور. هذا الخادم فما ظنك بالمخدوم؟

وصف أرض الجنة

وصف أرض الجنة والجنة طيبة التربة فهي ذات متاع حسي وروحي. وكم سنة من عمرك تنفق على أرض الجنة هذه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض الجنة مسك خالص). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تربتها الزعفران). وقال ابن عباس: أرض الجنة من مرمرة بيضاء، من فضة كأنها المرآة، ليست كفضة الدنيا، فإن فضة الدنيا لا تستطيع أن ترى ما بداخلها، أما فضة الجنة فهي أرض من مرمرة بيضاء في صفاء القوارير. إذاً: أرض الجنة مسك وزعفران وفضة، سبحان مثبت العقول، فبكم تشتري هذه الأرض؟! والله! لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى، لكانت الآخرة أحق بالعمل لأنها تبقى. إنَّ الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها فكيف تعدو خلفها؟ الدنيا لعب ولهو وزينة، والرجل العاقل لا يشتغل باللهو وإنما يتركه للصغار فهما لا يليقان بالكبار. فإذا صار عمر الرجل أربعين سنة فإن الدنيا لا تليق به، فكيف نجري خلفها وهي جيفة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ألا نصدق قول رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أصدق من نطق: (الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة). يكفيك من هوان الدنيا على الله عز وجل أن عذب أنبياؤه وذبح وقتل من أنبيائه فيها.

وصف قصور الجنة وخيامها

وصف قصور الجنة وخيامها تعال إلى الجنة وتطلع إلى الأفق، وانظر إلى الخلود مع الله عز وجل في دار رضوانه، إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في قصور الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لبنة من فضة ولبنة من ذهب). وقد قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من الدنيا في الآخرة إلا الأسماء). يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن قصور الجنة: (لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر) يعني: المسك الشديد الرائحة. ويقول: (سقفها نور عرش الرحمن) هذا عن القصور. أما خيامها فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً) يعني: تسعين كيلو متراً. قال: (فيها أزواج لا يرى بعضهم بعضاً) وخيام الجنة تضرب على شواطئ أنهار الجنة.

وصف أنهار الجنة والحور العين

وصف أنهار الجنة والحور العين أما من أين تفجر الأنهار؟ ومجراها يكون على ماذا؟ فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الجنة مائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، أوسطها وأعلاها الفردوس، ومنه تفجر أنهار الجنة). فأنهار الجنة آتية من على بعد مائة عام من السماء، ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، فخمسمائة في مائة بخمسين ألف سنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الذين في أرض الجنة) يعني: في أقل درجات الجنة (لينظرون إلى أهل الغرف سكنى كما تنظرون أنتم إلى النجم الغابر في الأفق لتفاضل ما بينهم). أما قال الله عز وجل: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]، أما ترى أهل الدنيا غرقى في النعيم فما ظنك بالآخرة؟ {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]. وهذه الأنهار تجري على مسيرة خمسين ألف سنة من أعلى، ثم تنزل تحت القصور، وهذا معنى قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25] ثم تصعد مرة ثانية إلى أهل الغرف. فلو أن عندك نبع ماء يجري فإنه يتبعثر ولن تنتفع به، لكن أنهار الجنة قال الله تبارك وتعالى عنها: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] قال أنس: تجري في غير ما أخدود تجري فيه، أي: ليس لها أخدود تجري فيه. فسبحان مثبت العقول. (أمسك الله حافتيها بقباب اللؤلؤ المجوف)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومجرى هذه الأنهار ليس على الطين، وإنما على المسك الأذفر، قال مجاهد: تخرج الحور العين إلى شواطئ أنهار الجنة فيغنين، فيخرج إليهن أولياء الله عز وجل، فإذا أعجب الرجل منهن بواحدة لمسها بمعصمه فتتبعه، فتنبت مكانها من النهر جارية أخرى، فأنهار الجنة تنبت الأبكار لا تنبت الحشائش. لبن وعسل وخمر وماء؛ لبن لم يحلب من الأبقار، وعسل لم يجن من الأزهار، وخمر لم يعصر بيد الخمار، وإنما يجري على رضراض الأنهار برحمة العزيز الغفار. في هذه الأنهار طيور كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعناقها كأعناق البخت) أي: مثل أعناق الجمال الخراسانية. فقال سيدنا عمر: (ما أنعمها يا رسول الله! قال: أكلتها أنعم منها)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت). قلنا: إن في الجنة خمراً ولكن ليس كخمر الدنيا تغتال العقول، وإنما خمر لذة للشاربين، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، إنما يجتمعون حولها، فلا تزيدهم إلا صحواً، رائحتها كرائحة المسك. أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي والحور العين هن أزواج أهل الجنة، قال الله عز وجل: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] قال العلماء: الباء زائدة هنا من الناحية البلاغية تفيد أن الزواج ليس زواجاً حقيقياً، وإنما الحور العين تقوم بمثابة ملك اليمين، أي: بمثابة الخادمة، وزوجتك من بنات الدنيا تكون بمثابة السيدة لها؛ لأن أماكن الوضوء لها تشع نوراً يوم القيامة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحور العين: (أدنى لؤلؤة في تاجها تضيء ما بين المشرق والمغرب). لو تعثرت لتزين لها ما بين الخافقين، لو برز بنانها لأذهب ضوء الشمس والقمر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوسين أو موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها). وفي رواية: (خير مما بين السماء والأرض). ولقد صورهن القرآن بأجمل وصف حسي، إذ من الممكن أن ينظر الرجل إلى وجه المرأة فيرى وجهه في صفحة خدها، وينظر الرجل فيرى مخ ساقها من خلف سبعين ثوباً من إستبرق لشفافية لونها. قد يقول لك شخص: أنا عشت طوال حياتي لا أسمع غناءً، وأنزه سمعي عن هذا اللغو الباطل، لكن في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحور العين لتغنين في الجنة يقلن: نحن الحور الحسان خبئنا لأزواج كرام). وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام ينظرن بقرة أعيان. وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتن، نحن الآمنات فلا يخفن، نحن المقيمات فلا يطعن). هذا غناء الطاهرات، تقول لزوجها: طال اشتياقي إليك يا ولي الله!

آثار الذنوب والمعاصي

آثار الذنوب والمعاصي إن للذنوب والمعاصي آثاراً على الفرد والمجتمع في الدنيا، حيث يعم البلاء، وينزل العقاب، وتفسد الأرض وتتغير بشؤم معصية بني آدم. وللمعصية آثار على الفرد في أخراه من وقت سكرات الموت، ومعاينته لملائكة العذاب، حتى يصل إلى جهنم فيقذف فيها حقيراً مهيناً ذليلاً، فيأتيه من حرها وزقومها وزمهريرها وحميمها ما لا تستوعبه العقول، ويعذب خالداً مخلداً فيها بسبب جنايته على نفسه، وإعراضه عن طاعة ربه سبحانه وتعالى!

شتان بين الفريقين: الصالح والطالح

شتان بين الفريقين: الصالح والطالح إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. أما بعد: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينزل الفجار منازل الأبرار)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده)، كما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وكما لا يستوي الأحياء ولا الأموات؛ فلا يستوي في ميزان الله عز وجل من أقبل على الله عز وجل ومن أعرض عنه. أفمن بقي مع الله عز وجل كمن أعرض عن الله عز وجل؟! أفمن رغب إلى الله عز وجل كمن رغب عن الله عز وجل؟! لا يستويان ولا يلتقيان. أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي فإما أن تكون في معية الله عز وجل، وإما أن تكون ولياً للشيطان، فإياك أن تكون ولياً للشيطان في السر عدواً له في العلانية! يقول الشاعر: عباد أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا فإن خانوا فما خنا وإن عادوا فقد عدنا وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى فإذا كان هذا قول مخلوق لمخلوق فما ظنك ببعد العاصي عن الله عز وجل! قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم. يقول الشاعر: أيها المعرض عنا إن إعراضك منا لو أردناك جعلنا كل ما فيك يردنا ويقول الآخر: يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاك ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها أنجاك ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بظهوره أعلاك ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساك فإما العز مع الله عز وجل، مع ملك الملوك الذي له ملك الدنيا والآخرة، وله ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإما الخزي والعار والشنار! ألم يقل الله عز وجل: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5]؟! ألم يقل الله عز وجل: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]؟! ألم يقل الله تبارك وتعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]؟! ألم يقل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:104]؟! ألم يقل الله عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]؟ ألم يقل الله عز وجل: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]؟! ألم يقل الله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]؟! ألم يقل الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38]؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للسيئة سواداً في الوجه، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق. وجاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذبه بالذكر. وإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس وجاء رجل إلى أحد الصالحين فقال له: قد مات اليوم عزي وسندي، مات ابن عم لي، وكان ممن تولى منصباً رفيعاً في الدنيا، قال: فلم جعلت عزك إلى من يموت؟! واجعل بربك كل عزك يستقر ويثبت فإن اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت

أثر المعصية وشؤمها على غير العاصي

أثر المعصية وشؤمها على غير العاصي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بجنازة: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: أما العبد المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وتعبها إلى سعة رحمة الله عز وجل، وأما العبد الكافر أو الفاسق فتستريح منه البلاد والعباد، والشجر والدواب)، فحتى الجماد يحس بوطأة الفاسق، وبوطأة العاصي، وأن بقاءه في الدنيا حرب على أهل الأرض. وجاء في الأثر: أن عقارب الأرض وهوامها تقول: لعن الله ابن آدم؛ منعنا القطر بشؤم معصيته! فهذا العاصي تجده هيناً ذليلاً عند أهله، بل عند الدواب التي يملكها، كما قال أحد عباد السلف: إني لأعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وامرأتي. فيعصي الله عز وجل فيجد آثار المعصية عندما يركب إبله فيجدها تعصيه وتتمرد عليه، ويعود إلى البيت فترفع زوجته صوتها عليه، فهو ذليل عند أهله، وذليل حتى عند الحيوانات. وشؤم المعصية يؤثر في حياة الإنسان ولو بعد آلاف السنين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بديار ثمود نزح الصحابة الماء وعجنوا به العجين؛ حتى يصنعوا منه الخبز، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلقوا هذا العجين للنواضح، وهي الإبل التي كانوا يسقون عليها الناس، فعافتها ورفضت أن تأكل من هذا العجين إلا جمل واحد كان أقواهن، فأكل فصار أضعفهن بشؤم المعصية، فقد أثر الماء الذي في الآبار عليه بعد مرور آلاف الأعوام من موت قوم ثمود، وهذا واضح جلي في السيرة. والمولى عز وجل نعت الظالم بأبشع النعوت في القرآن الكريم، نعته بأن له أغراضاً كبيرة في كل شيء، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]، ونعته بأن قوله يناقض فعله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:226]، وأنه مرتبط بالأرض ولا يتطلع إلى أفق السماء، وإنما كل ارتباطه وكل همه ملذات الأرض وشهواتها. والدنيا تصمه عما سوى الباطل، وتعميه عن ذكر الله، وذكر الناس فاكهته وقوته، فينادى إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة فلا يجيب النداء، هذا قبر يسعى إلى قبور مثله، ومريض يقوده مثله، فإذا ابتليت بمثل هذا الرجل فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، فهذا قاطع طريق عن الله عز وجل وعن الدار الآخرة، وقطاع الطريق عن الله عز وجل وعن الدار الآخرة أشد من قطاع الطريق في دار الدنيا؛ لأن الذي يقطع عليك الطريق في دار الدنيا يأخذ مالك، لكن قاطع الطريق عن الله عز وجل وعن الدار الآخرة يأخذ رأس تجارتك مع الله عز وجل، ويأخذ وقتك. ولذلك تلقى السارق بالنسبة للآخرة حاله عجيب جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسرق الناس من يسرق من صلاته)، فقد تجد سارقاً يسرق أباه أو أخاه أو أمه أو عمه، لكن هل لقيت سارقاً يسرق نفسه؟! لا يوجد أبداً إلا الذي يسرق من صلاته، والعاصي هو الذي يسرق من صلاته، وهذا شيء عجيب وفريد! فالذي يرتبط بالأرض يكون همه فقط ما يأكله، فليس له هم إلا الطعام والشراب والثياب واللباس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة)، فمن كان همه ما يأكله فقط ولا يتصور أنه أتى إلى الدنيا إلا من أجل الأكل فقط فقيمته ما يخرجه! والذي يرتبط بالأرض قال الله عز وجل عنه: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف:176]، فهو مرتبط بالأرض ولا يستطيع أن يرفع نفسه إلى السماء! إذا أنت غمت عليك السماء وظلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها

دناسة قلب العاصي، والعقوبات المضروبة عليه

دناسة قلب العاصي، والعقوبات المضروبة عليه العاصي لله عز وجل قلبه دنس، يقول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41]، إذاً فقلوبهم دنسة وقاسية، وعجباً للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وما فشت الفاحشة في قوم قط إلا ابتلوا بالأوجاع - يعني: الأمراض - التي لم تكن في أسلافهم من قبل) والحديث حديث صحيح. (وما فشت الفاحشة) أي: الزنا، (في قوم قط إلا ابتلوا بالأوجاع التي لم تكن في أسلافهم من قبل) والواقع خير شاهد. وأنا كطبيب بشري في البكالوريوس أدخلونا متحف البتول فرأينا عينات من الأمراض، أقسم بالله - وأنا غير مبالغ - أنني رأيت حصوة في كلية رجل نزعها الأطباء ووضعوها في المتحف أقسم بالله أنها لا تقل عن حجر كبير كالذي يبنى به البيت، ولا أدري كيف نزعت من كلية هذا الرجل؟! شيء عجيب! وهناك أنواع السرطانات في كل نواحي الجسد، وخاصة أن السرطان يتنقل في أكثر من مكان، فهناك أشياء عجيبة! وتجد مثلاً: الرجل الذي يديم شرب الدخان لو اطلعت على رئته لرأيتها أشد سواداً من القار، فإذا كان هذا تأثير المعاصي في جسد الإنسان فما ظنك بتأثير المعاصي في قلب الإنسان؟! إن المتتبع لآيات القرآن الكريم يجد أن الله عز وجل ضرب على القلب أكثر من ثلاثين مرضاً، وأكثر من ثلاثين عقوبة ذكرها الله عز وجل، فذكر الختم، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7]. وذكر الله عز وجل الأكنة، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام:25]. وذكر الله عز وجل الغطاء، قال تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101]. وذكر الله الغلاف، فقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88]. وذكر الله عز وجل الحجاب، قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45]. وذكر الله عز وجل الوقر والغشاوة والران، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. وذكر الله الغل، قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ} [يس:7 - 8] أي: في قلوبهم أغلالاً. وذكر الله عز وجل السد، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:9]. وذكر القفل على القلب، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. وذكر الصمم والبكم والعمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. وذكر الصد والشد والإغفال، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. وذكر تقليب الأفئدة، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]. وذكر الحول بين المرء وقلبه، وذكر إزاغة القلوب، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]. وذكر الإركاس والتزيين، وإماتة القلب، وجعل القلب قاسياً، فهذه ثلاثون مرضاً، فممكن أن يكون القلب منكساً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على الناس يصبح المعروف فيه منكراً، والمنكر فيه معروفاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يصدق فيه الكاذب، ويكذب فيه الصادق، ويؤتمن فيه الخائن، ويخون فيه الأمين، وينطق فيه الرويبضة).

حال العاصي عند الموت وفي القبر

حال العاصي عند الموت وفي القبر إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، فإذا كان عند الموت - وما أدراك ما سكرات الموت! هذه اللحظة التي يتغافل عنها ويتناساها كثير من الناس - وأقبل ملك الموت: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27]، وتبدلت بعد الحركات السكون، فهذه اللحظة شديدة قاسية على الظالمين، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93]، قال الإمام ابن كثير: أي: باسطوا أيديهم بالضرب. وقال الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]، فالملائكة تضرب وجه الرجل ودبره، ويأتيه ملائكة سود الوجوه فيجلسون منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: اخرجي أيتها الروح الخبيثة! كانت في الجسد الخبيث، فتخاف منه فتتفرق في أجزاء الجسد، فينتزعها من الجسد كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتخرج منها كأنتن جيفة وقعت على وجه الأرض. والحمد لله أنه ليس للذنوب رائحة في دار الدنيا، يقول محمد بن واسع: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي. واحمدوا الله عز وجل على العافية، فقد ستر الله عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فلو فاحت آثار الذنوب لزكمت الأنوف من نتن هذه الرائحة. فتخرج منها كأنتن جيفة على وجه الأرض، فيناديه الملائكة بأقبح أسمائه: روح من هذه الخبيثة كانت في الجسد الخبيث؟! ثم إذا أرادوا أن يعرجوا بها إلى ملكوت السماوات فلا تفتح لها أبواب السماء، وتسقط من مكان شاهق إلى الأرض، ثم ينادى من قبل الله عز وجل: أن كذب عبدي، يعني: حتى ولو ما عوقب بالنار فيكفيه أن ملك الملوك يقول له: أنت كذاب! فمن وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟! فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب متى صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وليس هذا قول رابعة، وإنما هو قول أبي فراس الحمداني لابن عمه سيف الدولة الحمداني يوم أن وقع في أسر الروم، فتكاسل عن إنقاذه، فهذا قول المخلوق لمخلوق فما ظنك بقول المخلوق للخالق. (ينادي مناد من قبل الله تعالى: أن كذب عبدي، فاكتبوا كتاب عبدي في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، وافتحوا له باباً إلى النار -فيأتيه من سمومها وحميمها ما الله أعلم به-، وافرشوا له فراشاً من النار). فأول الغيث قطرة! ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تبتلون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال، وعني تسألون). فيأتيه منكر ونكير يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن رسولك؟ فإن كان الرجل فاسقاً أو عاصياً فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! ويقولان له: من رسولك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فقد كان أبعد الناس عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعرف عن رسوله ولا عن سنته شيئاً، ويقولان له: وما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، ويوكل به ملك أصم أبكم أعمى معه مرزبة -أي: مطرقة من حديد- فيضربه بها ما بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعه كل من على وجه الأرض إلا الثقلين، ثم يعيد الله خلقه، وتكون حاله هكذا إلى يوم القيامة. وفي الحديث الصحيح: (فيجلس كهيئة المنهوش) أي: مثل الرجل الذي لدغه ثعبان أو حية أو عقرب، فتصور حياة هذا الرجل وحالته هذه! فهذا شيء من عذاب البرزخ! {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].

حال العاصي في الموقف أمام الله

حال العاصي في الموقف أمام الله ثم إذا أتى إلى ملك الملوك الذي نساه ونسى شرعه في دار الدنيا كيف يكون حاله؟! إنهم يكونون منكسي الرءوس أمام مولاهم، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة:12] وهم سود الوجوه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60]، ويعرضون على الله عز وجل فيحتقرهم الأشهاد: {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24] أي: عابسة كالحة، تعلوها الظلمة، ويعلوها الغبار، كما قال الله عز وجل: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42]. ويودون أن يباعد الله عز وجل بينهم وبين أعمالهم السيئة، فيقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. ويقول ابن آدم يوم القيامة: رب! ألم تجرني من الظلم؟ يقول: بلى، يقول: فإني لا أجيز علي شاهداً إلا مني، فيقول له الله عز وجل: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، وكفى بالكرام الكاتبين عليك شهوداً، ثم يختم على فيه، وتؤمر أعضاؤه فتنطق عليه بما قدم، ويكون فخذه أول ما ينطق عليه، قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} [يس:65 - 67]. وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، فيحمل الرجل سيئاته على ظهره، فيطوق ما بخل به من أموال يوم القيامة إلى سبع أرضين، وهو مذموم مدحور مرذول عند الله عز وجل، ويصبحهم الخزي والعار، يقول الله عز وجل: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام:124]، فماذا بعد هذا الذل؟! ثم بعد ذلك يتمنى الموت يقول: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27]، ويقول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:25 - 32].

إحباط عمل العاصي وحجبه عن رؤية الله عز وجل

إحباط عمل العاصي وحجبه عن رؤية الله عز وجل ومن العقوبات التي ينالها من بعد عن طريق الله عز وجل إحباط العمل؛ يقول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:22]. واليأس من رحمة الله، يقول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت:23]، واليأس من مغفرة الله. ويحرم من رؤيته سبحانه، قال الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وهذا أشد من عذاب النار، فلا ينظر الله تبارك وتعالى إليهم، ولا يزكيهم، ويحجبهم عن رؤيته بنص القرآن: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16]، فلا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويحرمهم من النور عند الصراط، ويحول بينهم وبين ما يشتهون، كما قال الله عز وجل: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54]. فهؤلاء الذين {يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، فلا خلاق لهم في الآخرة، أي: لا نصيب لهم في الآخرة، وهؤلاء ينسون يوم القيامة، قال تعالى: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، فلا مأوى لهم ولا ناصر، قال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8]. ثم بعد ذلك: الحشر في عرصات القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر)، فيغشاهم الذل من كل مكان، وتعلوهم النار، ويساقون إلى سجن في جهنم، أليس يكفيهم النار؟ ولماذا السجن؟! ولماذا القيود؟ ولماذا الأغلال؟! هل هم سيهربون؟ والله ما سلسلهم خوفاً من هربهم ولا فرارهم، وإنما سلسلهم زيادة في نكالهم، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى: (بولس) يسقون من عصارة أهل النار (طينة الخبال). قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]، وقال الله عز وجل: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]، وقال الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار له لسان فصيح، وعينان تبصران، وأذنان تسمعان، يقول: إني وكلت بكل من دعا مع الله إلهاً آخر، فيلتقطون من الموقف لقط الطير حب السمسم، فيحبسهم في النار، ثم يخرج مرة ثانية فيقول: إني وكلت بالمصورين، إني وكلت بالمتكبرين، فيحبسهم في النار، ثم يخرج مرة ثالثة: فيقول: إني وكلت بالمصورين). وإذا حبس هؤلاء في النار جيء بالموازين والصحف، واستعد الناس للحساب، فما ظنك أيها المفرط في عمرك! والمقصر في دهرك بسكان هذه الدار ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، دار يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، هذه والله دار الذل والهوان والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، أحدثك عن دار غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، يقول الله عز وجل يوم القيامة: (يا ابن آدم! ألم أكرمك وأسودك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأجعلك ترأس وتربع؟ يقول: بلى فيقول: أكنت تظن أنك ملاقي؟ يقول: لا، فيقول له الله عز وجل: فاليوم أنساك كما نسيتني)، فيقوم الرجل في عرصات القيامة وقد حشر الناس حفاة عراة غرلاً، وقد دنت الشمس من رءوسهم، فمنهم من ذهب عرقه في الأرض سبعين ذراعاً، ومنهم من يلجمه عرقه حتى يبلغ إلى أنصاف أذنيه، فيناديه الله تبارك وتعالى: ليقم فلان ابن فلان للعرض على الله عز وجل، فتأخذه الملائكة في العرض على الله عز وجل، فأين يكون قلبك في هذه اللحظة؟ ليقم فلان ابن فلان، والأسماء المتشابهة كثيرة، ولا أحد يقول: يمكن ألا أكون أنا المطلوب، ولا يمكن أحد أن يقول: اسمي ثلاثي أو اسمي رباعي! لا يوجد هذا الكلام، إذا قيل: فلان بن فلان مع تشابه مئات وآلاف من الأسماء المتشابهة والله لا يقوم إلا من وقر في صدره أن هو المعني، وذلك بالخوف الذي يعتريه، فلا يقف أبداً ولا يقوم إلا المعني بالسؤال، فتصوروا هذه الفضيحة على رءوس الأشهاد، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]. تصوروا أناساً يقفون في عرصات القيامة وقد أدنيت الشمس من رءوسهم، فتطحنهم الشمس طحناً، وقاموا أمام الله عز وجل في عرصات القيامة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، فلم يذوقوا طعاماً، وما شربوا شراباً حتى تقطعت أكبادهم من شدة العطش، ثم يؤمر بهم فيسحبون إلى النار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]). يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به) من سمع سمع الله به مسامع خلقه، وصغره وحقره يوم القيامة.

حال العاصي في نار جهنم

حال العاصي في نار جهنم ثم بعد ذلك يعرضون على النار، {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، يقول سيدنا عمر لـ كعب: يا كعب! هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها بذكر النار، فيقول: يا أمير المؤمنين! يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا زفرت زفرة فما من دمعة في العيون إلا وقد جفت، وإذا زفرت الأخرى فما من نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا وجثى على ركبتيه وقال: نفسي! نفسي! حتى لو كان لك يا أمير المؤمنين عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أنك لا تنجو. فانظر يا أخي إلى صفة النار أجارنا الله وإياك منها، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) يعني: عدد الملائكة الذي سيجرون جهنم على عرصات القيامة -هذه النار الكبرى الداهية العظمى التي ما أنذر العباد بشيء أشد منها- أربعة آلاف مليون ملك وتسعمائة مليون ملك، فاضرب سبعين ألفاً في سبعين ألفاً يكون الناتج: أربعة ألف مليون وتسعمائة مليون ملك. وحين يقول الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] فيضعون القيد في رقبته، ويبتدره مائة ألف ملك أو يزيدون كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه، فيقول: ألا ترحموني؟ فيقولون: كيف ولم يرحمك أرحم الراحمين؟ ويحشرون كما يقول الله تبارك وتعالى إلى جنهم زرقاً، سود الوجوه، زرق العيون، وهذا أبشع منظر عند العرب! أفمن يصرف إلى النار هكذا كمن يزف إلى الجنة؟ فالجنة تقرب من المؤمنين، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] حتى تتلقاه الحور العين على عتبة البيت، فالرجل يتكلم من هذه؟ فتقول: قد طال اشتياقي إليك يا ولي الله! وهذا النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة إلا وعلى رأسه التيجان تتلقاه الملائكة من كل باب: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]، وأعظم من هذا: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]. وأعظم من هذا: سماع القرآن بصوت سيدنا داود، كان إذا تلا الزبور في دار الدنيا تسبح الجبال معه وتؤوب، والطير، وكل الكون يسبح مع سيدنا داود، فإذا تلا القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فكيف إذا رأوا ربهم، يقول: (يا عبادي! ألكم حاجة؟ فيقولون: يا رب ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة؟ فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، فترفع الحجب فينظرون إلى مولاهم فما أعطي أهل الجنة أعظم من النظر إلى وجه الله الكريم. وإذا زاروا ربهم وعادوا إلى أهليهم وجدوهم قد ازدادوا حسناً، وهم قد ازدادوا حسناً في أعين أهليهم، حتى إن الرجل ليحلو في عين أهله سبعين ضعفاً، فبمجرد ما تقعد عنده ثم تلتفت له مرة ثانية يحلو في عينها سبعين ضعفاً. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوسين أو موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها)، وفي رواية: (ولنصيفها خير من الدنيا وما فيها) والنصيف: هو الخمار الذي على جيبها وصدرها فإذا كان نصيفها خير من الدنيا وما فيها فكيف ستكون الحور العين؟! وكم سيكون قدرها عند الله عز وجل؟ قد هيئوك لأمر لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وانظروا إلى الطرف الآخر: هذا الرجل العاصي الذي دخل النار يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حرارة النفس الذي يخرج منه؛ لأنه يتنفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم شخص من أهل النار فتنفس لاحترق المسجد بمن فيه) فإذا كان هذا نفس يخرج منه فيحرق مسجداً فيه مائة ألف مصل فكيف ستكون أجوافهم من الداخل؟ وإذا كان لم يدخل النار والعرق ينزل في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمه حتى يكاد يغرقه فإذا دخل النار فكيف ستكون حاله؟! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم)، فكيف بمن يكون الزقوم طعامه وشرابه؟! {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:43 - 47]. وقال الله تبارك وتعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:62 - 68]. سبحان الله! إذا كان هذا وصف لون واحد من الطعام فكيف بالشراب؟ وكيف بالثياب؟ ولقبح المنظر يقوم الشيطان بينهم خطيباً ويلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً، وكلما دخلت أمة لعنت أختها! وأما شرابهم فقال الله عز وجل: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] وقال الله عز وجل: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29] أي: مثل الزيت الأسود المغلي: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] وقال الله عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17]. إن طاعة الله أهون علينا من هذا كله! فكيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، وتدبيرك بيده، ورجوعك إليه وكل مستحسن في الوجود هو حسنه وجمله وزينه، وعطف النفوس إليه، لقد أعطاك أيتها النفس! ما لم تأمري، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فكم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك!! أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا أنا العبد الذي أمسى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن ألتمس الطبيبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري ولم أرع الشبيبة والمشيبا فواأسفا على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات يحير هول مطلعه اللبيبا وواذلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقف وحساب عدل أكون به على نفسي حسيبا وواخوفاه من نار تلظى إذا زفرت وأقلقت القلوبا تكاد إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ظلاماً مريدا فيا من مد في كسب الخطايا خطاه أما آن الأوان أن تتوبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا آن الأوان لتوبتنا! اللهم ارحم ذل مقامنا بين يديك، وبغض إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا واكفنا من النوم باليسير، واحشرنا مع نبينا في دار رضوانك غير مبدلين ولا مفتونين، ولا شاكين ولا مرتابين. اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، والنظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك. اللهم اجعلنا لك ذكارين لك شكارين، إليك أواهين، لك منيبين، وتقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإمام سفيان الثوري

الإمام سفيان الثوري إن لله رجالاً حملوا هذا الدين، وكانوا نبراساً في الهدى للحائرين، من هؤلاء الرجال والعلماء الربانيين سفيان الثوري، فقد شهد له العالم والجاهل والأمير والمأمور بعلمه الوافر، وزهده وورعه وخوفه من الله عز وجل، وبعده عن الولاة والأمراء، وهذا دأب كل الصالحين.

الحث على معرفة قصص الصالحين

الحث على معرفة قصص الصالحين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. لا نجاة ولا فلاح إلا بالعتيق كما قال سيدنا عبد الله بن مسعود: (عليكم بالعتيق). كان الشيوخ في قديم الزمان أصحاب قدم، والطلاب أصحاب ألم، فذهب القدم والألم، واليوم لا غصة ولا قصة، والتربية بالقدوة خير وسائل التربية، والحكايات عن سلفنا حكايات أثرية ليست كقصص بني إسرائيل، إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا، ولكن هذه الحكايات ترجمة عملية للسنة النبوية، فقد كانت حياتهم ترجمة للعلم الذي نهلوا منه، فالحكايات عن سلفنا جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه، قال الإمام أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم، ما يفيدك الفقه أو العلم إن لم تكن مؤدباً، ولا يفيدك العلم إن لم ينفعك، فالعلم يهتف بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل، وإن شيخك من حدثك بلحظه قبل أن يحدثك بلفظه، كن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير واصفاً، فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد، قال الله تعالى لنبيه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، وقال الله تبارك وتعالى لنبيه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. قال مالك بن دينار: الحكايات تحف الجنة، أي: تجعلك تعيش وكأنك في الجنة. وقال الجنيد: الحكايات جند من جنود الله عز وجل يقوي الله بها إيمان العباد، فقيل له: هل لهذا من شاهد؟ قال: قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]. وخير وسيلة لإشعال العزائم، وإثارة الروح الوثابة، وقدح المواهب، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق، والتسامي إلى معالي الأمور والترفع عن سفسافها، الاقتداء بالأسلاف الأجلاء، وقراءة سير العلماء الصلحاء النبغاء، والتملي من مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجددين، ذلك خير لرفع الهمم، وشد العزائم، وسمو المقاصد، وإنارة القلوب، واحتلال ذرى المجد الرفيع، واغتنام الباقيات الصالحات، وإخلاص النيات -يقول قائلهم: تركنا البحار الزاخرات وراءنا فمن أين يدري الناس أنى توجهنا أقسم بالله إن العيش مع هؤلاء لينقلك إلى دنيا عجيبة، وكأنهم خلقوا من طينة غير طينتنا، كما يقول الإمام أحمد: إياك أن تقول في مسألة ليس لك فيها إمام أو شيخ. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى برؤيتهم)، فبمجرد الرؤية يكون ذلك فكيف بقراءة كلامهم، وكيف بسماع قصصهم، وأخبار صدقهم وعباداتهم؟! وقالت السيدة عائشة: إذا أردتم أن يطيب المجلس فعليكم بذكر عمر بن الخطاب، ولما علم عمر من أخبار تميم الداري ما علم قال له: لمثل هذا كنا نحبك يا أبا رقية، ليس من رأى كمن لم ير. وقال أحد الصالحين: أما رأيتم مالك بن دينار والحسن البصري وغيرهما يحيي الله بكلامهم الفئام من الناس -الجماعات الكبيرة من الناس-، سيماهم في كلامهم مثلما هي في وجوههم. لماذا كتب الذهبي سير أعلام النبلاء؟ ولماذا كتب الذهبي طبقات القراء؟ لماذا كتب ابن عساكر تاريخ دمشق؟ ولماذا كتب الخطيب البغدادي تاريخ بغداد؟ ولماذا كتب الأصفهاني تاريخ أصفهان؟ ولماذا كتب حلية الأولياء؟ ولماذا كتب ابن الجوزي صفة الصفوة؟ لأنها تمتلئ بحشد وافر من أخلاق هؤلاء الناس وعباداتهم وأقوالهم، فخير وسيلة بعد أن غابت القدوة في أيامنا أنك تعيش مع ابن المبارك، أو تعيش مع الفضيل بن عياض، أو تعيش مع سفيان الثوري فهؤلاء هم الناس، ذهب الناس وبقي النسناس. ذهب الرجال الصالحون وأخرت نتن الرجال للزمان المنتن ذهب الذين يعاش في أكنافهم وخلفت في جلد كجلد الأجرب. السيدة عائشة كانت تقول هذا بعد رحيل صفوة الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، من كان مقتدياً فليتأس بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. ومن عجب أني أحن إليهمُ وقد سكنوا قلبي وروحي ومهجتي ذكرت فلم أنس زمان وصالهم أأنسى ليال بالعزيز تقدس نعم والله، أيام عشت فيها مع تراجم أهل العلم، وأنا أجمع هذه الكتب منها كتاب: (نسائم الأسحار في فضائل الصحابة الأبرار) في أربعة مجلدات، وكتاب: (عبق النسرين في ذكر المجددين) في أربعة مجلدات، وكتاب: (زهر الجنان من حياة شيوخ الإسلام). وسنبدأ بحياة شيوخ الإسلام، وسموهم شيوخ الإسلام لأن لهم مكانة عالية، وكثير من الإخوة لا يعلمون شيئاً عنهم مع أن كتب التاريخ هذه من أهم الكتب، فتقرأ فيها وتعرف ما وقع لمن سبق، وتعرف ما وقع من وقائع ومعارك حربية انتصر فيها الإسلام على الكفر، وحتى تروح عن نفسك وتقول: إن لنا نسباً عريقاً في التاريخ. لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد ذكرت فلم أنس زمان وصالهم أأنسى ليال بالعزيز تقدس منازل أحبابي مواطن سادتي مطالع أقماري شموس أهلتي معاهد أفراحي ديار سعادتي مواسم أرباحي وأوقات لذتي فهذا سيدنا عبد الله بن المبارك كان يجلس طويلاً مع الكتب، فقالوا له: لم لا تجلس إلينا؟ قال: أجلس إلى من هم أفضل؛ منكم أجلس إلى الصحابة والتابعين، فيتتبع سيرهم وكأنه يجلس معهم. من فاته العين هد الشوق بالأثر والذي لا يرى الناس الطيبين يسمع أخبارهم: معاهد أفراحي ديار سعادتي مواسم أرباحي وأوقات لذتي وحاشاي أن أتلو هواهم وحبهم يذكرني حفظ العهود القديمة فهم سر أسراري ونور مناظري وروحي وريحاني وأنسي وبهجتي وهم عين أعياني وقلبي وقالبي وهم منتهى قصدي ومشهد رؤيتي وهم في معانيهم حياتي حقيقة وهم في مغانيهم أهيل مودتي وهم في تجليهم شموس إذا بدوا وهم في تدنيهم رياضي ونزهتي وهم أينما كانوا نهاية مقصدي وهم أينما حلوا مرادي وبغيتي

التعريف بسفيان الثوري

التعريف بسفيان الثوري هو أمير المؤمنين في الحديث، شيخ الإسلام سيدنا سفيان الثوري سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، قال عنه الإمام الذهبي: هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع، ولد سنة سبع وتسعين هجرية اتفاقاً، وطلب العلم وهو حدث -أي: صغير- بعناية والده المحدث الصادق سعيد بن مسروق الثوري، كان والده من أصحاب الإمام الشعبي ومن ثقات الكوفيين، وعده العلماء من صغار التابعين، روى له الجماعة الستة في دواوينهم، وحدث عنه ولده سفيان الإمام، وعمر ومبارك، وشعبة بن الحجاج، مات سنة ست وعشرين ومائة. معجم شيوخ سيدنا سفيان قال الذهبي: قالوا: إن عدد شيوخه ستمائة شيخ، كان يجلس إلى بعض شيوخه ستة عشر عاماً، كـ ابن القاسم شيخ علماء المالكية وكبير المصريين، قال: بت على عتبة مالك عشرين سنة، فكلكم على ثغر من ثغور الإسلام، فليخش أحدكم أن يؤتى الإسلام من قبله. وقد قال الإمام الشافعي: إنما ضيع الناس ثلث العلم لما تركوا الطب لليهود والنصارى. فهذه مدرسة جامعية في كلية الطب في جامعة الأزهر تقول: أنا أريد أن أتفرغ للدعوة، وهي تشرف على مستشفى بأكمله، فقلت لها: مقامك هذا أكبر دعوة، وتخصصك تخصص نادر؛ كلكم على ثغر من ثغور الإسلام، وكل يدعو إلى الإسلام في موقعه، فالطبيب في موقعه، والمهندس في موقعه، والرجل المتخصص في علم أو في فرع من الفروع الإسلامية في موقعه. قال ابن القاسم: بت على باب مالك عشرين سنة؛ وذلك حين رحل من مصر، وقعد عشرين سنة على باب مالك، حتى ظنته جارية الإمام مالك مولى له؛ لأنه كان قبل الفجر عند خروج الإمام مالك يسأله سؤالين أو ثلاثة أسئلة، فينتفع بعلم الإمام مالك، وذات ليلة أيقظته الجارية وقالت: إن شيخك يصلي الفجر بوضوء العشاء وبئس العبد أنت تنام ويقوم سيدك؟ فظنته عبداً من عبيد مالك بن أنس؛ لكثرة جلوسه على باب مالك، حتى أتى وفد الحجيج المصريين قال: فدخل شاب براق الثنايا جميل المطلع فذهب إلى الإمام مالك وقال: أنت ابن القاسم؟ قال: لا، وأشار إلى ابن القاسم، فقال الإمام ابن القاسم: فقمت إليه فاعتنقته فشممت منه رائحة الولد ثم لازم الإمام مالك يطلب العلم، وكان قد خير ابنة عمه في أن يطلقها، فقالت: بل أمكث وأصبر على هذا.

معنى شيخ الإسلام وعلى من يطلق هذا اللقب

معنى شيخ الإسلام وعلى من يطلق هذا اللقب أول من لقب بشيخ الإسلام هما سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا عمر، والذي لقبهما بذلك هو سيدنا علي، كما روى المحب الطبري قال: إماما الهدى وشيخا الإسلام، فشيخ الإسلام لقب شرعي كأمير المؤمنين في الحديث كالحافظ والمحدث، فاختص به جماعة من أهل العلم إما من أهل العلم الحفاظ أو الزهاد أو من كانوا رأساً في السنة، أي: إمام يحتج بقوله في العقيدة. وقال المحب الطبري: إذا رأيت الرجل يحب الأوزاعي فاعلم أنه من أهل السنة والجماعة، وإن رأيت الرجل يقع في أبي إسحاق الفزاري فاعلم أنه مبتدع. يعني: أنه يصير علماً في السنة يقتدي به الناس على طريقة السلف في العقيدة، يقال: كان الرجل رأساً في الحديث، أو رأساً في السنة، فقولك: كان رأساً في السنة معناه: كان إماماً يؤتم بقوله ويعتمد على قوله في العقائد، كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وحماد بن زيد وسعيد بن جبير. وقد يكون الرجل إماماً في الحديث، وقد يكون إماماً في الفقه، وقد يكون إماماً في الزهد، وقد يكون ممن عمر في الإسلام، والمتتبع لشيوخ الإسلام المعتبرين على مدار التاريخ يجدهم ما يقارب ثلاثمائة وخمسين شيخاً كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وأبي داود الطيالسي وغيرهم، ثم أطلق لقب شيخ الإسلام على قاضي القضاة عند الشافعية وعند الحنابلة، فصار هذا اللقب يطلق على كل من هب ودب كما يقول العلماء، فكونك تريد أن تعرف شيوخ الإسلام فهم القمم في حياة المسلمين وهم القدوة، وإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، فشيوخ الإسلام هم الذين طبقوا العلم على أنفسهم وصاروا نوراً يمشي على الأرض، فالعيش مع هؤلاء ليس مجرد حكايات، بل حياة الإسلام وتاريخه متمثل في هؤلاء القمم؛ لأنهم هم الذين طبقوا الإسلام. يقول أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يذهب في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع في الرئاسة حامى وعادى عليها. والزهد في النفس: ألا ترى لنفسك قيمة أبداً كما قال سفيان الثوري: من نظر إلى نفسه كانت نفسه عنده أذل من كلب. لذلك فإن المولى عز وجل ستر عليك من القبائح ما لو ظهرت لفاح نتنها، فأنت تعلم من نفسك ما لا يعلم غيرك منك، فاحمد الله على العافية، ومن أراد الزهد الحقيقي فليزهد في نفسه وفي طلب الجاه عند الناس، والتزين في قلوب الخلق، والهرب من ذم الناس، وطلب مدحهم، كل هذه عوامل كبيرة من عوامل الرياء، والرياء أعظم فتنة وكما يكون في الأفراد يكون في الجماعات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخوف عليكم: شرك السرائر)، قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟! قال: (أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته؛ لما يرى من نظر رجل إليه). مثال ذلك: أخ أراد الاعتكاف في رمضان مع إخوة معتكفين، وهو في بيته يصلي صلاة قصيرة، فقال: هؤلاء هم صفوة القوم، وأنا سأقرأ في صلاتي سورة المائدة أو الأنعام؛ ليري الناس أنه يطيل في صلاته، فإن هذا أخطر شيء على الرجل. سيدنا عبد الله بن المبارك خرج من بلدته مرة وذهب إلى بئر ليستقي، فجعل الناس يزاحمونه فقال أحد الحفاظ: إنه عبد الله بن المبارك فقال: اسكت إنما العيش هكذا والله ما خرجنا من مرو إلا من أجل هذا. فإذا أراد الله تبارك وتعالى حفظك وإذا أراد بك خيراً حماك من الشهرة، وهي نعمة لو سجدت لله تبارك وتعالى شكراً على محمي الإبر ما كافأته عليها.

ذكر ما حصل من خلع الخليفة المهدي الخاتم لسفيان الثوري

ذكر ما حصل من خلع الخليفة المهدي الخاتم لسفيان الثوري لما استخلف الخليفة المهدي العباسي بعث إلى سفيان، فلما دخل عليه خلع عليه خاتمه على الرسائل فرمى به إليه وقال له: يا أبا عبد الله! هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين؟ فقال الراوي عن عطاء: قلت لـ عطاء: هل قال له: يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إلي أحداً من أعوانك حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك، فغضب المهدي وهم به، فقال له كاتبه: ألست قد أمنته؟ قال: بلى، فلما خرج حف أصحاب الثوري به فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة، فاستصغر عقولهم وفر هارباً؛ لأنه رأى المهدي وقد أحيط ببطانة السوء فلن يأمنهم ولن يجد فائدة من ذلك، ولذلك كان سيدنا سفيان يضرب به المثل في البعد عن أصحاب الجاه والمنزلة والرئاسة وعن الحكام.

أقوال التابعين وأحوالهم مع الرؤساء

أقوال التابعين وأحوالهم مع الرؤساء يقول سعيد بن المسيب: إذا رأيتم العالم يرتاد أبواب الأمراء فاشهدوا أنه لص. وكان مالك بن دينار يقبل جوائز السلطان والهدايا التي يبعث بها الخليفة، وما كان يقبلها محمد بن واسع، فأتى محمد بن واسع وعاتب مالك بن دينار في قبوله للهدية قال: يا مالك أقبلت جوائز السلطان؟! قال: بالله عليك لا تحكم علي بذلك، وإنما سل جلسائي، وقالوا: والله لقد فرقها في اليتامى والمساكين، قال: ناشدتك الله يا مالك أقلبك الساعة على السلطان؟ قال: لا، أشهد الله أنه قد تغير، قال: فانظر من أين أوتيت، فبكى مالك بن دينار وقال: إنما مالك حمار، إنما يعبد الله أمثال محمد بن واسع، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]. قال سفيان الثوري: ما شيء أشد على نفسي من قول الله عز وجل: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68]. وقال سفيان: لست أخاف إهانتهم وإنما أخاف كرامتهم، فلا أرى سيئتهم سيئة، ولا أرى للسلطان مثلاً إلا مثلاً ضرب على لسان الثعلب، قال الثعلب: عرفت للكلب نيفاً وسبعين دستاناً -أي: مكراً وحيلة- ليس منها دستان خير من ألا أرى الكلب ولا يراني. قال سفيان: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى وكان فظاً فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون بين يديك جوعاً، حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً، وكان ينزل تحت الشجر، قال: أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا، ولكن دونما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه، قال: اخرج. قال عصام بن يزيد: لما أراد سفيان أن يوجهني إلى أمير المؤمنين المهدي قلت له: أنا غلام جبلي لعلي أسقط بشيء، فقال: يا عصام! أترى هؤلاء الذين يجيئون؟ لو قلت لأحدهم لظن أني قد أسديت إليه معروفاً ولكن قد رضيت بك، قل ما تعلم ولا تقل ما لا تعلم، فلما رجعت قلت له: لأي شيء تهرب منه، لو جاء لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا، قال: يا غافل! حتى يعمل بما يعلم، فإذا فعل لم يسعنا إلا أن نذهب إليه.

شهادة الأمراء والحكام ببعد سفيان عن عطاياهم

شهادة الأمراء والحكام ببعد سفيان عن عطاياهم وقال المهدي يصف بعض العلماء ويصف سفيان الثوري قال: لقد جاءني قراؤكم فأمروني ونهوني، ووعظوني وبكوا وأبكوا وتباكيت لهم، ثم لم يفجأني من أحدهم إلا أن أخرج من كمه رقعة: أن افعل لي كذا، وافعل لي كذا، ففعلت، وسقطوا من عيني، وقد كتب المهدي إلى سفيان؛ لأن سفيان طال هروبه منه، كتب إليه أن يعطيه الأمان، قال: فأتيته فقدمت عليه البصرة بالأمان، وقال المهدي: ما من رجل أمرنا ونهانا فقدمنا له من دنيانا إلا وقضم منها -أي: أكل منها- إلا سفيان. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت رجلاً أشفق وجهاً في الله عز وجل من سفيان الثوري. وكان سيدنا عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد يقول: ما كنت أستطيع النظر إلى سفيان هيبة له. ولما دخل على أبي جعفر المنصور قال له: اتق الله في أموال المسلمين، اتق الله في أبناء المهاجرين، اتق الله في كذا، اتق الله في الرعية، فقال له الوزير أبو عبيد الله: اسكت أتواجه الخليفة بمثل هذا؟ قال: اسكت فما أهلك فرعون إلا هامان، فلما خرج سفيان قال الوزير: يا أمير المؤمنين! دعني أضرب عنقه، قال: اسكت، فوالله ما بقي في الأرض من يستحيى منه غير هذا. وكان إذا رأى موكب الخليفة يقول: ما هذه السرادقات! حج عمر ولم ينفق إلا خمسة عشر ديناراً.

خوف سفيان الثوري من سوء سابقته قبل خاتمته

خوف سفيان الثوري من سوء سابقته قبل خاتمته وانظر إلى خوف سفيان، قال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان إلا باكياً، فقلت له: ما شأنك؟ قال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقياً. فمن العجب أنه يخاف من السابقة قبل خوفه من سوء الخاتمة. فخذوا العبرة يا رجال! يخاف سفيان أن يكون في أم الكتاب شقياً، وما في أم الكتاب قد سبق في علم الله عز وجل، وقد قضاه الله عليه قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فهو يبكي على ما سبق في علم الله، والمعروف أن الرجل يبكي على سوء الخاتمة حينما يستشعر قرب موته، لكن سفيان رحمه الله تجده طيلة عمره باكياً، ولذلك فإن أعلى درجات الخوف: الخوف من السابقة. قال عبد الرحمن بن مهدي: لما جر سفيان إلى القضاء غصباً عنه تحامق عليه؛ ليخلص نفسه منه، فلما علم أنه يتحامق أرسل سفيان فهرب.

ما يجب على المؤمن تجاه البلاء والرخاء

ما يجب على المؤمن تجاه البلاء والرخاء قال سفيان: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة. وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). فالله يرزق الإنسان المال فيشكر، وإن رزقه الفقر يصبر، لكن هناك درجة أعلى وهي هذه التي قال عنها سفيان: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، فهناك درجة أعلى من درجات الصبر، وهي الرضا بما قدر الله عز وجل عليك، فإن ابتلاك بمصيبة تعلم أن هذا خير لك، وإن ابتلاك بمال أخذت حذرك؛ لأن البلاء لا يأتي إلا برفعة الدرجات أو تكفير السيئات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا حزن ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه)، فالبلاء دائماً يأتي بتكفير السيئات أو بعلو الدرجات، لكن إذا كنت على معصية واستمررت عليها مع زيادة المال عندك، فإنه استدراج ومكر من الله عز وجل، فالظالم كلما ازداد مالاً ازداد فجوراً، حتى إذا أخذه الله لم يفلته، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43]. ولذلك ورد في الأثر أن خالد بن الوليد كانت عنده زوجة فطلقها، وبعد أن طلقها أثنى عليها، فلما سئل عن ذلك قال: مكثت عندنا مدةً لم نصب فيها بشيء، فخفت أن يكون الأمر استدراجاً ومكراً من الله عز وجل. وعروة بن الزبير لما قطعت رجله ومات ابنه محمد أحب أبنائه إليه، رفع يديه إلى السماء وقال: إن سلبت فلطالما أعطيت، وإن أخذت فلطالما أبقيت، ولما أشار عليه الطبيب بنشر رجله قال أي: الطبيب: نريد أن نعطيك دواءً -يعني: حتى لا تحس بألم القطع- قال: إن ربي ابتلاني ليرى مدى صبري. فإذا ضيق الله عز وجل عليك في الرزق فقد يكون هذا هو الخير لك، فقد تصلي في الفجر فتستغيث بالله عز وجل وتقول: يا غياث المستغيثين أغثنا، اللهم فرج الكرب عنا، وترفع يديك إلى السماء تدعو الله تبارك وتعالى فيتعلق قلبك بالله عز وجل، وربما كان هذا خير لك من كنوز الدنيا بأسرها، فقد تكون كمثل أحد الصالحين كان يقوم الليل ولم يكن معه إلا ثوب واحد به رقع، ولما ضربه البرد بكى، فرأى فيما يرى النائم أن هاتفاً يقول له: أقمناك وأنمناهم ثم تبكي علينا! حقاً إن المال الصالح للرجل الصالح، ولكن المال من أعظم الفتن، فربما تترك الصلاة، أو تتأخر فتدرك ركعة أو ركعتين، أو تدرك الجماعة الثانية، أو لا تأتي المساجد أبداً؛ لأنك منشغل فتصلي في البيت أو في أي مكان، فليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، الرخاء مصيبة. وهناك كلام للعلماء يشبه هذا الكلام، قال إبراهيم بن أدهم لما قابل شقيق البلخي: ما تعدون الصبر والشكر فيكم يا شقيق؟ قال: إنا قوم نشكر في الرخاء ونصبر في البلاء، فقال له إبراهيم: هذا ما تفعله كلاب بلخ، قال: فما تقول أنت؟ قال: إنا قوم نشكر في البلاء ونصبر عند الرخاء، فربما كان الرخاء استدراجاً. وهذا ليس مخالفاً للسنة، ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصالحين كان يشدد عليهم، يبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها) أي: يقطعها لتستر عورته، (ويبتلى أحدهم بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء)، إذاً: كلام سفيان موافق لهذا الحديث، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

علم سفيان الثوري بالقرآن والمناسك وانصرافه عن الدنيا

علم سفيان الثوري بالقرآن والمناسك وانصرافه عن الدنيا بلغ سيدنا سفيان في علم القرآن والمناسك مبلغاً عظيماً، قال الإمام الأوزاعي: لو قيل لي: اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: نزل عندنا سفيان وكنا ننام أكثر الليل، فلما نزل عندنا ما كنا ننام إلا أقله من قيامه لليل. قال ابن إدريس: ما رأيت رجلاً في الكوفة أتبع للسنة، ولا أود أني في مسلاخه من سفيان الثوري رحمه الله. وقال سفيان رحمه الله: لو أن البهائم تعقل من الموت ما تعقلون ما أكلتم منها سميناً. قال ابن يمان: ما رأيت مثل سفيان؛ أقبلت الدنيا عليه فصرف وجهه عنها.

أمر سفيان بالمعروف ونهيه عن المنكر

أمر سفيان بالمعروف ونهيه عن المنكر ثم انظر إلى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، قال إبراهيم بن أعين: كنت مع سفيان والأوزاعي فدخل علينا عبد الصمد بن علي أمير مكة وسفيان يتوضأ وأنا أصب عليه الماء، وهو يقول: لا تنظروا إلي أنا مبتلى، فدعا عبد الصمد فسلم فقال له سفيان: من أنت؟ فقال: أنا عبد الصمد، فقال: كيف أنت؟ اتق الله، إذا كبّرت فأسمع الناس. وعن عبد الله بن خبيب: حدثنا الهيثم بن جميل عن مفضل بن مهلهل قال: حججت مع سفيان فوافينا بمكة الأوزاعي فاجتمعنا في داره، وكان على الموسم أمير الحج عبد الصمد بن علي أمير مكة، فدق داق الباب قلنا: من ذا؟ قال: الأمير، فقام سفيان الثوري فدخل المخرج، وقام الأوزاعي فتلقاه فقال له: من أنت أيها الشيخ! قال: أنا الأوزاعي، قال: حياك الله بالسلام، أما إن كتبك تأتي إلينا فنقضي حوائجك، فما فعل سفيان؟ قال: فقلت: دخل المخرج، ثم دخل الأوزاعي في أثره فقال: إن هذا الرجل ما قصد إلا قصدك، فخرج سفيان مقطب الوجه، فقال: سلام عليكم كيف أنتم؟ فقال له عبد الصمد: أكتب عنك هذه المناسك، فقال: أولا أدلك على ما هو أنفع لك منها؟ قال: ما هو؟ قال: تدع ما أنت فيه، قال: وكيف أصنع بأمير المؤمنين؟ فقال: إن أردت كفاك الله أبا جعفر، فقال له الأوزاعي: يا أبا عبد الله! إن هؤلاء ليس يأخذون منك إلا الإعظام لهم، فقال: يا أبا عمرو إنا لسنا نقدر أن نضربهم، وإنما نؤدبهم بمثل هذا الذي ترى -أي: بالكلام الخشن-، فقال مفضل: فالتفت إلي الأوزاعي وقال: قم بنا من هاهنا، إني لا آمن أن يبعث هذا من يضع في رقابنا حبالاً. فالواجب علينا أن نقتدي بمثل هؤلاء الرجال، قال الشاعر: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاحُ

بعد سفيان الثوري عن الولاة والأمراء

بعد سفيان الثوري عن الولاة والأمراء قال محمد بن سعد: طلب الخليفة المنصور سفيان الثوري، فخرج إلى مكة، فنفذ المهدي إلى محمد بن إبراهيم عامله على مكة في طلبه وقال له: هات سفيان الثوري، فأعلم سفيان بذلك، وقال له محمد بن إبراهيم أمير مكة: إن كنت تريد إتيان القوم فاظهر حتى أبعث بك إليهم وإلا فتوارى، فتوارى سفيان، وطلبه محمد وأمر منادياً فنادى بمكة: من جاء بـ سفيان فله كذا وكذا، فلم يزل متوارياً بمكة لا يظهر إلا لأهل العلم ومن لا يخافه. وعن أبي شهاب الحناط قال: بعثت أخت سفيان بجراب معي إلى سفيان، فقدمت فسألت عن سفيان فقيل لي: ربما قعد عند الكعبة فيما يلي الحناطين، فأتيته فوجدته مستلقياً فسلمت عليه فلم يسائلني تلك المساءلة، ولم يسلم علي كما كنت أعرفه، فقلت له: إن أختك بعثت معي بجراب، فاستوى جالساً وقال: عجل علي بها، فكلمته في ذلك، فقال: لا تلمني فلي ثلاثة أيام لم أذق فيها ذواقاً، فعذرته. قال ابن سعد: لما خاف من الطلب -من أن يأخذوه للمهدي - خرج إلى البصرة ونزل قرب منزل يحيى بن سعيد، ثم حوله إلى جواره وفتح بينه وبينه باباً، فكان يأتي بمحدثي أهل البصرة يسلمون عليه ويسمعون منه. يقول يحيى بن سعيد القطان: سفيان الثوري فوق مالك في كل شيء، قيل لـ سفيان الثوري: ما منعك أن ترحل إلى الزهري؟ قال: لم تكن عندي دراهم. قال مهران الرازي: كنت عند سفيان الثوري فضاع مني كتاب الديات فذكرت ذلك له، فقال: إذا وجدتني خالياً فاذكر لي حتى أمليه عليك، فحج فلما دخل مكة طاف بالبيت وسعى، ثم لقيته فذكرته، فجعل يملي علي الكتاب باباً في إثر باب حتى أملاه جميعاً من حفظه.

خشية سفيان لربه وعلو همته في الإصلاح وذكر بعض أقواله

خشية سفيان لربه وعلو همته في الإصلاح وذكر بعض أقواله قال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم. وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة. وقيل لـ سفيان الثوري: إلى متى تطلب الحديث؟ قال: وأي خير أنا فيه خير من الحديث فأصير إليه، إن الحديث خير علوم الدنيا. وقال سفيان: إن أقبح الرغبة إلى الزنجي -يعني: العبد- وكده، أي: أكله ثم شغله، وفي رواية: اعلف الحمار ثم كده. وقال سفيان الثوري: إني لأرى الشيء يجب علي -يعني: نهي عن منكر- أن أتكلم فيه فلا أفعل فأبول دماً؛ من الكمد والحزن. وقال عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد: كنا جلوساً مع الثوري في مكة فوثب وقال: النهار يعمل عمله، إن ملك الشمس يسوقها فمتى تريدون القيام. وكانوا يحافظون على أوقاتهم، فهذا داود الطائي كان يسف خبزه سفاً -أي: يدق الأكل-، فيقول: ما بين السف والمضغ خمسين تسبيحة. وعن سفيان قال: ما وضع رجل يده في قصة رجل إلا ذل له. وقال أحمد بن يونس: سمعت الثوري ما لا أحصيه -يعني: يقول كثيراً-: اللهم سلم سلم، اللهم سلمنا وارزقنا العافية في الدنيا والآخرة. وقال سفيان: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت، فالزهد أن تذكر حين يغسلونك ويكفنونك، فتقصر الأمل؛ حتى لا تنتظر أن تشرق عليك شمس الغد، هذا هو الزهد، وقصر الأمل يدفعك إلى العمل حتى لو قيل لك: إن القيامة غداً ما كان في عملك مزيد. قال سفيان الثوري: المال داء هذه الأمة -أي: فتنة هذه الأمة-، والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه فمتى يبرئ الناس؟! وقال سفيان: لا نعلم شيئاً أفضل من طلب العلم بنية. وقال الثوري: احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى فيما قسم لك، وأن تطلب شيئاً من الدنيا فلا تجده فتسخط على ربك. وقال سفيان: الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة، فالفرض: أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة والتدين للناس. فإنك تجد شخصاً يزهد في المال ويزهد في كل شيء إلا في الجاه والرئاسة، وهذا رجل عنده مال كثير جداً، فيضيع ماله كله في انتخابات مجلس الشورى، فتراه يزهد في المال ولا يزهد في الجاه ولا يزهد في الشهرة، فأشد الزهد الزهد في النفس. قال: أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة والتدين للناس، أما زهد النافلة فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا طلب شيئاً من ذلك صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله عز وجل. ودخل عبد الصمد الأمير العباسي عم الخليفة المنصور على سفيان يعوده وهو مريض، فحول سفيان وجهه إلى الحائط ولم يرد السلام، فقال عبد الصمد: أظن أبا عبد الله نائماً، فلما حول سفيان وجهه الناحية الثانية قال: أحسب ذلك أصلحك الله، فقال سفيان: لا تكذب لست بنائم، فقال عبد الصمد: يا أبا عبد الله! لك حاجة؟ قال: نعم، ثلاث حوائج: لا تعد إلي ثانيةً، ولا تشهد جنازتي، ولا تترحم علي، فانخذل عبد الصمد وقام، فلما خرج قال: والله لقد هممت ألا أخرج إلا ورأسه معي. قال يوسف بن أسباط: قال سفيان: زينوا العلم والحديث بأنفسكم ولا تتزينوا به.

شيوخ سفيان الثوري ورواته وتلاميذه

شيوخ سفيان الثوري ورواته وتلاميذه عدد شيوخ سفيان الثوري ستمائة شيخ، كبارهم هم الذين حدثوه عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عباس وأمثالهم، وقرأ الختم عرضاً على حمزة الزيات أحد القراء السبعة، وكان حمزة الزيات لا يشرب الماء من الكوفة خوفاً من أن يشرب الماء من بيت من علمه القرآن، فيكون بذلك قد أخذ أجراً على تعليم الناس القرآن. وأما الرواة عن سفيان الثوري فذكر ابن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفاً، ولكن هذا القول مردود على الإمام ابن الجوزي، قال الذهبي: وهذا مدفوع، فإن بلغوا ألفاً فبالجهد، قال: وما علمت أحداً من الحفاظ روى عنه عدد أكثر من مالك، فلقد بلغوا بالمجاهيل والكذابين ألفاً وأربعمائة شيخ. قال يحيى بن أيوب العابد: حدثنا أبو المثنى قال: سمعت بمرو -مرو: بلد سيدنا عبد الله بن المبارك - رجلاً يقول: قد جاء الثوري قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام صغير قد دقل وجهه، قال الذهبي: كان ينوه بذكره في صغره من فرط ذكائه وقوة حفظه، ولقد حدث وهو شاب. قال سفيان رحمه الله: ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني، أي: يحفظ ولا ينسى.

فضل الثوري ومنزلته عند مشايخه وأقرانه

فضل الثوري ومنزلته عند مشايخه وأقرانه أجل إسناد لأهل العراق: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. قال شعبة بن الحجاج -وهو من شيوخ سفيان ومن أقرانه- وابن عيينة -وهو: سفيان بن عيينة الذي قال فيه الإمام الشافعي: لولا مالك وابن عيينة ضاع علم الحجاز- وأبو عاصم ويحيى بن معين وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث. وقال عبد الله بن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان. وعن أيوب السختياني الذي نفع الله به سيدنا سفيان الثوري، وذلك أن الشيعة كادوا يجرونه إلى اعتقادهم الفاسد، فنفع الله بـ أيوب سفيان، قال: ما لقيت كوفياً أفضله على سفيان الثوري. وقال يونس بن عبيد تلميذ الحسن البصري: ما رأيت أفضل من سفيان، فقيل له: قد رأيت سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاءً ومجاهداً وتقول هذا؟! قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان. وقال عبد الرحمن بن مهدي -وهو الإمام الذي كان يحضر مجلسه تسعون ألفاً معهم المحابر- قال: ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من سفيان الثوري، ولا أشد تقشفاً وزهداً من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من عبد الله بن المبارك. وهذا شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث يلقب بـ شعبة الخير، وكان يحدث عن الضخام، قالوا: يبس جلده على عظمه من شدة العبادة، وكنت إذا رأيته سجد قلت: قد مات يقول شعبة: سفيان أحفظ مني. وقال رجل لـ شعبة: خالفك سفيان -في راو من الرواة- قال: دمغتني إذاً. وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان وهيب بن الورد طبيب القلوب، كان يقدم سفيان الثوري في الحفظ على مالك بن أنس، الذي قال فيه الشافعي: إذا جاء الأثر فـ مالك النجم. وقال يحيى القطان: ليس أحد أحب إلي من شعبة ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان. وقال عباس الدوري: رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان أحداً في زمانه في الفقه والحديث والزهد وكل شيء. وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً فقال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]. وعن أبي حنيفة قال: لو كان سفيان الثوري في التابعين لكان فيهم له شأن. وقال أبو حنيفة: لو حضر علقمة والأسود -وهما من التابعين- لاحتاجا إلى سفيان. وقال المثنى بن وضاح: سفيان عالم الأمة وعابدها. وقال ابن أبي ذئب -سيد أهل المدينة-: ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري. وقال شعبة: زاد سفيان على الناس بالورع والعلم. وقال شعبة: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري. وقال ابن المبارك: ما نعت لي أحد فرأيته إلا وجدته دون نعته إلا سفيان الثوري. وقال أحمد بن حنبل: قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت. وقال عبد الله بن المبارك: ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان. وقال حفص بن غياث: ما أدركنا مثل سفيان، ولا أنفع من مجالسته. وقال يحيى بن سعيد: سفيان أثبت من شعبة وأعلم بالرجال. وقال الفضيل بن عياض: كان سفيان أعلم من أبي حنيفة. وقال ابن راهويه شيخ الإمام الشافعي وشيخ الإمام البخاري: سمعت عبد الرحمن بن مهدي ذكر سفيان وشعبة ومالكاً وابن المبارك فقال: كان أعلمهم بالعلم سفيان. وهذا بشر بن الحارث الحافي إمام الدنيا كلها في الزهد والورع، كان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد قال: أتسألوني عن الزهد وفيكم بشر؟! وقال: لو تزوج بشر لكملت رياسته. جاءت مرة أخت سيدنا بشر بن الحارث الحافي تسأل الإمام أحمد، تقول: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال: نرجو ألا يكون ذلك، ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، فلما حضر الإمام أحمد بن حنبل الموت عرف أن أنين المريض شكوى، فما أن ابن حنبل حتى مات، ولذلك من الأدب حينما تذهب إلى الطبيب تقول له بعد حمد الله عز وجل: أشكو كذا وكذا، قالوا: الشكوى بعد الحمد ليست بشكوى. فقال: ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، فقالت: يا إمام! إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح مشاعل الظاهرية، وكانوا قوم سوء ظلمة، فإذا انطفأ غزلناه على ضوء القمر، أنبينه للناس؟ قال: بينيه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فلما ذهبت قال الإمام أحمد لابنه عبد الله: اذهب يا بني! فاتبعها، فقال: دخلت بيت بشر، فقال: مثل هذه لا تكون إلا في بيت بشر، من بيتهم خرج الورع. وكان بشر بن الحارث الحافي لا يشرب من السواقي التي حفرها أمراء الدولة العباسية في بغداد، وكان يشرب من مياه الآبار، ولما سئل عن ذلك قال: مع أن الماء في ذاته صالح للشرب إلا أن هذه السواقي حفرها أمراء ظلمة. قال بشر بن الحارث: كان الثوري عندنا إمام الناس، وقال: سفيان في زمانه كـ أبي بكر وعمر في زمانهما. وقال ورقاء: يا جماعة لم ير سفيان الثوري مثل نفسه. وهذا شعيب بن حرب إمام حافظ من حفاظ السنة قال: إني لأحسب أنه يجاء غداً بـ سفيان حجة من الله على خلقه، يقول لهم: لم تدركوا نبيكم قد رأيتم سفيان، فقد كان سفيان يتمثل فيه علم النبوة. وقال علي بن المديني: لا أعلم سفيان صحف في شيء قط، يعني: لم يكن يغلط في أسماء الرجال إلا في اسم امرأة أبي عبيدة بن الجراح، كان يقول: حفينة والصواب: بجيم: جفينة، فالمؤمن كيس فطن. وروى أبو بكر المروزي تلميذ الإمام أحمد عن الإمام أحمد قال: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي. يقول الإمام أحمد بن حنبل: روى عبد الله بن خبيب عن يوسف بن أسباط قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده فبقي مفكراً ونمت، ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت له: هذا الفجر قد طلع، قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة. وقال شعبة: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم. وقال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت، وما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه. قال يوسف بن أسباط: سئل الثوري عن مسألة وهو يشتري شيئاً فقال: دعني فإن قلبي عند درهمي. وقال سفيان: لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس. وقال الثوري: كان المال فيما مضى يكره، أما اليوم فهو ترس المؤمن. فهذه نصيحة غالية من إمام عظيم. فالجزء الذي يطالبك به المولى عز وجل هو الاعتقاد، فإذا عرفت الواجب عليك في الفقه وفي علم الحديث وقال لك أبوك: لا تحضر الدرس فلا تحضره، واقرأ كتاب بر الوالدين للإمام الطرطوشي، وهذه أمور لم يختلف فيها أهل العلم. وهذا عبد الله بن المبارك كان تاجراً وكان يتاجر من أجل حفاظ الحديث، نعم المال الصالح للرجل الصالح، فلا بد من تنويع الكفاءات حتى تشمل احتياجات الأمة كلها. جاء رجل إلى سفيان الثوري يشاوره في الحج، فقال: لا تصحب من يكرم عليك، إنك إن ساويته في النفقة أضر بك، وإن تفضل عليك استذل بك. ونظر إليه رجل وفي يده دنانير فقال: يا أبا عبد الله! تمسك هذه الدنانير؟! قال: اسكت، فلولاها للتمندل بنا الملوك. قال الذهبي: قلت: كان سفيان رأساً في الزهد والتقشف محبة لله عز وجل والشوق إليه، يعني: رأساً في الحفظ ومعرفة الآثام، ورأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين وفيه

خطبة عيد الأضحى [1417هـ]

خطبة عيد الأضحى [1417هـ] يجتمع الناس يوم الحج الأكبر فيذكرون نعمة الله عليهم وفضله أن جعلهم أمة واحدة، يدينون بدينه، ويتبعون كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وشرع الله الأضحية في عيد الأضحى للمسلمين تأسياً بنبي الله إبراهيم، الذي صدق الله حين ابتلاه بذبح ولده، فكانت الأضحية سنة له ولمن بعده.

مشاهد النحر في الحج الأكبر

مشاهد النحر في الحج الأكبر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم). لبيك لبيك جد الركب وانطلقت جموعه والنشيد العذب يدفعه أصداؤه في فجاج الأرض صاخبة والبيد في رحبها نشوى ترجعه وفي الجوانح من وجد ومن وله ما جاش في النفس حتى صاب مترعه ما الصبح ما رقة الأنداء ضاحكة ما الزهر في الروض أذكاه وأضوعه أنقى وأجمل من ترداد تلبية ينجو بها محرم والكون يسمعه لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، لبيك إله الحق لبيك، لبيك وسعديك، لبيك والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هل مهل قط، ولا كبر مكبر قط إلا وبشر، قيل: بماذا يا رسول الله؟ قال: بالجنة)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ههنا ومن ههنا)، فالكون كله يدين بالطاعة وبالولاء وبالسجود لله تبارك وتعالى. يسبحه النبات جمعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده، وتمجده رهبان الأطيار في صوامع الأشجار، فيطرب السامع تمجيده، وكلما ذرف الهزار دف شكره، فالبلبل بالحمد يعيده، وكلما أقام خطيب الحمام النوح على منابر الدوح هيج المستهام تغريده، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19]، ينادى على باب عزته: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ويصاح على محجة حجته: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84]، وينزل ناقوس علمه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]. ويترنم منسم فضله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، ويقول جهبذ طوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فكل موافق ومخالف يمشي وفق مشيئته، ويتقلب في قبضته، إليه إليه يا أهل الموت والفناء، إنه ليس أقدر من قادر طلبته بيده، وليس أعذب من مخلوق هو بيد طالبه، إليه إليه يا أهل الموت والفناء كيف تستمسكون عن عبادته ولا رب لكم غيره، ولا وارث لكم سواه؟! يا من تفنى آجالكم ممر الساعات، واختلاف الليل والنهار! عودوا إلى مولاكم في هذا اليوم الذي أقسم الله بفجره فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] قال ابن عباس: هو فجر يوم النحر، ويوم النحر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعظم الأيام عند الله يوم النحر).

عودة إلى الماضي المجيد لتذكر أجدادنا

عودة إلى الماضي المجيد لتذكر أجدادنا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها) فأين نحن يا إخوتاه من هذه الأمة التي أراد الله تبارك وتعالى لها قيادة البشرية، نحن أمة الصديق، فأين نحن من الصديق الذي سبق -والله- سبقاً بعيداً؟ تقول عنه عائشة: أبي وما أبي! أبي والله لا يعطوه الأبد. ويقول علي بن المديني: إن الله تبارك وتعالى أعز الإسلام برجلين لا ثالث لهما: أبي بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة. ويقول ابن مسعود: رضي الله عن أبي بكر لو أطاعنا أبو بكر -أي: في يوم الردة- لكفرنا، قام بأمر الله كله، وقام بدين الله كله. هذا أبو بكر حالب الشياه للعجائز، والعاجن بيديه خبز الأيتام. نحن من أمة عمر، هذه النفس الأبية العظيمة، فقد فتحت الفتوحات العظيمة على يده، وما أدراك ما عمر. فيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر جنودك في سيناء حطوا رحالهم وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نحن من أمة عثمان ذي النورين الذي كانت الفتوح في عصره كالماء المنهمر، ومن أمة معاذ بن جبل مقدام العلماء، فعمره يوم مات أربع وثلاثون أو ثمان وعشرون سنة على الرواية الثانية، وهو يسبق العلماء برتوة يوم القيامة. نحن من أمة أبي عبيدة فاتح القدس، وما أدراك ما أبو عبيدة، صاحب اليرموك، سلوا عنه سهول اليرموك تعلمكم من هو أبو عبيدة أمين هذه الأمة. نحن من أمة خالد الذي قال عنه أبو بكر: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، نحن من أمة خالد الذي قال له رسول ملك الروم: ارجعوا معاشر العرب وسنعطي لكم الحنطة والشعير، فقال: نحن قوم نحب شرب الدماء، وقد بلغنا أن دماء الروم من أحلى الدماء مذاقاً، فلا نعود إلا بشرب دمائكم. نحن من أمة أسامة بن زيد الذي دوخ الجيوش وهو ابن عشرين سنة. ونحن من أمة مصعب بن عمير ذلك الشاب جبل الرحمة فاتح المدينة بالقرآن. ونحن من أمة محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند والهند وعمره سبعة عشر عاماً. ونحن من أمة محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وهو ابن اثنتين وعشرين سنة ونصف. ونحن من أمة البخاري الذي كتب التاريخ الكبير وهو ابن ثمان عشرة سنة. ونحن من أمة ابن تيمية الذي أسلم على يديه يهودي وهو مازال صبياً يذهب إلى الكتاب. ونحن من أمة هارون الرشيد الذي كتب إلى نقفور امبراطور الروم: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، يا ابن الكافرة! الجواب ما ترى دون ما تسمع. ومن أمتنا خرج المعتصم. رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم صادفت أسماعنا لكنها لم تصادف نخوة المعتصم نحن من أمة محمود بن سبكتكين فاتح خراسان والهند سنة 418هـ، ونحن من أمة ألب أرسلان الذي واجه الروم وكان معه عشرون ألف مقاتل، ثم خرج بكفنه، وخرج الجيش كلهم بأكفانهم، وما هي إلا ساعة حتى كان النصر للمسلمين، ووقع أرامنوس في قبضة المسلمين. يقول ابن النحاس: ونودي على أرامنوس! من يشتري؟! فقال أحد الجنود: لا أشتري الكلب إلا بكلب، فقال ألب أرسلان: أعطوه الكلب، فإن الكلب خير منه، ثم ربطوا عنقه بعنق الكلب، فلما وصل إلى روما سملوا عينيه. كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا ومن هذه الأمة خرج نور الدين محمود زنكي، فعندما حاصر الفرنجة دمياط أراد أحد طلبة الحديث أن يروي حديثاً عن التبسم، وأرادوا من نور الدين محمود زنكي أن يتبسم، فقال: كيف أبتسم والمسلمون محاصرون؟! نحن من هذه الأمة التي أخرجت صلاح الدين الأيوبي الذي دوخ جيوش الفرنجة ونحن من هذه الأمة التي أخرجت الظاهر بيبرس لما أراد ملك عكا أن يستعرض جيشه أمام رسول بيبرس قال له الرسول: إن أسرى الفرنجة عند بيبرس أكثر من جيشك. ونحن من أمة سليمان القانوني السلطان العثماني فاتح بلغراد ورودس وبلاد المجر، فأين نحن من هذه الأمة، أين نحن من هذه الأمة؟! قال الشاعر: فيا فلسطين من يهديك أفئدةً ومن يعيد لك البيت الذي خربا تلفتي تجدينا في مبادئنا من يعبد الجنس أو من يعبد الذهبا أنا قبيلة آلام بأكملها ومن دموعي سقيت المزن والسحبا يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونفس شريانه ما أسهل العتبى من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فقبر خالد في حمص يلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا أضنت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها وباسوا كف من ضربا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا وقال الشاعر: بيروت في اليم ماتت قدسنا انتحرت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا قم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يعيد السيف في يدنا أو كسروها فقد شلت أيادينا هل من صلاح لشعب هده أمل ما زال رغم عناد الجرح يشفينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا أين السودان والأئمة الذين يذبحون في شرق السودان؟ وأين ليبيا؟ وأين المجاعة في الصومال؟ وأين المسجد الأقصى؟ وأين البوسنة والهرسك؟ وأين بلاد المسلمين؟! متى يفيق النائمون؟! شهداؤنا بين المقابر يهمسون والله إنا قادمون في الأرض ترتفع الأيادي تنبت الأصوات في صمت السكون والله إنا راجعون تتساقط الأحجار يرتفع الغبار وتضيء كالشمس العيون والله إنا عائدون شهداؤنا خرجوا من الأكفان وانتفضوا صفوفاً ثم راحوا يصرخون عار عليكم أيها المستسلمون! وطن يباع وأمة تنساق قطعاناً وأنتم نائمون! شهداؤنا فوق المنابر يخطبون قاموا إلى لبنان صلوا في مساجدها وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون من كل أرض من كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يصرخون: الله أكبر منك يا زمن الجنون الله أكبر منك يا زمن الجنون الله أكبر منك يا زمن الجنون شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار بيروت الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون رغم انتصار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والذمامة والمجون. والله إنا عائدون أكفاننا ستضيء يوماً في رحاب القدس سوف تعود تقتحم المعاقل والحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون: يا أيها المتنطعون كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطن بأرض الكون يعرض في المزاد وطغمة البلدان في الوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يذكرون من أذهب الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون؟ يا أيها المتشرذمون! سنخلص الموتى من الأحياء من سفه العميل العابث المجنون. والله إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون يا أيها الأحياء ماذا تفعلون؟! في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وتطوف أعينكم على الدولار فوق ربوعه الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات والناس من ألم الفجيعة يضحكون في صورتين تباع أوطان وتسقط أمة ورءوسكم تحت النعال وتركعون في صورتين تسلم القدس العريقة للذئاب ويسكر المتآمرون شهداؤنا في كل شبر يصرخون بيروت تسبح في الدماء وفوقها التابوت يهذو في جنون بيروت تسألكم: أليس لأرضها حق عليكم؟ أين فر الرافضون؟ وأين غاب البائعون؟ وأين راح الهاربون الصامتون الغافلون الكاذبون؟ صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون وإذا سألت سمعتهم يتصايحون. هذا الزمان زمانهم في كل شبر في الورى يتحكمون. لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون تجرون خلف الموت والنخاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون كهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون متى يفيق النائمون؟ متى يفيق النائمون؟ يا إخوتاه! كل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد، والعاقل يفرح لسيده ومولاه، والغافل يفرح بلهوه وشيطانه وهواه. ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد. بك يا الله نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، وإلى جنابك نقترب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا. رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا. اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم ائذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود، اللهم ائذن لشريع

ذكر ما جاء في خطبة الوداع ونحر الهدي

ذكر ما جاء في خطبة الوداع ونحر الهدي في حجة الوداع يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح) يعني: عطب أمره. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم امرئ مسلم لكبهم الله على وجوههم في النار). ولما أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية لينحر الهدي في حجة الوداع، تسابقت الإبل والنوق بين يديه أيها ينحر أولاً بين يديه، وكأن الموت بين يديه حياة، فالإبل تسارع بين يدي رسول الله لتنال شرف الذبح بين يديه صلى الله عليه وسلم، هذا هو شوق العجماوات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين شوقكم إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

دعوة إلى حمل هموم المسلمين والعودة إلى الدين

دعوة إلى حمل هموم المسلمين والعودة إلى الدين نبي الله إبراهيم يرفع بيت الرحمن ويقول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]. وكان وهيب بن الورد إذا قرأ هذه الآية يقول: وأنت يا خليل الرحمن وأنت ترفع بيت الرحمن تقول: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم! والخليل الثاني الذي ننتسب إليه رسولنا وحبيبنا وعظيمنا، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل صحت نسبتنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هاجرنا إلى الله عز وجل، وإلى رسوله اتباعاً وتمسكاً بهديه واقتفاءً لأثره؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (أمتهوكون أنتم بعدي يا عمر؟ أمتحيرون أنتم بعدي يا عمر؟! والله لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي). نسينا في ودادك كل غال فأنت الآن أغلى ما لدينا نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا هذا هو الدين الذي يجمعنا، والآصرة التي تجمعنا آصرة العقيدة. إن يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد أو يختلف نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد فهل أقمنا الدين مقام الوالد؟!! سلوا كل صقع في الأرض، سلوا كل مشرد وكل أقلية مسلمة تذبح، سلوا البطون التي تبقر، سلوا اليتامى في فجاج الأرض، سلوا الدماء التي تباع رخيصة؟ سيكون جوابها: يا من تنهش في أحشائي يا من مني يا من جزءاً من أجزائي يا من تبدو للجهال كأنك دائي إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي: هل يأتيك ندائي؟ إنك مني أنت كأني لست أرائي أنت كأني حين شقائي حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تصل الطعنة في أحشائي قل لي: هل يأتيك ندائي؟ ابغ العزة عند إلهك ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي

فضل خليل الرحمن إبراهيم

فضل خليل الرحمن إبراهيم تعود بنا الذكريات إلى عصر أبطال في التاريخ، إلى أبي الأنبياء، إلى خليل الرحمن إبراهيم، الذي قال فيه ابن عباس: ما قام بدين الله كله إلا إبراهيم عليه السلام، قدم جسمه للنيران، وماله للضيفان، وولده للقربان، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، فقام بأمر الله كله، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بالشك من إبراهيم). قام أمر إبراهيم كله على اليقين، ما قام بأمر الله كله إلا إبراهيم، وانظروا إلى الكون في عهد إبراهيم وإلى الأرض وهي تموج بالكفر وتضطرب إلا هو وزوجه وابن أخيه، سبحان الله! أي غربة فوق هذه الغربة، إبراهيم وابن أخيه وزوجه فقط، وكل من على الأرض بعد ذلك كافر. جمعوه في النيران ويقول رءوس الكفر كلمتهم، ويقول الله عز وجل كلمته، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:68 - 69]، فانظر ما الفرق بين كلمة وكلمة: كلمة تذهب أدراج الرياح إلى مزابل التاريخ، وكلمة أخرى تنشر بها عوالم وتخلق بها نواميس، ويحق الله عز وجل الحق بكلماته. {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، تتلقاه الملائكة وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. ويطارد إبراهيم ويهاجم، إبراهيم عليه السلام المقطوع من الولد والأهل والعشيرة، الشيخ الطاعن في السن، يرزقه الله تبارك وتعالى الولد وهو في شيخوخته بعد أن دعا الله تبارك وتعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]. إبراهيم -وكله أدب مع الله عز وجل- يقول مثنياً على ربه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:78 - 80] ولم يقل: وإذا أمرضني، وإنما قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، فنسب إرادة المرض إلى نفسه؛ أدباً مع الله عز وجل. إبراهيم الذي رزق كمال الأدب مع الله عز وجل، المتواضع في عظم النبوة وجلالها يقول: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]، ويقول: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].

أمر إبراهيم بأخذ زوجه هاجر وابنه إلى مكة

أمر إبراهيم بأخذ زوجه هاجر وابنه إلى مكة يرزق إبراهيم بغلام حليم نجيب شهد الله تبارك وتعالى له بالنجابة من صغره، فيأمره الله عز وجل أن يذهب بزوجته وبولده إلى جبال صالان موضع مكة الآن، حيث الصحارى التي تتلظى ناراً ووهجاً، فيستجيب لأمر الله عز وجل ويرضى به، تقول له زوجه: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر؟! آلله أمرك بهذا؟! يقول: نعم، تقول: إذاً: فلن يضيعنا. فأي مكانة للتوكل أعظم من هذه! موقف لامرأة عظيمة مصرية يعجز عن مثله رجال الدنيا، إن أراد الناس أن يفتخروا وإن أراد المصريون أن يفتخروا فليفتخروا بأم إسماعيل هاجر، لا يفتخرون بأقباط وفراعنة قدماء كفرة لا شأن لهم عند الله عز وجل في ميزان الأرض ولا في ميزان السماء، هناك امرأة لها رسالة دكتوراة في التاريخ الإسلامي تثبت أن أم إسماعيل كانت بنتاً لفرعون مصر، وقد أهداها لخليل الرحمن إبراهيم، وهو مع كفره يقول لإبراهيم: نعم الرب ربك يا إبراهيم. أم إسماعيل تقول: إذاً: فلن يضيعنا الله، ويذهب إبراهيم تاركاً لها ولولده، ثم بعد هذا يأتيها جبريل حينما يتلبط وهي تهرول ما بين الصفا والمروة باحثة عن الماء لرضيعها الذي يتلبط جوعاً، وهنا يتبدى لها جبريل، وفي رواية صحيحة يقول لها: من أنت؟ تقول: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم. يقول: إلى من وكلكما؟ تقول: إلى الله، وهي لا ترى أمامها إلا رمال الصحراء، يقول: وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله، فإن كان الله عز وجل لا يضيع أهله فهل يضيع دينه. ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإقتار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا وقال الآخر: لا تدبر لك أمراً فأولي التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا فيحفظها من يحفظ موسى في ثبج البحر، ومن حفظ إبراهيم في لجج النيران، سبحان من جعل من ثبج البحر وموجه لموسى مستراحاً ومأمناً ومناماً، يحفظها من يحفظ يونس وهو في بطن الحوت: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. فهذه خطوات لامرأة ملؤها الصدق يجعلها الله عز وجل ركناً من أركان الحج كما يقول جمهور أهل العلم، هذا ما أوصتكموه أم إسماعيل يا بني ماء السماء، خطواتها بصدقها أصبحت ركناً من أركان الحج. إن الله لا يضيع أهله، فالدرس الأول في هذا اليوم هو درس اليقين لأم إسماعيل ولإسماعيل ولإبراهيم عليهم السلام. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] إن المرأة إذا خافت على وليدها ضمته إلى صدرها، فما بال الله عز وجل يلهم أم موسى أن تلقيه إلى ثبج البحر؟! حتى يصل إلى عدوه فرعون الذي كان يرسل الآلاف المؤلفة بحثاً عن طفل رضيع، فيذهب إليه الطفل دون حراسة؛ ليمضي أمر الله عز وجل، انظر كم قتل فرعون من أجل لقيا موسى، ولسان القدر يقول له: لا نربيه إلا في حجرك. فمن وجد الله عز وجل فماذا فقد؟ ومن فقد الله عز وجل فماذا وجد؟!! وتتعدد صنوف الابتلاء لإبراهيم، فبعد أن يشب غلامه يأمره الله عز وجل في رؤيا منامية -ورؤيا الأنبياء وحي- بذبح ولده، ولم يقل له: أرسله إلى فلان ليذبحه، أو أرسله إلى مكان تعلم أنه سيهلك فيه، ولكن باشر أنت بنفسك عملية الذبح لولدك البكر؛ ليعظم البلاء.

ذكر ما جاء من ابتلاء الله لإبراهيم ونجاح إبراهيم فيه

ذكر ما جاء من ابتلاء الله لإبراهيم ونجاح إبراهيم فيه يقول ابن القيم: إن الله تبارك وتعالى يغار على قلب خليله إبراهيم، والخليل هو الذي لم يبق في قلبه شيء لغير ربه حتى من العواطف الفطرية، فسيدنا نوح قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، ولكن الله عز وجل في شأن إبراهيم يريد ألا يسكن قلب إبراهيم إلى غيره ولو كانت عاطفة البنوة، فرجل كبير طاعن في السن يؤتى الغلام على الكبر شيء طبيعي أن تنجذب شعبة من قلبه إلى حب ابنه، ولكن الله يغار على قلب خليله، فلا يريد لقلب خليله أن ينصرف إلى غيره حتى ولو شعبة يسيرة تتفلت إلى إسماعيل. فيأمره الله برؤيا منامية ليست وحياً صريحاً وإنما هي منام، فلو كان غيره لتلكأ وقال: أنتظر حتى يأتيني الأمر الصريح، وأنتظر حتى أرى ذلك في اليقظة، ولكن خليل الرحمن الذي أتى ربه بقلب سليم هو شيء آخر عند الله؛ لأن مقام الخلة لم يصل إليه من البشر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام، (إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً). فأمره الله تبارك وتعالى بذبح ولده: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فلم يرد أن يتخلص من الضغط النفسي الذي هو فيه بأن يذبح الغلام، ثم بعد ذلك يتجرع مرارة الألم والندم، ولكن جمال الطاعة وقوة الإيمان ونبل التسليم لأمر الله تبارك وتعالى والرضا به أتى من منارة التوحيد، فالحادث الفريد العظيم الكريم الذي لم يسمح بمثله التاريخ أتى به إبراهيم. قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] خليل الرحمن إبراهيم يريد أن يرتفع بابنه إلى كمال التسليم لأمر الله تبارك وتعالى {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ} [الصافات:102] وشبح السكين على رقبته، {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما من أدب النبوة: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. ومن أراد الله تبارك وتعالى له الثبات والصبر فسيثبت، ولو وكلك الله عز وجل إلى نفسك فثم الخذلان والضياع. قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] أسلما الأمر كله لله عز وجل، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103 - 105] نجزي المحسنين بأن نرفع قلوبهم إلى مستوى الوفاء لله عز وجل، ونرفع قلوبهم إلى مستوى الصبر لأمر الله عز وجل، ونجزي المحسنين بالسلام عليهم في الدنيا قبل الآخرة، سلام مسجل في الوجود، ويسطر في كتاب الله عز وجل: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:108 - 109]. انظر يا أخي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده)، فالإنسان منا بمجرد أن يكون له ولد قد يترك أمر الدعوة كلها، فإن الولد مجبنة مبخلة، ولكن سيدنا إبراهيم جاد بولده الوحيد لله عز وجل، فماذا كان الأمر؟ أعطاه الله تبارك وتعالى إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقد بشره الله بحفيده يتمتع برؤيته في حياته، ويسميه الله عز وجل: يعقوب، يعني: سيكون له عقب وذرية ونسل، بل ويجعل الله عز وجل في ذريتهما النبوة والكتاب؛ لأنه ضحى بولد واحد لله عز وجل، فأعطاه الله تبارك وتعالى إسحاق وابن إسحاق يعقوب الذي سيمتد عقبه في التاريخ، وجعل النبوة والكتاب في بيت إبراهيم، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، فقد بلغ إبراهيم كل اليقين، وهذا هو أصلكم الضارب في التاريخ يا من تنتمون إلى ملة إبراهيم، فهل صح انتماؤكم إلى إبراهيم؟!

رمضان ورهبان الليل

رمضان ورهبان الليل قيام الليل أفضل صلاة التطوع، وهو مدرسة يتعلم فيها المؤمن الإخلاص لله تعالى، وهو دأب الصالحين قبلنا، وقربة منا إلى ربنا، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ولقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والصالحون الصادقون على قيام الليل، فهو شرف المؤمن وعزه.

فضل قيام الليل

فضل قيام الليل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها، فلعل أحدكم من تصيبه نفحة من رحمة الله لا يشقى بعدها أبداً)، وأطيب النفحات وأعطرها وأنفحها نفحات رمضان. الخير باد فيك والإحسان والذكر والقرآن يا رمضانُ والليل فيك نسائم هفهافة حنت لطيب عبيرها الرهبان رمضان شهر الإخلاص والصيام وصلاة التراويح والتهجد، قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته، وهو أصدق القائلين: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]. قال الإمام ابن القيم: أخفوا لله العمل فأخفى الله عز وجل لهم الجزاء، فلا تعلم نفس ملك مقرب ولا نبي مرسل ما أعد الله لهم من الجزاء. قال ابن عباس: من التفسير الذي لا يحيط به أحد تفسير هذه الآية: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] أي: عند الله عز وجل الجزاء الأوفر، فلا تعلم نفس ما أعد الله للمتهجدين. وفي حديث المغيرة بن شعبة: (أن موسى سأل ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة؟ قال: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، فلم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]). وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، وقال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6]. وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:26 - 27]. قال الإمام الشنقيطي: يستعان على طول الوقوف يوم القيامة بطول التهجد بنص هذه الآيات. وقال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، قال ابن مسعود: إذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل. قال ثابت البناني: من أراد أن يدخل إلى سيده فليدخل من باب الاستقامة، وبابها المحراب، وأي دعوة تريد أن تستقيم إلى الله عز وجل لابد أن يأخذ أصحابها بحظ وافر من الصلاة، فلا يسمى العابد عابداً، ولو كان فيه كل خصلة من خصال الخير، حتى تكون فيها هاتان الخصلتان، لأنهما تأخذان من لحمه ودمه، ولو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]. وقال أيضاً: الصلاة خدمة الله في الأرض، فمن علم من يخدم، ولِمَ يخدم فليخدم، وليطل الخدمة لمولاه. وقال أيضاً: كابدت قيام الليل عشرين سنة، واستمتعت به عشرين سنة. ويوجه الله عز وجل المؤمنين إلى الصلاة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، والصبر يكون على طول الطريق الشائك، وعلى قلة الناصر، وعلى انتشار الباطل: وهو أن ترى الشر فاشياً، والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، وهنا قد يضعف الصبر، فيمد الله عز وجل الصبر بالصلاة؛ لأنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله، وصلة بالله تعالى، وجلاء الروح، ومدد القلب، وزاد الطريق. إن الله عز وجل الذي خلق القلوب، وهو العليم بما يصلحها، وجه رسولنا في بداية الدعوة إلى قيام الليل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام الصحابة اثني عشر شهراً، وأمسك الله خاتمة سورة المزمل في السماء حتى انتفخت سوقهم وأرجلهم، فلما علم الله عز وجل صدقهم نزل التخفيف في نهاية السورة: ((إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)) أي: علم أن لن تطيقوا قيام الليل بأكمله، ثم قال: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]. والصلاة خدمة الله في الأرض، ومدرسة الإخلاص، قال قتادة: كان يقال: قلما سهر الليل منافق، والدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى المخلصين الذين لا يبالون بمدح الناس ولا بذمهم، يريدون وجه الله عز وجل لا يبتغون الجاه عند الناس ولا المنزلة، ولا يهربون من ذم الناس لهم، فالصادق لا يبالي بالخلق ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه.

حال الصالحين مع قيام الليل

حال الصالحين مع قيام الليل فهؤلاء أخفوا لله عز وجل العمل في ظلمات الليالي فملأ الله قلوبهم إخلاصاً ويقيناً، قال محمد بن أعين عن عبد الله بن المبارك: كنت مصاحباً له في أسفاره، فبينا نحن في أرض الروم ذات ليلة إذ أوهمني أنه ينام، فأوهمته أني أريد أن أنام أيضاً، فلما ظن أني قد نمت قام إلى صلاته، فما زال يصلي إلى الفجر، فلما كان عند الفجر أيقظني وقال: يا محمد! الصبح، فقلت له: إني لم أنم، فلما علم أني قد علمت بحاله، ظهر الغضب في وجهه، ولم يزل مجافياً لي إلى أن مات رحمه الله. وأيوب السختياني كان يصلي معظم الليل، فإذا كان قبل الفجر أظهر الصوت والصياح، وكأنه قد قام من ساعته تلك. ومنصور بن المعتمر: كان إذا أتى لصلاة الصبح أظهر النشاط لإخوانه، وكأنه لم يقم الليل وقد قام الليل كله أو معظمه. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة عند الله صلاة داود، وأفضل الصيام عند الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه، ثم ينام سدسه)، وهذا الأكمل والأفضل في صلاة الليل: أن تنام نصف الليل، ثم تقوم الثلث، ثم تنام السدس قبل صلاة الفجر، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ألفاه السحر الأعلى إلا نائماً في بيتي)، وتقول أيضاً كما رواه البخاري: (كان يقوم إذا سمع الصارخ: الديك)، والثلث الأخير من الليل هو وقت التنزل الإلهي. وكان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام ينام قبيل الفجر -السدس الأخير من الليل-؛ لأن الرجل إذا صلى طيلة الليل، وخرج إلى الناس في الصباح علت وجهه صفرة القيام، فعلم الناس بحاله، وأما إذا نام قبيل الفجر قليلاً فإن النوم يذهب صفرة الوجه، ويكون هذا أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء. فصلاة الليل مدرسة الإخلاص، وباب التزكية الأعظم، فمن كان لهم قدر من الليل مع مولاهم فلابد أن تزكى نفوسهم وجوارحهم. والربيع بن خثيم رحمه الله تلميذ عبد الله بن مسعود قالت له ابنته يوماً: يا أبت! ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فيقول لها: إن أباك يخشى البيات، أي: يخشى هجوم عذاب الله في الليل. وقالت له أمه: يا بني! والله لو علم أهل القتيل ما تلاقي بسبب قتيلهم لرحموك من كثرة البكاء، فيقول: قتلت أعز الأنفس عندي، قتلت نفسي بالمعاصي. والربيع بن خثيم هذا الأواب المتهجد اشترى فرساً بثلاثين ألف درهم ليغزو عليها، وذهب غلامه يسار ليحتش وقام هو إلى صلاته من الليل، فلما أتى الغلام لم يجد الفرس، فقال: يا سيدي أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان شيء يشغلني عن الصلاة، ثم رفع يده إلى السماء وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فاغنه. فدعا لسارقه ولظالمه بأن يهده الله إلى الجنة. لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد وقيام الليل عنوان لعلو الهمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من رجلين: رجل ثار -يعني: نهض بهمة- عن لحافه ووطائه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد)، فهذا ممن يباهي الله تبارك وتعالى به الملائكة، ويقول: (عبدي يذر شهوته لأجلي، أشهدكم أني قد غفرت له). وأبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب كان له سوط يعلقه في المسجد، فإذا كسل عن القيام ضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً. إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان من بلال ادخلوها آمنينا فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا قم حبيبي قم حبيبي قم فإن الديك صاح والثريا للمغيبِ أوشكت والصبح لاح والكسالى في عقال أصبحوا متخبطين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين عقد الشيطان عقداً ثم في الآذان بالا ثم قال ارقد وشد فعليك الليل طالا فاغسل الماعون عدًّا من ولوغ الكلب حالا ثم أطلق للشكال أطلق الله اليمين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين والجهاد في الإسلام يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك: في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الشجعان من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح أي: من خان الصلاة ولم يكن له قسط منها في الليل، خان الجهاد. وقد تناوب سيدنا عباد بن بشر رضي الله عنه في غزوة (ذات الرقاع) هو وعمار بن ياسر رضي الله عنه في حراسة جيش المسلمين، وكانت النوبة على عباد بن بشر، وكان المسلمون قد أصابوا دماً لأحد المشركين، فأقسم ألا يمس جنبه الأرض حتى يصيب من المسلمين مقتلاً. فأقبل عباد على صلاة الليل، وأتى الرجل إلى قرب من معسكر المسلمين فرأى عباداً قائماً فضربه بالسهم من الخلف، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني فنزعه وأقبل على صلاته، ثم ضربه بالسهم الثالث، فلما استيقظ عمار ولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عنه عباد بن بشر رضي الله عنه وقال له: يرحمك الله! ما الذي منعك من أن توقظني، قال: إني كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها. وتأخرت السيدة عائشة رضي الله عنها ذات ليلة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ما حبسك عنا يا عائشة! قالت: رجل حسن الصوت يتهجد بكلام الله عز وجل، فخرج فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة يصلي وكان حسن القراءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك). ولما كان يوم اليمامة وانكشف صف المسلمين أمسك سالم براية المسلمين، فقالوا: يا سالم إنا نخشى أن نؤتى من قبلك، قال: بئس حامل القرآن إذاً أنا، وأمسك بيمينه فقطعت يمينه، ثم أمسك الراية بيساره، فقطعت يساره، فضم اللواء إلى عضديه وهو يتلو قول الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. وأسلمت هند زوج أبي سفيان في صبيحة يوم الفتح، وقد حرشت قومها على قتل زوجها أبي سفيان في يوم الفتح، وقالت: اقتلوا هذا الخريت الذي يقول: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، فقال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي أدخلك في الإسلام؟ قالت: والله! ما رأيت الله عبد قبل اليوم في هذا البيت، يعني: ما رأيت الله عبد إلا في ليلة الفتح، لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يراوحون بين ركبهم وجباههم تهجداً لله عز وجل. فنور القيام أثر في قلب آكلة الأكباد، حتى أسلمت ودخلت في دين الله عز وجل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل). وقال صلى الله عليه وسلم: (من تعارّ من الليل -أي: من استيقظ من الليل- فقال: الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإذا دعا -أي: قال: اللهم اغفر لي! - استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته). قال الإمام ابن المنير: وقبول الصلاة حد زائد على صحة الصلاة. وصلاة الليل لها فضل على صلاة النهار، فهي مقبولة بنص هذا الحديث. وسيدنا الحسن كان يقول: والله! لو أعلم أن الله قبل مني سجدة واحدة لفرحت بذلك، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، فما ظنك إذا كنت تقوم من الليل وأنت تعلم أن أي صلاة تصليها لله عز وجل بالليل مقبولة عند الله تبارك وتعالى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يصلي من الليل). قال: سالم بن عبد الله بن عمر: فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً. وفي رواية: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل). وقام النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فزعاً وقال: (سبحان الله! ماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات -يعني: أمهات المؤمنين للصلاة-؟ فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة). وروى الإمام البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه ليلاً، وكنت وفاطمة نائمين، فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً وجهه عنا ويضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]). وما أيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وابن عمه في الليل الذي جعله الله سكناً للناس إلا لعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعظم صلاة الليل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحببت من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)، والناس اليوم يظنون أن الشرف في المال، فلو ضاع هذا المال ضاع الشرف.

فوائد قيام الليل الطبية

فوائد قيام الليل الطبية وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بصلاة الليل؛ فإنها دأب الصالحين قبلكم، وقربة منكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد). وفي مؤتمر الإعجاز الطبي للقرآن الكريم الذي حضره عمداء ومدرسون ومستشارون في كليات الطب على مستوى العالم الإسلامي، عملوا بحثاً عن تأثير قيام الليل والتهجد على آلام المفاصل (الروماتيزم)، فجربوا مسكنات الألم: كالزركلين والأدنوجكت والإسبرين وغيرها من المسكنات. أما الدكتورة سلوى من جامعة حلوان، فقد جاءت بثلاثين شخصاً من الذين يصلون التراويح، وثلاثين آخرين ممن لا يصلون التراويح، وأثبتت أن الثلاثين الذين يصلون التراويح ارتفعت عندهم الكفاءة الروحية لعضلات القلب، مع ليونة في جميع المفاصل، واختفاء آلام الروماتيزم من كل مفاصل الجسد.

عدد ركعات صلاة التراويح

عدد ركعات صلاة التراويح فالمطلوب من المسلم أن يلتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، وأن يقتدي به تمام الاقتداء، فقد كان لا يزيد في رمضان وغيره عن إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وتجوز الزيادة على ذلك العدد. وكانت صلاة التراويح عند الصحابة رضوان الله عليهم نموذجاً للكيف لا الكم كما قال تميم الداري: كنا نقرأ بالمئين، -يعني: في الركعة الواحدة-، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام -يعني: عندما تمل أرجلهم من طول الصلاة- وما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر؛ خشيت أن يفوتنا الفلاح، أي: السحور. يعني: كانوا يصلون إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، وكانت تستغرق الليل إلى قبيل الفجر. فمن أراد أن يكون سنياً فعليه أن يأتي بأكمل الهدي فيصلي في الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة إلى قبيل الفجر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان تكثير الركعات عوضاً عن طول القيام، وهو الذي قال به جمهور أهل العلم. وقال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين: صلاة الليل من النفل المطلق ولا حد لأكثره، وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. فينبغي للمسلم الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليكثر من الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، فإنه يذهب من البدن أمراض الروماتيزم وغيرها من الأمراض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله عز وجل من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك في كل ليلة). وهي ساعة التنزل الإلهي، وليست ساعة الإجابة التي تكون في آخر ساعة من عصر الجمعة، إنما هي ساعة إجابة في كل ليلة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الساعات جوف الليل الآخر، أو جوف الليل الأخير). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الخاسرين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)، والمقنطرون كما جاء في الحديث الآخر: (من لهم قنطار من الأجر، والقنطار من الأجر خير من الدنيا وما فيها)، وفي رواية: (أثقل في الميزان من جبل أحد)، فإما أن تكون من الغافلين الذين أخذوا الطين، وإما أن تكون من المقنطرين. أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي قال الحافظ ابن حجر: آيات جزء عم وتبارك ما يقارب ألف آية، فمن قام الليل بهذين الجزأين كتب من المقنطرين ممن لهم قنطار من الأجر عند الله تبارك وتعالى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك إلى ثلاثة) وفي رواية: (ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم)، والحديث الآخر: (ومن ضحك الله إليه فلا حساب عليه)، وهؤلاء الثلاثة هم: رجل انهزم أصحابه في المعركة فقاتل بنفسه حتى فتح الله عليه وعلى أصحابه، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر بنفسه من أجلي. ورجل عنده فراش لين وزوجة حسناء ولو شاء أن يرقد لرقد، فيدع فراشه ويصلي من الليل، ورجل كان في سفر هو وأصحابه وطال قيامهم حتى تمنوا أن لو تمس جلودهم الأرض، فناموا جميعاً، فقام يحرسهم ويصلي لله تعالى إلى أن استيقظوا. وممن يضحك الله إليهم: الذين يقومون الليل ويتهجدون لله عز وجل. تتجافى جنوبهم عن لذيذ المضاجعِ كلهم بين خائف مستجير وقامع تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع واستهلت دموعهم بانصباب المدامع ورأوا أنجم الدجى طالعاً بعد طالع قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجهوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. فالذين يواظبون على صلاة الفجر ترى وجوههم نيرة، فما بالك بالذي يواظب على صلاة الليل؟ فالشيخ صفوت نور الدين، والشيخ الأستاذ عبد العظيم، والشيخ: أبو بكر الجزائري وجوههم نيرة؛ لأن لهم حظاً مع الله عز وجل، وكذلك سريرة صالحة مع الله عز وجل. وكان محمد بن سيرين إذا دخل المسجد سَبّح الناس ربهم؛ لما على وجهه من النور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين رُءوا ذُكر الله تعالى برؤيتهم). والحافظ عبد الغني المقدسي كان إذا خرج من بيته اصطف الناس على جنبات الطريق للنظر إلى محياه، وبات معه رجل ممن يعبد الشمس فلما رأى صلاته من الليل وبكاءه، زفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره، فقد أثرت صلاة عبد الغني المقدسي في هذا الرجل فأسلم بسبب صلاة الليل. فانظر إلى حال من لهم حال مع الله تبارك وتعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت الليل فصلت ثم أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)، وفي حديث آخر: (فإن قاما من ليلتهما هذه كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات). وصلة بن أشيم العدوي لما تزوج السيدة معاذة العدوية تلميذة السيدة عائشة رضي الله عنها، ففي ليلة البناء أدخله ابن أخيه بيتاً حاراً، ثم أدخله بيتاً مطيباً، ثم بعد ذلك أدخلوا إليه معاذة، فقام يصلي صلاة الليل حتى الصباح، وقامت هي تصلي خلفه، فعاتبه ابن أخيه في اليوم الثاني فقال له: يا عماه! في ليلة عرسك تصلي إلى الصباح! قال: وماذا أصنع يا ابن أخي، إنك أدخلتني بيتاً حاراً فذكرتني فيه بالنار، ثم أدخلتني بيتاً مطيباً فذكرتني فيه بالجنة، فلم يزل خلدي فيهما إلى الصباح. ورياح القيسي لما تزوج ذؤابة العابدة تناوم في ليلة البناء يريد أن يختبر صلاة زوجه، فلما كان ربع الليل الأول قالت: يا رياح! قم فقد مضى ربع الليل الأول، فقال: أقم ولم يقم، فلما كان ربع الليل الثاني، قالت: يا رياح قم، قد مضى ربع الليل الثاني، قال: أقوم ولم يقم، فما زال كذلك إلى صلاة الفجر، فلما كان عند الفجر قام يصلي الفجر في جماعة، فقالت: ليت شعري من غرني بك يا رياح، لأنه ما صلى إلا الفجر فقط في جماعة. وكانت زوجة محمد بن حبيب العجمي توقظه لصلاة الليل، وتقول له: قم يا سيدي! فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، والطريق طويل، والزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد وصلت إلى الجنة ونحن قد بقينا. وكانت زوج أحمد بن أبي الحواري: رابعة بنت إسماعيل الشامية توقظ زوجها لصلاة الليل، فكان يقول: والله! إن قلبي ليرق بالنظر إلى وجه زوجتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما أرى عليها من أثر التهجد والخشوع وآثار الصلاة. والنبي صلى الله عليه وسلم ربما قام الليل بآية حتى يصبح، وقام الليل حتى تفطرت قدماه، أي: تشققت قدماه من طول القيام، فتقول السيدة عائشة: (يا رسول الله! أتفعل هكذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً).

تهجد الصحابة

تهجد الصحابة إن ذكر الصالحين يطيب المجالس، والحديث عن عباد السلف وعلمائهم ومجاهديهم مما يحلو به الكلام، ففاروق الإسلام عمر بن الخطاب لما مات تزوج عثمان بن العاص -وكان جاراً له- إحدى زوجات عمر، وقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر. فسيدنا عمر رضي الله عنه كان في وجهه خطان أسودان من كثرة الدموع من خشية الله. لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها قام الليل بآية فما زال يرددها ويبكي حتى أغمي عليه، فمرض من جراء هذه الآية حتى عاده الصحابة شهراً، وكان ينعس وهو قائم بعد توليه الخلافة، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! ألا تنام؟ فقال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله. لسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطابة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا وكذلك كانت ابنته أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها، ذكر الإمام الحافظ ابن حجر في كتاب الإصابة بسند حسنه هو والشيخ الألباني عليه رحمة الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر ذات يوم، فنثر عمر التراب على وجهه، وقال: ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعد هذا؟ فنزل جبريل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة). وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويزرع إلا في منابته النخل فالكلام عن الصحابة أزكى الناس على ظهر الأرض ذو شجون، فنعال الصحابة أو قلامة أظفارهم لو كانت في مياه سوداء مليون سنة لخرجت منها وهي أنظف من قلوب ووجوه الذين ينتقصون فيهم، فقد كان الصحابة قمماً عالية، فسيدنا عثمان بن عفان لما دخلت عليه زوجته نائلة وقد قتلوه، قالت: قتلتموه وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة. تعني: أنه قرأ القرآن كله في ركعة واحدة. قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عن هذه الرواية: إسنادها صحيح. والعلماء الذين احتجوا بجواز صلاة الوتر بركعة واحدة احتجوا بفعل سيدنا عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير؛ فإنهم ختموا القرآن الكريم في ركعة واحدة في الكعبة. ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً وفيه نزل قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9]. وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كان تحت عينيه مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان يصلي نصف الليل ونصفه الآخر يبكي، ويكثر في النشيج، ويردد قول الله تعالى إلى أن يصبح: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. وأبو هريرة راوية الإسلام تناوب قيام الليل هو وزوجته وخادمه، فكان يقوم ثلثاً ثم ينام، وتقوم زوجته ثلثاً ثم تنام، ويقوم خادمه ثلثاً. فإذا قام هذا نام هذا. وكان يسبح بعد صلاة الصبح اثنتي عشرة ألف تسبيحة، أي: أن له اثنتي عشرة ألف نخلة غرست في الجنة، وكان يقول: إنما أسبح الله بقدر ذنبي، وفي رواية: بقدر ديتي. وسيدنا تميم الداري الصحابي الذي تفرد برؤية الجساسة، كان بعض الشباب من أبناء الصحابة يقولون عنه: أدركناه شيخناً كبيراً وما كنا نستطيع أن نصلي وراءه صلاة الليل أبداً؛ لطول صلاته، لذلك أجرى الله عز وجل الكرامات على يديه، فقد هبت نار عظيمة في أيام خلافة سيدنا عمر بن الخطاب فقال: قم لها يا تميم، قال تميم: ومن أنا؟ -تواضعاً منه- فاستحلفه بالله أن يقوم، فأومأ بيده هكذا حتى أخرجها خارج المدينة وأدخلها إلى مغارة أو كهف، فقال سيدنا عمر: ليس من سمع كمن رأى، لمثل هذا كنا نحبك يا أبا رقية. وسيدنا أبو ريحانة الصحابي الجليل قفل عائداً من الغزو فأعدت له زوجه الطعام بالليل، فأكل ثم قام إلى مصلاه إلى الصباح، فعاتبته زوجه، فقالت: يا أبا ريحانة: غزوت فأطلت الغزو ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: لو خطرتي لي على بال لكان لك فيّ نصيب. قالت: يرحمك الله! ومن الذي شغلك عنا؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. ولقد غزى سيدنا أبو ريحانة مع الصحابة في البحر فسقطت إبرته إلى البحر، فقال: أقسمت عليك يا رب إلا أعدت إلي إبرتي، فعادت إليه. وسيدنا شداد بن أوس: كان إذا دخل إلى فراشه فكأنما هو حبة مقلاة من كثرة التقلب، يقول: اللهم إن النار منعتني النوم، فلا يزال يصلي إلى الصبح. ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم للنفقة في غزوة تبوك رجع أبو ضمضم الأنصاري إلى بيته، وكان فقيراً لم يكن معه شيء، فقام يصلي من الليل ثم قال: اللهم إني أتصدق على كل مسلم ظلمني في مالي أو جسدي أو عرضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من المتصدق بعرضه البارحة؟ ليقم، فقام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! لقد قبلت صدقتك في الزكاة المتقبلة).

تهجد التابعين

تهجد التابعين وكان مسروق بن عبد الرحمن بن الأجدع يقوم من الليل، وكانت زوجته تبكي عليه رحمة مما يصنع بنفسه، فقد كان يصلي وإن رجلاه لمنتفختان من طول القيام، وما كان يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير. وكان أصحاب الربيع بن خثيم يعرفون أنه قام الليل ولم ينم بجمته، فإذا أتى إلى الصباح يقولون: والله إن جمة الربيع لتخبركم أنه لم يتوسدها الليلة، فإنها نفس الشعر الذي فارقناه في صلاة العشاء. وحسان بن أبي سنان تقول عنه زوجه: كان يأتي إلى فراشي فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني قد نمت قام وسل نفسه إلى صلاة الليل. ومنصور بن المعتمر: كان يقوم الليل إلى الصباح فوق سطح منزله، فلما مات قالت فتاة لأمها: يا أماه! المشحب الذي كان على سطح جارنا ما لي لم أره الليلة؟ فقالت: قد مضى إلى ربه. والإمام الأوزاعي: بات يوماً عند جاره، فلما خرج من البيت رأت زوجة صاحب البيت بللاً في مصلى الأوزاعي، فعاتبت زوجها، وقالت له: ثكلتك أمك! تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ، فقال: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما هذا من أثر دموع الشيخ ليلاً. نزف البكاء دموع عينك باستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعارُ وعبد الرحمن بن مهدي يقول: ما صحبت رجلاً من الناس أرق من سفيان الثوري، كنت أرمقه الليلة بعد الليلة ويقوم من نومه فزعاً ويقول: اللهم لو كان لي عذر في التخلي عن الناس ما أقمت مع الناس طرفة عين، ومتى الخلاص من النار؟ اللهم إن كلاً يغدو ويروح وإن حاجة سفيان أن تغفر له ذنبه. وشعبة بن الحجاج، يبس جلده على عظمه من كثرة العبادة. وسيدنا أسيد بن حضير صحابي جليل، بينما هو في مربضه ليلاً يصلي ويقرأ بسورة البقرة، وكانت فرسه مربوطة بجواره، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فكان إذا قرأ جالت الفرس، فإذا سكت سكنت، فإذا قرأ جالت، فخاف على ابنه، فأمسك عن القراءة، ثم نظر إلى السماء فإذا فيها ظل كأمثال المصابيح، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالقصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ يا ابن حضير، فلقد أتيت مزماراً من مزامير داود، قال: يا رسول الله كان ابني يحيى قريباً منها فخشيت أن تطأه الفرس بحافرها، فأمسكت عن القراءة، ثم سنظرت إلى السماء فإذا فيها أمثال الظلة فيها أمثال المصابيح، قال: أتدري ما ذاك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: تلك السكينة دنت لقراءتك)، وفي رواية: (تلك الملائكة دنت لقراءتك ولو ظللت تقرأ لرأيت منها الأعاجيب)، وفي رواية: (ولو ظللت تقرأ لاستمرت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم)، فقد كانت بيوتهم بيوت النور. وسيدنا ثابت بن قيس رضي الله عنه كان الصحابة يمرون بالليل على داره ويقولون: أما تنظرون إلى دار ثابت بن قيس إنها لتبهر بمصابيح منذ الليل. وسيدنا محمد بن سيرين يقول: من يدلني على بسام بالنهار بكاء بالليل وأنا أدعو له. فقد كان كثير التبسم للناس، فإذا أوى إلى الفراش فكأنه قتل أهل القرية جميعاً.

قصص المتهجدات من النساء

قصص المتهجدات من النساء وكانت حفصة بنت سيرين إذا قامت إلى صلاة الليل لبست كفنها، فربما انطفأ مصباح البيت فيوقد لها مصباح آخر، وجلست في مصلاها اثنتا عشرة سنة وما خرجت إلا لقائلة، أو لحاجة زوج. وأم الدرداء الصغرى كانت مع نساء متعففات معها يقمن الليل، فما يركعن الركعة الأولى إلا بعد قراءة سورة الأنعام، وإن أرجلهن لمنتفخات من أثر القيام. وكانت منيفة العابدة إذا قامت إلى صلاتها من الليل تقول: بخ بخ! يا نفس قد جاء سرور المؤمن، فإذا قامت إلى صلاتها تقول: لا تأنسن بمن توحشك نظرته فتمنعن من التذكار في الظلم واجهد وكد وكن في الليل ذا شذم يسقيك كأس وداد العز والكرم فإذا أسفر الصباح بكت وقالت: واحرباه! واسلباه! ذهب الظلام بأنسه ليت الظلام بأنسه يتجدد. وعلي بن بكار عَمِيَ من طول البكاء، وكان يقول: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا أذان الفجر لأنه يقطع علي الصلاة مع الله عز وجل. أخي قد قيد القيد قدميك وغل الإبعاد يديك أفما لك عين تبكي عليك؟ دخل أحمد بن أبي الحواري على أبي سليمان الداراني فوجده يبكي في وقت السحر، قال: ما يبكيك يا أبا سليمان؟! قال: وكيف لا أبكي وإنه إذا كان مثل هذا الوقت من الليل قام العابدون إلى محاريبهم، وتقطرت دموعهم على خدودهم، وأشرف الجليل من السماء وقال: بعيني من تلذذ بذكري واستراح لأنسي، لما لا تنادي فيهم يا جبريل ما هذا البكاء، هل رأيتم حبيباً يعذب أحبابه، أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنهم الليل تملقوا إليّ بالدعاء؟ فبي حلفت: إن وردوا عليّ يوم القيامة لأكشفنّ لهم عن وجهي الجميل حتى ينظروا إليّ وأنظر إليهم. وقال أبو سليمان الداراني: نمت ذات ليلة عن وردي من صلاة الليل، فإذا أنا بحوراء من أهل الجنة تأتيني مناماً وتقول لي: أتنام والملك يقظان؟ أتنام وأنا أربى لك في الخدور منذُ آلاف الأعوام؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، وأنشدته شعراً حفظ منه: أتطلب مثلي وعني تنام؟ ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه القيام يعني: أبقاه قيام الليل عظماً على لحم.

المجاهدون المتهجدون

المجاهدون المتهجدون وكل من له باع في الجهاد كان كثير التهجد، فـ محمد الفاتح: حين فتح القسطنطينية غدا يتهجد طيلة الليل مع جنوده. وكذلك العلاء بن الحضرمي فاتح بلاد ماردين. ونور الدين محمود زنكي بطل موقعة حارم الذي قتل من الصليبيين عشرة آلاف، قال عنه ابن الأثير أنه كان مواظباً على صلاة الليل، وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون فقد قامت ذات ليلة غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، فأمر من يوقظ الناس لصلاة الليل. ولما مات عنها نور الدين تزوجها صلاح الدين من بعده. وأيام أن أخذ الفرنج القدس، دخل أحد السقاة من المسلمين القدس فسمع الفرنج يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون: نور الدين محمود زنكي - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه بين يدي مولاه ليلاً، فلابد أن ربه ناصره علينا. والقاضي ابن الشداد قاضي صلاح الدين الأيوبي يقول: وفي حصار عكة كنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فإذا جن الليل علا على سجادته تتقاطر دموعه على وجنتيه وهو يقول في سجوده: إلهي! قد انقطعت الأسباب الأرضية عن نصرة دينك وليس لي إلا الإخلاد إلى جنابك، فيأتيه خبر النصر على الأعداء. فإن سهام الليل لا تخطئ وسل الله عز وجل أن يرفع الغمة عن بلاد المسلمين. اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم، بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، اللهم صل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم انصر المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم احم ديارهم واحفظ أموالهم وأعراضهم، واحقن دماءهم، وأرنا في الصليبيين واليهود ودول الكفر آية، إنهم لن يعجزوك فخذهم أخذ عزيز مقتدر. اللهم ارحم المسلمين واكس عاريهم، واشف مرضاهم وسدد رميهم، وأرنا في الكافرين والصليبيين آية. اللهم قو شوكة المسلمين، وأقبل بشبابهم على كتابك وسنة نبيك، وانشر الدعوة إلى دينك في ربوع الأرض مشارقها ومغاربها، وأرنا وجه نبينا في رضوانك والجنة، واحشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين، وارفع الغمة عن المسلمين الصادقين، وفك أسرهم وفرج كربهم، واحم بيوتهم وأولادهم. اللهم ارزقنا الشهادة إن علمت صدقاً منا فارزقنا الشهادة في سبيلك، واختم أيامنا بالشهادة في سبيلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

سنن الله في الكون والأمم

سنن الله في الكون والأمم لقد سنَّ الله سبحانه سنناً يجري عليها نظام الكون، فلا تتبدل ولا تتغير، وهي كثيرة ومتعددة تشمل جميع المخلوقات، وقد ذكر الله في القرآن كثيراً منها حتى يراعيها الناس في حياتهم.

المقصود من سنن الله في الكون وبيان عمومها وتنوعها

المقصود من سنن الله في الكون وبيان عمومها وتنوعها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. السنن: جمع سنة، والسنة هي الطريقة المتبعة في معاملة الله تبارك وتعالى للبشر بناءً على سلوكهم وأفعالهم، وموقفهم من شرع الله وأنبيائه، وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة. إن معاملة الله تبارك وتعالى للبشر المطيعين والمسيئين، وللمعاندين لرسوله والمقبلين على دعوته؛ لها قانون عام يحكم البشر، وهذا القانون العام هو سنة الله تبارك وتعالى، ولها وجهان: الوجه الأول: قانون عام يحكم الكون بما فيه من جمادات ونبات وإنسان، فالإنسان تجد فيه الكبد في الناحية اليمنى ويقوم بوظيفة كذا وكذا وكذا! والمعدة تقوم بوظيفة كذا وكذا وكذا! كذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40]. فخروج الشمس طالعة من المشرق وغيابها في المغرب سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون، والنظام المفترض لهذه السنن يدل على أن وراء الكون خالقاً عظيماً، وسنة الله تبارك وتعالى في إيجاد البشر من الماء المهين من سنن الله تبارك وتعالى في الكون، وسنة الله تبارك وتعالى في إخراج الولد من رحم الأنثى لا من الرجل من سنن الله تبارك وتعالى؛ فهذا الوجه الأول للقانون العام. الوجه الثاني: ما يتعرض له العباد من نعيم في الدارين أو من ذل وشقاء، نتيجة إقبالهم على كتاب الله تبارك وتعالى أو إعراضهم عنه. فمثلاً: سنة الله تبارك وتعالى في استدراج الظالمين، ومكر الله تبارك وتعالى بالماكرين، وجزاء الله تبارك وتعالى لمن بطر النعمة، وسنة الله في الظالمين لا تختلف ولا تتبدل ولا تتغير، يقول الله تبارك وتعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. فهذا القانون لا يُحابي ولا يجامل أحداً، ولم يأت شيء من خلق الله تبارك وتعالى بالصدفة! يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، ويقول الله تبارك وتعالى بعد أن يقص أخبار الأمم السابقة: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] أي: لا تفعلوا صنيع القوم؛ فيكون جزاؤكم من جنس جزائهم. وإلا فما فائدة سرد قصص أنبياء الله تبارك وتعالى مع المعاندين والمشاقين والحائدين عن طريق الله تبارك وتعالى إن لم تكن للعظة والعبرة؟ ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43] يعني: ليس كفاركم من جنس ثانٍ أنظف من جنس أولئك، فإن عمّهم جنسٌ الكفر فالنتيجة واحدة والعقاب واحد، فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى، فـ أبو لهب لم ينطق بكلمة لا إله إلا الله! وطالما أنه حاد عن طريق الله وكفر بأنعُم الله فالجزاء المحتم النار والخلود فيها، وقد يجازيه الله تبارك وتعالى بما قدّم من خير للناس في دار الدنيا فيوفيه نصيبه فيها وليس له في الآخرة من نصيب. قال الله تبارك وتعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43]، ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:51]، ويقول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]. واليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فسيتجاوز عن ذنوبنا، فقال الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] فكل من يعمل سوءاً يلق جزاءه؛ لأن الجزاء بحسب سنة الله تبارك وتعالى أثر طبيعي لكفر الكافر أو لإيمان المؤمن، يقول الله تبارك وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:137 - 138] أي: لعل الناس يعودون إلى رشدهم، ويئوبون إلى طريق خالقهم عز وجل. فتدبر سنن الكون ووقائع الله تبارك وتعالى بالأمم السابقة أمر واجب على كل مؤمن؛ ليصحح المعاملة مع الله تبارك وتعالى. ومن سنن لله تبارك وتعالى: سنة ربط الأسباب بالمسببات، وربط النتائج بالمقدمات، وسنة الله تبارك وتعالى في قانون الهدى والضلال، ودفع الله الناس بعضهم ببعض، وسنة الله تبارك وتعالى فيمن اتبع هداه ومن أعرض عنه، وسنة الله تبارك وتعالى في الابتلاء وفي الفتنة، وسنة الله تبارك وتعالى في الظلم والظالمين، وسنة الله تبارك وتعالى في الاختلاف والمختلفين، وسنة الله تبارك وتعالى في المتساوين والمختلفين، وسنة الله تبارك وتعالى في الترف والمترفين، وسنة الله تبارك وتعالى في الطغيان والطغاة والمتكبرين، وسنة الله تبارك وتعالى فيمن بطر النعمة وجحدها، وسنة الله تبارك وتعالى في الذنوب والسيئات، وسنة أخرى في التقوى والإيمان والعمل الصالح، وسنة الله تبارك وتعالى في استدراج الظالمين، وسنة الله في المكر بالماكرين بالدعوة، وسنة الله في ثواب الدنيا والآخرة، وسنة الله في الرزق، وسنة الله في الفظاظة والغلظة وفي الرفق، فالرجل الفظ تنفر منه الناس عادة، فمن سنة الله تبارك وتعالى ألا يقبل الناس على رجل فظ غليظ القلب، وإنما يقبلون على من كان في قلبه رقة، ومن كان حسن المعاملة للناس.

سنة ربط الأسباب بالمسببات

سنة ربط الأسباب بالمسببات هذه السنن واقعة والقانون العام الذي يحكمها هو الشمول والعموم، والسنة الأولى من سنن الله تبارك وتعالى في الكون أن كل شيء بسبب، والنتائج لا بد لها من مقدمات، والمسببات لا بد لها من أسباب، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ} [البقرة:22] فالفاء هنا السببية: {فَأَخْرَجَ} [البقرة:22] أي: أنزل المطر ليخرج به النبت، فجعل المطر سبباً لظهور المسبب وهو النبات. ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] أي: علماً ونوراً في القلب يفرِّق به العبد بين الحق والباطل، والفرقان يحدث بسبب التقوى، فالتقوى سبب والفرقان مسبب عن التقوى. ويقول الله تبارك وتعالى في شأن الصائمين: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] أي: بسبب عملكم في أيام الدنيا كلوا الآن واشربوا. ويقول الله تبارك وتعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1] إذاً: أنزل الله تبارك وتعالى الكتاب لهداية البشرية، فاللام لام السببية، وما أنزل الله تبارك وتعالى القرآن عبثاً حاشاه، وإنما أنزله لهداية الناس إلى طريق الله تبارك وتعالى. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].

الرد على الأشاعرة في قولهم ليس هناك ربط بين الأسباب والمسببات

الرد على الأشاعرة في قولهم ليس هناك ربط بين الأسباب والمسببات بعض الناس ومنهم الأشاعرة يقولون: إن الله تبارك وتعالى قد يدخل النار أولى أوليائه، ويدخل الجنة أعتى أعدائه، وهذا قول الأشاعرة يدرسونه في الأزهر، ويتبعون ذلك لمحض الإرادة، يقولون: إن الله تبارك وتعالى {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] فيفعل أي شيء يريده. وقولهم هذا قول باطل؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يظلم أحداً، وقد أنكر الأشاعرة كل باء سببية في القرآن الكريم وأولوها وقالوا: إن النار لا تحرق بطبعها، يعني: لا توجد في ذاتها خاصية للإحراق، لكنك عندما تقرب منها الخشب تحرق. وهذا يصادم العقل؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي يقول هذا ليس عنده أدنى مسكة من عقل، فالمولى تبارك وتعالى جعل الشبع والغذاء سبباً لحياة الناس وبقائهم، والولد يخلقه الله تبارك وتعالى في بطن أمه بإلقاء ماء الرجل في رحم المرأة؛ فالمسببات تكون بأسبابها. ويقول الأشاعرة: إن الإنسان يشبع عند الأكل، أي: مجرد أن ينظر إلى الأكل يشبع، لكن علماء السلف يقولون: الإنسان يشبع لأن المولى تبارك وتعالى وضع خاصية الإشباع في الأكل، فإذا أكل الإنسان أكلة معينة لمدة معينة وبقدر معين يحصل الشبع بسبب هذا الأكل لا عند أكله، وهذه نقطة من نقط الخلاف الرئيسية بين الأشاعرة وأهل السنة والجماعة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: يقول الله تبارك وتعالى عن القرآن: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] فمن قال: يفعل الله عندها، أي: عند هذه الأسباب لا بها فقد خالف لفظ القرآن الكريم، ويقول: مع أن الحس والعقل يشهدان أن القرآن سبب لحصول الهداية، ويعلم الفرق بين الجبهة والعين في اختصاص أحدهما بقوة ليست موجودة في الآخر، فحاسة السمع أودع الله تبارك وتعالى فيها قوة للسماع، وحاسة البصر أودع الله تبارك وتعالى فيها قوة تختلف عن قوة السماع وهي قوة الإبصار، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ويعلم الفرق بين الخبز والحصى، أن أحدهما أودع الله فيه خاصية الغذاء والآخر لا يحتوي على هذه الخاصية؛ فأهل السنة والجماعة يقرون بربط الأسباب بالمسببات، وهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون. لكن الأشاعرة يقولون: ممكن أن يكون السبب موجوداً والمسبب عنه لا يحدث، مستدلين بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) قالوا: مع أن الرجل يعمل صالحاً لكن من الممكن ألا يدخل الجنة، إذاً: السبب موجود والمسبب عنه الذي هو دخول الجنة قد لا يحصل وقد يحصل؛ وهذا لفهمهم الخاطئ للباء هنا، كما يقول الله تبارك وتعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] جعل الله تبارك وتعالى عملهم الصالح سبباً لدخول الجنة، إذاً: الباء هنا باء السببية وتفهم من الحديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) قالوا: هذه باء العوض، يعني: لا تظن أن عملك هذا تضعه في كفة ودخولك الجنة في كفة، وتقول: ثمن عبادتي أنني سأدخل الجنة، وعبادتي هذه تساوي دخول الجنة، صحيح أن دخول الجنة بالعمل، وميراث الدرجات أيضاً بالعمل، لكن هذا العمل ليس عوضاً عن الجنة، إذاً: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) الباء هذه باء العوض والمقابلة، أي: لن تدخل الجنة مقابل هذا العمل الضئيل. أيضاً ربط المولى تبارك وتعالى بين الأسباب وبين التوكل على الله تبارك وتعالى، فالتوكل: علم القلب بكفاية الرب، وكما يقول ابن القيم: قال الإمام أحمد: التوكل عمل من أعمال القلب، لكن اتخاذ الأسباب عمل من أعمال الجوارح، فلا منافاة بين اتخاذ الأسباب وبين التوكل على الله تبارك وتعالى؛ فهذا عمل للجوارح وهذا عمل وعلم للقلوب، فتعاطي الأسباب لا ينافي التوكل، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) والاستعانة بالله هي عين التوكل على الله تبارك وتعالى، وقوله: (ولا تعجز) أي: ولا تعجز عن اتخاذ الأسباب. وإن قوماً قالوا: إنا متوكلون على الله تبارك وتعالى وخرجوا من الأسباب بالكلية، وهذا طعن في السنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (اعقلها وتوكل) قال: أعقلها أو أتوكل؟ قال: (اعقلها وتوكل)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، وكما قال الشاعر: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا تعجزن يوماً عن السبب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب مع مباشرة آلام المخاض والولادة. قال: ولو شاء أدنى الجذع من غير هزّها لجذع ولكن كل شيء له سبب فلا بد أن تعتمد على الله تبارك وتعالى مع مباشرتك للأسباب، يقول أبو بكر الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لأبصرنا، قال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ كل الأسباب لسرية عملية الهجرة، ثم توكل على الله تبارك وتعالى بعد ذلك.

سنة الله تعالى في اتباع هداه والإعراض عنه

سنة الله تعالى في اتباع هداه والإعراض عنه وهناك قانون يسمى قانون الهدى والضلال، يقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] فالهدى هو دين الإسلام: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]. ومن يترك هدى الله يتركه الله تبارك وتعالى وما اختاره، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]. فقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونكله إلى ما توكل عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] فيتركه الله تبارك وتعالى للشياطين، ولكنه ينذره عذابه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] فالمخاطب بهذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم والمأمور بها الأمة، قال العلماء: الخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وهذا قول العلامة ابن كثير، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:145] فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد: أمته. فمن سنن الله تبارك وتعالى أن من يتبع هدى الله تبارك وتعالى لا يخاف ولا يحزن، لا يحزن على ما فات ولا يخاف من الآتي؛ لأنه يرضى بقضاء الله تبارك وتعالى، ويعلم أن سبيل الهدى يكسبه الخيرات والدرجات عند الله تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى يعد من اتبع هداه وسنته بسعادة الدنيا والآخرة، يقول الله تبارك وتعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] قال ابن عباس: تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، هذه سنة من سنن الله في الكون. وقد يقول قائل: أنا أقرأ القرآن وأعمل بما فيه، لكنني أشعر بضيق، نقول: من سنن الله تبارك وتعالى أنك لو قرأت القرآن وعملت بما فيه لا يضلك الله في الدارين، ولا يجعل الشقاء يعرف طريقاً إلى قلبك؛ لأن مفاهيمك للحياة ستتغير، فإذا فهمت القرآن وعملت بالذي فيه، وأصابك ضيق في الرزق فإنك ستصبر وتعلم أن هذا قضاء الله وقدره، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132] فطالما أنك مع القرآن فالعاقبة والخير لك، إذاً: لا يوجد شقاء. ولو رأيت أخاً يقول لك: أنا حامل لكتاب الله، لكنني أشعر كأن صدري يصعّد في السماء، فقل له: لقد أخطأت الطريق، ما هكذا يا سعد تورد الإبل، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]؛ فأقسم بأسماء الله تبارك وتعالى أن الذي يُعرض عن طريق الله ولا يريد أن يطبّق حكم الله تبارك وتعالى أن حياته كلها نكد، وإن فعل وفعل، وإن أظهر أنه سعيد في حياته، كما قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذل من عصاه! فأنت في نعمة! ومن النعمة أن تدخل المسجد وليس معك حرس لا من أمامك ولا من خلفك، ومن النعمة أن تمشي في الشارع في الوقت الذي تريد وفي المكان الذي تريد، فإن رئيس أي دولة يقول: أنا المعتقل الوحيد في هذا البلد؛ لأني لا أستطيع أن أمشي دقيقة واحدة بدون حرس، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس المحبوس من حبس عن ربه، وإنما المحبوس من حبسه هواه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126] وهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون فمن سنة الله تبارك وتعالى في الكون: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] يقول ابن القيم: إن شيخ الإسلام ابن تيمية كان من أفقر الناس، فكُنا إذا ضاقت بنا الدنيا فما هي إلا أن نجلس إليه برهة فنقوم وقد نفضنا عنا الدنيا بأكملها؛ فالذي يعمل عملاً صالحاً لا بد أن يرزقه الله تبارك وتعالى حلاوة هذا العمل، فيحس بشوق إلى الله تبارك وتعالى وإلى الدار الآخرة، فالمؤمن يصاحب الناس ببدنه وروحه معلقة بالملأ الأعلى، هذه هي الحياة الطيبة. ومن أعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى يقيض له الله شيطاناً فهو له قرين. ومن الناس من يعمل مع الجن، واعلم أنه لا يوجد جني مسلم يخدم ساحراً أو كاهناً أو يؤذي الآخرين؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:36 - 39]. فأهل المصائب يشتركون في مصيبة واحدة ويخفف عن أحدهم بعض مصابه عندما ينظر إلى مصيبة غيره؛ ولكن هؤلاء لا ينفع بعضهم بعضاً وهم في النار، ولا يوافي بعضهم بعضاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: تفرقوا أيها المجرمون. وإن كان للعبد المؤمن في الجنة خلان يجتمع بهم وأصدقاء، فإنه يتقابل مع إخوته على الأرائك، أما أهل النار فيقول عنهم الله تبارك وتعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} [يس:59] يعني: انفصلوا فلا اجتماع بينكم، وإنما يُحبس كل منهم في تابوت من النار وآخر الأمر لا يَرى ولا يُرى، بل يقيّض الله له شيطاناً سواء أكان الشيطان من الشرق أم من الغرب، فالكل شياطين، يقول الشاعر: روسية ماذا جنيتم بعدها غير الجنون يقول: هذا كاسترو ولينين وإستالين وماركس وغيرهم، وبعد أن انتهت روسيا والاشتراكية قالوا: نذهب إلى أمريكا! روسية ماذا جنيتم بعدها غير الجنون ماذا جنيتم واسألوا سينا وأطراف الحدود أو فلتكن غربية تعطيكم شهد العهود فليعطكم متران نصراً في الجرائد من بنود نحن يا مقداد أوفى بالعقيدة بالعهود بالعقيدة سوف نمضي إخوة حتى نعود

سنة التدافع بين الحق والباطل

سنة التدافع بين الحق والباطل ومن سنن الله تبارك وتعالى في الكون: قانون التدافع بين الحق والباطل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]. وتعرفون ما حدث في عهد جمال عبد الناصر، فالمسلمون كانوا في اضطهاد وتضييق، حتى إنهم كانوا يصلون ويخرجون فيقولون: رجال الشرطة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون! ولكن شاء الله أن يدفع الباطل بالحق، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] وهناك بعض الناس كما يقول القرضاوي: في الشر معجون به منقوع. فمن سنن الله تبارك وتعالى التدافع بين الحق والباطل، وسنة الله في هذا التدافع أن الغلبة للحق وأهله، ولكن من الممكن لكثرة الضربات التي لحقت بالحركات الإسلامية من مكر الماكرين أن يصيب بعض الإخوة الوهن، ويظنون أن الله يخلف وعده! وليس الأمر كذلك يقول الله تبارك وتعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى:24]. ويقول تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]. ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]. فمن كان بيته من زجاج فلا يرمي بيوت الناس بالحجر، فقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] أي: لا يجعل عمل المفسدين صالحاً، وقال الزمخشري في تفسيرها: لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار، فانظر كم من أفلام ومسرحيات عُملت، وفي الأخير يقول صاحب الأفلام والمسرحيات: سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون أن الله تبارك وتعالى {لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].

سنة الله في نصر المؤمنين على الكافرين

سنة الله في نصر المؤمنين على الكافرين سنة الله تبارك وتعالى في نصر المؤمنين لا تختلف؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:22 - 23]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34]. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. ويقول الله تبارك وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] وهذه الكتابة لا تتبدل ولا تتغير. ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52]. يقول العلامة ابن كثير: وهذه سنة الله تبارك وتعالى في خلقه من قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين، ويقر أعينهم ممن آذاهم. ويقول السدي: لن يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل بهم ذلك في دار الدنيا، وهذا وعد الله تبارك وتعالى. فالنصر قد يتأخر لنصر أكبر؛ وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين، فالفتح الأعظم هو فتح مكة وقد تأخر من بداية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى سنة (8 هـ) قبل موت الرسول صلى الله عليه وسلم بعامين فقط، فقد كان هناك انتصارات؛ ولكن النصر النهائي كان قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعامين؛ ولا بد أن يحدث قبل النصر أذىً وتمحيص، كما قيل للإمام الشافعي: يبتلى الرجل أم يمكن؟ قال: لا يمكّن حتى يُبتلى، ولذلك نقول لكل الإخوة السلفيين: الإنسان لا يتمنى البلاء أبداً، ولا يتمنى السجون أبداً، نود لو دمرت السجون وخرج منها كل الموحدين! وقد تتعدد صنوف الابتلاء، وطالما أنك على الجادة فلا بد من ابتلاء؛ والابتلاء قد يكون بالفقر، وقد يكون بالمرض، وقد يكون بزوجة غير صالحة، وقد يكون بفتنة الأولاد، وقد يكون بنقص من الثمرات وبموت ولد، وبطء في الرزق، وبمرض معين، وليست الفتنة أن تكون في سجن فقط! وهذه هي سنة الله تبارك وتعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]. فلا بد من التمحيص؛ لأن من يريد جوار بلال وعمار لا بد أن يكون على طريقتهم، فـ عمار رضي الله عنه ما كان يكفر أحداً إلا الكافرين، كذلك ابن تيمية الذي أُلقي في السجن حتى مات ما ذهب ليكفر الناس الذين عذبوه في السجن، والمعتزلة اختلفت الأمة في تكفير أعيانهم، والرأي الأقوى أنهم لا يكفرون، ومع أن المأمون كان يقول بفكر المعتزلة لكن لم يكفره الإمام أحمد بن حنبل. فسنة الله تبارك وتعالى أنه لا بد من التمحيص، والذي يتصور أن الحركة الإسلامية من الممكن أن تستقر وتنتشر في ربوع البلاد بدون تمحيص فليجلس في بيته، يقول ابن القيم: أول الأمر بذل الدم وإلا فدع عنك الترهات. ويقول أيضاً: أين أنت يا مخنث العزم والطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وأُلقي في النار إبراهيم، وأضجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بالبكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن لن نكون أكرم على الله تبارك وتعالى من رسوله الذي أوذي وشد الحجر على بطنه من شدة الجوع، بل إن يوسف عليه السلام كان أميناً على خزائن الأرض وكان لا يشبع، فسئل عن ذلك؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع، ونحن نقول: إنّا على الدرب سائرون، ولكننا ما شددنا حجراً في يوم من الأيام، وما ابتلينا. إن سيدنا أبا بكر صدِّيق هذه الأمة ضُرب بالنعل على وجهه من قبل عقبة بن أبي معيط وكان ينزو على بطنه حتى أقبلت بنو تيم وهم لا يشكون في موته ولا يعرفون أنفه من وجهه، وتقول أسماء: وجعل أبو بكر رضي الله عنه لا يمس شيئاً من شعره إلا وسقط معها شيء من لحم الرأس. فإذا أردت أن تلحق بركاب الناس فعلى الأقل ادع إلى الله تبارك وتعالى، وتعلم شيئاً ينفعك في دينك، فلو ضاقت علينا الدنيا كلها، فعلى كل واحد أن يمسك عائلته ويدعو فيها؛ وليقم الرجل خطيباً في قبيلته، حتى لو سدوا عليك أبواب الدعوة وأودعوك السجن، ولم يبعثوا أحداً ليتقصى أخبارك! فأقل شيء أن تدعو عائلتك، وقد يتأخر نصر الله تبارك وتعالى لعدم وجود الإيمان، أو لعدم كماله؛ فهذا الشيخ عبد الكريم زيدان يقول: واقع المسلمين لا ينقض سنة الله في نصر المؤمنين، إن سنة الله في نصر المؤمنين قررها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم، وهي سنة مؤكدة يقيناً لا يخالطنا فيها ذرة من الشك بسبب ما يُرى من واقع المسلمين من كونهم مغلوبين لا غالبين، بل مقهورون من قبل أعدائهم غير منصورين عليهم؛ لأن هذه السنة وهي نصر المؤمنين حين يكونون موصوفين بأوصاف الإيمان وبمعانيه التي بينها الله في كتابه، لا بمعاني الإيمان في مخيلاتهم ومقاييسهم بأمانيهم، فإن انتصارهم على أهل الباطل كائن.

سنة الله أن للقوة المادية تأثيرها في النفوس

سنة الله أن للقوة المادية تأثيرها في النفوس أيضاً من سنن الله: أن للقوة المادية تأثيرها في النفوس. فمن الناس من يقول: لن ننتصر ما دمنا قلة، نقول له: قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [الأنفال:43]. إذاً: للقوة المادية مع القوة المعنوية تأثير في النفوس، وإن كانت القوة المادية مفقودة عند الصحابة يوم بدر لكن الله نصرهم: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43]. وفي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجنده: إنما ينصر الله تبارك وتعالى المسلمين بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا بالقوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. هذه سنة الله تبارك وتعالى في نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.

سنة الله أن على الجماعة المسلمة تجنب الرياء إن أرادت النصر

سنة الله أن على الجماعة المسلمة تجنب الرياء إن أرادت النصر أيضاً من سنن الله تبارك وتعالى في الكون: أن على الجماعة المسلمة التي تريد النصر أن تتجنب الرياء والشبهات: فأول من تسعر بهم النار ثلاثة، منهم رجل ظن نفسه مجاهداً في سبيل الله، وكما يحدث الرياء في الأفراد فقد يحدث الرياء في جماعة من الجماعات، يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: وعلى الجماعة المسلمة أن تتجنب الرياء في عملها، وألا تحرص على ثناء الناس ولا على رضاهم مطلقاً؛ لأن الرياء يفقد الجماعة تأييد الله ورضاه، وإنما عليها أن تحرص على رضا الله تبارك وتعالى. يقول: ولكن هذا لا يعني أنها لا تتوقى سخط الناس ولا ترغب في رضاهم! فرضا الناس يؤدي إلى ثقتهم بالجماعة، والثقة شيء مطلوب ولكن لا يجوز لأي اتجاه أن يطلب رضا الناس بسخط الله تبارك وتعالى.

سنة الله في الابتلاء والتمحيص

سنة الله في الابتلاء والتمحيص ومن سنن الله تبارك وتعالى قانون الابتلاء، وأنه لا بد من الفتنة: يقول الله تبارك وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] فلا بد من الفتنة إما بالمال وإما بالأمراض والأوجاع وغير ذلك. يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] إذاً: البلاء سنة من سنن الله تبارك وتعالى. ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]. ويقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]. ولكن الابتلاء بين الناس يتفاوت، فقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في الابتلاء أن البلاء على قدر الإيمان؛ فأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون والعلماء الأمثل فالأمثل، ويمتحن الله تبارك وتعالى المؤمنين بالشدائد كما يمتحنهم بالجهاد ويمتحنهم بأنواع الأذى. وقد يبتلي الله تبارك وتعالى الأمة الكافرة عسى أن ينفعها هذا البلاء، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94]. والله تبارك وتعالى يبتلي أيضاً مدّعي الإيمان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. والله تبارك وتعالى قد يبتلي العبد بفتنة النعمة وهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى، وكثير من الناس لا يصمد على فتنة المال؛ يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر. فمن الممكن أن تلقى أخاً يرابط على صلاة الجماعة في الصف الأول طالما أن لديه أكل يوم فقط! فإذا ما أغناه الله غاب عن صلاة الجماعة؛ ولذلك قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49]. والله تبارك وتعالى هو المتفرد بامتحان عباده، وقد أمرنا أن نتعوذ من الفتن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال). ويقول الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:5] جاء في التفسير: أي: لا تظهرهم علينا فيفتنونا عن ديننا، ولا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا. والله تبارك وتعالى حين يبتلي الجماعة المسلمة لا يبتليها ليعذبها وإنما يبتليها ليهذبها؛ وهناك كلام طيب للشيخ عبد الكريم زيدان في سنة الابتلاء يقول: والمحن إن كانت مما جرت به سنة الله في ابتلاء عباده فهي تمحيص وتمييز للصادق من الكاذب، وللخبيث من الطيب، وهذه السنة تسري على الجماعة المسلمة، ولكن حذار أن تجلب الجماعة المسلمة المحن لنفسها أو تستعجل وقوعها لها، مدفوعة بالحماس لنصرة الإسلام أو مستحضرة في نفسها أن المحن والشدائد لابد منها، وأنها بدون المحن تنصب عليها التهم بالضعف والخور والقصور في خدمة الإسلام. ويقول: استعجال المحن جهل من الجماعة المسلمة، أعني بهذا الجهل: جهل الجماعة المسلمة بمعنى سنة الله في الابتلاء والفتن والامتحان وما يجب عليها. يقول: لا يعني ذلك وجوب أو استحباب أو إباحة أن تجلب الجماعة المحن لنفسها وتتعمد الوقوع فيها، كما لا تعني هذه السنة عدم جواز الحذر أو الوقاية! فالموقف الصحيح للجماعة المسلمة أنها لا تستغرب الفتن إذا أصابتها المحن أو الشدائد، ولكنها لا تستعجل الوقوع فيها ولا تتمنى الوقوع فيها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو)، ويقول الله تبارك وتعالى عن نبيه إسماعيل: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لم يقل: ستجدني من الصابرين؛ فالذي يصبر من صبّره الله تبارك وتعالى. يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: رياء الجماعة المسلمة يجلب لها المحن، وقد يكون الدافع للجماعة المسلمة في سعيها لجلب المحن لنفسها هو رياؤها وطلبها السمعة لنفسها عند الناس، وهذا الدافع للعمل داء قديم في الجماعات وفي الأفراد، ولكن ضرره في الجماعة المسلمة أشد من ضرره بالأفراد والجماعات الدنيوية، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (بشر هذه الأمة بالثناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب) وإذا لم يحصل ثناء ولا رفعة ولا تمكين في الأرض فذلك لأنه يوجد رياء، وليس هناك إخلاص. وأيضاً من المحاذير في هذا الباب وفي هذه السنة: أنه (لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه)؛ وهذا حديث صحيح: كيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيق) أي: أنه يعرض نفسه لأمر يعلم أنه يؤدي إلى الفتنة، وأنه سيحلق لحيته. فالإنسان يتقي الله تبارك وتعالى في إخوانه، ويتقي الله تبارك وتعالى فيمن حوله وفيمن وراءه.

سنة الله تعالى في أخذ الظالمين بالظالمين

سنة الله تعالى في أخذ الظالمين بالظالمين وأيضاً من سنن الله تبارك وتعالى: قانون الظلم: فإن الله تبارك وتعالى حرّم الظلم على كل شيء، وأن الظالم لا بد له من عقوبة في الدنيا قبل الآخرة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة به في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم). وانظروا في تاريخ مصر أو في تاريخ الدول قاطبة: كيف حال الظالمين؟ وأين حال الظالمين؟ ذهبوا إلى مزبلة التاريخ، مشيعين بلعنات الصادقين؛ فهؤلاء أرادوا أن يدخلوا التاريخ فدخلوا التاريخ من أنجس أبوابه. فمن السنن أن الله تبارك وتعالى قد يعاقب الظالم بتسليط ظالم عليه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] يعني: ينتقم الله تبارك وتعالى من ظالم بظالم، ولذلك كانوا يقولون للحسن البصري: ندعو على الحجاج؟ نخرج على الحجاج؟ قال: إن الحجاج كان عقوبة من الله تبارك وتعالى، وعقوبة الله لا تغير بالسيف وإنما بالتوبة. وذلك أن أهل العراق لما ظلموا وخرجوا عن طاعة علي رضي الله عنه دعا عليهم كما يقول الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية فقال: اللهم سلط عليهم فتى ثقيف الذيّال الميّال يبيد خضراءهم، ولم يولد الحجاج بعد. يقول الإمام ابن القيم: فأعمال القوم عمّالهم، يعني: أن ولاتنا على قدرنا، وإن ولاة الصدر الأول من الصحابة على قدرهم، ويأبى عدل الله أن يولي علينا أمثال معاوية بن أبي سفيان فضلاً عن أبي بكر وعمر. والعجيب أنه إذا اختلفت الجماعات الإسلامية لا يلجئون إلى مثل تحاكم معاوية وعلي رضي الله عنهما، فإن علياً لما اختلف مع معاوية وحدث بينهم من القتال ما حدث، قال لـ ضرار: يا ضرار! صف لي علياً؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: والله لا أعفيك، فجعل يصف علياً قال: كان غزير الدَمعة، قصير الثوب، أشهد والله لقد رأيته في ظلم الليل وهو يتململ تململ السليم ويقول: يا دنيا! إليكِ عني لقد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها. قال: كيف حزنك عليه يا ضرار؟! قال: كحزن من ذُبح وحيدها في حجرها. فبكى معاوية حتى بل ثوبه وقال: رحمك الله يا أبا الحسن! وأنت اليوم إذا اختلفت مع أخ لك فإنك تسبه وتلعنه، يعني: كل حسناته تضعها في التراب ولا ترى فيه إلا الشيء السيئ؛ هذا في تعاملات الناس مع إخوانهم، ولم نصل بعد للخلافة ولم نصل إلى الإمبراطورية، بل ما زلنا على الرصيف نمشي، ومن الناس من يقول: نعم والله العظيم، لقد حصل من فتنة علي ومعاوية الضرر الكثير وذهبت الألوف المؤلفة، وهاهو ابن القيم يقول: ويأبى عدل الله أن يولي علينا أمثال معاوية فضلاً عن أمثال أبي بكر وعمر، يعني: ليس من سنة الله في الكون أن يولي علينا أمثال أبي بكر وعمر إلا إذا كنا على نهج الصحابة تماماً، قيل لأمير المؤمنين علي: ما بال الثورات قد كثرت في عهدك ولم تكثر في عهد أبي بكر؟ قال: لأن أبا بكر كان أمير على مثلي وأنا اليوم أميراً على أمثالكم، كما تكونون يولى عليكم.

سنة الله في الظالمين أنهم لا يفلحون أبدا

سنة الله في الظالمين أنهم لا يفلحون أبداً ومن سنة الله تبارك وتعالى أن الظالم لا يفلح أبداً: يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:135]. ويقول الله تبارك وتعالى مبيناً أن الأمة تهلك بظلمها: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام:45] أي: تهلك الأمم بالظلم، وهلاك الأمم الظالمة له أجل محدود، فقد يملي الله تبارك وتعالى للظالم ولكنه إذا أخذه لم يفلته.

سنة الله أن الدولة تبقى مع كفرها ولا تبقى مع ظلمها

سنة الله أن الدولة تبقى مع كفرها ولا تبقى مع ظلمها وأيضاً من سنن الله تبارك وتعالى: أن الدولة قد تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم: يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فالدولة الكافرة قد تكون عادلة، بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس، والناس أنفسهم لا يتظالمون فيما بينهم، فهذه الدولة مع كفرها تبقى، وهذه سنة الله في الكون؛ إذ ليس من سنته إهلاك الدولة بكفرها فقط، لكن إذا انضم إلى الكفر ظلم حكامها للرعية، وتظالم الناس فيما بينهم هلكت هذه الدولة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقول أيضاً: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، حتى وإن كان الناس مسلمين فلن يبقوا وهم ظالمون، فليتقوا الله تبارك وتعالى حتى لا تخرب البلاد؛ فمن آثار الظلم خراب البلاد، يقول الإمام القرطبي: إن الجور والظلم يخرّب البلاد بقتل أهلها وانجلائهم منها، وترفع من الأرض البركة، يقول الله تبارك وتعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52].

سنة الله تعالى في خلاص الصالحين من فتنة الظالمين

سنة الله تعالى في خلاص الصالحين من فتنة الظالمين ومن سنن الله تبارك وتعالى أن الصالحين لا يفتنون من الظالمين على الدوام: ففي صحيح الإمام البخاري: قال إبراهيم النخعي: كان الصحابة يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا. والتعاون مع هذه السنة أن الإنسان لا يركن إلى الذين ظلموا، يقول سعيد بن المسيب: لا تملئوا أعينكم من أعين الظلمة إلا وأنتم لهم منكرون؛ حتى إنهم كانوا يتحاشون الدخول على الأمراء أيام دولة الخلافة، فقد كان سعيد يقول: إذا رأيت العالم يرتاد مجالس الأمراء فاعلم أنه لص.

الأسئلة

الأسئلة

التحذير من خرافات الصوفية

التحذير من خرافات الصوفية Q أعلمكم بأنني بعد عناء كبير وبحث وتنقيب هداني الله تبارك وتعالى إلى أصحاب الدعوة الصحيحة، ألا وهي الدعوة السلفية، فهي الفرقة الناجية إن شاء الله، بعد أن كنت قبورياً صوفياً، وأطلب من العلماء أن يكثروا من دروس العلم، وأن يكثّفوا جهودهم لهداية الناس وخاصة ضد الصوفية، فهي الخطر الدائم ضد التوحيد، وأقسم لكم بالله إنهم يقولون كلاماً ويعتنقون معتقدات أكثر كفراً وشركاً من اليهود والنصارى والكفار عامة؛ فأحيطكم علماً أن هذه الطرق الصوفية شركية تسري وتنتشر بسرعة الصاروخ، ولها جنود يعملون على انتشارها، وأصحاب الدعوة نائمون عن هذا! فهم أكثر خطراً من العلمانيين؛ فهم يجعلون من سيدنا محمد إلهاً، كما أُعرّفك أنني من بلدة تابعة لمحافظة المنية ولا يوجد فيها أكثر من عدد الأصابع يتبعون الدعوة السلفية، ومعظم أهل البلدة يتبعون الطرق الصوفية، وعددها يقرب من الثلاثين ألفاً. وبعد فمرفق هذا الخطاب أحاديث يوزعونها على الصوفية، وهي بعض من أحاديث كثيرة. الحديث الأول: نور النبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله نوري قبل كل شيء)؟ A وهو حديث لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم. وأيضاً يقول الشيخ الشعراوي نسأل الله أن يعفو عنا وعنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر!) وهذا القول الذي ينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أساس له من الصحة، وأصل هذا راجع لنظرية عند الهنود وعند محيي الدين بن عربي اسمها: الحقيقة المحمدية، فالهنود يقولون: أول ما خلق الله الكلمة، وبالكلمة خلق كل شيء؛ هذا اعتقاد الهنود في كتابهم: زندة فتة، والصوفية يقولون في الحقيقة المحمدية: أول ما خلق الله الحقيقة المحمدية وبها خلق كل شيء؛ وهذا مخالف للفطرة وللعقل السليم؛ لأن أبا البشر خُلق من طين، ثم جعل نسله من ماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من نسل آدم، من سلالة من ماء، هذا هو الصحيح. وكان هناك عندنا شيخ صوفي آثاري كبير يقول: الذين يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد ولادة طبيعية، مثل ما يجري ما بين الرجل وامرأته من جماع صحيح هذا يستحق الضرب! فالرسول صلى الله عليه وسلم شق له فتحة غير المجرى التناسلي تماماً خرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل هذا مع الشركيات التي عنده يقول لهم: الجمعة الآتية سأكون في البلدة الفلانية، وهكذا ضربت الصوفية بشركياتها على البلدة. ومن الصوفية من يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات:7] صلى الله عليه وسلم، فطالما أن هذا قول لا يتبدل، ويعلم أن فيكم رسول الله؛ إذاً: يقولون بنظرية التناسخ، فيقولون: انتقلت روح النبي صلى الله عليه وسلم إلى قائم العصر الذي يدعى عز الدين ومعنى ذلك: أن هذا الكلام يقول بالتناسخ الذي يقول به الفلاسفة.

الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة

الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة Q كيف نوفق بين أن ندعو إلى الله تبارك وتعالى ونحن نتوقع البلاء، وبين ألا نعرِّض أنفسنا لما لا نطيق؟ A الإنسان لا بد أن يعرف أن هناك حداً معيناً للتعامل مع الظالمين، فهو مثلاً يعلم أنه مهما استخدم القوة المسلحة لن يغيّر شيئاً، فيستجلب الضرر على نفسه وعلى جماعته ودعوته، كما وقع معنا ونحن في بني شريف، فإن مجرد حصول اعتداء على ضابط شرطة؛ أسفر عنه الضرر على بقية الدعاة، فقد حبس ثلاثمائة وخمسون داعية، فالأصل فيهم وإن كانوا ظالمين أنهم مسلمون، وإهدار دم المسلم نحاسب عنه أمام الله تبارك وتعالى، ومتى رخُص الدم رخُص كل شيء، فالإنسان يتقي الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] ليست على عجلة، والمفروض أن الحركات الإسلامية تعي الدرس جيداً، وماذا بقي حتى يفيق الناس ويتقون الله تبارك وتعالى فيما تبقى من الحركة. فقد قامت الحركة الإسلامية قبل عام (1981م) منطلقة من المدينة الجامعية، حتى قال مدير المدينة الجامعية: يا إخوة! كأنكم دولة داخل دولة، فالمطعم نحن الذين نشرف عليه، والذي لا يصلي نأتي به ليصلي، والدجاج يذبح بطريقة إسلامية، ولا يوجد نصراني في المدينة، فقد جعلناها مدينة إسلامية، إلى أن انتشر خبرها أمام مجلس الشعب، وتكلمت بها إذاعة بريطانيا، ولكن الناس لم يرعوا هذه النعمة، فوالله لقد كنا نفعل في المدينة ما لا يفعله مدير المدينة الجامعية نفسه، أما الآن فإن الدعوة في القرى محاصرة، ومداخل المحافظات ومخارجها محاصرة، فأنت قد تدمر دعوتك بسبب تصرفك.

علامات البلاء

علامات البلاء Q كيف أعرف أن إنساناً مبتلى من الله عز وجل، وهل هناك علامات لذلك؟ وما الذي يجب على الناس في شدة البلاء؟ A إن أعطاك الله مالاً ثم نمت عن صلاة الفجر شهراً أو سنة فهذا بلاء؛ فكلنا أعلم ببلائه والله أعلم، وإن أعطاك الله زوجة لا تعينك على الطاعة فهذا بلاء، وإن أعطاك الله أولاداً يكثر منهم الأخطاء فهذا بلاء، وكل أعلم ببلائه.

حكم المسافر الذي يدخل المسجد وقد بقي من الصلاة ركعتان

حكم المسافر الذي يدخل المسجد وقد بقي من الصلاة ركعتان Q رجل كان في سفر فدخل المسجد فوجد جماعة وعلم أنه بقي من الصلاة ركعتان فنوى القصر وصلى ركعتين، فما حكم صلاته؟ A هذا القول جائز في قول مرجوح عند الأحناف، ونقل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ولكن هذا مرجوح وضعيف، والعمل على خلافه والله أعلم.

السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر

السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر Q هل يجوز صيام التاسع والعاشر والحادي عشر من هذا الشهر، ثلاثة أيام متصلة؟ A نعم، هذه هي السنة والله أعلم.

جواز فطم المرضعة طفلها قبل عامين

جواز فطم المرضعة طفلها قبل عامين Q ما حكم الإسلام في امرأة حامل تُرضع طفلها الرضيع، هل تفطم طفلها وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]؟ A أقصى مدة للرضاعة عامان، ولكن يجوز لها أن تفطمه قبل ذلك، والله أعلم.

وجوب ستر المعاصي ما لم يكن صاحبها مجاهرا بها

وجوب ستر المعاصي ما لم يكن صاحبها مجاهراً بها Q شاب أقبل على علاقة مع سيدة متزوجة؟ A الستر أولى يا إخوة! اتقوا الله تبارك وتعالى.

وجوب الذهاب إلى طبيب مسلم

وجوب الذهاب إلى طبيب مسلم Q إني مسافر للعمل في الخارج، وأشكو من خشونة في الركبة وذهبت للعلاج عند طبيب نصراني فقال لي: لا تثن ركبتك، وصلِّ على كرسي؟ A اذهب إلى طبيب مسلم أولاً، والخشونة في الركبة قد تكون من نقص اليود وغيره، فمن الممكن أن تتعالج بسهولة جداً، والله أعلم.

حكم الجهر بالبسملة والإسرار بها في الصلاة الجهرية

حكم الجهر بالبسملة والإسرار بها في الصلاة الجهرية Q أغلب الأئمة في صلاتهم لا يجهرون بالبسملة، وهذا قول الجمهور، فلماذا يحرمون الناس من سماع البسملة؟ A لأنه هو الرأي الأقوى، والذي عليه جمهور أهل العلم.

حكم إعفاء اللحية

حكم إعفاء اللحية Q ما حكم إعفاء اللحية إذا كانت تسبب عقوق الوالدين؟ A لا تحلقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهذه فتوى الشيخ ابن باز.

نصيحة لمشاهدي مباريات كرة القدم

نصيحة لمشاهدي مباريات كرة القدم Q يا حبذا من نصيحة للشباب، يقولون: في هذه الليلة يبدأ كأس العالم لكرة القدم! A نحن لدينا مباراة كبيرة جداً في البوسنة والهرسك والفلبين، وهي جماجم أطفال المسلمين، فاتقوا الله تبارك وتعالى، فإن الرجال عندما تميل تميل النساء، ونحن لا نحرم شيئاً أحله الله تبارك وتعالى، ولكن اتق الله تبارك وتعالى واسأل نفسك هل تعطي لنفسك من دروس العلم والقرآن ما تعطيه لكأس العالم؟ فالواجب عليك أن تحمل هم الإسلام، فإن الشيخ ابن عثيمين أفتى أنه لا يجوز الذهاب إلى بلاد الكفر لمشاهدة مباراة كأس العالم، لكنك ترى السعوديين فرحين لوصولهم إلى نهائيات كأس العالم، وكأنهم حرروا القدس، فأفتى الشيخ ابن عثيمين بأنه يحرم ذلك، فنحن نقول: اتقوا الله تبارك وتعالى فما يجري في الدعوة من مباريات كثيرة تدار في الخفاء أولى أن تنتبهوا لها، فاللعب لا تستطيع أن تقول: إنه في ميزان حسناتك، ولكنك عندما تدعو واحداً سيكون في ميزان حسناتك: (لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها) فلو أنك ذهبت لأحد جيرانك وقعدت معه ناصحاً لكان أفضل لك، بدلاً من أن تقف مع ماردونا! ولن يجعله الله في ميزان حسناتك يوم القيامة، فنحن نريد من الإخوة أن يدعوا إلى الله تبارك وتعالى، ويعمروا المراكز دعوة إلى الله تبارك وتعالى.

المؤمن يتحرى الإخلاص في العمل

المؤمن يتحرى الإخلاص في العمل Q قد يعمل الإنسان العمل لا يرجو به إلا وجه الله ولكن قد تحدثه نفسه بما فيه الرياء؟ A ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما، فإذا أتاك الشيطان وأنت في صلاة وقال لك: أنت مراءٍ فزد فيها.

حكم الزواج العرفي

حكم الزواج العرفي Q نرجو إلقاء الضوء على حكم الزواج العرفي؟ A الزواج بوجود القاضي والشهود الأكثرون من أهل العلم يقولون: إنه زواج فاسد، قالوا: لا نكاح إلا بولي، والله أعلم. فما بالك بقولك: زوجتكِ نفسي، وقولها لك: زوجتكَ نفسي؟!

تحريم المجاهرة بالمعاصي

تحريم المجاهرة بالمعاصي Q ما حكم من ارتكب جريمة؟ A اتق الله يا رجل! واستر على نفسك يسترك الله يوم القيامة.

حكم صيام تاسوعاء وعاشوراء

حكم صيام تاسوعاء وعاشوراء Q ما حكم صيام تاسوعاء وعاشوراء من شهر محرم؟ A قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى الناس بموسى) ثم خالفهم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) فالإنسان يجمع بين صيام التاسع والعاشر مخالفة لليهود. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الصالحون والعصاة - حياتهم ومماتهم وميعادهم

الصالحون والعصاة - حياتهم ومماتهم وميعادهم لقد أرسل الله رسلاً، وأنزل كتباً ليبين للناس سبيل الرشاد، فكان من الأنام من اتبع نهج مولاه، وسار على طرق الحق، واتبع سبيل الهدى، فكانوا أعظم الناس قرباً إلى الله، وأحظاهم عنده. وفي المقابل هناك من الناس من اتبعوا الشهوات، وغاصوا في بحور الشبهات المظلمات، وأوقعوا أنفسهم في مستنقعات الملهيات، فخسروا أنفسهم، وضيعوا أعمارهم، وحازوا على أكبر خسارة، ونالوا أعظم ندامة.

ذكر بعض الآيات التي تميز الصالحين عن العصاة

ذكر بعض الآيات التي تميز الصالحين عن العصاة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد. فحديثنا عن الصالحين والعصاة حياتهم ومماتهم ومعادهم. وعندما نتأمل فإننا نجد الفروق بين الصالحين والعصاة قد تصل إلى خمسمائة فرق، وسنقف عند كل فرق ونترنم بقول القائل: وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا وحتى ولو لم تكن هناك نار أو آخرة. وأن نترنم بقول القائل: قوم تخللهم زهو بسيدهم والعبد يزهو على مقدار مولاه تاهوا به عمن سواه لهوا يا حسن رؤيتهم في حسن ما تاهوا فيا صاحبي! قف بي مع الحق وقفة أعيش بها وفداً وأحيا بها وفدا وقل لملوك الأرض تجهد جهدها فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى قال الله تبارك وتعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]. ولم يتكلم عن أصحاب النار وأهمل شأنهم وأعرض عنهم وجعلهم نسياً منسيا، وإنما ذكر أصحاب الجنة فقال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]. وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر:24]. وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]. وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:19 - 22]. وفي الجهل قبل الموت موت قلوبهم وأجسادهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]. وقال تبارك وتعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]. وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]. وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61]. وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]. وقال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود:24]. وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19]. وقال الله تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122]. وقال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:88 - 94]. وقال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد:35]. وهناك آيات كثيرة تزيد عن مائة آية في المقارنة بين العصاة وبين الصالحين.

بعض أقوال العلماء في التفريق بين الصالحين والعصاة

بعض أقوال العلماء في التفريق بين الصالحين والعصاة ومن أقوال أهل العلم، قال أحدهم: أفمن رغب إلى الله كمن رغب عن الله؟! أفمن بقي مع الله كمن بقي عن الله؟! وعزة سيدي! لا يسبق المقصر المجتهد أبداً ولو حبا إلى المجد حبواً. ويقول الحسن البصري: لا يجعل الله عبداً أسرع إليه كمن أبطأ عنه. ويقول أحدهم: أفمن كان في حال الوصال يجر أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسي وباله؟! أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعاني مشقة الكلفة؟! أفمن هو في روح إقبال الله عليه كمن هو في محنة إعراضه عنه؟! أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالي الكفران ووحشة العصيان؟! أفمن أيد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان؟! لا يستويان ولا يلتقيان.

تفريق الرسول الكريم بين الأبرار والفجار

تفريق الرسول الكريم بين الأبرار والفجار وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار). وقال صلى الله عليه وسلم: (عند الله خزائن الخير والشر مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لمن جعله الله مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر).

ذكر بعض الفروق بين الصالحين والعصاة

ذكر بعض الفروق بين الصالحين والعصاة وانظر إلى العصاة وإلى الصالحين، فمن وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟ فالأول كل عيشه مع الله عز وجل، وفي معية الله عز وجل، والله مولاه وناصره، وهو من حزب الله عز وجل، فماذا فقد إذا كان عزه بسيده؟ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. واجعل بربك كل عزك يستقر ويثبت فإن اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت والآخر إلهه هواه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]. وإلهه الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة). الأول في معية الله عز وجل، يصلي لله تبارك وتعالى ويثني عليه، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحيتان في البحار ليصلون على معلم الناس الخير) ويثني عليه الله عز وجل، فماذا يريد بعد ذلك من الخير؟ ويقول له الله عز وجل عند موته: (أن صدق عبدي) فماذا يريد بعد ذلك من الخير؟ فكفاه جزاء على الطاعة أن رضيه لها أهلاً، وأنه نظف مشاعره وأحاسيسه وقلبه وصدره وفرغه له، وجعل كل همه في طاعته وفي مرضاته، ويكفيه هذا وحتى ولو لم تكن هناك جنة، فما ظنه بصلاة الله عليه، واستغفار حملة العرش له، ودعاء النبيين له قبل وجوده في دار الدنيا، كما قال نوح عليه السلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]. وكما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فماذا يريد من الخير بعد ذلك؟ يضاعف له العمل القليل الذي ربما احتقره وربما لم ينظر إليه، وإذا عاد أخاً له في الله عز وجل مريضاً بعث الله تبارك وتعالى على مدرجته سبعون ألف ملكاً يستغفرون له حتى يمسي، وهذا الكلام نوقن به ونعلمه. وما ظنك بأن يستغفر لنا من أول النهار إلى آخره سبعون ألف ملك وأن نكون في معية الله عز وجل؟ فماذا تريد بعد ذلك؟ فعفوه يستغرق الذنوب، فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال، فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول، فكيف وده؟ ووده ينسي ما دونه، فكيف لطفه؟ ولطفه تطيب به الأرض، وكذلك الصالحون تطيب بهم الأرض، قال عليه الصلاة والسلام: (هم القوم لا يشقى جليسهم). قوم كرام السجايا أينما جلسوا يبقى المكان على آثارهم عطرا فهم يعطرون المكان بعطر تطيب به الأرض بفضل طيبهم، وتشتاق إليهم الأرض، بل تشتاق إليهم الجنة. وفي الحديث الصحيح الذي حسنه الشيخ الألباني يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة لتشتاق إلى علي وعمار وسلمان). وإن الجبل ينادي جبلاً آخر باسمه: هل مر بك ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال: نعم قال: أبشر، فالأرض تحس بوقع أقدامهم الطيبة. وعلى الطرف الآخر أناس تلعنهم الأرض وتستريح بموتهم، فقد مرت جنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (مستريح أو مستراح منه. فقالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: إن العبد الكافر أو الفاسق أو المنافق تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب). وفي الأثر: (إن هوام الأرض وعقاربها تقول: لعن الله ابن آدم منعنا القطر بشؤم معصيته)، فأرض تلعن ناساً يمشون عليها، وأرض تشتاق إلى مرور أقدام الصالحين عليها، فماذا نريد بعد ذلك؟

صور من عز الصالحين

صور من عز الصالحين وانظر إلى وجه هذا وإلى وجه هذا، وإلى عزة هذا وذل هذا، فالأول له العز كل العز فشيخ الإسلام ابن تيمية عندما أتى إليه السلطان محمد بن قلاوون يقول: إنك تعمل مع ملك التتر -أي: المغول- لنزع ملكي، قال: ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلساً. ويقول: أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت فهي معي، إن معي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني عن بلدي فنفيي سياحة، وإن سجنوني فأنا في خلوة مع ربي. إن المحبوس من حبس عن ربه وإن الأسير من أسره هواه. ولما منعوا سلطان العلماء أن يخطب في دمشق حتى يقبل يد سلطان دمشق الصالح إسماعيل قال: يا سبحان الله! أيها الناس! أنتم في واد وأنا في واد آخر، والله ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل أنا يده. فانظر إلى عز هؤلاء حتى وهم في سجنهم. وشيخ الإسلام ابن تيمية لما مات دخل عليه يغسله الحافظ المزي ومعه أربعة من حفاظ الحديث، وما استطاع ساجنوه أن يخرجوا في يوم موته إلى الشوارع أبداً؛ خوفاً من بطش العامة بهم. فانظر إلى سجين يسجن ساجنيه وهو ميت. فأي عز بعد هذا. وهذا الفراء فقد كان ابنا المأمون يأتيان له بنعلين ليلبسهما. ولما حبسوا عز الدين بن عبد السلام أراد الصالح وهو يكلم ملوك الفرنج أن يتودد إليهم، فقال: أتدرون من هذا الذي يقرأ في ظلمات الليل في خيمته القرآن؟ قالوا: من؟ قال: هذا أكبر قسيسي المسلمين -أي: أكبر شيخ عند المسلمين- حبسته من أجلكم؛ لأنه حرم بيع السلاح لكم. فقال أكبر ملوك الفرنجة: لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه ولشربنا مرقته، أي: لجعلنا غسيل رجليه مرقاً وشربناه؛ لأنه رجل مبارك. فهذا هو عز الصالحين.

صور من ذل العصاة

صور من ذل العصاة وأما ذل العصاة فيقول أحدهم: إني لأعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وامرأتي. ويقول الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. وانظروا إلى قول المخلوق للمخلوق: أناس أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا فإن خانوا فما خنا وإن عادوا فقد عدنا وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى أيها المعرض عنا إن إعراضك منا لو أردناك جعلنا كل ما فيك يردنا أي: لو أنك نظيف ولك قيمة ومنزلة عندهم لرفعوك كما يقول الله تبارك وتعالى، ولكنك متمسك بالطين والوحل، وتعيش في الأرض بين الديدان والحشرات ومستنقع الهوام ولعب الأطفال ولا تنظر إلى السماوات أبداً، ولا تنظر إلى جمال الإسلام أبداً. إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها

نور وجوه الصالحين وظلمة وجوه العاصين في الدنيا والآخرة

نور وجوه الصالحين وظلمة وجوه العاصين في الدنيا والآخرة وعند المقارنة بين وجه هذا ووجه هذا فإن الشيخ إبراهيم عزة والشيخ صفوت نور الدين كانا إذا رؤيا ذكر الله. ولم يسلم رجل بالنظر إلى وجه أحد الصالحين مثل ما حصل مع الحافظ عبد الغني المقدسي، فقد جلس معه رجل طول الليل ورأى بكاءه وصلاته فزفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره وأسلم. وكانوا يصطفون في الطرقات لرؤية وجوه الصالحين، ويقولون: الوجه هذا يذكر بقيام الليل، والوجه هذا يذكر بصلاة الفجر جماعة، وهذا يذكر بالمسح على رءوس اليتامى. فقد كانت وجوههم نيرة بطاعة الله عز وجل. قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. وعلى الطرف الآخر وجه كلما نظرت إليه ذكرك بالظلم وبسب الدين وبترك الصلوات وبالكبر، وبكل ما هو قبيح على وجه الأرض. وإذا رأى الشيطان طلعة وجهه حيا وقال: فديت من لا يفلح فأين هذا من ذاك؟ قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]. وقال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:41]. فهم زرق العيون سود الوجوه، وهذا أقبح منظر عند العرب. قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]. وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42]. فهم خاشعة أبصارهم منكسة رءوسهم في يوم القيامة، قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97]. وقال عز وجل: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]. فهل يستوي الوجهان؟ وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]. وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].

الصلاح يعلي من قدر الإنسان ولو كان عبدا خادما

الصلاح يعلي من قدر الإنسان ولو كان عبداً خادماً وقبل أن تنظر إلى فكر هذا وفكر هذا، وإلى نهار هذا ونهار هذا، وليل هذا وليل هذا، وزوجة هذا وزوجة هذا، وطفل هذا وطفل هذا، وسماع هذا وسماع هذا، والصفات الخلقية العظيمة لهذا والصفات الذميمة لهذا، وجار هذا وجار هذا، انظر لخادم هذا وخادم هذا، أي: الخدام في بيوت الصالحين وفي بيوت العصاة، فهذا عنده خدامة سيلانية بالدولار، والثاني خادمه سالم مولى أبي حذيفة، والسيدة عائشة تحتبس ليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: (ما حبسك عنا يا عائشة؟ فقالت: رجل حسن الصوت يتهجد بكلام الله عز وجل، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بـ سالم مولى أبي حذيفة، فيقول له: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك). ولما كان يوم اليمامة وانكشف صف المسلمين أمسك سالم براية المسلمين، فقالوا: يا سالم! إنا نخشى أن نؤتى من قبلك. قال: بئس حامل القرآن إذاً أنا، ثم أمسك اللواء بيمينه فقطعت يمينه، ثم أمسك اللواء بيساره فقطعت يساره، فضم اللواء إلى عضديه وهو يتلو قول الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. والخادم في البيت المسلم مثل أبي العالية رفيع بن مهران كان يختم القرآن يومياً حتى نهاه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل يختمه كل ثلاث. والخادم في البيت المسلم مثل: سعيد بن جبير مولاهم، والحسن البصري مولاهم، وطاوس بن كيسان اليماني مولاهم، وعطاء بن أبي رباح مفتي الحرم، فهم سادة، نعالهم فوق جباه أبناء الدنيا جميعاً. وأبناء الآخرة تخدمهم الملوك، وقد كان عطاء بن أبي رباح وهو عبد، وكان مفتي مكة، وأعلم الناس بالمناسك، وكان عبد الملك بن مروان يأتي به فيرفعه على سريره وقريش تحته يعلمهم، وكان عطاء بن أبي رباح أعور أفطس الأنف أشن أعرج أسود، ثم بعد ذلك عمي، ورغم هذا كله كان سيد الناس، وكنت إذا نظرت إليه لا تأبه له، فإذا تكلم علمت أنه مؤيد، وكأنما تنطق على لسانه الملائكة، هذا عطاء بن أبي رباح. وكذلك كان الحسن البصري، فهؤلاء كانوا موالي، وكانوا عبيداً. فأبناء الآخرة تخدمهم الملوك والخلفاء، فالشيخ ابن باز حمل نعشه أمراء السعودية. وأبناء الدنيا تخدمهم الإماء والعبيد، وانظر عندما يكون خادمك عبداً ولا يكون ملكاً. أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي. (ولا يجعل الله من أسرع إليه كمن أبطأ عنه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

مقارنة بين قلوب وهموم الصالحين والعصاة

مقارنة بين قلوب وهموم الصالحين والعصاة الحمد لله وحده لا شريك له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: وانظر إلى قلب الصالح وإلى قلب العاصي، فالصالح قلبه سليم، سلم مما سوى الله عز وجل، وجعل همه في الله عز وجل، فهو مخبت منيب، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]. وعلى الطرف الآخر قلب قاس. وفي القلب الأول يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم في أرضه قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس ذو القلب المخموم. قالوا: وما القلب المخموم يا رسول الله؟! قال: الذي لا غل فيه ولا حقد ولا حسد). وقلب العاصي فيه أغلال وأنكال، وعليه الران، فهو قلب مسود قاس ممسوخ، ومن الناس من يمسخ قلبه فيصبح كالكلب، ومنهم من يمسخ قلبه فيصبح كالخنزير فيترك الطيبات، وتكون العقوبة على القلب: الران والأغلال والصد والشد والقفل والصمم والبكم والغشاوة وتقليب الأفئدة وإنكار القلب وجعله غافلاً، وكل هذه عقوبات على القلب. فهنا بساتين تزهر، وهناك نتن يفوح وقلوب دنسة، لم يرد الله تبارك وتعالى أن يطهرها. وانظر إلى هم الصالح وهم العاصي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه). وإي والله! من جعل الهم هماً واحداً فجعله في ذات الله عز وجل كفاه الله سائر همومه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها). تجده يقول لزوجته: نحن اليوم نريد أن نضع جدولاً لمدة ثلاثة أشهر ننضم فيها جدولنا في الصيف ونذهب بالأولاد إلى كذا وكذا، وهذا هو أمره، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]. وقال: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:30]، هذا هو الشيء الوحيد الذي يعرفه ويريده، فنهاره مهتم بالدوري، يذهب لمشاهدة مباراة كذا وكذا، ولا هم له إلا هذا، ولا تمر الآخرة على باله مطلقاً في لحظة من نهار. والصالح رجل همه أن يسارع في الاستيقاظ في السحر؛ حتى يفيق قلبه من غفلة الدنيا، ولو شممت نسيم الأسحار لاستفاق منك قلبك المخمور، ورياح الأسحار لا يشمها مزكوم الغفلة؛ لأنه عند السحر لابد أن ينام. وفي الأثر: (يا جبريل! أنم هذا وأقم هذا). كما قال العلامة ابن رجب الحنبلي. همه أول ما يستيقظ أن يكون أول داخل إلى المسجد في صلاة الغداة -أي: صلاة الفجر- لأنه يعرف أنه أول من يخرج من بيته لصلاة الغداة يرافقه ملك برايته حتى يدخل معه المسجد، ثم يعود معه إلى بيته، فأراد أن ينعم بصحبة الملك، فهو قد جعل همه أن يسمع أذان المؤذن في صلاة الفجر وهو في المسجد، فإذا ما صلى الفجر في الصف الأول جلس في مصلاه إلى الشروق، ثم بعد ذلك يصلي ركعتين، فتكتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة. يقول سعيد بن المسيب: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام بالمسجد. ويقول إبراهيم التيمي: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فانفض يديك منه؛ فإنه لا يفلح. فإذا أشرق الضحى تجده واقفاً صافاً قدمه بين يدي مولاه ليصلي صلاة الضحى، والقاسم بن محمد قال: ذهبت إلى بيت عمتي عائشة بعد صلاة الصبح فإذا هي قائمة تصلي الضحى وتقرأ قول الله عز وجل: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28]. قال: فعدت إلى منزلي، ثم دخلت السوق واشتريت حاجتي، ثم أتيت، فإذا هي قائمة تردد نفس الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]. والصالح إذا أشرق عليه الصبح يقول: يا نفس! هذا يومك الذي فيه تموتين، أنت ستموتين هذا اليوم ولن يأتي المغرب عليك، فيظل في طاعة إلى الغروب، يسابق خروج الروح. ويبدأ نهاره كما بدأ أبو هريرة بالتسبيح اثنا عشر ألف تسبيحة، ويقول: إنما أسبح بقدر ذنبي. والصالح لا يترك زوجته تذهب أين شاءت، فتركب الأوتوبيس، مبهذل حالها على سلم الأوتوبيس فما هي عيشة الهم هذه؟ فبدلاً من أن تجلس في بيتها تسبح أو تسمع قراءة الشيخ خالد القحطاني أو الشيخ ابن باز أو ابن عثيمين، فتجلس تسبح وتنظف بيتها وتطعم أولادها، وليس لها هم إلا ذلك، وعندما تأتي تأكل مع زوجها تذكره بالآخرة، كما كانت تفعل رابعة بنت إسماعيل الشامية، كانت إذا جلست مع زوجها تلميذ الإمام أحمد تذكره بالآخرة، وأن الجنة فيها كذا، والنار فيها كذا، والعرض على الله كذا، فيقول لها: دعينا لا تنغصي علينا عيشنا، يعني: اللقمة التي نأكلها دعيها تنزل ولا تنغصيها علينا، فتقول له: لست أنا وأنت ممن ينغص عليه العيش بذكر الآخرة. وكان أحدهم في وقت النهار لو رجع من الحرب والجهاد في سبيل الله يجمع غبار المعارك في صرة؛ حتى يجعل من هذه الصرة لبنة توضع معه في القبر.

بيان بعض أخلاق الصالحين

بيان بعض أخلاق الصالحين حياة الصالح حياة غريبة، فإنك تجده في النهار شفتيه ذابلتين، مثل سيدنا أبو أمامة رضي الله عنه، قال: (يا رسول الله! دلني على عمل، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له)، فكان أبو أمامة لا يرى في بيته دخان بالنهار أبداً إلا في حضرة ضيف. والصالحون إذا مشوا على بقاع الأرض يمشون هوناً، {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]. ويسعون في مصلحة الناس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال عند الله سرور تدخله على مسلم، أو تطرد عنه جوعاً، أو تقضي عنه دينا)، وفي رواية: (أو تطعمه خبزا). الصالحون ملئت قلوبهم رحمة، فلا تجدهم إلا واضعين أيديهم على رأس يتيم، يمسحون بها على رأسه، ويطعمون اليتيم بأيديهم، فقد كان سيدنا أبو بكر الصديق -وهو خليفة- يحلب شياه اليتامى بالنهار. ولا يبغون من الخير إلا رقة الأحاسيس في دار الدنيا، وطهارة القلب ونعيمه، بدلاً من أن يصعد القلب كأنما يصعد في السماء في ضيق النفس والقلب وضيق الصدر واسوداد القلب. وحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم والله العظيم! إن هذه الجنة في دار الدنيا قبل دار الآخرة، يقول ابن تيمية: إن لله جنة في الأرض من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

مقارنة بين ليل الصالحين وليل العصاة

مقارنة بين ليل الصالحين وليل العصاة وهناك أكثر من خمسمائة مقارنة بين الصالحين وبين العصاة، وتجد هذا عند الموت، بل تجده عند الموت الأول في ليل هذا وفي ليل هذا. فليل الصالح دموع ورجاء وأمل بالله عز وجل، وخوف يقطع نياط القلوب الطاهرة، ودعاء ورغبة وذل على باب سيده، يقول: أسألك بعزتك وذلي، وأسألك بغناك عني وحاجتي إليك إلا رحمتني، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، سؤال من رغم لك أنفه، وذلت لك رقبته، وخضع لك جميع أمره. والصالح لا تجده في الليل إلا هكذا. والآخر لا تجده إلا في صياح في كازينو أو في ملهى ليلي. فالصالح يصف قدميه بين يدي مولاه، ولا يأتي فراشه إلا زحفاً، فإذا أتى إلى فراشه بكى وقال: سبقني العابدون وقطع بي، ويقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء! وهل رضيتك لله طرفة عين؟ ويقول أحدهم: إني لأصلي الركعتين لله عز وجل، أقوم منهما بمنزلة السارق والزاني الذي يراه الناس، ينكرون أنفسهم ويحتقرونها. ويقول مالك بن دينار: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف. ويقول محمد بن واسع: لو كانت للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي. فكانوا يمقتون أنفسهم، ويظلون طوال الليل قانتين لله عز وجل، فإذا كان السحر مالوا إلى الاستغفار. يقول الحسن البصري: وكأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. وكأنهم باتوا مصرين على القبائح والمعاصي. فهل يستوي ليل هذا وليل ذاك؟ لا يستويان. والصالح سماعه سماع النبيين والصديقين من أحسن الحديث والطيب من القول؛ سماعه القرآن الكريم يردده في صدره، ويردد الآية ويتعجب كيف ينام الناس عن هذا القرآن! يقول أحدهم: إني لأتعجب لحفظة القرآن -أو لقراء القرآن- كيف يذوقون النوم؟ وكيف ينامون ومعهم القرآن؟ أما والله! لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا. والعاصي رجل بال الشيطان في أذنيه، وعقد الشيطان على قافية رأسه: عليك ليل طويل فنم ولا تقم، فليل هذا ليل كله غفلة، ينام حتى عن صلاة الظهر. فلا يستوي هذا وذاك.

مقارنة بين الصالحين والعصاة عند الموت

مقارنة بين الصالحين والعصاة عند الموت والعاصي عند سكرات الموت كما قال الله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]. وأنت عندما يضربك أحد -كالمعلم- في دار الدنيا تجد لضربه ألماً، فكيف بضرب الملائكة، كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]، وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93]، قال ابن كثير: أي في الضرب. ويقول ملك الموت للصالح عند سكرات الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة -إن كانت في الجسد الطيب- إلى روح وريحان ورب غير غضبان. قال ابن القيم: إن العبد وهو يتقلب في نعيم الجنة فيذكر نعيم الدنيا فلا يساوي شيئاً مقارنة ببشارة ملك الموت له عند خروج الروح. واليوم أربعة مليون شخص شيعوا جنازة الأميرة ديانا، وهذه قمة اللهو. وإذا نظرنا إلى عدد المشيعين للعبد المؤمن فإنه عندما تخرج روحه يضعها الملائكة في حنوط من حنوط الجنة، وكفن من أكفان الجنة، فتخرج منها كأطيب نفحة مسك على وجه الأرض، وينادونه بأحب الأسماء إليه كانت في دار الدنيا، ويشيعها من كل سماء مقربوها إلى السماء التالية. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما في السماوات موضع أربعة أصابع إلا وملك ساجد واضع جبهته لله). وسمك السماء الواحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، والمقربون يشيعون روح العبد الصالح حتى يصلوا بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين). وعلماء التفسير اختلفوا في معنى عليين، يعني: هل هي في السماء السابعة أو عند سدرة المنتهى أو في قائمة العرش اليمنى أو عند الله عز وجل؟ فأقل شيء أن روحه تكون في السماء السابعة فما فوق، فهي في علو دائم. وأما العاصي فيقول له: (اكتبوا كتاب عبدي في سجين) في الأرض السابعة، في حزر إبليس وتحت سيطرته، وروحه لا تفتح لها أبواب السماء، ولا تصعد في ملكوت السماوات، قال تعالى: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. والعاصي تجذب روحه جذباً، وذلك عندما تتفرق وتخاف وتنتشر في جسده فإن الملائكة يجذبونها جذباً، قال تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1]. وتخرج منها كأنتن جيفة على وجه الأرض، ولا تصعد إلى السماء، وينادى من قبل العرش: (أن كذب عبدي)، وكفاية عليك هذا لو لم ترض بجوار الله عز وجل.

نعت الله لأهل المعاصي بأقبح النعوت

نعت الله لأهل المعاصي بأقبح النعوت المولى عز وجل نعت أهل المعاصي والشاردين عن بابه ومن كفروا بأقبح النعوت، فنعتهم بالضلال، قال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]. ونعتهم بالغفلة، قال الله تبارك وتعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. ونعتهم بالتخبط في الظلمات، قال تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]. ونعتهم بالانحراف عن الصراط، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74]. ونعتهم بالسقوط والهوي، قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. ونعت قرينهم بقرين السوء قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38]. وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]. وقال الله تبارك وتعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]. ويقول الشيطان خطيبهم في النار، وانظر إلى من يكون خطيبه في الجنة ألا وهو نبي الله داود ذا الصوت الرخيم وصاحب المزامير، وصاحب النار يكون خطيبه نعيق البوم والشيطان: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]. فإذا سمعوا مقالته هذه مقتوا أنفسهم. ونعت الرجل الذي أعطاه العلم فأخلد إلى الأرض بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]، وليس هذا فقط، بل قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]. إذاً: فهو كمثل الكلب وأضل من الأنعام ومثل الحمار، ولا يوجد هناك نعت أسوأ من هذا ولا أقبح من هذا، إلا وألصق بهم ونسب إليهم. ويقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]. ويقول الله تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. ونعتهم بغيبة العقل وبالعلم القاصر وبالمجادلة بغير علم، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8]. وباتباع الظن، قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28]. وبالسفاهة، قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:140]. وبالمقت، قال تعالى: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10]. ووصف قلوبهم بالقاسية قال الله تبارك وتعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. وبالفسق وبفعل السوء، قال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} [البقرة:169]. وبظلم أنفسهم، قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231]. وبالكبر، قال تعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]. وبالريبة والشك، قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:45]. وبالغرام الشديد بكل شيء، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]. فإذا وجدت مسرحية جديدة هم عبدة لها، وإذا حان وقت مباريات كأس العالم، تجد شغله الشاغل هو وزوجته وأولاده أن يعملوا الأكل ويضعوه في الثلاجات؛ لأنهم مشغولون بكأس العالم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]. إلا الوادي الأفيح، وإلا وادي المسك، وإلا وادي المعاملة مع الله عز وجل، فهذا الوادي لا يعرفونه. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]. وإذا ظهرت أغنية جديدة فإنهم ينشغلون بها، وينشغلون بالبذلة الجديدة، وبآخر موضة جديدة، وبالأكل في المطعم الفلاني فهذا هو مبلغه من العلم، وهذا الذي يعيشه فقط، وليس معه شيء آخر، ولا يفكر في حاجة أخرى، وليس له هم للإسلام أو هم للدعوة أو لكذا أو كذا. وقد كانت زوجة أبي محمد حبيب العجمي تقول له: قم يا سيدي! فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، وبين يدينا طريق طويل وزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد سارت أمامنا إلى الجنة ونحن قد بقينا. فبالله عليك هل يستوي هذا وهذا؟ وسياسي كبير يقول: أنا حققت ثلاثة انتصارات: على ذبابة دخلت مخدع نومي وكانت تطن، وبعد ساعة قتلتها وانتصرت عليها! والثاني يقول: كان وزني خمسة وثمانين كيلو فعملت ريجيم وخفضت من وزني، ولا ألعب طاولة مع زميلي إلا وكان زميلي كل مرة يغلبني والمرة هذه غلبته أنا. فهذه ثلاثة انتصارات لا يتحملها القلب لدرجة أنه أصيب بالسكر، فإن كنت هكذا فأنت شبه رجل.

حجب الله للعصاة وفضحه لهم وتكريمه للصالحين

حجب الله للعصاة وفضحه لهم وتكريمه للصالحين ومن كان هذا حاله فإن الله حجب عنه مغفرته، قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء:137]. ورؤيته، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. ونظره وتزكيته لهم، قال تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77]. وحرمهم من النور، قال تعالى: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]. وينادى بهم على رءوس الأشهاد، ويقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود:18]، وهذه فضيحة مجلجلة، قال تعالى: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، فكيف هو حال العاصي إذا ضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه؟ وكيف إذا جعل له فراش من النار؟ وكيف إذا أتى إليه الشجاع الأقرع؟ الذي ينكره أحمد منصور؟ نسأل الله عز وجل أن يجازيه به إن لم يتب، وكيف إذا قال الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] فيبتدره سبعون ألف ملك أو مائة ألف ملك، كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه؟ وكيف إذا سحب على وجهه إلى النار؟ وكيف إذا سيق إلى جهنم وهو عطشان كما قال تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] وهذا بعد خمسين ألف سنة وقد تقطعت أعناقهم من شدة العطش؟ وكيف إذا حشروا إلى النار هكذا؟ وأما الصالحون فتقرب إليهم الجنة؛ لكرامتهم على الله، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]. ولا يسيرون إليها سيراً بل -والله- ركباناً، فكيف إذا تلقتهم الملائكة؟ وكيف إذا تلقتهم الحور العين على أبواب قصورهم؟ وخادم واحد من خدمك في الجنة يساوي الدنيا كلها ومن عليها، وإذا رأى قهرمانه في الجنة -وهو وكيل الخزنة- هم بالسجود له، فيقول له: ارفع رأسك، فيقول: كأنك ملك وأنا لا أعرف، فيقول: إنما أنا قهرمانك، وتحت يدي ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه. وآخر من يدخل الجنة له مثل عشرة أمثال الدنيا من يوم أن خلقها الله عز وجل حتى يحييها. وعند النظر في نعيم الجنة ونورها والمقارنة بين متاع هذا في الجنة ومتاع هذا في الجنة نجد بينهما ألف نقطة، ونقطة واحدة فقط كفيلة أن تعود بك إلى الله عز وجل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الصدق

الصدق الصدق منجاة، من عمل به نجاه، وهو من صفات المؤمنين، ومن خصال المتقين، ومن علامات الصالحين، فالفوز والفلاح معقود في كل كلمة صدق، والنجاة والخلاص متعلقة بكل كلمة حق. وقد حث الله عليه في كتابه الكريم، وحض عليه رسوله المصطفى في غير موضع من سنته المطهرة، والصدق لا يعني فقط صدق اللسان، وإنما هو صدق الجنان، والجوارح والأركان في جميع الأعمال والأقوال والأحوال.

فضل الصدق

فضل الصدق بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. ثم أما بعد: الصدق أساس هذا الدين، وعمود فسطاط اليقين، به تميز سكان الجنان من سكان النيران، أما كونه أساس هذا الدين فلا يدخل العبد في الإسلام إلا بتصديق من قلبه حتى وإن نطق بالشهادتين وخالف النطق قلبه فهو مخلد في النار، فأساس الإسلام: قول باللسان وتصديق بالجنان، وكما قالوا: إن العبد يعصم ماله ودمه بالنسبة للدنيا بالنطق بالشهادتين، ولكن المسلم الناجي عند الله عز وجل: من أتى بالنطق بالشهادتين ثم صدق القلب بما نطق اللسان. وهذه قد تظهر من فلتات الرجل أو تظهر من أعماله وإن لم يصرح بها. هب أن رجلاً نطق بالشهادتين أمام الناس، ثم أتى إلى مصحف فمزقه، ووضعه تحت قدمه وهو غير مكره ولا خائف ولا معتوه العقل، فهل يصدق أن هذا مسلم؟ فلو كان في قلبه أصل أعمال القلوب، وأصل التوقير لله عز وجل، وأصل الخوف من الله عز وجل، لما مزق كتاب الله عز وجل، فلا يدخل العبد في الإسلام إلا بتصديق القلب، والنطق بالشهادتين: يعصم بها المال والدم في ديار الإسلام، ولا يقتل الرجل طالما أنه نطق بالشهادتين ما لم يرتد بعد ذلك. الصدق به الفلاح في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، فالصدق هو الذي ينجي في عرصات القيامة، والكاذب كاذب حتى في عرصات القيامة، فلقد جاء في الحديث: أن الله تبارك وتعالى يقول لنوح أول نبي أرسله: (يا نوح هل بلغت؟! يقول: نعم، فيقول الله عز وجل لأمة نوح: هل بلغكم نوح؟ يقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول الله عز وجل: من شهودك؟ يقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته)، فيكذب قوم نوح أمام الله عز وجل، ولكنهم إذا رءوا النار تلتهب صدقوا: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15]، وعندما يقول لهم خزنة النار: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:8 - 9]. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة الذي رواه الإمام أحمد، وحسنه الحافظ ابن كثير، وحسن الإسناد الشيخ أحمد شاكر: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل لـ أبي هريرة: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة)، أي: الرجل الحقير التافه يتكلم في أمر العامة، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، وقال صلى الله عليه وسلم لأعرابي: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال أيضاً: (أفلح إن صدق).

من أخبار الصادقين

من أخبار الصادقين عبد القادر الحسيني رجل عظيم، استشهد وهو يدافع عن القدس، وابنه هو المسئول الآن عن ملف القضية الفلسطينية، هذا كان خريج الجامعة الأمريكية في القاهرة، وفي حفل التخرج، وبعد أن صعد المنصة ليتسلم شهادته، قال أمام الجميع: إنكم ما أتيتم لبلادنا إلا للتفجير والتنصير، وهناك كتب عدة في الجامعة تدعو إلى هذا، ثم أتى بالشهادة فمزقها ووضعها تحت قدميه. إن تصدق الله يصدقك. وهذا الرجل في أثناء حرب ثمانية وأربعين، وقد أوشكت القدس على السقوط، ذهب إلى سوريا يستنجد من اللجنة العربية لإنقاذ القدس، ويطلب سلاحاً يدافع به عن القدس، فلم يعطوه، فعاد مرة ثانية من سوريا وهو يقسم ألا تسقط القدس حتى يقتل في سبيل الله عز وجل، وظل بمدفعه يقاتل أربعة وعشرين ساعة متكاملة، والقوات التي أمامه تظن أنه كتيبة فدائية تقاتلها، حتى سقط الرجل شهيداً. إن تصدق الله يصدقك. مفتاح الصديقية، وهي درجة ثانية بعد النبوة، صدق في الأقوال، وصدق في الأحوال وهو الإخلاص وصدق في الأعمال واستواء السريرة مع العلانية ولقد كان رسول المولى عز وجل يسأله: أن يرزقه مدخل صدق، ومخرج صدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80]. وسيدنا إبراهيم سأل ربه فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2]. ومعنى: أدخلني مدخل الصدق أي: كل دخول في أي أرض يكون بالله ولله، كدخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقد خرج من دياره تاركاً وراءه كل شيء: الأهل والأحباب والمال، خرج فاراً بدينه، فلما أتى إلى المدينة وكان دخوله صادقاً بالله وفي الله أثر هذا الدخول في عبد الله بن سلام زعيم اليهود، قال عن يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: (لما نظرت إليه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله، فكان أول ما سمعته منه: أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، هذا مدخل الصدق. ومخرج الصدق: كل خروج يكون لله عز وجل، كخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وخروجه أيضاً من مكة لينشر دعوة الله عز وجل: ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ووده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء وخروج الكذب: كخروج أبي جهل في يوم بدر، قالوا له: قد أفلتت العير من محمد فارجع سالماً، قال: لا والله! والله لا نعود ولا نرجع حتى نمكث ببدر ثلاثة أيام، نشرب الخمور وتعزف لنا القيان، فتسمع بنا العرب فتهابنا، فأذله الله عز وجل في يوم بدر. كل خروج من البيت أو إلى أي مكان تكون فيه ضامناً على الله عز وجل وأنك ستخرج لله وفي لله، فهو خروج الصدق. ولسان الصدق: هو الثناء العطر من الناس بعد ممات الرجل، قال الله تبارك وتعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:108 - 109]. فاحذر أن يفضحك ميراثك يوم موتك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بجنازة: (مستريح أو مستراح منه، ولما سألوه عن المستراح منه؟ قال: العبد المنافق أو الكافر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب). ومقعد صدق أي: الجنة، وقدم صدق: ما تقدمه من إيمان بالله ورسوله، ولذلك فسروها: بأنها محمد صلى الله عليه وسلم، أو ما تقدم عليه وهي الجنة. الدين كله صدق، فمن زاد عليك في الصدق، فقد زاد عليك في الدين. قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال الله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ)) أي: الدين {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] أي: الصديق رضي الله عنه. يقول سيدنا علي: والذي نفسي بيده! إن الله سمى أبا بكر صديقاً، يعرفه المسلمون بنعته وصفته، وكثير من المسلمين لا يعرفون اسم أبي بكر الصديق الحقيقي، إنما يعرفونه بكنيته وبصفته. الصدق يرفع صاحبه، وانظر إلى الصديق الأنصاري ومنزلته في الأنصار كمنزلة أبي بكر في المهاجرين، وهو سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه لما قال: (يا رسول الله! امض لما أمرك الله به، فإنا والله صدق في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك)، وهذا الرجل حالف يهود بني قريظة قبل الإسلام فكانوا من حلفائه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعشر الأنصار: (قوموا إلى سيدكم) فأنزلوه، وكان مريضاً، وسأل الله عز وجل ألا يمته حتى تقر عينه من يهود بني قريظة، وقد قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا، ونالوا منه بألسنتهم، وكان قد أصيب سعد في أكحله، وكان الدم لا يرقأ، وبكى أبو بكر وبكى عمر وبكى النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل النبي حوله من يرقع جرحه، وما اندمل الجرح، فرفع سعد يده يدعو إلى السماء، وقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من يهود بني قريظة، قالوا: فوالله لقد حبس الشريان فما قطرت منه بعد ذلك قطرة واحدة، ثم حاصر النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة وقاتلهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وهم يظنون أنه سيجاملهم. وحكم فيهم سعد بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى نساؤهم وذراريهم، وهذا نفس الحكم الموجود في توراتهم المحرفة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد حكمت فيهم يا سعد! بحكم الله من فوق سبع سماوات). فتصوروا أن رجلاً يمشي على الأرض يوافق حكمه حكم الله عز وجل من فوق السماوات السبع، أي شرف لهذا الصادق أعظم من هذا. ثم قال سعد بعد أن قتل اليهود على ضوء سعف النخيل: اللهم افجره شوقاً إليك، فانفجر الشريان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى سعد كل يوم، ويسأل عن أخباره رفيدة، فلما أتى إلى رفيدة قالت: يا رسول الله! اشتد به الوجع، فأتى قومه بني عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، ونزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! من هذا الذي مات من أمتك؟ نزل اليوم إلى الأرض سبعون ألف ملك، ما نزلوا إلى الأرض قبل يومنا هذا). فالنبي صلى الله عليه وسلم أسرع المشي حتى قال الصحابة: (يا رسول الله! تقطعت شسوعنا ونعالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة). ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وجد أمه تنوح عليه، فقال: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد، أو إلا نائحة سعد)، جعلت تقول: ويل أم سعد سعداً صرامة وجداً وفارساً معداً. ولما حملوه قال المنافقون: ما وجدنا أخف حملاً منه، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قد حملته معهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن السرير اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ)، وفي رواية: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ)، وهذه هي الجائزة العظمى للصدق.

من أنواع الصدق

من أنواع الصدق الصدق في الإيمان والأحوال والأعمال، والصدق في النيات، والصدق في العزم.

الصدق في الخوف

الصدق في الخوف الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: الصدق في الخوف: ليس أن تدمع عيناك وأنت ترتكب المعاصي، ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه. كان مالك بن دينار يعظ قوماً، ثم بعد أن انتهى من موعظته التفت إلى النعل فلم يجدها، فقال: كلنا يبكي فمن سرق النعل؟ فالدموع ليست بكافية، ربما تكون دموع تماسيح. هل أنت صادق مع الله عز وجل؟ أم أن توبتك كتوبة شيخ ضعفت قوته عن ارتكاب المعصية، أو يدعي التوبة ويلتفت إلى الذنب الفينة بعد الفينة، ويتذكر حلاوة الذنب؟ فلو صدقت توبتك لصحت. فكل يوم يمر عليك ولا تعصي الله عز وجل فهو يوم عيد. وهذه هاجر أتى بها إبراهيم إلى جبال فاران موضع مكة الآن، ونظرت حولها فلم تجد إلا هدير الصحراء؛ فقالت: (يا إبراهيم! إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر، يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلن يضيعنا). هذا الكلام سهل، لكنه كلام امرأة ومعها رضيعها في الصحراء، وبعد قليل سيفارقها زوجها، ولن تجد بعد ذلك لا ابن ولا بنت، ولن تجد إلا الموت في الصحراء. فماذا تفعل المرأة برضيعها، وهو يتلبط من الجوع والعطش، فتهرول ما بين الصفا والمروة، ولصدقها يجعل الله عز وجل هذه الخطوات ركن من أركان الحج، فرفعها الله عز وجل بصدقها، ولما نزل إليها جبريل، قال: من أنت؟ ومن زوجك؟ قالت: أنا أم إسماعيل، وزوج إبراهيم، قال: إلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله، فقال: صدقت، وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله. ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإحسان جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، ولما صدقت في المعاملة مع الله عز وجل، وعلمت أن الله عز وجل هو خير كافل، وهو خير وكيل، ألقت بابنها الرضيع على صفحة النهر، وقد كانت ترضعه على خوف من فرعون وملئه، والآن تلقيه في اليم، والأم إذا خافت على ولدها ضمته إلى صدرها، فلم يقل لها: فضميه إلى صدرك بل (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)، وهذا من صدق التوكل على الله عز وجل. سبحان من جعل من موج البحر لموسى مستراحاً ومأمناً ومناماً، وجعل من النار لإبراهيم برداً وسلاماً. ويأتي هذا التابوت إلى قصر فرعون لتكون المعركة على أرضه. وكأنه يقال له: جندت كل جندك وكل القافلات من أجل هذا الطفل الرضيع! فسوف نسهل لك المهمة ونأتي به إلى قصرك. وتنظر الجواري فيلتقطن سيدنا موسى عليه السلام، وإنما يؤتى الحذر من مأمنه، ولا يؤتى فرعون إلا من قبل زوجته التي تعيش معه في غرفة واحدة، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، قالت زوجة فرعون: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، ونجاه الله عز وجل بأرق شيء، وهو المحبة التي ألقاها في قلب آسية، فلم تحمه الملائكة ولا غيرها، وإنما حماه الله بكلمة الحب: لا تقتلوه. وربي موسى في حجر فرعون، ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك.

الصدق في الأقوال

الصدق في الأقوال الصدق في الأقوال: أن يجتنب الإنسان ما أمكنه عن المعاريض، ويحاول أن يكون صادقاً، ويجنب نفسه كثرة المعاريض، نعم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ولكن يحاول الإنسان أن يخفف. ومن الصدق في الأقوال: أن يصدق الله عز وجل في مناجاته أثناء العبادات، فلا يقول أثناء الصلاة: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً. وقلبه في القاهرة مثلاً، ولا يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] ويكون عبداً لشهواته، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة)، فالصدق في الأقوال ينجي. روي أن صبياً وهو عبد القادر الجيلاني أثناء طلب العلم ذهب إلى بغداد، فأعطته أمه أربعين ديناراً، فخرج على القافلة التي كان يسير فيها قطاع الطرق، فأتى أحد اللصوص إلى الجيلاني فقال: ما معك؟ قال: أربعون ديناراً! فظن أن الولد يكذب، فأعاد عليه مرة ثانية، فقال: معي أربعون ديناراً، فأتى به إلى زعيم اللصوص، فقال: ما معك؟ قال: أربعون ديناراً، ثم أخرجها؟ قال: ما حملك على الصدق؟ قال: إني عاهدت أمي على الصدق! قال: يا سبحان الله! أنت تخاف أن تنقض عهدك مع أمك على الصدق، وأنا لا أخاف أن أنقض عهد الله عز وجل، ثم قال: أنا تائب على يديك، فقال اللصوص: أنت كبيرنا في التوبة كما كنت كبيرنا في قطع الطريق، وتابوا على يد الجيلاني وهو طفل صغير. والصدق منجاة، قال الجنيد في درجة الصدق في الأقوال: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب، مثل ربعي بن حراش رحمه الله وهو أحد التابعين، قالوا: ما كذب قط، وكان الحجاج طالباً منه ولديه ولم يكن له غيرهما، فعلم أن ربعي بن حراش يعلم مكان ولديه، فلما أتي به إلى الحجاج قال: أين ولداك؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون هما في البيت، قال: عفونا عنهما من أجل صدقك.

الصدق في المجاهدة والتوبة إلى الله

الصدق في المجاهدة والتوبة إلى الله والصدق في المجاهدة مع الله عز وجل: ألا تختار غير الله عز وجل، ولا تقدم عليه أحداً، قال الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] أي: اصطفاكم، فلا تختر على الله عز وجل ولا تقدم عليه أحداً، كما لم يقدم عليك ولا على المسلمين أحداً بأن اصطفى هذه الأمة. والصدق في التوبة مع الله عز وجل. فهذا بشر بن الحارث الحافي، الذي قال عنه الناس: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه، والإمام أحمد كان إذا سئل في مسألة عن الزهد والورع، قال: تسألوني عن الزهد وفيكم بشر؟ قالوا: إنه كان في بداية حياته ماجناً، وكان يسرق، وبينما هو يدعو إخوانه إلى ليلة عنده، إذ مر ذاهب بالباب فطرق قصر بشر بن الحارث، فلما خرجت إليه الجارية، قال لها: قصر من هذا، قصر عبد أم حر؟ فقالت له: قصر حر، فقال: صدقت لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، ثم مضى، فخرج بشر حافياً وراءه، لما سأل الجارية عما قاله، وما لبس نعلاً وظل حافياً طيلة حياته، قال: حال لقيت الله عز وجل بها لا أغادرها أبداً، فلقب بالحافي، ويوم موته خرجوا به وقت صلاة الغداة وما وضعوه في قبره إلا بعد العشاء. علي بن المديني يقول: هذا والله! عز الدنيا قبل عز الآخرة، وهذا شرف الدنيا قبل شرف الآخرة. وكان أبو محمد حبيب العجمي مرابياً، وكان إذا خرج إلى الشارع يخرج الأطفال حوله يهتفون وراءه: هذا أبو محمد حبيب العجمي المرابي، فجلس مجلساً للحسن البصري فتاب إلى الله عز وجل، وتصدق بجميع ماله، فكان بعد ذلك إذا خرج إلى السوق يقول الأطفال: هذا أبو محمد حبيب العجمي الزاهد. إن تصدق الله يصدقك، يقول أبو عبد الرحمن الزاهد: ويلي! من أشد جرماً؟ يا مولاي! عاملتُ عبادك بالصدق والأمانة، وعاملتك بالخيانة!! اتق يوماً تقف فيه أمام الله عز وجل، ليس بينك وبينه ترجمان، تنظر عن يمنيك ما ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا النار. أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا أنا العبد المسيء عصيت سراً فمالي الآن لا أبدي النحيبا أنا الغدّار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف وطيبا فيا أسفا على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات يحير هول مصرعه اللبيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وقد أقبلت ألتمس الطبيبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا انظروا إلى توبة ماعز الذي ارتكب الزنا ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله! لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لعمتهم). وانظروا إلى الغامدية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن زنت وتابت إلى الله عز وجل: (والله! لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه). وهذا كعب بن مالك عندما تاب الله عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر يا كعب بخير يوم خرج عليك منذ ولدتك أمك).

الصدق في النيات والعزم

الصدق في النيات والعزم فالصدق في النيات: هو أن تريد بالعمل وجه الله تبارك وتعالى، ولا تريد رئاء الناس، يقول الله تبارك وتعالى عن المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107]؛ لأنهم كذبوا في نياتهم. الصدق في العزم: يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله! لئن أقدم فتضرب عنقي، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق. والصدق في العزم يتفاوت، فرب رجل يقول: عليّ لله إن أعطاني مالاً أن أتصدق بجميع هذا المال، ولكنه إذا أتاه المال يكون متردداً. وقد يقول رجل: إني أحب أبا بكر الصديق، ولكن لا يكون في عزمه كعزم سيدنا عمر، فسيدنا عمر يقول: والله لئن أقدم فتضرب عنقي أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق. وهذا صدق في العزم. ومثل سيدنا أنس بن النضر رضي الله عنه عندما غاب عن مشهد بدر، فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكافرين وأغيب عنه! والله! لئن أشهدني الله مشهداً آخر لأرين الله ما أصنع. يقول أبو تراب النخشبي: إن الرجل إذا صدق في عزمه أعطاه الله حلاوة العمل قبل مباشرته للعمل. يعني: إذا علم الله عز وجل من نيتك ومن عزمك الصدق ألبسك رداء هذا العمل قبل أن تفعله، وأعطاك بصيصاً من حلاوته قبل أن تقدم عليه. فالأصل: المتاجرة مع الله عز وجل بالقلوب، وسيدنا أنس بن النضر عندما خرج إلى جبل أحد، فقال له سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟ فقال: إليك عني يا سعد بن معاذ، والله! إني لأشم ريح الجنة من دون أحد. وقاتل حتى قتل، فما عرفته إلا أخته الربيع بنت النضر ببنانه فقط، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث نعيم بن همار الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط بإسناد صحيح، قال: (الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول، ولا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا، يلقون في غرف الجنة العليا يتلبطون، يضحك الله تبارك وتعالى إليهم، وإن الله تبارك وتعالى إذا ضحك إلى عبد فلا حساب عليه).

النصر متعلق بالصدق

النصر متعلق بالصدق والصدق ينجي في الدنيا والآخرة، هل صدق المسلمون والعرب وهم مليار وربع مليار، واليهود خمسة مليون فقط؟ هل صدقوا الله عز وجل في نصرة فلسطين؟ والله! ما صدقوا. قالوا لنا أرضنا أرض مباركة فيها التقى والهدى والوحي والرسل ما لي أراها وبحر الزور يغرقها وأبقوا الأمر في أرجائها زجل عار على الأرض كيف الذل أغرقها كيف استوى عندها الكذاب والرجل فكم بكينا على أطلال قرطبة وقدسنا لم تزل في العار تغتسل في القدس تبكي أمام الله مئذنة ونهر دمع على المحراب ينهمل لم يبق شيء لنا من بعد ما غربت شمس الرجال تساوى السفح والجبل وكعبة تشتكي لله غربتها وتسكب الدمع في أعتاب من رحلوا كانوا رجالاً وكانوا للورى قبساً وجذوة من ضمير الصدق تشتعل القاتل الوغد لا تحميه مسبحة حتى ولو قام وسط البيت يعتمر يعقوب لا تبتئس فالذئب نعرفه من دم يوسف كل الأهل قد سكروا أسماء تبكي أمام البيت والهة وابن الزبير على الأعناق يحتضر يا فارس الشعر قل للشعر معذرة هل يسمع الشعر من بالوحي قد كفروا واكتب على القبر: هذي أمة رحلت لم يبق في ذكرها شأن ولا أثر تصوروا يا إخوتاه! أن الذي أدخل البريطانيين إلى القدس هم العرب، فقد أقام الجنرال اللنبي معاهدة مع الشريف حسين حتى يأخذ الخلافة، وتكون الخلافة هاشمية، فاسترخص اللنبي أن يأتي بدم إنجليزي ويدخل به إلى القدس، فأتى بعرب من أعراب المسلمين، ودخل ببنادقهم القدس في عام (1917م)، ثم ركز علمه الذي فيه الصليب على جبل الزيتون وقال: انتهت الحروب الصليبية الآن، والذين حوله لا يعلمون رطانته الأعجمية، ولا يعرفون ماذا يعني. ولما سقطت فلسطين، واجتمعت الجيوش العربية نصبوا الملك عبد الله، عامله الله بما يستحقه، ومسكوه قيادة القوات العربية كلها، فجعل على رأس القمة قائداً إنجليزياً، وهو جولوب الإنجليزي، فكيف ستقاتلون الإنجليز واليهود تحت راية رجل إنجليزي؟!! وإن تصدقوا الله عز وجل يصدقكم. اللهم ارزقنا الصدق في الأقوال والأحوال والأعمال، واحشرنا مع الصادقين، واجعلنا مع الصادقين، اللهم زينا بزينة المهتدين المتقين. رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أوابين مخبتين منيبين، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا إلى غيرك، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننكسر فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا. أقول قولي هذا، وأستغفر لي ولكم.

القول الأزهر في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

القول الأزهر في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الشرعية على كل مسلم، فبهما تصلح أحوال الناس، وبتركهما تفسد أحوالهم. ويتأكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العلماء، وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواقف العلماء الصالحين في ذلك

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواقف العلماء الصالحين في ذلك إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: قال تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]. أمة تخرج من وراء الغيب السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله عز وجل، أمة ذات دور خاص، ومكانة خاصة، يخرجها الله عز وجل لتكون لها الريادة والقيادة بين الأمم؛ لكونها خير أمة أخرجت للناس. وهذه المكانة التي أهّلها الله تبارك وتعالى لها، وهذا الموضع يفرض عليها تبعات، وأن يكون عندها ما تعطيه لبقية الأمم من تصور صحيح، واعتقاد صحيح، ومعرفة صحيحة، وعلم صحيح، وإلا استبدلها الله تبارك وتعالى بغيرها. قال الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. فلا صلاح للأمة إلا أن تقوم بواجبها من الدعوة إلى الخير، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا شيء ليس بالسهل اليسير؛ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يواجه طباعاً شتى من الناس، فمنهم: المسترخي الذي يكره أن يكون رجلاً، ومنهم المائع الناقم الذي لا يحب الصلاح، ومنهم من يغلب شهوته ومصالحه فوق أي مصلحة. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بالشيء الهين، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمتي قوماً يعطون مثل أجور أولهم؛ ينهون عن المنكر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة). وهذه الأمة يرحمها الله عز وجل ما قامت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]. ومن موجبات الرحمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا تحول المجتمع إلى مستنقع آسن، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل لـ أبي هريرة: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة). والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيعة مع الله عز وجل يترجمها القرآن في قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112]. وقال الله تبارك وتعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران:113 - 115]. ومتى تركت الأمم الدعوة إلى الخير استحقت اللعنة، قال الله تبارك وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. وقال الله تبارك وتعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63]. يقول الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]. وقد صور الله كل من يحمل الحق ثم يتولى عنه بصورة مشينة، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها). وقال صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي غير الدجال الأئمة المضلون). يقول فقيد الإسلام مصطفى صادق الرافعي في (وحي القلم) تحت عنوان: أمراء للبيع: ولو نافق عالم الدين لصار كل منافق أشرف منه، فليست لطخة في الثوب الأبيض كلطخة في الثوب الأسود. إن عالم الدين حياته مكشوفة للناس، لم يأت للتلبيس، ولا لخداع الناس، والفرق بين عالم السوء وعالم الحق، وهما يأخذان من نور واحد، كمثل لوح البلور ولوح الخشب، فلوح البلور ينعكس عليه النور، فيظهر جمال النور، ويظهر جمال نفسه، وينعكس النور منه على بقية الأشياء، وأما لوح الخشب فلا يظهر فيه إلا الأشياء التي في الخشب، لا يعكس نوراً وإنما يحبسه في نفسه ولا يخرجه، ولا يظهر للناس إلا البقعة التي في الخشب. يقول: وأصحاب الجاه الذين يتعاملون مع عالم السوء إنما يتعاملون مع قوة الهضم التي فيه. مثلما قال النهدي: ما من عالم من العلماء إلا واعلقنا مخالينا هذه في رقبته فأكل منها وشرب، إلا سفيان الثوري، لم يأكل منا شيئاً. فأصحاب زهرة الحياة الدنيا يتعاملون مع عالم السوء بقوة الهضم التي فيه، فهم يعلمون أن قوة الهضم أول ما تأكل دين الرجل، ولذا يصور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولا يعمل بذلك أنه مثل حمار الرحى، تندلق أقتابه وأمعاؤه وهو يطوف بين الناس في النار. قال الله تبارك وتعالى لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199] أي: أمر بالمعروف، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وقال الله تبارك وتعالى على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. وقال الله تبارك وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]. ويقص الله تبارك وتعالى علينا قصة أصحاب السبت من بني إسرائيل، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:164 - 165]. ففرقة أخذها الله عز وجل بظلمها وبتحايلها، وفرقة نجاها الله عز وجل لأنها آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، وفرقة وإن نجاها الله عز وجل إلا أن الله أهمل شأنها؛ لإهمالها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله، ثم صلة الرحم، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها،

قصة سعيد بن جبير مع الحجاج بن يوسف الثقفي

قصة سعيد بن جبير مع الحجاج بن يوسف الثقفي وسعيد بن جبير جهبذ العلماء مات وما في الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه، ذبحه الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قال عنه سيدنا عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم وجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بـ الحجاج لفقناهم. دخل سعيد بن جبير -وهو أعلم أهل الأرض يومئذ- على الحجاج، فقال له: ما اسمك؟ فقال: سعيد بن جبير، فقال له: لا، بل أنت شقي بن كسير، قال له: أمي أعلم باسمي منك. فقال له الحجاج: الويل لك ولأمك، فقال له: لا يعلم الغيب إلا الله. قال له الحجاج: لأبدلنك بالحياة ناراً تلظى. فقال له: لو كنت أعلم أن هذا لك لاتخذتك إلهاً من دون الله. فيقول: اذبحوه، فيضحك سعيد بن جبير، فقال له: مم تضحك؟ فيقول: لحلم الله عليك وجرأتك على الله عز وجل، ثم يقول: خذها مني حتى تلقاني بها غداً عند الله يا حجاج، أما أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم يقول: اختر لنفسك يا سعيد أي موتة تريد؟ فيقول: بل اختر أنت لنفسك، والقصاص أمامك. فقال الحجاج: حرفوه عن القبلة، فقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]. فيقول: اطرحوه أرضاً، فقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]. فقتل سعيد، وما عاش الحجاج بعده كما قال ابن كثير إلا أربعين يوماً، وكان يرى سعيد بن جبير في منامه يأخذه بتلابيبه وثوبه، ويقول له: يا عدو الله: فيم قتلتني؟ فيقوم من نومه فزعاً مرعوباً، وكان يقول: مالي ودم سعيد بن جبير، ما لي ودم سعيد بن جبير.

قصة الإمام الأوزاعي مع السفاح العباسي

قصة الإمام الأوزاعي مع السفاح العباسي ومن الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر إمام أهل الشام الإمام الأوزاعي، سيد حمص وبيروت. قال عنه الإمام الذهبي: قام إلى أبي العباس محمد بن علي، وكان ملكاً سفاكاً للدماء ظالماً غشوماً، قتل في صبيحة اليوم الذي دعا فيه الأوزاعي مائة وسبعين رجلاً من رجال بني أمية وأمرائها. قال الأوزاعي: والله لئن تكلم معي لأسلقنه؛ واستبسلت للموت فجعلت أتخطى رقاب بني أمية المذبوحة أمامي حتى وصلت إليه، فقال له أبو العباس السفاح: ما جئنا من بغداد إلى دمشق إلا هجرة في سبيل الله، فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت هجرته لله ورسوله فهجرته لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني: الله أعلم بنيتك، قال: فجعل ينكت بالخيزرانة والرجال أمامه شاهرون سيوفهم، قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة). فجعل ينكت بالسيف نكتاً أشد من الأول، قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قال: إن كانت حلالاً لهم فهي حرام عليكم، وإن كانت حراماً عليهم فهي أيضاً حرام عليكم. ثم قال: أقاربك وأهلك كانوا أعلم بذلك منك، ولم يولوني القضاء، وإن لي حرماً وأهلاً هم في حاجة إلي، ثم قال لي: اخرج فخرجت، فوالله ما أخطوا خطوة إلا وأتوقع أن تقطع فيها رقبتي، فلما وصل إلى بيروت إذا بالرسول يسأل عنه، فقال الأوزاعي: كأن الرجل قد ظن في ظناً، أي: رجع مرة ثانية لكي يقتلني، فقال الرسول: قد بعث إليك بمائتي دينار، ففرقها في اليتامى والأرامل والمساكين. ولذلك لما مات الإمام الأوزاعي وقف والي حمص على قبره فقال: يرحمك الله يا أبا عمرو، والله لقد كنت أهابك أعظم من الذي ولآني، فمن يظلم بعدك فليصبر. وروى الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة: أن الأوزاعي قال: رأيت فيما يرى النائم كأن ملكين عرجا بي حتى أوقفاني بين يدي رب العزة، فقال لي: أنت عبدي عبد الرحمن الذي يأمر بالمعروف؟ قلت: أنت ربي وأنت أعلم بذلك، قال: ثم هبط بي مرة ثانية. وهذه كرامة ثابتة للإمام الأوزاعي، وهي رؤيته لله تبارك وتعالى مناماً، وهذا جائز في عقيدة أهل السنة والجماعة.

متفرقات من أمر السلف بالمعروف ونهيهم عن المنكر

متفرقات من أمر السلف بالمعروف ونهيهم عن المنكر والإمام الثوري إمام أهل الدنيا كلها يقول عنه الإمام أحمد: لا أحد يعدل مكانة سفيان في قلبي، كان يقول: كنت إذا رأيت الأمر لا أمر فيه بالمعروف ولا أنهى فيه عن المنكر، أبو الدم كمداً. قال الإمام سفيان الثوري لـ أبي جعفر المنصور: الظلم فاش ببابك، وإني أرى أموراً لا قبل لي بها. فقال له المهدي: خذ خاتمي هذا، فاؤمر الأمة بالمعروف، وانه عن المنكر، واعمل بكتاب الله فيها، قال: لا، ما دام هؤلاء معه، يعني: حاشية السوء وبطانته معه. والإمام ابن أبي ذئب إمام أهل المدينة لما دخل الخليفة المهدي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قام الناس له إلا ابن أبي ذئب، فأتى رجل من الحرس وقال لـ ابن أبي ذئب: قم، فقال: اسكت يا رجل! إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعه فوالله! لقد قامت كل شعرة في رأسي من قوله. يقول له أبو جعفر: ما قولك في؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أعفيك. قال: إنك رجل لا تقسم بالسوية، ولا تعدل في القضية. فقال والي من ولاة الشام: طهره بدمه يا أمير المؤمنين. قال أبو جعفر: اسكت يا رجل، فليس في دم امرئ مسلم طهور، فوالله! ما أهلك فرعون إلا هامان. والليث بن سعد عالم أهل مصر يقول له هارون الرشيد: ما صلاح بلدتكم مصر؟ قال: صلاح بلدتنا بجريان النيل، وإصلاح أميرها، فإن الأمير رأس العين، وإذا صفيت العين صفيت السواقي. قال: صدقت يا ليث. والعمري: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر من نسل سيدنا عمر بن الخطاب، كان يقف للرشيد ويظل يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر حتى يغشى على الرشيد. فقال له مرة في الحج وهما في جبل عرفات: يا أمير المؤمنين! كم عدد هؤلاء الحجاج؟ قال: لا يحصيهم إلا الله عز وجل، قال: وكم في الخلق مثلهم؟ قال: لا يحصيهم إلا الله عز وجل، قال: اعلم أن كل رجل من هؤلاء يسأل عن نفسه خاصة، وتسأل أنت عن هؤلاء، فبكى هارون الرشيد حتى غشي عليه. وقال عالم آخر: يا هارون! إن الرجل إذا أسرف في ماله استحق أن يحجر عليه، فكيف بمن أسرف في أموال المسلمين؟ فكان هارون الرشيد يخاف من العمري، والعمري هذا شخصية عظيمة في تاريخنا قد لا يسمع بها الكثير، فهو إمام عابد وعالم عظيم. وبهلول المجنون كان يسمى بالمجنون وهو من عقلاء البصرة، قال له هارون: عظني يا بهلول! قال: قد ملكك الله الأرض كلها، وخضع لك الجميع، وغداً تموت وتقف بين يدي الله تعالى، وهو سائلك عن النقير والفتيل والقطمير، فيبكي هارون الرشيد، ثم يقول له: هل عليك دين يا بهلول؟ فيقول: دين لربي، فويل لي إن حاسبني، وويل لي إن ناقشني، وويل لي إن لم يعف عني. فأراد أن يصله بصلة، فيقول له: ردها إلى من أخذتها منهم يا هارون.

موقف العز بن عبد السلام مع السلاطين

موقف العز بن عبد السلام مع السلاطين والرجل العظيم الذي يضرب به المثل: شيخ الإسلام، وسلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء: عز الدين بن عبد السلام، كانت تهابه الملوك والأمراء. فالملك الأشرف سلطان دمشق لما وجه الجيوش السورية تجاه أهل مصر، وكان التتار على أبواب دمشق، وكان في مرض الموت، فدخل عليه عز الدين بن عبد السلام، وقال له: أعرف أنك واصل للرحم، وتقاتل شقيقك سلطان مصر الكامل، فوجه جيشك إلى التتار، أضمن لك النصر عليهم، فإن عاجلتك المنية كانت هذه نية حسنة تلقى الله عز وجل بها، فأمر في الحال بإرسال الجيوش إلى مواجهة جيش التتار، ثم قال: والحانة الفلانية فيها الخمور، ووزراؤك يفرضون المكوس على الناس، فأبطل هذه في الحال، ثم أراد أن يصرف له مالاً، فقال له: هذه النصيحة لله عز وجل لا أكدرها بشيء من أمر الدنيا. والملك الصالح إسماعيل لما تولى بعد الأشرف ملك دمشق، تحالف مع الصليبيين، وتنازل لملوك الفرنج عن بعض قلاع المسلمين، ثم أجاز بيع السلاح من المسلمين للنصارى لقتال نجم الدين أيوب ابن أخيه، فلما سئل عز الدين بن عبد السلام وكان قاضي دمشق وعالمها وخطيب وإمام الجامع الكبير فيها عن ذلك، قال: لا يحل بيع السلاح للفرنجة؛ لأنكم تعلمون أنهم سيقاتلون به إخوانكم المصريين، ثم قطع الدعاء للسلطان في خطبته، ودعا وأمن الناس وراءه، وكان من دعائه: اللهم ابرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. فوشى رجال السوء إلى الصالح إسماعيل فمنع عز الدين بن عبد السلام عن الخطابة، ثم لما أراد أن يمضي إلى بيت المقدس حبسوه في بيت المقدس، فبعث الصالح إسماعيل ملك دمشق بمنديله مع وزيره، وقال: تلطف له وسايسه وقل له: كل ما في الأمر أن السلطان يقبل منك أن تقبل يده، وستعود إلى الخطابة وإلى أكثر منها، فلما قال له رسول الملك: إن مولاي يرضى منك بأن تقبل يده، قال: والله ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً على أن أقبل يده! يا قوم! أنتم في واد، وأنا في واد آخر، الحمد لله الذي عافنا مما ابتلاكم به. فحبسوه في خيمة بجوار خيمة الصالح إسماعيل، فسمع صوت عز الدين بن عبد السلام وهو في خيمته يتلو القرآن في الليل، فأراد الصالح إسماعيل أن يتودد إلى ملوك الفرنجة، فقالوا: من هو هذا الرجل الذي يتلو في الخيمة؟ قال: هذا أكبر قسيس في المسلمين حبسته من أجلكم؛ لأنه أفتى بحرمة بيع السلاح لكم، فقالت ملوك الفرنجة كما ذكر الإمام السبكي في طبقات الشافعية: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، ولشربنا مرقته. ثم أتت الجيوش المصرية وانتصرت على جيوش الفرنجة، وسار نجم الدين أيوب بـ عز الدين بن عبد السلام مكرماً معززاً وولاه قضاء مصر. وبعد أن تولى القضاء كان نجم الدين أيوب متكبراً لا يقيل من عثرة، ولا يتحنن على ولد، فذهب إليه عز الدين بن عبد السلام في يوم عيد وهو في قلعته وسط عساكره، وقد أخذ زينته، فناداه باسمه المجرد فقال: ما تقول لربك يا أيوب إذا قال لك ألم أبوء لك ملك مصر؟ والخمور تباع في الحانة الفلانية، وفي الحانة الفلانية، قال: ليست هذه في عهدي وإنما كانت من العهود السابقة، قال: أنت ممن يقول الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، ثم أبطل نجم الدين أيوب الخمور. فقال تلميذ عز الدين بن عبد السلام له: لماذا أخبرته بذلك؟ قال: والله يا بني! رأيته في زهوه وسطوته وكبريائه فأردت ألا تخدعه نفسه، قال: أما خفته؟ قال: يا بني! استحضرت هيبة الله عز وجل فصار أمامي كالقط. وكان الأمراء في مصر من المماليك، والمملوك لا يحل له بيع ولا شراء ولا شهود على عقد إلا بإذن سيده، وما ثبت لـ عز الدين أنهم صاروا أحراراً، فما صح لهم بيعاً ولا عقداً ولا شراء، وكان من المماليك نائب السلطان نجم الدين أيوب بنفسه. فأخبروا الملك نجم الدين أيوب بذلك، فأرسل إليه رسالة قال له فيها: اشتغل فيما أنت فيه من الفتاوى ودع أمر الإمارات. فأخذ عز الدين بن عبد السلام متاعه فوضعه على حماره، ثم أتى بأهله فوضعهم على حمار آخر، وخرج من القاهرة، فتبعه أهل القاهرة وما تخلف منها أحد مما يأبه له، فقالوا له: إن هذا الشيخ ذهب بملكك. فركب نجم الدين بنفسه، وطيب خاطر الشيخ، وقال له: افعل ما شئت في الأمراء، قال: أنادي عليهم في السوق غداً وأبيعهم، فصاح نائب السلطان: كيف يبيعنا هذا الرجل ونحن أمراء البلد؟ والله لأقتلنه بسيفي هذا، ثم مضى بحاشيته إلى بيت عز الدين بن عبد السلام، فلما رأى ولد الشيخ ما سيحل بأبيه أخبر والده، فقال له عز الدين بن عبد السلام: اجلس يا بني! فإن أباك أقل من أن يرزقه الله الشهادة في سبيله، ثم لما فتح الباب ونظر إلى بيبرس والسيف على يده، سقط السيف من يده ثم بكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: ماذا تفعل فينا يا مولانا؟ قال: أبيعكم غداً في سوق العبيد، وأضع أموالكم وثمنكم في بيت مال المسلمين، وكان له ما أراد فباع الأمراء واحداً واحداً في سوق العبيد. والله! ما حدث هذا في التاريخ إلا في زمن عز الدين بن عبد السلام. ولما أراد قطز أن يقاتل التتار طلب منه أن يفرض قرضاً من التجار، قال له: لا، حتى تأتي بذهبك وذهب الأمراء وما عندكم، فإن لم يكف المال بعد ذلك يجوز لك حينئذ أن تقترض من التجار. ولما مرت جنازة عز الدين بن عبد السلام تحت القلعة ورأى بيبرس عدد الناس بكى وقال: اليوم استقر ملكي. أي: ما يتفق موت الشيخ إلا في سلطاني، ثم أمر أمراءه بحمل نعش عز الدين بن عبد السلام وأوصلوه إلى المقابر. أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، كم من إناس موتى تحيا القلوب بذكرهم، وكم من أناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم. اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننصب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا، إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسر عبد لم يجعل له من حبك نصيباً. إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله فكن دليلنا! إلهي ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه فكن أنسنا، إلهي أتينا أطباء عبادك ليداووا خطايانا، فكلهم عليك يدلنا، اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين.

قصة الفضيل بن عياض مع هارون الرشيد

قصة الفضيل بن عياض مع هارون الرشيد والفضيل بن عياض سيد من سادات أهل السنة والجماعة، ولما قسا قلب هارون الرشيد ذات ليلة قال للفضل بن الربيع: قد حاك في نفسي الليلة شيء، فدلني على واعظ يذهب ما في صدري، قال: هاهنا سفيان بن عيينة شيخ الحجاز، فانطلقا إليه، فدق هارون الرشيد على باب بيت سفيان بن عيينة فخرج فقال: من؟ قال: أمير المؤمنين، قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، ثم ظل يكلمه ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: يا فضل اقض عنه دينه، ثم قال: ليس صاحبك بشيء. ثم دله على عبد الرزاق بن همام الصنعاني شيخ أهل اليمن، فدق عليه الباب، فخرج عبد الرزاق فقال: أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، فسأله فأجابه، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: يا أبا عباس اقض عنه دينه، ثم قال: ما فعل صاحبك بي شيئاً. ثم دله على رجل آخر وهو الفضيل بن عياض عابد أهل مكة وعالمها، قال: اذهب بنا إليه، فذهب مع هارون الرشيد إليه فدق الباب، فقال: من؟ قال: أمير المؤمنين. قال: ما لي ولأمير المؤمنين، قال: افتح الباب أليست لي عليك طاعة؟ ففتح له الباب، ثم أطفأ المصباح وصعد إلى أعلى الغرفة، فقال الفضل: والله ليكلمنه الليلة بكلام من قلب تقي نقي، قال: فجعل يحدثنا ولا نصل إليه، قال: فسبقت كف هارون الرشيد إليه كفي، فلما أمسك بها قال: ما ألين هذه الكف، وأنعمها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل! ثم قال: يا هارون! عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة أتى بـ رجاء بن حيوة , ومحمد بن كعب القرظي، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، أفمعك مثل هؤلاء؟ قال: لا. قال: يا هارون! ما أجمل وجهك إن وقيته لفح النار، ثم ما زال في الوعظ حتى انتهى منه، ثم قال له: ألك دين؟ قال: نعم، دين لربي، الويل لي إن حاسبني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم يعف عني. ثم قال له: أعليك دين للعباد؟ قال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة ويكون جزائي منك هكذا، فخرجت جارية سوداء وقالت: والله! لقد أفزعتم الشيخ هذه الليلة، ثم انصرفوا، فلما انصرف هارون الرشيد قال: يا فضل بن الربيع إن دللتني على رجل فدلني على مثل هذا. هذا سيد المسلمين. والفضيل بن عياض كان في بداية أمره لصاً، وكان يتعشق الجواري، ثم تاب إلى الله تبارك وتعالى بسبب آية من القرآن، فبينما هو يتسلق الجدار ذات ليلة ليصل إلى حبيبته سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]. فقال: آن الأوان يا رب ثم نزل، فأراد أن يمضي إلى خربة لينام فيها بعد أن تاب فسمع أهل قافلة يقولون: إن الفضيل في الطريق، لا نسافر هذه الليلة، فأمنهم وأوصلهم إلى مأمنهم. وكان سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل. أما عبد الله بن المبارك فكان إذا سمع الفضيل يتكلم يقبل جبهته ويقول: يا معلم الخير! من يحسن هذا غيرك. وكان يقول: كنت كلما قسى قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فجدد لي الحزن، فأمقت نفسي. والإمام شيخ الإسلام أبو نعيم الفضل بن دكين، لما سألوه في محنة خلق القرآن، قال عنه الإمام أحمد: قام لله بعظيم أمر لم يقم به أحد، هو وعفان، وعفان كان شيخ الإمام أحمد. ولما أدخل أبو نعيم على المأمون ليمتحنه في خلق القرآن قال: القرآن كلام الله، ولقد لقيت سبعمائة شيخ من شيوخ الكوفة والبصرة وكلهم يقولون: القرآن كلام الله، وعنقي أهون علي من زري هذا، فقام الحافظ أحمد بن يونس، وكانت بينه وبين أبي نعيم شحناء فقبل رأسه، وقال له: جزاك الله من شيخ خيراً. وكان قبله رجل قد أفتى أن القرآن مخلوق، فقال أبو نعيم: أما جد هذا فلقد أخبرني الأعمش أنه كان يقول: يجوز أن ترمى الجمرات بالقوارير. ولما دخل عفان على المأمون، بعث لواليه وقال له: امتحنه وقل له: إن أجبت إلى القول بخلق القرآن نجري عليك ما كنا نجري، وإلا منعنا عنك الراتب الشهري ألف درهم في الشهر. وكان يعول أربعين نفساً في بيته فامتنع، وقال لشيوخ الحديث: لم أسود وجوهكم، وقلت: القرآن كلام الله عز وجل، فمنعوا عنه راتبه، فلما وصل إلى بيته عاجلته النسوة، وقلن له: قطعت عيشنا، والآن نأكل من أين؟ فما إن دخل حتى دق الباب رجل يبيع الزيوت وأعطاه ألف درهم، وقال له: هذه ألف درهم مكان الألف، ثبتك الله كما ثبت دينه. والإمام البويطي تلميذ الإمام الشافعي، وعالم الشافعية، امتحن في خلق القرآن، فلقد بعث الواثق لوالي مصر إن امتحنه في خلق القرآن، فالوالي كان يحبه، فقال له: قل: إن القرآن مخلوق بيني وبينك، قال: لا والله ورائي مائة ألف، ولا أكذب في دين الله عز وجل، فاضطر أنه يسيره إلى بغداد والأغلال في عنقه، والأنكال والقيود في رجليه، وقد شدوا ما بين رجليه وما بين عنقه بسلسلة وضعوا فيها قطعة حديد زنتها أربعين رطلاً، وكان يقول: والله لأموتن في حديدي حتى يأتي أقوام يعلمون أن هذا الأمر قد مات فيه أناس في حديدهم. وشيخ الإسلام نعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري لما سألوه في محنة خلق القرآن لم يجب، فكلكلوه وألقوه مقيداً، فمات ولم يغسل ولم يكفن، فقد أرادوا أن يفك عنه القيد قبل لحظة الوفاة فقال: إني رجل مخاصم أمضي إلى الله عز وجل بقيودي.

قصة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي مع الواثق

قصة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي مع الواثق والإمام أحمد بن نصر الخزاعي قال له الواثق: ما تقول في القرآن؟ قال: القرآن كلام الله، قال: هل ترى ربك يوم القيامة؟ قال: صحت بذلك الأحاديث، فقال الواثق: إني أحتسب خطاي إلى هذا الرجل الكافر ثم قام فقتله، وعلقوا رأسه في بغداد وجسده في سامراء، ووضعوا القيد في رجليه بعد أن قتل. فهذا الطريق طويل تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واستجاب لربه في ذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقادير في البكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج رأسه وكسرت رباعيته، وربط الحجر على بطنه من شدة الجوع: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7]. سم أبو بكر، وطعن عمر، وذبح عثمان، وطعن علي، وسم الحسن بن علي، وقتل الحسين بن علي، ووطئوا بحوافر الخيل الفم الذي قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشيخ حسن العدوي من مشايخ الأزهر عندما جاء السلطان عبد العزيز يزور مصر بعد تولية الخديوي إسماعيل عمل مقابلة خاصة لعلماء الأزهر مع السلطان عبد العزيز، قالوا: وكان من البروتوكولات السياسية أن الذي يدخل على الخليفة يقبل الأرض بين يديه، ويدخل منحنياً، وإذا خرج لا يولي ظهره للخليفة، بل يمشي القهقرى إلى أن يخرج من الباب. فدخل العلماء كلهم هكذا إلا الشيخ حسن العدوي، فدخل في عزة العالم الذي نسي دنياه وتذكر دينه، ولم يحن رأساً، وسلم عليه بالإمارة، ووعظه ونهاه، ثم لما أراد أن ينصرف أعطى ظهره للخليفة ثم مضى. فأسقط في يده الخديوي إسماعيل، فقالوا له: هذا الرجل مجنون، ولا تؤاخذنا يا مولانا، فقال: ما عندكم إلا هذا العالم؟! وأعطاه جائزة دون باقي العلماء. وبنان الحمال إمام من أئمة مصر لما دخل على أحمد بن طولون وعظه ونهاه، فحبسوه، وكان لديهم أسد فجوعوه ثلاثة أيام، ثم أدخلوا الأسد إليه، فوجدوه قائماً يصلي والسبع يلحسه، فأتى به أحمد بن طولون وأمره أن يستغفر له، ثم قال له: بماذا كنت تفكر والسبع يشمك؟ قال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في لعاب السباع. والسلطان الخديوي إسماعيل دخل الجامع الأزهر مرة عندما جاء الخليفة عبد العزيز يزور مصر، فقام إليه المشايخ إلا رجلاً مد رجله وهو في المحراب، فأراد أن يمشي بالملك بعيداً عن هذا الرجل، ثم أرسل أحد أتباعه بكيس دنانير فأعطاها له، فقال له: بعث بها إليك الخديوي إسماعيل، فقال له: إن من يمد رجله لا يمد يده. فكان هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وشيخ الإسلام ابن تيمية ذهب إلى قازان ملك التتر وقال له: أنت تزعم أنك مسلم، وإن أباك وجدك كانا كافرين، وكانا يحتكمان إلى المسلمين، وظل يكلمه ويغلظ له في القول، وبقية المشايخ يمسكون بثيابهم خشية أن يتطاير إليهم الدم من عنق ابن تيمية، ثم قال له: والله ما لقيت عالماً أهيب منك، فماذا تريد؟ قال: أريد أن تفك أسرى المسلمين وأسرى أهل الذمة، ففك أسرى المسلمين وأسرى أهل الذمة، ثم عرض على شيخ الإسلام ابن تيمية الجوائز فرفضها.

كنا جبالا

كنا جبالاً لقد اختص الله أمة الإسلام بخصائص لم تكن لأمة من قبل، ومنها ما يتعلق بتشريفها وتفضيلها على سائر الأمم في الدنيا، والرفق بها في الأحكام والتكاليف، ومنها ما يتعلق بأفضليتها على سائر الأمم في الآخرة، فهي آخر الأمم، ورسولها آخر الرسل وأفضلهم وإمامهم وقائدهم.

ذكر بعض خصائص هذه الأمة

ذكر بعض خصائص هذه الأمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. يقول الشاعر: كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحاراً ويقول آخر: أنت تدري أيها الحيران أنا كيف فوق الشمس أفناناً حللنا ويقول آخر: وكنا عظاماً فصرنا عظاماً وكنا نقوت فها نحن قوت يقول الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها وأكرمها على الله عز وجل). قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، يعني: كنتم وما زلتم كما قال ابن الأنباري. وهناك قول آخر في قول الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، قال: كانت البشارة بكم قبل أن تأتوا إلى الوجود أنكم خير أمة أخرجت للناس، وهذا قول حسن. ويقول: ابن قتيبة في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، أي: أنتم خير أمة أخرجت للناس. فالعرب قد تأتي بصيغة الماضي وفيها معنى الاستمرار أيضاً، كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96]، يعني: منذ الأزل إلى الأبد والله تبارك وتعالى غفور رحيم، فلا تزال ولا تسقط عنه هذه الصفة أبداً، ومثل قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} [المائدة:116]، هذا القول يقوله الله تبارك وتعالى لعيسى يوم القيامة. أو مثل قول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29]، فهذه الخاصية لهذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل قرن من أمتي سابقون)، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]. وهؤلاء السابقون يحملون إلى الجنان ولا يسيرون إليها، وتقرب منهم الجنة بكرامة من الله تبارك وتعالى كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]، أي: وقربت الجنة. فسبحان من فضلنا على جميع الناس وجعل نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من رأى وشاهد، فلما أعطانا علو الهمة قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. فإنه لا يوجد في الأمم السابقة مثل أبي بكر الصديق الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عمر: (هذان من الدين السمع والبصر). وقال فيهما: (هذان سيدا كهول أهل الجنة، خلا النبيين والمرسلين) أفي الأمم السابقة مثل أبي بكر الصديق، أو عمر الذي أغص كسرى بالريق، أو عثمان الصابر على مر المذيق، أو علي بحر العلم الغزير العميق، أو مثل حمزة، والعباس؟ والله ما من الأمم السابقة أمة صلت وقد صلصلت السيوف ورنت الأقواس، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. فما بال هذه الأمة نسيت شرفها، والله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، أي: أن هذا المنهج وهذا الدين وهذا القرآن شرف لك ولقومك، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]. إذا أنت غمت عليك السماء وعمت حواسك عن صبحها مغش دورة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها الذي بعد عن منهج السماء وعن الإسلام، والذي يفصل بين الدين وبين الدولة، والذي يريدها علمانية نقول له: عليك أن تقوّم من جديد نسبك إلى الإسلام الرفيع العزيز. ولابد من ذكر خصائص هذه الأمة، حتى لا ينسينا الحاضر ولا ينسينا الواقع مكانتها العالية. يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا وقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا ورب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا أدمت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها وباسوا كف من ضربا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا فواحد أعمت الدنيا سريرته وواحد من دم الأحرار قد شربا وخلفوا القدس فوق الوحل عارية تبيح عزة نهديها لمن رغبا {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31]. والخاصية الثانية لهذه الأمة: أنها أمة مرحومة لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو موسى الأشعري: (إذا كان يوم القيامة يدفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً ويقول: هذا فداؤك من النار). وروى الإمام مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: (إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ليكون سلفاً وفرطاً بين يديها). ورسولنا صلى الله عليه وسلم أصيبت به الأمة فموته صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة حلت في هذه الأمة، ومن كانت عنده مصيبة فليتعز بمصاب الأمة في نبيها. وما عظمت يوماً رزية هالك مصيبة يوم مات فيه محمد صلى الله عليه وسلم. هذه الأمة أمة مرحومة، وقد بعثت في خير القرون كما صح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت من خير القرون قرناً قرناً حتى كنت من القرن الذي أنا فيه أو الذي كنت فيه). وهذه الأمة أمة أريد بها اليسر كما قال فيها الله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أنتم أمة أريد بكم اليسر). وأيضاً من خواص هذه الأمة ومن شرفها أنها آخر الأمم وأول الأمم حساباً بين يدي الله عز وجل. ومن خواص هذه الأمة أيضاً عند الله تبارك وتعالى: أنها أول الأمم دخولاً للجنة. من خواص هذه الأمة أن لها الخلود في الجنة بعد أن يعذب بعض عصاتها، ثم بعد ذلك يؤول أمرهم إلى الجنة كما قال جماهير أهل السنة والجماعة إلا غلاة المبتدعة ممن كفرهم العلماء، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من أمة إلا وفيها في النار ومنها في الجنة إلا هذه الأمة فلها الخلود في الجنة). ومن خواص هذه الأمة وكرامتها على الله تبارك وتعالى: أن الله يدخل سبعين ألفاً من هذه الأمة الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. ويدخل الله تبارك وتعالى مع كل ألف سبعين ألفاً وثلاث حثيات من حثيات الرب عز وجل. ومن خواص هذه الأمة أيضاً كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال). ومن خواص هذه الأمة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشق لغيرنا). ومن خواص هذه الأمة: أن الله خيرها عند القتل بين دفع الدية أو القصاص أو العفو، أما عند اليهود فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، فلا دية عند اليهود وإنما يوجد عندهم إلا القصاص. ومن خواص هذه الأمة أيضاً: النسخ، والذي يعرف في هذه الأمة وأنكرته اليهود وقالوا: إن هذا بداء، أي أن الله يفعل الشيء ثم يجد أنه قد أخطأ فيغيره، عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة. ومن خصائص هذه الأمة الإسناد: لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم). ومن خواص هذه الأمة في كرامتها على الله تبارك وتعالى: أن الله جعل لها الندم توبة. أما قوم موسى من بني إسرائيل فقد كانت توبتهم بقتل أنفسهم، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:54]. ومن خواص هذه الأمة: أن اليهود عليهم لعائن الله إلى يوم القيامة يحسدونها على يوم الجمعة الذي أضل الله عنه اليهود والنصارى، فالناس لنا تبع في هذا اليوم. وكما يحسدوننا على يوم ال

التحذير من طول الأمل ونسيان الموت

التحذير من طول الأمل ونسيان الموت {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. طول الأمل ضيع هذه الأمة، وطول الأمل ينسي الآخرة. والناس يتغافلون عن ساعة الموت وينسون لحظة الموت، ويا لها من ساعة لا تشبهها ساعة، يندم فيها أهل التقى فكيف بأهل الإضاعة؟! يجتمع فيها مع شدة الموت حسرة الفوت. يا إخوتاه! الموت أول وارد عليكم من ربكم فسيروا إلى ربكم سيراً جميلاً. أمتكم آخر الأمم، ورسولكم آخر الرسل، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون إلا المعاينة. إن الموت قد فضح الدنيا لكل ذي لب، حتى ما ودع لكل ذي عقل فيها فرحة، وإن أمراً يكون الموت آخره حقيق بأن يزهد الإنسان في أوله، وإن أمراً يكون الموت أوله حقيق بأن يخاف الإنسان من آخره، وكان ربيع بن خثيم يقول: لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد قلبي! فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وأنت لا تدري وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر يا ليت شعري كيف أنت على ظهر السرير وأنت لا تدري يا ليت شعري كيف أنت إذا وضع الحساب صبيحة الحشر يوم من الأيام سيرحل كل منا إلى القبور، يوماً من الأيام سيرحل كل منا إلى القبور سيخرج أحدنا من بيته في رحلة لا يرجع منها أبداً، وقد يركب أحدنا مركباً لا ينزل منه أبداً. عثمان بن عفان كان إذا مر بقبر يبكي حتى تبتل لحيته، فيقال له ويسأل عن ذلك، فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه). وقال صلى الله عليه وسلم: (القبر أول منزل من منازل الآخرة، فمن ينج منه فما بعده أهون منه، ومن لم ينج منه فما بعده أشد منه). يوماً من الأيام ستحل ضيفاً على قوم كلامهم السكوت، أحباء لا يتزاورون، جيران لا يتآنسون. يوماً من الأيام سيترادف أنينك وزفيرك. يوماً من الأيام ستوضع مع أقوام موتى لا يتحركون، أي الجديدين -الليل والنهار- مر عليهم صار عليهم سرمداً إلى يوم يبعثون. يوماً من الأيام سنشيع إلى قلب الضريح وإلى ردم الصفيح، إن كانت القبور تنسيك الدنيا بمنظرها الخارجي فكيف بداخلها. يا قبر ما أسكنك وتحتك الدواهي!! إني سألت الترب ما فعلت بعد وجوه فيك منعفرة فقال لي صيرت ريحهم يؤذيك بعد مناظر عطرة وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نضرة لم تبق غير جماعة عريت بيض تلوح وأعظم نخرة وعمر بن عبد العزيز لما وقف على قبور آبائه من بني أمية قال: مر بعسكرهم إن كنت ماراً، وادعهم إن كنت داعياً، وانظر إلى تقارب منازلهم، سلهم عن العيون النظرة، التي كانوا بها إلى اللذات ينظرون، سلهم عن الجلود الرقيقة، وسلهم عما فعلت الديدان باللحمان تحت الأكفان، سالت الأحداق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وقيحاً وصديداً، واتخذ دواب الأرض وحشراتها في أبدانهم مقيلاً، يا مغسل الوالد والولد، ويا تاركه في التراب وحده قل لأبيك: بأي خديك بدأ البلى. ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن سفري بعيد وزادي لا يبلغني وقوتي ضعفت فالموت يطلبني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تقتلني دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني كأنني بين جل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني وقام من كان أولى الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً حراً أديباً أريباً عارفاً فطن

متى يفيق النائمون؟

متى يفيق النائمون؟ لقد قيض الله لهذه الأمة رجالاً شرفاء، ومجددين أفذاذاً، وأبطالاً فحولاً كلما قارب نور الإيمان وشعلة الجهاد على الانطفاء أعادوا إليها لهيبها؛ لتشتعل وتستعر وتلتهب في وجوه أعداء الديانة الخالدة بخلود السماوات، الباقية ما تعاقب الليل والنهار، بعز عزيز أو بذل ذليل.

إعادة التاريخ لنفسه سنة ماضية

إعادة التاريخ لنفسه سنة ماضية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد حدث في الجمعة الأولى من شعبان الموافقة لجمعتنا هذه حادث فريد في تاريخ الأمة الإسلامية، لقد كانت خطبة الجمعة في الرابع من شهر شعبان بعد يوم فتح القدس بثمان، سنة 583 هجرية، وكان الخطيب محيي الدين بن زكي القرشي قاضي صلاح الدين الأيوبي الذي بدأ الخطبة بعد واحد وتسعين سنة غابت فيه صلاة الجمعة من المسجد الأقصى، بدأها بالحمد في قول الله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، ثم أتى بآيات الحمد في القرآن الكريم، ثم ذكر بعد ذلك خطبة فريدة بعد أن خفت صوت القسيسين والرهبان، وعلا صوت المؤذن بالأذان، بعد أن وحِّد الواحد، وكبّره الراكع والساجد. التاريخ -كما قال أهل العلم- وكأنه يعيد نفسه، فقد مرت على المسلمين لحظات من الضعف بلغوا فيها منتهى الذل؛ بيعت النساء -كما حدث في إسبانيا ومحاكم التفتيش- سبايا، بلغ من الذل أن أحد الملوك أراد للناس أن يطبقوا السنة في حلب وإذا بالدهماء والغوغاء يسحبون البسُط من تحت أقدام المصلين ويقولون هذه حصر علي بن أبي طالب، فإذا أراد أبو بكر أن نترك حي على خير العمل ونقول الأذان الشرعي فليأت بحصر من عنده. بلغ ذل الناس في الأندلس أن الملك كان يقول: بايعوني اليوم على الملك واقتلوني غداً، من أجل شهوة الملك والجاه والرئاسة فقد بلغت بالناس كل مبلغ، تخلى الناس عن دينهم وتركوا السنة وأتت البدع، واليوم يعيد التاريخ نفسه، فأيام ما كانت (منظمة فتح) لها الصولة في ديار فلسطين كان معين بسيسو وهو شاعر من شعراء المقاومة مع أنه صليبي إلا أنه كان شاعراً كبيراً للمقاومة الفلسطينية، كان هذا الكافر الزنديق يقول: كل ديك قد ذبحناه بقي الله! قال هذا جهاراً نهاراً محمود درويش المستشار الثقافي لـ ياسر عرفات السابق وهو شيوعي، وحينما يأتي هنا إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب يحتفل به الشعراء والمفكرون وتقوم الدنيا ولا تقعد لـ محمود درويش، الذي يقول في قصيدة تسمى مديح الظل العالي: يا خالقي في هذه الساعات من عدم تجلى فلعل لي رباً لأعبده لعل ويقول أيضاً: فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير وأما رشاد حسين فيقول: الله أصبح غائباً يا سيدي صابر إذاً حتى بساط المسجد وهذا كله كفر وزندقة وجرأة على الذات الإلهية وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الناس الشاردين عن طريق الله عز وجل يأتيهم الذل من كل مكان حتى يراجعوا الحساب مع الله عز وجل، وحتى يعودوا إلى الدين، وحتى يتمسكوا بآداب دينهم وصدام حسين أنفق في حرب العراق مع إيران خمسمائة مليون دولار، وإيران دولة شيعية لا نحبها أبداً وبيننا وبين الشيعة من العداوة الشيء الكثير، ولكنهم داخلون في مسمى المسلمين وهم أهل بدع كفرية؛ ولكن هذا الرجل أنفق خمسمائة مليون دولار من أموال الشعب العراقي وضيعها في الحرب بينه وبين إيران، وسقط في المعارك مليونا قتيل، وكل هذا لا لدين الله عز وجل وإنما من أجل الدنيا، وفعل بالكويت ما فعل؛ فماذا كانت النتيجة؟ ثمانون ألف طفل عراقي يموتون كل شهر. ودك قرى الأكراد التي أنجبت صلاح الدين الأيوبي بمن فيها وما فيها، وكانت النتيجة أن يخرج الجندي العراقي ويميل على قدم الجندي الأمريكي في حرب الخليج، فيقول: لا ترع لا تخاف وتسجِّل هذا الصحف الغربية ووكالات الأنباء الغربية. لا بد من عودة إلى الله عز وجل، وكأن التاريخ يعيد نفسه. إن ملك المسلمين في عهد سيدنا عثمان بن عفان كان يبلغ من المغرب العربي حتى حدود الصين، وفي أيام الدولة العباسية بلغ من جنوب ولايات فرنسا الجنوبية على بعد 17 ميل من باريس حتى حدود الصين، يكفي أن تعلم أن قتيبة بن مسلم الباهلي وكان سنه 17 عاماً يفتح بجيشه 40% من مساحة الإتحاد السوفيتي و50% من مساحة الصين قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد

دور البطل نور الدين زنكي في محاربة الصليبيين

دور البطل نور الدين زنكي في محاربة الصليبيين

عدالة نور الدين زنكي وزهده عن الحرام

عدالة نور الدين زنكي وزهده عن الحرام يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام أبو داود والحاكم والبيهقي في المعرفة من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم والألباني: (إن الله يبعث على رأس كل مائة عام -وفي رواية- على رأس كل قرن من يجدد للأمة أمر دينها). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن القرن أربعون سنة، وبناء على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقد حدد المجاهدين المجددين لهذا الدين كل أربعين سنة. وجمهور أهل العلم قالوا: إن القرن مائة عام. وقال أهل العلم: قد يكثر المجددون في زمن واحد فيكون منهم مجدد في الفقه، ومجدد في الحديث، ومجدد في الجهاد، ومجدد في الزهد؛ فكان على رأس المائة الأولى سيدنا عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي. قال أهل العلم: إن نور الدين محمود بن الأتابك عماد الدين زنكي وتلميذه صلاح الدين الأيوبي هما المجددان للدين في قرنهما في باب الجهاد، فهما اللذان جددا الجهاد وأعادا اسم الجهاد بعد أن كان رسماً بالياً، ووالد نور الدين محمود زنكي كان والياً على حلب وهو عماد الدين زنكي، وهو أول من جرأ المسلمين على قتال الصليبيين بعد أن ظن الناس أن الصليبيين قوة لا تقهر؛ فجرأ المسلمين بفتحه لحصن الرها سنة (539 هـ)، ثم أتى من بعده ولده القسيم بن القسيم، الشهيد بن الشهيد نور الدين محمود زنكي هذا الملك كان سلطاناً على دمشق، ثم بعد ذلك استنقذ مصر من أيدي الفاطميين، ووحّد مصر والشام، وبعد أن مات أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي ونائبه على مصر ووزيره في المصريين، وتولى الوزارة من بعده ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي وظل على وفائه لسيده نور الدين محمود زنكي حتى وفاة نور الدين محمود زنكي الذي كان دائماً يتعرض للشهادة ويتمنى أن يقتل في سبيل الله عز وجل، وكان دائماً يقول: اللهم احشرني إليك من حواصل الطيور وبطون السباع، وكان الفقيه في عصره قطب الدين النيسابوري قاضي المملكة وفقيه نور الدين محمود زنكي يقول له: بالله عليك يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك فتقتل فتعرض البلاد للخطر، إنما أنت سور البلاد وحاميها فيقول له: اسكت يا قطب الدين! إن هذه إساءة أدب مع الله عز وجل، فمن كان يحفظ البلاد والعباد -غير الذي لا إله إلا هو- قبلي وقبل من قبلي؟ وقد بنى نور الدين محمود زنكي داراً للعدل كان يجلس فيها يوماً أو يومين في الأسبوع، وذلك عندما قال له قاضيه كمال الدين الشهرزوري: إن الناس قد كثرت شكواهم من قواد الجيش -وكان نائبه آنذاك أسد الدين شيركوه - فقال: أبني داراً للعدل وأجلس لمظالم الناس وفضها بنفسي يوماً في الأسبوع، فما كان من أسد الدين شيركوه قائد القوات المسلحة في عهد نور الدين محمود زنكي إلا أن أقسم لولاته وقال: لو عرضتموني أن أقف أمام نور الدين محمود زنكي في دار العدل ورأيت أن أحداً من العوام يشتكي منكم لأضربن رقبة من يعرِّضني لهذا، فوالله! لضياع ملكي أهون عندي من أن ينظر إليَّ نور الدين محمود زنكي على أنني ظالم. فما أتت شكاية واحدة من أسد الدين شيركوه ولا من أتباعه بعد أن ردوا للعوام مظالمهم، فسجد نور الدين محمود زنكي شكراً لله، وقال: الحمد لله الذي جعل عاملي ينصفني من نفسه.

عدد المدن التي انتزعها نور الدين من أيدي الصليبيين ودوره في توحيد المسلمين

عدد المدن التي انتزعها نور الدين من أيدي الصليبيين ودوره في توحيد المسلمين نور الدين محمود زنكي هذا البطل النحرير انتزع نيفاً وخمسين مدينة من أيدي الصليبيين قبل موته كما قال الإمام ابن الجوزي، وكان هذا السلطان المجدد يأكل من عمل يده فكان يصنع ما يسمى بالكوفيات أو ينسخ الكتب، أو يصنع الأقفال للأبواب ولا يأكل إلا من هذا، ونصيبه من الغنائم اشترى به ثلاثة دكاكين في حمص وكان ينفق على نفسه من ريع هذه الدكاكين، لدرجة أنه كان يمتنع تماماً عن طعام المملكة في شهر رمضان، وكان يبعث إلى شيخه الشيخ عمر الملا بالموصل يقول له: ائتني برقاق أعيش عليه طيلة الشهر، فكان يرسل إليه بالرقاق وهو كالعيش الجاف الناشف، ثم يظل يأكل منه طيلة الشهر، ووكّل أمر الموصل إلى شيخه عمر الملا وقال للساسة وللقضاة: لا بد أن تعودوا في كل مسألة إلى الشيخ عمر الملا لزهده ولعبادته. هذا الرجل الذي أسقط المكوس والضرائب عن أرجاء مملكته، وكانت المكوس والضرائب قبل عصره 586 ألف دينار ذهب فأسقطها تقرباً لله عز وجل. ودعا من كان بجواره من ملوك الدول الإسلامية والإمارات الإسلامية إلى قتال الفرنجة فمنهم من أيده ومنهم من نكص عنه مثل صاحب حصن كيفا، ففي اليوم الثاني جهّز الجيوش وسار مع نور الدين محمود زنكي فقالوا له: لم؟ قال: إن نور الدين محمود زنكي يرسل إلى العلماء والصالحين والزهاد والعباد بأخبار غزوه للفرنج فإن لم أسر معهم دعا عليَّ هؤلاء ولعنوني في صلاتهم، فلا بد من المسير معهم. في موقعة بانياس ذهبت عين أخيه نصر الدين فقال لأخيه مواسياً: والله! لو تعلم ما لك من الأجر عند الله عز وجل لفرحت بذهاب الثانية إذا ذهبت!

تواضع نور الدين زنكي لله ودوره في وقعة حارم

تواضع نور الدين زنكي لله ودوره في وقعة حارم هذا الرجل كان مولعاً بالجهاد وبالعدل، وما حكم البلاد والعباد بعد الخلفاء الراشدين وبعد عمر بن عبد العزيز أعدل من نور الدين محمود زنكي كما قال ذلك العلامة ابن كثير، والذهبي وابن الأثير. وكانت له زوجة عابدة، فبعد أن مات عنها تزوجها صلاح الدين الأيوبي. ذات ليلة قامت وهي غاضبة من نومها، فسألها نور الدين عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني ورد البارحة فلم أصل من الليل شيئاً فأمر بمن يوقظها لصلاة الليل، وكانت كثيراً ما تطلب منه أموالاً لتنفق على الناس، فظن أنها تنفق هذه الأموال من أجل زينتها وعلى حليها فقال لها: والله ما عندي شيء من المال، إنما أنا خازن لبيت المال، ولا أخوض النار في هواكِ أبداً، ثم أعطاها الثلاثة الدكاكين التي كانت في حمص. الإمام العظيم والسلطان المجدد يذكر له التاريخ وقعة حارم لما أتى ملوك الدول الأوروبية وملوك الإفرنج والنصارى والصليبيين في ساحل الشام وفي كل مدن الشام، واجتمعوا في وقعة حارم سنة (559هـ) وكان عددهم ثلاثون ألفاً، وحينما حمي وطيس المعركة واشتد لهيبها تضرع لله عز وجل، يقول: اللهم ارحم عبدك المكاس العشّار الظالم محمود الكلب، يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك أتوا لحرب أوليائك فانصر دينك ولا تنصرني، ثم نزل من على فرسه وجعل يمرّغ خده في التراب، وكانت النتيجة: أن قتل واحد وعشرون ألف صليبي في هذه المعركة، وأسر جميع الملوك الذين ناصروا الأعداء، وقتل البرنس صاحب الكرك مقدم الصليبيين في هذه المعركة، وبدأ نور الدين محمود زنكي يستعد لفتح بيت المقدس وأعد منبراً يدخل به إلى بيت المقدس.

كرامة نور الدين زنكي وانتصاره على الفرنجة في دمياط

كرامة نور الدين زنكي وانتصاره على الفرنجة في دمياط لما نزل الفرنج الصليبيون على دمياط استمروا بمحاصرة دمياط خمسين يوماً، وكانوا ينزلون عليها من البحر على سفن ومراكب تأتيهم من أوروبا، واشتد الهم والغم على نور الدين محمود زنكي وظل صائماً عشرين يوماً ولا يفطر إلا بالماء فقط حتى خاف عليه الأطباء من الموت، وبعد العشرين يوماً رأى إمام مسجده رؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل هذه الرؤيا كان نور الدين محمود زنكي عالم حديث فقد روى أحاديث في تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى حديث التبسم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تبسم حتى وصل الإسناد إلى نور الدين محمود زنكي فأراد بعض المحدثين أن يتبسم فقال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن يراني متبسماً والإفرنج محاصرون لدمياط. فأتى إليه إمام مسجده وبشّره قائلاً: رأيت رؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: بشِّر نور الدين محمود زنكي بالنصر على الأعداء، فقلت: قد لا يصدّقني يا رسول الله! فهل من علامة؟ قال: العلامة ما حدث منه يوم موقعة حارم، وإمام المسجد لم يكن يعرف موقعة حارم، فلما صلى معه الفجر قال نور الدين: ما عندك؟ قال: بشّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصرك على الفرنجة، وبرفع هذه الغمة، ويقول لك: العلامة ما حدث منك في تل حارم، قال نور الدين: وما حدث مني؟ قال: حدث منك أنك قلت: اللهم اغفر للعبد المكاس الظالم العشّار محموداً، فاستحى أن يقول له: محمود الكلب فقال نور الدين: العلامة ناقصة، قال: يا سيدنا فيها قال: قلها؟ قال: محمود الكلب، فبكى نور الدين محمود زنكي واستبشر وجاءه النصر على الفرنجة، ومات نور الدين محمود زنكي وهو يتمنى أن يمن الله تبارك وتعالى عليه بفتح القدس على يديه ولم تكتمل له هذه الفرحة، وذهب إلى الله عز وجل بنيته ولكن يكفيه شرفاً أنه وحّد مصر والشام.

ذكر ولاية صلاح الدين

ذكر ولاية صلاح الدين

مولد صلاح الدين والبشارة به

مولد صلاح الدين والبشارة به ثم يأتي من بعده تلميذه والذي تزوج امرأته من بعد موته صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب بن شادي المولود بتكريت، أي: في قرية من قرى الأكراد، وظل بالموصل حتى انتقل مع أبيه إلى حلب. قال حميد النجار سنة (555هـ): كنت في الموصل في مجلس الشيخ عمر الملا وإذا برجل من عوام المسلمين يأتي إلى الشيخ عمر الملا ويقول له: رأيت كأني في ديار غريبة مملوءة بالخنازير وإذا برجل قائم بالسيف يقتل هذه الخنازير، فقلت: من الرجل؟ هل أنت المسيح؟ قال: لا، قلت: المهدي؟ قال: لا، إنما يوسف، فأولوها أنه يمكن أن يكون يوسف بن عبد المؤمن أمير الموحدين في المغرب، أو الخليفة العباسي، ثم لما وقعت حطين وانتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين وفتح بيت المقدس صح تعبير الرؤيا بأنه يوسف بن أيوب سلطان المسلمين المسمى بـ صلاح الدين الأيوبي. ورأت أمه يوم ولادته أن رجلاً يقول لها: إنك ستلدين سيفاً من سيوف الله عز وجل. وبعد موت نور الدين محمود زنكي أعلن نفسه سلطاناً على مصر، ثم بعد ذلك ضم ولايات الشام إليه وأصبح سلطاناً على مصر والشام.

دور صلاح الدين في إزالة الفاطمية القرامطة

دور صلاح الدين في إزالة الفاطمية القرامطة يذكر التاريخ لـ صلاح الدين الأيوبي بكل الفخر، أن الفاطميين الذين ضاعت في عصرهم القدس أسقط صلاح الدين الأيوبي خلافتهم وأنهى خلافة العاضد ودعا بعد شهرين إلى الدولة العباسية على منابر المسلمين. فالفاطميون أتوا بالأزهر وبنوه خصيصاً لنشر الفكر الشيعي، وعلى منبره سب أبو بكر وعمر، وخليفتهم الثالث ادّعى الألوهية وفتح سجلات فأيده واعترف به إلهاً ثمانون ألف مصري، ثم بعد ذلك قتله أحد المصريين غيرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

خادم صلاح الدين يأسر مائة واثنين وسبعين من الكفار

خادم صلاح الدين يأسر مائة واثنين وسبعين من الكفار صلاح الدين الأيوبي هذا السلطان الذي قال عنه قاضيه ابن شداد: إنه سلطان في قلبه يحمل جبلاً في فكره، لن نتكلم على صلاح الدين الأيوبي؛ لأننا لا نستاهل أن نتكلم عن عظماء، وإنما سنتكلم عن خادم صلاح الدين الأيوبي حاجبه حسام الدين لؤلؤ وهو أسد من أسود المسلمين، عندما قالوا له: إن الفرنج الصليبيين ركبوا بحر القلزم ليغيروا على طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبشوا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كم عددهم؟ قالوا له: مائة واثنان وسبعون فقال: عليّ بمائة واثنين وسبعين قيداً، وهذا قبل أن يذهب للمعركة وقبل أن يركب البحر، ثم من الله تبارك وتعالى عليه بأسرهم جميعاً، فبعث اثنين منهم ذُبحوا في منى في موسم الحج، والمائة والسبعين عاد بهم إلى القاهرة فضرب العلماء أعناقهم جميعاً تحت سماء القاهرة؛ هذه كانت أيام صلاح الدين الأيوبي. أما أيامنا هذه فإن ملكاً من ملوك العرب يقول: لا أهرول هرولة للسلام وإنما أركض ركضاً، وأبو عمار يقول: رابين ابن عمي، رابين قائد شجاع وفي 28 سبتمبر سنة 1995م في اتفاقية توسيع الحكم الفلسطيني وكان فيها رابين وياسر عرفات والرئيس الأمريكي فقال رابين: بدأت أعتقد أيها الرئيس عرفات! أنك قد تكون يهودياً هذا كلام رابين بالترجمة الحرفية. بيروت في اليم ماتت قدسنا انتحرت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا أعداؤنا ضيعونا حينما فتحوا باعوا المآذن والقرآن والدينا أعداؤنا من توارى صوتهم فزعاً والأرض تسبى وبيروت تنادينا قم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يداوي جرح أمته؟ ويطلع الصبح ناراً من ليالينا هل من صلاح لشعب هده أمل ما زال رغم عناد الجرح يشفينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله عز وجل فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب الله به الهم والغم والحزن) أو كما قال.

جهاد صلاح الدين الأيوبي كما يصفه القاضي ابن شداد

جهاد صلاح الدين الأيوبي كما يصفه القاضي ابن شداد جهاد صلاح الدين الأيوبي قال عنه قاضيه ابن شداد: أحلف بالله غير حانث أن صلاح الدين الأيوبي بعد أن شفاه الله من مرضه نذر كل وقته للجهاد في سبيل الله عز وجل، وما أنفق درهماً بعد شفائه إلا في الجهاد. وكان صلاح الدين قد مرض، وكان له وزير وقاضٍ عادل اسمه عبد الرحيم البيساني وكان من العلماء الصالحين، وكان يقرأ القرآن ويختمه كل يوم، وهذا ثابت عنه كما قال الذهبي. هذا القاضي العادل عندما رأى صلاح الدين الأيوبي مريضاً قال: ادع لله عز وجل إن شفاك من مرضك أن توجه كل همك لتحرير القدس. فلما شفاه الله من مرضه أعلن بالنفير العام وسط ديار المسلمين، يقول القاضي ابن شداد: كنت واقفاً أنا وصلاح الدين الأيوبي أمام عكا ورأيت البحر، قال: وكانت لأول لحظة أرى فيها البحر، فهالني منظر البحر حتى قلت: لو أن رجلاً قال لي أبحر لمدة ميل وأملكك الدنيا كلها لا أبحر من شدة فزعي، فنظر إليّ صلاح الدين وقال: كنت أريد بعد أن أنقذ القدس أن أقسم البلاد بين بني ثم أركب البحر إلى جزائر الكفار فلا أبقي كافراً على وجه الأرض يعبُد غير الله إلا وأدخلته في الإسلام، فقال: يكفيك بلادك وأن ترسل الجنود، وإنما أنت سور الإسلام ومنعته قال: أي الموتتين أشرف القتل في سبيل الله عز وجل أم غيره؟ قال: الموت في سبيل الله عز وجل، قال: يكفيني أشرف الموتتين.

عقيدة صلاح الدين وعبادته وزهده

عقيدة صلاح الدين وعبادته وزهده وقد تعلم عقيدة أهل السنة والجماعة وكان يحفظها لأولاده الصغار: عثمان وعمر وأبو بكر. أما صلاته فما ترك صلاة الجماعة منذ سنين، كما قال ذلك عنه قاضيه ابن شداد. أما الزكاة فما وجبت عليه الزكاة قط؛ لأن ليس لديه مال، وعندما مات صلاح الدين الأيوبي لم يخلف قرية ولا مزرعة وإنما كان كل ماله سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً فقط! ولم يكن يعلم الورثة أن هذا في خزائنه، ولم يكن لدى أولاده مال وهم ملوك، حتى إن ثمن الطوب أو اللبن الذي سوي به قبره اقترضوه من الناس، وبعدها رأوا في خزائنه سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً فقط! هذا الذي ملك مشارق الأرض ومغاربها وفتح سبعة وسبعين مدينة كانت في أيدي الصليبيين، كان يُعطي للجهاد عطاء من لا يخشى الفقر، وقد أعطى من ماله الخاص خمسة آلاف من الجياد لأمراء المجاهدين، هذا هو الرجل الذي أعاد مصر إلى حديقة أهل السنة والجماعة.

جهاد صلاح الدين الصليبيين في حطين والكرك

جهاد صلاح الدين الصليبيين في حطين والكرك وفي موقعة حطين 25 ربيع الآخر سنة (583 هجرية) كان فيها ثلاثة وستون ألف فارس صليبي أتوا لقتال صلاح الدين الأيوبي، فبعث صلاح الدين الأيوبي من يمنعونهم من ماء النهر حتى اشتد بهم العطش وحر الظهيرة واجترّهم إلى القتال، وكان هناك حشيش تحت أرجلهم فأمر أن يشعلوا النار عن طريق الرماة، فاشتعلت النار تحت أرجل خيولهم فاضطروا إلى قتاله، وانتهت المعركة بثلاثين ألف أسير وثلاثين ألف قتيل منهم كل الملوك الذين حاربوه، ومنهم البرنس صاحب الكرك، وكان كافراً لكنه شديد الكفر، وكان قد عقد هدنة مع صلاح الدين الأيوبي ثم غدر ووجد قافلة من تجار المسلمين جعلوا يستغيثون فقال: فليجركم محمد! واستباح الأعراب، فنذر صلاح الدين إن مكنه الله منه أن يقتله. فلما أتوا بالملوك الأسرى واشتد بهم العطش، ومنهم الملك جفري بن جفري ومعه البرنس صاحب الكرك وابن ملك ألمانيا جلس الملك جفري وبجانبه أمير الكرك فلما اشتد بالملك جفري العطش أمر صلاح الدين الأيوبي بماء فشربه، وكان من عادة العرب أنك طالما أعطيت الأسير ماء من عندك أو أكل فهذا كرم كبير منك؛ فأعطاه الملك جفري لأمير الكرك الذي استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال له صلاح الدين الأيوبي: أنا ما أعطيته هذا الماء إنما أنت الذي أعطيته، ثم قال: استهزأت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائب عنه، فعرض عليه الإسلام فلم يقبل، فقام إلى سيفه فضربه على كتفه فأسقطه ثم حز رأسه وألقاه خارج الخيمة.

صلاح الدين يفتح عكا والقدس

صلاح الدين يفتح عكا والقدس وبعد حطين فتح عكا ودخلها وأُذن فيها لصلاة الجمعة بعد غياب ثلاث وسبعين سنة، ثم بعد ذلك بدأت جيوش صلاح الدين الأيوبي تنظر إلى القدس، وفي 15 رجب جاء بستين ألف مقاتل وقفوا حول أسوار القدس، وفي السابع والعشرين من رجب (سنة 583هـ) فتح القدس، وأصح الأقوال هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام ابن بطة والإمام ابن رجب الحنبلي إن السابع والعشرين من رجب لم يكن يوم الإسراء وإنما كان يوم فتح صلاح الدين الأيوبي للقدس. وقف المسلمون على أسوارها، ولما قتل أمير من أمراء المسلمين المجاهدين في سبيل الله عظم ذلك عند المسلمين واشتد بهم الحنق والغيظ، فبدءوا يثقبون الأسوار، ويستعينون بالمجانيق علهم يقتحمون هذا السور، وبالفعل سقط السور من قبل صلاح الدين الأيوبي من ناحية بلاد الشام الأخرى، فبرز قائد الجنود الصليبيين بليان بن برزان، وأراد أن يؤمنه صلاح الدين الأيوبي فقال: خذها صلحاً. قال صلاح الدين: والله لا آخذها إلا عنوة كما دخلتموها عنوة. فسيدنا صلاح الدين الأيوبي عندما دخل عكا فك أربعة آلاف أسير مسلم، وعندما أتى عند القدس قال: لا آخذها إلا عنوة كما أخذتموها عنوة، أي: مثلما قتلتم المسلمين بها، وكانوا قد قتلوا سبعين ألف مسلم حينما دخلوا القدس حتى غاصت الركب في دماء المسلمين وجعلوا من قبة الصخرة مكاناً لخيولهم وخنازيرهم، وقالوا: دون قمامة فلتقم القيامة. فقال صلاح الدين: لا آخذها إلا عنوة مثلما أخذتموها عنوة. فقال له بليان بن برزان: إذاً نقتل من كان عندنا من المسلمين -وكان عندهم خمسة آلاف أسير مسلم- ثم نذبح نساءنا وأطفالنا، ثم نكسِّر الصخرة ونهدم القبة ونهدم المسجد، ثم نعمي بئر بيسان ثم نخرج إليك في الصحراء، وهنا رق صلاح الدين الأيوبي لأسرى المسلمين، ووافقهم على الصلح بشرط أن أي واحد يخرج منهم خارج القدس يدفع عشرة دنانير جزية، والمرأة خمسة دنانير، والصبي أو الصبية دينارين، وأعطاهم مهلة أربعين يوماً والذي لا يستطيع ذلك يقع في أسر المسلمين، فرحلوا كلهم عن القدس، ووقع الذين عجزوا عن دفع الجزية في أسر المسلمين وهم ستة عشر ألف أسير، فكان عددهم كبيراً، وقد باع رجل من فقراء المسلمين أسيره بزربول -أي: فردة نعل- حتى يُعلم أن كثرة الأسرى بلغ من ذلهم وهوانهم أن يُباع الأسير بزربول، وترك الناس الأبقار والإبل من كثرتها واشتغلوا بالأسرى، وكان الرجل وزوجه وأولاده الخمسة يباعون بثمانين درهماً، وكان الفلاح يأتي بطنب خيمة ويربط فيه نيفاً وثلاثين أسيراً فيجرهم بعمود خيمة، والحارس من المسلمين يحرس المائتين ولا يهربون خوفاً من بطشه. وفتحت القدس يوم الجمعة ولكن صلاح الدين الأيوبي لم يستطع أن يصلي الجمعة؛ لكثرة ما كان فيها من الخنازير وحيض النساء فاشتغل أسبوعاً كاملاً ينقل ما فيها من النجاسات، ثم غسل المسجد وقبة الصخرة بالماء العادي، ثم بماء الورد الطاهر وبالمسك الفاخر، ثم صدر المنشور الصلاحي للقاضي محيي الدين بن الزكي القرشي بأن يتولى الخطابة في أول جمعة من شعبان بعد يوم الفتح بثمان، وجرت الدموع غالية، فهل من عودة لأيام صلاح الدين الأيوبي؟ رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر حصانك في سيناء يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكر

موت صلاح الدين الأيوبي

موت صلاح الدين الأيوبي ويموت صلاح الدين الأيوبي بعد أن فتح سبعة وسبعين مدينة، وقد بلغ من شغفه أنه بعد أن فتح القدس بدءوا هم للرجوع إلى عكا، وحاصروا عكا من البحر، وظل صلاح الدين الأيوبي بعيداً عن مصر (58 شهراً) وعيناه تذرفان الدموع يقول: يا للإسلام! يا لعكا، هل من رجال مؤمنين لعكا؟ وكان يشكو في ظهره من الدمامل الكثيرة لدرجة أنه كان لا يستطيع الأكل إلا نائماً، وبرغم هذا كما يقول قاضيه ابن شداد: يركب فرسه من الصباح إلى الظهر، ومن العصر إلى المغرب، فيقال له: إنك لا تستطيع أن تقعد وأن تأكل إلا نائماً فكيف تجلس على الفرس؟ فيقول: والله ما إن أرتقي صهوة جوادي حتى ينتهي الألم ثم يعود إليّ بعد أن أفارق جوادي. ثم جاءته حمى فغاب عن وعيه تماماً ثلاثة أيام، يقول من كان معه: فقرأت عليه حتى وصلت إلى قول الله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] قال: فأفاق من غيبته وهو يقول: صحيح -يعني هذا الكلام- يقول: فجعلت أقرأ حتى وصلت إلى قول الله عز وجل: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة:129] فتبسم وخرجت روحه. ورحل صلاح الدين خرج يوسف من سجن الدنيا إلى فضاء الحق عز وجل، وشيعته العيون الباكية، يقول القاضي ابن شداد: كنت أستقل أن رجلاً يقول لرجل: أفديك بنفسي ومالي، فلما مات صلاح الدين تمنيت لو افتديته بنفسي، وعلا البكاء والنحيب على الرجل الذي رد إلى المسلمين هيبتهم.

ذكر بعض المجددين بعد صلاح الدين

ذكر بعض المجددين بعد صلاح الدين بعد هذا يأتي الظاهر بيبرس، وله مواقف جسورة في قتال الصليبيين، فهو الذي أذل أهل أنطاكية ورد أنطاكية إلى المسلمين، وأرمينية ردها إلى المسلمين، وحاصر عكا، وعندما كان يحاصر الصليبيين الذين في عكا قال سفير بيبرس لملكهم عندما استعرض جنوده أمامه: كل هؤلاء الجنود لا يساوون عدد الأسرى الموجودين عندنا في القاهرة. ثم أتى بعد ذلك السلطان محمد بن قلاوون الذي استرد طرابلس وهدمها، ثم أقام مدينة طرابلس التي في بيروت. ثم الملك أشرف خليل الذي أعاد عكا إلى المسلمين بعد أن استردها الصليبيون من المسلمين بعد موت صلاح الدين الأيوبي لإ فهو الذي استردها مرة ثانية، ثم دمرها حتى لا يتخذها الصليبيون قلعة ضد المسلمين، وبلغ من كثرة الأسرى أن الفتاة كانت تباع بدرهم واحد، فأين عز المسلمين الآن؟ اللهم ارجع تلك الأيام إلينا، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. رب اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبّل دعواتنا، أجب دعواتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، اللهم اجعل حشري إليك من حواصل الطيور ومن بطون السباع. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

رسالة أحد الأدباء المعاصرين إلى صلاح الدين

رسالة أحد الأدباء المعاصرين إلى صلاح الدين الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد فقد وقع الصليب الأعظم للصليبيين في أيدي المسلمين وهو الذي يظنون أن عيسى قد صلب عليه، فأرسل والي عكا لـ صلاح الدين: ما بقى عندنا إلا القدس والصليب، وهذه الديار، وقد كثر القتل منا ومنكم، والصليب عندنا له قيمة عظيمة، وعندكم هو مجرد خشبة، فتفضّل بمنك وكرمك فأرجعه إلينا، وأما القدس فمتعبّدنا لا ننزل عنها حتى آخر رجل منا. فبعث إليه صلاح الدين الأيوبي فقال: أما ما تقول: إنه قد هلكت الرجال منا ومنكم، فعندنا طعامنا وشرابنا، وأما ما تقول من أن القدس متعبدكم فهي مسرى نبينا، ولا نستطيع أن نقول للمسلمين مجرد كلمة في تنازلنا عنها، وأما صليبكم فلا أعطيه لكم أبداً فهذه أيام صلاح الدين الأيوبي. فاروق رويدة صاحب الصفحة الأدبية في الأهرام وهي صحيفة قومية كتب فيها يقول: رسالة إلى صلاح الدين الأيوبي يقول في هذه الرسالة عن القدس وعن ديار المسلمين: وطن جميل كان يوماً كعبة الأوطان ماذا تبقى منه الآن تأكله الكلاب وترتوي بالدم فوق ربوعه الديدان الآن ترحل عنه أفواج الحمام وتنعق الغربان الآن ترتع فيه أسراب الجراد وتعبث الفئران الآن يأتي الماء مسموماً ويأتي الخبز مسموماً ويأتي الحلم مسموماً ويأتي الفجر مصلوباً على الجدران وطن بلون الفرح يبدو الآن محمولاً على نعش من الأحزان جسد هزيل في صقيع الموت مصلوب بلا أكفان وطن جميل كان يوماً كعبة الأوطان الآن ترتحل الرجولة عن ثراه ويسقط الفرسان في ساحة الدجل الرخيص يغيب وجه الحق تسقط أمنيات العمر يزحف موكب الطغيان في ساحة القهر الطويل يضيع صوت العدل تخفت أغنيات الفجر تعلو صيحة البهتان وطن بلون الصبح كان وطن جسور أنت في عيني ذليل في ثياب العجز والنسيان وطن عريق أنت في عيني أراك الآن أطلالاً بلا اسم بلا رسم بلا عنوان وطن بلون الصبح كان في أي عين سوف أحمي وجه ابني بعد ما صلبوا صلاح الدين يا وطني على الجدران في أي صبر سوف يسكن قلب ابني بعد ما عزلوا صلاح الدين من عين الصغار وتوجوا ديان يا للمهانة عندما تغدو سيوف المجد أوسمة بلا فرسان يا للمهانة عندما يغدو صلاح الدين خلف القدس مطروداً بلا أهل بلا سكن بلا سلطان في كل شيء أنت يا وطني مهان من علّم الأسد الأبي بأن ينكِّس رأسه ويهاجم الجردان؟ من علّم الفرس المكابر أن يهرول ساجداً في موكب الحميان؟ من علّم القلب النقي بأن يبيع صلاته ويعود للأوثان؟ من علّم الوطن العريق بأن يبيع جنوده ويقايض الفرسان بالغلمان؟ من علّم الوطن العزيز بأن يبيع ترابه للراغبين بأبخس الأثمان؟ من علّم السيف الجسور بأن يعانق خصمه ويعلّق الشهداء في الميدان؟ يا أيها الوطن المهان إني بريء منك يا أيها الوطن المهان ويقول أيضاً في جريدة الأهرام في الصفحة الأدبية: لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون تجرون خلف الموت والنخّاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تُعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرّط أو يخون كهّاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون من حسي نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون؟ متى يفيق النائمون؟

خطبة القدس التي ألقاها قاضي صلاح الدين

خطبة القدس التي ألقاها قاضي صلاح الدين أما خطبة القدس التي ألقاها محيي الدين بن زكي قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء:111]. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]. وقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:1]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] ثم أتى بآيات الحمد كلها. الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذِّل الشرك بقهره، ومصرِّف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره. الحمد لله أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يرادع، والحاكم بما يريد فلا يُدافع. أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوزاره حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه. وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى إلى سدرة المنتهى {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:15 - 17]. صلى الله عليه، وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسّر الأوثان، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان أيها الناس! أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسّره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمم الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يُرفع وأن يُذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه، واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه، وبالتقوى فإنه أُسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام. وهو مقر الأنبياء, ومقصد الأولياء، ومفر الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل تنزل الأمر والنهي. وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين. وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي شرفه الله برسالته، وكرّمه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:17]. وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تُعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاه من سكان بلاده لما خصّكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش صارت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصدّيقية، والفتوح العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية فجزاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبّل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة؛ فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عيناً الأنبياء والمرسلون. فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يُفتح عليه البيت المقدس آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم -بعد فترة من النبوة- أعلام الإيمان، فيوشك أن يكون هناك التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكر الله في كتابه، ونص عليه في خطابه، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]؟ هو البيت الذي عظمته الملوك، وأثنت عليه الرسل، وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عز وجل، أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشمس على يوشع بن نون لأجله أن تغرب؟ وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟ فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضّلهم على العالمين، ووفقكم لما خُذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لأهويتكم جنده، وشكركم الملائكة المنزلون على ما هديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد، ونشر التقديس والتحميد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن يستغفر لكم أملاك السماوات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات. فاحفظوا -رحمكم الله- هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله الذي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعُصم، واحذروا من اتباع الهوى وموافقة الردى، ورجوع القهقرى، والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا -عباد الله- أنفسكم في رضاه؛ إذ جعلكم من عباده. وإياكم أن يستزلكم الشيطان وأن يتداخلكم الطغيان فيخيل إليكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وبخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله! {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]. واحذروا -عباد الله- بعد أن شرّفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصّكم بهذا الفتح المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين أن تقترفوا كثيراً من مناهيه، وأن تأتوا عظيماً من معاصيه، فتكونوا {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92] ومثل {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175]. الجهاد الجهاد! فهو أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حسم الداء، وقطع شأفة الأعداء، وتطهير بقية الأرض من الفئة التي أغضبت الله ورسوله، اقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية، والملة المحمدية. الله أكبر فتح الله ونصر غلب الله وقهر أذل الله من كفر. واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم، وبرّزوها وسيروا إليها سرايا حسناتكم، وجهّزوها فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65]. أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] ثم دعا للسلطان صلاح الدين الأيوبي فقال: اللهم وأدم سلطان عبدك، الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، المحامي عن دينك المدافع، الذاب عن حرمك المانع، السيد الأجل، الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين. اللهم عم بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأح

دمعات شعرية على قدس الإباء

دمعات شعرية على قدس الإباء ونختم بما بكى به الشاعر القدس قال: أعيني لا ترقي من العبرات وصلي البكا الآصال بالبكرات لعل سيول الدمع يطفئ فيضها توقد ما في القيد من جمرات ويا قلب أسعر نار وجدك كلما خبت بادكار يبعث الحسرات ويا فم بح بالشجو منك لعله يروح ما ألقى من الكربات على المسجد الأقصى الذي جل قدره على موطن الإخبات والصلوات على خير الأملاك والوحي والهدى على مسكن الأبدال والبدلات على سلم المعراج والصخرة التي أناست بما في الأرض من صخرات على القبلة الأولى التي اتجهت لها صلاة البرايا في اختلاف جهات على خبر معمور وأكرم عامر وأشرف مبني لخير بناة وما زال فيه للنبيين معبد يوالون في أرجائه السجدات عسى المسجد الأقصى المبارك حوله رفيع العماد العالي الشرفات عسى بعد ما قد كان للخير موسماً وللبر والإحسان والقربات يوافي إليه كل أشعث قانت لمولاه بر دائم الخلوات خلا من صلاة لا يمل مقيمها توشح بالآيات والسورات خلا من حنين التائبين وحزنهم فما بين نواح وبين بكاة لتبك على القدس البلاد بأسرها وتعلن بالأحزان والترحات لتبك عليها مكة فهي أختها وتشكو التي لاقت إلى عرفات لتبك على ما حل بالقدس طيبة وتشرحه في أكرم الحجرات فمن لي بنواح ينحن على الذي شجاني بأصوات لهن شجاة يرددن بيتاً للخزاعي قاله يؤذن فيه خيرة الخيرات مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات

وقفات مع سورة النجم [1]

وقفات مع سورة النجم [1] في أول سورة النجم يبين الله عز وجل صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لم يضل، ولم يصبه الجهل ولا الغواية، بل إنه معلم من ربه سبحانه بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام الذي وصفه الله بالقوة والأمانة في إنزال الوحي ونقله إلى النبي صلى الله عليه وسلم على مراد الله عز وجل، ولذا لا يستطيع الطاعنون مهما أوتوا من قوة أن يطعنوا في محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

معنى قوله تعالى: (والنجم إذا هوى)

معنى قوله تعالى: (والنجم إذا هوى) إن الحمد لله نحمده ونستعينه وسنتهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وجده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: فهذه وقفات مع سورة النجم. وسورة النجم لها ثلاثة أسماء، ومنها: سورة (النجم) بدون الواو، كما هو ثابت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها وسجد المشركون). وتسمى: سورة (والنجم) كما ترجم لها الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، وكما ترجم لها الإمام الترمذي. وتسمى سورة: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، كما جاء في حديث زيد بن ثابت في الصحيحين. وهذه السورة أول سورة يعرضها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، كما قال ابن مسعود فهي مكية بإجماع علماء التفسير وأهل التأويل. ونسب بعضهم عن ابن عباس -وهذا القول ضعيف- أن السورة كلها مكية إلا آية: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]. أما القول المنسوب للحسن البصري أنها مدنية فهذا قول شاذ. وهذه السورة رقمها 23 في ترتيب النزول، وقد نزلت بعد سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وقبل سورة عبس. قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:1 - 14]. قوله: (والنجم) يقسم الله تبارك وتعالى بالنجم، فما المراد بالنجم؟ هناك لأهل التأويل أقاويل عدة، القول الأول: أن المقصود بالنجم هنا الثريا، والثريا ستة أنجم كانت تعرفها العرب، ذكر ابن قتيبة وابن وهب هذا القول عن ابن عباس، وهو منسوب إلى مجاهد بن جبر من رواية ابن أبي نجيم، وهو قول سيدنا سفيان الثوري، وانتصر له العلامة ابن جرير. القول الثاني: أن المراد به النجوم، وهذا أمر جائز، وهو أن يذكر الفرد ويراد به الجميع، مثل قول الله تبارك وتعالى عن أهل الجنة: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75] والجنة ليست غرفة واحدة؛ لأن أولئك يجزون الغرف بما صبروا، وهذا من إطلاق الفرد وإرادة الجمع، فهنا يقسم الله عز وجل بالنجوم كاملة. وعلماء الفلك من المسلمين أو من غير المسلمين يقولون: إن في السماء مجرات يصل عددها إلى مائة ألف مليون مجرة، والمجرة عدد نجومها مائة ألف مليون نجم، فاضرب مائة ألف مليون مجرة في مائة ألف مليون نجم، وانظر كم سيكون عدد النجوم في السماء. والمسافة بين النجوم تقاس بمقياس يسمى: (بارسك)، والبارسك يساوي 192 وأمامها ضع 11 صفر، ولا أدري كيف ينطق بها، هذه وحدة قياس المسافات بين النجوم، وهناك وحدة قياس أخرى وهي السنة الضوئية، وهي عبارة عن تسعة بليون كيلو متر، فبعد الشمس عن الأرض (5. 8) دقيقة ضوئية. أما الشعرى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] قالوا: إنها تبعد عن الأرض بمقدار (300) سنة ضوئية، يعني: (300) اضربها في 9 بليون كيلو متر. وقالوا: إن مجرتنا التي تقع فيها الأرض نصف قطرها (50000) سنة ضوئية، ولهذه المجرة توابع منها السدوم، وهي المواد الأولية في تكوين النجوم، وهي تبعد عن مركز المجرة (100000) سنة ضوئية {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:75 - 76]. وهذه النجوم تسير في أبراج وفي مدارات وتخضع لله عز وجل وأنت لا تخضع يا ابن آدم، ومن النجوم الشمس، وهي تعطي ثلاثمائة مليون شمعة، ومن النجوم ما يعطي في اليوم الواحد مثلما تعطي الشمس في سنة كاملة، ولكن لبعدها السحيق عنا يجعلنا لا نشعر بها، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بنا، فمن أنت؟! فذل واخضع لمولاك ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في سفحه يدين له الفلك الدائر تدين له الأسد في غابها وظبي الفلا الشارد النافر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له البر والفاجر القول الثالث في معنى النجم: أنه آيات وسور القرآن التي أنزلت مفرقة على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم. فإن العرب تطلق على الشيء المفرق اسم النجم، تقول: أسدد لك الدين الذي لك علي على نجم كذا؛ لأنهم كانوا يسددون الديون على نجوم، أي: في أوقات ظهور النجم أو اختفائه، فأطلق بعد ذلك على شيء مفرق يقال له نجم. فالله عز وجل يقسم بآيات القرآن وسوره التي أنزلت منجمة على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم تدل على صدق الرسالة. {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] إذا قلت: إنه الثريا يكون المعنى: إذا غاب نجم الثريا أو إذا غابت النجوم، وإذا قلت: إنه الرجوع من رجم الشياطين يكون المعنى: عند هويها لسحق الشياطين. وإذا قلت: إنه الآيات يكون المعنى: إذا هوى، أي: إذا نزل.

معنى قوله: (ما ضل صاحبكم وما غوى)

معنى قوله: (ما ضل صاحبكم وما غوى)

الفرق بين الضلال والغواية

الفرق بين الضلال والغواية قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. في كلمة (صاحبكم) تبكيت للمشركين، أي: أنتم تعلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كنتم تسمونه بالصادق الأمين قبل مجيء الوحي إليه، فلما جاءه النور وزاده نوراً فوق نوره غيرتم القول وقلتم: إنه المجنون وإنه الأفاك، وإنه الكذاب. {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:2]، فأنتم تعرفونه جيداً وهو معروف عند أهل الحي بالاستقامة والنزاهة قبل أن يعرف طريق الله عز وجل، فما هو ببعيد عنكم، ولم ينزل إليكم من المريخ ولا من كوكب آخر، وقد كنتم تنعتونه بكل نعت جميل، فإذا ما التزم بدين الله عز وجل صار هو المتطرف، وصار كذا وكذا. وقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:2] الضلال: هو الانحراف في طريق العلم، وهو ضد الهدى. قوله: {وَمَا غَوَى} [النجم:2] الغواية: ضد الرشاد، وضد الرشد الانحراف، فيزكي الله تبارك وتعالى نبيه ويثني عليه بكمال العلم والعمل؛ لأن الانحراف في أي طريق يؤدي إلى الدمار دمار أن تعلم ثم لا تعمل، أو أن تعمل بغير هدى من الله تبارك وتعالى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون) الأمة الغضبية أمة اليهود؛ لأنهم علموا وكتبوا أو علموا وكتموا، والنصارى ضالون؛ لأنهم لم يعرفوا طريق الهدى فاتبعوا البدع؛ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من ضل من علمائنا فله صفات انتساب إلى اليهود في كتم العلم وقساوة القلب، ومن ضل من عبادنا فله نسب إلى النصارى. ولذلك فلاسفة الصوفية كـ ابن سبعين، وابن عربي، وابن الفارض قالوا بوحدة الوجود والحلول، وهي مثل مقالة النصارى. {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:2] الانحراف في العلم، {وَمَا غَوَى} [النجم:2] ألا تعمل بهذا العلم، وهذه مصيبة.

ذم العلم من غير عمل والعكس

ذم العلم من غير عمل والعكس يقول لك رجل من العوام: يا أخي! اتق الله عز وجل واستح، فهو يراك رجلاً داعية من دعاة المسلمين، ثم لا تطبق ذلك على نفسك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. وفي حديث جندب بن عبد الله الذي جود إسناده الشيخ الألباني فيما رواه الطبراني والضياء المقدسي في المختارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل المصباح يضيء للناس ويحرق نفسه). وقال عبد الله بن مسعود: تعلموا، فإذا علمتم فاعملوا. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: مثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله عز وجل. يقول سيدنا عيسى عليه السلام في المنسوب إليه: حتى متى تصفون الطريق للمدلجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين. يقول الحسن البصري رحمه الله: واعجباه من ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف. ويقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أعربنا في القول، ولحنا في العمل. ويقول سهل بن عبد الله التستري: العلم كله دنيا، والآخرة منه العمل به. ويقول أبو عبد الله الروذباري: العلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله تبارك وتعالى يورث الفهم عن الله تبارك وتعالى. وقال محمد بن المنكدر رحمه الله: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه حل وإلا ارتحل. قم بالخير موصوفاً، ولا تقم بالخير وصافاً؛ فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد. يقول الجنيد رحمه الله: متى ما أردت أن تتشرف بالعلم وتنسب إليه قبل أن تؤدي حق هذا العلم عليك احتجب عنك نوره، وبقي عليك رسمه، وظهور هذا العلم عليك لا لك. يعني: إذا لم تؤد حق العلم من العمل به يبقى لك مسمى العلم، ويذهب عنك نوره وبركته. يقول مصطفى صادق الرافعي في كتابه القيم وحي القلم: إن الخطأ الأكبر أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك. يقول الشاعر: وبخت غيرك بالعمى فأفدته بصراً وأنت محسن لعماك كفتيلة المصباح تحرق نفسها وتضيء للأعشى وأنت كذاك المولى تبارك وتعالى ذم من لا يعمل بعلمه فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] أي: في الدنيا والآخرة، فلا يزكيهم الله عز وجل، ولا ينظر إليهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها). ولقد نعت الله عز وجل من يعلم ولا يعمل بعلمه بأقبح نعتين في القرآن الكريم: فوصفهم بأنهم كالحمير، وأنهم كالكلاب؛ قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، وقال الله تبارك وتعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]. فهذا أقبح مثل لعالم السوء! ضل حمار العلم في الطين: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

العز بن عبد السلام المثل الناصع للعالم العامل بعلمه

العز بن عبد السلام المثل الناصع للعالم العامل بعلمه والمثل الناصع لمن كمل في علمه وعمله عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء، كان شيخ الإسلام في الشام، وإمام المسجد الجامع في مدينة دمشق، ولما أراد الصالح إسماعيل ملك دمشق وسلطانها أن يحارب ابن أخيه السلطان نجم الدين أيوب حاكم مصر استعان بالفرنجة وأقطعهم بعض بلاد المسلمين، وأعطى لهم حصوناً من الحصون التي في بلاد المسلمين، فاستفتى تجار السلاح عز الدين بن عبد السلام في حكم بيع السلاح، فقال: يحرم عليكم بيع السلاح لهم؛ لأنهم سيقتلون به إخوانكم من المصريين. ثم لما كان يوم الجمعة قطع الدعاء للحاكم وقال: اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. فعزلوه عن الخطابة؛ فرحل عز الدين من دمشق إلى بيت المقدس، فلما أتت جيوش الفرنجة خاف الصالح إسماعيل على ملكه فقال لوزيره: خذ منديلي هذا وتلطف في خطاب عز الدين بن عبد السلام ليعود إلى منبره، بشرط أن يقبل يدي على ملأ من الناس، لا أريد منه سوى ذلك، فإن لم يستجب لك فاحبسه في خيمة بجوار خيمتي. فرحل إليه الوزير له وقال: إن الملك لا يريد منك إلا أن تقبل يده على الملأ. فماذا قال عز الدين؟ قال كلمات خالدة تبقى ترن في آذان الصادقين مشاعل من نور تبث الحياة في الآخرين؛ لأنها خرجت من قلب حي لتبعث الحياة في الآخرين؛ فقال: يا سبحان الله! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ غيره، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، والله ما أقبل من سلطانكم أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل أنا يده، أيها الناس! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ غيره. فحبسوه إلى جوار خيمة الصالح إسماعيل، وارتفع صوت الشيخ بتهجده في الليل، فأراد ملك دمشق أن يتزلف نفاقاً ورياء إلى ملك أوروبا الأعظم، فقال: أتسمع صوت هذا الشيخ في تلاوته للقرآن؟ قال: نعم، قال: أتدري من هذا؟ قال: لا، فكما جاء في رواية طبقات الشافعية الكبرى لـ ابن السبكي أنه قال: هذا أكبر قسس المسلمين حبسناه من أجلكم؛ لأنه أفتى بحرمة بيع السلاح لكم، فقال هذا الملك: لو كان هذا الشيخ قسيسنا لغسلنا رجليه ولشربنا الماء.

موقف العز بن عبد السلام من أمراء مصر المماليك

موقف العز بن عبد السلام من أمراء مصر المماليك عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء، لما أراد بعد ذلك أن يدخل إلى مصر قربه نجم الدين أيوب وجعله مفتياً للديار المصرية، وكان الشيخ يعلم أن المماليك وأهل الحكم في مصر غير السلطان نجم الدين أيوب من العبيد المماليك، فلا يحل لهم عقود البيع والشراء ولا السفر ولا الترحال إلا بإذن من سادتهم، وكان للملك هيبة ووحشة حتى عند المقربين منه، فلما قابله عز الدين بن عبد السلام قال له: يا نجم الدين! -وناداه باسمه- إن الحي الفلاني فيه الخمر الفلاني! فارتعد لكلمته نجم الدين أيوب وقال: هذا من زمن آبائي، قال: أنت ممن يقول الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]. ثم قال بعد ذلك تلميذ عز الدين بن عبد السلام له: كيف واجهته وهو من هو؟ قال: تذكرت هيبة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالقط. ثم بعد ذلك أرسل عز الدين بن عبد السلام إلى نجم الدين أيوب بعزمه على بيع المماليك من نظراء الدولة ومن نوابه، فقال: خض في غير هذا! فارتحل عز الدين بن عبد السلام عن القاهرة تاركاً وراءه كل شيء، أخذ متاعه على حمار وارتحل، فسار الناس خلف شيخهم وتركوا القاهرة لـ نجم الدين أيوب حتى قال وزيره: إن مضى هذا الرجل من القاهرة مضى عنك ملكك؛ لأن الناس سيخرجون وراءه، ما من رجل عاقل إلا سيخرج خلفه، فسيتركون لك القاهرة فتصبح ملكاً على المقابر. فسار إليه وظل يتلطف له في القول ويسترضيه وقال: عد وأفت بما شئت، فقال: لأفتين ببيعهم غداً، فقال نائب السلطان للأمراء: أنا أريحكم من عز الدين بن عبد السلام وأقتله؛ كيف يبيعنا ونحن سادة البلد؟ فأمسك بسيفه ثم سار إلى بيت عز الدين بن عبد السلام، فأراد ابن عز الدين ألا يفتح له خوفاً على أبيه، فقال: اجلس يا بني! فإن أباك أقل من أن يرزقه الله الشهادة في سبيله. ولما فتح الباب ارتعدت فرائص نائب السلطنة ويبست يده، وسقط السيف منها فقال: بالله عليك يا مولانا ماذا تعمل فينا؟ قال: أبيعكم غداً! قال: ومن يقبض ثمننا؟ قال: أنا، وأضعها في خزانة بيت مال المسلمين. ولأول مرة -وهي المرة الوحيدة الفريدة في التاريخ- يباع أمراء المملكة على مرأى من الناس، يبيعهم سلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء!

قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)

قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)

الإعجاز اللفظي للقرآن

الإعجاز اللفظي للقرآن قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. انظر إلى دقة اللفظ وإعجازه! {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:2 - 3]، ولم يقل الله عز وجل: وما ينطق بالهوى، وإنما قال: عن الهوى. وهذا أعجب وأجمل وأثبت في المعنى؛ لأن هذا يفيد صدق المصدر الذي أخذ منه الكلام، وصدق النص، فقد يصدقك الكذوب أحياناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي هريرة: (صدقك وهو كذوب). {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] ففيه صدق مصدر التلقي، وصدق النطق ذاته. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ} [النجم:3 - 4] الضمير هنا يعود على نطق الوحي، أي: إن نطقه كله إلا وحي يوحى، وهذا أثبت في المعنى وأجمل، ومعناه أن كل ما يتكلم به وحي، ومصداق ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وصححه الألباني، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113] قال الشافعي: الحكمة هي السنة، وقال الأوزاعي: روي عن حسان بن عطية: كان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم السنة مثلما كان يدارسه القرآن.

الرد على قصة الغرانيق وبيان عصمة الأنبياء

الرد على قصة الغرانيق وبيان عصمة الأنبياء قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] فالسنة وحي، والقرآن وحي، لنرد بعد ذلك على قصة الغرانيق التي ستأتي عند قول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، حتى لا يتبجح الزنديق سلمان رشدي في آياته الشيطانية ويقول: إن هناك سهوات محمدية مثل ما يقول المشركون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسهو ويمدح الآلهة والأصنام يريدون بذلك أن يبطلوا الرسالة. إذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوماً الأصنام وهو ما أتى إلا لهدمها فقد بطلت رسالته من الأصل، ويستدلون على ذلك بحديث موضوع قال عنه إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: هذا من وضع الزنادقة، وهو حديث الغرانيق العلى، وذهب إلى أنه موضوع أيضاً الإمام البيهقي، والقاضي أبو بكر بن العربي، والقاضي عياض في كتابه الشفا، والإمام العيني، والإمام الكرماني أحد شراح البخاري، والإمام الشوكاني، والإمام الألوسي، وصديق حسن خان، والشيخ سيد قطب، والإمام محمد عبده، وشيخ أهل الشام محدث الديار الشامية الشيخ الألباني عليه رحمة الله في كتابه الطيب: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق. اعلم يا أخي! أن مذهب السلف هو عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يختص بالوحي، العصمة عند التلقي والتحمل، والعصمة عند الأداء كما يقولون، يعني: حين ينزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك في أنه جبريل أو غيره، وإنما يعطيه الله عز وجل ويجعل له العلم اليقين في قلبه أن هذا هو جبريل، وأن النازل به وحي من عند الله، فلو شك النبي صلى الله عليه وسلم هل هذا جبريل أو لا لبطلت الرسالة من الأصل. فعندما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم جبريل لا يشك فيه، ولا يزيد فيه ولا ينقص منه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7]، وحينما يبلغ الوحي إلى البشر فإنه لا يجوز له أن يشك أو أن يسهو أو أن يزيد في الوحي أو أن ينقص منه شيئاً، حتى يستقر العلم بالوحي في الأرض، وإذا استقر العلم بعد ذلك فيجوز له أن ينسى أو أن يسهو، مثلما حدث في الصلاة ونبهه الصحابة. أما عصمة الأنبياء من الذنوب فهم معصومون من الكفر ومن قول الباطل والكبائر، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكفر قبل الرسالة، أما قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] فمعناه: ووجدك غافلاً عن أحكام الشريعة. فما كان النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه قط، قال الإمام أحمد: من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه هذا قول سوء، يعزر صاحبه. والأنبياء معصومون من الكبائر بعد الرسالة، أما قول موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20]، فإن هذا قبل الرسالة. أما صغار الذنوب فتجوز على الأنبياء، وهذا مذهب السلف، ولا يعرف لهم مذهب غيره كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنهم إذا فعلوا صغار الذنوب تابوا منها في الحال، وأقلعوا عنها، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة، ولذا قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:2 - 4].

معنى قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى)

معنى قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى)

عداوة اليهود لجبريل وللمسلمين

عداوة اليهود لجبريل وللمسلمين الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6]. هذا معلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما يقول اليهود الكذابون الدجالون: إن الذي كان يعلم محمداً هو عبد الله بن سلام حبر اليهود الذي أسلم بعد ذلك عدو جبريل من الملائكة كما قالت يهود، واليهود يبغضون كل شيء طيب وجميل، وكبرى جرائمهم قتلهم للنبي صلى الله عليه وسلم. فصارت الحرب بيننا وبينهم دينية بحتة، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (لأن أحلف بالله تسعاً أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل قتلاً، وجعله الله نبياً، واتخذه شهيداً). يقول أبو الأحوص فسألت إبراهيم النخعي فقال: كانوا يقولون -أي: الصحابة-: إن يهود سممت النبي وأبا بكر. قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه الحاكم في المستدرك. وزينب بنت الحارث هي التي سمته بعد غزوة خيبر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم من أثر السم، حيث كان يعاوده أثر السم فيحتجم، حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم متأثراً بالسم. وكذلك سموا من بعده الصديق أبا بكر، وعبد الله بن سبأ اليهودي كان وراء قتل عثمان، وصاحب الفتنة الكبرى، حيث أله علياً وأسس المذهب الشيعي في ديار المسلمين وأتت كل البدع عن طريق الدولة الفاطمية التي أنشأها عبيد الله بن ميمون القداح اليهودي المنتسب إلى بيت النبوة زوراً. وأسقطوا دولة الخلافة في تركيا على يد اليهودي مصطفى كمال أتاتورك من يهود الدونمة، ثم بعد ذلك أخذوا فلسطين. {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] هو جبريل عليه السلام، و (القوى) هنا لازمة لصيانة الوحي عن أن يتخطفه الشياطين عند نزول جبريل به، قال الله عز وجل: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:210 - 211]، لقوة جبريل {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جبريل بهيئته التي خلقه الله بها وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مرتين: (رأيت جبريل له ستمائة جناح، ينتثر من ريشه تهاويل الدر، كل جناح سد علي الأفق). قال الله تبارك وتعالى مبيناً قوة جبريل: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر:37] يعني: طمس جبريل أعينهم بطرف جناحه فقط بعد أن رفع القرى اللوطية الخمس حتى أسمع الملائكة صوت نباح الكلاب وصوت الديكة، وهو الذي صاح صيحة واحدة على ثمود، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، صيحة واحدة فقط!

قوله تعالى: (ذو مرة فاستوى)

قوله تعالى: (ذو مرة فاستوى) قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ} [النجم:5 - 6]، أي: ذو قوة. والقول الثاني: أي: ذو منظر حسن وجميل، ينتثر من ريشه تهاويل الدر، يحمل الجمال والنور وينزل به في الصحف المكرمة. فلابد أن يكون في منظر جميل، وانظر إلى جمال نزوله، حيث يقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، يعني: والقرآن إذا نزل، فجبريل عليه السلام في تلألئه وفي النور الذي يحمله مثل النجم إذا لمع ورق، أجواء شفافة مضيئة يحملك إليها القرآن بعيداً عن الأرض: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6] أما من يحمل الصحف السوداء والكذب والدجل فتجده يحمل وبيصاً منها وشيئاً منها وكفلاً منها. وإذا رأى الشيطان طلعة وجهه حيا وقال فديت من لا يفلح لست كذاباً فما كان أبي حزباً ولا أمي إذاعة أما الصحف النقية الكريمة، {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:14 - 15]، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ} [النجم:5 - 6] يعني: ذو منظر جميل، والله تبارك وتعالى يصف سيدنا جبريل في سورة التكوير فيقول: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21]، هو المقرب من الملائكة إلى ربه، له مكانة وأي مكانة عند الله عز وجل، فهو: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20]. لا تبغين جاهاً وجاهك ساقط عند الإله وكن للموت حذارا قال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ} [التكوير:20 - 21] له الطاعة العظمى في ملكوت السموات، يصدر الأمر إلى الملائكة فيستجيبون له {ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21]. وعندما تسمع صفة جبريل انظر إلى ملكوت السموات وكم فيها من ملك؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك ساجد واضع جبهته لله تبارك وتعالى). وأعداد الملائكة على التضعيف، يعني: كل سماء ضعف التي قبلها، فعدد الملائكة الذين يدخلون البيت العتيق سبعون ألف ملك يدخلونه ثم لا يعودون أبداً، وهذا منذ أن خلق الله تبارك وتعالى السموات، وكل هؤلاء يؤدون لجبريل الطاعة المطلقة فهو: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21]، أي أمين يحمل أنفس شيء، وأعظم شيء، وأجمل شيء، ولا يبخل به، مع أنه نزيه لا يكتم شيئاً منه، فليس بمتهم على الوحي، كما قال الله تبارك وتعالى عن الرسول البشري سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] والغيب هنا هو القرآن بإجماع علماء التفسير. فقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] يعني: لا يبخل بشيء من الوحي مع نفاسته ولا يكتم شيئاً منه، وهذا كمال الكرم. القول الثاني على القراءة السبعية الثانية: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بظَنِينٍ} [التكوير:24] بالظاء يعني: ليس بمتهم، فهو أمين. فهو سبحانه يثبت الأمانة لسيدنا جبريل ويثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24]، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6] كلمة (استوى) معناها: علا وارتفع، ولكن استوى قد تضيف لها حرف جر فتحمل نفس المعنى، أي فتكون بمعنى العلو والارتفاع، وتحمل معه معنى آخر، وهذا من جمال اللغة العربية: وسعت كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي وكلمة (شرب) نعلم من معناها جميعاً أنه إنسان يشرب، ولكنه قد يشرب ولا يرتوي، فإذا وضعنا حرف الجر بعدها أفادت معنى آخر للشرب: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] لم يقل: يشربها عباد الله وإنما قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] يعني: يرتوي منها عباد الله. قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] قال ابن كثير: ثم صعد، وقال ابن جرير: ثم قصد، فصار معناها العلو والارتفاع، ومعناها القصد، أي القصد تجاه الشيء. فيكون معنى استوى: العلو والارتفاع أي: ارتفع جبريل في الأفق الأعلى: {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:7].

قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى ما أوحى)

قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى ما أوحى) قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8]. من الذي دنا فتدلى؟ ليس معناه: أنه زاد فيه ونقص، وقدم وأخر، ووقع في الوهم، كما قال الحافظ ابن حجر، وحمل عليه العلماء الحديث الوارد في البخاري ومسلم. وإنما الذي دنا فتدلى هو جبريل، دنا فتدلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرب. قال تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]. قاب: قدر قوسين: القوس معروفة. أو أدنى: (أو) هنا لا تحتمل الشك، وإنما لتقدير المسافة، مثلما قال الله عز وجل: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، يعني: ما كانوا مائة ألف، بل يزيدون على ذلك فـ (أو) لا تحمل معنى الشك، ومثلها: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] إن لم تكن فيها قسوة الحجارة فهي أشد منها. قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]. أي: أوحى الله لعبده جبريل ما أوحى، أو أوحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحاه الله إليه. قال تعالى: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وفي القراءة السبعية الثانية: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] يعني: ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، بل صار مشهد البصر والبصيرة واحداً. اللهم يا معلم إبراهيم علمنا، يا معلم إبراهيم علمنا، يا مفهم سليمان فهمنا، اللهم ارزقنا من علمك ربي، اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.

الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا

الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ هذا أمر فيه خلاف بين أهل السنة والجماعة. قال العلماء: إن رؤية الله تبارك تعالى يقظة لا تجوز في دار الدنيا لا تجوز للمؤمنين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت). وبعض الناس يجوزون رؤية الله عياناً في دار الدنيا، وهؤلاء هم الصوفية، بل يجوزون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يرى يقظة في دار الدنيا، وهذا قال به طائفة من علماء الصوفية، ويقول به الشيوخ المنتسبين إلى الحركة الإسلامية في باكستان فهم يقولون بجواز رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع كشف الحسابات الخاصة بدار العلوم عندهم وهذا كلام لا يقول به سليم العقل! أما بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه فالعلماء فيها على ثلاثة أقوال: منهم من توقف فلم يثبت الرؤيا ولم ينفها كالإمام القرطبي. ومنهم من أثبت الرؤيا، وهم: سيدنا عبد الله بن عباس، والحسن البصري، وعكرمة، وعروة بن الزبير، وابن شهاب الزهري، وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأكثر الأشاعرة، وانتصر لذلك الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه (الغنية في مسألة الرؤية). وكان ابن عباس يقول: إن الله اختص محمداً بالرؤية مثلما اختص موسى بالكلام، واختص إبراهيم بالخلة. والخلة ثابتة والتكليم ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان الحسن البصري يحلف بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه. أما من نفاها فهم أكثر أهل السنة وجمهور الصحابة كـ عائشة رضي الله عنها وأنس، وأبي ذر رضي الله عنه، وجمهور علماء السنة من بعدهم. وابن عباس له روايتان: رواية مطلقة بأن النبي رأى ربه، ورواية مقيدة أنه رأى ربه بفؤاده، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه يعني: الرؤيا المنامية. أما الذين نفوا الرؤية وهو القول الأصح فمنهم السيدة عائشة فلما قال لها مسروق بن عبد الله الأجدع: إن كعب الأحبار يقول إن محمداً رأى ربه، قالت: لقد قف شعري مما تقول، من قال لكم أن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل. وإن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه؟) و (نور) هنا فسرها العلماء أنه حجاب النور الذي حال بينه وبين رؤيته. وأصح الأقوال ما قال الإمام ابن كثير، والإمام البيهقي: أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ثابتة مناماً بالقلب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا) وكل ما يأتيه في المنام يكون وحياً. ولذلك كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقول ابن عباس -: أنه ربما نام حتى يسمع غطيطه ثم قام فصلى ولم يتوضأ، فلا يأتي أحد يقول لك: نحن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فنقوم من النوم ونصلي مباشرة، لأن ذلك من خواص النبي صلى الله عليه وسلم. وربما كان يأتيه الوحي مناماً. أما حديث اختصام الملأ الأعلى، الذي قال عنه الإمام الترمذي: سألت عنه محمد بن إسماعيل البخاري فقال حديث حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني، وشرحه الإمام ابن رجب الحنبلي في كتاب (اختيار الألى شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) فهو قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة).

وقفات مع سورة النجم [2]

وقفات مع سورة النجم [2] يذكر الله عز وجل في هذه الآيات شرف رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومنزلته ومكانته العلية، ثم يدعو أولئك المشركين الذين عبدوا الأصنام وسموها بأسماء مشتقة من أسماء الله عز وجل، وجعلوا لها صفات الألوهية أن يفيقوا من نومهم وغفلتهم، ويحذروا من اتباع الظنون والأهواء، ومن عبادة أشياء ما أنزل الله بها من سلطان.

قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى)

قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى) إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. ثم أما بعد: فقد وصلنا إلى قول الله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وفي القراءة السبعية أيضاً: (ما كذّب الفؤاد ما رأى) يعني: ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، فصار مشهد البصر والبصيرة واحداً. وذكرنا مذهب أهل السنة والجماعة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه يقظة أو عياناً، واختلاف أهل العلم في ذلك، والرأي الراجح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه إلا مناماً، لكن هذه قضية اختلف فيها علماء الأمة؛ فلا يسفه أحد رأي الآخر، يعني: تجد من جملة من يثبتون الرؤية ابن عباس على قول، وعكرمة مولى ابن عباس والحسن البصري وعروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، وابن شهاب الزهري، والإمام المحدث الحافظ ابن حجر العسقلاني، وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة وعليه أكثر الأشاعرة. والذين ينفون الرؤية: السيدة عائشة رضي الله عنها وأبو ذر وأنس وجمهور الصحابة، وهو الرأي الذي يميل إليه الإنسان ويرتاح إليه، وهو قول الإمام البيهقي، والإمام ابن كثير، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم. ثم يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] والقراءة الأخرى: (أفتمْرونه على ما يرى) وهذه قرأ بها حمزة والكسائي وخلف ويعقوب، وهي قراءة سبعية صحيحة. (أفتمارونه) بإثبات الألف يعني: أفتجادلونه، والقراءة السبعية الثانية أفادها التفسير؛ لأن الجدال قد يكون من أجل التبين، وقد يكون الدافع إليه الجحود فقط، فالقراءة الثانية: (أفتمرونه) يعني: أفتجحدونه، فهي أفادت معنى آخر، إذاً: هذا الجدال ليس جدال تبيين حقائق، وإنما جدال من أجل الجحد ودفع هذه الحقيقة.

قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة المنتهى)

قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة المنتهى) قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]. (نزلة) يعني: مرة، أي: ولقد رآه مرة أخرى، يقول ابن الجوزي: رأى محمد ربه، وقال ابن مسعود: إن هذه الرؤية لجبريل، رآه على صورته التي خلقه الله تبارك وتعالى عليها، ولقد رآه مرة أخرى في صورته الطبيعية التي خلقه الله عليها، وذلك عند بدء الوحي، والمرة الثانية عند سدرة المنتهى. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] السدر: هو شجر النبق، وهذه شجرة في السماء السابعة كما في حديث مالك بن صعصعة الموجود في الصحيحين، وفي أفراد مسلم: أن هذه الشجرة موجودة في السماء السادسة، ولا خلاف بين القولين، كما قال الحافظ ابن حجر، قال: ولا يعارض قوله أنها في السماء السادسة ما دلت عليه بقية الأخبار، أنه وصل إليها بعدما دخل السماء السابعة؛ لأن ذلك يحمل على أن أصلها في السماء السادسة، وتمتد فروعها حتى تصل إلى السماء السابعة. قوله: (سدرة المنتهى) سميت بذلك لأنه ينتهي إليها ما صعد من الأرض، وينتهي إليها أمر الله عز وجل الذي تأخذه الملائكة بعد ذلك، وهذه الشجرة العظيمة تصل ما بين السماء السادسة إلى السماء السابعة، يعني: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام) إنك إن ذهبت إلى أمام جامعة القاهرة أو إلى مكان آخر تقول: يا إلهي! هذه الأشجار من متى وهي موجودة؟ ارتفاعها قدر كيلو، فما ظنك بهذه الشجرة؟ بل وشجرة أخرى موجودة في الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى، يسير الراكب ذو الجواد المضمر -يعني: الجواد السريع- في ظلها مائة عام، ولا ينتهي ظلها)، نفس الظل مسيرة مائة عام بالجواد السريع، هذا خلق الله عز وجل: من أنت يا أرسطو ومن أفراخ قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما هديت له وأرشد هل أنتم إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد فالإنسان لا يتصور أبداً، ولا يجول بخاطر ولا يستطيع أن يكيف هذا المخلوق الذي هو سدرة المنتهى، وما عند الله عز وجل أعظم وأجل. ثم يقول الله تبارك وتعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:15] أي: عند هذه الشجرة جنة المأوى، وجنة المأوى قال ابن عباس: هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال الحسن: هي الجنة التي يصير إليها أهل الجنة، يعني: المأوى هنا علم على الجنة، فالجنة كما قال تبارك وتعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] فالمأوى: مسمى للجنة كما قال الإمام ابن القيم.

قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى)

قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) ثم قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16] النبي صلى الله عليه وسلم قال عن هذه الشجرة: (نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة). وأنت عندما تنظر إلى شجرة طوبى تجد أنها عجيبة! يعني: جميع ثياب أهل الجنة تخرج من شجرة طوبى، انس الأرض قليلاً وأطلق لروحك العنان في ذلك الأفق الوضيء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من شجرة في الجنة إلا وساقها من خالص الذهب) أي شجرة أو أي نخلة في الجنة من الذهب الخالص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من الدنيا في الآخرة إلا الأسماء)، يعني: يقول لك: هذا ذهب، ولكنه يخالف ذهب الدنيا، وهذا اشتراك في المسمى فقط. إذاً: الشجرة من ذهب تغرس في أرض من مسك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض الجنة مسك خالص، وتربتها الزعفران). وقال ابن عباس: من مرمرة بيضاء من فضة كأنها المرآة، فضة الجنة ليست كفضة الدنيا، فضة الدنيا مصمتة لا تستطيع أن تنظر ما بداخلها، ولكن فضة الجنة ترى ما تحتها من أنهار، شجرة طوبى تسقى بخمر ولبن وعسل وماء غير آسن: خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباتي وأبوس مقبض بابه خذني إلى وطنٍ أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه نحن اعتصرنا غيم كل خرائط الدنيا وأشعار الحنين إلى الوطن لا ماؤها يروي ولا أشعارها تكوي ولا تنسي عدن إن من النعيم في الجنة أن تمر السحابة من المسك فتقول لأهل الجنة: (ماذا أمطركم)؟ يقول يحيى بن أبي كثير: أشهد الله أن لو أراني هذا الموقف لأمرتها أن تمطر علينا حوراً مزينات! وليس مطراً فقط، ففي الصحيح الموقوف على عبد الله بن عباس: أنه يخرج أهل الجنة إلى شواطئ أنهار الجنة، ويخرج الحور العين، فإذا أعجب الرجل منهن واحدة لمسها بمعصمه فتتبعه، فتنبت مكانها من النهر جارية أخرى. إذاً: فيقول: وتمر السحابة من المسك فتحرك أغصان الأشجار، فيسمع لهذه الأشجار حثيث، فلا تدري أيهن أشد حسناً؛ صوت حثيث الأشجار أم صوت غناء الحور الحسان تحتها: قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان لا النغمات والأوزان يا حسن ذيّاك السماع وطيبه من مثل أقمار على أغصان يا حسن ذيّاك السماع فإنه ملئت به الآذان بالإحسان والشمس تجري في محاسن وجهها كالبدر ليل الست بعد ثمان يعني: ليلة أربعة عشر. فيظل يعجب وهو خالق ذاك من ليل وشمس كيف يجتمعان فهذه هي الجنة، وهذا ما عند الله عز وجل في ملكوته. ثم يقول الله تبارك وتعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16]. روى مسلم في أفراده من حديث عبد الله بن مسعود: قال: غشيها فراش من ذهب. منظر جميل عندما تنظر إلى فراشات تغطي أوراق الأشجار، منظر يبعث الشاعر على أن يتكلم، فكيف إذا كان هذا الفراش من ذهب خالص؟! هذا قول سيدنا عبد الله بن مسعود. وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت)، أي: لما نزل عليها من أوامر الله ما نزل تغيرت تلك الشجرة (فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها). تعجز الخلائق بعد نزول أمر الله عز وجل على هذه الشجرة أن تصفها من شدة حسنها، فما ظنك بجمال الخالق! قال ابن القيم: فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بي على تلك الربوع وسلموا وقولوا محب قاده الشوق نحوكم قضى عمره فيكم تعيشوا وتسلموا أحبتنا عطفاً علينا فإننا بنا ظمأ والمورد العذب أنتم وحبكم أصل الهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم وتفنى عظام الصب بعد مماته وأشواقه وقف عليه محرم فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وحي على روضاتها ورياضها وحي على عيش بها لا يسأم فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم

تفسير قوله تعالى: (ما زاغ البصر وما طغى)

تفسير قوله تعالى: (ما زاغ البصر وما طغى) قال تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. زيغان البصر: الالتفات يميناً ويساراً عن محدثه، وطغيان البصر: أن يرتفع وينظر فوق محدثه. شخص يكلمك فمن الأدب أن تجعل نظرك إلى ناظريه، وألا تلتفت يميناً ولا يساراً عنه، وألا تنظر فوقه. يأتي شخص أول مرة يدخل مثلاً مصر الجديدة، ويأتي إلى العمارات الشاهقة وغيرها من الأماكن فيقف متعجباً، ينظر ويقول: أشياء ليست موجودة في بلدنا، ويحدق ناظريه إلى أعلى وإلى أسفل، فما ظنك بمن اختلق السماوات السبع، وقد أدب الله عز وجل بصره، فلم يلتفت إلى غير محدثه صلى الله عليه وسلم. ولذلك تجد العلماء الذين يكتبون في الرقائق عندما يتكلمون عن الأدب يتكلمون عن أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: قال ابن القيم: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] وهذا كناية عن أدب النبي صلى الله عليه وسلم (ما كذّب الفؤاد ما رأى) ما كذّب الفؤاد ما رآه البصر. والدين كله أدب، فمن زاد عليك في الأدب فقد زاد دينك، قال عبد الله بن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، وقال: طلبنا الأدب حينما فاتنا المؤدبون. وقال بعض أهل العلم: من أساء الأدب على الباب رُد إلى سياسة الدواب. الذي لا يعرف أن يجالس الملوك، يقال له: اذهب إسطبل الخيول والحمير، فهذا أولى به. وقالوا: من ترك الأدب عوقب بحرمان السنن، والله تبارك وتعالى صدر هذه السورة بعد القسم بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] يدل على كمال العلم والعمل. وليس هناك انحراف في العلم ولا في العمل، فبعض الناس يتصورون أن السلفية أنك تحشو نفسك بالعلم وانتهى الأمر، وهذا فهم خاطئ، فحين يتصور كل إنسان منا أنه سيكون الألباني أو ابن باز فهذا دمار للدعوة السلفية، أو أن كل الناس سيكونون محدثين، فهذا دمار للدعوة السلفية؛ لأنه تختلف الإمكانيات والمدارس ومدارك الناس، فهذا رجل قدرته خطبة الجمعة، ويجيد فيها، وهذا آخر قدرته درس علمي بحت، يربي الأجيال والكوادر، لا يستطيع أن يربيها من يخطب الجمعة، وهناك شخص آخر عنده من الورع فوق هؤلاء، فالدعوة السلفية إذن تستوعب مثلاً التاجر، والفاكهاني، وصاحب عصير القصب. قد يكون هناك شخص أصبح علم الطب فرض عين عليه، فهل أقول له: اطلب العلوم الشرعية وأهمل الطب؟ والشريعة تضمن الطبيب الجاهل، فإذا قتل رجلاً فإنه يدفع الدية لأهله. اليهود الآن عندهم القنبلة النووية، وإمكانيات المسلمين متواضعة؛ بسبب الفهم السيئ، لماذا لا يوجد عندك كوادر في كل مجال علمي؟! يعني: هب أن الناس قالوا: يا أصحاب اللحى! تعالوا أقيموا دولة الإسلام، فلابد أن توجد عندك كوادر تقيم بها هذه الدولة، لنتكلم بصراحة، هل عندك كوادر تقيم بها الدولة أم عندك كوادر علمية؟ إعداد في مجرد دعاوى، والدعاوى يحتج لها ولا يحتج بها، أنت هل عندك كوادر علمية تمسك القضاء الشرعي؟ كم عندك من الأشخاص أكملوا فقه السنة؟ ولا يمكن أن تمثل قاضياً شرعياً يقضي بين الناس في الدماء والحقوق وتقول: أخذت فقه السنة فقط! لا يمكن. لابد أن تكون على الأقل مجتهداً في المذهب فتكون قاضياً له حق الاجتهاد، فما الذي عندك أنت؟ ممكن تجد ألف خطيب جمعة، ولكن القاضي الشرعي لا تجده، لا يوجد عندك هذه الكوادر، إذاً: لا في العير ولا في النفير، إنما هي دعاوى فقط! فنقول: اتقوا الله تبارك وتعالى، إن دولة الخلافة التي أسقطت واحتاجت إلى سنوات طويلة لإسقاطها، تحتاج كذلك إلى عشرات السنين لقيامها. وكما قال العلامة ابن القيم: يأبى عدل الله -وهذا في عصر الإمام ابن القيم - أن يولي علينا أمثال معاوية رضي الله عنه، فضلاً عن أبي بكر وعمر، فإن ولاتنا على قدرنا، وولاة السلف على قدرهم، وكأن أعمالنا ظهرت في جنس عمالنا، الحركات الإسلامية تجد مثلاً شخصاً في الجامعة، يقول لك: نحن أخذنا مسجد الجامعة! طيب: يا أخي! هذا تبع الأوقاف، لا تبعي ولا تبعك، أعطني فرصة لأتكلم فيه، أنت وريث المسجد لأبيك؟ أما إذا قامت هذه الدولة فماذا سنعمل فيما بيننا؟ فالاهتمام بالعلم فقط لا يكفي، نعم، اهتم بالعلم، ومع العلم العمل بهذا العلم؛ والورع أن تنشئ جيلاً ربانياً ورعاً، متهجداً بكاءً، يرفع يده إلى السماء فيستجيب الله عز وجل له. كان سيدنا محمد بن واسع زين القراء، فلما اصطف الناس لفتح كابول عاصمة أفغانستان الآن، قال قائد الجيش: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة رافعاً إصبعه إلى السماء، قال: أبشروا فقد جاء النصر، هذه الأصبع أحب إلي من ألف سيف شهير وشاب طرير، ففتحت بدعوة محمد بن واسع وضيعتها اللحى في عصرنا هذا! بعدما طرد الروس أحمد شاه مسعود ذهب إلى أمريكا وبريطانيا وفرنسا من أجل أن يعطوه قوات ويمدوه بالسلاح، من أجل أن يقوي نظام المعارضة في أفغانستان، حتى قال الناس وقتها: لو أنكم أمسكتم الدولة ستكونون مثل الأفغان، وأنت معك لحية مثل لحية سياف أو شاه مسعود أو كذا، فهذا قول العوام، والعوام معذورون. فأنا أقول لك: لابد من الورع إلى جانب العلم، ومن تفويض الأمر لله تبارك وتعالى. كذلك من ضمن المسائل التي أتت على الدعوة ما حصل بين الشيخ ربيع بن هادي المدخلي والشيخ سلمان العودة وسفر وغيرهما، هذه المسائل لو وجد الصدق مع الله تبارك وتعالى لحلت في جلسة واحدة، في وجود مثلاً الشيخ ابن باز، فلو وجد تجرد لله عز وجل لحلت، لكن أن يصل الأمر في مصر إلى أن يأتي شاب عمره سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة فيقف ويقول للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم أنت ما هو اتجاهك؟ فيقول له: عندك كلامي في التوحيد قبل أن تخلق، أيام ما كنت في بطن أمك؟! وفي أمريكا كنت أعطيهم درسهم الأسبوعي عن طريق الهاتف، فيسألني أحدهم عن الخلافات التي عندنا؟ فقلت له: اترك الخلافات التي عندنا، وحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس عليها حسيب غيرك. كذلك في الجزائر لا تدخل إلا أشرطة جماعة معينة، والجماعة الأخرى أشرطتها ممنوعة حتى أشرطة اللجنة العامة للدعوة والإرشاد في السعودية لا تدخل؛ لعدم التجرد لله تبارك وتعالى، وعدم وجود الورع، فهم أناس عندهم علم وليس عندهم تقوى. كم من الذين يتعلمون يصلون الفجر؟! كم من المبرزين في العلم يصلون الفجر؟ الأمر يحتاج إلى علم وعمل، واهتمام بالقلب حتى لا يقسو، وإذا كان عندك من العلم أطنان فإنها لا تنفع، فهذا العلم عليك لا لك، وهذا العلم يعطيك رسم العلم وظهوره، ويخفي عنك بركته ونوره.

تفسير قوله تعالى: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)

تفسير قوله تعالى: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) قال تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]. هذا الأدب لا تستفيده من كتاب، وإنما يستفاد بمجالسة أهل العلم والورع، إن شيخك من حدثك بلحظه لا من حدثك بلفظه، وأقسم بالله -وأنا غير حانث- أنك لو مكثت مثلاً شهراً كاملاً مع الكتب لم تنفعك مثل جلوسك بين يدي الشيخ محمد بن إسماعيل في بيته جلسة عادية لمدة ساعة؛ فصمت الرجل وورعه ووقاره وخوفه وسمته يكفيك، ومن لا ينتفع بسمت العالم لا ينتفع بعلمه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17 - 18]. قال ابن الجوزي: لقد رأى من آيات ربه العظام، ما الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن مسعود: رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سد الأفق. والرفرف: هي زوائد البسط، قال تعالى: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76]. فكيف بالسرير الذي عليه هذا الرفرف، قال الله تبارك وتعالى: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] بطانة الفرش والأسرة من إستبرق، وهو الحرير السميك. أما ظواهرها فقد قال الثوري أو غيره: من نور جامد، أو من نور يتلألأ. هل سمعت بنور جامد؟! نسأل من الله أن يجلسنا على هذه الأسرة، ويبقي لنا العقل بعد ذلك. قد تعجب لو جلست على سرير من أسرة الدنيا مزيناً مبهرجاً بألوان البهارج، فما ظنك بأسرة الجنة؟ وعلو السرير ارتفاع مسيرة سبعين سنة، حتى تشرف على أعلى ملكك كما قال سفيان الثوري، ثم ينخفض بك متى أردت، هل يباع هذا بمال؟ أم بجيفة طلابها كلاب؟ إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في دار غرس الرحمن غراسها بيده. القول الثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، يعني: في خلقته الطبيعية، وهذا قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال ابن جرير: رأى من أعلام ربه الأدلة الكبرى.

قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى)

قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) ثم قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قراءة الجمهور (اللاتَ) وقراءة سبعية ثانية: (أفرأيتم اللات) وهي قراءة ابن كثير، بتشديد التاء، واللات: اسم صنم يعبده أهل ثقيف بالطائف، وأصله كان لرجل يلت السويق للحجيج، فلما مات صنعوا له صنماً. والعزى: اسم شجرة كانوا يعبدونها، وهذا قاله مجاهد. أما مناة: فكانت صنماً لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة، وقال قتادة: بل كان هذا الصنم للأنصار. ومن الأصنام: هبل، ولذا قال أبو سفيان في أحد: أعل هبل، فقال سيدنا عمر بن الخطاب بإذن النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلى وأجل)، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم، فأجابه سيدنا عمر: (الله مولانا ولا مولى لكم). وقولهم: (اللَّاتَ والعزى) فيه إلحاد في أسماء الله عز وجل، والإلحاد في أسماء الله عز وجل: أن تخترع أسماء الأصنام من أسماء الله عز وجل، فهم اشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، هو أن يسمى الله عز وجل بغير اسمه، كالأب كما تسميه النصارى، أو العلة الفاعلة عند الفلاسفة، أو العقل الكلي عند الفلاسفة، وأصحاب نظرية العقول العشرة. العزى: شجرة كان يعبدها أهل مكة، وتوجد شجرة عندنا في مركز قبل نجع الشيخ عمار بقليل، هذه الشجرة إلى الآن تقدم لها القرابين، وهي شجرة موحشة ولا يستطيع أي أحد أن يقترب منها، لأن الاقتراب منها قد يؤدي إلى مشاكل بين العائلات وقد تسيل بسبب ذلك الكثير من الدماء يريد أرضاً تأتي بمحاصيل ينذر لها. والناس في عبادتهم للأصنام على قدر عقولهم، فمثلاً: في مصر الجديدة يمكن أن يحضر الرجل للأصنام أنواعاً من الحلوى الفاخرة، ونحن عندنا شيخ في منطقة ما يسمونه الشيخ أبو المواجير، والماجور عبارة عن آلة العجين، أو الذي تضع فيه الماء للدجاج، فتجد عنده سيارات تنقل (مواجير) هذا هو الشيخ. وفي الفيوم في منطقة الغرقة هناك على البحيرة يعملون مولداً في الصيف، وفي هذا المولد يصعد أهل البلد كلهم على المراكب، وعندما تسألهم: هل ستظلون في المراكب؟ يقولون: نعم، هذا مولد سيدنا الشيخ الغريق، فلماذا هو سقط إلى تحت الماء؟ يكفي أنه سقط، وهذا الفعل إلى الآن موجود. وفي طريق (الإسكندرية مصر) عندما تسلك الطريق الصحراوي بجانب شريط القطار يوجد هناك مولد لرجل اسمه الشيخ سبرتو، وقد قص علي قصته زوج عمتي، وهو وكيل لوزارة النقل، فيقول: كان سبرتو في سكة الحديد، وكان يشرب سبرتو أحمر في القطار، وبعدما مات قالوا: أوقفوا القطار وادفنوه إلى جنب شريط القطار، وتمر أعوام وإذا هناك مولد، لمن هذا المولد؟ يقولون: مولد الشيخ سبرتو، نحن الذين دفناه! والعوام والفلاحون متشبعون بالضلال، والناقل ينقل وتزداد الفتن، ولا يوجد ورع ولا تقوى لله تبارك وتعالى. لكن تعال وانظر تجد الصوفية ينزلون إلى الأرياف، ويصلون إلى مناطق لا تستطيع أن تصل إليها، كل هذا لينشروا الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي تؤيد طريقتهم في الجبل، فالذي أنت متأكد أنه حديث موضوع وقال به المبتدعة تلقاه موجوداً عند الناس، وهؤلاء الناس لا يعرفون العلم فمن الذي أوصلهم؟ مشايخ الصوفية. وتنتشر البدع التي أهلكت الأخضر واليابس، وجاء مرة شيخ الطريقة الشاذلية، وجلس وسط الحلقة وهو يشرب سيجارة (مارلبورو)، فلما رمى السيجارة رأيت أكثر من عشرين رجلاً عراة يتسابقون على عود السيجارة ليتبركوا به، ويقول له أحدهم: يا سيدنا الشيخ! أنا امرأتي لا تخلف أعطني عزيمة الإنجاب! كل هذا موجود في القرى، جهل وضلال! الاتحاد والحلول الذي قال به ابن الفارض تجده في الموالد، ويقول ابن سبعين: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته يقول لك: إن الله عز وجل حل في الرهبان، هذا قول ابن سبعين صاحب الاتحاد والحلول، هو نفس الكلام الذي يقوله الرجل المنشد: يا راهب الدين يا قسيس يا حنا افتح لنا الدير خلينا نشوف حنا حنا كوانا بنار الحب جنة ولا يوجد بينهما فرق. وكذلك الذي يطلق على الذات الإلهية قائلاً: وبتنا في حمى ليلى! من هي هذه ليلى؟ يقول لك: الذات الإلهية، فسمى الإله تسمية الأنثى؟! ولقد قال الله عز وجل عمن يسمون الملائكة بنات الله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:27]. فهذا الأمر يحتاج إلى دعاة، فأنت مثلاً عندك علم في التوحيد والعقيدة فعليك أن تؤدي زكاة هذا العلم، كلم الناس، جرب نفسك يوماً في النزول إلى الناس، وفكر ماذا ستقول لهم في توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية والربوبية، لابد أن تبصرهم بهذه المعاني، وتنزل لهم إلى مستوى يفهمونه، كيف توصل لهؤلاء العوام التوحيد. فأنت لابد أن تعمل للدعوة فهل رحمت هؤلاء المساكين وهم أحوج الناس إلى ما عندك، لماذا تنكر على جماعة التبليغ؟ إن جماعة التبليغ يجتهدون ويدورون على الناس ويخرجون بنتيجة، كم أدخلت أنت في الدعوة؟

قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ألكم الذكر وله الأنثى)

قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ألكم الذكر وله الأنثى) قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، في قراءة سبعية: (ومناءة الثالثة الأخرى). هنا قال الوضاعون والكذابون والزنادقة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20] قال: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)! الغرانيق: جمع غرنوق، أو غرنيق، وهو: طائر يسبح على صفحة الماء، ثم يرتفع في الجو. ومعنى (تلك الغرايق العلى) أن لها قدراً ومنزلة عند الله عز وجل. (وإن شفاعتهن لترتجى)، وهذا ما قال عنه المستشرقون وسلمان رشدي: إنها السهوة المحمدية، قالوا: إن محمداً سهى ومدح الآلهة والأصنام، فلما سجد سجد المشركون معه. عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: (لما نزلت هذه الآية: ((أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى)) قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]) هذه رواية عن سعيد بن جبير، وهي رواية صحيحة إلى سعيد بن جبير، ولكنها رواية مرسلة. وهناك رواية أخرى مرسلة عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهو من التابعين، وهناك رواية أيضاً صحيحة مرسلة عن قتادة، وهناك رواية صحيحة ولكنها مرسلة عن أبي العالية. إذاً: هناك أربع روايات مرسلة وكل رواية منها رواية صحيحة إلى من أرسلت عنه. وهناك حديث موصول إلى ابن عباس، ولكنه لا يصح، والمرسل يا إخوتاه لا يحتج به، فهو من قسم الضعيف، وهناك أكثر من عشر روايات بينها اضطراب في المتن: الرواية الأولى تقول: إن المشركين سمعوا هذا القول فقط من دون المؤمنين، يعني: فالمؤمنون لم يسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا القول. هذه رواية. الرواية الثانية تقول: إن الشيطان كان يقلد صوت النبي في سكتاته -في سكتات الوقف- فحاول تقليد النبي صلى الله عليه وسلم فنطق: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. الرواية الثالثة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى ألا ينزل عليه وحي من الله عز وجل يغضب منه المشركون، فلما نزل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، تلك الغرانيق العلى، قال المشركون: ما سمعنا محمداً يمدح آلهتنا قبل اليوم، فلما سجد سجدوا معه، حتى أتاه جبريل مرة ثانية، فعاوده التلاوة فقال له: أنا ما قلت لك هذا القول، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. انظروا إلى هذا الاضطراب: أولاً: الأسانيد كلها مرسلة لا يصح منها إسناد، والأسانيد المرسلة لا يحتج بها؛ لأنها قد تكون من مصدر واحد، وخاصة أن قتادة وأبا العالية، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وسعيد بن جبير كلهم موجودون في عصر واحد، فقد يكون مصدر التلقي شيخاً واحداً. الشيخ الألباني قال: وهذه الروايات لا تصح، والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: لا تصح هي من صنع الزنادقة، وأنكر هذه الرواية أيضاً الإمام البيهقي وقال: هذه القصة غير ثابتة من جهة الناقل. وممن حكم على حديث الغرانيق بالوضع الإمام ابن العربي في كتابه: (أحكام القرآن)، والقاضي عياض في كتابه: (الشفا في حقوق المصطفى)، والفخر الرازي في تفسيره: (مفاتيح الغيب)، والإمام القرطبي في تفسيره: (أحكام القرآن)، والإمام الكرماني من شراح البخاري، والإمام العيني في كتابه: (عمدة القارئ)، والإمام الشوكاني في (فتح القدير) والإمام الألوسي في كتابه: (روح المعاني) وصديق حسن خان في تفسيره: (فتح البيان) ومحمد عبده الشيخ المصري، وسيد قطب، والدجوي شيخ الأزهر، والشيخ الألباني في كتابه: (نصب المجانيق نسف قصة الغرانيق). قال القاضي أبو بكر بن العربي: اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، ويسر لكم مقصد التوحيد ومغزاه، أن الهدى هدى الله، فسبحان من يتفضل به على من يشاء، ويصرفه عمن يشاء. يقول: لقد بينا معنى هذه الآية في فضل تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم، بما نرجو عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغنَّاء، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء وبدأ في الرد. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: لهذه القصة أصل، والروايات المرسلة صحيحة يقوي بعضها بعضاً، وهذه فقرة من فقرات الحافظ ابن حجر العسقلاني لا تتبعوه فيها، فقد رد عليها العلماء الجهابذة، وبعدما أثبت ابن حجر أن الحديث له أصل اضطر أن يؤول، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: تلك الغرانيق العلى، وإنما جاءت على لسان الشيطان. فقال أهل العلم: وما الذي يحوجك إلى هذا التأويل، وخاصة أن الروايات مرسلة؟ قال القاضي أبو بكر بن العربي: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به، حتى يتحقق أنه رسول من عند الله، ولولا ذلك لما صحت الرسالة. يعني: حين يرسل الله عز وجل ملكاً إلى النبي فإنه يعطيه العلم اليقيني، ويقذف في قلبه أن هذا ملك وأنه منزل بوحي من عند الله، وإلا لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشكك ويقول: هذا جبريل أو ليس جبريل! هذا ملك أو شيطان! إذاً ستضيع الرسالة، هذا هو المقام الأول. المقام الثاني: إننا أمة النبي صلى الله عليه وسلم نستطيع أن نميز الكفر في الأقوال، فكيف يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم؟ حاشاه أنه قال الكفر، ويمر عليه هذا ثم يأتي جبريل ويعلمه، ويقول له: إن هذا ما قلته لك. فهذا الكلام لا يقول به عاقل. ثم يقول: تأملوا فتح الله أغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى ألا ينزل الله عليه الوحي يغضب منه الكافرون، فكيف يجوز لمن عنده أدنى مسكة من عقل أن يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر أنس المشركين على أنسه بربه؟! فهذه القصة موضوعة باطلة لا تصح متناً ولا سنداً، ورد الله كيد سلمان رشدي في نحره، حيث يقول: إن هذه سهوة محمدية، وإن محمداً قد مدح الكافرين!! قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:21]، أي: له الأنثى من الملائكة؛ لأنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] كيف تجعلون لله عز وجل الإناث وأنتم لا تطيقون رؤية الإناث عند ولادتهن؟! قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] وهذا الطبع موجود عندنا في الفلاحين إلى الآن، يولد له الولد فتجد أعيرة النار تكاد تخرب الباب، وربما يكبر هذا الولد بعد ذلك فيكون عاصياً وفاجراً والعياذ بالله! أما البنت فلا يلقي لها اهتماماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عال جاريتين كنت أنا وهو كهاتين، وضم إصبعيه)، وحتى بيوت الملتزمين لا تخلو من ذلك.

قوله تعالى: (تلك إذا قسمة ضيزى)

قوله تعالى: (تلك إذاً قسمة ضيزى) قال تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22]. وفي القراءة السبعية الثانية: (تلك إذاً قسمة ضئزى). وفي لغة العرب: ضيزى يعني: جائرة وليست بعادلة، تقول: ضِيزى، وضوزى، وضؤزى، وضأزى، كلها في لغة العرب، ولغة القرآن أبلغ. تقول: ضيزى من قولك: ضازه يضيزه، يعني: نقصه حقه، وتقول: ضأزه يضأزه، ضيزى أو ضئزى، يعني: هذه قسمة ناقصة وجائرة. قال تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:22 - 23] أي: هذه أسماء لا تضر ولا تنفع، وهي أعلام على جمادات ليس تحتها من شيء إلا أنها أسماء، مثلما هو عند الصوفية يقول لك: القطب والأبدال والخواص، والغوث، والأوتاد، ورئيس الديوان، والديوان الذي هو مشرف على الملكوت، يقولون: إن هذا الكون نظام بديوان، وأقطابه الأربعة: الرفاعي والدسوقي والبدوي وتشرف أم هاشم رضي الله عنها على هذا، فهي رئيسة الديوان. فهذا كلام ما أنزل الله تبارك وتعالى به من سلطان: ما هذه الأسماء ماذا خلفها لا شيء إلا أنها أسماء فالسابقون مضوا وما خدعوا الورى بالترهات لأنهم أمناء واللاحقون مضوا على أهوائهم أرأيت ما فعلت بنا الأهواء بدع بها جمعوا من الأموال ما جمعوا ومجموع الهباء هباء في ذمة العلماء هذا كله إن كان فيما بيننا علماء ونقل عن بعضهم أنه ذكر السيد البدوي، وكان من ضمن ما قال: إن البدوي ذهب ليصلي على غلام قد مات، فقال له والد الصبي: أنا أولى بالصلاة منك، فأنا والده، قال: لا، عندي أمر من الله عز وجل أن أصلي أنا عليه، فبعد أن صلى عليه قال للغلام: قم، فقام الغلام من كفنه! والناس يصيحون: الله! مرة أخرى يا سيدنا الشيخ، هذا على ملأ من الناس والله!! وهذا يذكرني بحال من يسمعون القرآن والقارئ يقرأ آيات ذكر النار فيقول: ثانية، وإذا لم تعجبه الآية يقول: كفرتنا يا سيدنا الشيخ أعد مرة أخرى. كنت جالساً مرة أنا والشيخ أبو إسحاق في مسجد العزيز، فقال لي: أريك العجب العجاب؟ كان الشيخ محمود صديق المنشاوي جالساً يقرأ في مسجد الحسين، وحوله مجموعة، وبعدما أكمل التلاوة ذهب إليه شخص وقال له: الله الله، قسماً بالله لئن جلس مكانك أحد لأمزقنه، يعني: أي شخص يجلس على هذا الكرسي غيرك ويقرأ فإني سأقتله بالمسدس!

قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)

قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) قال تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:22 - 23] تنزل في مكتبة جامع الأزهر نفسه، فتجد كتاب الطبقات الكبرى عبد الوهاب الشعراني وهذا الكتاب لو وقع في يد شخص مسيحي لما دخل الإسلام أبداً. يقول فيه: وكان سيدي بركات الخياط من أولياء الله المتصرفين في الكون، وذلك أنه ما سمع عن قط ميت، ولا كلب ميت ولا حمار ميت إلا وأتى بها إلى حانوته، وكان يتوضأ من مشخة حمير. أما سيدي إبراهيم العريان: فسمي بذلك لأنه كان يخطب الجمعة عارياً!! هذا بخلاف الأشياء الأخرى التي لا يستطيع أحد أن يقولها، ثم يعد هذه كرامات!! يقول: أما سيدي إبراهيم الدسوقي فإذا كان سيدنا سليمان بعد النبوة رزقه الله لغة الطير والوحش فإن إبراهيم الدسوقي حصل عليها وهو ابن ست سنوات، كان يكلم الوحش والطير! هذه هي الصوفية التي قتلت المصريين من كبار الناس في جامعة الأزهر إلى ما دونهم. وهناك رسالة دكتوراه عن الصلة بين التصوف والتشيع، فأول من سمي بالصوفي جابر بن حيان الشيعي أو عبدة الشيعي فأول لقب أطلق على الصوفية سمي به الشيعة أولاً. الشيعة أتت مصر حينما أتى إليها المعز بن عبيد الله بن ميمون بن طيسان القداح اليهودي، ولما بنى جوهر الصقلي القاهرة أنشئوا الجامع الأزهر، والجامع الأزهر بني لنشر الفكر الشيعي حينما كان مسجد عمرو بن العاص ينشر فكر أهل السنة، وعلى منبره في الجمعة الأولى سب أبو بكر وعمر. المهم أن المعز لدين الله كان عنده شاعر اسمه ابن هانئ وكان ينشده الشعر مثلما هو موجود في البداية والنهاية لـ ابن كثير يقول له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار ولما دخل مصر وجد الإمام الحافظ المقرئ أبا بكر بن النابلسي شيخ الديار المصرية، فأتى به فقال له: بلغنا أنك قلت: لو كان عندي عشرة أسهم لجعلت تسعة لليهود والنصارى وواحداً للرافضة، قال: ما هكذا قلت! فطمع فيه فقال: ماذا قلت إذاً؟ قال: قلت: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً لليهود والنصارى وتسعة للرافضة، قال: لماذا؟ قال: لأنكم أطفأتم نور السنة، وغيرتم دين الأمة، وادعيتم ما ليس لكم. وبالفعل أطفئوا هنا في مصر نور السنة، والذي لا يعرف العقيدة تماماً يقول لك: استمع إلى قناة المنار، وانظر إلى حسن نصر الله المجاهد الكبير والفدائي العظيم الذي فعل ما لا تفعله قادة العالم، وحزب الله هو الأمل المنتظر، حتى إن إخوة كانوا من أهل السنة في منطقة بجانب العزيز فصاروا الآن شيعة؛ لكثرة استماعهم إلى هذه القناة، والبطولات الزائفة لحزب الله، وكلام مصطفى بكري عنه بأنه هو الأمل المنتظر، وفهمي هويدي في هامة الأمة بتيجان من نور، ولهم دين في عنق الأمة، وسبهم وتكفيرهم للصحابة ماذا يكون؟ فمن غير عقيدة سليمة لا يستقيم لك الأمر أبداً، وهنا واحد من كبار الدعاة يقول: إن حسن نصر الله هو صلاح الدين في القرن العشرين، إنك إن قرأت عن شيعة جنوب لبنان، أصحاب جبل العالية وتاريخهم مع قادة الجهاد على مدار التاريخ الإسلامي تجد العجب العجاب، الفاطميون حاولوا قتل صلاح الدين مرتين، مرة في مصر ومرة على أبواب حلب، أسد الدين شيركوه عامل صلاح الدين قاتله الفاطميون من أهل مصر مع الصليبيين حينما أتى إلى مصر. الأمير ممدود كان من قادة الجهاد ضد الصليبيين فقاتله الفاطمية الرافضة، حتى كتب قائد الصليبيين إلى ملك دمشق: إن أمة قتلت عميدها الذي هو الملك سلمان ممدود في يوم عيدها -وهو في الجمعة بعدما انصرف من صلاة الجمعة- في بيت معبودها حقيق على الله أن يبيدها. وعندما كانت السلطة للفاطميين سقطت القدس، ولم يدافع عنها بدر الدين الجمالي ولا بسهم واحد، وسلموها للصليبيين في سبيل أنهم يمرون إلى حاميتهم الفاطمية عسقلان بدون أن يقتل منهم رجل، وقبل ذلك أرسلوا خطابات التهنئة لما سقطت أنطاكية في أيدي الصليبيين، فرد عليهم القائد الصليبي بهمانت بأن أرسل لهم وقر بعيرين من رءوس الأتراك السلاجقة الذين دافعوا عن القدس قبل ذلك. الدروز والنصيريون الذين في جبل العالية هم الذين مهدوا ودلوا الصليبيين على بيت المقدس. الدولة الصفوية التي قامت في إيران، وقلبت إيران من دولة سنية إلى دولة شيعية، لما قامت وأرادت أن تدرس الفكر الشيعي وتلزم الناس به جاءت بشيوخ جبل العالية في جنوب لبنان، وعلى كتفهم قامت دولة إيران. الدولة الصفوية هذه منعت السلطان سليمان القانوني أن يحتل كل أوروبا، وكانت الجيوش العثمانية قد وصلت إلى الميدان الرئيسي والشارع الكبير في فيينا عاصمة النمسا، ولكن الذي جعله يعود ولم يحتل أوروبا كلها جيوش الشيعة في شرق آسيا، فاضطر إلى أن يعود وينسحب بقواته. فالشيعة تاريخهم أسود، فالذي عنده عقيدة طيبة لا يمكن أن تختلط عليه الأمور مهما دبلجو ومهما زيفوا، فإنه يستبين لك الأمر؛ ولذلك يقول الإمام الحافظ محمد بن عبد الوهاب: إن الرجل العامي من الموحدين يهزم جيشاً من علماء البدعة، فإن المولى عز وجل يرزقه البصيرة لما عنده من علمه.

قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس فلله الآخرة والأولى)

قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس فلله الآخرة والأولى) قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23] وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث). ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)) أي: الشبهات ((وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)) أي: الشهوات، وأمراض القلوب دائرة بين الشبهات والشهوات. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]، جاءتهم الآيات البينات من كتاب الله عز وجل، وجاءهم الطيب من القول وأحسن الحديث، ومزامير الأنس من حضرة القدس، بألحان التوحيد من رياض التمجيد، من مقعد صدق عند مليك مقتدر. ثم قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:24] أي: أم لهذا الكافر الذي يعيش بهوان من أمنيته، فلا تتحقق أمنياته في طلبه الشفاعة من هذه الأصنام والأوثان. أم لهذا الكافر ما تمنى؟ ليس له ما تمنى من أن تشفع فيه هذه الأصنام والأوثان: ((فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى)) أي: الأمر كله لله عز وجل، قال الله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَُا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل:12 - 13]، وقال الله عز وجل: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:91] لله عز وجل كل شيء، ملك السماوات السبع والأرضين السبع، وما بينهما، وما تحت الثرى، وله الشفاعة. فالشفاعة كلها لله عز وجل، يعطيها من يشاء من عباده بعد إذنه ورضاه، ولابد من وجود شرطين: إذن الله عز وجل، ورضاه عن المشفوع فيه، ويستثنى من ذلك أبو طالب، فإن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل نفعت شفاعتك لعمك أبي طالب؟ فقال: نعم، وضع في ضحضاح من النار) توضع الجمرة تحت أخمصه يغلي منها دماغه، ولولا النبي صلى الله عليه وسلم لكان في قعر جهنم، فهذا من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يخرج من النار. والشفاعة على مراتب: الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم دون بقية البشر، وهو: أن يأذن الله عز وجل في حساب الناس، وهذه خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد، ومن عظمها أن النبي صلى الله عليه وسلم خيره الله عز وجل بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشفاعة، فاختار الشفاعة العظمى في انصراف الناس للحساب بين يدي الله عز وجل. وهناك شفاعات أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره من الأنبياء، كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين ألفاً من أمته، يدخلون الجنة بغير حساب، يقول صلى الله عليه وسلم: (أعطاني ربي سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب من الباب الأيمن من أبواب الجنة، لا يدخل معهم أحد سواهم -سبعين ألفاً- ومعهم ثلاث حثيات من حثيات الملك عز وجل، أو مع كل ألف سبعين ألفاً)، وفي الحديث الذي صححه الألباني: (مع كل واحد منهم سبعين ألفاً)، السبعون الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب مع كل واحد سبعون ألفاً، إذاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب أربعة مليار! سيدنا عمر قال إذاً: يدخلهم الله كلهم الجنة، على هذا لا يوجد أحد سيدخل النار؟ فقال سيدنا أبو بكر: وما عليك أن يدخلهم الله كلهم الجنة؟ أي: لماذا أنت غاضب من هذا؟ ثم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، حيث قال: (أنا أول شافع في الجنة) أي: الإذن بدخول الناس الجنة، هذه يشفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم. والشفاعة لأهل الكبائر من أمته هذه ينكرها مصطفى محمود! وهناك شفاعة أخرى: مثل الشفاعة في أناس دخلوا الجنة فيعطون فوق ما تبلغهم أعمالهم، يعني: أن أعمالهم توصلهم إلى درجة معينة، فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلون إلى مراتب في الجنة لا تبلغهم إياها أعمالهم، فكل هذه شفاعات. والنبي صلى الله عليه وسلم حين يشفع يحد الله له حداً: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من شعير أخرج من النار من كان في قلبه مثقال برة أدنى ذرة ثم يأتي الذين لم يعملوا خيراً قط، فيقول لهم الله عز وجل: (هؤلاء ليسوا لك إنما هم لي)، وهؤلاء يسمون بالجهنميين عتقاء الرحمن من النار. وهناك شفاعة للملائكة، وشفاعة للرسل، وشفاعة للصالحين، وشفاعة للشهداء، والشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته. اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، اجعلنا ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا، يلقون في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، إن ربك إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه، هي هذه الجائزة إذا نلتها، فلله در أم حملت بك ودرت عليك! أما الصالحون فقد يشفع أحد الصالحين فيما لا يشفع فيه الشهيد، مثل أويس القرني قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل من أمتي يشفع في مثل الحيين ربيعة ومضر)، يعني: حدود هاتين القبيلتين، وهما أعظم قبائل في الجزيرة العربية، كان عددهم لا يقل عن مائة ألف، فقالوا: هو أويس القرني أو الحسن البصري أو عثمان بن عفان، والذي عليه أكثر العلماء أنه أويس القرني.

قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات والأرض لا تغني شفاعتهم ولم يرد إلا الحياة الدنيا)

قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات والأرض لا تغني شفاعتهم ولم يرد إلا الحياة الدنيا) يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} [النجم:26] أي: إذن الله للشفيع؛ لأنها حق لله عز وجل، فيطلب الحق من مالكه، ثم رضا الله عز وجل عن المشفوع فيه. ثم يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي: لا يؤمنون بالبعث {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:27 - 28]، و (الحق) هنا هو العلم، يعني: لا يغني عن العلم، لا يقوم الظن مقام العلم أبداً، والعلم هو يقين. {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:29 - 30]. هذا تهويل لشأن أهل الدنيا الذين ترتبط علومهم بالمعايش فقط، ولا تتجاوز أسوار الدنيا، فهم يعيشون من أجل علومها فقط، ومن أجل علوم المعايش فقط، من الأكل والشرب والتجارة والصناعة، هذا العلم وإن بدا كبيراً فإنه صغير، وإن بدا شاملاً فإنه محدود، وربما كان منه العلم الذي لا ينفع، فعلم الشريف رزق الله صاحب نادي السينما علم لا ينفع، وعندما يأتون مهرجان القاهرة السينمائي تحس أن هذا الرجل كانوا يعلمونه في بطن أمه أسماء المخرجين والمنتجين. وكأنه لا يوجد في هذا العقل إلا هذا الشيء فقط! مثل بعض المهووسين المجانين في الكرة، تسأله: من هم العشرة المبشرون بالجنة؟ فيقول: لا أعرفهم، لماذا؟ ليسوا من بلدنا! لكن تقول له: ما هي أخبار احتياطي فريق، أسوان، أو أخبار ماردونا أو أخبار إبراهيم حسن، وطاهر الشيخ ماذا عمل؟ وما هي أخبار مباريات كأس العالم ونحو ذلك، فيجيبك إجابة شافية كافية أنا أعرف بيوت بعض السيدات ينزلون فيها في أول مباريات كأس العالم، فيحضِّرون أكل عشرة أيام كلها، ويضعونه في الثلاجات، لا يستطيعون أن ينزلوا ولا أن يطبخوا، بل يحضروا الأكل لعشرة أيام، لأنهم يخافون أن يضيعوا أوقاتهم في الطبخ: ((ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)). تجد شخصاً من الفنانين فتسأله: ماذا تفهم؟ يقول لك: أنا أفهم أحدث أنواع الموضة، وأحسن قصات الشعر بالكمبيوتر، وكقصة مايكل جاكسون، وغير ذلك.

يا من طال بعده

يا من طال بعده شهر رمضان هو شهر القرآن، ففيه نزل، وفيه يتلى كثيراً في القيام وغيره، وهو شهر الصدقات والعطاءات والإحسان والبذل والجود. وفي هذا الشهر تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتسلسل الجان، وفيه تتنزل رحمات الرحمن، وفيه تفتح أبواب العفو والغفران. وقد كان السلف يجتهدون في هذا الشهر ما لا يجتهدون في غيره، فكانوا يقومونه ويصومونه، ويكثرون فيه من قراءة القرآن، والتقرب بالطاعات إلى الرحيم الرحمن.

أطيب النفحات

أطيب النفحات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها؛ فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة من رحمة الله لا يشقى بعدها أبداً)، وأطيب النفحات وأرقها نفحات رمضان. الخير باد فيك والإحسان والذكر والقرآن يا رمضان والليل فيك نسائم هفهافة حنت لطيب عبيرها الرهبان بين الجوانح في الأعماق سكناه فكيف ينسى ومن في الناس ينساه في كل عام لنا لقيا محببة يهتز كل كياني حين ألقاه بالعين بالقلب بالآذان أرقبه وكيف لا وأنا بالروح أحياه في موسم الطهر في رمضان الخير تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه فالعين دامعة والأذن سامعة والروح خاشعة والقلب أواه يقول مصطفى صادق الرافعي: فديتك زائراً في كل عام أحيي بالتحية والسلام وتقبل كالغمام يفيض حيناً ويبقى بعده أثر الغمام ولم أر قبل حبك من حبيب كفى الرهبان آثار القيام فلو درت العوالم ما درينا لحنت للصلاة وللصيام هبت على القلوب اليوم نفحة من نفحات نسيم القرب، وسعى سمسار الوعظ للمهزورين للصلح، وصلت البشارة للمنقطعين. فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا شمس التقوى والإيمان على القلوب أطلعي، ويا عين المتهجدين في ليل رمضان لا تهجعي، ويا همم المحبين بغير الله لا تقنعي. من دامت خسارته فهذه أيام التجارة الرابحة، ومن طال بعده عن مولاه فهذا وقت المصالحة، فينادى حي على الفلاح وأنت على الخسران مثابر، فإلى رمضان وإلى الصيام وإلى القيام.

فضائل الصوم

فضائل الصوم قبل أن نتكلم عن هذا الشهر نقول: للصوم فضائل ومزايا، فمنها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي أمامة الباهلي: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له) وفي رواية: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له). فكان أبو أمامة الباهلي لا يرى في بيته نار إلا في حضرة الضيف، ومعنى هذا: أنه كان يسرد الصوم سرداً. ويحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). وهذا الحديث ورد بثلاث روايات كل رواية أفادت معنى جديداً: الرواية الأولى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم فإنه لي). يقول العلماء: قد يأتي الإنسان يوم القيامة وعليه غرماء، فيأخذون من حسناته، من ثواب الصلاة، وقراءة القرآن والذكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما ثواب الصيام فكما قال سفيان بن عيينة: لا يأخذ الغرماء منه شيئاً، بل يختم الله تبارك وتعالى عليه ويدخل صاحبه به الجنة. الرواية الثانية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به). فالمولى تبارك وتعالى الجواد الذي جاد بكل من جاد، والذي علا جوده على كل جواد، من تفضّله ومن كرمه على عباده يزيد ثواب الحسنات إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولا يزيد ثواب أي عمل فوق السبعمائة ضعف بأي حال من الأحوال إلا الصبر؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، والصوم مثل الصبر، بل تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الأقدار المؤلمة، ولذلك استثنى الله عز وجل ثواب الصوم وزاده فوق السبعمائة ضعف. الرواية الثالثة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به). فالصلاة لله تبارك وتعالى، وكل العبادات له تبارك وتعالى، فلم أتى الله تبارك وتعالى إلى عبادة بعينها وهي الصوم ونسبها إلى نفسه دون باقي العبادات؟ إنما هي نسبة تخصيص وتشريف، كما نسب الله عز وجل إلى نفسه البيت الحرام فقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] مع أن كل المساجد لله. وقال العلماء عن سبب تخصيص الصوم بنسبته لله تعالى: أن الصوم له خاصية ينفرد بها عن بقية العبادات، فحشوه الإخلاص ولا رياء فيه، ومتى صح الصوم من الناحية الفقهية فلا رياء فيه، قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم. أما الصلاة فقد تصح من الناحية الفقهية ثم يضرب بها وجه صاحبها يوم القيامة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخوف عليكم شرك السرائر، أو الشرك الخفي، قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟! قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه). وأول من تسعّر بهم النار ثلاثة: رجل ظنه الناس مجاهداً في سبيل الله، وآخر ظنوه عالماً وقارئاً، وثالث ظنوه الناس متصدقاً، فهؤلاء أول من تسعّر بهم النار؛ ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إلا الصوم فإنه لي)؛ لأنه عبادة محشوة الإخلاص، وهي عبادة السر كما قال العلماء. المعنى الذي بعد ذلك: أن الله تبارك وتعالى جبل الإنسان على شهوات البطن والفرج والفم، وكلما تحرر من هذه القيود التحق بالملأ الأعلى، وإن كان في أي عبادة من هذه العبادات لا يتحرر مطلقاً من هذه الشهوات؛ لأنه تكره الصلاة بحضرة الطعام، وفي الحج يمتنع الإنسان عن الجماع ولكنه يأكل لذيذ الطعام، أما في الصيام فينكد نفسه بالساعات حتى يحس ويشعر بألم فقده لهذه الشهوات التي جبل عليها، فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل، وطوبى لمن جوّع نفسه ليوم الشبع الأكبر، وطوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره. يشتد عطشك إلى ما تهوى فارصد آمال الرجاء إلى من عنده ري كامل، وقل: قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف، فعجل لي العام الذي فيه يغاث الناس ويعصرون. من صام عن شهواته أدركها في الجنة، ومن صام عما سوى الله فذاك عيده يوم لقاء ربه. وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين عاماً) فكيف بصيام ثلاثين يوماً! وفي رواية: (سبعين خريفاً). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة من النار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بوعدت عنه النار مسيرة مائة عام). يحكي أحد الصحابة أنهم كانوا في سرية بحرية، فبينما هم على المركب إذ سمعوا هاتفاً من فوقهم يقول: أيها الناس! ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه يوم خلق السماوات والأرض؟ قالوا: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تعالى قضى على نفسه أنه من صام يوماً في سبيل الله سقاه الله يوم العطش، يقول الله تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. قال مجاهد: هذه آية الصائمين، تمد لهم موائد الإنعام من رب البرية، والناس ما بعد يحاسبون في عرصات القيامة، كل يا من لم تأكل، واشرب يا من لم تشرب. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) وخلوف الفم: هو تغير رائحته من آثار الصيام، حتى إذا مر الرجل الصائم برجل من أبناء الدنيا من أهل الكروش يقول صاحب الدنيا: ابتعد عني فإن رائحة فمك تؤذيني، فماذا يكون الجزاء؟ يُطيب الطيب بعطر أفواههم، وليس هذا فقط، بل لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك. وكما يقول مكحول: يروح على أهل الجنة برائحة ما وجدوا خيراً منها، فيقال: يا رب! ما هذه الرائحة؟ فيقال: هذه رائحة أفواه الصائمين، إذا ما انفرجت الشفاه تخرج رائحة تعطِّر الجنة بأسرها، ولا تحتاج الجنة إلى عطر وإنما هذا جزاء تغير رائحة الأفواه في الدنيا. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون لا يدخل معهم غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق من ورائهم، من دخل منه شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً). من دخل منهم شرب وهم يحتاجون إلى الشرب في يوم يطول خمسين ألف سنة، ما ذاقوا فيه طعاماً، ولا شربوا شراباً حتى تقطعت أجوافهم عطشاً، وحتى يسمع لصوت الأجواف غليان، يقول سلمان الفارسي: تقول الأجواف: غط غط، وهذا صوت الغليان، فكيف إذا كان الجزاء دخولهم من الريان. إن الرجل إذا سار في الصحراء واشتد به الظمأ، وأشرف على الهلكة ثم قيل له: هذا ماء، فإنه يرتوي تلقائياً حتى ولو لم يشرب، فكيف إذا طال العطش ثم قيل: هذا الباب يسمى الريان؟ الريان من الري، والري: ضد الظمأ، قابل الله تبارك وتعالى عطشهم بمسمى باب يبعث على الراحة، وأول الغيث قطرة، فما ظنك بالداخل؟! فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأبوس مقبض بابه خذني إلى وطني أموت مشرداً إن لم تكحِّل ناظري بترابه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ختم له بصيام يومه دخل الجنة). يا إخوتاه! أحدنا يؤثر الظل على الشمس، فما بالنا لا نؤثر الجنة على النار؟ أفلا تساوي الجنة نقلة من الشمس إلى الظل؟ إذاً: فاجعل الصوم سبيلاً للجنة، فاستمسكوا بهذا السبيل، فإنه سبيل للجنة. والصوم مكفرة للسيئات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في ماله وأهله وولده وداره ونفسه تكفرها الصلاة والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). فهذه معان عظيمة في الصوم لا بد أن نحياها، وأيضاً الصائم له دلال على الله تبارك وتعالى، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين). سبحان الله! أنت تأكل والله تبارك وتعالى يصلي عليك، فتكون كأم موسى تُرضع ولدها وتأخذ أجرها من فرعون؛ لأنه لا يعلم أنه ابنها، فيكون حالك في توكلك على الله تبارك وتعالى، وصدقك معه في أرقى المرتب؛ فأنت تأكل والله تبارك وتعالى تتنزل عليك رحماته، والملائكة تستغفر لك. يا أخي! كم من ملك في السماوات والأرض ما ذاقت أعينهم غمضة، وما ذاقوا طعاماً، ولا شربوا شراباً منذ أن خلقهم الله تبارك وتعالى، ليست لهم منحة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وليس لهم عبير (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك). يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) لأن هذا فرق ما بين صيامنا وبين صيام ضلال النصارى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)؛ لأنهم لا يتسحرون، ولذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الغذاء المبارك، فقال: (قم بنا إلى الغذاء المبارك). وسماه أيضاً: الفلاح، يقول الصحابة: (وما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح). فعلق الله تبارك وتعالى فلاح هذه الأمة بأن تكون أمة فريدة في خصالها، فلا تتشبه باليهود ولا بالنصارى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الدين ظاهراً ما عجلت أمتي الفطر). وقال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). وقال: (لا تزال أمتي على

حال السلف مع الصوم

حال السلف مع الصوم قارنوا يا إخوتاه بين أحوالنا وبين أحوال عباد السلف، وبين أحوال الأنبياء، فكان داود أعبد الناس، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً. وهذه السيدة حفصة بنت عمر رضوان الله عليها زوج رسول الله، كان للصيام أثر طيب في حياتها، وقد أبقاها الله زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله -كما قال الحافظ ابن حجر في الإصابة-: طلقها ذات يوم، فنثر عمر التراب على وجهه، وقال: ما أصبح الله يبالي بـ عمر ولا بابنة عمر، فنزل جبريل من السماء وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها قوامة صوامة، وإنها زوجتك في الجنة. والسيدة عائشة رضوان الله عليها كانت تسرد الصوم سرداً، وكذلك إمام أهل السنة وعالم المدينة مالك بن أنس، وكذا عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، سرد الصوم ستين عاماً، يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ومات وهو صائم. وداود بن أبي هند سرد الصوم أربعين سنة، كان يأخذ طعامه من البيت فيتصدق به في عرض الطريق، فيظن أهل البيت أنه قد تناول ما أخذ من طعام، ويظن أهل السوق أنه قد أكل ما أخذه من البيت، بقي على هذا أربعين سنة، لا يشعر به زوجه، أو أهله. سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبلى السرائر وهذا الإمام إبراهيم بن إسحاق النيسابوري إمام جليل من أئمة هذه الأمة تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، وصاحب كتاب مسائل الإمام أحمد، هذا الإمام العابد كان نسيج وحده في الصيام، لدرجة أن الإمام أحمد وهو إمام أهل السنة يقول لابنه إسحاق: ومن يطيق ما كان يطيق أبوك؟! هذا الإمام ضل ستين سنة يسرد الصوم سرداً، لا يفطر إلا الأيام التي يحرم فيها الصوم. فلما جاءه الموت قال لابنه: يا بني! قرِّب إليّ قدحاً من الماء لأشرب، ثم قال لابنه: يا بني! هل غربت الشمس؟ قال: لا يا أبت! قال: فنح القدح إذاً، ثم مات وهو يتلوا قول الله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]. فأديموا الصيام يا إخوتاه، وافرحوا بصومكم، افرحوا بعبادة تقربكم من الله تبارك وتعالى.

خصائص شهر رمضان

خصائص شهر رمضان أما عن رمضان، وما أدراك ما رمضان! فهو تاج على مفرق الدهور وممر الأعوام، له خصائص طيبة تميّز بها عن باقي الشهور، وهي كالتالي: الأولى: أنه شهر يزاد فيه ثواب الأعمال؛ لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي). والعمرة: سنة مؤكدة على أرجح أقوال العلماء، ولا تصل إلى ثواب الحج وهو فرض، فيضاعف الله تبارك وتعالى ثواب العمرة في رمضان حتى تصير مثل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن ثواب الأعمال يضاعف في رمضان، وكذلك ثواب الصدقات، وثواب الصلاة، وثواب القيام، كل هذا يضاعف، فما ظنكم بالثواب المضاعف ويُضاعف؟! فاتق الله تبارك وتعالى، ولا تبع الليل ولا رمضان بلقمة بها تُحرم منحة (تتجافى)، وبها تُحرم عتاب: (كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عني)، أليس كل حبيب يحب الخلوة بحبيبه؟ يا إخوتاه! إذا جن الغاسق حن العاشق، وقلوب المحبين جمرة تحت شحمة الليل، إذا هب عليها نسيم السحر أجج ما فيها من شوق إلى الله تبارك وتعالى، فاحرصوا على لحظات رمضان. أخي! قد قيد الصد قدميك، وغل الإبعاد يديك، أفما لك عين تبكي لو بعت لحظة من رمضان بملك قارون في عمر نوح، ولو فعلت لغبنت وما ربحت، فحافظ على هذه الأنفاس التي تخرج إلى الله تبارك وتعالى، واملأها بجواهر تزيد في ميزان أعمالك يوم لقي الله تبارك وتعالى، وهنا يفرح الصادقون. الخاصية الثانية لرمضان: أنه شهر نزول القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. وفي نزول القرآن في رمضان قولان: الأول: قال ابن عباس: معنى نزوله: أن نزوله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا كان في رمضان. ونحن نؤمن باللوح، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى خلق لوحاً من درة بيضاء، دفتاه من ياقوتة حمراء، عرضه ما بين السماء والأرض، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق بكل نظرة ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء). المعنى الثاني: أن بدء نزول القرآن الكريم على قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم، بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام كان في ليلة القدر في رمضان. وهو شهر نزول كل الكتب السماوية؛ لحديث واثلة بن الأسقع -وحسنه الشيخ الألباني - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان) على اختلاف العلماء في تحديد ليلة القدر، وأن الوتر يكون باعتبار ما مضى من الشهر، فإذا عددت من أول الشهر تكون ليلة واحد وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين هي أرجى الليالي موافقة لليلة القدر. وإذا عددت من آخر الشهر؛ لحديث أبي سعيد الخدري لواحدة بقين، لثلاث بقين، لخمس بقين، فبهذا الحساب من آخر الشهر قد تكون ليالي الوتر وترية باعتبار ما تبقى من الشهر، وتكون شفعاً باعتبار ما مضى من الشهر. إذاً: فشهر رمضان شهر نزول كل الكتب السماوية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] فالقرآن كاف لكل ذي لب.

فضل قراءة القرآن

فضل قراءة القرآن أين نحن من القرآن ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (من سرّه أن يُحب الله ورسوله فلينظر في المصحف)، فأينا لا يسرّه أن يحب الله تبارك وتعالى؟ ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكلام أقواماً ويضع به آخرين). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرأها). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله فله ثوابها ما تليت). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له به أجران).

سير السلف في قراءة القرآن في رمضان وغيره

سير السلف في قراءة القرآن في رمضان وغيره مزامير الأنس، من حضرة القدس، بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، هذا طعم الخبر، فكيف بطعم النظر! آيات منزلة من حول العرش، الأرض منها سماء فهي منها نجوم، فلم لا تقبلون على كتاب الله تبارك وتعالى؟ يقول عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم. يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنؤهم النوم ومعهم القرآن! أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا. يا إخوتاه! هذا شهر يستحب فيه ختم القرآن في أقل من ثلاث، وعليه عمل السلف في هذه الأمة وعبّادها، فـ الشافعي كانت له ستون ختمه في شهر رمضان، يعني: أنه يتلو القرآن مرتين يومياً بواقع ستين جزءاً، وأقسم بالله إني لأعلم شباباً يقرءون القرآن في سبع ساعات حدراً لا يخطئون خطئاً واحداً، ففي سبع ساعات يمرون عليه مروراً. وعليه قول الإمام مالك فقد سئل الإمام مالك عن رجل يقرأ القرآن كل ليلة ويختمه، فقال: القرآن إمام كل خير، وأمام كل خير. وهذا قول أحمد، وقول إسحاق بن راهويه أنه لا يكره الختم في أقل من ثلاث؛ لأن هذا فقط في الأيام التي يرجى فيها الخير ويستحب فيها الدعاء، وليس هذا ديمة، فأديموا مع القرآن وقوفكم. عجباً لك يا أخي! يأتيك خطاب من ابن عمك ربما كان لا يساوي خردلة في ملك الله، فتقرأه في الطريق ولا تستمهل أن تصل إلى البيت فتقرأه! وأمامك كتاب الله تبارك وتعالى فلا تسعد عينك بالنظر إليه! أحد تابعي هذه الأمة -وكان ضريراً- سأل الله تبارك وتعالى أن يمن عليه بالبصر وقت قراءة القرآن فقط، فكان إذا قرأ القرآن عاد إليه بصره. رميت ببين منك إن كنت كاذباً وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح وإن كان شيء في الوجود سواكم يقر به القلب الجريح ويفرح هوى غيركم نار تلظى ولحظة وحبكم الفردوس بل هو أفسح اسمعوا إلى الطيب الحيي سيدنا عثمان بن عفان ذي النورين لما قتلوه بكت زوجته نائلة، تصوروا يا إخوتاه رجال من هذه الأمة ينتسبون إلى هذه الأمة يقتلون عثمان ذا النورين! أناس تمتد أيديهم إلى ذي النورين الذي تستحي منه الملائكة، ويقتلونه وهو يقرأ القرآن، فيسيل الدم على قول الله تبارك تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]. تقول زوجه: قتلتموه وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن، ويقرؤه كله في ركعة واحدة، وفيه نزل قول الله تبارك وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. فأين نحن من تلاوة القرآن؟ أين نحن من تدبر القرآن؟ أين نحن من الرجوع والتحاكم إلى القرآن؟ يا أخت أندلس عليك سلام هوت الخلافة عنك والإسلام طوي الهلال عن السماء فليتها طويت وعم العالمين ظلام وقال الآخر: بكت الصلاة وتلك فتنة عابث بالشرع عربيد القضاء وقاح أفتى خزعبلة وقال ضلالة وأتى بكفر في البلاد بواح ضجت عليكِ ممالك ومآذن وبكت عليكِ منابر ونواحي فالصين والهة ومصر حزينة تبكي عليكِ بمدمع سحاح والشام تسأل والعراق وفارس أمحى من الأرض الخلافة ماح خطب أتى طول الليالي دونه قد طاح بين عشية وصباح وعلاقة فصمت عرى أسبابها كانت أبر علاقة الأرواح نزلت صفوف المسلمين ودمعهم في كل غدوة جمعة ورواح فلتسمعن بكل أرض داعياً يدعو إلى الكذاب أو لسجاح ولتسمعن بكل أرض فتنة فيها يباع الدين بيع سماح يبكى على ذهب المعز وسيفه وهوى النفوس وحقدها الملحاح {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].

فضل قيام الليل في رمضان وغيره

فضل قيام الليل في رمضان وغيره الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله حبيب قلوب الوالهين، ومنتهى رغبة السالكين، ومحط آمال الراحلين. ورمضان يا إخوتاه شهر القيام، وشهر التراويح، وشهر التهجد، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟! قال: لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام). شهر رمضان يا إخوتاه شهر الإخلاص في الصوم والقيام، يقول قتادة: كان يقال: ما قام الليل منافق. والصلاة في الليل تبعث على الإخلاص، وقيام الليل ليس فيه رياء، وصحته على ركني هذا الشهر: الصيام والقيام، فبهما يطرد كل رياء من القلوب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن رجل ينام الليل أجمعه فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه). يقول الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل، يقول لك الشيطان: عليك ليل طويل فنم ولا تستيقظ، وعلى الطرف الآخر يقول الله تبارك وتعالى لجبريل: أقم فلاناً وأنم فلاناً؛ حتى لا يساوي الحيوانات العجماوات، ولا يساوي الطيور العجماوات. تقول السيدة عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الطارق وهو الديك، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول في حديث حسنه المناوي والألباني: (لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة). إذاً فهذا الديك هو أحسن من بعض البشر الذين يوقظون للمعاصي، (لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة). صاح الديك فلم تنتبه، فأعاد فلم تفق، فقوى برد الجناحين فخطم خديه حزناً على مصيبته. قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أطرب منا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]. وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6]. وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، فإذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل، كما قال ابن مسعود. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم). فعادة الصالحين الطيبين قبلكم أن يقوموا الليل، فإذا قام العابد إلى مصلاه قالت له الملائكة: طوباك سلكت منهاج العابدين من قبلك، (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة منكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد). وحينما تذهب إلى أي طبيب في أمراض الروماتيزم فكل ما يعطيك من أدوية: بلكريم ونحو ذلك، فكل هذه الأدوية مسكنة ولا تقضي على المرض، ولم يخترع علاج على مستوى العالم إلى الآن لأمراض الروماتيزم، وهناك طبيب من أعظم أطباء مصر حينما قال: لقد اخترعت علاجاً لأمراض الروماتيزم، أوقف من النقابة 6 أشهر عن مزاولة المهنة، وقد أتى بها الرسول منذ أربعة عشر قرناً. وهناك بحث أعده أطباء القصر العيني بالتعاون مع كلية الطب بحلوان وأشرفت عليه كل كليات الطب في العالم الإسلامي، أخذوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ومطردة للداء عن الجسد) هذه الفقرة فقط وأجروا بحثاً على ثلاثين رجلاً يصلون التراويح، وثلاثين آخرين لا يصلون التراويح، فأثبتوا أن الذين يواظبون على صلاة التراويح ارتفعت عندهم الكفاءة الوظيفية للقلب مع مرونة جميع فقرات العمود الفقري، واختفاء كل الآلام الروماتيزمية من المفاصل، هذا لمن يطلب المادة، وأما من يطلب الآخرة فهناك شيء آخر لقيام الليل، فقد جاء رجل من قضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، ممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء)، فالذي يواظب على صلاة التراويح يكتب عند الله تبارك وتعالى من الصديقين والشهداء. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ماذا أنزل الليلة من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات) يعني: أمهات المؤمنين، (يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة). والمصطفى صلى الله عليه وسلم يطرق علياً وابنته فاطمة ليلاً وقال: (ألا تصليان؟ فقال علي: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، يقول علي: فسمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل فيها شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة). والرسول صلى الله عليه وسلم يمر بـ سالم مولى أبي حذيفة فيجده يتهجد بصلاة الليل، فقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله).

سيرة السلف في قيام الليل

سيرة السلف في قيام الليل قيل لسيدنا عمر بن الخطاب: ألا تنم يا أمير المؤمنين؟! فقال: كيف لي بالنوم، إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حضي مع الله. لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا وسيدنا عثمان عندما مات عمر تزوج عثمان بإحدى نسائه، فلما سألوه عن سر ذلك قال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر. اللهم بغّض إلينا ساعات أكلنا وشربنا، وارزقنا سهراً في طاعتك، اللهم ارزقنا الشوق إلى لقائك، اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، رب اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، لك أوّاهين مخبتين منيبين، وتقبّل توبتنا، اللهم واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدرونا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا. قام الخطاءون وقمنا إلى عبادتك، اللهم أصلحنا لعبادتك، اللهم أصلحنا لخدمتك، اللهم أصلحنا لخدمتك، اللهم تجاوز عن سيئاتنا اللهم تجاوز عن سيئاتنا، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ومعذرة إن كنت قد أطلت عليكم، وأقم الصلاة. قال الشاعر: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح وهذا سيدنا أبو ريحانة الصحابي الجليل قفل من غزوه فأعدت له زوجه طعام العشاء، فأكل ثم نصب قدميه في محرابه إلى الصباح، فلما كان الصبح وأراد أن يمضي إلى الجيش قالت له زوجه: يا أبا ريحانة! غزوت فأطلت الغزو ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: لو خطرت لي على بال لكان لكِ فيَّ نصيب، قالت: يرحمك الله وما الذي شغلك عنا؟ قال: إني نظرت إلى ما أعد الله عز وجل للمتهجدين في كتاب الله من سندسها ومن إستبرقها، فذاك الذي شغلني عنكِ. وقد سأل سيدنا موسى الله تبارك وتعالى: (من أدنى أهل الجنة منزلة، ومن أعلاهم منزلة؟ فلما سأله عن أعلاهم منزلة قال: أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16])، ومعنى هذا: أن المتهجدين هم أعلا أهل الجنة منزلة، ولذلك حرص العلماء على قيام الليل، فسيدنا أبو هريرة قسّم الليل أثلاثاً بينه وبين زوجته وبين خادمه، فإذا قام هذا نام هذا، واتخذوا الليل زمناً، فإذا أسفر الصباح كانت له اثنتا عشرة ألف تسبيحة. فإذا صلى واحد من العشاء إلى الفجر وقام الليل بعشر فإنه يجد رقة عجيبة، فما بالك إذا كان سيدنا أبو هريرة يأتي باثنتي عشرة ألف تسبيحة، ثم بعد أن يفرغ من هذا يقول: إنما أسبِّح بقدر ذنبي، وكأنهم قد أسلفوا في ليلهم الجرائم. إنما أسبح بقدر ذنبي، وفي رواية: إنما أسبِّح بقدر ديتي. وسيدنا عبد الله بن عباس اتخذ الليل زمناً، فنصفه يصلي ويدعو، ونصفه يبكي. وحفرت الدموع خطين أسودين في وجه الفاروق، فبالله عليك قل لي عن دمع يحفر مجرى في لحم كيف هذا الدمع؟ وإحدى العابدات أخذت بيد ابنها وكان عابداً كثير البكاء بالليل، فأرته نقرة أو حفرة في البيت وقالت له: هذا موضع دموع أبيك. والإمام الأوزاعي دخلت إحدى الجارات على أم ولد له فوجدت بللاً في مصلى الشيخ، فقالت لزوج الأوزاعي: ثكلتك أمك تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ؟ قالت: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما هذا من أثر دموع الشيخ ليلاً. فما ظنك بالدموع إذا كانت هذه آثار الدموع الباقية. وابن عباس ظل يبكي حتى مرضت عيناه كما قال علماء التراجم. وسيدنا مسروق بن عبد الرحمن تقول عنه زوجه: ما كان يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام، وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه. وكان أحد العباد إذا أتى صلاته زحفاً -وهو علي بن الفضيل - ينظر إلى أبيه ويقول: أي أبتاه! سبقني العابدون وقُطع بي، والهفاه يا أبتاه! وقتله ترداده لآية في ظلام الليل قام بها الليل، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، فظل يرددها حتى خرجت روحه فيها، وبكى والده وقال: واابناه، واقتيل جهنماه! ما قتل ابني إلا الخوف من النار. والربيع بن خثيم كانوا يعلمون شعره بالليل، فإذا أتى إلى صلاة الصبح قالوا: والله إن شعر الربيع ليخبركم أنه ما توسده الليل. وقالوا للحسن البصري: هنا رجل يحفظ القرآن وينام الليل، فقال: ذاك رجل يتوسد القرآن. يعني: كأنه ينام على القرآن. وضيغم بن مالك الذي صلى حتى تفحم، وصلى حتى أُصيب بمرض أقعده، قال أحد العبّاد: ما أطول بكاء ضيغم! فقالت أم ضيغم: لمثل ما ندب إليه فليكن البكاء القيامة وما فيها، يا بني وهل رأيت حزيناً قط؟ ذهب الحسن وأصحابه بالحزن. ونور الدين محمود زنكي كان مدمناً لقيام الليل، وكان له مع رمضان حكايات وحكايات، ورمضان هو شهر بدر وشهر فتح مكة، وشهر الجهاد، رمضان هو شهر عين جالوت، رمضان هو شهر الزلاقة، رمضان هو شهر الفتوحات، فأين نحن من هذا؟ فهذا نور الدين محمود زنكي قاهر الصليبيين وما كان يتناول من إفطار المملكة شيئاً طوال شهر رمضان، وكان يبعث إلى شيخه يأتي له بالرقاق يتناوله طوال شهر رمضان، وكان مدمناً لقيام الليل، فبهؤلاء انتصر المسلمون. يقول الحافظ ابن كثير دخل بعض المسلمين إلى بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة له فسمعوا النصارى يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون نور الدين - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما ينصر علينا بصلاته في الليل. فهذه شهادة الكفار في حقه. وأين منا قول أنس بن النضر: واهاً لريح الجنة، إني لأشم رائحة الجنة من وراء أحد. وأين منا قول جعفر: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها عليّ إن لاقيتها ضرابها أين منا قول عمير بن الحمام: إنها لحياة طويلة إن مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه؟! وأين منا قول حرام بن ملحان الذي نفض الدم على رأسه وقال: فزت ورب الكعبة؟! وأين منا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل)؟ وأين منا قول أبي بكر: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد. ورمضان يا أخوتاه شهر الدعاء، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد بسند جيد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان). وهذا نور الدين محمود زنكي كان مدمناً لقيام الليل، وكذلك كانت زوجه عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، فقد قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي من البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، فلما مات عنها تزوجها صلاح الدين الأيوبي. يقول القاضي ابن شداد شيخ الحنفية: كان صلاح إذا اشتد الحصار بالمسلمين يطوف على البلاد والأمصار وعيناه تذرفان الدموع، ويقول: يا للإسلام يا لعكا، ويطول قيامه ويقول: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية عن نصرة دينك، وليس لي إلا الإخلاد إلى جنابك، ودموعه تتقاطر على لحيته، قال: فوالله ما يأتي الفجر إلا ومعه خبر النصر على الأعداء. والإمام البطل المجاهد الحافظ عبد الغني المقدسي - وهذا كان من أعظم علماء الحنابلة- رآه رجل كافر وهو يصلي بالليل، فلما كان الغد أسلم هذا الرجل لما رأى من الخشوع الذي على وجه عبد الغني المقدسي. قالوا للحسن البصري: عجزنا عن قيام الليل! قال: أثقلتكم ذنوبكم، وقيدتكم خطاياكم، إنما يؤهل الملوك للخلوة بهم من يصدق في ودادهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم فلا يرضونه لذلك. قالوا للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.

§1/1