دروس الشيخ حسن أبو الأشبال

حسن أبو الأشبال الزهيري

هل أنا أحب الله ورسوله

هل أنا أحب الله ورسوله حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واجب متحتم على كل مسلم، ويتجسد هذا الحب في امتثال أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا كان ادعاء، فالاتباع دليل الحب، وعلامة صدق المحب، ولقد جسد الصحابة رضوان الله عليهم هذا الحب بأقوالهم وأفعالهم من المدح والثناء والتضحية والفداء، كل ذلك حباً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

وجوب تقديم حب الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم على النفس

وجوب تقديم حب الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم على النفس إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الأخيار! سؤال يطرح نفسه بين الحين والحين، بل الواجب أن يطرح نفسه في كل وقت وحين؛ لأنه فرق بين الإيمان والكفر، كما أنه سبيل وسبب إما إلى الجنة وإما إلى النار. هذا السؤال هو: هل أنا أحب الله تعالى ورسوله أم لا؟ ولا تبادر بالجواب لنفسك، فإنني أعلم أن كل واحد وإن كان من أفجر الناس لابد وأنه سيجيب نفسه بالإجابة: نعم. أنا أحب الله ورسوله، فما علامة ذلك؟ وما ثمرته في الدنيا والآخرة؟ وهذا هو الفيصل، وما هي حقيقة الحب لله ورسوله؟ أما الحب لله ورسوله فإنه واجب محتم على كل مسلم، ولذلك (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البخاري في صحيحه- بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبادر عمر القول فقال: يا رسول الله! والله إني لأحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك. فقال عمر: والله يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي التي بين جنبي. فقال: الآن يا عمر). أي: الآن كمل إيمانك، الآن زاد إيمانك يا عمر، فلابد أن أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك. وروى البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده)، وعند مسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، والناس أجمعين). فإذا كنت صادقاً في مدعاك حب الله ورسوله فلابد أن يكون الله ورسوله أحب إليك من كل شيء، حتى من نفسك التي بين جنبيك، وولدك الذي هو من صلبك، ووالدك الذي أنت من صلبه، ومالك الذي هو قوام حياتك.

علامات حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

علامات حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم رب سائل يسأل فيقول: أنا لا أدري إذا كنت حقيقة أحب الله ورسوله أم لا، فهل هناك شيء من العلامات أو الأمارات التي إذا شعرت بها علمت أنني أحب الله ورسوله؟ أقول: ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً يقربنا إلى الله إلا وقد دلنا عليه، وفي ذلك روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه)، ثلاث خصال إذا توافرت في العبد كان محباً لله ورسوله، وكان مؤمناً خالصاً. (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)، وهل الإيمان له حلاوة، له طعم، له لذة؟ نعم له لذة يشعر بها المتقون، العابدون، الحامدون، الراجعون إلى الله، أما الذين ركبوا هواهم، واقترفوا المعاصي، وتركوا الأوامر فلا يشعرون بشيء من ذلك عقوبة لهم. (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). إذا أمرك أبوك بأمر يخالف شرع الله، فقل له: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). إذا حاد ولدك عن الطريق فأدبه كما أمرك الله ورسوله، ولا تقل: إن الولد في سن المراهقة، ثم إذا كبر قلت: إن الولد في سن الشباب، فدعه يتمتع بعمره وأيامه، وإذا كبر أكثر قال الناس: خرف الرجل؛ لأنه قد طعن في السن، فمتى يتربى المرء على دين الله إذا كان في كل طور من أطوار حياته له عذر في المجتمع، في الابتعاد عن دين الله وعن شرعه؟! متى يتربى المسلمون؟ ومتى يوحدون الله عز وجل؟ ومتى يأتمرون بأوامره، وينتهون عما نهاهم؟ (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) أداة حصر وقصر، ألا يربطك بأخيك إلا كتاب الله وسنة الرسول والمسجد. هذا هو الرباط المتين، وهو الإيمان الكامل، (من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان). فهل أنت تحب من بجوارك لله؛ لأنه يصلي ويصوم ويزكي، ويحل الحلال ويحرم الحرام؟ وإن كان A لا، فأنت تحبه للدنيا، للمال، للجاه، للسلطان، للرئاسة، للكرسي، بل ربما تحبه لأنك تخونه في أهل بيته، هذا حادث وحاصل وواقع مؤلم! (وأن تكره أن تعود إلى الكفر بعد إذ أنقذك الله منه كما تكره أن تقذف في النار). من منا يصبر على النار؟ الجواب: لا أحد، ومن فعل ذلك وصف بأنه مجنون! فكذلك من ترك الإيمان والصفاء والنقاء، ورجع إلى الكفر بعد أن عرف الإيمان فقد ذهب عقله، وذهب دينه، واحترق لحمه بالنار. وقد حدد الله عز وجل في كتابه في سورة التوبة أنواعاً من المحبة فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] فانتظروا: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] إذا كانت هذه الأصناف الثمانية أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيله، فانتظروا العقوبة من الله عز وجل: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. فكم منا من يقدم زوجه على الله، وكم منا من يقدم هواه على الله، وكم منا من يحب الدينار والدرهم والدولار أكثر من حبه لله. وأنا متأكد أن الفئة العظمى من الناس تقول: أنت قد أخطأت الحساب، فهل أحد يحب الدولار أكثر من حبه لله؟ إن ذلك يا إخوة عجيب له علامات، إذا كنت مرابياً فقد قدمت رباك على ربك، وأحببت الدينار والدرهم أكثر من حبك لله. ولذلك بين الله عز وجل أمارة الحب والصدق في الحب، فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] شرط وعلامة حبك لله أن تكون متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم بما جاء به من كتاب وسنة. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] هذا في نفسه: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].

ثمرة حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة

ثمرة حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة لعل سائلاً يسأل فيقول: وما ثمرة ذلك؟ فنقول: إن ثمرته في الدنيا والآخرة: أما ثمرة الطاعة والاقتداء فأنت تجد حلاوتها في قلبك. هذا في الدنيا. وأما الآخرة: فانظر إلى ما رواه البخاري ومسلم أن رجلاً اعترض النبي صلى عليه وسلم في طريقه فقال: (يا رسول الله! متى الساعة). وهذا مما استأثر الله عز وجل بعلمه، ولم يطلع عليه أحداً لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولكن لها أمارات وأشراط وعلامات. فقال النبي صلى عليه وسلم: (وما أعددت لها؟ فقال: والله ما أعددت لها كثير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة ولكني أعددت لها حب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت). ومن ثمرة الطاعة في الآخرة: أن يدخلك الله عز وجل بمنه وكرمه وفضله الجنة، فتكون مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً. وأتى آخر وقال: (يا رسول الله! ما يصنع المرء إذا أحب القوم ولما يلحق بهم؟ -لم يعمل بعملهم، ولكن حسبه أنه يحبهم- فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث: فما فرح المسلمون بعد إسلامهم فرحهم بهذا الحديث. ثم قال أنس: وأنا أشهدكم أني أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر). كما أني أشهدكم أني أحبكم في الله بعد حبي لله ورسوله، وبعد حبي للخلفاء الراشدين والصحابة والصالحين، أحبكم في الله الذي جمعني وإياكم في هذه البقعة الطاهرة المباركة.

حقيقة حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند الصحابة رضوان الله عليهم

حقيقة حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند الصحابة رضوان الله عليهم روى البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع الطاعة في المنشط والمكره، في العسر واليسر). في كل أحوالهم، المرء منا إذا وقع في ضائقة عرف الله ولجأ إليه، فإذا كان في رخاء ورغد من العيش ظن أنه في غنى عن الله، انظر إلى الفرق بيننا وبين الصحابة قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، في العسر واليسر، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن نجد كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان، وأن نقول الحق لا نخشى في الله لومة لائم). وهذا سلمة بن الأكوع يأتي في نفر من أصحابه فيقول: (ابسط يمينك يا رسول الله فلنبايعك، قال: على ماذا يا سلمة؟ قال: على الموت). رجل يفدي النبي صلى الله عليه وسلم بدمه فبماذا فديته أنت؟ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في إحدى الغزوات قبل بدء الحرب: (لو أن الله كتب لكم الغنيمة لكان لكل واحد كيت وكيت، فقام واحد من أصحابه وقال: يا رسول الله! ليس على هذا بايعناك، قال: على ماذا؟ قال: على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقة - قال: إن صدقت الله صدقك. فنظروا في القتلى فإذا سهم قد أصابه في حلقة). فهؤلاء قوم {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]. لو أنك يا عبد الله قارنت نفسك بهؤلاء هل يكون جوابك ما كان أولاً: أنني فعلاً أحب الله ورسوله؟ هل تبذل نفسك ومالك لله؟ بل هل تقول: إنك مسلم، ولكل قول حقيقة وأمارة، فما حقيقة قولك وأمارته؟! هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة، أتى إلى بيت أبي بكر وأخبره بخبره، فقام أبو بكر ولم يتلعثم ولم يتردد، وجهز بعيرين وقال: (الصحبة الصحبة يا رسول الله). وأخذ كل ماله، وأوهم أهله أنه قد وضع لهم في البيت مالاً، وإذا بها حجارة قد صرها، وكان أبوه ضريراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله)، فهذا بذله للمال. وأما بذله للنفس: فلما انطلقوا من مكة متوجهين إلى المدينة تبعهم سراقة بن جعشم يريد أن يقتلهم، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أحس بالخطر من الأمام سبق النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أحس بالخطر من الخلف تأخر عنه ليحميه. انظروا إلى الأدب، وإلى الحب الجمّ! فلما عرف أن الخطر أتى من جهة مكة تأخر خلف النبي صلى الله وعليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن سراقة كاد أن يلحقنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تحزن يا أبا بكر فإن الله معنا. حتى كان سراقة على قدر فرسخ أو فرسخين، فبكى أبو بكر، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: والله لست على نفسي أبكي، وإنما عليك، فإن موتك موت لدين الله، أما أنا فعبد من عباد الله!). انظروا إلى الفهم العميق، إلى الإيمان، إلى الحب الصادق النقي. (نظر أبو بكر خلفه وإذا بـ سراقة على بعد فرسخ واحد، فقال: يا رسول الله! ادع الله لنا أن ينجينا من سراقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفناه بما شئت. فساخت فرسه إلى بطنها في الأرض). أي: غرقت فرسه في الأرض إلى بطنها، ثم جاء سراقة بنفسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه مخافة الغرق. وفي غزوة أحد لما انهزم المسلمون وانكشفوا؛ بسبب مخالفة مجموعة منهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، تسلل خالد بن الوليد وأتاهم من الخلف، وكان القوم قد انصرفوا لجمع الغنائم، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لي بالقوم؟ فقال طلحة بن عبيد الله: أنا يا رسول الله، فقال: لا عليك يا طلحة، فقام آخر فقاتل حتى قتل، والثاني مثله حتى قتل أحد عشر منهم، فقال: من لي بالقوم؟ فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقام طلحة فقاتل قتال أصحابه أجمعين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله). وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد بكى، وقال: ذاك يوم طلحة، فلم يبل أحد بلاءه في تلك المعركة، وكان إذا صوب المشركون سهامهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تلقفها بيمينه وشماله حتى أصابه سهم فق

صور ونماذج لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

صور ونماذج لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً ورسوله. وبعد: فهذا كعب بن الأشرف -عليه لعنة الله- لما رأى ما أصاب المشركين في غزوة بدر -وكان من يهود المدينة- عز عليه ذلك، وذهب وقطع الفيافي والقفار إلى أهل مكة، وإلى صناديد الشرك والكفر، فرتب أن يخون معهم من الداخل، وأن يهجموا هم من الخارج، ظناً منهم غياب ذلك عن اللطيف الخبير، فلما رجع كعب بن الأشرف لم يسكت ولم يكتف بذلك، بل شبب بنساء المسلمين، وهذا أمر يؤذي أهل الإيمان أيما إيذاء، أن يتكلم أحد عن امرأتك وأمك وأختك إلا أن يكون ديوثاً يقبل ذلك. فلما فعل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لي بـ كعب بن الأشرف؟ فقام محمد بن مسلمة رضي الله عنه وقال: أنا يا رسول الله، قال: قم. فاقتله، قال: ائذن لي يا رسول الله، فإن الأمر لا يتم إلا بذلك -أي: بالطعن في رسول الله- قال: أنت في حل من ذلك فافعل ما شئت، فلما سمع ذلك أبو نائلة رضي الله عنه قام مع محمد بن مسلمة وأتيا كعب بن الأشرف، فلما نادى عليه أبو نائلة قالت امرأته -وكانت ذكية-: يا كعب! إن هذا الصوت صوت قاتل، فجعل من نفسه شهماً وشجاعاً، وقال: لو نادى علي أمير أو ملك في هذا الوقت لأجبته، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: جئنا لنتكلم معك في شأن ذاك الرجل الذي ادعى أن الله أرسله، قال: ألم أقل لكم إنه يفرق بين المرء وزوجه، ألم أقل لكم كيت وكيت، فأتى بكل ما عنده، فقالوا: وإنا قد أجدبنا -أصابنا القحط والجوع- فهل لنا أن نستطعمك، قال: أترهنوني نساءكم؟ وكان جميلاً -قالوا: يا كعب! ماذا تقول عنا العرب وأنت أجملهم، قال: ترهنوني أولادكم؟ قالوا: يا كعب! وهل يرضيك أن يعير أولادنا بعد ذلك من صبية المدينة، قال: فماذا ترهنون؟ قالوا: نرهنك دروعنا وسيوفنا، فقبل ذلك، فأخذ السيف وأعطاهم الطعام، فلما أراد محمد بن مسلمة أن يعطيه سيفه، قال: هي عليك يا محمد، وسلم أبو نائلة سيفه وبقي مع محمد بن مسلمة سيفه، فأخذا الطعام وانصرفا، ثم رجعا إليه في اليوم الثاني، فناديا عليه فنزل إليهما فرحاً مسروراً، فسار معهم في شعاب المدينة، فلما وجدوا أماناً أطاحوا برأسه، وأتوا به على ذبابة سيف محمد بن مسلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا جزاء من حارب الله ورسوله). انظروا لأقوام يدخلون هذه المخاطرة الخسارة فيها كبيرة، ولكن ذلك إنما كان دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دينه وشرعه. من علامات الإيمان والحب أن تظهر سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تذب عن دينه وشرعه، وأن تكون علماً على دينك بين الناس، إذا سرت في شارع قال الناس: هذا تابع لمحمد، فهل يقول عنك الناس ذلك؟ ما الفرق بينك وبين حنا؟ ما الفرق بينك وبين بولس؟ ما الفرق بينك وبين جرجس؟ ربما يكون هناك شبه في المظهر. لو أني لقيتك في طريقي يا عبد الله ما يدريني أنك مسلم أم كافر، إلا أن تظهر بمظهر الإسلام، وباطنك الله أعلم به. عنوان طاعتك لله أن تكون منقاداً عند سماع الأمر والنهي، تمتثل الأمر وتنتهي عن النهي، وتفعل كما فعل المهاجرون والأنصار. انظر إلى موقف واحد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أولاً باتجاه بيت المقدس، فتمنى أن يصلي إلى الكعبة، فبعد أن صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، أنزل الله عز وجل عليه وهو في المدينة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]. فنسخت الصلاة تجاه بيت المقدس، وأمر الناس أن يصلوا إلى بيت الله الحرام، فصلى رجل من الأنصار العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلق إلى مسجد آخر وهم يصلون العصر، وهم ركوع، فوقف على باب المسجد، وقال: إني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر نحو الكعبة، فلم ينتظر القوم حتى يصلوا العصر ثم يستأنفوا من المغرب أو العشاء، أو يتأكدوا من رسول الله، وإنما بادروا إلى الفعل، وتحولوا وهم ركوع إلى الكعبة! انظر إلى هذه الطاعة. وهذا أنس بن مالك ابن أم سليم، وكان زوج أمه أبو طلحة، يقول أنس: (كنت ساقي الخمر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً: ألا إن الخمر قد حرمت، قال أنس: فسمع القوم وهم جلوس في بيت أبي طلحة ذلك المنادي، فقال أبو طلحة والقوم: يا أنس اخرج وأهرق هذا الماء في سكك المدينة). انظر إلى سرعة تنفيذ الأمر، من دون تردد، أو استنكار. قال أنس: (فلما

الحدود في الإسلام

الحدود في الإسلام لقد شرع الإسلام عقوبات محددة مقدرة على جرائم لا يستقيم المجتمع بحصولها فيه، وحكمة هذا التشريع هي الردع والتطهير، ومن هنا تظهر الأهمية البالغة لهذه الحدود الشرعية، ودون ذلك جرائم وإخلالات شرع لها الإسلام عقوبات التعزير، وجعل مرد تقديرها إلى اجتهاد الحاكم بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع.

أهمية الحدود في الإسلام

أهمية الحدود في الإسلام إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. موضوع محاضرة اليوم هو: الحدود في الإسلام. ولماذا هذا الموضوع بالذات؟ لا شك أن هذه الصحوة المباركة لها من المناقب والفضائل ما لها، ولا يخلو الأمر من مثالب ومعايب. ونحن لا ننتظر أن يأتي دخيل علينا فيعالج أخطاءنا، ولكن لا بد من ناصح من بيننا، فكنا نظن أنه بانقراض جماعة التكفير قد عافى الله عز وجل هذه الجماعات وهذه الطوائف المسلمة أنها لا تقيم الحدود فيما بينها. ثم فوجئنا بعد ذلك أن هذا الشر لا يزال موجوداً، وإن كانت بصورة خفية دقيقة قليلة، لكن على أية حال يعد هذا الأمر مخالفة عظيمة لدين الله عز وجل، أن يقيم الأفراد حدود الله عز وجل فيما بينهم، وليس هذا الأمر موكولاً إليهم. ولذلك آثرنا أن تكون هذه النصيحة من أخ شقيق رحيم ودود يعز عليه جداً أن يكون في هذا الصف أخطاء فيتلقفها أعداء هذا الدين فيجعلون منها موضوعاً يتكلمون فيه، ويوجهون سهامهم وطعونهم لا إلى الأفراد الذين خالفوا في هذه المسألة، وإنما إلى دين الله عز وجل، ويحسن بنا أن نتكلم في مقدمة يسيرة قليلة عن أهمية الحدود في الإسلام. فالحدود في الإسلام إنما هي جزء من نظام إلهي عظيم أنزله رب العالمين على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ليكون نظاماً يكفل لمن اتبعه السعادة والأمان والاستقرار إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138].

أساس الحدود في الإسلام

أساس الحدود في الإسلام وأساس الحدود في الإسلام: أنها ضابط يحفظ التوازن بين حقوق الفرد والجماعة معاً. فمن حق الفرد على الجماعة: تحقيق مصالحه وحفظها، وصيانة حياته ومقوماتها، والعمل على حمايته ليس فقط من غيره، بل من نفسه كذلك. يعني: لا يجوز لأحد أن يقيم الحد على نفسه، فلو أن شخصاً قتل، هل يجوز له أن يقتل نفسه فيكون بذلك قد أقام الحد من نفسه على نفسه؟! A أنه لا يجوز، فلو أنه قتل الغير لكان قاتلاً، ولو قتل نفسه لكان كذلك قاتلاً. وللمجتمع كذلك الحق في صيانة كيانه من كل اعتداء أو مساس، وفي الحصول على حياة آمنة وادعة تتسم بالطهر والعفاف، وجميع الجرائم التي حرمها الإسلام إنما هي من النوع الذي لو ترك وشأنه لأدى لاضطراب المجتمع وإشاعة الفوضى والقلاقل فيه، فلا بد من رادع يردع من يخرج على هذا القانون الإلهي الذي شرعه المولى عز وجل. فلا يقبل من أحد أن يسرق أموال الغير ويقول: أنا حر، ولا يقبل من أحد أن يقول: أنا أزني وأنا حر؛ لأن هذا الفعل إنما هو اعتداء على المجتمع بأسره.

اهتمام الإسلام بالوازع الديني

اهتمام الإسلام بالوازع الديني وينبغي أن يعلم أن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة، بل إنما يعتمد على الوازع الديني، ولذلك الإسلام قبل أن يحرم الزنا إنما بغضه إلى قلوب الخلق، وقبل أن يحرم شرب الخمر إنما بغضه إلى قلوب الخلق، وهكذا في كل حد من حدود الله عز وجل، إنما يخاطب الله عز وجل عباده بأن ينفرهم ويزجرهم ويبين لهم المغرم الذي لو أقدموا على هذا الذنب لتحملوا نتيجته نتيجة سيئة. ولذلك أنت تجد أن العاصي لا يشعر بالأمان فيما بينه وبين نفسه، ولو أنه قام بطاعة الله عز وجل لاطمأن قلبه بذلك، وهذا مصداق قول الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فالذاكر لله تبارك وتعالى بالقول والعمل لا بد أنه مطمئن القلب، وأما العاصي العامل بخلاف الذكر الذي ورد في الكتاب والسنة فلا بد وأن يشعر بالقلق، وعدم الطمأنينة، فلا بد من بيان أن الله تبارك وتعالى إنما يخاطب في عباده الوازع الديني، وأنه يربي في قلوبهم ونفوسهم الوازع الديني قبل أن يعتمد على العقوبة، وإنما العقوبة هي الحد، وهي الغرض وهي المنتهى في غير تشريع المولى عز وجل. ولذلك أنت لو قلت لواحد: أعطني ألف جنيه زكاة مالك يدفعها لك طيبة بها نفسه، ولو قلت له: ادفع عشرة جنيهات فقط ضرائب لا يدفعها؛ لماذا؟ لأن عنده في الأول الوازع الديني، وليس عنده وازع في الثاني إلا أن يقهر بالسيف والسلطان، فحينئذ يدفع وإن باع أولاده وامرأته في سوق النخاسة. أما الإسلام فلم يكن كذلك، وإنما خاطب الناس، ولذلك تجد أن الشخص يأتي بزكاة ماله ويدفعها مختاراً راغباً في أن يتخلص من هذا المال؛ لأنه يعلم أنه لا حق له فيه. وهل سمعتم أن أحداً حمل ماله وذهب إلى مصلحة الضرائب ليدفعه؟ أبداً. لماذا؟ لأنه يعلم أن هذا ظلم، وأنه ليس من دين الله عز وجل، وأنه لا يؤجر عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة. ولذلك حرص الإسلام ابتداءً على أن يربي الوازع الديني في قلوب العباد، ولذلك أنت بإمكانك أن تقتل، وأن تسرق، وأن تزني، وأن تسب وأن تشتم وغير ذلك، فما الذي يحجبك وما الذي يمنعك؟ إنما هو خوفك من الله عز وجل، فلو أنك تمكنت من السرقة وأنت تعلم أنه لا يراك أحد من الخلق فأنت تقول فيما بينك وبين نفسك: إنما يراني رب الخلق. فقولك: (يراني رب الخلق)، هذا هو الوازع الديني الذي رباه الله تعالى في قلوب عباده الصالحين. فإن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس، ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة، ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة والسلوك المستقيم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام، وسعد بالمجتمع، وسعد به مجتمعه. ومن هجر هذه الأسباب، ونفر منها، وسعى في الأرض فساداً دون رادع من خلق، أو وزاع من ضمير، فهو كمن يتمرغ في الوحل مختاراً، وحق للإسلام أن ينزل به عقابه؛ ليحمي الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره. فالإسلام لم يرصد عقوبة دنيوية لكل انحراف أو معصية، بل إن هناك كثيراً من الانحرافات والمحرمات اكتفى الإسلام فيها بأن أنذر مرتكبيها بغضب الله وعقابه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: المنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره). فليس هناك عقاب عملي في كتاب الله أو في سنة رسول الله يؤدب هؤلاء. فالمنان يعطيك المال، ويمن عليك، ويقول: أنا أعطيتك في يوم كذا كذا وكذا، فهل في الإسلام عقوبة رادعة هل يضرب بالعصا على أم رأسه حتى لا يمن بعد ذلك؟! A لا، وإنما ذلك راجع إلى الوازع الديني، وخوف هذا المنان من الله عز وجل؛ لأنه لا يكلمه، ولا ينظر إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم في الآخرة. وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام لما ذهب إلى المقابر: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة). والنميمة كذلك ليس لها جزاء في الدنيا، فما الذي يمنعك أن تنم إذا لم يكن هناك عقاب، وليس من حق واحد وإن كان والياً أو حاكماً أن يضربك، وأن يؤدبك على هذه النميمة؟ ما الذي يمنعك من هذا؟ إن الذي يمنعك هو: خوفك من الله عز وجل الذي يسميه أهل العلم: الوازع الديني. فهناك عقوبات كثيرة جداً اعتمدت على الوازع الديني، وتصفية هذه القلوب المؤمنة الطاهرة، وإقبالها على الله عز وجل. والعقوبات في دين الله عز وجل كثيرة لا تعتمد على الحدود فقط، وإنما اعتمدت على أشياء كثيرة فمنها: الحدود، ومنها: القصاص، ومنها: التعزير والغرامات وغير ذلك.

تعريف الحدود

تعريف الحدود ولذلك لما كان موضوعنا عن الحدود، فيحسن أن نعرف الحد ما هو: فالحدود جمع: حد، والحد في الأصل: هو الشيء الحاجز بين شيئين، تقول: أنا أقمت حداً بيني وبين فلان، أي: أقمت حاجزاً بيني وبينه حتى لا يبغي أحدنا على الآخر. ويقال: الحد ما ميز الشيء عن غيره. ومنه: حدود الدار، وحدود الأرض، وهو في اللغة بمعنى: المنع. وسميت عقوبات المعاصي حدوداً؛ لأنها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها، كما قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]. فأحياناً يطلق الحد على المعصية نفسها، فلما كانت هذه المعصية خارجة عما حده الله عز وجل لك أمرك بأن لا تقربها؛ فإن اقتربت منها استوجبت الحد الذي فرضه الله عز وجل لهذا الجرم. والحد في الشرع: عقوبة مقدرة لأجل حق الله، ومعنى حق الله عند الإطلاق: أي: حق المجتمع؛ لأن الحقوق إما حق الآدمي الفرد، وإما حق المجتمع بأسره. فحق المجتمع بأسره يطلق عليه حق الله تعالى، فيخرج التعزير؛ لعدم تقديره؛ إذ إن تقديره مفوض لرأي الحاكم، ويخرج القصاص كذلك لأنه حق آدمي. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] هذا في القصاص: إذا كان لك قصاص في حق أخيك فعفوت عنه فإنما ذلك حقك وقد تنازلت عنه.

جرائم الحدود

جرائم الحدود فقد قرر الكتاب والسنة عقوبات محددة لجرائم معينة تسمى جرائم الحدود. فمن هذه الجرائم: الزنا، والقذف، والسرقة، والسكر، والحرابة، والردة والبغي، فعلى من ارتكب جريمة من هذه الجرائم عقوبة محددة قررها الشرع، فعقوبة جريمة الزنا الجلد للبكر، والرجم للثيب، كما قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام) البكر بالبكر، أي: لو وقع رجل بكر غير متزوج على امرأة بكر غير متزوجة فعقابه جلد مائة، وتغريب عام، وقد اختلف فيه أهل العلم، (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، والثيب بالثيب، أي: لو أن رجلاً متزوجاً وقع على امرأة متزوجة فعقابه الرجم اتفاقاً، وأما الجلد فقد اختلف فيه أهل العلم كذلك، وعقوبة جريمة القذف ثمانون جلدة، لو أن واحداً قذف امرأة محصنة، ومعنى (محصنة) أي: حرة عفيفة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]. وعقوبة جريمة السرقة: قطع اليد، كما قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]. وعقوبة جريمة الفساد في الأرض -وهي المحاربة- القتل أو الصلب، أو النفي، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]. وعقوبة جريمة السكر ثمانون جلدة، أو أربعون على ما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى في تناول الحدود حداً حداً. وأما عقوبة الردة فهي: القتل، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه). وعقوبة جريمة البغي هي: القتل كذلك؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]. ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنه ستكون بعدي هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان).

دلالة عقوبات الحدود على حكمة الله تعالى البالغة

دلالة عقوبات الحدود على حكمة الله تعالى البالغة فهذه العقوبات إنما دلت على عدل الله عز وجل وحكمته؛ لأن بعض الناس يقول: ليس من الحكمة ولا من العدل أن تقطع يد السارق، أو يضرب الزاني مائة جلدة، أو يرجم حتى الموت، إن هذه وحشية أتى بها الإسلام. وهذه فضلاً عن أنها قولة كفر إلا أن الواحد منهم لو أنه رأى واحداً فوق امرأته، أو سرق ماله لأخرج سيفه، أو مسدسه من جيبه، وأطلق النار عليه، وربما يطلق النار على كل من ظن أنه قد سرق دون أن يتحقق من السارق. فلماذا في هذا الموقف ليس عمله وحشياً، والذي أتى به الإسلام هو الوحشي، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]. (ولكم في القصاص) مع أنه الموت، فقد أثبت الله تبارك وتعالى أن فيه الحياة كل الحياة؛ لأن أحداً لو قتل أباك فأنت لا تقنع قط إلا أن تقتل من أسرة القاتل مائة شخص، أنت لا تقنع إلا بإبادة الأسرة وأصحاب القبيلة كلها، ولكن الله عز وجل لم يجعل ذلك لك، بينما جعله للحاكم بأن يأخذ القاتل أو القاتلة فقط فيقتله في مقابل قتله لوالدك. فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن نقول: إن تنظيم أمور القصاص فيه توفير الحياة المستقرة الدائمة بين الناس، فمن قتل يقتل ولا يقتل غيره، ولذلك خاصة هذا الأمر يظهر في أن واحداً لو قتل آخر من أسرة أخرى لا يبحثون عن القاتل، وإنما يبحثون عن أعظم رجل في أسرة القاتل، عن أعظم رجل الذي إذا قتل أوجعهم وأضرهم، وهذا على خلاف قانون الله عز وجل؛ لأن القاتل هو الذي يقتل فقط. فقول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]. لا بد وأننا نقتنع ونعتقد أننا لو صرنا بمنهج الله عز وجل لا بد وأن نحيا حياة كريمة، فلا يتصور أن يسكر فلان، وأن نعاقب فلاناً آخر، أو أن يزني فلان وأن يرد على زناه بزنا، فإن هذه فوضى، فهل يتصور أن رجلاً زنى بأخت رجل آخر، أو بأمه، أو بامرأته، فهل يقول: أنا لا أقتله، وإنما آخذ حقي بنفسي، وهو أني أزني بامرأته كما زنى بامرأتي، أو أزني بأمه كما زنى بأمي؟! هذه فوضى، وأما الإسلام فإنه جعل حداً لا يزيد ولا ينقص لمن وقع في مثل هذه الفاحشة، ومن وقع في مثل هذا الجرم، فوجب اتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام في تلك الحدود، وهذه العقوبات بجانب كونها محققة للمصالح العامة، وحافظة للأمن العام، فهي عقوبات عادلة غاية العدل، إذ إن الزنا جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها، وعدوان على الخلق والشرف والكرامة، ومقوض لنظام الأسرة والبيوت، ومروج للكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الأفراد والجماعات، وتذهب بكيان الأمة، ومع ذلك فقد احتاط الإسلام في إثبات هذه الجريمة فاشترط شروطاً لا يقام الحد إلا من خلالها. وعلى أية حال: فإن الإسلام قد جعل حدوداً وتعزيرات وقصاصاً. فأما القصاص فإنه حق الأفراد فإن شاءوا عفوا، وإن شاءوا أخذوا حقهم. وأما التعزير فكل جرم ليس فيه حد ففيه التعزير.

أوجه الاتفاق بين الحد والتعزير

أوجه الاتفاق بين الحد والتعزير وبين الحدود وبين التعزيرات فروق: فالفرق بين الحد والتعزير: أن الحد والتعزير كلاهما يتفقان في مسألتين، ويختلفان في سبع: فالحد هو ما حده الله تعالى حداً معيناً دون زيادة ولا نقصان لجرم بعينه، بشروط معينة. والتعزير: ما لم يتوافر فيه ذلك، إلا أن التعزير والحد يتفقان في مسألتين: الأولى: أنهما عقوبتان شرعيتان يستند في إقامتهما إلى دليل شرعي. فلو أن والداً أعطى ولده ديناراً ليشتري أشياء للبيت، فاشترى الولد لنفسه أشياء أخرى، فضربه الوالد ضربة أو ضربتين أو ثلاثاً، فنقول: إن الوالد هنا إنما يعزر ويؤدب ولده على تلك المخالفة، بخلاف ما لو أن هذا الولد أخذ من بيت الغير خمسمائة جنيه، أو ألف جنيه فإننا نقول في هذه الحالة: إن هذا لا يعزر، وإنما يحد، فقد وجب إقامته الحد عليه؛ لأنه سارق. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا حد في أقل من ربع دينار). وفي رواية أنه قال: (حد السرقة في ربع دينار وما زاد). والدينار والدرهم لغة المال في الكتاب والسنة، ويقصد بها: الذهب والفضة، فالذي يسرق ربع دينار ذهب -يعني: ما يقرب من مائة وأربعين جنيهاً، أو مائة وستين جنيها- فالذي يسرق هذا المبلغ لا بد- أنه قد استوجب حداً من حدود الله عز وجل، فلا يعزر، بخلاف الذي يسرق عشرة جنيهات فإنه يعزر ويؤدب ويلام ويؤنب بما يتناسب مع رده إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله. أما الذي يسرق فوق حد النصاب، ويسرقه من حرز؛ لأن السرقة لها شروط، فلو أن رجلاً فتح الدرج وأخذ منه مالاً بلغ حد النصاب فإنه سارق، بخلاف من وجد مالاً في الطريق العام فالتقطه، وإن كان قد بلغ حد النصاب، فإنه لا يعد سارقاً، أي: أن اللقطة لها حكم، والسرقة لها حكم آخر. وهنا نقول: إن الذي يلتقط هذا المال من الطريق العام إن كان هذا المال ذا قيمة فوجب على الملتقط أن يعرفه عاماً كاملاً في المكان الذي التقط فيه هذا المال، فإن ظهر صاحبه دفعه إليه، وإن لم يظهر صاحبه تملكه هو بشرط أن لو ظهر صاحبه بعد ذلك وجب رد المال إليه. أما لو التقط رجل شيئاً يسرع إليه الفساد، حتى وإن بلغت قيمته النصاب؛ فإنه لا يلزمه الاحتفاظ بهذا الشيء؛ لأنه لو احتفظ به فسد، كمن وجد طعاماً، أو فاكهة يسرع إليها الخراب مع الوقت، فإننا لا نطالبه بالإبقاء والاحتفاظ بهذا الشيء عاماً كاملاً ليعرفه، ولكن نجيز لهذا الملتقط أن ينتفع بهذا المال، بل له أن يبيع هذا المال، وأن ينتفع بثمنه وبقيمته، فإن ظهر صاحبه فإما أن يشتري له مثل تلك البضاعة، وإما أن يدفع إليه المال الذي باع به تلك السلعة. فهذا لا يقال عنه: سارق، وإنما السارق هو الذي يأخذ المال من حرز مغلق على هذا المال، يأخذه عنوة، يدخل المكان، ويأخذ المال ويهرب، فهذا الذي يقال عنه: سارق، فإن سرق أقل من النصاب استوجب التعزير، وإن سرق النصاب وما زاد استوجب الحد. الشاهد من هذا: أنه لا يقام حد السرقة على كل من سرق، وإنما على من سرق مالاً بلغ النصاب، وسرقه من حرز، فيقام عليه الحد بهذين الشرطين، فالحد والتعزير إنما هما عقوبتان شرعيتان تستندان إلى دليل شرعي. الوجه الثاني من أوجه الاتفاق بين الحد والتعزير: أنهما شرعا على سبيل الزجر، والتنكيل ورد العاصي الذي خرج عن سبيل الصراط المستقيم، وعن كتاب الله وسنة رسوله إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، ويعمل بتقوى الله عز وجل، فإنما شرع الحد والتعزير للتنكيل والزجر، ورد العاصي إلى الطاعة، ولذلك حد واحد يقام في الأرض خير للناس جميعاً من أن يمطروا -مع الجدب وشدة الفقر والحاجة- أربعين صباحاً. فلو أن رجلاً وقع على امرأة أجنبية فزنى بها، فجيء به في ميدان عام، ونقل أمره وأذيع على الهواء، ونظرت إليه تلك الملايين المملينة هنا وهناك وهو يقام عليه الحد -حد الرجم، أو حد الجلد- فلابد وأنه يعطي ردة فعل عند كل من تسول له نفسه أن يزني. فإقامة الحد إنما هي أكبر عامل على طهارة المجتمعات، وليست فوضى ولا وحشية، وإنما يضحي المجتمع بأسره بواحد للحفاظ على بقية المجتمع، ولذلك أنت لو نظرت كم عقوبة زنى أقامها النبي عليه الصلاة والسلام لوجدتها اثنتين فقط، في المرأة الغامدية وماعز الأسلمي. وكم حالة حد للسرقة أقامها النبي عليه الصلاة والسلام؟ قيل: واحدة. وقيل: لا شيء؛ لأن الناس يخافون من إقامة الحد، ولا بأس بذلك؛ لأنني كما قلت: إذا كنت تدعي أن ذلك وحشية فلا بد وأن تنظر أن مالك معرض للسرقة. فلو عطلت هذه الحدود فإن الواحد منا لا يأمن على نفسه ولا ماله، ولا أهله ولا أولاده في أي مكان؛ لأن الأمانة رفعت من الناس، فإن الواحد منا إذا كان يأخذ راتبه في آخر الشهر الذي شقي به ثلاثين يوماً لا يأمن أن يصل بهذا الراتب إلى بيته. ولذلك تجد الناس في وقت قبضهم لرواتبهم واضعين الراتب في الجيب وواضعين أيديهم على جيوبهم خوفاً على الراتب؛ لأن الأمانة رفعت من كثير من الناس، فعندما يسعى الرجل ويشتغل الشهر كاملاً بهذا المرتب الذي لا يصلح أن يكون ثمنا

أوجه الاختلاف بين الحد والتعزير

أوجه الاختلاف بين الحد والتعزير

تقدير عقوبة الحد دون عقوبة التعزير

تقدير عقوبة الحد دون عقوبة التعزير أما أوجه الخلاف بين الحد والتعزير فأول هذه الأوجه: أن عقوبة الحد مقدرة ومحددة شرعاً لا تزيد ولا تنقص، فمثلاً: أن الشرع حد للسكر ثمانين جلدة، فهل يتصور أن يضرب السكران خمساً وثمانين؟ لا يمكن ذلك، فإن هذا تعد من الذي يقيم الحد، كما أنه ليس بإمكانه أن يضربه سبعين فقط، ولكن إن ضربه سبعين أو ستين، أو أقل من ذلك ثم مات عند تلك الضربات؛ فإنه يحرم عليك بعد ذلك أن توفي معه بقية الحد؛ لأنه قد مات. وأما إذا لم يمت فوجب إتمام الحد عليه، ولا تأخذك الشفقة ولا الرأفة ولا الرحمة به، لماذا؟ لأنه لم يرحم نفسه، وهو الذي عرض نفسه لغضب الله عز وجل، كما أن الرحيم الرءوف هو الذي حد له ذلك، وأوجب عليه هذا العدد، فلا يجوز النقصان منه، ولا الزيادة فيه. فحد الله تبارك وتعالى مقدر، ومحدد شرعاً دون زيادة ولا نقصان. أما التعزير فعقوبته غير مقدرة شرعاً، وإنما تدور ما بين الواحد والعشرة، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله تعالى)، أو كما في الحديث، يعني: لا يعزر بأكثر من عشر، فالعشرة إنما هي حد بين التعزير وبين الحد. والواحد منا أحياناً ينقض على امرأته أو ولده فيضربه على وجهه -وهذه مخالفة أخرى- أكثر من عشر ضربات، فلو أنه راجع نفسه واتقى ربه، ووقف عند حده؛ لعلم أنه قد ضرب ولده بما يستوجب حداً دون أن يختلف الحد. وهذا تعد وإجرام في الأولاد، ولذلك ينبغي ضبط النفس عند تربية الزوجة، وتربية الأولاد، وتربية العبيد؛ لأن الأب له أن يعزر ولده، والزوج له أن يعزر زوجه، والسيد له أن يعزر عبده، ولكن في الحدود التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وسمح بها النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز للرجل أن يزيد عما حدده الله وقدره. ولذلك لا يلزم في التعزير أن تضرب العشرة، وإنما إذا انزجرت الزوجة بعصاً واحدة فلا يجوز ضربها الثانية، وإن انزجرت باثنتين لا يجوز ضربها الثالثة، وكذلك الولد والعم؛ فإن العقوبات إنما هي رادع بسيط ومبدئي لرد العاصي إلى فطرته، فإذا انزجر من أول التأديب فلا يجوز أبداً الزيادة فيه، وإذا انزجر من وسطه فلا يجوز التعدي، وإن لم ينزجر إلا بإتيان التعزير كاملاً وجب ضربه حتى التعزير كاملاً، وهو عشر ضربات. وقد ترك الإسلام لولي الأمر ذلك، وولي الأمر سواءٌ كان الأب، أو الحاكم، أو الزوج، فقد ترك الإسلام لهؤلاء وهم ولاة الأمور تقدير حد التعزير دون أن يقرر لهم عدداً معيناً، ولكنه حد لهم عدداً معيناً لا يزيدون عنه، ولا يلزم من ذلك أن يأتوا إلى نهاية هذا الحد، وإنما الأمر كما قررنا آنفاً. هذا هو الفارق الأول بين الحدود وبين التعزيرات.

ثبوت عقوبة الحد ومقدارها دون عقوبة التعزير

ثبوت عقوبة الحد ومقدارها دون عقوبة التعزير الفارق الثاني: عقوبة الحد ثابتة لا تتغير باختلاف الناس المستحقين لها، فكل من ارتكب ما يوجب الحد أقيم عليه دون اعتبار لمركزه أو بلده. وكان الناس في الجاهلية إذا زنت المرأة لكنها كانت شريفة في قومها، أو هي من أشراف القوم، أو من عليه القوم، وزنت امرأة أخرى ولكنها من سقط الناس ورعاع الناس، فيقيمون عليها الحد، ولا يقيمون الحد على تلك المرأة الشريفة. فحد الله تعالى ثابت للشريف والوضيع، والحر والعبد، وعلى كل من استوجب الحد، فإن الذي وقع في جريمة السرقة، أو الزنا أو شرب الخمر أو غيرها، ما دام قد بلغ وجرى عليه القلم، وحتى الشيخ الكبير والمرأة العجوز إذا وقعوا في جريمة من هذه الجرائم فإنهم يستحقون الحد. فالحدود ثابتة لا تتغير، ولا علاقة لها لا بالزمان، ولا بالمكان، ولا بالأشخاص. كما لا يختلف الحد باختلاف عظم المخالفة التي تستوجب الحد أو عدمها، فلو أن رجلاً سرق مائتي جنيه فقد بلغ نصاب حد السرقة، فيكون هو والذي يسرق الملايين سواء؛ لأنهما اشتركا في بلوغ حد نصاب السرقة في المسروق، فكذلك لا يختلف الحد باختلاف عظم المخالفة أو عدمها، نعم الذي يسرق مليون جنيه بخلاف الذي يسرق مائتين، ولكن شرع الله عز وجل أوجب الحد على كل منهما على مقدار واحد؛ لأنهما قد اشتركا في بلوغ حد النصاب في المسروق. والذي يزني بأجنبية هذا جرم عظيم جداً، وأشد منه جرماً: أن يزني الرجل بإحدى محارمه، كالذي يزني بعمته، فهذا أشد جرماً ممن يزني بامرأة أجنبية، ولكن الشرع حدد عقوبة واحدة في الاثنين، لماذا؟ لأنه نظر إلى الفاحشة، ولم ينظر إلى المفعول بها؛ لأنها لو انتشرت لفسد المجتمع كله، ولذلك لا اعتبار أبداً بعظم المخالفة وعددها، وإنما العبرة ببلوغ العبد المعصية التي حدد الله عز وجل لها عقوبة مقررة. أما التعزير فيختلف باختلاف حال الناس، فتأديب ذوي الهيئة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل السفاهة والبذاءة، وهذا فرق بين التعزير وبين الحد، فلو أن رجلاً سرق مالاً لم يبلغ حد النصاب وكان رجلاً شريفاً مهذباً لم يعهد عليه ذلك قط، لكنه في لحظة ضعف تسلط عليه الشيطان وسرق خمسين جنيهاً فقط، فهي لم تبلغ نصاب حد السرقة، وهناك صنف آخر يفعل المعصية، وهو مدرك جيداً لمسألة الحدود والتعزيرات، ولكنه لا يمكن أن يسرق أكثر مما يستوجب تعزيره، فإن الحد يقام إذا كان المبلغ مائة وأربعين جنيهاً، فهو يقول: أنا ما سرقت إلا مائة، فيسرق من ذا مائة، ومن الثاني مائة، ومن الرابع مائة، حتى يعلم عند ولي الأمر أنه بذيء وفاحش وسفيه وسارق، لكن الحاكم لا يقيم عليه الحد؛ لأنه لم يبلغ الحد، فكل ما يسرق يضربه حد التعزير، يؤدبه ويعزره، إذا كان لا يقدر أن يقيم عليه الحد، فهل هذا كالشريف الذي وقع في زلة مرة؟ ولو أن ولي الأمر أتى بهذا الشريف، وقال له: عيب عليك يا رجل؛ أبوك شريف وأمك شريفة وأسرتك شريفة وهذا الفعل يصدر منك! أول ما يسمع هذه الكلمات ربما يخر مغشياً عليه، فهذا يكفيه، ولا يلزم ضربه؛ لأن التعزير مقصود قد حصل بالتوبيخ، ومثل ذلك الزوجة إن أتت بالوعظ هل يجوز توبيخها؟ لا. وهكذا إذا لم تأت إلا بالتوبيخ لا يجوز ضربها، ولذلك الله تبارك وتعالى لما حدد لنا مراحل تأديب الزوجة وهو الخبير اللطيف سبحانه وتعالى بما خلق، وبمن خلق، فهناك زوجة لو أنك نظرت إليها تعرف ماذا عملت، وتذوب كما يذوب الملح في الماء، وأخرى مهما تنظر إليها تخرج لسانها ولا يهمها مهما نظرت. فالأولى مهذبة، إنما يكفيك منها أن تنظر إليها ولا تؤذها بكلمة، ولا بتوبيخ ولا لوم ولا تقريع أبداً، لا يجوز لك هذا. وهناك زوجة لو أنك أنت نمت ووجهت إليها ظهرك كأنك قتلتها، وهناك زوجة لا تستريح إلا حين تذهب هي إلى غرفة ثانية وتنام بعيدة عنك. ونحن طبعاً رأينا في هذه الأيام التي لا تستريح إلا حين تذهب تنام في بيت أبيها، وفي الصباح تقوم أنت تنظف الأولاد وتؤكلهم وتشربهم وتوصلهم إلى المدرسة، وهي تأتي في الضحى أو في الظهر أو في العصر أو حين يرجع الأولاد من المدرسة. فكل أسلوب ينفع في موطن لا يجوز التعدي والزيادة على هذا الأسلوب حتى في التعزير. ولذلك يقول: التعزير يختلف باختلاف حال الناس، فتأديب ذوي الهيئات يختلف عن تأديب غيرهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم). يعني: إذا وقع واحد صاحب وجاهة وسقط مرة، وليس من عادته السقوط، فلا يضغط عليه، ولا يفتن في دينه، والناس بشر، والبشر يخطئون ويصيبون، فمنهم من الأصل فيه الخطأ، ومنهم من الأصل فيه الصواب والاستقامة. فإذا وقع أصحاب الاستقامة في الخطأ فاستروهم، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن ستر مسلماً على خزيه في الدنيا ستره الله عز وجل يوم القيامة). كما يختلف التعزير باختلاف عظم المخالفة وعدمها، كمن يسرق مالاً دون النصاب بقليل، والثاني: يسرق دون النصاب بكثير. فلو أن رجلاً سرق جنيهين، وجاء آخر فسرق ثلاثين جنيهاً، أو أربعين جنيهاً فهذا يستحق اللوم أو التعزير أك

امتناع الشفاعة في الحدود دون التعزيرات

امتناع الشفاعة في الحدود دون التعزيرات الفارق الثالث بين الحد والتعزير: أن الحد لا تجوز فيه الشفاعة، ولا يجوز لأحد أن يسقطه بعد ثبوته. والمرأة المخزومية لما سرقت قالوا: لا نقيم عليها الحد؛ لأنها من أشراف الناس، فقالوا: بعد وصول الخبر إلى النبي عليه الصلاة والسلام: لا بد من أحد يشفع لهذه المرأة عند النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: لا أحد إلا حِبه أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان النبي عليه السلام يحبه جداً، وهو مولاه، فقالوا: إنه لا يقبل إلا من أسامة، فأرسلوا أسامة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشفع في رفع الحد عن تلك المرأة المخزومية، فعاتب عليه السلام أسامة بن زيد، وقال: (يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟! وظل يرددها وأسامة ينكس رأسه تجاه الأرض، فقال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف لم يقيموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، يعني: لو أن أحداً من أهل بيت النبوة استوجب عقوبة محددة قررها الشرع لفعلتها. فليست هناك شفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان، أما قبل ثبوت الحد فيجوز فيه الشفاعة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب). يعني: فقد وجبت إقامته، أما إذا كان الحد قد بلغ السلطان فلا بد من إقامته، وإذا لم يبلغ السلطان فالناس فيما بينهم أحرار في أن يتنازلوا عن حقوقهم. أما التعزير فتجوز فيه الشفاعة، ويجوز للحاكم أن يسقطه بالكلية إذا رأى أن في ذلك مصلحة لا تضر بحق آدمي، فإن كان ذلك له تعلق بحق الآدمي فلا يجوز إلا بإذنه. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء). وتسن الشفاعة لتخفيف التعزير، أو بإسقاطه بما لا يضر بحق الغير، فإذا علم صدق توبة المسلم وتمزق قلبه على ما بدر منه فلا يجوز تعزيره مخافة فتنته.

جواز تجزئة عقوبة التعزير دون الحد

جواز تجزئة عقوبة التعزير دون الحد الفارق الرابع بين الحد والتعزير: أن الحد لا يتجزأ، بخلاف التعزير، فيجب تنفيذ الحد مرة واحدة وبكل بنوده، بخلاف التعزير، فلو استوجب أحد الحد مائة جلدة؛ فلا يجوز توزيعها على عشر مرات كل مرة يضرب عشر جلدات، بل لا بد من إعطائها له مرة واحدة؛ لأنها لا تتجزأ، بخلاف التعزير، فيجوز تجزئته، أو تنفيذه على مراحل، أو الاقتصار على بعضه دون إتمامه.

ضمان التلف في الحد دون التعزير

ضمان التلف في الحد دون التعزير الفارق الخامس: أن ما يترتب على الحد من تلف فإنه هدر لا ضمان فيه؛ لأن تقدير هذا الحد موكول إلى الشارع، فالشارع أمر بالضرب على الشرب أربعين جلدة، أو ثمانين جلدة، أو على الزنا لمن كان بكراً مائة جلدة، فلو أننا التزمنا كيفية إقامة الحد، ومع هذا تلف بعض أعضاء المحدود؛ فإنه لا ضمان علينا؛ لأننا ننفذ حداً من حدود الله عز وجل فلا ضمان، بخلاف التعزير، فإن الوالي الذي أقام الحد لا بد وأن يضمن التلف؛ لأن الأصل في التعزير عدم التلف، فإذا وقع التلف كان مضموناً، أي: وجب على من أتلف أن يؤدي حق هذا التلف إلى المعزر.

امتناع تنفيذ الحد من غير جهة السلطان

امتناع تنفيذ الحد من غير جهة السلطان الفارق السادس: أن الحد لا ينفذ إلا بإذن الحاكم أو نائبه لخطره العظيم، وهذا أهم فارق بين الحدود والتعزيرات، أهم فارق أن الحدود موكولة إقامتها إلى ولي الأمر لا إلى غيره، ولذلك فإن إقامة الحدود في غاية الخطورة من حيث تكييفها، ومن حيث ثبوتها، ومن حيث إقامة الحد بشأنها. يعني: لو رأينا واحداً في هذا الوقت في الشارع سكران، أليس السكران هذا له حد؟ له حد ربنا قرره، بعدما جلدناه أربعين جلدة وأفاق قال: ماذا حصل؟! قلنا: أنت كنت سكران، قال: كيف وطول عمري ما رأيت الخمر؟ وإنما شربت هذه الكوكاكولا من المحل الفلاني، ولما شربتها حصل لي الذي حصل، ولما سألنا صاحب المحل قال: والله أنا هكذا أتيت بها من الشركة، فلما رأينا الماء المتبقي في الزجاجة رأيناه فعلاً خمراً، فهذا الرجل ليس سكيراً، وإنما شرب الخمر على سبيل الخطأ حيث ظن هو أنه ماء، أو أنه بيبسي كولا أو شيء من هذا، فهذا الرجل مع جهالته بالمشروب وظنه أن هذا المشروب ليس خمراً، هل والحالة هذه يستوجب الحد؟ إذاً: لا بد في إقامة الحد من رفع الجهالة عن المحدود، ولذلك انظر أنت إلى ماعز الأسلمي لما (أتى إلى النبي عليه السلام فقال له: زنيت يا رسول الله، فأشاح عنه بوجهه، ثم أشاح أربع مرات، وهو في كل مرة يقول: زنيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لعل صاحبكم مجنون، قالوا: والله يا رسول الله ما عهدنا عليه جنوناً. قال: لعله سكر -يعني: ما وقع فيما وقع فيه إلا وهو سكران- فقال النبي عليه السلام: ادن مني. فلما دنا منه وضع فاه على فيه واستنكهه - شم رائحته - فما وجده سكران، قال: يا ماعز! أتدري ما الزنا؟ قال: نعم. يا رسول الله، قال: أدخل هذا منك في ذاك منها كما يدخل الرشا في البئر؟ قال: نعم. قال: أقيموا عليه الحد). فلا بد قبل إقامة الحد من توافر الشروط في المحدود وفي محل الحد، وفي كيفية الحد، فإذا لم تعلم هذه الشروط فلا يجوز إقامة حد على عبد من عباد الله. ولو أن رجلاً أكره على شرب الخمر، هل يقام عليه الحد؟ A لا. لأن الإكراه يسقط الحد. والجاهل والصبي الصغير الذي لم يبلغ والمجنون هل يقام عليهم الحد؟ الجواب: لا. فمن أجل إقامة الحد لا بد من شروط يجب توافرها، وموانع يجب امتناعها. ولذلك جعل الله عز وجل إقامة الحد بيد السلطان لا بيد غيره؛ لأن السلطان إنما يوكل علماء مجتهدين لإثبات الحد، فإذا ثبت الحد على المحدود - أي: على العاصي - من جهة النظر - أي: من جهة الشرع - فيوكل أمره بعد ذلك إلى الجهة التنفيذية لتقيم عليه الحد، ولذلك ليست حدود الله تبارك وتعالى تبعاً لنا، بل لا بد من إثباتها بالضوابط والقيود الشرعية، ولا بد أيضاً من انتفاء الموانع التي جعلها الشارع مانعة من إقامة الحد، أو إلحاق الحد بصاحبه، ولذلك جعل الحدود بيد الحاكم أو بيد الوالي أمر في غاية الأهمية، فلا يجوز لأحد قط أن يقيم الحد على مجرم ولا على عاصٍ، أبداً، حتى وإن كان عالماً؛ لأن الأصل في إقامة الحدود إنما هي للوالي، حتى وإن توافرت الشروط وانتفت الموانع فلا يجوز لك أبداً؛ لأن هذا ليس حقاً لك، والله تبارك وتعالى لم يكلفك بذلك، وإنما كلف غيرك. فدع من كلفه الله تبارك وتعالى يتحمل هذه المسئولية، ولا تقحم نفسك فيما لم يكلفك الله عز وجل به. ولذلك فإن من أعظم ما يستلزم به المجتمع المسلم: وضع الأمور في نصابها، وأن يقوم كل واحد بما أوجبه الله تبارك وتعالى عليه، وعدم تدخل الآخرين في أعمال أهل الولايات وأهل الاختصاص. وقد ارتفعت إقامة الحدود من الأرض جميعاً، ولم يكن هناك إقامة حدود على منهج الله لا في هذا البلد ولا في غيره من بلاد المسلمين قاطبة، لا نستثني من ذلك بلداً واحداً، فليس للناس - والحالة هذه - إلا أن يتوبوا إلى الله عز وجل، وأن يستغفروا من ذنبهم، وأن يكثروا من النوافل، وأن يحافظوا على الفرائض ولا يتساهلوا فيها، ومن كان ذا مال فليكثر من الصدقات، ومن بذل المال لله عز وجل، وعلى العاصي أن يتوب، ويتقطع قلبه حسرة وندماً على إساءته، ويعزم على ألا يعود لمثلها أبداً. فلا يجوز للعبد العاصي - والحالة هذه - إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، لا يأذن لأحد غير الوالي أن يقيم عليه الحد؛ لأن هذا بخلاف ما أمر الله تعالى به، وكذلك هو لا يجوز له أن يقيم الحد على نفسه؛ لأنه من باب الانتحار، فإن الحد لا ينفذ إلا بيد الحاكم، بخلاف التعزير، فإن الشارع إنما جعله للحاكم ولغيره.

امتناع ثبوت الحد بغير إقرار أو بينة

امتناع ثبوت الحد بغير إقرار أو بينة الفرق السابع: أن الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو البينة. أما التعزير فإنه يثبت بالإقرار والبينة، وبشهادة شهود، بل وببعض القرائن. فمجال إثبات التعزيرات أوسع من مجال إثبات الحدود، الحدود ضيقة، فإثبات الحدود إما بأن يأتي الرجل فيقر على نفسه، وإما ببينة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، أما غير هذا فإن الحدود تدرء بالشبهات كما قال عمر وغيره، وهو حديث لكنه ضعيف مرفوعاً. فأقل شبهة يسقط فيها الحد، ولذلك جيء برجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزعموا أنه قد لاط بطفل، وجاء أربعة يشهدون عند أمير المؤمنين، فقال الأول: رأيته يزني يا أمير المؤمنين، وقال الثاني: رأيته يزني يا أمير المؤمنين، وقال الثالث: رأيته يزني يا أمير المؤمنين، فلما جيء بالرابع قال له أمير المؤمنين: اتق الله يا فلان ولا تشهد إلا بما رأت عيناك، فقال: يا أمير المؤمنين! والله ما رأيت إلا شراً، قال: وما رأيت؟ قال: رأيته وذاك الغلام قد التحفا بلحاف ورأيته يرتفع وينخفض، والله ما رأت عيناي غير ذلك، فقال أمير المؤمنين: الله أكبر! الحمد لله الذي أسقط عنه الحد بهذه الشبهة. فانظروا أيها الإخوة الكرام! فإن أعراض الناس وأبدان الناس، وأرواح الناس ليست هدراً، فلا بد من وضع الأمور في نصابها، وعدم التعدي على حرمات الناس، حتى وإن كانوا كفاراً، ولذلك ضيق المولى عز وجل دائرة الإثبات في الحدود، فجعلها بإقرار المسلم العاصي، أو ببينة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم طاعة الأم في ترك صيام النفل

حكم طاعة الأم في ترك صيام النفل Q إني أريد أن أكثر من صيام التطوع، ولكن أمي تأبى علي، فهل لي أن أخالفها أم تكون طاعتها واجبة؟ A أطع أمك يا أخي الكريم، فإن هذا الصيام سنة من السنن وأنت مأجور في الحالتين، فكونك أقبلت على طاعة أمك وتركت هذه السنة؛ فإن الله عز وجل يأجرك عليها بنيتك، كما قال النبي عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات). فأنت مأجور في هذا؛ لأن الذي يمنعك إنما هو برك لأمك.

حكم تقبيل المرأة الأجنبية

حكم تقبيل المرأة الأجنبية Q هل تقبيل المرأة الأجنبية يعد من الزنا؟ A هو من أنواع الزنا، والنبي عليه السلام يقول: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدركه لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي إلى ما حرم الله) وغير ذلك من الجوارح، والفم منها. فإذا كانت النظرة هي طريق وبريد إلى الزنا، فما بالك بمن تخطى هذه المرحلة ووصل إلى المرأة حتى يقبلها؟! فإن ذلك شر مستطير، ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه. فعلى أية حال على من وقع في ذنب من الذنوب، أو عصى الله تبارك وتعالى بأي نوع من أنواع المعاصي خاصة الفاحشة، سواءٌ كان ذلك بآدمي، أو بحيوان؛ فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يندم على ما مضى، وما فرط في جنب الله، وأن يتوب إلى الله توبة صادقة مخلصة.

الحكم على أثر عمر رضي الله عنه في إكمال الحد على ابنه بعد موته

الحكم على أثر عمر رضي الله عنه في إكمال الحد على ابنه بعد موته Q هل صح أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أكمل الحد على ابنه بعدما مات؟ A لا.

كيفية الضرب في إقامة الحدود

كيفية الضرب في إقامة الحدود Q هل يكون إقامة الحد مثل الجلد مثلاً يكون بالضرب بشدة حتى يموت، أو يكون وسطاً في الضرب؟ A قد ورد عن أهل العلم هيئات مختلفة، أقوى الهيئات: أن العضد لا يفارق الجانب.

إطلاق وصف البكارة على الرجل

إطلاق وصف البكارة على الرجل Q هل يطلق على الرجل صفة البكارة كما تطلق على المرأة؟ A نعم. كما في الحديث: (البكر بالبكر).

الحكم على حديث: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)

الحكم على حديث: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) Q هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)؟ A الحديث محل نزاع بين المحدثين، فمنهم من حسنه، ومنهم من ضعفه.

الملزم من الزوجين بتكاليف الزواج وإعداد بيت الزوجية

الملزم من الزوجين بتكاليف الزواج وإعداد بيت الزوجية Q هل السنة أن يتكلف الرجل كل تكاليف الزواج؟ A على الرجل من باب القوامة أن ينفق على بيته، سواءٌ في إعداده وتحضيره للزواج، والإنفاق عليه بعد البناء، وأن الزوجة لا تتكلف شيئاً في تأثيث البيت، ولكن إن تكلفت أو تكلف لها أبوها كما تكلف النبي عليه السلام لإعداد فاطمة لـ علي رضي الله عنه فلا بأس بذلك، وهذا أمر لا يخدش في الكرامة ولا المروءة، وإنما الأصل الأصيل: أن الرجل هو الذي يتكلف تأثيث البيت.

حكم السلام على أم الزوجة

حكم السلام على أم الزوجة Q إذا تزوجت امرأة هل يجوز لي أن أسلم على أمها؟ A نعم يجوز؛ لأنها محرمة عليك على التأبيد، حتى لو أنك طلقت هذه المرأة أو ماتت لا يجوز لك أبداً أن تتزوج أمها من بعدها.

حكم سلام الرجل على زوجة ولده

حكم سلام الرجل على زوجة ولده Q هل يجوز للأب أن يسلم على زوجة ابنه؟ A نعم.

حكم إقامة السجون في الشريعة الإسلامية

حكم إقامة السجون في الشريعة الإسلامية Q ما حكم إقامة السجون؟ A في الحقيقة: الإسلام لا يعرف لغة السجن، وإنما يعرف لغة التغريب، والتغريب للتأديب والزجر، وفي الغالب أن هذا التغريب يكون تعزيراً ولا يكون حداً إلا ما سمعتموه في حد الزنا، ولكن غالب النصوص التي ورد فيها التغريب إنما كان ذلك على سبيل التعزير، سواءٌ كان له في ذلك ذنب، أو لا، كما عزر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الغلام الجميل الذي لما طال شعره فتنت به النساء، فلما حلق ازداد جمالاً، فغربه، وإنما غربه لمصلحة شرعية، وهي: أن لا تقع الفاحشة في مجتمع المدينة.

حكم الصلاة على من قتل نفسه وحكم تعزية أهله

حكم الصلاة على من قتل نفسه وحكم تعزية أهله Q ما حكم الدين في الذهاب للعزاء في رجل مات بسبب أنه أوقد في نفسه النيران، فأصيب إصابات كبيرة حتى مات علماً بأنه مكث في أحد المستشفيات أياماً قبل موته، ويمكن أنه قد تاب من فعلته قبل موته؟ A على أية حال يذهب إليه الناس ويصلون عليه، ويعزون أهله في مصابهم. أما الرجل الذي يشار إليه بالبنان فلا يذهب، ولا يصلي عليه من باب الزجر والتوبيخ لمن يمكن أن تسول له نفسه في المستقبل أن يفعل فعله هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يصلي على أصحاب الكبائر، وكان أحياناً يدع الصلاة. كان قد ترك الصلاة على ماعز وصلى على المرأة الغامدية، وكلاهما وقعا في الحد، وكلاهما جريمته واحدة وهي: الزنا. والنبي عليه السلام ترك الصلاة على ماعز من باب زجر بعض الناس الذين كانوا يحضرون هذا المشهد، وصلى النبي عليه السلام على المرأة الغامدية بخلو الحاضرين من ذلك، أو لقيامهم على السلامة والستر والعافية. ولذلك أهل العلم يقولون: لا ينبغي لواحد يشار إليه بالبنان أن يتعامل برحمة مع أهل المعاصي، حتى يكون في ذلك أكبر زاجر وواعظ لأمثاله أن ينتهوا عن المعاصي، فلو أن رجلاً ترك الصلاة، ولما مات قال الناس: تعالوا نصلي عليه، فعلى هذا الرجل الذي يشار إليه بالبنان أن يقول: أنا لا أصلي على تارك للصلاة؛ لأن النبي عليه السلام يقول: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر).

الحكم على حديث فضل صلاة ست ركعات بعد المغرب

الحكم على حديث فضل صلاة ست ركعات بعد المغرب Q ما حال حديث: (ست ركعات بعد صلاة المغرب كأنهن أفضل من عبادة اثنتي عشرة سنة)؟ A هذا حديث موضوع قد حكم عليه أهل العلم بالوضع.

ما يقام من الحدود في حق من ارتكب الزنى والقتل

ما يقام من الحدود في حق من ارتكب الزنى والقتل Q إنسان سكر ثم زنى أو قتل، أو إنسان زنى ثم قتل زوج من زنى بها، وذلك أنه عندما رآهما حدث الشجار والنزاع بينهما فقتله، فأي حد يطبق عليه، وجزاكم الله خيراً؟ A لا حد يقام الآن، نحن قلنا: الحدود مرفوعة يا إخواني، الحدود مرفوعة، أما لو أن واحداً ارتكب حد السكر وحد القتل، فأي الحدين يقام عليه؟ يقام عليه أعظم الحدين وهو القتل؛ لأن القتل يتضمن الأقل منه والأدنى منه.

أسباب زيادة الإيمان

أسباب زيادة الإيمان Q دائماً يتغلب علي الشيطان وإيماني ضعيف، ورغم أن قلبي معلق بحب قراءة القرآن، وأحاول أن أخشع في صلاتي، فهل هذا سحر، أو أنني فاسق؟ وهل توجد طريقة معينة لتقوية الإيمان، علماً بأنني مررت بمحن كثيرة، ودائماً أيأس من رحمة ربي؟ A أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا وعليكم بمزيد إيمان. والطريق الأمثل في زيادة الإيمان إنما هو طلب العلم، والمحافظة على الصلوات في جماعة، وكثرة قراءة القرآن، وعليك أن تصاحب إخوانك الصالحين حتى يذكروك بالله عز وجل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأزمة المعاصرة وكيفية الخلاص

الأزمة المعاصرة وكيفية الخلاص كل الأزمات التي تحصل للمسلمين اليوم هي أزمات مفتعلة، ومردها كلها إلى أزمة واحدة، وهي الأزمة في العقيدة، ولذا فقد كان إصلاح العقيدة سبباً في امتثال أمر الله ورسوله؛ الأمر الذي يعود بصلاح حال الأمة في الدنيا والآخرة، ولأجل ذلك فقد اهتم الإسلام بأصول الدين -وهي مسائل الاعتقاد والتوحيد- قبل فروعه.

الأزمات المفتعلة وكيفية مواجهتها

الأزمات المفتعلة وكيفية مواجهتها إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يتحدث كثير من المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة عن الأزمة التي يمر بها المسلمون في كل مصر وفي كل بلد من البلدان، تارة ينسبون هذه الأزمة إلى الأزمة الاقتصادية، وتارة يقولون: أزمة سياسية، وتارة يقولون: هي نقص في القوى المادية، وتارة يقولون: هو عجز في الجانب الاجتماعي، وكل هذه -ولا شك- أزمات مفتعلة افتعلها المفتعلون -قاتلهم الله- ليشغلوا المسلمين بهذه الأزمات المكذوبة المفتراة. والحقيقة لو نظرنا إلى هذه الأزمات المفتراة على فرض صحتها ووجودها لحلها بعض السنة، فلو نظرنا مثلاً إلى أزمة المواصلات لوجدنا أنه يحلها حديث واحد، بل شطر حديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له). فهذا الشطر من الحديث لو أخذنا به لما وجدنا مطلقاً هذه الدعوى. والشطر الثاني من الحديث قال: (ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له) أي: فضل طعام وفضل شراب وغير ذلك، فلو أن رجلاً عنده ما يكفيه ويكفي أولاده، ويزيد فيتصدق بهذه الزيادة على من لم يكن له طعام ولا شراب لما وجدت أبداً فقيراً واحداً في المجتمع المسلم، وخاصة لو كان هذا التصدق أو هذا البر موجوداً على مستوى كبير، كإخراج الزكوات مثلاً، أو إخراج الخمس من البترول وغير ذلك. إن الأموال التي تستثمر في بلاد الكفر والضلال لو استثمرت في بلاد المسلمين لما وجدت فقيراً واحداً ولا عاطلاً واحداً، فكلها أزمات مفتعلة، والأمراض الكثيرة التي انتشرت إنما هي بسبب تخلفنا عن القرآن الكريم وعن السنة النبوية، فحديث واحد يعالج أمراضاً كثيرة جداً من الأمراض التي تنقلها إلينا المياه، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه)، (لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه)، فلا يؤخذ من هذا الحديث النهي عن البول فقط من الناحية الصحية في الماء الدائم، وكذلك النهي عن الاغتسال، وإنما يستفاد من هذا الحديث فوائد جمة عظيمة، منها: النهي عن التبول أو إلقاء الفضلات سواء كانت من براز وبول وبترول وغير ذلك في المياه؛ لأن هذه المياه لها منفعة عظيمة ولا يحيا الإنسان إلا بها، فتلويث المياه ينتج عنه أمراض كثيرة جداً منتشرة، ولو أننا حافظنا على المياه وحافظنا على البيئة لما وجدت هذه الأمراض، لكن بأيدينا لوثنا البيئة، وقد أمر الشرع بالحفاظ على البيئة وغيرها. فكلها أزمات مفتعلة نحن الذين افتعلناها، أو غيرنا افتعلها لنا لننشغل بها. نقول: إن الأزمة أزمة إيمانية، أزمة عقدية وعقدية، ضعف في الإيمان أو انعدام تصحيح المسار. إن الخروج من جميع الأزمات المفتعلة أو الموجودة لا يكون إلا بالرجوع إلى العقيدة الصحيحة وإلى الإيمان الصادق المتين، فهم يتكلمون كثيراً ويفتعلون أفاعيل كثيرة، ولا يتكلمون مطلقاً عن الإيمان بالله وتمتين الصلة والثقة به، وحسن الاعتماد والتوكل عليه، كل ذلك لا أحد يتكلم عنه، إنما هي نية خبيثة وشر أريد بنا فلننتبه إليه جميعاً.

الزاد الإيماني في مواجهة الأزمة المالية

الزاد الإيماني في مواجهة الأزمة المالية لو نظرنا إلى المجتمع الأول مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من القرون الخيرية الثلاثة لوجدنا الفرق شاسعاً، فانظر إلى حالنا نحن الآن وانظر إلى السابقين في القرن الأول ثم الثاني ثم الثالث، انظر وقارن بين معتقداتهم، ومعتقداتنا، وبين إيمانهم وإيماننا، وبين حسن اتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام واتباعنا، وبين إيمانهم بالقدر وبجميع المسائل الإيمانية وتصحيح عقائدهم على الكتاب والسنة وبين إيماننا نحن، لقد تفرغنا من كل هذا، وبناءً عليه نفذ فينا الوعد الحق أننا لا يمكن أن ننتصر أبداً، ولا يمكن أن ننهض إلا بالرجوع إلى ما كان عليه أصحاب القرون الثلاثة الأولى، فإن حاجة القرون كلها السالفة والمتأخرة حاجة واحدة، فكل عصر ومصر يحتاج إلى قوة مادية وعسكرية وسياسية واجتماعية وغير ذلك من القوى، كل ذلك كان موجوداً أو غير موجود، وهو الآن موجود أو غير موجود، فالأيام والظروف لم تختلف، فحاجة الصحابة إلى المال مثل حاجتنا تماماً إلى المال، فهل فعلاً ما نحن فيه من تأخر هو بسبب المال؟ فإنني أعتقد اعتقاداً جازماً لا يتزعزع أن الأزمة المادية هذه أزمة مفتراة، فالصحابة رضي الله عنهم -وهم الذين نشر الله تعالى بهم الدين في ربوع الأرض وفتح بهم قلوب العباد والبلاد- كانوا أفقر الناس، ومع هذا كان الفتح على أيديهم ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وما فتحوه قد ضاع، ولا نستطيع نحن الآن على كثرة أموالنا وعددنا أن نرده. إذاً: الأزمة ليست أزمة مادية، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط الحجارة على بطنه من شدة الجوع، وكان أبو هريرة يقول: كنت أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، يعني: أميل على الأرض بجنبي الذي فيه الكبد من الجوع، لعله يهون عليه أمر الجوع بهذا الاتكاء وهذا الاستناد، وكثير من الصحابة كان يبيت بلا طعام ولا شراب، وانظر إلى المرأة التي أوقدت سراجها ثم أطفأته حتى يأكل الضيف، فلما أصبح الصباح ذهب زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد عجب الله من صنيعكما هذه الليلة)، أو قال: (لقد ضحك الله من صنيعكما هذه الليلة). أمثلة كثيرة جداً من حياة السلف، كانوا فقراء أشد الفقر، بل كانوا يذهبون في غزوة أو سرية، وليس معهم إلا بعض التميرات، فكان الواحد منهم يأخذ التمرة ويحكها في أسنانه، ويشرب عليها الماء، هذا طعامه، ولقد رأينا في هذا الزمان أن بعض المجاهدين في أفغانستان كانوا يطبخون الذرة الصفراء ثم يأكلونها، والذي يجاهد اليوم يأكل الذرة، والذي لا يجاهد ولا يكون في خدمة المجاهدين يشرب الماء، كان هذا طعامهم. إذاً: الأزمة التي افتعلوها وقالوا: إنها أزمة ليست أزمة مادية، وإن كانت أزمة مادية فائتونا بالأموال التي نهبتموها من أموال المسلمين، والتي وضعتموها في بلاد الكفر، ونحن نسلم إن شاء الله من هذه الأزمة على فرض وقوعها وصحتها.

زاد الإيمان المواجه للأزمات العسكرية

زاد الإيمان المواجه للأزمات العسكرية وما يقال في الأزمة المادية يقال في كل أزمة، منها الأزمة العسكرية وفساد السلاح وغير ذلك، فإن كثيراً من الصحابة دخلوا وليس معهم إلا الخيل فقط، لم يملكوا سلاحاً ولا دروعاً، ومع هذا كتب الله تعالى النصر على أيديهم، فحاجة المسلمين في القرون السابقة مثل حاجتنا تماماً الآن، ومع هذا فقد رأينا أن الإسلام احتاج إلى الجرأة والشجاعة والإقدام وبذل النفس، فوجدنا كثيراً من السابقين يبذل نفسه وماله ودمه، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأتي بجميع ماله ويضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشفق عليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (ما تركت لأهلك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله ورسوله) ثم يأتي عمر بنصف ماله، وليس هذا ببعيد ولا بغريب على أمثال هؤلاء الفضلاء العظماء، ورأينا من الناحية الأخرى بذل النفس والدم، ففي معركة اليرموك قال قوم للزبير: ألا تشد يا زبير فنشد معك؟! يعني: ألا تهجم وتحمل على العدو فنحمل معك، فلما حمل عليهم ضربوه ضربتين قويتين على عاتقه، وكان قد ضرب مرة بين هاتين الضربتين في غزوة بدر حتى قال عنه عروة ولده: كنت ألعب وأنا طفل صغير في هذه الضربات بأصبعي، أي: كان يدخل فيها أصابعه ويده يلعب فيها وهي بين عاتق والده. وبلال بن رباح وما أدراك ما بلال بن رباح! لقد ضرب المثل الأعلى في الجهاد والصبر والدعوة إلى الله، كان يجر في الصحراء وفي رمال مكة الساخنة حتى قيل: إنه سلق لحمه حتى بدت عظامه، وكان تارة يسحب على بطنه حتى انسلخ لحم بطنه وكادت تظهر أحشاؤه؛ كل ذلك لصرفه وزحزحته عن إيمانه، وهو يقول: لا أترك ديني أبداً، أحد أحد، أحد أحد؛ لذلك استحق وسام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو وسام عظيم يذكر إلى أن تقوم الساعة. قال: أبو بكر سيدنا أعتق سيدنا، وحق لـ بلال أن يكون سيد كل من أتى بعده. وكذلك نرى من حب النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به أن أبا بكر في مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم لما صحبه وتبعه كان أبو بكر يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ويتأخر، والمعروف من أدب المشي مع الأفاضل والعظماء أن يكون الماشي نهاراً في الخلف وأن يكون الماشي ليلاً في الأمام، وهذا أدب من آداب السير في الطريق إذا كنت تسير مع عظيم كريم، فيجب إن كنتما تسيران ليلاً أن تتقدم عليه؛ لتكشف له الطريق فتوجهه وترشده، وإذا كان السير نهاراً فيجب أن تتأخر عنه، وذلك من الأدب المعلوم، فكان أبو بكر يسير معه فيتقدم ويتأخر، وكان ذلك لحراسة النبي صلى الله عليه وسلم ضد أعدائه وقد سمعتم ذلك من قبل، ولما دخل الغار دخل أبو بكر الصديق أولاً حتى يستكشف الغار وما به من حشرات وآفات وغير ذلك. والمثال الثاني: مثال أبي ذر الغفاري رضي الله عنه لما قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه القرآن وسمع منه الحديث فانشرح صدره للإسلام فنطق بالشهادة، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذها واذهب إلى قومك وانتظر حتى يأتيك أمري) أي: خذها واذهب إلى غفار، وغفار هذه قرية كان القرشيون يمرون عليها في تجارتهم إلى الشام، (فقال: والله -يا رسول الله- لأصدعن بها أو لأصرخن بها بين ظهرانيهم) أي: في الكعبة لقريش، فلما حدث ذلك ضربوه وانهالوا عليه ضرباً حتى أوجعوه كما ذكر البخاري ذلك في صحيحه، حتى خرج عليهم العباس وذكرهم أنه من غفار، وهي قرية يمرون عليها ذهاباً وإياباً في تجارتهم إلى الشام، فرجعوا عنه، ثم عادوا إليه فضربوه، فعلوا ذلك مراراً والعباس يحجبهم ويردهم عنه، ولم يثن ذلك أبا ذر الغفاري عن نشر دين الله عز وجل، والصدع بالدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأزمة الحقيقية

الأزمة الحقيقية كل ذلك -لا شك- يرشدنا وينبهنا إلى أن الأزمة ليست أزمة عسكرية ولا أزمة كثرة عدة ولا عدد ولا مادية ولا اجتماعية ولا غير ذلك، فالأزمة نابعة من أصل فاسد بنينا عليه قلوبنا، والنبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى أمر عظيم ويلفت أنظارنا إلى أمر مهم في غاية الأهمية، يقول: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فالقلب أهم شيء وأهم ركيزة في الإنسان، إن صلح القلب بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصادق وحسن التوكل وحسن الظن بالله والاعتماد عليه لا شك أن صاحب هذا القلب يسود الدنيا كلها حتى وإن كان ضعيفاً، وأما صاحب القلب الفاسد وإن ملك الدنيا بحذافيرها فلا شك أنه أرذل الناس وأذلهم، حتى وإن كان يظن في نفسه أنه من علية القوم، فكم من إنسان ملك المال فكان المال سبب هلاكه وضلاله حتى قال عن نفسه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص:78]، ولم ينسب الفضل لله بل نسبه لنفسه، ومثل قارون هذا ملايين في هذه الأمة، كل إنسان بعيد عن الله وعن منهج الله وعن صراطه يتصور أن كل ما أوتي له من مال وعلم وجاه وسلطان إنما ذلك بذكائه وحنكته وحذاقته وعلمه، وأنه ليس من عند الله عز وجل، وهذا -ولا شك- هو سبب فساد العقيدة، أي: فساد القلب والعقيدة: هي الحكم الجازم الذي يعقده الإنسان في قلبه، فهذا الحكم الجازم لا يقبل التردد ولا الشك، والإيمان أحياناً يرد بمعنى العقيدة، والعقيدة أحياناً ترد بمعنى الإيمان: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] والإيمان هو العقيدة، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]. والإسلام في أول عصره احتاج إلى الكفاءات العلمية، فوجهت هذه الكفاءات بفضل إيمانها وصدق لجوئها إلى المولى عز وجل إلى خدمة الإسلام؛ فكان سبب انتشار هذه العلوم الشرعية في جميع بقاع الأرض وربوع المعمورة بسبب انتشار علماء الإسلام في كل بقاع الأرض، ولا نعلم هذه الكفاءات في أيامنا هذه. فالخلاصة: أن كل ما كان موجوداً في الصدور الأولى هو موجود الآن، ولكنه انحرف عن المسار فاتخذ وجهة لا يخدم فيها الإسلام وهذا في أقل أحواله، أو أنه انضم لأعداء الإسلام على حساب الإسلام وضده. فهذه الكفاءات موجودة في أيامنا هذه، ولكنها -كما ترون- مصروفة إما في الإذاعة والتلفزيون، وإما في الصحف والمجلات والجرائد، فتراه يتكلم ضد الإسلام، ويميع الهوية الإسلامية، ويقتل الشخصية الإسلامية مطلقاً، فكل ذلك موجود وملموس ولا ينكره إلا جاحد، فنقول: إن ما كان موجوداً هناك موجود هنا، ولكن الفارق بيننا وبينهم أمران: لو عرضنا اعتقادنا على الكتاب والسنة لكنا مخالفين للكتاب والسنة، ولو عرضنا أيامنا وأعمالنا على أعمال الصحابة وأيامهم لفاقونا بمراحل كثيرة.

اهتمام الإسلام بأصول الدين

اهتمام الإسلام بأصول الدين ولم يبدأ الإسلام دعوته بالفروع وإنما بدأ دعوته بالأصول، والأصول هي العقيدة حتى عبر عنها بعض الفقهاء بأصول العلم، أو قال: أصول الدين، أي: أشاروا إلى العقيدة وإلى الإيمان بأصول الدين وأشاروا إلى الفقه بعلوم الشريعة، وقالوا: هذا العلم وهذا الدين، يميزون بين هذا وذاك، حتى إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول عن العقيدة: الفقه الأكبر، والثاني الفقه الأصغر؛ ولذلك يقول: التفقه في التوحيد أولى من التفقه في العلم، فلم يطالب الناس في أول الأمر بالجهاد ولا بالصلاة ولا بالزكاة ولا بغير ذلك من فروع الشريعة، وإنما طولبوا بعقيدة، وذلك يفهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم لما مكث في مكة (13) عاماً يصحح عقائد الناس وإيمانهم، ولم يكن كثير من الأحكام الشرعية العملية موجوداً في ذلك الوقت، وإنما كانت هذه الفترة كلها الأصل فيها تصحيح عقائد وإيمان ومسار الناس على الاتجاه الصحيح وحسن التوكل والاعتماد على الله تعالى. لما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه وبأن يصدع بما جاءه منه للناس ويدعو إليه؛ صعد الصفا فنادى في الناس، فكان مما قال: (يا بني عبد المطلب! يا بني تيم!) ونادى على أقوام كثيرة من أهل مكة، ثم قال لهم: (إن الله أمرني أن أنذر عشرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله شيئاً، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) فقال ذلك الجاهل الغبي أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟! تباً لك! أي: هلاكاً لك، فأنزل الله عز وجل سورة المسد: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] إلى آخر السورة. ولما اشتكى أبو طالب من مرض موته اجتمع إليه أشراف قريش ووجهاؤهم فقالوا: يا أبا طالب! إنك منا حيث عرفت أو حيث علمت. يعني: أنت فينا رجل من الشرفاء من العظماء الفضلاء، فادع ابن أخيك فليأخذ منا ونأخذ منه، واشترط عليه واشترط علينا حتى ندع له دينه ويدع لنا ديننا، فنادى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا ابن أخي! إنك تعلم منزلتي في قريش، فهم جاءوك ليشترطوا عليك وتشترط عليهم، ويأخذوا منك وتأخذ منهم حتى يدعو لك دينك وتدع لهم دينهم. قال: قل يا أبا طالب. فلما قال أبو طالب قولته هذه قال: يكفلون لي كلمة واحدة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم، فقال أبو جهل: بل عشر كلمات وأبيك إن شئت، قلها؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، كلمة واحدة قولوها حتى ندعكم وتدعونا، وتدعوا لنا، قال: قولوا: لا إله إلا الله، فهذا المعنى معنى عظيم، وهو تربية الناس على التوحيد وعلى الإيمان وعلى العقيدة الصحيحة، وهذا المنهج هو الذي ربى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه طيلة سنواته في مكة. فهذا خباب بن الأرت أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلى الكعبة متوسد ببردته فقال: (يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟) يعني: يطلب طلباً شرعياً ويسيراً: ادع الله لنا يا رسول الله. يقول: (فاحمر وجهه صلى الله عليه وسلم حتى قام، وقال: إن من كان قبلكم لينشر بمناشير من حديد ما بين عظمه ولحمه -أو قال: ما بين عظمه وعصبه ولحمه- لا يرده ذلك عن دينه شيئاً)، كان يوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق نصفين حتى يقع نصفه الشمال في الشمال ونصفه اليمين في اليمين ما يرده ذلك عن دينه شيئاً، كيف تطلب ذلك يا خباب؟! وكأنه يريد أن يصحح عقيدة خباب بأن يحسن التوكل على الله عز وجل والالتجاء إليه، حتى وإن كان هذا اللجوء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى آحاد الناس ولا إلى مدير ولا رئيس ولا عريف ولا غير ذلك ولا نبي ولا ملك، يلجأ إلى المولى عز وجل دون سواه، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالبشارة في آخر الحديث. قال: (وليتمن الله تعالى هذا الأمر -أي: هذا الإسلام- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف أحداً إلا الله)، وفي رواية: (إلا الله والذئب على غنمه). هذا حديث عظيم يستفاد منه تصحيح المسار والاعتماد على الله والتوكل عليه واللجوء إليه والاستغاثة به سبحانه وتعالى، والاستعاذة به من شر ما خلق وغير ذلك، لا يلجأ إلى أحد غير الله حتى وإن كان نبياً مرسلاً أو ملكاً من ملائكة الرحمن. والرسل جميعاً إنما بعثوا لهذه المهمة، فقال الله عز وجل مفصلاً ذلك: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، ويفصل الله تعالى ذلك بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23]، {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْه

أهمية دراسة العقيدة

أهمية دراسة العقيدة كثير من الناس يقول: ما فائدة دراسة العقيدة؟ ما فائدة دراسة الإيمان؟! هل نحن في حاجة إليه؟! نحن -والحمد لله- مؤمنون! A نعم. نحن في حاجة إلى دراسة العقيدة والواقع يشهد بذلك، فكثير من الناس عقائدهم لا تصلح مطلقاً أن تكون عقيدة للمسلمين، وما ذلك عنكم ببعيد، فالذي دار في أفغانستان وغيرها يوضح ذلك، كانت هناك كتائب كثيرة منهم من هو صحيح العقيدة ومنهم من هو فاسد العقيدة، ولو كانوا كلهم على قلب رجل واحد وعلى عقيدة واحدة سليمة لما حصل ما حصل بعد أن كتب الله تعالى لهم النصر على أعدائهم من الروس وغيرهم، ولكن لما كان الاختلاف في العقائد تناحروا على السلطة، ولو أن المرء صحح عقيدته لما طلب السلطة مطلقاً، بل هرب منها وولى عنها مدبراً، وهذا قد حدث مع كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كان الواحد منهم يجبر ويجلد ليتولى الإمارة فيهرب منها، هذا عبد الله بن عمر لما مات أبوه عرضوا عليه الإمارة فقال: يكفي واحد من آل الخطاب، وهذا عبد الرحمن بن عوف تنازل عن الإمارة وقد كان مرشحاً لها، فذهب وبايع عمر بن الخطاب. وغير ذلك من الأمثلة كثير، حتى قيل: إن بعض المحدثين في عصر التابعين ومن بعدهم كان يؤتى به ليقال له: تول القضاء في الكوفة، أو تول القضاء في العراق، أو تول القضاء في مصر، فيقول: ها ها، ويعد نفسه مجنوناً! فيقولون: هذا لا يصلح للقضاء إنما هو مجنون أبله، فإذا عين القاضي رجع إلى عقله مرة ثانية، وما ذلك إلا هروباً من هذه المواطن التي يكاد يهلك فيها الإنسان وهو لا يدري. إذاً: الأزمة ليست أزمة عدد ولا عدة ولا قتال ولا غير ذلك، إنما الأزمة أزمة العقيدة، فانظر لنفسك وأنت صحيح سليم العقيدة وصادق الإيمان مع المولى عز وجل، وانظر إلى رجل آخر إباضي أو شيعي أو صوفي أو خارجي، هل يستقيم الأمر؟ إذا أردنا جني الثمار فلا يمكن أبداً أن تتفقا، يعني: فلو أنك وخارجياً، أو لو أنك شيعياً اتفقتما على قتال عدو واحد لا شك أن الأمر سيستقيم طيلة فترة القتال، ولكن إذا انهزم ذلك العدو أو قُتِل اختلفتما في الثمار والنتائج والغنائم، فمادام الاختلاف في العقيدة فلا يمكن الاتفاق، وهذا أمر معلوم ومشاهد لا ينازع فيه أحد، كيف ينازع فيه أحد وهو موجود نعرفه ونسمعه كل يوم وليلة؟! فدراسة العقيدة من المسائل المهمة جداً. هل هناك وقت لدراسة العقيدة والإيمان؟ هل هناك وقت لنجدد فيه إيماننا؟ الجواب: نعم هناك وقت، ثم السائل لهذا السؤال نقول له: هل كان هناك من سأل ذلك منذ عام؟ الجواب: نعم. هناك من سأله منذ عام ومنذ عشرات الأعوام، ودعاة التوحيد يدعون في كل زمان ومكان، بحسن الظن بالله وحسن الاعتقاد فيه، وفي كل زمان ومكان يدعون أهل الفساد والضلال وأهل العقائد المنحرفة. فإن قيل: هل هناك وقت لتصحيح الإيمان؟ فلو أننا نجتمع أولاً ونواجه العدو ثم بعد ذلك نصلح عقيدتنا؟ الجواب: أبداً هذا لا يصلح مطلقاً، لا بد من العقيدة أولاً، ولا بد من تصحيح الإيمان وتوثيق وتمتين الصلة بالمولى سبحانه وتعالى وحسن الاعتماد والتوكل عليه، وبغير ذلك لا فائدة في الاتحاد مطلقاً، إذ إن العدو في غاية الضعف والخور، وأما نحن -وبفضل الله تعالى- فقد من الله تعالى علينا بسلامة العقيدة وحسن الإيمان، فالواحد منا يسوق العشرات بل المئات بل الألوف من الأعداء أمامه. نضرب مثالاً: اليهود في اتفاق غزة وأريحا قالوا: نترك غزة وأريحا للفلسطينيين، وما كان ذلك من أجل سواد عيون الفلسطينيين ولا من أجل سواد عيون المسلمين؛ وإنما لأنهم ذاقوا مرارة الثورات والحركات عليهم، فهم لا يستطيعون أبداً مواجهة المسلمين في غزة وأريحا، فتركوها حتى ينجوا بأبدانهم منها، تركوها خوفاً من أبنائها وأهلها، والمولى عز وجل يقول: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] لكن وجهاً لوجه لا يقدرون على ذلك، ولا يستطيعونه. ومن إيماننا وعقيدتنا أنهم لا يقوون علينا أبداً ولا يستطيعون المواجهة، فالمطلوب منا تصحيح العقيدة والإيمان؛ لأنني لو كانت عقيدتي فاسدة لكنت مثله، ولذلك كل واحد منا يراجع إيمانه، حتى إذا ذكر أمامك العدو تمنيت لو أنك تمكنت من رقبته فضربتها بسيفك وعلقتها على رمحك، وطفت بها البلدان؛ حتى ترد إلى المسلمين كرامتهم وعزتهم. وقد نعى الله تعالى على الذين يكذبون بالدين، والذين يكذبون بالدين إما كفار أو منافقون أو فاسدو العقيدة، قال المولى عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3]، نعى عليه هذا الفساد وهذا الخراب في العقيدة، وقد يقول قائل: إذا خلا قلب المسلم من الإيمان هل يبقى بعد ذلك إسلام؟ نقول: إن هناك خيراً كبيراً -لا شك- في الإسلام، ولكن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمع

أثر خلو القلب من الإيمان

أثر خلو القلب من الإيمان يقول: وإذا خلا قلب المسلم من الإيمان بالله انعدمت لوازمه عنده. الإيمان له لوازم، فإن الشخص إن مات الإسلام في حياته انتهى عمله، كالشجرة التي اجتث جذرها تموت فلا يبقى لها فروع، فإذا خلا قلب العبد من عقيدة سليمة وإيمان صادق لاشك أنه ينهار كل عمله وكل متطلباته. وإذا نقص الإيمان في قلبه وضعفت صلته بربه ووهن ارتباطه به وانصرفت نفسه إلى الدنيا، وآثارها بحبه وسعيه ذبل الإسلام في حياته وركن إلى الدنيا ومتاعها وأصبح الإيمان رَكناً حائلاً لا يقبله. يعني: إذا قلت له: هل أنت مؤمن؟ يقول: الحمد لله أنا مؤمن، فهو يقولها بلسانه ولم تتمكن من قلبه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه!) دل على أن هناك مدعين للإيمان بألسنتهم بما ليس في قلوبهم، وبطل ما كانوا عليه من القول والعمل، فإنه إذا خلا قلب الإنسان من الإيمان أو ضعف لا شك أنه يستثقل التكاليف الشرعية، فيستثقل الصلاة، ويستثقل الزكاة والحج والصوم وغير ذلك، فكثير من ضعاف الإيمان أو ممن نقص الإيمان في قلوبهم إذا دعوته إلى الصلاة يقول: هل نذهب كل يوم إلى المسجد خمس مرات فنصلي ونركع ونسجد؟! أليس هناك إجازة؟! فهذا لو تمكن الإيمان من قلبه لانتهر، وكان أن يخر من السماء خير له وأحب من أن يتكلم بهذا الكلام، فلا يصدر هذا الكلام عن جد أو هزل إلا إذا كان مبعثه خراب العقيدة وفساد الإيمان. وكذلك الذي يملك المال ولا يحج مثلاً، وكلما دعوته إلى الحج قال: ادع لي؛ فإني لا أستطيع الحج؛ لأنني أكسب في الدقيقة الواحدة ألف جنيه، ألا تكفي ملايين الدقائق في السنة كلها؟ ألا تفرغ أسبوعاً واحداً من أيامك ومن هذه الدقائق للحج؟ كذلك الذي يبخل بالصدقة بل ويبخل بالزكاة المفروضة عليه، كل ذلك إنما هو بسبب خراب العقيدة وفساد الديانة عنده، وهذه هي حالة كثير من المسلمين الآن، وقد نجد فيهم أصحاب الذكاء وأصحاب المهارة، لكن أصحاب الذكاء والمهارة والقدرات والكفاءات مصروفون إلى غير خدمة الإسلام، وأحياناً يتجهون إلى ضرب الإسلام ومعاداته، وأنتم ترون أن الصحافة ليست إلا لخدمة العلمانية والشيوعية والإلحاد والكفر، والذي يكتب ويتكلم ويقرأ لصالح الإسلام قليل جداً ويسير.

دعوة للرجوع الحقيقي إلى الله تعالى

دعوة للرجوع الحقيقي إلى الله تعالى لذلك فأنا أدعو المسلمين والشباب الغيور -خاصة الناظرين إلى الواقع الفاسد- أن يعلوا بأنفسهم وبإيمانهم وحسن اعتقادهم في الله عز وجل على هذا الواقع المر الفاسد، أدعوهم إلى رجعة حقيقية لا رجعة كلامية إلى ربهم، أدعوهم إلى تجديد إيمانهم بالله سبحانه وتعالى، وخلع كل ما يعبدون من دونه، فلا إله إلا الله محمد رسول الله. أدعوهم إلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه، والرغبة إلى الله سبحانه وتعالى وحده لا الرغبة إلى سواه، والرهبة منه وحده لا الرهبة ممن عداه، وإلى معرفته سبحانه وتعالى حق المعرفة بأسمائه وصفاته العلا، وتوثيق الصلة به وصدق العبودية له سبحانه وتعالى، وربط القلب والفكر وربط الجوارح والحياة بأمره ونهيه، وألا يتوجهوا بالقصد إلا إلى وجهه الكريم، وأن يكون العيش عندهم هو عيش الآخرة، وأن تكون الدنيا طريقاً لهم إلى الله عز وجل وإلى جنة الخلد. إنكم -يا شباب الإسلام- إذا رجعتم إلى الله هذه الرجعة الصادقة كنتم الأعلين بإذن الله، وكنتم قدراً من قدر الله الذي ساقكم الله تعالى وهيأكم لسوق البلاد والعباد أمامكم إلى الله عز وجل، إذا أردتم الآخرة هانت عليكم الدنيا وتحررتم من آثار الدنيا ومن طغيانها، وإذا عرفتم الله صغر عندكم سواه وما سواه، بل زاد في أعينكم وفني في قلوبكم كل ما عداه، ولم يعد هناك طلب عندكم إلا قربه ورضاه، وإذا استشعرتم رابطتكم بربكم سبحانه وتعالى وعونه لكم، وأيقنتم أنه معكم، رأيتم أنفسكم أقوى من كل قوى الشيطان والطغيان. إذا رجعتم هذه الرجعة الصادقة تحولتم خلقاً آخر، وولدتم ولادة عقدية جديدة، وولد كل منكم من عقيدته لا من رحم أمه ولادة عقدية صحيحة على الكتاب والسنة، وإذا كانت هذه الولادة هي التي نريدها فالأصل أن نعرف كيف تولد هذه الولادة، ومن أي مصدر تكون هذه الولادة وهذه العقيدة؟ إن صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد حكم عليه العلماء بأنه أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، وقد صدر كتابه بكتاب بدء الوحي. فإذا كنا نتحدث عن العقيدة الصحيحة والإيمان الصادق فما مصدر ذلك؟ أو كيف نتعلم ذلك وكيف نجدده؟ A قال ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه أي: قول المولى عز وجل في كتابه الكريم، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وقول الصحابة رضي الله عنهم، فلا أقول: قال الله كذا في مسألة من مسائل الإيمان أو العقيدة فتقول: قال الفقيه الفلاني، فإنه بالعالم الفلاني أبداً لا يصح الانتصار، أقول لك: قال الله وقال رسول الله وقال الصحابة ثم تقول لي: قال العالم الفلاني قال الشيخ الفلاني أو غير ذلك؟! هذا لا يصلح أبداً، فالعلم قال الله، والله عز وجل أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم فكان من بين ما شمل هذا الكتاب آيات العقيدة والإيمان، وآيات التوكل والاستعانة والاستغاثة والاستعاذة بالله تعالى. إذاً: معظم آيات الكتاب العزيز إنما تعالج مسألة مهمة جداً، ألا وهي مسألة العقيدة والإيمان بالله عز وجل بشتى الوسائل والطرق البيانية، وتارة بقصص الأنبياء، وتارة بمحاجة كل نبي مع قومه، وغير ذلك من أنواع البيان، بل إن سورة الفاتحة نفسها اشتملت على جميع شعب الإيمان، اشتملت على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والجزاء والنبوة وغير ذلك، هذا بالنسبة لكتاب الله العزيز. وأما بالنسبة للسنة فيحمل ذلك على قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما بعثه إلى اليمن، قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب - أي: يهود أو نصارى - فليكن أول ما تدعوهم إليه) لم يقل له: الصلاة ولا الحج، قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن قالوا ذلك فأخبرهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة). فلا بد أولاً من التعرف على الله تعالى أولاً، ولا يكون ذلك إلا بالاعتقاد الحسن فيه سبحانه وتعالى والإيمان الصادق به. وقال جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً. إذاً: الإيمان أولاً ثم بعد ذلك تأتي بقية التكاليف الشرعية، فإنه إذا صح إيمانك أولاً بالله وصح حسن اتباعك لنبي الله صلى الله عليه وسلم لا تحتاج مع كل تكليف لرجل يقنعك بأن هذا حق وهذا شرع، أو أن هذا باطل ولابد من الانتهاء عنه. إذاً: لا بد أولاً من تصحيح العقيدة؛ لأنها لو صحت صح ما بعدها، ولو فسدت لفسد ما بعدها، وهذا ميزان لا يتغير مطلقاً. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لقد كنا برهة من الزمن نتعلم الإيمان ثم نتعلم القرآن. و (ثم) تفيد الترتيب والتراخي، الترتيب: أي أن القرآن يأتي بعد الإيمان وليس مباشرة، أي: بينه وبين الإيمان فترة؛ حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، قال: لقد كنا في برهة من الزمان نتعلم الإيمان ثم نتعلم القرآن،

الأسئلة

الأسئلة

حكم السبحة

حكم السبحة Q هل المسبحة حرام أم سنة كما قال بعض المسلمين، وهل الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري كان له مسبحة بها (200) حبة. نرجو التوضيح والإرشاد يرحمكم الله؟ A المسبحة مما اختلف فيه أهل العلم، وقد نسبها بعض المحدثين أو بعض العلماء للبدعة إلا أني أتوقف في ذلك، ومن العلماء من يقول: إن المسبحة سنة. والأمر فيها واسع، فلا يستطيع المرء أن يحكم عليها بالسنية ولا بالبدعية، وهناك بعض الناس صنف رسالة يثبت فيها سنية المسبحة، ثم أتى بحديث وعزاه إلى أبي هريرة رضي الله عنه من قوله أو من فعله: أنه كان له مسبحة يسبح عليها، وذكر أن هذا الحديث للطبراني في كتابه الدعاء، وكان كتاب الطبراني وقتئذ لم يطبع، فلما طبع الكتاب راجعته من أوله إلى آخره، حتى أقف على هذا الدليل فلم أتمكن من ذلك، فلعله -مع حسن الظن بهذا الأخ- في نسخة أخرى لم يعتمد عليها المحقق، وإن كنا نسيء به الظن وخاصة أنه من أهل البدع نقول: ليس هناك دليل على هذا، وإنما استقاه من هواه ومن حبه للطعن في الشيخ ناصر الدين الألباني أكرمه الله وأعزه، فالأمر فيها واسعٌ وقد صحت الأحاديث والآثار بتسبيح بعض الصحابة والصحابيات، بل إن إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كانت تسبح بالحصى تنقله من هنا إلى هناك، لكن أبا موسى الأشعري لما وجد الناس متحلقين حلقاً في المسجد ذهب إلى عبد الله بن مسعود وكان عالماً كبيراً من علماء الصحابة، ودعاه إلى أن يصرف هؤلاء الناس عن هذه الحلق والمجالس، فدخل عليهم عبد الله بن مسعود فوجدهم ينقلون الحصى من مكان إلى مكان، فقال: أحصوا عليكم ذنوبكم ودعوا تسبيحكم لله، يعني: إن كنتم عادين فعدوا سيئاتكم وذنوبكم ولا تعدوا حسناتكم، دعوها لله تعالى، فالحقيقة أن أمر المسبحة أمر مشكل، فلا أستطيع أن أقول ببدعته ولا بسنيته، والأمر فيه واسع أيضاً كوضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع؛ فإنه لم يأت على سنيته دليل صحيح صريح، وكذلك الذي قال: إنه بدعة ليس معه دليل، أو لا يسن له ذلك الأمر، فالأمر فيه واسع، وأظن أن الراجح فيه: اتباع الإمام، فإن فعل الإمام ذلك يتبعه المأموم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) والله تعالى أعلم. أما أبو ذر فلم يكن عنده مسبحة فيها (200) حبة، فإن أكبر مسبحة تسع وتسعون.

توجيه مقولة عمر رضي الله عنه في الحكم بالنفاق على حاطب وغيره

توجيه مقولة عمر رضي الله عنه في الحكم بالنفاق على حاطب وغيره Q المشهور عن عمر بن الخطاب أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائذن لي يا رسول الله أن أضرب عنق هذا المنافق) في بعض المواقف، وقد قال لي أخ كريم: إن عمر رضي الله عنه كان مخطئاً في هذا الموقف. هل هذا صحيح؟ نرجو التوضيح في هذا القول يرحمكم الله. A على أية حال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه معروفاً بقوته وشدته في الحق لا في غير ذلك كما يفهم كثير من الناس، ومن غيرته وحبه للنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، كما كان الصحابة يحبونه صلى الله عليه وسلم هذا الحب الجم، ففي غزوة أحد انكشف النبي صلى الله عليه وسلم وانكشف القوم، فلما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم برأسه هكذا ينظر إلى القوم قال طلحة بن عبيد الله: لا تشرف يا رسول الله على القوم فيصيبك سهم من سهامهم. نحري دون نحرك يا رسول الله! يعني: أفديك بدمي، ونفدي النبي صلى الله عليه وسلم بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا ودمائنا، فـ عمر بن الخطاب يدخل من هذا الباب في حبه للنبي صلى الله عليه وسلم واتباعه، وأن كل ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم يؤذي عمر بن الخطاب؛ ولذلك قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله. فقد ثبت أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اعدل يا محمد، فإن هذه القسمة لم يقصد بها وجه الله، قال: ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟!) فلما سمع ذلك الإنكار عمر بن الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم انتفض لذلك وظن أن النفاق قد لحقه وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله. فحجزه النبي صلى الله عليه وسلم ودفعه عنه ونهاه. وفي موقف حاطب بن أبي بلتعة لما أرسل الكتاب إلى قريش إنما كان ذلك لعلة كانت عند حاطب، ولا شك أن هذه الأفعال ليست من أفعال المسلمين، كما أن من يأتي فعلاً من أفعال المنافقين لا يلزم من فعله ذلك أن يكون منافقاً، كما أنه لا يلزم من إتيان عمل من أعمال الكافرين أن يكون صاحبه كافراً، فهذا الكلام من عمر يتنزل هذا المنزل أن هذا العمل من أعمال المنافقين، ولكن الذي أتى به لم يكن منافقاً على الحقيقة، وإنما الفعل نفسه من أفعال المنافقين. والله تعالى أعلم.

توجيه لتائب يشاهد التلفاز ويدخن

توجيه لتائب يشاهد التلفاز ويدخن Q ما رأي الدين في رجل ملتزم حديثاً يشاهد الفيديو والتلفزيون بعد صلاة العشاء، علماً بأنه يقيم الصلاة على أوقاتها، ولا يقوم من الليل أكثر من شفع ووتر بعد العشاء، وهو أيضاً لا يستطيع الإقلاع عن التدخين؟ A نسأل الله تعالى أن يعافيه من هذه البلايا. الحقيقة هناك تعليق يسير، وهو أن الدين ليس آراء، وإنما هو عقائد وأحكام لا تتبدل ولا تتغير، فلا ينسب للدين رأي وإنما ينسب له حكم. أما مشاهدة الفيديو والتلفزيون فإنه ليس من ورائها خير قط، بل إن وراءها كل الشر، وكيف يزعم الإنسان أنه يحب الله تعالى ورسوله ثم لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم؟! وقد قال الله عز وجل في حقه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التدخين، وفي حديث: (إن الله تعالى حرم كل مسكر ومفتر) وإن كان في سنده شهر بن حوشب، وبعض العلماء ضعفوه، إلا أن الراجح تحسين حديث شهر بن حوشب، والله تعالى أعلم. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه) فهذا اكتسبه من عرق جبينه ولكنه أنفقه في الحرام، قال: (وعن شبابه فيم أبلاه) أبلاه بهذه البلايا العظيمة وهذه الأمراض الجسيمة التي تفسد باطن الإنسان وتفسد صدره وقلبه، والأطباء يعرفون تمام المعرفة أن السجائر تتسبب في (2500) مرض، أقلها خطراً على صحة الإنسان مرض السرطان، فإذا كان هذا الأقل فدعنا نؤمن بأنه أعظم الأمراض وليس أقلها، فلا شك أن ما دون السرطان أيضاً يحاسب الإنسان عليه ويسأل عنه يوم القيامة، وإذا كان التدخين حلالاً فلم لا يدخن كل الناس وكل العلماء وكل أهل الصلاح والفضل؟! ولم لا يكون التدخين في المسجد؟! فلا شك أن الذي يدخن لو أنك خاطبت قلبه ومشاعره وقلت له: بالله عليك! أما ترى أن التدخين حرام؟ لقال لك: أعرف أنه حرام وأنه بلية، فإذا كنا نتفق بدون جدل وبدون ضياع وقت على حرمة التدخين؛ فنسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، ونسأل الله تعالى لنا ولكم الإقلاع عن كل معصية والدخول في كل طاعة.

حكم أخذ المدرس الأجرة حال استعانته بمدرس آخر

حكم أخذ المدرس الأجرة حال استعانته بمدرس آخر Q أعمل مدرساً في مدرسة حكومية بالحصة، ومن المفروض أن أعطي الفصل حصتين، ولكن لظروف خارجية أتقاسم الحصتين مع مدرسة أخرى، فأنا آخذ حصة وهي تأخذ حصة ونأخذ أجر حصتين، فهل تعتبر الحصتان بحصة واحدة حراماً أم حلالاً؟ وماذا أفعل في أموال الشهر الماضي؟ A على أية حال إنما جعل هذا المال مقابل المادة العلمية ومقابل الوقت، فالمال الذي يأخذه المدرس إنما جعل مقابل أمرين: الأمر الأول: أمر الوقت من الساعة السابعة إلى الساعة الثامنة. هذا قدر الحصة، والمعلومات التي تعطيها في الحصة هو الأمر الثاني، فلو أنك كلفت بحصتين وأديت هاتين الحصتين في حصة واحدة فلا شك أنك تأخذ أجر حصتين وليس حصة واحدة، وهذا لم يبحه الشرع، وكذلك لو أنك دخلت في الحصة وقلت: أنا أريد أن أقضي الوقت في الحصة حتى آخذ الراتب؛ ولذلك أدرس من الساعة السابعة حتى الساعة الثامنة فإنك أسقطت الشرط الثاني، ولا يصلح أبداً أن تأخذ مالاً إلا وتؤدي حقه، وحقه أن تؤدي الوقت والمادة العلمية، وإلا فيصرف هذا المال في وجوه أخرى. والله تعالى أعلم.

حكم أخذ المدرس هدايا بعض أولياء الأمور

حكم أخذ المدرس هدايا بعض أولياء الأمور Q أعمل مدرسة في مدرسة خاصة بالراتب، وقد قام بعض أولياء الأمور بتقديم الهدايا اليسيرة للمدرسة عند عودتهم من السفر، وهذا يحدث علناً، فما الحكم: هل أقبل الهدية أم لا؟ A على أي حال أفتى بعض أهل العلم بجواز ذلك، ولكن يدخل في نفسي شيء من هذه الفتوى، والأولى ترك ذلك؛ لما فيه من شبه عظيمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هدايا العمال غلول)، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، فالغلول أمره خطير وعظيم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هدايا العمال غلول) وأنت عاملة في المدرسة، وثبت في الصحيح أن: (النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رجلاً على أموال الصدقة، فكان يأخذ الهدايا من أصحاب الصدقات، فلما أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا لكم وهذا لي، فقال: هلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى يأتيك هذا؟) فهلا جلست في بيتك -أيتها المدرسة- حتى تأتيك هذه الهدايا؟! والمعروف أنه لن تأتيك هذه الهدايا، فالأمر فيه شبه عظيمة، وأنا نقلت لك أقوال العلماء، فتصرفي بما يرضي المولى عز وجل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

الإيمان قبل القرآن

الإيمان قبل القرآن العقيدة الصحيحة هي الركيزة الأولى في بناء الأمة، وأساسها العلم والإيمان، وطريقها الوحي، وآية ذلك حياة الصحابة الكرام المليئة بصور البذل والتضحية، وفسادها طريق إلى الأزمات والمحن ونزع الأمانة من قلوب الناس.

ذكر حديث حذيفة في الأمانة النازلة في جذر قلوب الرجال

ذكر حديث حذيفة في الأمانة النازلة في جذر قلوب الرجال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثين، فقد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثني: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فتعلموا القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها في القلب كمثل الوكت، ثم ينام النومة الأخرى فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها في القلب كمثل المجل -أو المجل- كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، ثم أخذ كفاً من حصى فدحرجه على رجله، ثم قال حذيفة رضي الله عنه: فأصبح الناس يتبايعون فما منهم من أحد إلا وهو خائن، أو قال: فما أحد يؤتمن على شيء، حتى يقال عن الرجل: ما أظرفه! ما أعقله! ما أجرأه! ما أشجعه! وليس في قلبه حبة خردل من إيمان. ثم قال حذيفة رضي الله عنه: ولقد كنا في زمان ما كنت أبالي أيكم بايعت، فلئن كان مسلماً رده علي دينه، ولئن كان يهودياً أو نصرانياً رده علي ساعيه، وأما اليوم فلا أكاد أتبايع مع واحد منكم إلا فلاناً وفلانا). هذا الحديث وإن كان قليل المبنى إلا أنه عظيم المعنى، ففيه يتكلم حذيفة رضي الله عنه عن الأمانة ورفعها وعن أصل وجود الأمانة. ولقد فسر كثير من أهل العلم بأن الأمانة هنا هي الإيمان، وهي الطاعة، وهي التكاليف الشرعية، وكل ذلك جائز في شرح الحديث وفي تأويله؛ ولذلك بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى لهذا الحديث في كتاب الرقائق بباب (رفع الأمانة)، وبوب النووي في صحيح الإمام مسلم له كذلك (باب رفع بعض الأمانة من بعض القلوب)، ثم قال: (باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن عليها كعرض الحصير عوداً عودا). هذا الحديث في مطلعه يقول حذيفة رضي الله عنه: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثين فقد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أولاً عن أصل الأمانة) وهو أن أصل الأمانة إنما ينزل في جذر قلوب الرجال، والجذر هو أصل الشيء، فالأمانة والإيمان أنزلها الله تبارك وتعالى في أصل قلوب الرجال. وذكر الرجال ولم يذكر النساء من باب التغليب، وإلا فكل مخلوق ولد على الفطرة، أي: فطرة الإسلام، ولذلك ورد في الحديث في الصحيحين (ما من مولود إلا يولد على فطرة الإسلام، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فأصله على العهد والميثاق الأول الذي أخذه الله تبارك وتعالى عليه، فما من مولود يولد إلا وهو مقر بألوهية الله عز وجل وربوبيته في وقت واحد، إلا وهو موحدٌ، ولكن اللوث والوسخ إنما يدخل عليه بسبب والديه؛ فإنهما يهودانه؛ أي: يجعلانه يهودياً، أو نصرانياً أو مجوسيا، وأما أصل خلقه فإنه مسلم؛ لأن الأمانة نزلت في جذر قلبه وفي أصله. (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل بعد ذلك القرآن فتعلموا من القرآن وعلموا السنة)، وهذا ترتيب طبيعي للقلب النقي أن يمتلأ بالإيمان أولاً، ثم إذا كان حاله كذلك انتفع بالقرآن ثم انتفع بالسنة بعد ذلك، وأما من هجم على القرآن، وهجم على السنة ولم يكن عنده من الإيمان ما يسمح له بالانتفاع بآيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه سرعان ما يزول هذا العلم كله؛ لأنه إنما وقع على أرض ملساء لا يمكن أن يثبت فيها شيء، فالإيمان أولاً، والعقيدة الصحيحة أولاً، ثم يأتي من بعد ذلك: العلم، هذا الترتيب الطبيعي، ولذلك قال جرير بن عبد الله البجلي: كنا نتعلم الإيمان

التشريع وأثره في حل المشاكل والأزمات

التشريع وأثره في حل المشاكل والأزمات ولذلك في هذا الزمان وما نراه من تأخر المسلمين وتسلط الكافرين عليهم في كل الميادين؛ اختلفت أنظار الناس في وصف حال المسلمين، فمنهم من قال: إن السبب هو أزمة المواصلات، ومنهم من قال: بل السبب أزمة اقتصادية، أزمة اجتماعية، أزمة شعبية، كثرة في العدد، وتسمع من حثالة العقول أزمات مفتعلة مفتراة، ثم هم لا يتحدثون عن الأزمة الحقيقية، أزمة الإيمان، ورفع الإيمان والأمانة من كثير من القلوب، لا يتحدثون عن هذا ولا يتحدثون عن تمتين الصلة بالله عز وجل، لا يتحدثون عن لزوم الطاعة لله تبارك وتعالى وتحري مرضاته في كل قول وفعل وعمل، لا يتحدثون عن هذا، وإنما يفترون أزمات مفتعلة، ولو سلمنا أن هذه أزمات موجودة في الأمة لقلنا: إن حلها قد وجد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أو لا يفقهون، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له). هذا الحديث الواحد يحل أزمتين من أزمات المسلمين بل من أزمات الخلق أجمعين، فلو أن الغني فاض بماله على الفقير، ولو أن الراكب تصدق بمقعد على الواقف في الطريق الذي ينتظر المواصلات لحلت أزمة الفقر ولحلت أزمة المواصلات، تجد الأمم في الصباح يقفون على الطرق وفي الشوارع لانتظار المواصلات، وفي الوقت الذي تجد فيه أن باصاً قد حمل فوق طاقته عشرات المرات وأن الذي يقف على باب الباص يعادل ما يملأ باصاً آخر، في الوقت الذي تجد فيه أصحاب السيارات الفارهة ليس فيها إلا واحداً فقط، فما الذي يمنع هذا إن كان مسلماً أن يحمل معه من وقف على قارعة الطريق إلى العمل، ما الذي يمنعه؟! إن الذي يمنعه قلة إيمانه، ولو أنه كان مؤمناً حقاً وعلم بهذا الحديث لا بد وأن يعمل به، إن الرجل يبيت متخماً من كثرة الطعام، وجاره يتلوى من الجوع وهو لا يفكر فيه، أهذا خلق من أخلاق الإسلام؟! أهذا إيمان بالله ورسوله؟ وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام إذا طبخ أحدنا مرقة فيُكثر ماءها ويتعاهد جيرانه، ولا يبيت الرجل المؤمن شبعان وجاره جائع، هذا خلق الإسلام، إننا نقول: إن فلاناً لا يجد لقمة العيش، لماذا؟ لتفريط الغني في حقه، أزمات كلها مفتعلة، ولذلك لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن معظم الأمراض مصدرها البطن قال: (ما ملأ ابن آدم وعاءً قط شراً من بطنه) ولذلك حتى الأطباء يقولون: إن معظم الأمراض مصدرها البطن. وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم وجعل لنا الحجاب الواقي من هذه الأمراض فقال: (اتقوا الملاعن الثلاث، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: البراز في موارد الناس وفي ظلهم وفي طريقهم). فقوله: (اتقوا الملاعن): أي: التي تجلب اللعنة وتسببها، وموارد الناس: هي مواردهم المائية، ولو أنك نظرت الآن -ونحن في بلد النيل- لوجدت بلداً يحوطه الماء من كل جانب ولكن هذا الماء ملوث. لأننا -قبل غيرنا من اليهود والنصارى في بلاد أوروبا- مددنا الأنابيب التي تدفع الفضلات في عرض البحر وفي وسطه فتلوث الماء كله فنتج عنه أمراض لم نسمع بها في الأمم السابقة، أليس هذا الحديث علاجاً واقياً من وقوع الأمراض، ولو أننا عملنا بهذا الحديث فقط فلا نحتاج بعد ذلك إلى وزارة الصحة أو غيرها، إن كل بلية نزلت بالمسلمين حلها في نصٍ أو في شطر نص من كتاب الله عز وجل أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن الإسلام قد احتاج من أبنائه الآن ما احتاجه منهم أولاً، فلماذا تمكن الإسلام ومكن المسلمون من إقامته على وجه الأرض قديماً ولم نتمكن منه نحن، بل نحن الآن نحتضر، لماذا هذه الهوة الواسعة بيننا وبين السلف، أتظن أنهم كانوا أكثر منا عددا؟ أتظن أنهم كانوا أكثر منا مالا؟ أتظن أنهم كانوا أو كانوا أو كانوا؟ A لا، فلو نظرنا إلى العدد لوجدنا أنهم بالنسبة لنا قلة قليلة جداً، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟)؛ لأن هذا الأمر لم يكن في زمن النبوة، بل ولا في زمن الخلافة، ولذلك سأل الصحابة عنه؛ لأنهم لم يروه في زمانهم، فقالوا: (أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). نحن اليوم كذلك فعلاً نحب الدنيا ونكره الموت؛ لأنه لا عمل صالح لنا يؤهلنا للقدوم على الله عز وجل، إن الله تبارك وتعالى سيسألك عن هذا الدين، ولذلك في حديث معقل بن يسار الذي أخرجه مسلم: (ما من راع يسترعيه الله رعية يموت حين يموت وهو غاش لها إلا أدخله الله النار وحرم عليه الجنة). كل منا راع ولكن كل واحد منا فرط في رعيته، فرط فيما أمره الله تبارك وتعالى به، ولذلك -أيها الإخوة ا

صور من بذل الصحابة وتضحيتهم من أجل الدين

صور من بذل الصحابة وتضحيتهم من أجل الدين إن الإسلام قد طلب من الناس في أول الأمر أن يبذلوا دماءهم فبذلوها، وطلب منا الآن أن نبذل دماءنا فضننا وبخلنا وجبنا. فهذا طلحة بن عبيد الله كان يقي النبي صلى الله عليه وسلم من تلك السهام؛ لأنه يعلم أن الضحية سيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بظهره وبطنه ودماغه وكل شيء في بدنه. وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي ضرب المثل الأعلى بعد رسول الله في هذه الأمة في كل ميادين الحياة، لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة من مكة إلى المدينة، وذهب إلى أبي بكر فقال: الصحبة الصحبةَ يا رسول الله، فأحضر بعيرين له وللنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخذا طريقهما في صحراء مكة وتبعهما سراقة بن مالك بن جعشم وأبو بكر ينظر إليه تارة فيسبق النبي ويتأخر عنه مخافة عليه، فلما اقترب سراقة منهما بكى أبو بكر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: علام تبكي يا أبا بكر؟ قال: إن سراقة تبعنا يا رسول الله، فوالله لست على نفسي أبكي إنما أبكي عليك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم أكفناه بما شئت وكيف شئت، فساخت فرس سراقة في الصخر حتى استقرت على بطنها، فأتاهما سراقة يمشي على رجليه. وكذلك احتاج الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم بذل المال فلم يضنوا به مع الحاجة والفقر، فهذا أبو بكر يأتي بكل ماله -لما علم أن الإسلام في حاجة إلى المال- ووضعه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهل بيتك يا أبا بكر؟ قال: تركت لهم الله ورسوله. ولذلك لا غرابة بعد ذلك أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر). وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي بشطر ماله، فلما وجد أبا بكر قد أتى بجميع ماله قال: والله يا أبا بكر لا أسابقك إلى خير قط، فإني ما سابقتك إلى شيء إلا قد سبقتني إليه. وهذا أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل رضي الله عنه لما نزل قول الله تبارك وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92] كان له بستان عظيم جداً بجوار المسجد النبوي في ذلك الوقت، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: والله -يا رسول الله- إن أحب مالي إلي بيرحاء هذا البستان، فخذه فضعه حيث أمرك الله عز وجل. هذا رجل من الصحابة وهو نموذج فريد لبذل أحب ما يملكون من مال لله سبحانه، فمن منا يمكن أن يصنع ذلك؟ A لا، لماذا؟ لفقدان الإيمان أو قلته، ولو كان عندنا من الإيمان الشيء الكثير لدفعنا إلى أن نصنع كما صنع الصحابة، وأن نعلي كلمة الله كما أعلاها الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وهذه أم سليم الرميصاء رضي الله عنها زوجة أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، كان الضيف ينزل بالنبي عليه الصلاة والسلام فيقول: (هل فيكم من يضيف هذا؟ فيسكت القوم أجمعون -وهذا دليل على أنه ليس في بيوتهم شيء-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا طلحة! خذ هذا وضيفه، فلما صدر إليه الأمر ما كان منه إلا أن ينصرف بضيف رسول الله إلى بيته، فلما دخل على أم سليم، قالت: من هذا يا أبا طلحة؟ قال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرني أن أضيفه، فقالت: نعم الضيف، ولكن ليس عندي إلا طعام الأولاد، فاجتهدت في أن ينام الأولاد، فلما أفلحت في ذلك أحضرت الطعام ووضعته بين يدي أبي طلحة، وقالت: إن هذا الطعام لا يكفي إلا لواحد فقط يا أبا طلحة، فإذا وضعته بين يدي الضيف فأطفئ السراج، واصنع بيدك وفمك ما يصنع الآكل حتى توهمه أنك تشاركه في الطعام والشراب، ففعل ذلك أبو طلحة رضي الله عنه حتى أكل الضيف جميع الطعام، فلما أصبح الصباح وغديا على رسول الله في صلاة الفجر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا طلحة! لقد عجب الله من صنيعكما تلك الليلة) ما الذي دفع أم سليم إلى هذا الفعل وما الذي دفع أبا طلحة إلى هذا الفعل؟ إنه الإيمان بالله عز وجل، هذه الحلقة المفقودة عندنا الآن هي التي دفعت الصحابة رضي الله عنهم إلى نصرة هذا الدين بأموالهم وأنفسهم. وهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي قال: كنت أعتمد بكبدي على الأرض من شدة الجوع، ولكنه إذا نودي للبذل والعطاء كان من أسرع الناس استجابة لشدة إيمانه بالله عز وجل. وكما احتاج الإسلام إلى بذل النفس وبذل المال احتاج كذلك إلى أشي

أهمية الإيمان والعلم في مواجهة أزمات الأمة

أهمية الإيمان والعلم في مواجهة أزمات الأمة الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إذا كنا -أيها الإخوة الكرام- جادين في نصر الإسلام وأهله فلا بد من عود حميد إلى الله تبارك وتعالى، وإنني أردت بهذا الكلام نصيحة لنفسي أولاً وللمسلمين ثانياً، أننا لا بد وأن نكون صادقين في العزم وفي الرجوع إلى الله تبارك وتعالى، هذا الذي تصلح به البلاد ويصلح به العباد، وغير ذلك مهما سعينا وبذلنا فإن الله لن يصلحنا أبداً إلا بالإخلاص ثم بالعقيدة الصحيحة السليمة. إن الأمة تمر الآن بأزمة في إيمانها، إن الأمة لا تعاني قط من أي أزمة أخرى، إلا أزمة الإيمان وأزمة العقيدة الصحيحة، ولذلك بوب البخاري عليه رحمة الله -وهو أول باب في البخاري - قال: باب بدء الوحي. ثم ثناه بكتاب الإيمان، ثم ثلث بكتاب العلم، كأنه أراد أن يقول: إن أول واجب على المسلم أن يتعلم إيمانه أن يؤمن بالله، وطريق الإيمان العلم، ولما كان مصدر ذلك الوحي فقد بدأ البخاري كتابه بكتاب بدء الوحي، ليدل على أن الوحي والإيمان والعلم مرتبط كله، أو مرتبط بعضه ببعض تمام الارتباط، وأنه لا غنى لواحد منهما عن الآخر، وقد عبر القرآن الكريم عن الإيمان أحسن تعبير، بل عبر عنه بأساليب شتى، فتارة يعبر عنه بأخذ العبرة من الحوارات التي دارت بين الأنبياء وبين أقوامهم، وتارة بضرب الأمثال، وتارة بذكر القصص، وتارة بالأمر بالإيمان كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. نعم الإيمان هو النور الذي وقر في القلب وهو العمل، ولذلك يقول أهل السنة والجماعة: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة. فإيماننا يزيد بالطاعات، فلا بد وأن يرى الواحد منا موطنه عند الله عز وجل إما بطاعته وإما بعصيانه، وأظن أن الكل يرى مكانه في الوحل ويرى منزلته عند الله في الدون لكثرة معاصيه وإقباله على الذنوب والآثام، وبعده عن الطاعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فنسأله تبارك وتعالى أن يردنا إلى دينه مرداً جميلا، وأن يمكن لهذا الدين تمكينا متينا. انظر -يا أخي الكريم- إلى موقف الصحابة رضي الله عنهم، فقد حققوا كمال الإيمان وتمام الإيمان، فأتم الله تعالى عليهم النعمة وأكمل لهم الدين. نعم هذا حالهم وهذا حالنا، فالفرق بيننا وبينهم أنهم آمنوا بالله، وأما نحن فإن حالنا على غير تلك الحال التي كانوا عليها، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم عدة أعوام في الدعوة في مكة، هل يعلمهم الصلاة والزكاة والصيام والحلال والحرام؟ أبداً، إنما يعلمهم الإيمان، ويعلمهم السمع والطاعة، ولذلك هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا جاء الرجل من البادية يأتي فيمسك بتلابيب النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: يا محمد! أعطني من مال الله فإنه ليس مالك ولا مال أبيك، فيقوم إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويسل سيفه ويقول: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر، اجلس. فيجلس عمر من كلمة واحدة، وكان عمر إذا قيل له: اتق الله بكى، والواحد منا لو تلي عليه القرآن من أوله إلى أخره لا يبكي ولا يتأثر به، لأن القلوب قد قست وتحجرت. وهذا سعد بن الربيع وسعد بن معاذ وغيرهما من كبار المهاجرين والأنصار رباهم النبي عليه الصلاة والسلام على الإيمان، وعلى الإخلاص، وعلى التقوى، وعلى الورع، وعلى الزهد في الدنيا، فقاموا بذلك وضربوا المثل الأعلى في تحقيق الإيمان، انظر إلى سعد الذي إذا قيل له: لا تفعل يا سعد، يقول: سمعاً وطاعة لرسول الله، مع أن الأوس والخزرج دارت بينهم حروب طويلة. انظروا إلى الجاهلية العمياء، ثم يصنع الله تبارك وتعالى على أيدي رسوله من هؤلاء أئمة في الدنيا والدين كذلك؛ لأنهم قد حققوا الإيمان بالله عز وجل، هذا المطلوب منا أيها الإخوة الكرام.

أهمية اجتماع الصف الإسلامي وضابط الدعوة إليه

أهمية اجتماع الصف الإسلامي وضابط الدعوة إليه وربما يقول قائل: إننا في حاجة إلى التجمع وإن العقيدة تقف حائلاً بيننا وبين ما نصبوا إليه. وهذه الشبهة يثيرونها بين الحين والحين، وأنا أقر بأننا في أمس الحاجة إلى التجميع والاتحاد، خاصة في وجه ذلك الطغيان الكفري الجارف الذي يلاحقنا في كل زمان ومكان، خاصة في هذا الزمان وخاصة في هذا البلد، نعم نحن في حاجة إلى تجمع وإلى اتحاد، ولكن هل يثمر التجمع ثماره إذا اجتمع السلفي والشيعي؟! هل تقبل أن يكون بجوارك من يقول: إن أبا بكر وعمر هما صنما قريش؟! هل تقبل من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان؟ هل تقبل من يقول: إن عائشة وقعت في الفاحشة حقاً؟! هل تقبل من يكفر معظم الصحابة؟! وهل تقبل من اتخذ دينه غناءً ورقصاً وطرباً ونغماً، واحتفالاً بالموالد، وطوافاً حول القبور؟! لقد مررنا بتجارب عظيمة في شرق الأرض وغربها، فلما اتحدوا على غير أساس سرعان ما انهاروا، بعد أن تخلصوا من عدوهم المشترك، اجتمعت الكتائب بعضها على بعض فأمعنوا القتل والسيف في رقابهم، وفي صدروهم، فكانت النتيجة أن ضحك العالم أجمع، وبينوا للعالم أجمع أن هذا هو الإسلام، فقد ضربوا أسوأ مثل للإسلام وأهله. فلا يمكن أبداً أن نجتمع إلا إذا اجتمعنا على العقيدة أولاً التي تثمر إيماناً خالصاً صادقاً قد زرع في القلوب وقد تمكن منها تمكن جذر الشجرة من باطن الأرض. لا بد أن تتحد العقيدة أولاً، واتحاد العقيدة هو طوق النجاة من تلك الفتن، لا بد من الرجوع إلى الله تبارك وتعالى، ولكن لا بد أن يكون هذا الرجوع منضبطاً على أصول عقيدة الصحابة؛ لأنه بغير هذا الأصل سرعان ما ينهار هذا البناء فترجع الكرة خاسرة مرة بعد أخرى وتضيع الجهود التي تبذل؛ لأنها بذلت على غير أساس. أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا وعليكم بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصادق الخالص. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الدين النصيحة

الدين النصيحة لقد نصح الأنبياء والمرسلون أممهم وبلغوا رسالات ربهم على أكمل وجه، وبهذا تظهر أهمية النصيحة في الدين، ولأهميتها فقد جعلها النبي عليه الصلاة والسلام هي الدين، فلا قيام له إلا بالنصيحة، وحدد ميادينها فجعلها لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

عبادة الله تعالى غاية خلق العباد

عبادة الله تعالى غاية خلق العباد إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. فحصر الله تبارك وتعالى في هذه الآية الغاية من خلق الخلق أجمعين، وأن ذلك ما كان إلا لإخلاص العبادة له سبحانه. فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وعند أهل العربية أن (ما) و (إلا) للحصر، فهذه الآية قد جمعت هاتين الأداتين من أدوات الحصر، مما يدل على أن الخلق أجمعين ما خلقهم الله تبارك وتعالى إلا ليحققوا العبادة المحضة لله تعالى، ولما كانت العبادة قد أوكلت إلى الجن والإنس اختلفوا فيها لاختلاف علمهم وأمزجتهم وأفهامهم وعقولهم، لم يدع الله تبارك وتعالى الأمر إليهم، فإنه لم يخلقهم هملاً، ولم يتركهم سدى، إنما أرسل إليهم الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، فلم تكن العبادة لله عز وجل محل اجتهاد عابد من العباد، وإنما هي أمر توقيفي؛ لأن المرء إذا عبد الله تعالى بشيء من عنده لم يكن له فيه نص فقد خرج عن حد الشرع، وهذا هو حد الابتداع، وهو: أن تبتدع بشيء من عندك تتقرب به إلى الله تعالى لم يكن لك فيه دليل ولا نص.

نصح الأنبياء لأقوامهم

نصح الأنبياء لأقوامهم إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. فحصر الله تبارك وتعالى في هذه الآية الغاية من خلق الخلق أجمعين، وأن ذلك ما كان إلا لإخلاص العبادة له سبحانه. فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وعند أهل العربية أن (ما) و (إلا) للحصر، فهذه الآية قد جمعت هاتين الأداتين من أدوات الحصر، مما يدل على أن الخلق أجمعين ما خلقهم الله تبارك وتعالى إلا ليحققوا العبادة المحضة لله تعالى، ولما كانت العبادة قد أوكلت إلى الجن والإنس اختلفوا فيها لاختلاف علمهم وأمزجتهم وأفهامهم وعقولهم، لم يدع الله تبارك وتعالى الأمر إليهم، فإنه لم يخلقهم هملاً، ولم يتركهم سدى، إنما أرسل إليهم الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، فلم تكن العبادة لله عز وجل محل اجتهاد عابد من العباد، وإنما هي أمر توقيفي؛ لأن المرء إذا عبد الله تعالى بشيء من عنده لم يكن له فيه نص فقد خرج عن حد الشرع، وهذا هو حد الابتداع، وهو: أن تبتدع بشيء من عندك تتقرب به إلى الله تعالى لم يكن لك فيه دليل ولا نص.

نصح نوح عليه السلام لقومه

نصح نوح عليه السلام لقومه فمن فضل الله ورحمته بالخلق أن أرسل إليهم الرسل، فأول رسول أرسله هو نوح عليه الصلاة والسلام، فإن آدم كان نبياً، ومن بعده أرسل نوحاً رسولاً، فإنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم بشتى الوسائل والطرق والسبل، ولكن الله تعالى ما أراد لهم إرادة كونية الهداية والنور؛ لأنهم ثبتوا على كفرهم رغم أن نوحاً بذل النصيحة لهم أيما بذل، ولكنهم كذبوا وأعرضوا بل رموه بالضلال، فقال نوح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:61 - 62]، وخص الله تبارك وتعالى في كتابه سورة كاملة لما كان من قوم نوح مع نبيهم ورسولهم، فقال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:1 - 3]. وهذه مهمة الخلق {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح:3 - 4] قال نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:6 - 7] أي: وضعوها على أعينهم حتى لا يروا ولا يسمعوا كلامه، {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:7 - 9]. أي: حتى لقنهم ما يقولون، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:10 - 14]. ثم ظل نوح على مدار السورة وغيرها يذكرهم بنعم الله وآلائه عليهم ولكنهم أعرضوا وكذبوا حتى مل منهم ولم يألفهم فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، وفي سورة هود يقول نوح عليه السلام: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34]. فانظروا إلى هذا النبي العظيم ما ترك النصيحة بالليل والنهار ولا سراً ولا علانية إلا وقد بذلها خير البذل لأمته؛ ولكنهم أعرضوا وتنكبوا الطريق فاستحقوا العذاب من الله تبارك وتعالى.

نصح شعيب عليه السلام لقومه

نصح شعيب عليه السلام لقومه وهذا شعيب عليه السلام لما كذبه قومه أنزل الله تبارك وتعالى عليهم العذاب، وأما شعيب فتولى عنهم وقال: يا قوم إني رسول الله إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، فهذا شعيب لم يقصر في النصيحة كذلك، ولذلك لما أعرضوا عنه قال: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93] أي: كيف أحزن عليكم؟! اذهبوا إلى حيث شئتم، إلى النار وبأس المصير؛ لأنكم لم تقبلوا النصح.

نصح صالح عليه السلام لقومه

نصح صالح عليه السلام لقومه وهذا صالح عليه السلام بذل النصح لأمته، ولكنهم أعرضوا وعقروا الناقة عصياناً لله عز وجل، فأعرض عنهم وقال: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]. فكل نبي من الأنبياء إنما نصح لأمته ولم يقبضه الله تبارك وتعالى إلا بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لأمته خير نصيحة.

نصح محمد عليه الصلاة والسلام لأمته

نصح محمد عليه الصلاة والسلام لأمته وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام لم يمت ولم يقبض إلى ربه إلا بعد أن أدى النصيحة لهذه الأمة وأكمل الله تبارك وتعالى به هذه الشريعة ورضي الله تعالى لنا النعمة خير رضا، ولكن هذه الأمة وإن كانت متبعة بأقوالها إلا أنها أعرضت وكذبت واستغنت بأعمالها وأفعالها، وإلا فما قولكم في القائل الذي يقول: هل تريدون أن ترجعوا بنا إلى العصر الحجري؟! هل تريدون أن ترجعوا بنا إلى عصر رعاية الأغنام؟! هل تريدون أن ترجعوا بنا إلى ما كان عليه البدو في باديتهم؟! إنما نحن متحضرون، ونحن في قرن التقدم والحضارة. إن الرد عليهم أن التقدم والحضارة إنما هو في اتباع الأنبياء والمرسلين لا في اتباع عقولكم ولا أهوائكم ومشاربكم، فإن هذه الحضارة لا بد وأن تزول في يوم من الأيام حتى يرجع الناس رغم أنوفهم إلى ما كان عليه رعاة الأغنام، وعليهم تقوم الساعة.

بيان حديث (الدين النصيحة)

بيان حديث (الدين النصيحة)

أهمية النصيحة ومكانتها في الدين

أهمية النصيحة ومكانتها في الدين أيها الإخوة الكرام! إن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى نصح لهذه الأمة، وكذلك كلف من أتى بعده بأن يكون ناصحاً لهذه الأمة، وبين النبي عليه الصلاة والسلام أعظم ركن وأعظم فرض في هذا الدين فيما رواه مسلم من حديث تميم الداري أنه قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم). فانظروا إلى هذا الحديث فقد شمل الدين كله وعممه أحسن عموم، وفي هذا الحديث بيان أن النصيحة أعظم ركن في الإسلام؛ لأن كل مسلم مكلف بها. وقوله: (الدين النصيحة) كأنه أراد أن يقول: إن ذات الدين هي النصيحة، وإن النصيحة للأمة هي الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام (الحج عرفة)، ولا يعني ذلك أن الفرض الوحيد في الحج هو الوقوف بعرفة، ولكنه أعظم فرض، ولذلك خصه بالذكر، وأن من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج كله، ومن فرط أو قصر في غيره فإنه يجبر بذبح الهدي، والدين كله هو النصيحة. أما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما -وهو المعروف بحديث جبريل الطويل-: (أنه طلع عليهم رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة وأن تؤتي الزكاة وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه) لأنه من عادة السائل أن يكون جاهلاً، فكيف يصدق جواب المجيب؟! وهذا يدل على أنه ليس جاهلاً، وهذا معلوم ومقرر في طلب العلم، أنه يجوز للعالم أن يطرح المسألة على صاحب المجلس حتى يعلم الجاهل، (فقال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: أنا وأنت فيها سواء لا يعلمها أحد من الخلق إنما استأثر الله تبارك وتعالى بعلمها، (قال: فأخبرني عن أماراتها) أي: عن أشراطها، ومقدماتها التي تظهر قبلها (قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، فلبث ملياً ثم انطلق، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ردوه علي، فطفق القوم ليردوه فلم يجدوا شيئاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم، وفي رواية: يعلمكم دينكم). فانظر إلى هذا الحديث فقد سمى الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة ديناً، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة) يدل على أن النصيحة لازمة في الإسلام، والإيمان، وأشراط الساعة، والإحسان، وهو: أن تعبد الله تبارك وتعالى كأنك تراه، فإن كان ذلك حالهم في الدنيا فإنه وارد وثابت لأهل الإيمان في الآخرة، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام وكان جالساً مع قومه في ليلة مقمرة، فسأله سائل: (هل نرى ربنا يا رسول الله؟ قال: نعم، إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ليس بينكم وبينه سحاب لا تضامون في رؤيته) أي: لا يحصل لكم ريب ولا شك. وأما أهل الكفر والعناد والجحود فإنهم يحال بينهم وبين رؤية المولى تبارك وتعالى عقوبة لهم.

مفهوم النصيحة

مفهوم النصيحة فالنصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ وإرادة الخير للمنصوح له من جهة الناصح، بمعنى أن يبذل الناصح وسعه وجهده في نصح المنصوح حتى يعلم الخير ويجتنب الشر. وكذلك فعل الأنبياء والمرسلون صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين لأممهم. والنصيحة كلمة لا ترجمة لها في أي لغة من لغات العالم؛ لأن في الشرع كلمات ومصطلحات لا ترجمة حرفية لها من لفظها، ككلمة البركة، والفلاح، والنصيحة، وغيرها من الكلمات، فإن من أراد أن يترجم كلمة النصيحة لأي لغة من لغات العالم لا بد أن يستوعب ذلك سطراً أو سطرين حتى يؤدي معناً قريباً من معنى كلمة النصيحة، ولا يكون كذلك. قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت والنصح لكل مسلم). وفي رواية لـ مسلم أيضاً من حديث جرير أنه قال (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم).

حكم النصيحة

حكم النصيحة فمبدأ النصح لأهل الإسلام كانت عليه البيعة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وهذا فرض عظيم وأمر جلد أن يتناصح المسلمون فيما بينهم بذكر عيوبهم ثم مدحهم بما يستحقونه من مدح دون زيادة ولا نقصان إذا أمنت عليهم الفتنة بأن يغتروا بالمدح، والنبي عليه الصلاة والسلام قد مدح بعض أصحابه ولم يمدح آخرين، فقد مدح أبا بكر، وعمر، وعثمان، ومعاذاً، وغيرهم من الصحابة؛ لأنهم لا يغترون بهذا المدح ولا يخاف عليهم منه، وأن من خيف عليه أن يمدح في وجهه فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال في شأنه: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب). وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا مدحه أحد في وجهه حث التراب في وجهه حقيقة، وهذا محمول على ورعه وتقواه، وإلا فهو أكثر الصحابة لزوماً لآثار النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يخاف عليه الفتنة، ولا يخاف عليه الاغترار بالمدح، وإنما فعل ذلك حفاظاً على قلبه فيما بينه وبين الله تعالى. والنصيحة أمر لازم، وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له) أي: إذا طلب منك النصيحة فانصح له، (وإذا عطس فحمد الله فشمته) أي: إذا عطس فقال الحمد لله فقل له: يرحمك الله، ويرد عليك بما علمه النبي عليه الصلاة والسلام: يهديك الله ويصلح بالك، أو يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، (وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه). فموطن الشاهد من هذا الحديث: (وإذا استنصحك فانصح له)، أي: ابذل له النصيحة مريداً للخير لا مريداً للشر، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المستشار مؤتمن)، وقال: (من أشار على أخيه بشيء وهو يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه). ومعظم الأمة وقعت في الخيانة، وارتكبت ما ركبه أعداء الأمم والرسل والأنبياء من قبل نبينا عليه الصلاة والصلاة ومن بعده. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: مناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، وأن تعتصموا بالله ولا تشركوا به أحداً). وفي الصحيحين من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل الجنة)؛ لأنه غاش لرعيته ولأمته، وهذا للأمراء والعلماء. وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة (إن الله يرضى لكم ثلاثاًَ: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم). فالنصيحة أمر لازم ولا قيام لأهل الإسلام إلا بها، وهي جزء من الواجب الأعظم الذي رتب الله تبارك وتعالى عليه خيرية هذه الأمة، فقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فأخر الإيمان وقدم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه السياج الذي يحيط بالإيمان ويحافظ عليه، ولو أن المؤمنين فيما بينهم لم يتناصحوا لا بد وأن ينقص إيمانهم؛ لأن الرجل يرى العيب في أخيه ولا يدله على الخير ولا ينبهه إلى مكمن الخطر، وكل عيب ينقص بالإيمان كما أن كل خير يزداد به، فتصور لو أن المسلمين أجمعوا ألا يتناصحوا فيما بينهم كيف يكون الحال حينئذ؟ إنها أمة تضرب في أطناب الضلالة إذا أجمعوا على ذلك، ومعاذ الله أن تجمع الأمة على أمر يخالف كتاب ربها وسنة نبيها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر في صحيح سنته أن هذه الأمة لا تجتمع على الضلالة أبداً، أي: في مجموعها، ولا يمكن أن يخفى عليها الحق ولا أن يعم فيها الباطل حتى لا يجد هذا الباطل من يرده.

معنى النصيحة لله تعالى

معنى النصيحة لله تعالى ولا بد أن نرجع إلى أصل حديثنا وعمدة كلامنا، وهو حديث تميم الداري (الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله) استفسار وبيان؛ لأن الأمر مستغلق (قال: لله) وهل يحتاج الله تبارك وتعالى إلى نصيحة عبد من عباده؟! حاشا لله أن يكون هذا في ذهنك، فإن الله تبارك وتعالى قد كلفك بأن تكون ناصحاً له بمعنى: مخلصاً له، فالنصيحة هنا في جنب الله تبارك وتعالى بمعنى الإخلاص، كما تقول: نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، والإخلاص لله تبارك وتعالى يعني أن تعبد الله تبارك وتعالى، ولا تشرك به شيئاً، أن تعبد الله تبارك وتعالى بما أمر وأن تنتهي عما نهاك عنه، فإن كنت كذلك فأنت ناصح لله تبارك وتعالى، وهو أعظم ركن وأوجب الواجبات على العباد، وهو توحيد الله تبارك وتعالى، كما في الصحيح وغيره أن معاذ بن جبل ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سكت وسار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق الله على العبيد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، ثم سار ساعة وقال يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق الله على العبيد؟) فعل ذلك ثلاثاً ليجمع حواس معاذ كلها؛ لأن الأمر ثقيل وعظيم والمهمة خطيرة وهي التي لأجلها خلق معاذ وغيره (قال: يا معاذ بن جبل! حق الله على العبيد أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئا)، وفي رواية (أن يوحدوه). (يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق العبيد على الله؟). وهل على الله حق لخلقه؟ إن هذا الواجب الذي أوجبه الله على نفسه هو من فضل الله ونعمه وليس واجباً في مقابل حق، وإلا فلو أن أعمال العباد بأسرها وزنت في مقابل نعمة واحدة من نعم الله عليهم لطاشت عبادتهم، ولكن الله تعالى تفضل علينا بأن أمرنا بعبادته والإخلاص فيها في مقابل الجنة التي خلقها لأهل الطاعة وقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، وخلق النار للعصاة والكافرين والملاحدة وقال: يا أهل النار! خلود بلا موت، فإن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وقد دخل الجنة نبينا عليه الصلاة والسلام ورأى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقد اطلع على النار فرأى أكثر أهلها النساء، قال النبي عليه الصلاة والسلام واعظاً لهن: (يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة جزلة -عاقلة- وقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير، يحسن الرجل الدهر كله إليكن، فإذا ما بدا منه في يوم شيء قلتن: ما رأينا منك خيراً قط، كفران النعم والعشير يستوجبان دخول النار، فاتقين الله يا معشر النساء). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ بن جبل أتدري! ما حق العبيد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟) أي: إذا عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً (قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقهم على الله إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم)، وفي رواية أخرى: (أن يدخلهم الجنة) , فالأنبياء والمرسلون هم أعظم الخلق جميعاً، قاموا لله تبارك وتعالى بالنصيحة وبالإخلاص في العبادة وتوحيده حق التوحيد، بحيث لم يخالطه شك ولا ريب، كما لم يخالطه شرك ولا ظلم، ومن بعدهم أصحابهم وحواريوهم؛ لأنهم تربوا على أيدي أنبيائهم ورسلهم فقاموا لله تبارك وتعالى بالنصيحة، ومن بعدهم أتباعهم، وخاصة أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن عباس رضي الله عنه، وإني أريد أن أتغاضى عن عبادة ابن عباس وخوفه من الله ورجائه في الله، الذي مات عنه النبي عليه الصلاة والسلام وهو صغير في السن كما مات عن عائشة خير الصحابيات وخير النساء وخير العالمات، ولكني أذكر مثلاً ممن تربى في حجر عبد الله بن عباس وفي حجر أنس بن مالك، وهو أبو قلابة الجرمي عبد الله بن زيد البصري رحمه الله تعالى، يقول عنه ابن عباس: لو كان هذا في الصحابة لكان علماً، وقال: لو رآه النبي عليه الصلاة والسلام لأحبه وقربه. أخرج ابن حبان في كتابه الثقات في أول الجزء الخامس في ترجمة عبد الله بن زيد الجرمي أبي قلابة البصري من طريق الأوزاعي قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: بينما نحن مرابطون ذات يوم -أي: في ثغر من ثغور الجهاد- إذا نزلت وادياً وبهذا الوادي خيمة فدخلتها وإذا فيها رجل قد فقد يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره، ولم يكن له من جوارحه إلا لسانه، فسمعته يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به نعمك علي، وأن أشكرك على ما تفضلت به علي وفضلتني على كثير

معنى النصيحة لكتاب الله

معنى النصيحة لكتاب الله الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: فالنصيحة لله تبارك وتعالى -أيها الإخوة الكرام- أن تتوجهوا بقلوبكم وجوارحكم إليه سبحانه، وأن تتضرعوا إليه في الليل والنهار، وأن تخشوه حق خشيته في السر والعلن، وأن تجأروا إليه بأن يكشف عن هذه الأمة البلاء. أما النصيحة لكتاب الله تبارك وتعالى فهي أن تؤمن بأن هذا الكتاب أعظم كتاب أنزله الله تبارك وتعالى على رسوله، وأنه كلام الله تبارك وتعالى منه بدأ وإليه يعود، وأنه ليس مخلوقاً، وأن كلام الله ليس مخلوقاً؛ لأن كل مخلوق مربوب وكل مربوب حادث وكل حادث إلى زوال وفناء، وحاشا لأسماء الله وصفاته أن تكون مخلوقة، فإن صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه لازمتان له، فإن الله تبارك وتعالى اسمه الرزاق قبل أن يخلق الخلق، فهو موصوف بالرزاق قبل أن يخلق الخلق؛ لأن صفة الله تبارك وتعالى واسم الله تبارك وتعالى أزليان أبديان بلا أول ولا نهاية، وأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته لازمة له، فكما استحق الله تبارك وتعالى أنه الأول والآخر، فكذلك استحقت هذه الأسماء في أوليته ولا آخر لها؛ لأنها لازمة لا تفنى، ومن قال بأن القرآن مخلوق لا بد لزاماً أن يقول: إنه يفنى، وهذا قول المعتزلة، وهي شر مقولة أحدثت في القرن الثالث الهجري في دولة العباسين، ولكن الله تبارك وتعالى قيض لها ذلك الجبل الفذ الشامخ أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ورضي عنه، فثبت هذه الأمة على عقيدة نبيها في أسماء الله وصفاته، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال بأنه مخلوق فقد كفر، وأما السلاطين والحكام في ذلك الزمان فكانوا على عقيدة أخرى، ومنهم عالم السوء أحمد بن أبي دؤاد الذي صور لهم وزين لهم الباطل وقال: القرآن شيء والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ودعا أحمد للمناظرة بين يدي الحاكم وقال: يا أحمد بن حنبل! أليس الله قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]؟ قال: بلى. قال: أوليس القرآن شيء؟ قال أحمد: بلى. قال: إذاً: (كل شيء هالك إلا وجهه)! قال أحمد بن حنبل: يا ابن أبي دؤاد! أوليس الله خالق كل شيء؟ قال: بلى. قال: أوليس الله تعالى قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]؟ قال: بلى. قال: أو تعتقد أن الله يدمر هذا القرآن. فسكت ابن أبي دؤاد، ولم يحر جواباً، فكان النصر لعقيدة أهل السنة والجماعة. ويرجع الفضل في غرس العقيدة لهذه الأمة بأسرها إلى أحمد بن حنبل رضي الله عنه، لا أقول: في القرن الثالث ولكن إلى قيام الساعة، ولذلك أشفق عليه بعض أهل زمانه من الصلحاء، وقالوا: يا أحمد! إنما هي كلمة تقولها وتنجو من السيف، فقال أحمد: أهلك ولا تهلك الأمة بأسرها، أموت أنا ولا تموت الأمة بأسرها، إنما أنا رجل وهذه أمة، فلو أني قلت بقول المعتزلة لضلت الأمة بعدي إلى قيام الساعة، وكان ذلك محل خلاف حتى عند أهل السنة والجماعة من بعده، وأيد الله تعالى الإمام أحمد لصد هذه الفتنة فوقف لها في مهدها وعلمت الأمة إلى قيام الساعة بعقيدة نبيها وأصحاب نبيها والأئمة المتبوعين وعلى رأسهم أحمد بن حنبل. قال أحمد: انظروا إلى هذه المحابر إنها وقفت لتكتب ما أقول. قال ابن الجوزي: وكانوا يقدرون بألفي ألف، يعني: باثنين مليون مسلم اجتمعوا ليروا نتيجة المناظرة هل يخضع الإمام أحمد لأمر السلطان وينحرف عن عقيدة نبيه أم يختار أن تهلك نفسه ولا تهلك الأمة بأسرها؟ فنصح أحمد لهذه الأمة برها وفاجرها مؤمنها وفاسقها كبيرها وصغيرها رجالها ونسائها وهو رجل واحد، لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت احتاجت فيه إليه الأمة، وهذا من النصيحة لكتاب الله، أن تؤمن أنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود سبحانه وتعالى، وأن تؤمن أن هذا الكتاب الذي بين يديك هو الكتاب المهيمن والمسيطر والقادر والناسخ لجميع الكتب السابقة، فليس لأحد الآن أن يقول: أنا تابع لصالح أو لشعيب أو لهود أو لموسى أو لعيسى عليهم الصلاة والسلام، فإن هذا كفر؛ لأنه لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام وجب على كل الخلق أجمعين أن يتبعوه. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن موسى: (والذي نفسي بيده لو أن موسى حي ما وسعه إلا أن يتبعني). وقال في شأن عيسى عليه السلام بعد أن رفعه الله تعالى إليه فهو حي عند ربه حياة لا يعلمها إلا من هو، (فينزل في آخر الزمان يكسر الصليب ويقتل الخنزير) وهما شعار النصارى، فيتبرأ منهم بل إنه يقاتلهم عند باب لد عند مقتل المسيح الدجال. فإن من تشبث الآن بموسى أو بعيسى فليعلم أنهما بريئان منه، وليعلم أنه لا د

معنى النصيحة لرسوله عليه الصلاة والسلام

معنى النصيحة لرسوله عليه الصلاة والسلام والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم أن تؤمن به وأن تعظمه وأن تشرفه وأن تنصره، فتنصر سنته وتميز بين صحيحها وسقيمها إن كنت من أهل العلم، وأن تدعو إليها وإلى التمسك بها وأن تذب عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ثم أن تحب ما أحب الله ورسوله، وأن تبغض ما أبغضه الله ورسوله، فهذا من الإخلاص لله ولرسوله، بل ومن الإخلاص للكتاب، وأن تقدم محاب الله ومحاب رسوله على كل محبوب وعلى هواك ونفسك والشيطان، وأن تأتمر بأوامر النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تنتهي بنواهيه، فإن كنت كذلك فاعلم أنك ناصح لكتاب الله ولرسوله، وإن كنت غير ذلك فلا تلومن إلا نفسك، والنصيحة فيها كلام كثير ولكني أخشى الإطالة، فأقول: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وأئمة المسلمين بالدرجة الأولى هم علماؤهم وولاة أمورهم، وفي الجملة يقول النبي صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

قبل أن تغرق السفينة

قبل أن تغرق السفينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان المجتمع، وضمان أكيد لبقاء أمن وسلامة الأمة أن تصاب بعذاب، وقد اعتبره البعض الركن السادس من أركان الإسلام، وهو واجب على كل المسلمين، وشامل لكل طبقات المجتمع، وداخل في أصول الشرع وفروعه. ويشترط في الآمر والناهي أن يكون عالماً بالأمر والنهي، حكيماً في اختيار الوقت، ناصحاً لله ولرسوله، لا ينتقم لنفسه، ولا يسعى لحظوظه الدنيوية، جريئاً في قول الحق لا يخاف في الله لومة لائم.

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمة أفرادا وجماعات

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمة أفراداً وجماعات إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل القائم في حدود الله عز وجل والتارك لذلك، كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أن يستقوا مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلو أنهم تركوهم لهلكوا جميعاً، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). هذا الحديث أصل في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإننا لنعتقد اعتقاداً جازماً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب تجمع الأمة بعد تفرقها، وعزها بعد ذلها، وكرامتها بعد إهانتها، بل لا يحصل للأمة الأمن من جميع المخاوف إلا إذا قام كل فرد من أفرادها بهذا الواجب العظيم، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يأمر بما عرفه الشرع وأقره وشرعه، وأن ينهى عما نهى عنه الشرع وحرمه أو كرهه. ولما كانت الأمة لا تبلغ مأمنها إلا بهذا الواجب العظيم قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. قال غير واحد: ومن الظلم: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم تلبس إيمانها بهذا الظلم، أي: بالتفريط في هذا الواجب العظيم.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقديمه على الإيمان

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقديمه على الإيمان وردت آيات وأحاديث تفيد بإطلاقها وظاهرها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل أحد حتى وإن كان جاهلاً. قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فذكر الإيمان بالله بعد هذا الواجب العظيم، لا لأن الله تعالى قد فرضه علينا قبل الإيمان، ولكن لأهميته في حفظ الإيمان؛ فإن الإيمان لا يحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] فهو يفيد حصر جميع أفراد الأمة رجالاً ونساءً، وهذا يعني أن ذلك واجب على كل مكلف، وهذا احتراز من المجنون، أو السفيه، أو الطفل الذي لم يبلغ، أما الرجال والنساء فإن الجميع مكلف بهذا الواجب العظيم. وفي آية أخرى يبين الله تبارك وتعالى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو واجب كفائي، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإذا تخلف عنه الجميع أثموا، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران:104] أي: طائفة يا معشر المسلمين، {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] والخير: هو الإسلام، أو الدين، أو الإحسان، أو كل ما شرعه الله تعالى ورسوله من الحلال والحرام وغير ذلك. {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]. فإذا فعلوا ذلك فقد رتب الله تبارك وتعالى على حسن صنيعهم الفلاح في الدنيا والآخرة، ولذلك قال في نهاية الآية: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. وقال الله تعالى لنبيه آمراً إياه أن يصدع بالحق الذي جاء به، فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] وهذه الآية آية مكية، والنبي عليه الصلاة والسلام أُمر بإعلان الدعوة قبل الهجرة إلى المدينة النبوية المشرفة. وقال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. بعض الناس يظن أن الأمر للتخيير، وهو للتهديد والوعيد! فمن شاء منكم أن يؤمن فله الجزاء الأوفى، ومن شاء منكم أن يكفر فله العقاب. فقوله: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: ما عليك إلا أن تقول بالحق يا محمد أنت ومن تبعك أنت ومن سار على نهجك أنت ومن آمن بك، فمن شاء بعد ذلك من الناس أن يؤمن، ومن شاء منهم بعد ذلك أن يكفر، والله تبارك وتعالى قد أعد لكلا الفريقين جزاءه، إما جنة وإما ناراً.

مراتب تغيير المنكر وعاقبة من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

مراتب تغيير المنكر وعاقبة من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نعى الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل ولعنهم لتركهم هذا الأمر، فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. والنبي عليه الصلاة والسلام يفسر هذه الآية فيقول: (إن علماء بني إسرائيل كانوا يمرون بأقوامهم وهم على المعاصي، فيأمرونهم وينهونهم، ثم ينصرفون عنهم، فإذا أتوا عليهم من غد لم يكن عليهم حرج -أي: لم ير أحد منهم عليه حرجاً- أن يكون أكيله وجليسه وشريبه، فضرب الله تبارك وتعالى قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم عليهما السلام). وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره)، وهذا أمر يفيد الوجوب، ويفيد أن من ترك ذلك مع القدرة عليه فهو آثم؛ لأنه قد فرط في واجب عظيم من واجبات الشرع. ولعلكم تعلمون أن بعض أهل العلم قد عدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الإسلام، ولكن جمهور أهل العلم قالوا: ليس بفرض على الحقيقة، أي: لا يساوي الشهادة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، ولكنه يقصر عن ذلك قليلاً، وهذا يعني أنه عندهم واجب محتم من واجبات الشرع، قد وردت به الأوامر في الكتاب والسنة. قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)، ثم بين أن الإنكار بالقلب هو أضعف الإيمان فقال: (وذلك أضعف الإيمان)، وفي رواية: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). يعني: أقل درجات الإنكار أن تنكر بقلبك، وأن تغضب لله عز وجل، وأن يتمعر وجهك لانتهاك حرمة من حرماته سبحانه وتعالى. أما التغيير باليد فهو مكفول لكل أحد كان بإمكانه أن يغير بهذه الوسيلة، لكن لهذا التغيير ضوابط سنذكرها -بإذن الله تعالى- فإن عجز أن يغير باليد، وجب عليه أن ينتقل بعد ذلك للمرحلة الوسطى، وهي: التغيير باللسان إن كان من أهل البيان والفصاحة والعلم؛ فإن لم يكن كفؤاً لذلك وجب عليه وجوباً وقبل أن ينتقل إلى المرحلة الدون: وهي الإنكار بالقلب، أن يترك مكان المعصية، وينصرف بعد أن يعلن النكير بوجهه أو بحركاته أو غير ذلك. المهم ألا يترك أصحاب المعصية إلا وقد أخبرهم بلسان حاله أنه غير راض عن ذلك. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره) أي: في وقت نشاطنا، وفي وقت كرهنا، والمراد في كل أحوالنا: (وفي العسر واليسر) أي: في وقت المال، وفي وقت عدمه، (وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن نجد كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان) أي: لنا فيه من الله بيان ساطع لا يختلف عليه اثنان، ثم قال: (وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخشى في الله لومة لائم) أي: أن نصدع بالحق لا نخاف أحداً لا كبيراً ولا صغيراً، لا حاكماً ولا محكوماً، لا طاغية ولا مؤمناً، وأن نقول به أينما كنا، حتى وإن كنا في أحلك الظروف وأسوئها، لابد أن نصدع بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم. أي: إذا لامنا أحد فإننا لا نخاف إلا أن نكون قد ارتكبنا معصية تغضب الله تبارك وتعالى. وما الذي يجعل المرء منا يتقهقر ويتقاعس عن الدعوة إلى الله عز وجل، وعن الإيمان بالله عز وجل، وعن الصدع بالحق أينما كان؟ لماذا يخشى الناس والله تبارك وتعالى أشد بأساً وأشد تنكيلاً؟! فإذا كان عذاب الله تبارك وتعالى هو أشد وأبقى من عذاب جميع المخلوقين، فلماذا الخوف من المخلوقين إذاً؟! إن المخلوق مهما بلغت قوته لا يملك سلطاناً إلا على بدنك، أما سلطان القلب فإنه لا يقوى عليه، ولذلك يقول أهل العلم: الإنكار بالقلب في مقدور كل إنسان. يقول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في حديث زينب بنت جحش لما قام من الليل فزعاً-: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بالإبهام والتي تليها)، ويأجوج ومأجوج من علامات الساعة الكبرى، وإذا كان ذلك الفتح من الردم في زمانه عليه الصلاة والسلام وقد فزع فكم قد بلغ هذا الفتح الآن؟ والله أعلم إذا كان يتسع أو لا، أو أنه يفتح مرة واحدة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ويل للعرب) وخص العرب بالذكر؛ لأن دين الإسلام بدأ فيهم، وهم نواة الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بالإبهام والتي تليها، قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الطرقات

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الطرقات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة نهى أصحابه عن الجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد) أي: لابد أن نجلس فيها، ونتحادث فيها، ونتسامر، ويقضي أحدنا حاجة أخيه، وذلك لا يكون إلا من خلال هذه الأماكن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا لم يكن لكم منها بد فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: رد السلام، وكف الأذى، وغض البصر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). أمر الله تبارك وتعالى الذين يجلسون على المقاهي بهذه الأوامر، مع العلم أنه قل أن تجد رجلاً على المقهى أو في الطرقات إلا وقد جلس خصيصاً لتصويب النظر، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أذن لهم في ذلك بشرط غض البصر، ورد السلام؛ لأن رده واجب، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مَن مِن الناس يفعل ذلك؟ فهذا حق الطريق، وإلا فالجلوس على قارعة الطريق ممنوع إلا بهذه الشروط. حتى قال أبو حامد الغزالي: لا يحل للرجل في مجلسه أن ينظر إلى ما في يد أخيه. ولذلك قال غير واحد من أهل العلم كـ ابن الجوزي، وابن رجب: وإن الرجل لينظر إلى أخيه وفي يده حاجات بيته، فيقول وهو جالس في المجلس: إن فلاناً أتى لأهله بلحم أو خبز، قال ابن رجب: هذا عين الحرام. أي: أن تنظر إلى كيس في يد أخيك، فضلاً عن أن تنظر إلى امرأة.

الإنكار على من لبس الحرير والذهب من الرجال

الإنكار على من لبس الحرير والذهب من الرجال نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن لبس الرجال للذهب والحرير، وأخذ حريراً بيد، وأخذ ذهباً باليد الأخرى وقال: (هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها)، والرجل لا يحتاج مطلقاً إلى أن يتحلى بالذهب؛ لأن الله تعالى حرمه عليه، والرسول عليه الصلاة والسلام حرمه، ولذلك لما وجد النبي عليه الصلاة والسلام في إصبع رجل ذهباً نزعه منه نزعاً ثم ألقاه على الأرض، وقال: (أتحب أن تختم بخاتم من نار يوم القيامة؟، ثم تركه النبي عليه الصلاة والسلام وانصرف، فقال له بعض القوم: خذ خاتمك فانتفع به، فقال: والله ما كنت لآخذ شيئاً طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم). طرحه النبي عليه الصلاة والسلام ولم يرضه لي، ولم يقل كما نقول: بإمكاني أن أذهب به فأبيعه للتاجر، أو لنصراني أو يهودي، أو أعطيه امرأتي تنتفع به أو غير ذلك، بل قال: (والله ما كنت لآخذ شيئاً طرحه النبي عليه الصلاة والسلام) وهذا مثال المؤمن الحق الصادق مع الله تبارك وتعالى، ومع رسوله ومع نفسه.

التحذير الشديد والوعيد من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

التحذير الشديد والوعيد من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال حذيفة رضي الله عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم). يعني: إما أن تقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإما أن يضرب الله تبارك وتعالى قلوب بعضكم ببعض، وينزل عليكم من السماء عقوبة جازمة حاسمة، ثم تدعونه أن يرفع عنكم هذه العقوبة فلا يستجيب الله تبارك وتعالى لكم؛ لأنه ما أنزلها إلا لتفريطكم في واجب أوجبه عليكم.

فضل الإنكار على السلاطين والأمراء العصاة الظلمة ووجوبه

فضل الإنكار على السلاطين والأمراء العصاة الظلمة ووجوبه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق). وفي رواية: (كلمة عدل عند سلطان جائر). أفضل الجهاد كلمة عدل وحق في وجه سلطان جائر، ليس بعيداً عنه، وإنما في وجهه مباشرة، حتى يعلم أنه جائر وظالم، فإما أن يغير، وإما كما في حديث عبادة: (إلا أن نرى كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان). وهذا النبي عليه الصلاة والسلام جعل مواجهة الحاكم، وذكر عيوبه في وجهه مباشرة إذا كان معانداً أو مصراً، جعل ذلك من أفضل مراتب الجهاد عند الله، قال: (أفضل الجهاد عند الله كلمة عدل) أي: يقوم بها رجل عالم مخلص في وجه سلطان جائر، ووصفه بالجور والظلم والخيانة. قال الحسن البصري: دخل عائذ بن عمرو على عبيد الله وهو أمير فقال عائذ لـ عبيد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاء الحطمة) الرعاء جمع: راع، والراعي: هو الحاكم والسلطان والأمير والرئيس والقائد والملك وغير ذلك من هذه التسميات، فقال: (إن شر الرعاء الحطمة) أي: الذين يحطمون شعوبهم حطماً، ويهلكونهم إهلاكاً، ويفسدونهم إفساداً، ولا يجدون باباً من أبواب الشر إلا وسعوا فيه، ولا باباً من أبواب الخير إلا وأغلقوه أمامهم. قال: وإياك أن تكون منهم فقال عبيد الله لـ عائذ رضي الله عنه: اجلس. فإنك من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له: ليس في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نخالة، وإنما النخالة فيمن أتى بعدهم. عائذ صحابي، ولكن عبيد الله أمير بإمكانه أن يبطش به، كما بطش سلفه الحجاج بن يوسف الثقفي بكثير من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه ما خشي بطش عبيد الله، وإنما قال له: (ليس في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نخالة، إنما النخالة فيمن أتى بعدهم). أي: النخالة فيكم أنتم معشر الحكام والأمراء والسلاطين الذين أتيتم بعد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، قطعت ألسنتكم وفسدت قلوبكم أن تتكلموا في صاحب من أصحابه عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عن أصحابه أجمعين. انظروا إلى هذا العملاق من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يدافع عن أمر يعتقد أن الشرع قد أوجبه عليه! فلا تستهزئوا بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وبأهل العلم وبالدعاة إلى الله، وبطلاب العلم، وتصفونهم بشتى أنواع الدعاوى. ولنا في رسول الله عليه الصلاة والسلام الأسوة والقدوة، وقد قالوا عنه: مجنون وساحر، فليصبر الدعاة وطلاب العلم والعلماء صبراً جميلاً، فإن الله تبارك وتعالى أعد للصابرين جزاء صبرهم، ولقاء جلدهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في جنة عرضها السماوات والأرض. قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما تلا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. كثير من الناس يقرأ هذه الآية ويقول: إذا فسد المجتمع فلا علاقة لي به، علي بنفسي كما هو ظاهر الآية، فأنا رجل مهتد، وهؤلاء القوم قد ضلوا، فلا علاقة لي بهم عليَّ بنفسي، وربما يكون هذا هو ظاهر الآية، فبين النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي بكر المعنى فقال: (يا معشر الناس! إنكم تقرءون هذه الآية فتفهمونها على غير وجهها -أي: تفهمونها فهماً مغلوطاً غير صحيح- وإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده). هذا معنى الآية. ومعنى الهداية: أن تأخذ على يد الظالم أو الباغي أو المنحرف إما باليد، أو اللسان، أو القلب، وإلا فإن الله تعالى يعمك معه بعذاب بئيس من السماء، وهذا واجب عظيم من واجبات الشرع كلفنا الله تبارك وتعالى به. ولا يمكن لهؤلاء الذين يهيمون على وجوههم أن يدخلوا هذا المسجد إلا بجهدي وجهدك، وقولي وقولك، ورغبتي وإياك له، وإن كان صاحب معصية فإياك أن تظن أنه من أهل النار وأنت من أهل الجنة؛ لكونك تصوم وتصلي، وتحج وتعتمر، وتؤدي الزكاة المفروضة، احذر من هذا، فإن دين الله تبارك وتعالى ليس هذا فحسب، فالله تبارك وتعالى لما قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، أراد بالدين العقيدة الصحيحة التي تبعث على إتيان جميع الشرائع، وتحليل الحلال، وتحريم الحرام، والانتهاء عنه، وإتيان الأمر. أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال.

شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر

شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يشترط فيه شروط: الشرط الأول: أن يكون عالماً بالمعروف، عالماً بالمنكر، لا يدعو بجهل وعلى جهل فيفسد أكثر مما يصلح، فربما ظن أن المعروف منكراً، أو أن المنكر معروفاً، فذهب يأمر بالمعروف وهو في حقيقته منكر، فيكون قد أمر بالإفساد في الأرض من حيث لا يدري. أو يذهب لينهى عن المنكر في ظنه وزعمه، وهو في حقيقة أمره معروف، فيكون قد عطل شرع الله، ظناً منه أنه ليس من دين الله ولا من شرعه. ولما كان الآمر والناهي لابد أن يكون عالماً بما يأمر وينهى كان هذا الواجب العظيم لا يقوم به إلا طالب العلم. الشرط الثاني: أن يبلغك العلم الجازم أن فلاناً قد فرط في المعروف، أو أنه قد اقترف المنكر، ولا يكفي في ذلك الظن؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئاً، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]. فلا يكفي أن تعتقد أن هذا الرجل يركب سيارة مع امرأة، فتذهب تشنع عليه أنه قد ركب مع امرأة أجنبية، فربما كانت أمه، أو زوجه، أو أخته أو محرماً له، ولابد أن تتأكد أنها امرأة أجنبية إذا دعت الحاجة لبحث ذلك والتفحص عنه، وأنت غير مطالب بأن تذهب وتسأله: من التي كانت معك في يوم كذا في سيارة كذا؟ ومن هي التي كانت تجلس معك على الطريق الفلاني في المكان الفلاني؟ ولكن إذا وقع لك ذلك اتفاقاً فحينئذ يجب عليك أن تنهاه عن هذا المنكر. وإذا لم تر فلاناً يصلي معك في المسجد فلا يعني بالضرورة أنه تارك للصلاة، فربما يصلي في مسجد آخر، أو يصلي في بيته، أو له عذر يمنعه، لابد أن تتيقن أنه تارك للصلاة حتى يتسنى لك أن تنهاه عن هذا المنكر. أما أن يغلب على ظنك، أو أن تظن فيه ظن السوء، ثم تذهب فتنكر عليه وربما تغلظ له في الإنكار بأن تسب أو تضرب أو تشتم، أو تلعن، ثم يتبين لك بعد ذلك أنه أحسن منك خلقاً، وأنه يصلي أكثر منك، وأنه يقوم الليل، وما منعه عن جماعة المسجد إلا العذر، فماذا يكون موقفك؟ لابد من معرفة أن المنكَر عليه قد أتى المنكر حقاً، أو فرط في المعروف حقاً. الشرط الثالث: ألا يُحدث تغييرك للمنكر منكراً أعظم منه. هذا هو المدرج في قواعد الفقهاء: أن دفع أكبر المفسدتين بأصغرهما من أوجب واجبات الفقه. رجل يشرب الخمر، ولكنه تركها وترك أهلها وصحبتها، ثم أقبل على التدخين وكله محرم، ولكن حرمة التدخين بالقياس، وحرمة الخمر بالنص، وما كان حراماً بالنص يقدم على ما كان حراماً بالقياس. ولذلك النظر إلى المرأة الأجنبية حرام، والزنا بها أشد حرمة، لكن شتان ما بين هذا وذاك، ولذلك دفع أكبر المفسدتين بأقلهما لا يعلمه إلا العالمون وأصحاب العقول السليمة، ولذلك قال الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]. فالله تبارك وتعالى ما حرم سب المشركين مطلقاً، وإنما حرم سب المشركين في وجوههم مخافة أن يسبوا الله عز وجل عدواً بغير علم؛ فترك مسبتهم وشتمهم ولعنهم في وجوههم هو من باب المحافظة على جناب الله، وعلى جلاله وكماله من أن ينتهكها هؤلاء المشركون. لو أن رجلاً ترك الخمر، وأقبل على التدخين، فنهرته كما كنت تنهر شارب الخمر، ثم أنت تعلم أنه لو ترك الدخان سيذهب إلى هذه الخمارات وإلى صحبته الأولى، فهل يجوز لك حينئذ أن تنهاه عن الدخان؟ A لا يجوز بإجماع العلماء؛ لأنه يغلب على الظن، أو على اليقين أنه يتركني والحالة هذه، ثم يذهب إلى المعصية الكبرى وهي شرب الخمر. ولذلك يروض العاصي برفق وبحنان، خصوصاً إذا كان من النوع الذي إذا نصحته: يا فلان لم تغضب؟ ولم تسب؟ ولم تلعن؟ ولم قلت كذا وكذا؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسلم بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش البذيء)، ثم أتيت له بأدلة من الكتاب والسنة، اعتدى عليك وعلى الكتاب والسنة، وعلى رسولك وعلى دينك وشرعك، دعه حتى تهدأ ثورته، ثم تخير الوقت المناسب وانصحه فيه. وهذا فقه عظيم جداً ينبغي أن يتمثله جميع المسلمين وخاصة طلاب العلم. الشرط الرابع: هل يشترط في الآمر والناهي أن يكون عاملاً بما يأمر منتهياً عما ينهى؟ هذا شرط محل خلاف بين أهل العلم، الراجح: أنه لا يلزم ذلك، ولا يشترط، ولذلك قيل للحسن البصري وهو من هو في العلم والورع والإمامة والعدالة، قيل له: يا إمام أكل ما تأمرنا به تعمله؟ قال الحسن البصري: ومن يطيق ذلك. و (ذهب أبو الدرداء إلى عائشة رضي الله عنهما وقال لها: يا أم المؤمنين! هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في كيت وكيت بشيء؟ فقالت: يا أبا الدرداء! أعملت بما علمت؟ قال: لا، قال: فماذا تفعل بازدياد حجة الله عز

أثر التوحيد في تزكية النفوس

أثر التوحيد في تزكية النفوس لقد خلق الله تعالى النفس البشرية وجعل لها سبلاً تزكو بها حتى تصل إلى مراتب الفوز والفلاح، ومن وسائل تزكية النفوس توحيد الله تعالى، واتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاعتصام بهما، وتحقيق معاني أسماء الله الحسنى، والابتعاد عن كل ما يغضب الله سبحانه، واستشعار رقابة الله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى.

إقسام الله تعالى بمخلوقاته العظيمة على فلاح من يزكي نفسه

إقسام الله تعالى بمخلوقاته العظيمة على فلاح من يزكي نفسه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. من حلف بغير الله فليقل لا إله إلا الله، هذا فيما يتعلق بالتشريع بالقسم واليمين، أما بالنسبة لله عز وجل فإن له أن يحلف بما شاء من مخلوقاته، أما الإنسان فلا يحلف بشيء من المخلوقات إنما يحلف بالخالق وصفاته، والخالق سبحانه وتعالى إذا أراد أن يقسم على شيء فهو -أولاً- لا يقسم إلا على شيء عظيم، فإذا أراد أن يقسم على شيء عظيم اتخذ خلقاً من خلقه كذلك هو عظيم. ولذلك لما أراد الله عز وجل أن يقسم على مسائل الإيمان والعمل الصالح قال: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، وهذا قسم، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، أي بني هذا الجنس، كل بني الإنسان في خسر، ثم استثنى من هذا الجنس: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]. وأقسم الله عز وجل بالتين فقال سبحانه وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:1 - 4]، فأراد الله عز وجل أن يبين لك أنك خلقت في أحسن تقويم، فأقسم على ذلك بشيء من مخلوقاته، وهو: التين، والزيتون، وطور سينين، والبلد الأمين، أقسم بهذا كله، لأجل أن يلفت نظرك أن ما سيأتي بعد هذا القسم أمر عظيم جداً وهو أنه خلقك في أحسن تقويم. وأقسم تبارك وتعالى بالفجر فقال سبحانه: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:1 - 5] ثم بين بعدد ذلك في بقية السورة الأشياء التي أقسم عليها في أول السورة. وهكذا إذا نظرت في كتاب الله عز وجل، كقوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ} [النازعات:1]، {وَالْمُرْسَلاتِ} [المرسلات:1] وغيرها من الأقسام، تجد بعد هذه الأقسام شيئاً عظيماً جداً لأجله أقسم المولى عز وجل. ولذلك لم يقسم الله تبارك وتعالى على شيء قسمه على النفس فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:1 - 8]، ثم يأتي بعد ذلك الغرض من القسم {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، فلأجل زكاة النفس ودسها أقسم الله في هذه السورة بالأيمان المتعددة التي لم يقسم على شيء قسمه عليها، ليبين الله تبارك وتعالى لك أن هذه النفس عظيمة جداً، ولأجلها أقسم بأيمان متعددة أنه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، فالنفس في الإنسان واحدة، لكن الإنسان يسعى لأجل زكاة نفسه، أو يسعى لدسها في التراب، وإرغامها في الوحل، ولذلك أخبر المولى عز وجل بعد أن أقسم مراراً، أن هذه النفس مَنْ حرص على تزكيتها، ونمائها، وزيادتها، وطهارتها، فهذا هو المفلح، وهذا هو الفالح، وهذا هو الناجح، وهذا هو الرابح، بخلاف من علم بمعصية الله، فجعل من نفسه التي كان بإمكا

معنى التزكية

معنى التزكية وإذا أردنا أن نعرف ما هي التزكية فلابد أن نعرف أن الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة، ولذلك قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ماذا تعمل: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فالزكاة إذا أخذت من المال كانت طهرة لهذا المال، كما أنها طهرة لنفس المزكي، يعني: هي طهارة وطهرة تعود على المزكي وعلى المال المخرج كذلك، فإن المال إذا كنزه صاحبه ولم يخرج زكاته لابد وأنه سيئول إلى زوال، بل ويتحول إلى نقمة يوم القيامة فيعظ صاحبه ويقول: أنت ضيعتني ضيعك الله عز وجل، أما إذا أخرج من هذا المال الزكاة فإن هذا المال يجعل بقية المال طاهراً نقياً يهنأ به صاحبه في الدنيا والآخرة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] أي وادع لهم: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، ولذلك يسن لجابي الزكاة أن يدعو للمزكي بالخير والبركة: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، أي: وادع لهم يا محمد، إن دعاءك خير وبركة تعود عليهم، أي: على أهل الزكاة. فالزكاة: هي النماء والزيادة، والمرء الذي زكت نفسه ونمت وارتفعت وعلت بطاعة ربها يشعر صاحبها أن روحه تحلق في السماء السابعة، تحلق تحت العرش وتحوم حوله، بخلاف من دس نفسه، وعمل بالمعصية، ولم يكترث باقترافه للذنوب والآثام، فإنه يشعر أن روحه في أسفل سافلين، تحوم حول الحشوش والأنتان، فشتان بين النفس الزكية، والنفس المدسوسة، فإذا أراد الواحد منا أن يزكي نفسه، وأن يعمل على نمائها، وأن يعمل على زيادتها، وأن يعمل على صلاحها، وأن يعمل على رفعتها، فلابد أن يسلك طريق الطاعة، وطريق الطاعة له سبل، وأسس، وقواعد، ينبغي أن يتخذها لنفسه أولاً بأول.

أساس تزكية النفس توحيد الله تعالى

أساس تزكية النفس توحيد الله تعالى فأول أساس وقاعدة تزكو بها النفس ويلزم صاحبها أن يتبع ذلك إنما هو توحيد الله تبارك وتعالى، فالتوحيد الخالص لله عز وجل هو الذي تزكو به النفوس، ولذلك شتان بين نفس المشرك أو المنافق أو الفاسق، وبين نفس المؤمن الكامل الإيمان، فإن نفس المشرك في أسفل سافلين، وأما نفس المؤمن فهي في أعلى عليين، ولذلك هناك أسس عملية لتزكية النفس، ويسبقها أسس عقدية، وهذه الأسس العقدية التي تلزم لتزكية النفس هي: توحيد الله عز وجل، والاعتصام بالكتاب والسنة -أي: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم- وكذلك: الإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان باليوم الآخر، هذه أسس اعتقادية ينبغي على المرء أن يحققها؛ بتوحيده لله عز وجل التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة الشرك ولا الفسق، وهذا هو الذي قام بهذا التوحيد، لابد وأنه قد حقق معنى لا إله إلا الله، ومن اعتصم بالكتاب والسنة، لابد وأنه قد حقق المتابعة، والانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشق الثاني من شهادة التوحيد وهي: شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلابد وأن نؤمن بمعنى (لا إله إلا الله)، وكذلك لابد أن نؤمن بمعنى (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالأولى تقتضي تمام التوحيد لله عز وجل، والثانية تقتضي تمام الاتباع والانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعد ذلك الإيمان بالقضاء والقدر، فلو أنك علمت يا عبد الله أن كل شيء مقدر من عند الله عز وجل، الخير والشر من عند الله، لهنأ بالك، وتحقق عندك الحديث: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)، فالمؤمن هو الذي إذا أصابته نعمة من عند الله حمد الله عليها، وإذا نزل به البلاء حمد الله كذلك؛ لأن الله عز وجل قال في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، إن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة). فلعلك -يا عبد الله- لا تدري ما البلية التي نزلت بك، فربما كانت تحمل بين طياتها منحة من الله عز وجل، واعلم إن كنت صاحب ذنوب فمن مصلحتك في الدنيا والآخرة أن تبتلى وأن تصبر على هذا البلاء، حتى يكفر الله عنك الذنوب والخطايا، وإن كنت صاحب طاعة -بينك وبين المعصية بعد المشرقين- فاعلم أن البلية التي نزلت بك إنما هي منحة من الله عز وجل؛ ليرفعك بها ويرفع درجاتك كذلك، فأنت في خير وفي نعمة على كل حال، لكن هذا لا يتحقق إلا للمؤمن الذي حقق التوحيد والمتابعة للنبي عليه الصلاة والسلام. وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام هو أتقى الخلق، وأحسن الخلق على الإطلاق، ومع هذا فقد ابتلي، ونزلت به المصائب تترا، هل لأنه عصى الله؟ معاذ الله أن يكون كذلك ولكن الله تعالى رفعه بتلك المصائب والبلايا فوق العالمين في الجنة، كما رفعه في الدنيا؛ لماذا؟ لأنه قد زكت نفسه، وعمل وحرص طيلة حياته -حتى قبل البعثة- على زكاة نفسه، وعلى توحيد ربه، ألا تدرون أنه كان يخلو في الغار يعبده سبحانه وتعالى؟ لماذا؟ كل هذا طهارة للنفس، وزكاة لها. فالنبي عليه الصلاة والسلام زكى نفسه، وعمل طيلة حياته على تزكية نفوس أصحابه، ولذلك نقرأ ونسمع عنهم العجب العجاب، في قيامهم، وذكرهم وتسبيحهم وتهليلهم، وإنما ذلك كله بسبب زكاة نفوسهم، ولو كانت خبيثة -معاذ الله- فما الذي كان يقربهم إلى الله عز وجل هذا القرب، ويدنيهم منه هذا الدنو؟ فالبون شاسع بيننا وبينهم؛ لأنهم قوم عملوا على زكاة أنفسهم، ونحن قوم حرصنا كل الحرص على أن ندسها في التراب، وأن نرغمها في الوحل، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فالتوحيد الخالص لله عز وجل هو العامل الأساسي في زكاة النفس، ورقيها وعلوها، وطوافها حول العرش، ولذلك يعرف ابن تيمية عليه رحمة الله العبادة بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، فكل ما يحبه الله ويرضاه فهو عبادة، وكل ما يبغضه الله ورسوله فهو معصية نهى عن الاقتراب منها وعن ارتكابها.

أثر التزكية في تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى

أثر التزكية في تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى والتزكية في بدايتها ونهايتها لا تخرج عن مقام تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل؛ لأن المرء لو علم الحلال والحرام؛ فأتى الحلال واجتنب الحرام، فهذا منتهى الطاعة، ومنتهى العبودية لله عز وجل، فهذا الذي يؤدي بالعبد إلى زكاة النفس، وهنا نقول: إن تزكية النفس تساوي العبودية الكاملة لله عز وجل، وإنما يتحقق ذلك بالحرص على إتيان الواجبات، والمستحبات، والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، والقيام بتحقيق توحيد الله عز وجل وعدم إدخال الشرك أو أي شائبة شرك في هذا التوحيد الخالص لله عز وجل. ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21]، لتعلم أن تزكية النفس إنما هي من الله عز وجل، ولكن ليس معنى ذلك أنك تترك أسباب هذه التزكية، بل إذا علم الله تبارك وتعالى منك الحرص والرغبة الصادقة في زكاة نفسك أعانك على ذلك، فكانت هذه التزكية مخلوقة لله عز وجل، ولكنك كنت سبباً في جلبها، أي: في جلب هذه التزكية وهذه المنفعة من الله عز وجل، ولذلك قال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، فهذه التزكية فضل من الله ورحمة، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21]، وقال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، فالشيطان هو سبب في دس النفس وخبثها، والله تبارك وتعالى إنما أمرك بتزكية نفسك فلابد أن تسعى للأسباب المحصلة لهذه التزكية، ولذلك لا يتصور أن يقول عبد: ما دام الخير والشر من الله عز وجل، فإنني أرغب في الخير ولكنني لا أسلك له مسلكاً؛ رجاء أن يمن الله علي ابتداء، فنقول: إذا صح عندك أنك تتمنى الولد دون زواج، أو تتمنى المال دون عمل، لو صح عندك هذا فإن الجنون قد أصابك، إذ كيف تتمنى أن يكون لك ولد ولم تسع للزواج ولم يكن لك زوجة؟! لا يقول بذلك إلا إنسان مجنون؛ أنه يتمنى على الله الولد، فإذا تيسرت له سبل الحصول على الولد قال: لا أنا لا أريد الزواج، ولا أريد الارتباط بامرأة ولكني أريد الولد، وجلس في بيته ينتظر الولد من الله عز وجل. هذا خبل وجنون! بل لابد وأن تسعى في إعداد بيت سوي، حتى ينتج عندك في النهاية ولد صالح من جراء تلك الأسرة، فلابد من اتخاذ السبب.

ثمار الإيمان بالغيب في تزكية النفس

ثمار الإيمان بالغيب في تزكية النفس فكذلك إذا أردت أن تزكي نفسك فلابد وأن تسعى في تحصيل هذه التزكية، وعلى رأسها توحيد الله تبارك وتعالى، وكذلك أركان الإيمان فهي سبب عظيم جداً في تزكية النفس؛ لأنها أمور غيبية، والنفس إذا كانت خبيثة فإنها لا تؤمن بالغيب؛ أنتم تعلمون أن هناك من ينكر عذاب القبر، بل من المسلمين من ينكر البعث والحساب والنشور، ومن الناس من ينكر الجنة والنار، وهم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان؛ لأنهم فقدوا أعظم ركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالغيب، الإيمان باليوم الآخر، نعم هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان. وقد لقيت رجلاً يقول: إن هذا القرآن ألفه محمد، ولذلك: أنا آخذ من هذا القرآن ما يحلو لي وأدع ما لا يحلو لي. قلت: وكله كلام الله، قال: لا، بل كله كلام محمد! قلت: ما اسمك؟ قال: هشام، قلت: هشم الله قلبك قبل رأسك، فإنك قد بلغت ما لم يبلغه أبي بن خلف، وإنك قد بلغت ما لم يبلغه فرعون، قد أنكرت كتاب الله عز وجل، فهل بعد هذا من كفر؟ ولذلك في حديث جبريل الطويل: (قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره)، وفي رواية أخرى بزيادة: (وأن تؤمن بالبعث، وبالحساب، والجنة، والنار)، وغير ذلك من أمور الغيب لو أن مسلماً أنكر أمراً من هذه الأمور اليقينية القطعية، فكيف يكون مسلماً، وهذه كلها أمور غيبية؟ فالله تبارك وتعالى بالنسبة لنا غيب، فهل يؤمن به ذلك الجاحد؟ إذا أقر بوجود الإله سبحانه وتعالى فلابد أن يصدق كلامه، ويؤمن بخبره كذلك، ولكنه يأخذ ما حلا له، وهذا يخرم الإيمان في الصميم، ويفسد الإسلام على صاحبه، فيخرج من ملة الإسلام، ويدخل في الكفر من أوسع الأبواب؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة. ولذلك كانت أصول الإيمان مسألة عظيمة جداً، فأنت تؤمن بالنبي محمد ولم تره، هذا إيمان عظيم جداً، وتؤمن بالكتب السابقة ولم ترها، أو رأيت بعضها ولم تر البعض، مع أنك مكلف أن تؤمن بجميع الكتب، ما علمت منها وما لم تعلم، ومكلف كذلك أن تؤمن بالرسالات وبالرسل والأنبياء، وبالقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله عز وجل، فإن تقاعست وتأخرت عن هذا الإيمان ولم تحققه أتم تحقيق، فلابد وأنه ينخرم إيمانك ويبطل إسلامك، ولذلك فإن الإيمان بأركان الإيمان، ابتلاءات عظيمة جداً من الله عز وجل؛ لينظر هل تتوقف في الإيمان بها، أم تسارع وتبادر بتزكية نفسك، واعتناق ذلك واعتقاده أحسن اعتقاد، وأن تجزم على ذلك قلبك؟ ولذلك أيها الإخوة الكرام! إن توحيد الله عز وجل هو أزكى ما يمكن أن يعتقد العبد ليصلح به نفسه، ولذلك قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص:65 - 66]، وفي الحديث الشريف حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، كان أول ما أمره بالإيمان بالله، وتوحيده، فقال: (يا معاذ إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، لأنهم اعتادوا أن يعبدوا آلهة متعددة، أن يعبدوا عيسى، وأن يعبدوا عزيراً، وأن يعبدوا معبودات أخرى من دون الله عز وجل، فكونك تأتي وتهدم هذه الآلهة، وهذه الأصنام والأوثان، وتقول لهم: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73]، فلا شك أن هذا ضرب في صميم عقيدتهم، ولذلك قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].

التوحيد أول دعوة الرسل وأول ما افترض الله على عباده

التوحيد أول دعوة الرسل وأول ما افترض الله على عباده قال الإمام ابن القيم: التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى، فتوحيد الله تبارك وتعالى هو أحسن وأولى ما افترضه الله عز وجل علينا؛ لأن المرء يزكي نفسه بالتقرب إلى الله بكل ما افترضه عليه، ولذلك لا يمكن أن تتقرب إلى الله بأحسن مما فرض عليك، وفوق هذه الفروض كلها فرض التوحيد، فإن كنت موحداً صحت أعمالك، وإن كنت مشركاً فسدت أعمالك وإن كنت صالحاً في ذاتك، فلو أن المرء كان مخلصاً موحداً نفعه بعد ذلك العمل الصالح، من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وغيرها من الأعمال الصالحة، وإن كان المرء مشركاً فمهما صلى، وصام، وزكى، وحج، فلا يمكن أن ينتفع بذلك؛ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، فكل عملك حابط ذاهب ما دمت لم تحقق معنى التوحيد لله عز وجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا): أي: شركاء مثلاء، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): أن هذه الأنداد وهذه الأصنام وهذه المعبودات، إنما هي معبودات زائفة، والإله الحق هو الله تبارك وتعالى. وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء. قال: إلى من تلجأ إذا نزل بك الضر؟ قال: إلى الذي في السماء). نعم هم لا يلجئون إلى الله تعالى إلا إذا نزلت بهم البلية العظيمة، أما في وقت الرخاء فإنهم يقعون في الشرك من أوسع أبوابه، فقال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17].

دور النفس في جلب التزكية

دور النفس في جلب التزكية هذا الإله خلق الخلق أجمعين، فهل أحد من الخلق خلق شيئاً؟ A لا، أفلا تذكرون، أفلا تعقلون أيها الناس! ولذلك جاء عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: يا فلان من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ من خلق كذا وكذا؟ فتقول: الله، فيقول: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟ قال: فإذا بلغ الشيطان ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا). فاستعيذوا بالله: أي قولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وانتهوا: أي جاهدوا أنفسكم على دفع وطرد هذه الوسوسة، وهذا يدل على أن للنفس والقلب عاملاً كبيراً جداً في جلب التزكية، ودفع المضرة، قال: (فاستعيذوا بالله وانتهوا) فأسند إليك فعل الانتهاء: وهو مجاهدة النفس في دفع هذه الوسوسة وهذا البلاء الذي تسلط به الشيطان على القلب والنفس. وفي رواية أخرى بزيادة: (قل آمنت بالله ورسوله)، ولذلك هذه الأسلحة الثلاثة هي التي يحارب بها العبد الشيطان: أن يكون موحداً لله، مستعيذاً به، لاجئاً متضرعاً إليه في السراء والضراء، وأن تجاهد نفسك في دفع هذه الوساوس، وكذلك أن تقر وتعترف بالإيمان بالله ورسوله وتقول: (آمنت بالله ورسوله).

موت القلب بالشرك والكفر

موت القلب بالشرك والكفر قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:18 - 21] مع أنهم يمشون في الأرض، ولكنهم في حكم الأموات؛ لأنهم كفروا وجحدوا نعمة الله، وجحدوا خلق الله، وادعوا الخلق لأنفسهم، ولذلك رماهم الله تبارك وتعالى بموت القلب، قال تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:21]، فقلب الكافر قلب ميت وإن كان حياً يمشي على الأرض؛ لأنه لما جحد الخالق وجحد الإله، استحق أن يضرب تبارك وتعالى قلبه بالران الذي لا يعرف معه معروفاً ولا ينكر به المنكر، بل ربما أمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وهذا غاية الضلال، وغاية الختم على القلب، حتى لا يرى بعد ذلك خيراً ولا يرى إلا الشر. قال تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:21 - 22]، يبين أن السبب الذي وقع فيه الكفار، وختم على قلوبهم أنهم لم يحققوا التوحيد، فنصح الله تبارك وتعالى أولياءه وعباده بأن إلهكم واحد، {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22]، وآيات القرآن الكريم حافلة بالرد على أهل الكتاب الذين نسبوا لله تبارك وتعالى الولد والزوجة، فقال الله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} [الأنبياء:22] أي في السماوات والأرض، {آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22]، وقال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]؛ لأنه لو كان في الأرض والسماء إلهان لتمنى كل إله أن يرتفع على صاحبه: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]، تمنى كل إله أن تكون له الغلبة، والقوة، والسطوة، والقدرة، فكانت هناك منافسة، وإذا كانت هناك منافسة فلابد وأن تفسد السماوات والأرض، ولذلك قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى هو إله السماوات وإله الأرض، كذلك هو الآمر والناهي والحاكم فيهما بما يشاء وبما يريد.

تركيز القرآن على تثبيت العقيدة

تركيز القرآن على تثبيت العقيدة وأبرز ما تركز آيات القرآن الكريم على تثبيت عقيدة التوحيد، وإيقاظ الفطرة في قلوب العباد، فالإنسان إذا انطمست فطرته وأظلم قلبه انحرف عن التوحيد وادعى الاستغناء عن خالقه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس:22]، فإذا نزلت السفينة في عرض البحر أتتها ريح عاصف تقصف بها وتغرقها: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22] أي عندما نزل بهم الضر دعوا الله مخلصين غير مشركين، لا يدعون الآلهة إنما يدعون إلهاً واحداً؛ لأنهم في موطن الخطر يقرون ويعترفون أن الله تعالى إله واحد: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]، أي: أنهم في موطن الخطر يلجأون إلى الله عز وجل. بل هذا ليس للمشركين وحدهم ولكن حتى المسلمين كذلك؛ فالواحد منا لا يلجأ إلى ربه بالدعوات الحارة إلا إذا نزل به الضر، ولا نلجأ إلى الله تعالى لجوء صدق إلا إذا بكينا بحرقة؛ لأننا في موطن الخطر، فلجأنا إلى الله تبارك وتعالى بصدق، فكذلك الكفار: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} [يونس:22] أي من هذه العاصفة وهذا الموج الذي أتانا من كل مكان {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22] فنشكرك، {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:23]، والله تباك وتعالى يعلم أنهم لا يشكرون، وإنما يبغون ويفسدون بغير الحق، ولكن ليقطع عليهم الطريق أنهم دعوا الله أن ينجيهم فيكونوا له من الشاكرين فلم يفعل الله عز وجل، ففعل ليقطع عليهم الحجة: أن قد أنجيتكم من العذاب، والهلاك، والغرق، ومع هذا لم توفوا أنتم بما وعدتم، لم تشكروا ولكنكم كفرتم وبغيتم وأفسدتم في الأرض بغير الحق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23] عقاباً لكم: {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23].

نماذج قرآنية على فضل التوحيد ونبذ الشرك

نماذج قرآنية على فضل التوحيد ونبذ الشرك فالإنسان في حالة الرخاء، قد ينسى نعمة الله عليه فيجحدها أو يكفرها، والقرآن قد ذكر نماذج عظيمة تدل على فضل توحيد الله ونبذ الشرك، وأن التوحيد هو السبب الأعظم للنجاة من كل بلية ومصيبة، وهو التكليف الأشرف الذي شرف الله عز وجل به العباد.

التوحيد شجرة طيبة

التوحيد شجرة طيبة ففي النموذج الأول قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]. الشجرة إذا استحكمت جذورها في الأرض وامتدت، وعلت فروعها في السماء فمن يخلعها؟ الأمر في غاية العسر، وفي الغالب أن الشجرة إنما تقطع قطعاً من سطح الأرض، أما جذرها فهو ثابت في الأرض؛ لأنها مستحكمة كالكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة كما يقول ابن عباس في هذه الآية: هي قولك لا إله إلا الله، أي: لا إله ولا معبود بحق إلا الله، وإلا فالمعبودات والآلهة كثيرة جداً؛ لكنها كلها مزيفة إلا إلهاً واحداً، وهو الله سبحانه وتعالى. فقولك: (لا إله) نفي لجميع الآلهة، (إلا الله) إثبات لإله واحد وهو الإله الحق سبحانه وتعالى. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم:24 - 26] وهي الشرك، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] ليس لها أصل، فالباطل لا أصل له، وأما الكلمة الطيبة فـ {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]، ولذلك الكلمة الطيبة باقية دائمة، والكلمة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض ليس لها قرار ولا ثبات ولا تمكين في الأرض، فلذلك ضرب الله عز وجل للتوحيد مثلاً بالشجرة الطيبة، وضرب للشرك مثلاً بالشجرة الخبيثة ليس لها قرار، فالشرك سرعان ما يزول، أما التوحيد إذا تمكن من قلبك فإنه يرفع نفسك ويزكيها إلى السماء، فتشعر أنها تحلق تحت العرش: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

حال المشرك في الدنيا والآخرة

حال المشرك في الدنيا والآخرة والنموذج الثاني قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30 - 31]. انظر إلى هذا المثل العظيم للإيمان والكفر، للتوحيد والشرك، يقول تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]؛ لأن هذا يؤدي إلى الشرك. ما هي النتيجة وما هي الثمرة لو فعلتم ذلك؟ كنتم: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ} [الحج:31]، لو أنكم اجتنبتم الرجس من الأوثان، وعبادة الأصنام، والأزلام، فإنكم قد حققتم توحيد الله أعظم تحقيق. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:31]، لو أن رجلاً خر من الدور الثاني، أو الدور الثالث، أو الدور الرابع، فوقع على أم رأسه، فما الذي يحدث له؟ سيموت ويقبر، فما بالكم بمن يخر من السماء؟! وفي الحديث: (أن بين السماء الدنيا وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام للراكب المسرع)، تصور أنك تهوي من السماء -على فرض أنها السماء الدنيا وليس السابعة- على أم رأسك مسيرة خمسمائة عام في هذا الطريق الطويل، ثم بعد ذلك: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، بعيداً في الأرض، في الظلمات التي لا يمكن بعد ذلك أن يرى له معها أثر، هذا مثل لخبث الشرك وأنه يفعل بصاحبه هكذا، وإن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.

انشراح صدر المؤمن وضيق صدر الكافر

انشراح صدر المؤمن وضيق صدر الكافر والنموذج الثالث: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، هذه إرادة دينية شرعية، من أراد الله عز وجل له الهداية شرح صدره للإسلام، فقبله بتكاليفه، وأحكامه، وفرائضه، وسننه، ومستحباته، ومندوباته، كل ما ثبت لديه عن الله وعن رسوله قال: على العين والرأس، سمعاً وطاعة: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، فشعار المسلم أن يرفع لواء الحمد ولواء السمع والطاعة لله عز وجل، لا يقول في شيء شرعه الله: لم وكيف؟ لأن (لم وكيف) تودي بالعبد إلى الشك في أوامر الله وفي أخبار الله عز وجل، مما يؤثر على حسن إيمانه وتوحيده، إن لم يؤثر على أصل الإيمان والتوحيد. نعم، ينبغي على المرء أن يعبد الله تبارك وتعالى على مراد الله، لا على مراده هو، إذا شرع الله عز وجل لك الظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً، فلا تقل: لماذا شرع الله هذا، ولم اختلف العدد من المغرب إلى الظهر؟ هذه حكمة الله تبارك وتعالى، وأنت تعلم أن من أسمائه الحسنى أنه الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه بحكمة وعدل وإنصاف، فإن الله تبارك وتعالى لما شرع لك شرعه بين لك بعض الحكم من بعض الأفعال، وبعض الأقوال، وبعض الأوامر والنواهي، وأخفى عليك بعض الحكم أو جُلَّ الحكم؛ لينظر: هل تؤمن بها أم لا؟ فهناك أحكام وأمور تعبدية ينبغي للمرء إذا خفيت عنه الحكمة منها أن يقول فيها: سمعنا وأطعنا، إذا ثبت أن هذا دين الله وشرعه فعلى العين والرأس، وملء القلب كذلك، نعم ينبغي للمرء إذا خفيت عنه الحكمة أن يقول فيها: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]، إذا ثبت أن هذا دين الله وشرعه فعلى العين والرأس، وملء القلب كذلك. نعم؛ ينبغي للمرء أن يأخذ شرع الله بالتسليم المطلق، والانقياد والإذعان التام له سبحانه وتعالى، فإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك قد حققت التوحيد الكامل لله عز وجل. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، لم يقل: ليصْعَد، وإنما: يصَّعَّد؟ وهذا من شدة المبالغة وقوة المبالغة. {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ} [الأنعام:125]، كيف يصعد في السماء؟ إن علماء الطبيعة يقولون: إن الذي يريد أن يصعد في السماء كلما صعد شيئاً ضاق نفسه، خاصة إذا اخترق هذا الحجاب أو الطبقة التي فيها الأكسجين، ودخل في الطبقات الأخر حيث يقل فيها الأكسجين، فهو يشعر أن قلبه وروحه يقتلعان من بدنه ويخرجان منه، فهو يشعر بضيق كما قال الله تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]. والله تبارك وتعالى إذا علم من العبد أنه يريد الهدى هداه، ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، ولكن ليعلم الله تبارك وتعالى منك صدق الإخلاص واللجوء إليه، وأنك حقاً تبحث عن أسباب الهداية، وأسباب التقوى؛ فإذا كان كذلك، وعلم الله تبارك وتعالى منك الصدق في ذلك يسر لك أسباب الهداية وأسباب التقوى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} [محمد:17]، لابد أن يأتي منك البحث عن السبب، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].

أعمال الكفار سراب وهباء

أعمال الكفار سراب وهباء النموذج الرابع: قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]. يأتي عمل الكافر يوم القيامة هباء منثوراً، وهو يظن أن له أعمالاً عظيمة جداً، ولكنه إذا أتاها ونظر إليها يوم القيامة وجدها لا شيء، {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:39 - 40]. النور من الله عز وجل، فإذا كنت حريصاً وتزداد حرصاً على أن تحصل أسباب النور والهداية، منحك الله الإعانة على ذلك، أما إذا أطلقت لنفسك العنان للوقوع في الكفر والإلحاد، والإنكار، وسب المولى عز وجل، وسب الرسول، وسب الدين فإن الله تبارك وتعالى يجعل صدرك ضيقاً كما قال تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].

مثل المشرك كالعبد المشترك بين رجلين متشاكسين

مثل المشرك كالعبد المشترك بين رجلين متشاكسين المثل الخامس: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29] هذا مثل رغم قلة مبناه، إلا أنه عظيم المعنى جداً، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ} [الزمر:29] عبد اشترك فيه اثنان، كل واحد يملك نصفه، فهو عبد للاثنين، إذا قال له أحدهما: قم، قال له الآخر: اجلس، إذا قال له أحدهم: لا تفعل، قال له الثاني: افعل، أي حيرة يقع فيها ذلك العبد؟ حيرة عظيمة جداً، وطاعته لهذا السيد وذاك واجبة، وليست طاعته لأحدهما بأولى من طاعته للآخر، فإذا أمره واحد بأمر أمره الآخر بعكس ذلك، فهذا العبد في حيرة عظيمة وشقاء وتعاسة. هذا مثل المشرك الذي أشرك مع الله تعالى آلهة أخرى؛ فإن الله أمره بالخير، والإيمان، والتوحيد، والصدق والعفاف، والنقاء، والصلاة، والصيام، والزكاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر الطاعات. ولو أنه عبد مع الله الشيطان فهل يأمره الشيطان بما أمره به الله تعالى ورسوله؟ A لا، لابد وأن يأمره الشيطان بضد ذلك وخلافه، فكيف يستقيم للعبد حينئذ أن يطيع مولاه وسيده الذي في السماء وأن يطيع الشيطان؟ كيف يتسنى للعبد أن يرضي الله تبارك وتعالى مع أن ما يرضي الله لا يرضي الشيطان، والعكس بالعكس، كيف ذلك؟ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ} [الزمر:29]، ويا ليتهم شركاء متفقون، بل هؤلاء شركاء متشاكسون، كل منهم يقف لصحابه بالمرصاد، ربما يدور في نفس الشريك الأول أن يأمر العبد بشيء معين، ولكنه إذا علم أن الشريك يأمر بنفس الشيء الذي يدور في نفسه، أمره بغير ذلك، لماذا؟ لأنه مشاكس، معاكس، فهو لا يريد أن يتفق أبداً مع شريكه الثاني في ذلك العبد. {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:29] هذا العبد ملك لهذا السيد، وليس مع هذا السيد شريك آخر، هذا السيد يقول له: يا فلان افعل ولا تفعل: حاضر، قم ولا تقم: حاضر، كل ولا تأكل: حاضر، عبادة يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بها، بطاعة مولاه وسيده، فكذلك الله عز وجل له المثل الأعلى، لو أنك حققت العبودية الحقة لله عز وجل دون غيره من بقية الآلهة لكنت حريصاً كل الحرص على طاعة مولاك، وإن كانت هذه الطاعة فيها سخط الخلق أجمعين، لماذا؟ لأنك لا تحرص إلا على رضا الإله الحق سبحانه وتعالى. انظروا إلى هذا المثل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر:29]، لا يستويان، {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الزمر:29] أنهما لا يستويان {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].

حصر العبادة والاستعانة بالله عز وجل

حصر العبادة والاستعانة بالله عز وجل ولذلك حصر الله تبارك وتعالى عبادته والاستعانة والاستعاذة به فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قدم التحذير قبل الفعل، ولو قدم الفعل على التحذير لاحتمل غيره، ولم يقل: نستعين إياك، وإنما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: لا نعبد إلا أنت، ليس معك معبود آخر ولا نستعين إلا بك، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. فهذا أسلوب حصر قد حصر العبادة لله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، لأنك إذا قلت: نعبد إياك لجاز أن تقول: نعبد إياك وغيرك، لماذا؟ لأن هذا السياق لا يدل على الحصر، وإنما يدل على الاستيعاب، وهو قابل لأن يستوعب أشياء أخرى ومعبودات أخر، ولكن هذا السياق: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] معناه: ليس هناك معبود بحق إلا أنت، ولذلك لا نعبد إلا أنت، وكذلك لن نستعين إلا بك، فكذلك قد حصر الله عز وجل في هذه الآية الاستعانة به فقال: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ولو قال: ونستعين بك لجاز أن تقول: نستعين بالله وبغيره، ولذلك فإن تقديم لفظ: (إِيَّاكَ) يدل على الحصر، فإن الله تبارك وتعالى هو الذي يستعان به ويلجأ إليه ويتضرع إليه، ويعاذ به، وهو الذي يعبد دون غيره من المخلوقات. هذا بالنسبة لبعض النماذج التي وردت في القرآن الكريم، وإلا فالقرآن كله يدل على توحيد الله عز وجل، كل آية في كتاب الله تدل على توحيده تبارك وتعالى، وأنه الإله الحق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، ولذلك قال الكفار لنبينا عليه السلام، انسب لنا ربك؟ من هو؟ ابن من؟ زوجته من هي؟ أولاده من هم؟ انسب لنا ربك؟ تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، فأنزل الله عز وجل على نبيه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، فهو منزه عن الزوجة والولد، متفرد بالوحدانية سبحانه وتعالى، ليس هناك إله حق إلا هو سبحانه وتعالى، ليس له زوجة، وهو غير مولود وليس له ولد: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].

ثمرات التوحيد في تزكية النفوس

ثمرات التوحيد في تزكية النفوس أما إذا كنت موحداً لله عز وجل، فما ثمرة هذا التوحيد في تزكية نفسك؟ لا شك أن من حقق التوحيد لله عز وجل، وعلم أنه الإله الواحد، وأن هذا الإله متصف بصفات، هذه الصفات قد أوجب الله علي أن أؤمن بهذه الصفات، وأن هذه الصفات ليست مخلوقة لله عز وجل، وإنما هي تنقسم إلى: صفات ذات، وصفات أفعال. فصفات الذات: هي لازمة لذات الله عز وجل لا تنفك عنه، فإن الله تبارك وتعالى يرى، ويسمع، وهذه صفات لازمة لذاته تبارك وتعالى. وكذلك له صفات فعلية، كصفة الكلام، والمجيء، والمشي، والهرولة، وغير ذلك من الصفات؛ ولكن هذه الصفات فعلية، إذا أراد تبارك وتعالى أن يتكلم تكلم بما شاء وكيف شاء، فلا نقول: إن كلام الله مخلوق؛ لأن صفة الكلام ثابتة لله عز وجل، وكل صفاته وأسمائه ليست مخلوقة بل هي لازمة لذاته سبحانه وتعالى على القدر الذي يليق به سبحانه وتعالى، أي: على الكمال والتمام، فهنا إذا آمنت حق الإيمان بأن الله تبارك وتعالى من أسمائه الرزاق، وهو يرزق عباده فأنت مؤمن، ولذلك توحيدك لله عز وجل يستلزم أن تؤمن إيماناً جازماً بأسمائه وصفاته.

ثمرات التزكية الناتجة عن الإيمان باسم الله الرزاق

ثمرات التزكية الناتجة عن الإيمان باسم الله الرزاق ما هي ثمرة التزكية اللازمة والناتجة عن إيماني بأسماء الله وصفاته؟ ضربت مثلاً: لو أنني علمت أن الله تبارك وتعالى الرزاق ذو القوة المتين، وأن خزائن السماوات والأرض بيده، وأن الرزق في السماء لا في الأرض، فعلام أخاف إذاً؟ الرزق بيد الله، ليس بيد أحد من الخلق. والبعض من الناس إذا سئل: هل أنت تؤمن بالله؟ وتؤمن بأن الأرزاق بيد الله؟ فيقول: نعم. ولكن إذا قال له مديره أو رئيسه: يا فلان أنت قد تغيبت فوق الحد القانوني لك، ولذلك أنا سأفصلك من العمل، يأتي في آخر اليوم قد ارتعدت فرائصه، وعندما يسأل: لماذا يا فلان؟ يقول: لأن فلاناً سيقطع عيشي، سيقطع رزقي! وهل رزقك بيد ذلك الرجل؟ أنت وهو والخلق أجمعون في قبضة الله عز وجل، والرزق كله بيد الله، فكم من عامل ترك عمله رغماً عنه بقدر الله، وفي اليوم الثاني رزق بعمل در عليه من المال عشرات أضعاف ما كان يأتيه من العمل السابق: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17]. والله تبارك وتعالى يمن على عباده؛ لأنه صاحب المنة والفضل على عباده، لئلا يكفروا، ولذلك قال الله في كتابه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، ولم يقل: ورزقكم في السماء، وإنما قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22] لأن تقديم شبه الجملة المكون من الجار والمجرور يدل على الحصر، وأصل الجملة: رزقكم في السماء، لكن الله عز وجل لو كان ساق هذا السياق، لاحتمل اللفظ أن يكون رزقك في السماء وفي غير السماء، ممكن أن يكون في يد المدير أو في يد الزعيم، ولكن الله تبارك وتعالى حصر الرزق عنده فقط، فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22]، حتى لا تتوهم القلوب والأنفس أن هذا الرزق بيد غير يد الله عز وجل. قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22]، يعني: فليس هناك رزق إلا وهو في السماء، فجميع الأرزاق مصدرها من عند من بيده خزائن السماوات والأرض، ولا يمكن أبداً أن يكون الله خالقاً للخلق أجمعين ويجعل أرزاق الخلق في يد غيره فيضيعوها، ولذلك حصر الرزق بيده سبحانه وتعالى.

الخوف على الرزق يجب أن لا يقعد بنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الخوف على الرزق يجب أن لا يقعد بنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، ويأمر بكتب أربع كلمات: أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد)، يعني: أن رزقك وعملك مكتوبان، وهذا أكثر شيء يخاف عليه الناس. وبعض الناس تقول له: يا فلان: هل ستأتي لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ فيقول لك: يا أخي دعنا نربي الأبناء، هذا الزمن لا يسمح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا خذلان وانتكاسة للقلوب؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط في زمن من الأزمان، بل هو واجب في حق كل واحد على قدر ما يستطيع. وفي حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، فإذا لم أستطع بيدي فبلساني، فإذا لم أستطع بلساني فبقلبي، وهل من المعقول ألا يستطيع أحد أن ينكر المنكر بقلبه؟ أنا لو مررت على أناس يعصون الله تبارك وتعالى، فإذا لم أستطع أن أغير هذا المنكر بيدي ولا بلساني، أليس في مقدوري ألا ألقي عليهم السلام؟ أليس بمقدوري أن أعبس ويتغير وجهي إذا نظرت في وجوههم؟ أليس بمقدوري أن أبغض ذلك من قلبي على الأقل، حتى تكون هناك براءة أمام الله عز وجل. لو أنك جلست مع قوم سوء فخاضوا في الغيبة والنميمة، ولم يكن في مقدورك أن تبدل وأن تغير هذا الحال؛ أليس بمقدورك أن تنصرف أنت عن هذا المنكر؟! لذلك يقول أهل العلم: إذا لم تستطع أن تنهي المنكر فأعرض عنه، هذه كلها أمور ينبغي أن يعقدها المرء في قلبه، ويتقرب إلى مولاه بها.

من تزكية النفس: طلب الرزق بالطاعة

من تزكية النفس: طلب الرزق بالطاعة في الحديث: (أن روح القدس) أي جبريل عليه السلام، (نفث في روعي) أي في نفسي، (وقال: يا محمد، اعلم أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، واعلموا أنما عند الله لا ينال إلا بطاعته). فإن كنت مطيعاً لله عز وجل ساق إليك الخير، وإن كنت كافراً جاحداً مشركاً ربما ساق إليك الخير أكثر من المؤمن الموحد، ولكن هذا حظك ونصيبك في الدنيا، والله تبارك وتعالى حكم عدل، ولذلك اغتر الناس بأن الله من على الكافرين والملحدين والمشركين بنعم عظيمة جداً، وفتح عليهم بفتوحات الدنيا من أولها إلى آخرها، يقولون: إن الله تبارك وتعالى ما من عليهم بهذا إلا لحبه إياهم، وهذه انتكاسة أخرى عظيمة، فإن الله عز وجل إنما يفتح بأبواب الخير الدنيوية على الكفار والمشركين؛ لأن هذا جزاء أعمالهم في الدنيا، فإذا أتوا على الله عز وجل يوم القيامة فليس لهم عنده حظ ولا نصيب. أما المؤمن فحظه الأوفى ونصيبه الأوفر عند الله عز وجل؛ لأنه قد أعد له في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولو كانت النعم العظيمة والمال الوفير ممدوحاً عند الله، لكان أول من كان غنياً وثرياً الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، بل قد ورد أن معظم الأنبياء كانوا فقراء، كانوا يعملون ويكدون ويتعبون ويأكلون من كسب أيديهم، ومن عمل أيديهم، كنبي الله داود، وزكريا، ومحمد عليه الصلاة والسلام، فإنه كان يرعى الغنم والإبل وغير ذلك ليتكسب ويقتات ويأكل من عمل يده.

من تزكية النفس: التذلل لله عند الغنى والفقر

من تزكية النفس: التذلل لله عند الغنى والفقر إذاً: هذا المال ابتلاء من الله عز وجل فلو أن الله عز وجل رزقك إياه فاجأر إليه أكثر مما لو كنت فقيراً، ويكفي: (أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً)، وفي رواية أخرى: (أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم)، أي بخمسمائة عام، لأن المرء لا تزول قدمه يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن علمه، وعن ماله، وعن عمره، وعن شبابه، فيسأل عن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، فصاحب الملايين سيقف أمام الله عز وجل يوم القيامة، ويسأله: من أين اكتسبت هذا الدينار، وفيم أنفقته؟ ثم من أين اكتسبت الدينار الثاني وفيم أنفقته؟ ثم الدينار الثالث والرابع وهكذا وهذا عذاب، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، يعني مجرد أن يقول الله: لم فعلت، وكيف فعلت؟ فهذا عذاب، حتى وإن لم يعذبك، فمجرد أنه يناقشك فهذا عذاب. ولذلك جاء في حديث عبد الله بن عمر من طريق صفوان بن محرز عند البخاري ومسلم: (أن صفوان بن محرز اعترض عبد الله بن عمر أو أن رجلاً اعترض ابن عمر فقال له: أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول شيئاً في النجوى؟ قال: بلى، سمعته يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه: يا فلان، أتذكر ذنب كذا في يوم كذا وكذا؟ يقول: نعم يا رب. أتذكر ذنب كذا يوم كذا وكذا؟ يقول: نعم يا رب، حتى يوقن العبد أنه أشرف على الهلاك، فيقول الله تبارك وتعالى: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)، انظروا إلى هذه المحاسبة بين الخالق والمخلوق. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا سيحاسبه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، أي: ولو بنصف تمرة تقدمونها لله عز وجل. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (سبق دينار مائة ألف دينار عند الله عز وجل)؛ لأن الذي تصدق بالدينار تصدق به عن حاجة إليه، وأما الذي تصدق بمائة ألف دينار فهذا فائض عنده فلا يؤثر فيه، أما الذي يدفع الدينار مع حاجة ماسة إليه فهذا أعظم عند الله تعالى ممن يتصدق بمئات الآلاف عن ظهر غنى.

ثمرات الإيمان باسم الله الرقيب في تزكية النفس

ثمرات الإيمان باسم الله الرقيب في تزكية النفس إذا كنت تؤمن بأن الله تبارك وتعالى هو الرازق فاعقد على ذلك قلبك، واعلم أنه ما كان لك لن يأخذه غيرك، وما كان لغيرك فمهما بذلت من جهد فلن يصل إليك: ولو اجتمع الخلق أجمعون على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد قدره الله عليك، فاعلم إن ذلك من عند الله أولاً، ولكنه جعل هؤلاء أسباباً لمنع الرزق عنك، وإذا كان الله تبارك وتعالى يقدر لك الخير فلو اجتمع الناس على أن يمنعوا هذا الخير عنك لا يمكن لهم ذلك أبداً؛ لأنهم في قبضة المولى عز وجل، يصرفهم عنك ويخيب سعيهم ورجاءهم، فاعلم أنك في قبضة المولى عز وجل، وإيمانك بأن الله تبارك وتعالى هو الرازق لابد أن يظهر عملياً في حياتك. إذا كنت تعلم أن الله تبارك وتعالى هو الرقيب على عباده، وعلى أفعالهم وعلى أقوالهم، وجعل من الملائكة كذلك حفظة لأعمال الخير والشر، فإذا كنت تستشعر أن الله تبارك وتعالى يراك، وسيحاسبك، وهو قادر على عذابك، وأنه رقيب عليك مطلع على أعمالك وأقوالك، فإذا كنت حقاً مستشعراً لهذا فهل تقترب من الذنب والمعصية، إن سبب وقوعك هو عدم استشعارك بأن الله تعالى يراك، وهذا هو الإحسان لله عز وجل: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فلتكن هذه عقيدتك سواء كنت ترى الله، أو كنت لا تراه، فإن الله تبارك وتعالى لابد أن يكون داخلاً في اعتقادك وأنه يراك ويسمع قولك، بل ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما تحدث به نفسك، وما توسوس به نفسك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد. وإذا كنت تحقق معنى الرقيب في نفسك، فاعلم أنه ينبغي لك أن تقلع عن المعصية، ولذلك الذي يقع في المعصية لابد وأنه قد غاب عنه في حين المعصية أن الله رقيب، {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165]، و {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199]، وأن الله قوي جبار منتقم، غابت عنه هذه المعاني كلها، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزين وهو مؤمن). لا يمكن أن يزني العبد وهو مستشعر أن الله تبارك وتعالى يراه؛ فلو جيء بأجمل نساء العالم، ووضعت في غرفة، وبجوار هذه الغرفة غرفة أخرى قد أوقدت ناراً، وجيء برجل فرأى النار، ورأى تلك الحسناء فقيل له: ازن بهذه ثم اعلم أنك بعد فراغك من هذه الفاحشة ستلقى في الغرفة الأخرى، فلا يمكن أن تتحرك له شهوة أبداً؛ لأنه يرى العذاب أمام عينيه. فإذا استشعر العبد عذاب الله تبارك وتعالى الذي سيراه في الآخرة فلا يمكن أبداً أن يجترئ على المعصية، ولا يمكن أن يتخلف عن أداء الزكاة، ولا يمكن أن يؤخر الفرض إلى وقت الفرض الآخر، وإن الناس -وخاصة النساء- إنما يقدمون على معصية الله عز وجل لغياب الحساب عنهم؛ لأنهم لا يستشعرون أن الله تبارك وتعالى رقيب عليهم يحاسبهم ويعاقبهم، وهو شديد الحساب، سريع العقاب، فلما غابت عنهم تلك المعاني وقعوا في الفاحشة، ولكنهم لما أفاقوا من فعلتهم لجئوا إلى الله تبارك وتعالى، فرجع لهم إيمانهم مرة أخرى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)، فكل معصية يقدم عليها العبد لابد وأنها بسبب غفلة عند ذلك العبد. والمعاصي لها تأثيرات عظيمة جداً في قلب طالب العلم، وفي نفسه وذاكرته وعقله، فإنه كلما ازدادت معصيته قل علمه أو ذهب، أو لم يثبت في ذاكرته، ولذلك يقول الشافعي رحمه الله تعالى: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي ويقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فالتقوى ملازمة للعلم، والعلم ملازم لها، بل إن من ثمرة التقوى أن يعلمك الله تبارك وتعالى العلم الشرعي النافع، انظر إلى أسماء الله: الغفور، الرحيم، التواب، هذه الأسماء لو أنك استشعرت معانيها فما هو الأثر السلوكي في تزكية نفسك حينئذ؟ الأثر السلوكي أنك لا تقطع الرجاء بالله عز وجل؛ لأنه الغفور الرحيم، ولأنه التواب، فأنت ترجو من بيده المغفرة وبيده الرحمة وبيده التوبة، وتحسن به الظن أيما إحسان، ولذلك قال المولى عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)، وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً)، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا هو يحسن الظن بالله عز وجل)، ويقول الله تعالى كما في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي في فليظن بي ما شاء، إن خيراً فخير وإن شراً فشر). فعلينا أن نحسن الظن بالله عز وجل، ولكن حسن الظن لابد أن يحملنا على حسن العمل، ولذلك ليس هناك رجاء وحسن ظن إلا ولابد أن يسبقه عمل؛ لأن عائشة رضي الله عنها لما (تلت قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا

الإيمان بأسماء الله وصفاته يزكي النفوس ويرتقي بها إلى عليين

الإيمان بأسماء الله وصفاته يزكي النفوس ويرتقي بها إلى عليين أيها الإخوة الكرام! لابد من الوقوف عند كل اسم من أسماء الله عز وجل، وصفة من صفاته، واعتقادها إيمانياً، وعملياً كذلك، وبعض الإخوة الطيبين يخاف من الله تبارك وتعالى لدرجة اليأس والقنوط من رحمة الله، نعم هو اقترف ذنباً بل وقع في كبيرة، ولكنه تاب وعاد إلى ربه، وأناب إليه، ولكنه لا ينسى ذلك قط مما يؤثر على علاقته بالله عز وجل، فمن فرط يأسه من رحمة الله يترك العمل؛ لأنه إذا كان معذباً لا محالة، فلم العمل إذاً؟ وهذا كما حصل لذلك الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً وذهب إلى الراهب وسأله: هل لي من توبة؟ قال: لا، ليس لك توبة، فقتله هو أيضاً. فلابد من الإيمان بأسماء الله وصفاته، لأن الإيمان بأسماء الله وصفاته يجعل في النفس ملكة عظيمة تراقب المولى عز وجل، وتحاسب نفسها كل يوم، وأنتم تعلمون أن السلف -وهم الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون- كانوا يحاسبون أنفسهم أولاً بأول، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جبل من جبال العلم والإيمان، كان يحاسب نفسه، ويقول لها: يا نفس توبي، وهكذا نقل عن كثير من السلف أنهم كانوا يحاسبون أنفسهم، ولذلك قال عمر بن الخطاب: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا! فالواحد منا إذا حاسب نفسه دل ذلك على قوة المراقبة في قلبه، ولذلك يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: منذ أربعين سنة لم أتكلم بكلمة ولم أعمل عملاً، إلا وقد أعددت له بين يدي الله جواباً. كان السلف قبل أن يتكلموا أو يفعلوا؛ كانوا يحاسبون أنفسهم ليكون العمل خالصاً لله عز وجل، وعلى منهاج النبي عليه الصلاة والسلام، فالإيمان بأسماء الله وصفاته يرتقي بالنفس إلى أعلى عليين.

تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله وأثرها في تزكية النفوس

تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله وأثرها في تزكية النفوس ثم يأتي من بعد ذلك الاعتصام بالكتاب والسنة، أي تحقيق معنى أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، فالذي مضى هو تحقيق لقولك لا إله إلا الله، وهذا الذي سيأتي هو تحقيق لقولك: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما معنى أنك تؤمن بأن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول الله؟ إن محبتك لهذه الكلمة ليست بالقول، ولكنها بالقول والعمل، والعمل شيء مهم جداً، والعمل يقتضي أن تكون متبعاً، ومنقاداً، ومذعناً للنبي عليه الصلاة والسلام، كلما وصلك عنه خبر صحيح فإنه تشريع ودين في حقك يلزمك الإتيان به، ولذلك قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، أي فاتبعوا النبي محمداً {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].

الاعتصام بالكتاب والسنة وأثره في تزكية النفوس

الاعتصام بالكتاب والسنة وأثره في تزكية النفوس فالمحبة اتباع واقتداء، والمحبة اعتصام بالكتاب والسنة، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي بسند صحيح من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله عليه الصلاة والسلام موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله)، وهذه هي الوصية التي أوصى بها الله جميع أنبيائه، ورسله، وعباده الصالحين، كما أوصى الأنبياء والرسل أقوامهم كذلك، فإن خير ما يتقرب به العبد إلى ربه أن يكون متقياً له عز وجل، والتقوى لا يمكن أن تتحقق لديك إلا إذا عرفت من تتقي، وإلا فكيف يعرف بالله من لا يعرفه؟ وكيف يدل على الله أبعد الناس عنه؟ فلابد أن تعرف أولاً من تتقي، وماذا تتقي، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)، فسيرى فتناً مظلمة بعضها يأتي خلف بعض، وبعضها في إثر بعض، وهذا الذي نعيشه الآن، وما المخرج من هذه الفتن؟ قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) يعني: صاحبها في النار. هذا الحديث حديث عظيم جداً يحتاج إلى محاضرات لشرحه وبيانه، فالنبي عليه الصلاة والسلام، قد أوصى أصحابه، وأوصى أمته، أن يمتثلوا وأن يقوموا بواجب السمع الطاعة -بعد تقوى الله عز وجل- لمن تأمر عليهم مادام موحداً، وما دام يأمرهم بالطاعة، وينهاهم عن المعصية، ويحافظ عليهم وعلى دينهم، ويذب عن هذا الدين بالليل والنهار، فإنه قد وجب له في هذه الحالة السمع والطاعة على رقاب العباد جميعاً، قال: (وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي)، هذا العلاج، بين لك الداء وأنك ترى فتناً، ثم بين لك العلاج، وهذا العلاج من شقين: حث وأمر، ثم تحذير ونهي، حث وأمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وأمرك أن تتمسك بها وأن تعض عليها بالنواجذ، ثم حذرك ونهاك أن تكون مبتدعاً في دين الله عز وجل، وأن تقترح نوعاً من أنواع العبادة، ثم توهم الخلق أن هذا تشريع الله عز وجل يتقربون به إلى مولاهم حتى الموت وليس كذلك. ولابد للمرء أن يعبد الله تبارك وتعالى بما شرع؛ لأن الله تبارك وتعالى شرع لنا من الدين ما وصى به جميع الأنبياء والمرسلين، وهو أن يعبد الله بما شرع، وألا يتفرق الناس في دينهم، فهنا لابد وأن نعلم أن العلاج والمخرج من الفتن هو التمسك بالكتاب والسنة.

اعتصام السلف بالسنة ومبادرتهم في العمل بها

اعتصام السلف بالسنة ومبادرتهم في العمل بها ولذلك ضرب السلف رضي الله عنهم أجمعين أعظم وأروع الأمثلة في التمسك بالسنة، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم الآن يقول: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، فقال: ولده بلال والله لنمنعهن، يتخذنه دغلاً، قال: أو أقول لك إن رسول الله قال، وتقول: والله لنمنعهن، والله لا حدثتك حتى الموت)، هذا الرجل أحب الله ورسوله فوق حبه لولده، ولذلك خاصمه، وأبعده عنه وعن رحمة الأبوة؛ لأنه رد على الله عز وجل وعلى رسوله أمره: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال: والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً. امرأة تأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعها ابنتها، فيقول لها النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى سوارين من ذهب في يد البنت: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أتحبين أن يسورك الله بسوارين من نار)، فلم تقل: لا، ولكنها بادرت وسارعت بخلع هذين السوارين، وألقتهما على الأرض وقالت: هما لله ورسوله. فما الذي حملها على ذلك؟ إيمانها بالله، وتوحيدها الخالص لله عز وجل. رأى النبي عليه الصلاة والسلام بعض النسوة بعد أن خرجن من المسجد -أي: مسجد المدينة- قد سرن في عرض الطريق -كما نشاهد اليوم النساء الغافلات الجاهلات يخرجن إلى الأسواق والطرقات والشوارع، بجوار بعضهن البعض حتى يغلقن الطريق أمام المرارة- فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام ذلك منهن قال: (ليس للنساء عرض الطريق)، فلما سمعت النساء بهذا النهي والتحذير التصقت كل واحدة منهن بالجدار، أي بحافة الطريق حتى يتعلق ثوبها بالجدار، تصديقاً وإيماناً وإذعاناً لما جاء عن الله ورسوله. كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا نزل منزلاً مع أصحابه تفرقوا في الشعاب والأودية فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن تفرقكم هذا من الشيطان قال أبو هريرة: فوالله ما نزلنا منزلاً بعد أن سمعنا قوله إلا وانضم بعضنا إلى بعض، حتى لو طرح علينا الثوب الواحد لعمنا أجمعين)، لقد حقق الصحابة رضي الله عنهم معنى: محمد رسول الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إسقاط المرأة جنينها نكاية بزوجها

حكم إسقاط المرأة جنينها نكاية بزوجها Q امرأة كانت غاضبة من زوجها وكانت حاملاً، فكادت زوجها، ونكاية به أسقطت جنينها، والآن هي نادمة، فماذا عليها؟ A هذا الفعل من أعظم الجرم، وهو كبيرة من الكبائر، لأنه قتل نفس، فينبغي على هذه المرأة أن تتوب إلى الله عز وجل بصدق وإخلاص، وأن تعتذر إلى زوجها، وينبغي أن تصدق في توبتها إلى الله عز وجل، فما ذنب هذا الجنين الذي مات؟! هل هذه المرأة استشعرت أنه سيأتي يوم القيامة ويمسك بها ويجرها إلى لله عز وجل، ويقول: يا رب سل هذه لم قتلتني؟ ألم تستشعر المرأة هذا؟ والله لو أنها آمنت بالله حق الإيمان ما فعلت هذا، ولكنها فعلت ذلك في لحظة ضعف شديد، وغفلة وسطوة من الشيطان عليها، فيبغي عليها أن ترجع بنفس المقدار الذي خرجت به إلى الإيمان وزيادة، وأن تسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتها على الإيمان، والعمل الصالح، وأن لا تعود إلى هذا الفعل مرة أخرى ولا إلى غيره.

حكم دراسة الفلسفة

حكم دراسة الفلسفة Q سمعت كثيراً في محاضرات الفلسفة: حدوث العالم، قدم العالم، ولم أستطع فهم هذه المصطلحات، فهل قدم العالم مناف للتوحيد، علماً بأني طالب بقسم الفلسفة، نرجو التوضيح؟ A إن كان هذا الأخ في قسم الفلسفة فليتق الله تبارك وتعالى في نفسه، وليتحول في العام القادم إلى قسم آخر، وليكن قسم اللغة العربية، فإن الفلسفة كفر وإلحاد وزندقة؛ لأنها بمثابة السحر، ولا يتقرب منه إلا العلماء الذين يقتربون منه من أجل إبطاله وإفساده، أما أنت أيها الأخ الكريم فينبغي عليك أن تفر من هذا القسم فرارك من الأسد. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

تفسير أواخر سورة البقرة

تفسير أواخر سورة البقرة القرآن الكريم له فضل عظيم، ومنزلة كبيرة، وقد خص الله تعالى من القرآن الكريم سوراً وآيات لها مزية فضل، ومن ذلك الآيتان الأخيرتان من سورة البقرة، وفيهما عبروعظات بليغة، فينبغي تدبرها وأخذ العظة والعبرة منها، والعمل بها وفق مراد الله عز وجل وشرعه.

تفسير قوله تعالى: (لله ما في السماوات وما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (لله ما في السماوات وما في الأرض) إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. آيات من كتاب الله عز وجل قد سمعناها في الركعة الأولى من صلاة المغرب، وهي الآيات الأخيرة من سورة البقرة، ومطلع هذه الآيات فيها إثبات الملك لله عز وجل، يقول المولى عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284] وكأن أصل السياق ما في السماوات وما في الأرض لله، ولكن الله عز وجل قدم شبه الجملة من الجار والمجرور، ثم أتى بأصل الجملة بعد ذلك ليدل على الحق، فقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، ولم يقل: ما في السماوات وما في الأرض لله؛ ليدل على أن المالك الحقيقي هو الله عز وجل، فإذا كان الله هو المالك الحقيقي للسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن فهو المستحق للعبادة وحده. أما ملكية الخلق لما بين أيديهم فهي ملكية ناقصة، وأصل الملك أن يكون تاماً، فالملك التام لله عز وجل يتصرف في ملكه حيث شاء، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، أما المخلوق فهو مقيد الحرية، إذ ليست مطلقة في إنفاق المال، فلا يتصرف إلا بإرادة المولى عز وجل، أو في أبواب قد أمره الله عز وجل بها، فلا يكون بعد هذا القيد أو هذه القيود حراً. والمالك الحقيقي حر في أن يتصرف فيما يملك، وأنت لست حراً بل أنت عبد لله عز وجل، كما أن الله تبارك وتعالى استخلفك وجعلك قائماً على بعض ملكه سبحانه وتعالى، وقيد بقيود، وشرط عليك شروطاً لا تتعداها، فإن تعديتها فقد أعد لك عذاباً إليماً. وهذا السياق الموجود في الآية دل على أن المالك الحقيقي هو الله عز وجل، استفدنا ذلك من الحصر الذي قدم فيه المولى عز وجل الجار والمجرور، وهو قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]. وهذا كقوله تباك وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ولم يقل: نعبد إياك، ونستعين إياك فهذا السياق ليس فيه نوع من الحصر، فيجوز أن يكون المعنى: نعبد إياك وغيرك، ونستعين بك وبغيرك، أما معنى سياق الآية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: لا معبود بحق إلا أنت، وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لا يستعان بأحد إلا بك، فالاستعانة كلها لله عز وجل وبالله عز وجل، كما أن العبادة لا تصرف إلا لله عز وجل، فمن صرف شيئاً مما يجب صرفه لله عز وجل كان مشركاً بالله عز وجل في الشيء الذي صرفه لغيره سبحانه وتعالى. ولذلك قال الله عز وجل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، ولم يقل: ورزقكم في السماء وما توعدون، ولكنه قدم الجار والمجرور في قوله: {وَفِي السَّمَاءِ} [الذاريات:22]، لينفي أي شبهة تطرأ على ذهنك أن الرزق في الأرض؛ لأن هذا الرزق في خزائنه تبارك وتعالى، وخزائنه في يده في السماء إن شاء أمسك وإن شاء منع. فالسياق الذي في أول الآية: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، فيه دليل على أن السماوات السبع والأرضين السبع ملك لله عز وجل بما فيها ومن فيها.

تفسير قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)

تفسير قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) ثم يعقب المولى عز وجل بشيء مما اختص به هو ولم يطلع عليه أحد من خلقه، فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الِلَّهِ} [البقرة:284]، فقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا) أي: وإن تظهروا، (مَا فِي أَنفُسِكُمْ): بالقول أو بالفعل، {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، وهذه الآية كقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84] وغير ذلك من الآيات التي أيقن بها الصحابة رضي الله عنهم أنه: (ما من عامل يعمل عملاً إلا ويحاسبه الله عز وجل عليه)، وهذا السياق لم يكن فيه أي إزعاج للصحابة؛ لأنهم يعلمون علماً يقينياً أن الله تبارك وتعالى سميع، عليم، مطلع على أعمالهم وأقوالهم، وأنه سيحاسبهم في يوم القيامة على ما عملوا، وعلى ما قالوا، ولكن الذي أفزعهم أشد الفزع، هو قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، أي: وإن تظهروا ما دار في نفوسكم أو تخفوه، {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، يعني: في الحالتين يحاسبكم به الله، ولكن السياق أتى باختصار جميل فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]. ولذلك شق على الصحابة حين نزلت هذه الآية مشقة عظيمة جداً، فقالوا: كيف ذلك؟ فذهبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وبركوا وجثوا على ركبهم، وقالوا: (يا رسول الله! أنزلت عليك الآيات، وكلفنا من الأعمال ما نطيق من صلاة وقيام وحج وجهاد وكل ذلك في وسعنا وفي طاقتنا، أما هذه الآية ما نطيقها ألبتة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فنزل قول الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، فلما قالوها وذلّت بها ألسنتهم، أنزل الله عز وجل الآية الناسخة لها وهي قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]). ولذلك أهل العلم اختلفوا اختلافاً عظيماً في قول الله عز وجل: {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، هل هذه الآية منسوخة أو محكمة؟ فذهب جمهرة عظيمة من الصحابة رضي الله عنهم وكثير من أهل العلم منهم: ابن عباس في أحد قوليه، وعبد الله بن عمر، وعمر بن الخطاب، وأبو هريرة وغيرهم إلى أنها منسوخة بقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل)، أي: حديث النفس والهم بالشيء، كأن تحدثك نفسك بأن تفعل شراً، ثم الوازع الإيماني في قلبك يمنعك من فعل هذا لشيء أو حتى من التلفظ به، فعلى مذهب جمهور المحدثين أو مذهب جمهور أهل العلم أن الله لا يحاسبك عليه؛ لأن هذه الآية منسوخة، ولأن هذا الهم وحديث النفس ليس في إمكانك أن تدفعه؛ ولذلك لم يحاسبك الله عز وجل عليه، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل به)، أي: حتى يتجسد هذا الهم وحديث النفس في صورة قول أو فعله. وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم: (إذا هم عبدي بسيئة فعملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة)، وهذه الدرجة أعظم من الدرجة الأولى، (وإذا هم بحسنة فعملها فاكتبوها عشر حسنات، فإن لم يعملها فاكتبوها له حسنة، والله يضاعف لمن يشاء)، والراجح أن هذه الآية منسوخة، وهو الذي رجحه الشوكاني وغيره، وهو الذي أميل إليه. ومن الوسوسة المعفو عنها ما جاء في الحديث: (أن بعض الصحابة أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: يا رسول الله! إنا تحدثنا أنفسنا بكلام

تفسير قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) وفي قول المولى عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] لما نزلت هذه الآية قال النبي عليه الصلاة والسلام: (حُقَّ له أن يؤمن)، أخرجه الحاكم من حديث أنس بسند صحيح، والمعنى: وجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن؛ لأن الأنبياء هم أعرف الخلق بالله عز وجل، ما يجب له، وما لا يجوز أبداً في حقه، وما يستحيل، فهم أعرف الخلق بالله؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له)، والذي يعرف المولى عز وجل حق المعرفة يعبده حق العبادة، ولذلك قال المولى عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وكلما ازداد المرء علماً ازداد خشية للمولى عز وجل، والأنبياء هم أعلم الخلق جميعاً وهم أعبد الخلق جميعاً للمولى عز وجل؛ لأنهم أعرف الخلق بالله سبحانه وتعالى. ثم أثنى الله عز وجل على جميع المؤمنين، إلا أنه في الدرجة الأولى موجه للصحابة؛ لأنهم أول من خوطبوا بالقرآن الكريم، فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285] عطفهم على الرسول، أي: آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربهم، كما آمنوا بالله وملائكته ورسله، فعطف المؤمنين على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه مدح وثناء وتفضل من المولى عز وجل أن جعل أهل الإيمان يوافقون الرسل في أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وإن لم يكن جميع أركان الإيمان قد ذكرت في هذه الآية إلا أنها قد ذكرت في آيات أخرى وأحاديث أخرى كثيرة، فهذا العطف عطف تكريم وتشريف للصحابة، بل ولجميع المؤمنين، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285]، والذي أنزل إليه من ربه هو الوحي، فالنبي عليه الصلاة والسلام آمن بالوحي من أوله إلى آخره وعمل به، وكان قدوة لجميع الأنام صلى الله عليه وسلم، وتبعه في هذا الإيمان المؤمنون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:285]. والله تبارك وتعالى سمى نفسه الله، ووصف نفسه بأنه إله الحق، بمعنى المألوه الذي استحق أن يكون إلهاً واحداً في السماء والأرض، وأما ادعاء الألوهية لغير ذلك من المخلوقات فهي ادعاءات كلها كاذبة، فالله تبارك وتعالى هو الرب لا رباً سواه، وهو الإله لا إلهاً غيره، فإذا كان هو الإله وجب توجيه العبادة كلها إليه، وإذا كان هو الرب وجب الإقرار، والاعتراف، والإذعان بين يديه سبحانه وتعالى أنه الخالق، الرزاق، المدبر، لا خالق غيره، ولا رازق سواه. فهنا بيان أن الصحابة شاركوا النبي عليه الصلاة والسلام في أصول هذا الإيمان، وأنهم آمنوا بالله كما آمنوا بالملائكة.

حقيقة الملائكة عليهم السلام وذكر وظائفهم والتفاضل بينهم وبين البشر

حقيقة الملائكة عليهم السلام وذكر وظائفهم والتفاضل بينهم وبين البشر الملائكة هم خلق من خلق الله عز وجل، خلقهم الله تبارك وتعالى من نور كما خلق الإنسان من طين من حمأ مسنون، وكما خلق الجان من نار السموم، فمادة خلق الملائكة مادة نورانية، وفطرهم على الطاعة، والعبادة، والصلاة، والتسبيح، والذكر، فهم لا يتعبون، ولا يملون، ولا ييأسون، كما أنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتبرزون، ولا يتبولون، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فالملائكة مجبولون على طاعة الله عز وجل لا تبدر منهم معصية، وكما أن الله تبارك وتعالى اتخذ من البشر رسلاً وأنبياء، كذلك اتخذ رسلاً من الملائكة، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، فمنهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالمطر، ومنهم الموكل بالأرزاق، ومنهم الموكل بحضور مجالس العلم، ومنهم الموكل بحمل العرش وغير ذلك من الوظائف التي كلف الله عز وجل بها بعض ملائكته، وجعل بعض الملائكة قائمون في الذكر، والتسبيح، والتهليل وغير ذلك من أنواع العبادات. ولما خلق الله عز وجل الإنسان فبدرت منه المعصية، فتصور بعض أهل العلم أن الملائكة أفضل من البشر؛ لأن الملائكة جبلوا على الطاعة، وأما بنو آدم فتأتي منهم الطاعة كما تأتي منهم المعصية، فقالوا قياساً: الذي لا يأتي منه إلا الطاعة أفضل من الذي تأتي منه الطاعة والمعصية، ولكن الله عز وجل فضل بني آدم على الملائكة، وهذا الأمر يحتاج إلى تقسيم وتفصيل، فأما الملائكة فهم خير من بني آدم الذين كفروا والذين لا يأتون إلا بالمعاصي، وهذا بإجماع أهل العلم، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، كما أنهم أفضل ممن أسلم، ولكنه لا يعرف للطاعة طريقاً، أما من أتى بطاعة أو معصية فإنه أفضل من الملائكة إذا تجاوز الله تبارك وتعالى عن أخطائه ومعاصيه وأدخله الجنة، فإن الله جعل الملائكة في الجنة يدخلون عليه ويخدمونه ويسلمون عليه، قال تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، فمعنى ذلك أن الملائكة خدم في الجنة لبني آدم، مع أن بني آدم أصحاب خطأ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فابن آدم يأتي بالمعصية ويتوب منها، وفضله الله عز وجل على الملائكة، هذا موقف أهل الإيمان من الملائكة، ولهذا كان المسلم مميزاً بعقيدته بالدرجة الأولى عن أهل الكفر.

موقف اليهود من الملائكة

موقف اليهود من الملائكة أما موقف اليهود من الملائكة فإنه في منتهى العناد والجحود، ولذلك (لما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة سمع به عبد الله بن سلام)، وعبد الله بن سلام كان حبراً من أحبار اليهود، (لما سمع بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام أتى إليه وقال: يا محمد! إني سائلك عن ثلاثة أشياء لا يعرفها إلا نبي، قال: يا عبد الله بن سلام هات ما عندك، فقال: ما أول علامات الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وكيف ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فأما أول علامات الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، قال: صدقت، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، قال: صدقت، قال: أما كيف ينزع الولد إلى أبيه أو أمه فإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، قال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك نبي الله، ثم قال عبد الله بن سلام ادعو اليهود وسلهم عني قبل أن تخبرهم بإسلامي، فإنهم قوم بهت -أي: قوم ظلم، وغدر، وخيانة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل عليه اليهود: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: هو سيدنا وابن سيدنا، وعظيمنا وابن عظيمنا، وشريفنا وابن شريفنا، فخرج عليهم عبد الله بن سلام وقال: آمنت بالله ورسوله، قالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا، وحقيرنا وابن حقيرنا)، ففي الوقت نفسه وفي نفس المجلس يتحول اليهود بزاوية (180) درجة، فلا عهد لهم، ومن رام معهم صلحاً أو وداً فإنما يجري خلف سراب خادع، فهنا قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن سلام: (أترى يا عبد الله ما سألتني، فوالله ما كنت أعرف جواباً حتى سألتني فنزل جبريل فأخبرني بالجواب، قال: أو جبريل الذي ينزل عليك يا رسول الله؟! قال: نعم، قال: ذلك عدو اليهود من الملائكة)، اليهود لا يعادون الخلق فقط، وإنما يعادون الملائكة فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]. ومما يؤيد عداء اليهود للملائكة: أن عمر رضي الله عنه لما هاجر إلى المدينة اشترى أرضاً في المدينة، وكان إذا أراد أن يذهب إليها لابد أن يمر على أحياء اليهود من بني قينقاع وبني النضير، وكانوا يطمعون في ردة عمر بن الخطاب؛ لأنه كان زعيماً في الجاهلية، فكان من مصلحة اليهود أن يرتد أحد زعماء الإسلام بعد إسلامهم وإيمانهم، فكان إذا ذهب عمر إلى أرضه طمعوا فيه ونادوه وأجلسوه معهم، فيقولون له: يا عمر! لو أن الذي ينزل على صاحبك غير جبريل لآمنا به، فإنك تعلم أن جبريل عدونا من الملائكة، فقال لهم عمر: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة:97] الآيتين فقيل: إن هذه الآيات مما وافق فيه عمر كتاب الله عز وجل. فالشاهد من هذا أن المسلم لابد وأن يؤمن بملائكة الرحمن، وأن الإيمان بالملائكة هو حد فاصل بين الإيمان وبين الكفر، بين أن ترفع لواء الطاعة ولواء المعصية والجحود والنكران، كما أنه لابد أن يكون سمت وهدي المؤمن في الإيمان بالملائكة يخالف سمت وهدي اليهود والنصارى، فإن الواحد منهم يؤمن بما شاء ويكفر بما شاء، أما المؤمن فلا يؤمن إلا بما أمر الله تعالى أن يؤمن به.

الإيمان بالكتب السماوية

الإيمان بالكتب السماوية قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} [البقرة:285]، وقد أنزل الله كتباً كثيرة، ولكننا لا نعرف منها إلا الشيء اليسير والنزر القليل، فمنها: الإنجيل، والتوراة، والزبور، وصحف إبراهيم وغيرها، فالله عز وجل أمرنا أن نؤمن على سبيل الإجمال بأن الله تبارك وتعالى أرسل الرسل، وأنزل معهم الكتب، وقد أمرنا أن نؤمن إجمالاً وتفصيلاً بالكتاب الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أما الكتب السابقة فقد دخلها التحريف، والزيغ، والتبديل، أنت لست مطالباً بأن تؤمن بهذا، إنما أنت مطالب بأن تؤمن أن الله تبارك وتعالى أرسل عيسى وأنزل معه الإنجيل، وأرسل موسى وأنزل معه التوراة، فالتوراة كتاب الله عز وجل أنزله على موسى، والإنجيل كتاب الله عز وجل أنزله على عيسى، فيجب عليك بأن تؤمن أن أصل التوراة من الله، وأن أصل الإنجيل من الله، وأن أصل الزبور من الله، وأن أصل الصحف من الله، وأن القرآن الكريم الذي بين يديك، والذي نزل على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم هو كتاب الله عز وجل من أوله إلى آخره، لم يدخله التحريف ولن يدخله بإذن الله تعالى، وأنه كتاب محفوظ، والذي تولى حفظه هو الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالذي تولى حفظ هذا الكتاب، بل وحفظ السنة التي قالها النبي عليه الصلاة والسلام هو المولى عز وجل. ولذلك فسر جماهير العلماء الذكر في الآية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] بأنه الكتاب والسنة، وقالوا: الذكر منه المتلو ومنه غير المتلو وهو السنة، ولذلك قال عبد الله بن المبارك لما عرضت عليه الأحاديث الضعيفة والموضوعة قال: تعيش لها الجهابذة، أي: هذه الأحاديث سيأتي لها من ينخلها نخلاً ويميز بين صحيحها وسقيمها، فيبقى أصل العمل على ما صح وثبت من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأما ما كان غير ذلك فلا يلزم، بل ولا يجوز العمل به؛ ولذلك فإننا نرى في كل عصر ومصر من تصدى للسنة بحق، وميز فيها بين الصحيح والدخيل، وهذا أيضاً مظهر من مظاهر حفظ الله عز وجل للوحيين: الكتاب، والسنة، كما أن القرآن قد تعرض للدس فيه من قبل النصارى والملاحدة، ولكن سرعان ما أيد الله عز وجل وسخر له من يبين فساد وعوار هذه الخطط الكفرية، التي أرادت الطعن في كتاب الله عز وجل، وما حدث هذا في بلاد الكفر، بل حدث في مصر وفي بلد الأزهر، فقد سخر الله عز وجل المخلصين من أهل العلم لبيان هذا التحريف وهذا الزيغ قبل أن ينتشر بين أيدي الناس، وهذا مظهر عظيم من مظاهر حفظ الله تبارك وتعالى لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وكلما أُرسل نبي ونزل معه الكتاب نسخ الشريعة التي سبقته، وفيه أن بعض الشرائع كملتها الشريعة التي أتت بعد ذلك كشريعة اليهود لم تنسخ بشريعة عيسى، وإنما كانت متممة ومكملة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن الله عز وجل فرض على اليهود أن يؤمنوا بعيسى عليه الصلاة والسلام، فكفروا بعيسى وبشريعته، وأن الله تعالى لما أرسل محمداً نسخ جميع الشرائع السابقة وأبطلها، ولكنه فرض عليك أن تؤمن بها فقط؛ لأنها نزلت من عند الله، أما العمل بها فلا يجوز أبداً، لأن الله تبارك وتعالى قد حباك ومنحك كتاباً {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، فهذا الكتاب الذي بين يديك دستور ليس هناك أحسن منه ولا أعظم منه دستور؛ لأن الذي وضعه والذي أمرك بالإيمان به هو العليم الخبير، وهو الذي يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، فأنزل في هذا الكتاب ما يصلحهم وأمرهم به، ونهاهم عما يفسدهم، فلا يجوز لأحد أن ينفك عن أمر الله، كما أنه لا يجوز أن يهجم على مناهي الله؛ لأن الله تبارك وتعالى إذا أمرك بأمر وجب الامتثال، وإذا أخبرك بخبر وجب التصديق، وإذا نهاك بنهي وجب الانتهاء، وكل ذلك في الكتاب، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بد أن تؤمن أن هذا الكتاب الذي بين يديك ناسخ لجميع الكتب السابقة، وحاكم عليها ومسيطر ومهيمن عليها جميعاً، فأنت مطالب بالعمل بهذا الكتاب فقط.

حكم العمل بما في الكتب السماوية

حكم العمل بما في الكتب السماوية لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الحديث عن بني إسرائيل قال: (لا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج). وأهل العلم يقولون: إذا كان ما في الكتب السابقة يوافق القرآن الكريم فهو من الحق الذي أنزله الله ولم ينله التحريف والتبديل، وإذا كان يخالف الذي في كتاب الله عز وجل وهو القرآن الكريم، فاعلم أن هذا من التبديل والتحريف، فأنت مطالب بألا تعمل به، وأما المسكوت عنه في كتب أهل الكتاب وليس في القرآن خبر عنه فلا نصدقه ولا نكذبه، ومعنى ذلك: أننا لا نعمل به كذلك، وشريعة من قبلنا ليست شريعة لنا إلا ما وافق شرعنا، ويجب عليك أن تضع هذا الكتاب فوق رأسك، وأن تعمل به، وتعتقد أنه لا يمكن للأمة أن تستعيد مجدها إلا من خلال الكتاب، ومن خلال هذا النبي عليه الصلاة والسلام، فإن هذه الأمة قد اكتملت لديها مقومات الحياة ومقومات العز والمجد، وليست هناك على وجه الأرض أمة تملك مقومات الحياة من الأرض الشاسعة الواسعة غير هذه الأمة، كما أنها تملك هذا الدستور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكل الدساتير يأتيها الباطل من كل مكان، بل هي في ذاتها باطلة، فلما كان هذا الكتاب بين أيدينا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام موجود بيننا بسنته، وهذه الأرض الواسعة التي لم تستغل إلى وقتنا هذا، وهذه مقومات أي أمة، فنحن نملك المقومات بما لا يمكن لأي أمة أن تقوم على أحسن مما نحن فيه وعليه، ومع هذا فهذه الأمة أخس الأمم، وأضل الأمم؛ لأنها تخلت عن أمر الله وأمر رسوله، فالعيب ليس في الكتاب، وإنما العيب فينا نحن، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً)، هذا خبر وجب صدقه وتصديقه، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذه الأمة لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا بالكتاب والسنة، فلابد أن نوقن أننا لو كنا على الكتاب والسنة لحصلنا على النصر والتمكين، أما وإنه لا يوجد نصر ولا تمكين، فلأننا تخلينا عن الكتاب والسنة، ولذلك انظر إلى ما نحن فيه الآن، وانظر إلى ما كان فيه الصحابة من تمكين، وعز، ومجد، وفتوحات، وإذلال للكافرين ودحرهم، كل ذلك بتمسكهم بالكتاب والسنة، فهذا هو السائد، وأما نحن فأهواء، وضلال، وكل واحد على مزاجه، ولا فلاح لنا؛ لأننا تخلينا عن الدستور الأعظم، وكان كل منا متخذاً من هواه وعقله دستوراً لنفسه، فكيف تسلم الأمة من الضلال والحيرة والتيه، وكل واحد قد اتخذ إلهه هواه؟!

الإيمان بجميع الرسل

الإيمان بجميع الرسل قال الله عز وجل: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] لابد من الإيمان بجميع الرسل، ربما يحملك بغضك لليهود أن تقول: أنا لا أؤمن بموسى، أو يحملك بغضك للنصارى أن تقول: أنا لا أؤمن بعيسى؛ كيداً ونكاية في اليهود والنصارى، وهذا القول كفر؛ لأن الله تبارك وتعالى قد أمرك أن تؤمن بجميع الأنبياء والرسل، فليس هنالك فرق بينك وبين اليهود الذين آمنوا بموسى وكفروا بمحمد، ولذلك فأنت تتميز عن كل تابع لنبي سبق بأنك تؤمن بجميع الأنبياء والمرسلين وجميع الكتب، وهم قد كفروا بذلك. ولذلك من ادعى أنه يؤمن بجميع الأنبياء إلا نبياً واحداً فقد كفر بجميع الأنبياء بما فيهم النبي الذي يدعي أنه آمن به، فلو أن رجلاً قال: أنا أؤمن بجميع الأنبياء إلا عيسى، نقول له: أنت والنصارى واليهود شيء واحد، وكذا المجوس الذين يعبدون النار؛ لأنك مكلف بأن تؤمن بجميع الأنبياء لا تستثني منهم نبياً واحداً، والله قد أرسل مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، فأنت مطالب بأن تؤمن بجميع الأنبياء والرسل على سبيل الإجمال والتفصيل، فتؤمن بالخمسة والعشرين رسولاً الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى بالاسم، فلا يجوز لأحد أن ينكر نبوة نبي، ولا يجحد رسالة رسول، فمن فعل فهو كافر، وإن كان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، وقال عن عيسى: (إنه سينزل في آخر الزمان يدعو بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب) رغم أنف النصارى؛ فالأنبياء كلهم دينهم واحد وهو التوحيد والإيمان بالله عز وجل وإن اختلفت شرائعهم، فشريعة موسى غير شريعة عيسى غير شريعة إلياس غير شريعة نوح، وشريعة النبي عليه الصلاة والسلام ناسخة لجميع هذه الشرائع، وأبطلت العمل بهذه الشرائع، وأوجبت على الخلق جميعاً أن يخرجوا من كل الشرائع السابقة، ويدخلوا في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة:253]، أما نحن المؤمنون فلا نفرق بين نبي ونبي، ولا بين رسول ورسول، ولكننا نقول: إن محمداً خير البشر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا خير ولد آدم ولا فخر)، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو خير الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)

معنى قوله تعالى: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) أما قول الصحابة: سمعنا وأطعنا، فإن الطاعة غير السمع؛ لأن الشخص قد يسمع ولا يطيع، فقد يسمع الأمر يوجه إليه ولكنه لا ينفذه فلا يكون في هذه الحالة مطيعاً للأمر، فالسمع هنا بمعنى الإجابة، ولذلك أنت تقول في صلاتك: سمع الله لمن حمده، والمعنى: أجاب الله لحمد من حمده، واستجاب دعاءه، أي: كأنك تقول: إني أحمد الله عز وجل فاستجب لي وتقبل دعائي، فأجاب الله دعاء من حمده، ولذلك قال: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]، زيادة للتأكيد أن السمع يعني إجابة الدعاء فقال: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة:285] أي: نطلب مغفرتك، وعفوك، وصفحك، ولذلك أهل العلم يقولون: إن التائب من المعاصي لابد له من ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يغفر الله تبارك وتعالى له ما تقدم من ذنبه. الأمر الثاني: أن يعينه في الحال على طاعته. الأمر الثالث: أن يعصمه في المستقبل من أن يقع في معصيته. وهذا في قول الله عز وجل مخبراً عن صحابة النبي عليه الصلاة والسلام: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة:285] ثم قالوا: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] أي: وإليك المرجع والمآب، وهذه عقيدة قررها الصحابة رضي الله عنهم، وهي اعترافهم وإيمانهم بالبعث والنشور.

تفسير قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)

تفسير قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) فقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والوسع: هو الطاقة، والله عز وجل لا يكلف عبداً من عباده بما لا يطاق، فمنذ نزول هذه الآية لابد وأن تعتقد أن الله تبارك وتعالى لا يمكن أن يكلف عبداً من عباده عملاً أو قولاً ليس في طاقته، ولذلك فإن هذه الآية ناسخة لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ} [البقرة:284]، أي: مما يدور في نفس العبد مما يتعاظم أن ينطق به؛ لأنه متعلق بذات الله عز وجل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (إنك ستعيش حتى يأتيك أقوام يقولون لك: يا أبا هريرة من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ من خلق الجبال؟ من خلق المطر؟ فتقول: الله، فيقولون لك: هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟ فقال أبو هريرة رضي الله عنه: فبينما أنا في المسجد إذ دخل علي قوم من الأعراب فقالوا: أين أبو هريرة؟ قلت: أنا، قالوا: يا أبا هريرة من خلق السماء؟ فقلت: الله، ثم قالوا: من خلق الأرض؟ من خلق الجبال؟ من خلق المطر؟ وعددوا خلقاً من خلق الله وفي كل يقول: الله، قالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله، قال: فتناولت حفناً من حصى فألقيته في وجوههم، وقلت: قوموا عني صدق خليلي صلى الله عليه وسلم). فالذي تحدثه نفسه بشيء في ذات الإله لابد وأن ينصرف عنه ويحسن الظن بربه أنه لن يحاسبه عليه، وما جاهد المرء نفسه في دفع هذا الوسواس وهذا الشيطان، فإن الله لن يحاسبه عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فوعد الله بخلاف وعيده، فإذا وعد الله بشيء فإنه لابد من الوفاء بهذا الوعد، وإذا أوعدك وهددك بشيء فإن هذا الوعيد وهذا التهديد إن شاء الله عز وجل أنفذه وإن شاء عفا عنه، وهذا من فضله ورحمته تبارك وتعالى. فقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] يدل على أن ما تحدثني به نفسي طالما لم أنطق به ولم أتكلم به إذا كان شراً فإن الله لا يحاسبني عليه، وهذه الآية ناسخة للآية الأولى، وهذا تقرير من أول الآيات.

معنى قوله تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)

معنى قوله تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، الكسب في الخير، والاكتساب في الشر، فقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286] أي: من خير وفضل وحسنات وإحسان، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] أي: من شر ومعاص، فالنفس لها من الحسنات مقابل ما كسبته من أعمال صالحة، سواء كانت هذه الأعمال بالقول أو بالفعل، وعليها وزر ما اكتسبته من الآثام والمعاصي من القول والفعل، فلا نحاسب إلا على ما بدر منا وبدا منا من قول أو فعل، أما ما كان مخفياً في النفس فإن الله يعلمه، ولكنه لا يحاسب عليه إلا من باب أنه يطلعك عليه؛ ليثبت لك أنه عفو، وأنه غفور، وأنه تواب، وأنه حليم، وأنه رءوف بعباده، ويخبرك بما دار في نفسك ولا يحاسبك عليه؛ لأنك لم تتكلم به، ولم تعمل به، ولم يظهر ما في صدرك من شر ما لم يكن عملياً أو قولياً.

معنى قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)

معنى قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ثم قال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة:286] أي: لا تحاسبنا، {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ربما تقع من المرء المعصية على سبيل الخطأ أو النسيان، يفعل فعلاً يظن أنه طاعة فإذا به معصية، فمثلاً: رجل جاهل يترنح في ذكر الله ويتمايل على اليمين وعلى اليسار، ظناً منه أن هذه عبادة لله، فهو يتقرب بها إلى الله؛ فهي باطلة، ولكن الله لا يحاسبه عليها، إنما يحاسب من علم وأقيمت عليه الحجة أن هذا شر، وأن هذا فساد، وأن هذا ابتداع في دين الله، أما رجل جاهل لا يعرف شيئاً أتى من القرية فدخل مسجد الحسين أو البدوي أو غيرهما فوجد المشايخ والعلماء والدراويش يترنحون يميناً ويساراً، فقال: ليس معقولاً أن هؤلاء العلماء كلهم على باطل، هذا هو الحق الذي ليس بعده حق، فأراد أن يشارك في هذا الحق بزعمه، فهو ليس آثماً بمعنى أن الله لا يحاسبه ولا يعذبه، وإنما يخبره أن هذا كان عملاً باطلاً، ولذلك لا أجر له عليه، أما أهل العلم الذين جعلوا الباطل حقاً، والحق باطلاً للخلق فإن الله تبارك وتعالى يبطل عملهم، ويحاسبهم، ويعذبهم؛ لأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فهنا بيان أن الله عز وجل وإن أطلع العباد على أعمالهم إلا أنه يعفو عن العمل الذي وقع على سبيل الخطأ والنسيان، ولذلك فقد جاء عند ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) وعند ابن أبي حاتم من حديث أم الدرداء رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عفا عن أمتي الخطأ، والنسيان، والاستكراه). أضرب مثالاً آخر للتوضيح: لو أن مصلياً صلى الظهر ثلاثاً وانصرف من صلاته ظناً منه أنه صلى أربعاً ولم يذكر بعد ذلك أنه صلى ثلاثاً صحت صلاته وأجزأت عنه، وإن كان هذا العمل ناقصاً، وإن كان هذا النقصان مصدره النسيان، ولو أن رجلاً دخل في صلاة الظهر فقام إلى لخامسة متعمداً بطلت الصلاة كلها؛ لأنه تعمد الزيادة على أمر الله ورسوله، فبطلت العبادة من أصلها؛ لأن دين الله عز وجل توقيفي، أي: أنك لا تزيد عليه ولا تنقص منه متعمداً، فإذا زدت فيه أو نقصت منه ناسياً أو مخطئاً فلا حرج عليك، وقد جعل الله عز وجل كفارات للخطأ والنسيان لا عقوبات، فإن قمت من الثانية إلى الثالثة مباشرة دون أن تأتي بتشهد أوسط فقد شرع الشارع أن تسجد سجدتي السهو، ولم يسقط صلاتك كلها؛ لأن هذا على سبيل النسيان، أما من قام إلى الثالثة متعمداً فقد بطلت صلاته مع أن التشهد الأول سنة، لكنه تركه متعمداً. ولو أن رجلاً يملك عليك الإكراه، وأنت توقن أن هذا الرجل يوقع عليك الجزاء الذي يهددك به، فطلب منك أن تطلق امرأتك فقلت: امرأتي طالق، فهذا الطلاق لا يقع، لأنه استكراه، فهذه الآية تدلنا على أحكام مهمة جداً من أحكام الأعمال إذا وقعت على سبيل الخطأ أو النسيان، أو الاستكراه، فإن العمل إذا وقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة، أو مجتمعة، فإن الله تبارك وتعالى لا يحاسب ولا يؤاخذ عليه.

معنى قوله تعالى: (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا)

معنى قوله تعالى: (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} [البقرة:286] أي: ربنا لا توقعنا في المشقة والعنت الذي لا طاقة لنا به ولا نقدر عليه. وقوله تعالى: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] أي: الأمم السابقة كانت في الإصر والأغلال؛ بسبب ظلمهم، قال الله تبارك وتعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] يعني: بسبب ظلمهم حرم الله عليهم الطيبات مع أنها طيبات ولم تكن خبائث؛ لأن الخبائث محرمة من الأصل، ولكن الله تبارك وتعالى حرم على اليهود طيبات كان قد أحلها لهم في أول الأمر، فلما ظلموا حرمها عليهم من باب إيقاع الإصر والأغلال والعنت عليهم. قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161] وهذه الأشياء موجودة عندنا، فنحن قد ظلمنا، وطغينا، وبغينا، وتركنا الكتاب والسنة، وأكلنا أموال الناس بالباطل، وأخذنا الربا أضعافاً مضاعفة، فهناك قوانين تبيح الربا، وفتاوى تقول: إن الربا حلال، مع أن التشريع قد انتهى أمره بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الحساب ينتظر في يوم الحساب، وحسابنا عند الله عز وجل، وضرب الله علينا الذل والهوان؛ بسبب بعدنا عن الكتاب والسنة، وركوبنا الماديات، فلما ركبنا الصعب والذلول أذلنا الله عز وجل؛ لأنه صار بيننا وبين الكتاب والسنة هوة واسعة جداً، ربما الحبل الذي بيننا وبين الكتاب هو مجرد التلاوة. ولو أن سارقاً سرق، أو زانياً زنا، يقام عليه الحد؛ لكن الحدود معطلة في هذا الزمان، والباب مقفول إلا باب التوبة، وليس من التوبة إلى الله عز وجل قتل النفس أو رميها من فوق جبل، أو شرب السم، ومن فعل هذا يكون جرماً آخر ومعصية أخرى، والانتحار يحاسب الله عز وجل عليه، وهذا هو العنت الذي فرضه الله على بني إسرائيل على جهة الخصوص، أما أنت فتوبتك أن تلجأ إلى الله عز وجل بقلبك وكليتك، وتندم على ما بدر منك، وتعزم على ألا تعود إليه مرة أخرى، ويتفطر وينصدع قلبك وبدنك حزناً وأسفاً على المعصية التي فعلتها، أما في بني إسرائيل فالذي يعمل المعصية ويريد أن يتوب منها لابد أن يقتل نفسه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54]. يقول الحافظ ابن كثير: قام بنو إسرائيل في ساعة مظلمة من النهار أظلمها الله عز وجل عليهم، فقاموا على بعضهم بالسيوف حتى قتل بعضهم بعضاً في ساعة واحدة. وكانوا سبعين ألفاً؛ لأن هذه طريقة التوبة التي فرضها الله عز وجل على بني إسرائيل، من أجل أن تعرف أن الله تبارك وتعالى اصطفاك، واختارك، وشرفك وكرمك في البر والبحر، فأخلدت إلى الأرض بالمعصية، وقد كلفك الله عز وجل أن تحلق روحك في السماء السابعة حول العرش، فأبيت إلا النزول فنزلت، والنزول في كل شيء أسهل من الصعود، فالصعود يحتاج إلى مشقة وكلفة، فمن أراد أن ينجح ويتفوق في آخر العام يتكبد السهر، والمذاكرة، والحفظ، والمراجعة، أما من أراد أن يرسب فما عليه إلا أن يدع الكتاب، وهذا يسير، فالنزول يسير، وأما الصعود فمكلف جداً، ولذلك ضرب الله عز وجل بسبب ظلم اليهود والنصارى الإصر والأغلال على أعناقهم، فكلفهم من الأعمال ما لا طاقة لهم به. وقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء:160]، والفاء هنا سببية، أي: بسبب ظلمهم ضرب الله عز وجل الإصر والأغلال، أما أنت فقد كرمك فاشكر لله عز وجل على هذه التكريم، وشكر الله عز وجل يكون بإفراده بالعبادة، وصرفها جميعها إليه سبحانه وتعالى، لا تشرك مع الله تبارك وتعالى إلهاً آخر. ومن أنواع الإصر في الطهارة التي أوجبها الله عز وجل على بني إسرائيل ما لا يمكن أبداً أن تتخيله، لو أن الله تبارك وتعالى فرضه علينا لما امتثل واحد منا أبداً لهذا الأمر، فالله عز وجل قد فرض على بني إسرائيل الطهارة، فإن من تنجس ثوبه قطع الجزء المتلبس بالنجاسة، أما في الإسلام فشرع لنا تطهير الثوب المتنجس بالماء، فيرش على بول الصبي ويغسل من بول الجارية، فإذا كان الغلام قد أكل لابد من غسل الموضع فقط، لا تغسل (الجلابية) كلها ولا تقرضها ولا تقطعها، أما في بني إسرائيل فكان إذا تنجس ثوب الواحد منهم وجب عليه أن يقصه، وأن يلقي بالمتنجس على الأرض، وهذا من الرحمة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن الفضل، وهذه صورة من صور التكريم في العباد

فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة وفضل البقرة وآل عمران والفاتحة

فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة وفضل البقرة وآل عمران والفاتحة فعند البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، وهما من أول قول الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] إلى قوله: {فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، ومعنى كفتاه، قيل: كفتاه من قيام الليل، وقيل: كفتاه من مس الشيطان، وقيل: كفتاه في الفضل وغير ذلك كثير، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا البقرة وآل عمران فإنهما يظللان صاحبهما، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو صفان من طير صواف)، أي: مثل أن يأتي صف طير حمام فيظل من يسير تحته، فكذلك البقرة وآل عمران يأتيان يشفعان للعبد يوم القيامة. ولذلك في حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه الذي كان جميل الصوت، فقد جاء عند البخاري: (قام ليلة يقرأ بسورة البقرة فجالت فرسه)، يعني: كلما قرأ ارتعد الفرس واضطرب، وكان مع أسيد بن حضير ولده الصغير يحيى وكان في مؤخرة رحل الفرس، وخشي على ولده أن تصيبه قدم الفرس، فقال: (فأخذت ولدي وأردت الانصراف غير أني نظرت إلى السماء فوجدت مثل الظلة فيها مصابيح، فارتعد أسيد بن حضير فلما غدا إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: لقد قرأت يا رسول الله حتى جالت فرسي، فكلما سكت سكنت وكلما قرأت جالت حتى خشيت على ولدي يحيى قال: تلك الملائكة، أما إنك لو قرأت حتى أصبحت لأصبح صبيان المدينة ينظرون إليهم عياناً)، (وكان النبي عليه الصلاة والسلام جالس مع جبريل فإذا باب فتح من السماء لم يفتح من قبل قط، فنظر جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! هذا باب من السماء فتح لم يفتح من قبل، فنزل منه ملك؛ حتى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلس بين يديه، فقال: يا محمد! لقد أوتيت نورين لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، وإنك ما دعوت بحق منهما إلا استجيب لك). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود: (اقرءوا البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، أي: السحرة، فالبيت الذي يقرأ فيه القرآن وخاصة سورة البقرة لا يمكن أن يدخله الشيطان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

الرد على ما جاء في كتاب (عمر أمة الإسلام)

الرد على ما جاء في كتاب (عمر أمة الإسلام) Q ما رأيكم فيما جاء في كتاب عمر أمة الإسلام؟ A في الحقيقة أنا رديت عليه من قبل في محاضرتين طويلتين، والكتاب على أية حال فيه خير، وهو في الحقيقة أشبه بكتب أهل الكتاب، وأنا لا أنصح طلاب العلم ولا عامة الناس بقراءة هذا الكتاب أبداً، بل أحذرهم منه؛ لأن الكتاب تعرض لمسألة غيبية استأثر الله تبارك وتعالى بعلمها، وخاض المصنف خوضاً لا يليق بمسلم، فذهب مذهباً غير مرضي في حساب عمر الدنيا، وذهب مذهباً ملتوياً ظناً منه أن أحداً لن يستطيع أن يكتشف لعبته، وقرب ظهور المهدي عليه السلام، فإذا قلنا: إنك تكلمت عن وقت الساعة، قال: لا أنا أتكلم عن عمر الأمة، وهذا يستلزم أمران: إما أن يكون متكلماً عن عمر الدنيا وأنها ستفنى بعد ألف وخمسمائة عام كما قد حدد، أي: بعد سبعين سنة؛ لأنه -على حاسبه- قد مر ألف وأربعمائة وثلاثين سنة هجرية، كأنه أراد أن يقول: هذا عمر الأمة لا عمر الدنيا، قلنا له: ما الفرق بين عمر الدنيا وعمر الأمة؛ لأننا نوقن أن هذه الأمة هي آخر الأمم، فإذا فني عمرها، وانتهى أجلها المؤجل لها عند الله والذي لا يعلمه إلا الله، لابد أن تقوم الساعة مباشرة، فإذا قلنا: فناء الأمة بعد سبعين سنة يلزم من ذلك أن تقول بقيام الساعة، وإذا قال: إنني لا أقول بقيام الساعة، وإنما أتكلم عن أشراط هذه الأمة وفناء هذه الأمة، قلنا له: يلزم من قولك بأن هناك أمة بعد فناء هذه الأمة ستنشأ وتوجد، وبالتالي يلزمك أن تحكم عليهم بأنهم من أهل الفترة وأن الله تبارك وتعالى لا يعذبهم، فكيف تقوم عليهم الساعة؟ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق)، فإما أن تقول بوجود أمة بعد هذه الأمة التي تقوم عليها الساعة، وهذا كلام باطل؛ لأن هذه الأمة آخر الأمم وخير الأمم، وإما أن تنسحب من كلامك، والأمر الذي ذهب إليه أنه احتج بأحاديث في الصحيحين، وليست الحجة في الدليل الذي احتج به إنما الحجة فيمن وافقه على هذا الفهم، كما يقول الشاعر: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا وهذا هو بيت القصيد، فلو أن أحداً احتج بحديث أو بآية لا بد أن يوافق فهمه لهذه الآية ولهذا الحديث فهم السلف، فإن وافق كان على الحق، وإن خالف كان على الباطل، فإننا نسحب هذا الكلام وهذه القاعدة على فهم المصنف في كتابه: (عمر الأمة) على الأدلة التي ساقها من البخاري ومسلم، فإن حديث عبد الله بن عمر وحديث أبي موسى الأشعري في تحديد وقت العصر قد احتج بها البخاري في باب المواقيت تارة، وفي باب الإجارة تارة أخرى، فأين الكلام عن الساعة وأشراطها، وفناء الأمة من كتاب مواقيت الصلاة؟ والحديث إنما أورده الإمام البخاري في باب مواقيت الصلاة ليثبت أن وقت العصر حين أن يكون الظل ضعف المثل، وأنه ينتهي بدخول المغرب، وكذلك أورده في باب الإجارة؛ ليدل على أنك لو استأجرت أجيراً وقلت له: تعمل عندي اليوم وأعطيك ديناراً، وإن لم تتفقا على تحديد الساعة التي ينتهي عندها العمل، فيكون معلوماً سلفاً أن العمل ينتهي في المغرب؛ لأن اللغة تفرق بين ما يسمى باليوم والليلة، فاليوم هو النهار والليلة هي الليل، فلو أنك استأجرت أجيراً وقلت له: تعمل عندي طوال النهار وأعطيك كذا فلا يجوز له أن يأتي الظهر ويقول: قد فرغت من العمل، أو انتهى ما اتفقنا عليه؛ لأنكما قد اتفقتما على العمل في النهار فلا ينتهي إلا بدخول المغرب. الشاهد من هذا: أن الأحاديث التي احتج بها المصنف قد استنبط منها أهل العلم تسعة استنباطات، وأولوها على تسعة أوجه وأنحاء، ثمانية منها مرضية ليس فيها طعون، أما التاسع وهو اعتبار العدد الحسابي في قيام الساعة ففيه طعن ورد، والعدد الحسابي من فهم اليهود والنصارى لا من فهم المسلمين، ولكن زلة قدم الإمام الكبير محمد بن جرير الطبري -عليه رحمة الله- في اعتبار هذا العدد، وصنف رسالة أو تكلم بكلام طويل في مقدمة كتاب: (التاريخ) في إثبات عمر أمة الإسلام، وأنها لا تتعدى الألف عام، وقد أثبت الواقع والزمن، وقد أخطأ الطبري في تقديره؛ لأن الأمة تعدت ما حدده الإمام الطبري بأربعمائة وثلاثين سنة وزيادة، فأتى من بعده السهيلي ونحا نحواً من نحوه، وقد أثبت الواقع كذلك خطأ الإمام السهيلي، فأتى الإمام السيوطي -عليه رحمة الله- وصنف رسالة سماها: (الكشف أن هذه الأمة لا تتجاوز الألف)، وقال: ولا بأس أن الله عز وجل يمنحها من عنده نصف يوم، كما في حديث سعد بن أبي وقاص عن أبي داود وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وإني لأرجو الله ألا يعجز هذه الأمة من نصف يوم)، ونصف يوم بخمسمائة عام. إذاً: خمسمائة عام تضاف إلى الألف سنة فتصبح ألف وخمسمائة عام، مر منها ألف وأربعمائة وثلاثون، و

تأملات في سورة الكهف

تأملات في سورة الكهف إن المتأمل في قصة موسى عليه السلام مع الخضر يجد الأدب الجم من موسى عليه السلام مع الخضر، مع أن موسى عليه السلام أفضل من الخضر، فهو من أولي العزم من الرسل، بينما اختلف أهل العلم في نبوة الخضر، فموسى عليه السلام لم يستنكف أن يأخذ العلم ممن دونه، بل ويرحل في طلبه المسافات الطويلة، ويلقى المتاعب والمشاق من أجل تحصيله، وهناك فوائد كثيرة في هذا القصة الممتعة الشيقة، وكل قصص القرآن فيها من العبر والعظات الشيء الكثير.

قصة موسى عليه السلام مع الخضر وما فيها من العظات والعبر

قصة موسى عليه السلام مع الخضر وما فيها من العظات والعبر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد خرج موسى عليه السلام مع غلامه قاصداً ملاقاة الخضر ليتعلم منه، فلما وصلا إلى جنب صخرة نام موسى ونام غلامه، وكانت عند هذه الصخرة عين تنضح ماءً يسمى ماء الحياة، وكان لا يصيب هذا الماء شيئاً ميتاً إلا أحياه الله، فأصاب ذلك الماء الحوت الذي كان مع موسى وغلامه، فنفخ الله تعالى فيه الروح، فاضطرب في المكتل حتى نزل البحر، وسلك فيه طريقاً سرباً، وحينئذ أمسك الله تعالى عليه جارية الماء، فكان مثل الطاق في البحر، ماء جامد كالطريق المسلوك في البحر، فلما استيقظ موسى عليه السلام أخذ فتاه وانطلقا، فسارا ليلتهما حتى أصبحا، وبلغه الجهد، فقال موسى لغلامه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]. ولم يبلغ النصب والتعب بموسى إلا بعد أن تجاوز المكان الذي أمر أن يصل إليه وهو لا يدري. فقال له الغلام: هل لنا أن نرتد على آثارنا، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، وكان هذا الغلام قد أدرك أن الحوت المالح الذي اتخذه موسى عليه الصلاة السلام؛ ليكون زاداً وطعاماً له في الطريق، قد رد الله تعالى إليه روحه، ونزل البحر، ولكنه قال: إذا استيقظ موسى أخبرته بذلك، ولكنه نسي ذلك؛ ليتم ما أمر الله عز وجل به، فرجعا وارتدا على آثارهما قصصاً، يعني: كل واحد منهما رجع وهو يتحسس الطريق ويتتبعه، حتى يرجعا إلى نفس المكان ولا يخطئانه. قال موسى عليه السلام: فلما رجعنا إلى الصخرة وجدت عبداً عندها مسجىً، طرف ثيابه عند قدمه، والطرف الآخر عند رأسه، قلت: السلام عليكم. فرد علي السلام، ثم قال: وأنى بأرض السلام -أي: وكيف عرفتم السلام؟ كأنه لا يعرفه إلا نبي- قال: أنا موسى قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: إنك على علم علمكه الله عز وجل لا أعلمه، وأنا على علم علمنيه ربي أنت لا تعلمه، ما شأنك؟ قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] قال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68]. أي: أنك لا تصبر على هذا العلم، قال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:69 - 70]. فانطلقا في رحلتهما على ساحل البحر، فكلما مرت سفينة مرت دون سؤال، حتى مرت أجمل وأزين سفينة في البحر، وكانت لمساكين، فعرفوا الخضر فقالوا: ذاك العبد الصالح، فحملوهما بغير أجرة، خدمة للعلماء وأصحاب الفضل، وذوي الوجاهات، ولا حرج في ذلك ألبتة، فحملوهما بغير نول، فلما كانا في السفينة فوجئ موسى عليه الصلاة والسلام بأن الخضر اقتلع لوحاً من السفينة، وصار يعالج مكان اللوح، إما بقارورة دكها في الموضع، وإما بالقار وهو المعروف بالزفت. فقال موسى عليه السلام للخضر حينئذ: قوم حملونا بغير نول، وأكرمونا ثم تفسد لهم السفينة، لقد جئت شيئاً إمراً؟! أي: هذا أمر عجيب، ويكاد يكون منكراً، قال الخضر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:72 - 73]. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فكانت الأولى من موسى عليه الصلاة والسلام نسياناً). والبخاري عليه رحمة الله لما أخرج هذا الحديث في بعض مواطن الصحيح تحت (باب العذر بالجهل والنسيان) وأغنى عن ذلك قول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) وهو حديث حسن. فحينئذ اعتبر الخضر عليه السلام العذر في حق موسى لأجل النسيان، فلما نزل من السفينة وجدوا غلماناً يلعبون، وفيهم غلام هو أجملهم وأظرفهم وأحسنهم منظراً، فامتدت إليه يد الخضر، فاقتلع رقبته من بدنه وألقاها. وهذا الموقف موقف مهول، لا يقدر عليه أحد، ولذلك لم يصبر عليه موسى قال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74] أي: ما جريمة هذا الغلام حتى تقتله يا خضر؟ ماذا فعل؟ بل إنه أجمل الغلمان وأحسنهم: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:75] قال له موسى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، أي: هذا أمر لا يصبر عليه أحد، ولكن الخضر أعطاه فرصة ثالث

الفوائد والفرائد من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام

الفوائد والفرائد من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام في قصة الخضر وموسى من الفوائد والفرائد التي ربما لا توجد في قصة أخرى.

التأدب في طلب العلم والحرص عليه

التأدب في طلب العلم والحرص عليه من فوائد الأحاديث التي ذكرناها في هذه الخطبة: التأدب في طلب العلم، والحرص على طلب العلم، والرحلة في طلب العلم، وركوب البحر في طلب العلم، وأنه لا حرج في ذلك، وما ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تركب البحر إلا غازياً، أو حاجاً) فهو حديث ضعيف. ولا بأس بركوب البحر مطلقاً بشرط أن يكون البحر هادئاً، وأن يغلب على الظن سلامة المركب، أو يتيقن ذلك، حتى لا يتحقق فينا قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. وهذا جار في ركوب البر والبحر والجو على حد سواء. وقول موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، فيه من الملاطفة والموادعة والمؤانسة والتأدب الشديد في عرض المسألة على العالم، قال: (هل أتبعك) فجعل نفسه تابعاً للخضر، ومع أن موسى عليه السلام بالإجماع أفضل من الخضر. وفيه: جواز أخذ الفاضل الفائدة من المفضول، ولا حرج في ذلك. وكم من العلماء الكبار الأفهام تعلم من تلاميذه، ولذلك بوب العلماء في باب المصطلح والرواية: باب رواية الأكابر عن الأصاغر، وباب رواية الآباء عن الأبناء، ولا حرج في ذلك. وينبغي أن يلزم العالم وطالب العلم الأدب والتواضع والذل والانكسار بين يدي المعلم والأستاذ، فهذه عدة لابد أن يتسلح بها طالب العلم، {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]. والإجماع منعقد على أن موسى عليه السلام رسول ونبي، لكن وقع النزاع هل الخضر رسول ونبي أم لا؟ والذي يترجح من أقوال أهل العلم أن الخضر نبي من أنبياء الله؛ بدلالات كثيرة ذكرنا بعضها، ولا مجال لذكر البعض الآخر، ولكن نحيل على هذه الدراسات المتخصصة التي ظهرت في الآونة الأخيرة في بيان حقيقة الخضر عليه السلام. فبعضهم ذهب إلى أنه ولي، وهو ضعيف. والبعض الآخر: ذهب إلى أنه نبي، وهو قوي. أما كونه رسولاً، فلا، وإذا كان رسولاً فإنه لم يبعث إلى موسى عليه السلام، كما أن موسى بعث في بني إسرائيل، وبنو إسرائيل كانوا في ذلك الوقت من سكان مصر، وهذا يقوي الرأي الذي قلناه: إن أحداث القصة لم تكن في أنطاكية، ولا في الخليج العربي، ولا في بحر الروم، وإنما كانت على أرض مصر، وأن مجمع البحرين كان برأس البر، وأن القرية هي قرية دمياط.

الرحلة في طلب العلم

الرحلة في طلب العلم من فوائد هذه القصة: الرحلة في طلب العلم، والحفاظ على ذلك والإكثار منه، وبلوغ المشقة في ذلك، فقد ركب موسى وهو من هو عليه السلام إلى رجل لا يعرفه، ليأخذ منه العلم، وبلغ المشقة والنصب والتعب في ذلك، ثم إنه بعد أن لقيه تأدب بين يديه، وتلطف أيما تلطف. والرحلة في طلب العلم هي نهج سلفنا رضي الله عنهم. قال رجل للإمام أحمد بن حنبل: (هل ألزم رجلاً عالماً غزير العلم حتى آخذ العلم كله، أو أرحل في الطلب؟ قال: بل الرحلة أحب إلي). وهذا مسروق بن الأجدع طاف البلاد مراراً على قدميه في طلب العلم. وهذا جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو من هو في العلم والفضل والفقه، وهو من أكابر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام علماً وفقهاً وأدباً، يرحل من المدينة إلى مصر، ليسأل عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه وهو من الصحابة، وكان أمير مصر لـ معاوية رضي الله عنه، رحل إليه ليسأله عن حديث واحد، وهو حديث المحشر، قال: (بلغني أنك سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أسمعه، قال: سمعته يقول عليه الصلاة والسلام: يحشر الناس حفاة عراة غرلاً). فقوله: (حفاة): أي: ليس في أقدامهم شيء، (عراة) أي: ليس على أبدانهم شيء، (غرلاً): أي: غير مختونين. يعني: يحشرون إلى ربهم عز وجل على الهيئة التي خلقهم عليها من غير نقصان. ثم رجع جابر بن عبد الله الأنصاري دون أن يحل رحله إلى المدينة. وفي رواية: أن جابراً طرق الباب فقال الخادم: من؟ قال: جابر بن عبد الله الأنصاري، ثم قال: أعقبة في الدار؟ قال: نعم. انتظر فصعد الخادم إلى عقبة، وقال: إن جابراً الأنصاري بالباب، فنظر إليه عقبة وقال: ابن عبد الله؟ قال: نعم، قال: اصعد، قال: والله لتنزل ولا أصعد، إنما أتيتك لأسمع حديثاً ليس عندي، فأخبره عقبة بالحديث، فانطلق ولم ينزل من على دابته. رجل يأتي من المدينة إلى مصر مسيرة شهر، ثم يرجع مرة أخرى شهراً آخر؛ لأجل حديث واحد، ونحن كتاب الله تعالى بين أيدينا، وربما لا نفكر مرة أن نمر عليه مرور الكرام، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم واضحة بين أيدينا، وربما لا نفكر أن نطلع عليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

بيان موضوع مؤتمر القدس السليب ونتائجه

بيان موضوع مؤتمر القدس السليب ونتائجه الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد: ففي حديث قصة موسى مع الخضر فوائد كثيرة ومتعددة، وقد أخرجه البخاري في صحيحه في أكثر من عشرة مواطن، ويأتي في كل موطن بفائدة ليست في غيره، فهو حديث غزير بالفوائد والفرائد، ولكنا دندنا حول ما نريد أن نبلغه لإخواننا طلبة العلم، ونذكر بهذه المناسبة أننا اخترنا أن يكون هذا الحديث هو عنواننا، خاصة وأننا سنبدأ في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى ذاك المؤتمر الذي يعقد سنوياً في هذا المكان المبارك، وموضوع هذا المؤتمر: القدس الحبيب السليب، الذي اغتصبه اليهود أبناء القردة والخنازير منذ عشرات الأعوام، وهم يطمحون ويطمعون أن تكون لهم دولة مستقرة آمنة في هذه البقعة من أرض الله، لكن هيهات هيهات، الحرب دائرة، والجهاد ماض في الأمة إلى قيام الساعة رغم أنف الحاقدين، واغترار المغترين. والطريق الوحيد لإفناء اليهود وزوالهم من على وجه الأرض ليس السلام، وإنما هو رفع راية الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك ستكون الحرب بين معسكرين لا ثالث لهما: معسكر الإيمان والكفر، وستكون ساحة المعركة في أرض فلسطين حتى ينادي الحجر والشجر: يا مسلم، خلفي يهودي تعال فاقتله، وسيكون الجنود من المؤمنين ومن الحجارة والأشجار، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود. وأخبركم أن أرض الشام كلها قد كثر فيها شجر الغرقد، فهذه أمارات وعلامات؛ استعداداً للمعركة الحاسمة الفاصلة بين الإيمان والكفر، بين اليهود وبين المسلمين، والله تعالى سيكتب فيها النصر لأهل الإيمان، وسيورثهم الأرض من بعد ذل وهوان، لكنهم ما وقعوا في هذا الهوان إلا بتفريط منهم في اتباع كتاب الله تعالى وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا أفاقت هذه الأمة من كبوتها ورقدتها مكن الله تعالى لها، وهذه سنن كونية، فالنبي عليه الصلاة والسلام أوذي، والخلفاء أوذوا، وكان في قدرة الله عز وجل أن ينصر نبيه وهو نائم في بيته، لكن السنن الكونية أثبتت أنه لا نتيجة بغير سبب، ولذلك يقول العلماء: الاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد؛ لأنه مخالف للسنن الكونية الربانية. إذاً: فلابد من إعلان راية الحرب، ولا طريق إلى القدس إلا بهذا، ومن أراد صلحاً وسلاماً وأماناً مع اليهود، فإنما يمشي خلف سراب خادع، إذا أتاه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه. وأبشركم أن الدائرة والغلبة لأهل الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين سيدخل كل بيت حجر أو مدر، بعز عزيز يعز الله تعالى به الإسلام وأهله، وبذل ذليل يذل الله تعالى به الكفر وأهله). والحمد لله تعالى أن الإسلام الآن دخل في كل بيت حجر ومدر، ومن من الناس لا يسمع بالإسلام، ولا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام؟ لا أحد، ولكن النصر والتمكين والتأييد بشروطه وواجباته، إنما مآله إلى أهل الإيمان والإسلام في آخر الزمان، ولعلنا اقتربنا من هذه اللحظة، ومن ساحة الصدق، فما علينا إلا أن نعد العدة للمواجهة، والمواجهة هي مسئولية الحكام، لا مسئولية الشعوب؛ لأن مسئولية رفع راية الجهاد هي مسئولية الحكام، وهي في أعناقهم سيسألون عنها يوم الحساب، أما السلام مع اليهود فلا؛ لأن اليهود على مر التاريخ هم أهل غدر وخيانة، وغش وخداع، ولا سلام معهم، ولو كان منهم سلام لسالمهم النبي عليه الصلاة والسلام. وكم سالمهم عليه الصلاة والسلام وهو يعلم أنهم أهل غدر وخيانة، وأهل بهت وزور، وغش وخداع. ولذلك لم يثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا في تاريخ الإسلام أن أحداً سالم اليهود وهو لا يحذر منهم بعد عقد معاهدة السلم والسلام؛ لأنه يعلم طبيعة اليهود. فالشخصية اليهودية كلها ظلمات بعضها فوق بعض، وطريق أسود من الكحل، ولذلك لا عهد لهم ولا ميثاق، ومن واثقهم أو عاهدهم واطمأن إلى ذلك، فسرعان ما كان الغدر من قبل اليهود حليفه، وسرعان ما يتجرع المرّ نتيجة علاقته باليهود. المقفو باليهود عريان، تظهر عورته للقاصي والداني، ولأجل ذلك وعقداً للولاء والبراء اخترنا أن يكون المؤتمر السنوي الذي سيعقد في الأسبوع القادم في الجمعة القادمة بإذن الله عن القدس، وسيكون عن قضية الولاء والبراء؛ لأن معظم الأمة ذابت شخصياتهم في شخصيات اليهود والنصارى، والنصارى لا يقلون عن اليهود في الشر. واخترنا أن تعالج المحاضرات كلها بعض جوانب الموضوع، وطلبنا من السادة المحاضرين أن يعالجوا بقية هذا الموضوع، ولو على مدار عام كامل في محاضراتهم العامة، وفي خطبهم المنبرية، في هذا المكان وفي غير هذا المكان، حتى يتم الموضوع، وهو أكبر من أن يستوعب في أسبوع واحد، ولأن الجمعة التي بعد المقبلة ندوة عامة للسادة المحاضرين المتخصصين في هذه القضية للرد على أسئلة الجماهير، حتى يعلم المستمع ماذا عليه من الواجبات؟ وبماذا يخرج من هذا المؤتمر من فوائد ونكات؟ لابد أن يخرج الواحد منا وهو يعلم ما الذي عليه؟ وما هو الواجب الذي يثقل به كاهله؟ وكيف يسلك الطريق لت

منزلة المال في الإسلام

منزلة المال في الإسلام لا تقوم الحياة إلا بالمال، فهو عصب الحياة، وقد مدح السلف المال؛ وذلك للفوائد التي فيه، والتي يمكن للمسلم تحقيقها بسببه، وفي المقابل ذم الشارع الحرص عليه وعلى اكتنازه وعدم إنفاقه في وجوه الخير، والمال لا يمدح ولا يذم لذاته، وإنما لما يتعلق به وما يبعث عليه، فقد يمدح أو يذم لذلك.

المال بين المدح والذم وبيان متعلقه

المال بين المدح والذم وبيان متعلقه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. سنتكلم عن مسألة مهمة، ولعلها تكون جديدة في الطرح، ألا وهي منزلة المال في الإسلام. المال في ذاته لا يحب ولا يذم، فالمال في حد ذاته ليس محبوباً ولا مذموماً، وإنما يحب ويذم لصفة تتعلق بالآدمي الذي يحرص على تحصيله. ولو نظرنا إلى الناس تجاه تحصيل المال لوجدنا أن الباعث لهم على ذلك أشياء وأسباب كثيرة، ونجد أن الناس يتعاملون مع المال سلباً وإيجاباً، فمن الناس من يحصل على المال من غير حله ويضعه كذلك في غير حله، فيحصل عليه من الحرام ويضعه في الحرام، ومن الناس من يحصل عليه من الحلال ويضعه في الحرام، يكتسبه من عمل حلال ثم يشرب به الخمر مثلاً، ولا شك أن هذا مذموم من وجه وممدوح من وجه آخر. ومن الناس من يكسب المال من الحرام ويضعه في الحلال، ولكنه لا يقبل منه، كالذي يسرق مثلاً ليتصدق، أو كالتي تغني لتقضي ديونها، فلا شك أن هذا المكسب حرام، وإن كان الباعث عليه باعثاً جميلاً، وخير باعث على تحصيل المال أن يسد به المرء حاجته الدينية والدنيوية من حل أحله الله له. فالمال لا يذم ولا يمدح لذاته، وإنما يذم ويمدح لمتعلق الآدمي الذي انبعث من أجله في طلب وتحصيل هذا المال، وقد يكون هذا الباعث شدة فقر الآدمي أو تناوله من غير حله، أو لإخراجه في غير وجهه، أو ليفاخر الناس أنه صاحب مال، ولهذا قال الله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]. وإذا كان الباعث على تحصيل المال باعثاً غير شرعي فلا شك أن هذا المال سيكون فتنة لصاحبه. في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). فلو أنك أرسلت ذئاباً جائعة في حظيرة غنم، فإن هذه الذئاب ستفسد تلك الأغنام كلها، وحرص المرء على تحصيل المال وإثبات الشرف والجاه لنفسه من جهة الشرع، والبيان للناس أنه من أهل العلم لا شك بأنه أفسد للمال وللدين من إفساد الذئاب حظيرة الغنم.

خوف السلف من فتنة المال

خوف السلف من فتنة المال كان السلف يخافون من نعمة المال أشد الخوف، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا فتح الله عز وجل عليه الفتوح -وقد كثرت الفتوح كثرة بالغة ملحوظة في عهد الفاروق الفاتح رضي الله عنه- قال: ما حبس الله تعالى هذا عن نبيه ولا صاحبه لشر أراده بهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له. فقد كان عمر يدرك أن هذه الفتوح تحمل بين طياتها من الشر ما لم يكن موجوداً في عصر النبوة ولا في عصر الصديق رضي الله عنه، وكان يوقن تماماً أن هذه الفتوح كما تحمل الخير فإنها تحمل كذلك الشر. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يدرك ذلك جيداً، فكان إذا فتح الله على المسلمين بلداً من البلدان كان الناس يضحكون ويمرحون، إلا هو فكان يبكي ويقول: لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم). فكان ينظر إلى الفتوح وإلى كثرة المال الذي أتى من قبل الغنائم على أنه شر وليس خيراً. وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب، فإن استطعت رقيته وإلا فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه، قيل: فما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. أي: أن تأخذه من حلال وتضعه فيما أمرك الله عز وجل. وقال: مصيبتان للعبد في ماله عند موته، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله. فهو يدع المال كله للورثة، ومع هذا فسيحاسب عن هذا المال كله.

وجه مدح المال

وجه مدح المال المال لا يذم لذاته، بل ينبغي أن يمدح؛ لأنه باب يوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وإذا كان هكذا فلا شك أنه ممدوح، وقد سماه الله تبارك وتعالى: خيراً في قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]. وقال كثير من المفسرين: الخير هنا المال أو الخيل. والخيل عند العرب مال. وكان العرب يقولون: ليس المال ما جمع، إنما المال ما نفع. فليس المال هو الذي يجمعه صاحبه، وإنما هو الذي ينفع صاحبه بين يدي الله عز وجل، وقال الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: لا خير فيمن لا يجيد أن يجمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس -يعني: عن السؤال- ويصل به رحمه، ويعطي منه حقه. وقال أبو إسحاق السبيعي: كانوا يرون السعة عوناً على الدين. أي: كانوا يرون كثرة المال عوناً على الدين. فلو كان المال في يد أمينة واعية تحرص على طاعة الله ومرضاته فلا شك أن هذا المال سيكون لها سعة في الدين، ومنفعة بين يدي الرب تبارك وتعالى. وقال سفيان: المال في زماننا هذا هو سلاح المؤمن. وخلاصة الأمر أن المال حية، فيها سم وترياق، فترياقه فوائده وغوائله هي سمه، فمن عرف فوائده وغوائله أمكنه أن يتحرز من شره وينال من خيره. فمن عرف قيمة المال وفوائده ونفعه فلا شك أنه خير عظيم له، يعود نفعه عليه في الدنيا والآخرة. ومن نكث ولم يعرف فائدة المال من غوائله وشره فلا بد أن يقع في الشر.

فوائد المال ومنافعه الدينية

فوائد المال ومنافعه الدينية أما فوائد المال: فهي دينية ودنيوية: فوائد المال الدنيوية يعرفها الناس جميعاً، ولذلك تهالكوا وتهافتوا على تحصيل المال لأجل هذه المنافع الدنيوية، وإشباع الشهوات والرغبات. وأما منافعه الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة كالحج والجهاد؛ لأنه لا حج بغير مال، ولا جهاد كذلك بغير مال، فقد كان الفقراء يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلبون منه أن يحملهم إلى الجهاد، فيقول: لا أجد ما أحملكم عليه، اذهبوا إلى فلان؛ لأنه عنده مال، وهو يستخدمه في حقه بعد أن حصله من حله، فلا جهاد إلا بمال، ولا دفاع عن بيضة الإسلام إلا بتوفر الأسباب والوسائل، ومن أعظمها بعد الإيمان بالله المال. كما أنه لا حج إلا بمال، وقد شرط الله عز وجل الحج بالاستطاعة، والاستطاعة: هي الزاد والراحلة، كما ورد في الحديث عند أحمد، فمن كان عنده راحلة وزاد يكفيه ويكفي من يخلفه من أهله وعقبه مدة الحج فإن الله قد فرض عليه الحج. فمن منافع المال الدينية: أن يستغل المرء المال بالإنفاق على نفسه في العبادات كالحج والجهاد، وأيضاً في الاستعانة به على العبادة كالمطعم والملبس والمسكن وغيرها من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر لم يتفرغ القلب لعبادة الله عز وجل، وما لا يمكن العبادة إلا به فإنه كذلك عبادة. فلو حرصت من الآن على أن تجمع مالاً يكفيك للحج، فلا شك أن سعيك لتحصيل هذا المال بهذه النية هو عبادة لله عز وجل، حتى وإن لم تحج فيكفيك نيتك الصالحة في تحصيل المال لأجل قضاء الفرائض، أو القيام على طاعة الله عز وجل. والنوع الثاني: ما يدفعه للناس، وهو أربعة أقسام: القسم الأول: الصدقة، فلو سعى لتحصيل المال من أجل أن يتصدق به على عباد الله الفقراء، ويخرج منه الزكاة التي بها يحصل التكافل الاجتماعي بين الفقير والغني في المجتمع كما كان الحال في عهد الخلافة الراشدة، وفي عهد عمر بن عبد العزيز فهذا عبادة. القسم الثاني: المروءة، وهي: صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وما إلى ذلك، كما في الحديث: (تصدق الليلة على غني تصدق الليلة على زانية تصدق الليلة على سارق). وهذا يدل على أن صرف المال إلى هؤلاء الأصناف أمر جائز، وإن كان الأولى صرفها إلى من ذكرهم الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] إلى آخر الآية. القسم الثالث: وقاية العرض، مثل بذل المال لدفع هجاء الشعراء مثلاً، وقد كان الشعراء يدخلون على الملوك والسلاطين وأصحاب الأموال، فإن أعطوهم رضوا، وإن لم يعطوهم سخطوا عليهم وهجوهم بالشعر في أعراضهم. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه). وفي كل زمان ومكان يوجد أناس تخصصوا في التسول وسؤال الناس وسلب أموالهم ولو بالقوة، وهذا الصنف من الناس يمكن شراء ذممهم وألسنتهم بدفع بعض المال إليهم ذباً عن العرض والنفس؛ حتى لا يهجو الشخص بكلام ساقط، ثم إن هذا الكلام يجد من يلتقطه. القسم الرابع: ما يعطيه أجراً على الاستخدام، ولا شك أن هذا أمر مطلوب ولازم، فإن المرء له حاجات كثيرة، ولو قام بكل حاجة يحتاج إليها بنفسه وبيده لضاعت الأوقات وفنيت الأعمار دون أن يحصل مراده من كل شيء، فيلجأ إلى قضاء بعض الحاجات عن طريق الغير، ولا بد وأن يكافئ هذا الغير، وخاصة أهل العلم مثلاً، فلو أن رجلاً من أهل العلم له حاجات دنيوية، وإذا أراد قضاءها فلن يتفرغ للدعوة إلى الله عز وجل، فالأولى أن يكون معه مال يستخدم به أناساً آخرين لقضاء حاجاته الدنيوية؛ حتى يتفرغ هو للمهمة الدينية التي لا يقوم بها إلا هو. النوع الثالث: أن ينفق منه لا إلى جهة معينة وإنما في المصالح العامة كبناء المساجد والقناطر وسائر أنواع الوقوف وغيرها، ولا شك أن هذه فوائد دينية شرعية، والله تبارك وتعالى يأجر صاحب المال على إنفاق المال في هذه الوجوه؛ لأنه حصل المال من حله ووضعه في حقه. هذه جملة فوائد المال في الدين، ففي اكتسابه الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والعز بين الخلق، والوقار.

أضرار المال وغوائله الدينية

أضرار المال وغوائله الدينية وأما غوائل المال وشروره فتنقسم أيضاً إلى دينية ودنيوية: فأما الغوائل والشرور الدينية فهي ثلاثة كذلك: الأولى: أنه يجر إلى المعاصي غالباً؛ لأن كل معصية لها قوة، ولها سبل ووسائل، فإن تحققت القوة ووجدت السبل والوسائل كان المرء أسرع ما يكون إلى الوقوع في تلك المعصية، فلو أن إنساناً يملك مالاً وعرضت بغية من البغايا نفسها عليه وهو لا يستطيع أن يأتيها، وإن كانت السبل والوسائل قد توافرت فلن يقع في الفاحشة؛ لأنه لا يستطيع أن يأتي النساء، ولو كان شاباً فتياً معه المال وهو مليح الوجه فسيقع؛ لأن هذه الأسباب والوسائل إذا توافرت دفعته، إن لم يحجبه دين من الوقوع في تلك الرذيلة والفاحشة. وفي النصف الثاني من رمضان جاء رجل إلى أحد المدرسين وقال له: ساعدني فأنا أحتاجك أشد الاحتياج، فقد كاد ابني ينحرف، فذهب ذلك المدرس -والنقل عنه مشافهة- معه إلى البيت وجلس مع الوالد وولده، ثم سأله عن حاله؟ قال: والله إن ولدي ظهرت عليه علامات الانحراف، فظن المدرس أنه يعبد الشيطان، فقال: لا، إنما له اهتمامات أخرى، له اهتمامات بالنساء، والولد في الصف الثامن الابتدائي، كما أنه يأتينا في وقت متأخر من الليل في غير حالته الطبيعية، فألهم الله صاحبنا أن يسأل الوالد كم تعطيه مصروفاً كل يوم؟ قال: أنا أعطيه بيدي مائتي جنيه كل يوم، ويأخذ من أمه أموالاً أخرى، كما أنه يذهب إلى شركاتي في منطقة (العاشر من رمضان) وفي منطقة (أكتوبر) ويأخذ المال، ويجوب البلد شرقاً وغرباً من (ستة أكتوبر) إلى (العاشر من رمضان). فراتب الولد اليومي خمسمائة جنيه، فلماذا لا ينحرف؟ فقد أخذ الولد المال من أبيه، ولكنه وضعه في غير حقه، فلما كثر عليه المال أنفقه في غير طاعة الله عز وجل، فما كان من أخينا المدرس إلا أن قام وقال للوالد: أنت الذي أهملت ولدك، وعليك إصلاحه. فإذا كان الولد يأكل يومياً ما يكدح به غيره شهراً فكيف لا ينحرف؟ ولذلك يقولون: الفقر حشمة، وفي كثير من الأحوال الفقر ينفع صاحبه، فربما لو وجد شخص القدرة على فعل ما يشتهي لهلك، وإن صبر لقي شدة في معالجة الصبر، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، فقد تفتن بالمال أعظم من فتنة الفقر. الثانية: أن المال يدعو إلى التنعم في المباحات، فالذي معه مال فوق حاجته الضرورية يريد أن يشتري كل شيء تقع عينه عليه، فقد يكون عنده شقة فيها ثلاث غرف فيشتري ما يكفي عشر غرف؛ لأن المال فاض عنده، وعينه تشتهي قبل قلبه ويديه، فإذا نظرت عينه إلى شيء أراده، فهو متنعم ومترف في حياته، حتى يصير التنعم والرفاهية عادة له وإلفاً، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، ولو انقطع عنه هذا المال في يوم من الأيام فلن يستطيع أن يصبر على مر الجوع مرة أخرى، فلو أن رجلاً راتبه ألف جنيه في كل شهر، ثم خفض إلى خمسمائة جنيه لأصابه الشقاء، ولو أن رجلاً عاش ألف عام بخمسين جنيهاً ثم أعطيته في شهر ستين جنيهاً فسيشعر بفرحة ليس بعدها فرحة؛ لأنه في ازدياد، فهو يرفعه من مستوى أقل إلى مستوى أعلى، وأما الذي اعتاد على معدل إنفاق مرتفع فلن يستطيع أن ينزل عنه؛ لأنه كيّف حياته وهيأها على أن يعيش بهذا المال كل شهر، فهو لا يستطيع النزول عن ذلك، فلا بد أن تسول له نفسه الحصول على المال ولو عن طريق الشبهة أولاً، فإن استمرأ الحصول على المال المشتبه بين الحل والحرمة سهل عليه بعد ذلك أن يقع في الحرام الصريح؛ لأن استمراء الشبهات يؤدي إلى الوقوع في الحرام، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. الثالثة: وهي التي لا ينفك عنها أحد، أن كثرة المال تلهي عن ذكر الله تعالى، وهذا أمر يعلمه كل من معه مال، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى والتفكر في جلاله وعظمته، وذلك يستدعي قلباً واعياً فارغاً، وصاحب المال قلبه ليس فارغاً في الغالب، فمثلاً الذي عنده أراض كثيرة جداً يمسي ويصبح مفكراً في خصومة الفلاحين، فهو يفكر كيف يتعامل مع الرعاة والفلاحين، ويفكر في محاسبتهم، وفي خيانتهم له، وفي منازعة شركاء الحدود والماء، وأعوان السلطان يفكرون في الخراج، والوزراء يفكرون في العمارة أو غير ذلك، وصاحب العمارة يفكر كل يوم في الإيجار، وفي كل شهر يقضي أياماً في محاسبة المتأخرين، ولا يتفرغ فيها لذكر الله، وربما نقر الفرائض نقراً. وصاحب التجارة يمسي ويصبح وهو يفكر في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وهل يسرقه أو لا؟ وهل كسب أم خسر؟ وفي حالة الكسب يفكر ماذا يصنع بالمال؟ وفي حالة الخسارة كيف يعوضها؟ فهو في شغل وتفكير دائم، فكثرة المال من أشد أضراره أنه يلهي عن ذكر الله تعالى، بل حتى لو وضع في دهليز البيت داخل حفرة عظيمة فإنه يفكر هل سيصل إليه الماء فيتلفه أم لا؟ وهل الذين أحضروا معه المال سينسون هذه المسألة أم لا؟ وهل الجن سيعرفون هذا الطريق أم لا يعرفونه؟ وهل يمكن أن يدل الجن الأنس عليه، ويحفرون عليه في الليل ويأخذونه؟ فمع أن المال مدفون وتحت يده ولا يعرف مكانه إلا الله ثم هو، فهو يشغل باله به

حقيقة الفقر وما ينبغي على الفقير التحلي به من الآداب

حقيقة الفقر وما ينبغي على الفقير التحلي به من الآداب ليعلم أن الفقر محمود وممدوح وليس مذموماً، ولكن ينبغي للفقير أن يكون قانعاً، وهذه مسألة مهمة ومطلوبة جداً، فيقنع بما قسم الله له، ولا يتطلع ولا ينظر إلى من فوقه، بل كلما ازداد فقراً فلا بد وأن يكون في الخلق من هو أشد منه فقراً، فلو جاع أسبوعاً ولم يجد قوتاً فليعلم أن هناك من يجلس بلا طعام أكثر من ذلك، ولا يتصور أنه أفقر الخلق. فينبغي للفقير أن يكون قانعاً، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا أن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس. وقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، أي: عنده قوت يومه وهو قانع حامد. ولذلك اختلف العلماء اختلافاً كبيراً جداً في أيهما أفضل الغني الشاكر الذي يؤدي حق الله في ماله، أو الفقير الصابر على فقره؟ وخلاف أهل العلم أيهما أفضل، يدل على فضيلة الفقير الذي صبر وقنع بما آتاه الله. وقال سليمان بن داود عليهما السلام: (قد جربنا العيش كله)، أي: خيره وشره، وغناه وفقره، وضيقه وسعته. قال: (فوجدناه يكفي منه أدناه)، أي: أقل شيء في الدنيا يكفي؛ لأنك لا تأخذ إلا قدر حاجتك، والباقي تدعه إرثاً. وقال أبو حاتم: ثلاث من كن فيه كمل عقله، وكان عاقلاً حقاً، من عرف نفسه -أي: من عرف قدر نفسه، فمهما عظمه الناس وشرفوه، ورفعوه فوق الرءوس فهو يعرف قدر نفسه، وأنه أقل من ذلك، فيتعامل مع الله ومع الخلق ومع نفسه على بصيرة من أن قدره أقل مما وضعه فيه الناس- وحفظ لسانه عن إيذاء الخلق، وقنع بما رزقه الله عز وجل. فمن كانت فيه هذه الصفات فهو العاقل حقاً. وقال بعض الحكماء: أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة. فكلما كنت قنوعاً فأنت عزيز. أما الحرص فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس! أجملوا في الطلب؛ فإنه ليس للعبد إلا ما كتب له). فمهما سعيت في تحصيل الرزق أو إطالة الأجل فلن يكون إلا ما كتب لك قبل أن تولد. وفي الحديث عن ابن مسعود: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك)، و (3×40=120). قال: (ثم يرسل إليه ملك الأرحام، ويؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعي) فرزقك مقسوم لك، وحياتك مقسومة لك. وفي الحديث عند الحاكم وابن حبان وغيرهما بسند صحيح: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن روح القدس نفث في روعي وقال: يا محمد! اعلم أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته). فقد ذكر الحديث شيئين يخاف الناس عليهما، وهما: العمر، والرزق، مع أن العمر مقسوم، والحرص عليه لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، والرزق مقسوم، ولن يقدم الإنسان أو يؤخر منه شيئاً، فالمطلوب أن يسعى الإنسان سعياً حلالاً، فهو لن يأخذ إلا ما قسم له، فلماذا يحرص المرء على جمع المال الزائد من غير حله ويضعه في غير حله؟! وقد قيل: لو قيل للطمع: من أبوك؟ لقال: الشك في المقدور. أي: الشك فيما قدره الله تعالى وقسمه لي. ولو قيل له: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل. فالذي يحرص على جمع المال لا بد أن يكون ذليلاً لأصحاب المال. ولو قيل له: ما غايتك؟ لقال: الحرمان. فلو أنه وقع على صاحب مال لذل له؛ حتى يحصل على المال ولو كان قليلاً، والكل يمنع عنه المال، فهو يسأل الناس جميعاً، فهذا يعطيه وذاك لا يعطيه، حتى يألف السؤال والذل. والمتسول هو أذل الناس، مع أنه لا يعتقد أنه ذليل، ولا يتصور أنه ذليل، وربما تصور هذا وشعر به في أول حياته التسولية، ولكن مع كثرة السؤال واستدامة الذل والصغار عند الخلق يألف ذلك، حتى تكون حياته كلها ذلة وصغار.

علاج الحرص والطمع في المال وطرق اكتساب القناعة

علاج الحرص والطمع في المال وطرق اكتساب القناعة أما علاج الحرص والطمع واكتساب القناعة فهذا لا يكون إلا بالصبر على الفقر، والعلم بفضل القناعة عند الله، والعمل على أن يكون عزيزاً غير ذليل، ولا يكون ذلك إلا بأسباب، منها:

الاقتصاد في المعيشة

الاقتصاد في المعيشة الأول: الاقتصاد في المعيشة، والرفق في الإنفاق، فمن أراد القناعة فينبغي أن يشد على نفسه ما أمكن، فبعد أن كان لا يقنع إلا بشراء كل ثوب جميل يراه، حتى ولو لبسه مرة واحدة فقط فهنا يقنع نفسه أنه لا يلبس إلا ثوباً في الشتاء وثوباً في الصيف. وقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال: فراش لك، وفراش لغيرك، وفراش للخادم، والرابع للشيطان. فالأول لك تنام عليه، والثاني للضيف إن احتاجه، والثالث للخادم؛ لأنك مسئول عنه، والرابع فائض لا حاجة له، فهو للشيطان. هكذا كان هدي السلف، وهذا مفهوم إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل. فالقناعة تعين العبد على استدامة العلم والبعد عن الرفاهية، ورد نفسه إلا ما لا بد منه. فإذا أراد شراء شيء وقع في نفسه سأل نفسه: هل يمكن أن تقوم حياتي بغير هذا؟ فإذا كان A نعم فلا داعي لشرائه. وفي الحديث (ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والصبر في الفقر والغنى، والعدل في الرضا والغضب).

عدم التفكير في الغد

عدم التفكير في الغد الثاني: إن يتوفر لك ما يكفيك، فلا تكون شديد الاضطرار، فإن كان عندك قوت يومك فلا تفكر في غد، فإذا عملت بطاعة الله وحصلت من المال من حله ما يكفيك في يومك، فأنت في غنى عن التفكير في غد. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها). فإذا كان الله تعالى قسم لك الرزق والأجل، فلا بد أن تمشي متوكلاً ومعتمداً على الله عز وجل، ومن سد عنه باب الخوف على الزرق فلا ينبغي أن يضطرب قلبه؛ لأن رزقه في السماء، وليس في ذلك الباب الذي ظن أن فيه الرزق، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22].

معرفة فضل القناعة

معرفة فضل القناعة الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز واستغناء، وقد تعرض عمر بن عبد العزيز لاختبارات وامتحانات كثيرة جداً من أول ما تولى الخلافة، فقد كان من بيت كله رفاهية، والأمويون كانوا أصحاب أموال، وكانوا علية القوم، وهو منهم، فأرادوا أن يفتنوه بكل سبيل فلم يفلحوا، حتى عرضوا عليه المال والدنيا فأخذها منهم ووضعها في بيت المال، ثم لم يردها لهم. وعندما تولى الخلافة قال لزوجته: الذي ذهب شيء والذي سوف يأتي شيء آخر، فقد صرنا في موضع المسئولية، فحياتنا حياة تقشف. ولا شك أنه قد استفاد من سيرة جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان عمر بن الخطاب من أغنى قريش، ولكنه في عام الرمادة -عام الفقر والجدب- الذي نزل بالمسلمين كان يأكل دون الشبع رضي الله عنه، حتى كان يقول لبطنه إذا قرقرت وأحدثت صوتاً: قرقري أو لا تقرقري، فوالله لا تذوقي السمن حتى يطعمه أطفال المسلمين لأنه في موضع المسئولية، وحفيده كذلك كان في موضع المسئولية، فـ عمر بن عبد العزيز لم يستطع أحد فتنته بأي عرض من أعراض الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس). فعلى المرء أن يعرف ما في القناعة من عز واستغناء، وقد كان الأعمش سليمان بن مهران الكوفي في ضرب من الفقر، وكانت توزع عليه الأموال فيدعها ولا يأخذها. وكان الحارث بن أبي أسامة أحد المحدثين الكبار جداً، ولم يكن في زمانه أفقر منه، وكان عنده من البنات ست، ومع هذا الفقر كان لا يقبل هدية السلطان، فدخل عليه صاحب السلطان وألقى بصرة في كوة في البيت، فقال الحارث لبناته: لا تمدن أيديكن إليها، فبقيت هذه الصرة أياماً كثيرة حتى عاد ذلك الرجل إلى البيت مرة أخرى، فقال الحارث: والله لم تمتد يد إلى أمانتك، خذها وانصرف، قال صاحب المال: والله لقد أخذتها من بين خيوط العنكبوت. ويقول الحارث بن أبي أسامة: وإن لي من البنات ستاً أصغرهن بلغت كذا وكذا من العمر، ولم يتزوجن لأجل الفقر، وليس عندي إلا ولد قد وضعت عليه كفني؛ انتظاراً للموت. وأحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة لما رحل في طلب الحديث إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني في صنعاء انقطع عنه الزاد في الطريق فاشتغل حمالاً، يحمل للناس مقابل الأجر، فلما دخل صنعاء ولقي عبد الرزاق قال له: إنا أصحاب زراعة وإن الموسم قد حان وعندنا أموال، فخذ هذا وأنا آخذ هذا، فقال: والله لو قبلت عطية أحد لقبلت عطيتك. وأحد المحدثين كاد أن يهلك من الجوع فأرسل إليه السلطان بمال فرده، فصاحت امرأته وأولاده من خلف الجدار: خذ المال، فلم يرد عليهم، وبعد أيام منّ الله عليهم بمال فأكلوا وشربوا، ثم قال: أنتم جوعى أم شبعتم؟ قالوا: شبعنا. قال: ولو كنا أخذنا المال شبعنا أم جعنا؟ قالوا: شعبنا، قال: نحن في الحالتين إذاً شبعنا، وقد رددنا على السلطان هديته.

عدم النظر إلى ما عند الناس

عدم النظر إلى ما عند الناس الرابع: ألا ينظر إلى حياة اليهود والنصارى وأضرابهما، فإذا نظرت إلى الواقع وجدت اليهود والفساق أغنى الناس، وترى الولد الصغير يركب سيارة من أحدث موديل، ثم ترى صاحب الدين والشرع والسجود والركوع ليس عليه نعمة من ذلك، وقد نظر عمر بن الخطاب أولاً هكذا، فقال: (يا رسول الله! ملوك الفرس والروم ينامون على الحرير وأنت تنام على الأرض؟ فقال له: يا عمر! إنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة). فهذه زينة أهل الدنيا، ومهما طالت فهي قصيرة، ومهما طالت دنياك فإن قيامتك تكون بموتك، وكم سيكون عمر الإنسان؟ ستين سنة، أو سبعين سنة في رفاهية ونعيم، ثم يشقى بعد ذلك بكفره أبد الآبدين. وأما من صبر على مُرِّ الطاعة لأجل أن يتنعم نعيماً مؤبداً أبدياً في الآخرة فهذا هو الذكي، وهو العاقل الذي هو مستغن بالله تبارك وتعالى في حياته. فانظر كيف يتنعم اليهود والنصارى وأرباب المال والحمقى، ثم انظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصالحين واسمع أحاديثهم وطالع أحوالهم، وانظر إلى صفوة الخلق عند الله تعالى كيف يمن عليهم بالصبر على القليل، والقناعة باليسير، ولو كان التنعم بالأكل فضيلة فإن البهيمة أكثر أكلاً من الإنسان، ولا يوجد إنسان يأكل أكثر من البهيمة، ولو كان النعيم في الشرب فالبعير يشرب قدر ما يشرب إنسان. فالغنى لا يكون إلا بالله عز وجل.

النظر إلى من هو دونك في الدنيا

النظر إلى من هو دونك في الدنيا الخامس: أن يعرف ما في جمع المال من الأخطار والهموم والأحزان، وينظر إلى ثواب الصابر، وينظر إلى من دونه في الدنيا، وإلى من فوقه في الدين، فإذا أردت أن تعيش حياة هنية في الدنيا فانظر إلى من هو أدنى منك، وفي جانب الدين انظر إلى من هو أعلى منك. فإذا شاهدت رجلاً يقوم الليل في كل ليلة فقم مثله فهو ليس أحسن منك، وإذا كنت فقيراً ففلان أفقر منك، ومع هذا فهو صابر وراض بما قدر الله وقسم، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (انظروا إلى من هو أسفل منكم -أي: في الدنيا-، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر إلا تزدروا نعمة الله عليكم). ولو نظرت إلى الأغنياء فلن ترضى بما قسم الله لك، وهذه بلية عظمى، ولو نظرت إلى من هو أفقر منك فستقول: الحمد لله، أنا في حالة جيدة، فهذا عار وأنا لابس، وهو جائع وأنا شبعان، وهو عطشان وأنا ريان، ولو جلست على موائد الملوك والرؤساء والأمراء وأصحاب الأموال فستقول: أين أنا من هؤلاء الناس؟ فمهما كنت صاحب دين وليس عندك يقين ومنهاج داخل نفسك فستقول: أنا أرضى بهذه الحياة، ولا بد أن أحصل على المال ولو من الأموال الربوية، ولو سرقت. ومع ضعف الإيمان في القلب تكون النتيجة أنك تبدأ في التخلص من كل شيء، وتعيش حياة الفساق من أولها إلى آخرها. فعماد الأمر الصبر على ما قدره الله لك وقضاه، وقصر الأمل في الدنيا، وأن تعلم أن غاية صبرك في الدنيا أيام قلائل، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك). ولو نظرت إلى حياة أبي لهب وحياة عمر بن الخطاب فستجد أن هذا استمر في كفره، وهذا صار خليفة للمسلمين، وأميراً للمؤمنين، وكلاهما قد مات، ولكن أحدهما يتنعم في قبره والآخر يعذب في قبره، إلى قيام الساعة، وليس هذا هو المنتهى، بل هذا ينتقل من نعيم إلى نعيم أعظم أبدي، وهذا ينتقل من عذاب إلى عذاب أعظم أبدي سرمدي؛ لأنه لم يقبل طريق الهدى، وهذا قبل طريق الهدى، فكأفأ الله عز وجل كلاً بحسب عمله وبما قدم، فينبغي لمن فقد المال أن يستعمل القناعة. واعلم أن ما اختاره الله لك هو خير مما تصبو نفسك إليه، ومن وجد المال فقد وجب عليه أن يستعمل السخاء والإنفاق واصطناع المعروف، فإن السخاء من أخلاق الأنبياء، وهو أفضل أصول النجاة، وفي الحديث: (اصنعوا المعروف؛ فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء). يعني: صناعة المعروف فيها النجاة كل النجاة من الهلاك والانحراف. وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه كان أجود الناس، وكان أجود من الريح المرسل). فقد كانت تمتد يده إلى الخير والصدقة للخلق جميعاً امتداداً أسرع من الريح التي يرسلها الله عز وجل، وما سئل عن شيء قط فقال: لا، وإن رجلاً سأله فأعطاه غنماً بين جبلين، يعني: قطيعاً كبيراً جداً من الغنم -مقدار ما يملأ بين جبلين- فأخذ الرجل هذا القطيع وذهب إلى قومه، فقال لقومه: آمنوا بمحمد، فإنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبداً، فأتى هذا الرجل بقومه جميعاً فأسلموا وطلبوا حاجتهم، فلم يمنعهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالجود والسخاء أدخل أقواماً وأمماً في دين الله عز وجل.

من قصص الأسخياء

من قصص الأسخياء كان لـ عثمان على طلحة رضي الله عنهما خمسين ألف درهم، فخرج إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد! جزاء لك على مروءتك. وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتعرف إليه برحم، وقال له: أنا أعرفك من بعيد، فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم. وقال عروة: رأيت عائشة رضي الله عنها توزع سبعين ألفاً في درعها، وهي ترقع ثوبها، ولم تشتر ثوباً آخر، بل رقعته، ووزعت المال الذي بين يديها في سبيل الله عز وجل. وروي: أنها قسمت في يوم واحد مائة وثمانين ألف درهم بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية! علي فطوري -فقد كانت صائمة- فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم برة: ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بربع دينار لحماً نفطر عليه؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت. واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان في الليل سمع بكاء أهل خالد، فقال لأهله: مال هؤلاء؟ قالوا: يبكون على دارهم، فقال: يا غلام! آتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً. وبعث رجل إلى عبد الله أنه وصف لعلاجه لبن البقر فابعث لي بقرة أشرب من لبنها، فبعث إليه بسبعمائة بقرة ورعاتها وقال: إن القرية التي كانت ترعى فيها لك كذلك. فهو طلب بقرة واحدة يشرب لبنها، ففوجئ بقرية من البقر. ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: علي دين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، فقال: هو علي. وجاء رجل إلى معن بن زائدة فسأله؟ فقال: يا غلام! ناقتي الفلانية وألف دينار فدفعها إليه وهو لا يعرفه. ومرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه، حيث لم يأت أحد ليزوره وهو مريض، وكان صاحب مال وكان يقرض الناس، فلما ذكرهم في مرضه، قيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناد ينادي في القرية: من كان لـ قيس عليه حق فهو منه في حل، فانكسرت عتبة بابه بالعشي من كثرة من جاءوا لزيارته. وقام رجل إلى سعيد بن العاص يسأله، فأمر له بمائة ألف درهم، فبكى بعد أن أعطاه المال، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي على أن الأرض تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى، فأخذ المائتي ألف وجلس يبكي.

التحذير من الشح وآثاره

التحذير من الشح وآثاره قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أريت الجنة والنار، فرأيت أكثر أهل النار النساء). وفي الحديث عند مسلم (يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار). وهذا فيه إشارة ودلالة على أن الشح والغفلة عن ذكر الله أكثر في النساء من الرجال. ثم قوله: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب أحد أبد) قد يكون للتحذير من أن يكون المؤمن شحيحاً؛ لأن الشح في المنع أبلغ وأشد من البخل، فالبخل هو أن يبخل الإنسان بماله على نفسه أو على الناس، وأشد وأنكى من ذلك من يبخل بمال الناس على الناس، فالشحيح أعظم هؤلاء الثلاثة. فالشحيح يموت ولا يأكل، وأما البخيل فإنه إذا جاع وأحس أنه سوف يموت من الجوع فإنه يشتري ويأكل، وأما الشحيح فمن الممكن أن يموت ويهلك ولا يهون عليه أن يخرج شيئاً من جيبه يشتري به ما يأكله. والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (اللهم أني أعوذ بك من الجبن والبخل). وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة: (من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس على أننا نبخله، قال: وأي داء أدوأ من البخل -أي: وهل هناك علة أعظم من علة البخل؟ - بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور). فالبخيل لا يستحق أن يكون سيداً، كما أن الجافي الغليظ لا يستحق أن يكون سيداً. وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه الولاية، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام يقبل الأولاد، قال: أتقبلون أولادكم وصبيانكم! إن لي عشرة من الولد والله ما قبلت واحداً منهم، فمنعه الولاية، فمن ليس في قلبه رحمة لأولاده فكيف يرحم الناس؟ وهذا الرجل هو الأقرع بن حابس رضي الله عنه. وعن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاث مهلكات: شح مطاع -وإذا كان الشحيح سيداً فلا بد أن يقود الأمة إلى الهلاك-، وهوى متبع -أي: الحكم بالهوى وليس بالكتاب ولا بالسنة ولا بمنهج مستقيم-، وإعجاب المرء بنفسه). وقال سلمان الفارسي: إذا مات السخي قالت الأرض والحفظة: رب! تجاوز عن عبدك في الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة كما حجب عبادك عما جعلت في يديه من الدنيا. وقال بعض الحكماء: من كان بخيلاً ورث ماله عدوه، وإن كان هذا العدو من أقرب المقربين إليه. ونحن نسمع كل يوم أن ولداً قتل أباه من أجل أن يرث وزوجة قتلت زوجها من أجل أن ترث، ورجلاً قتل أمه من أجل أن يرث، وغير ذلك من الحكايات التي نسمع عنها في كل يوم. ووصف أعرابي رجلاً فقال: لقد صغر في عيني لعظم الدنيا في عينيه. يعني: هو عندي حقير؛ لأن الدنيا عظيمة في عينيه.

من قصص البخلاء

من قصص البخلاء روى ابن عباس رضي الله عنه قال: كان الحاجب رجلاً من أجل العرب، وكان بخيلاً، وكان لا يوقد ناراً بليل كراهة أن يراها راء فينتفع بضوئها، وكان إذا احتاج إلى النور أوقد السراج، فإذا بصر بمستضيء أطفأه. يعني: حتى لا ينتفع به غيره. وقيل: كان مروان بن أبي حفصة من أبخل الناس، حتى كان يبخل على أهل بيته، فخرج يريد المهدي، فقالت له زوجته: ما لي عليك إن رجعت بجائزة، أي: ماذا تعطيني؟ فقال: إن أعطيت مائة ألف درهم أعطيتك درهماً، يعني: واحداً من مائة ألف، فأعطي ستين ألف درهم فأعطاها أربعة دوانق، والدانق لا قيمة له عند العرب، ومن معه دوانق فلا يعد معه مال. وكان بعض البخلاء موسراً جداً كثير المال، وكان ينظر في دقائق الأشياء، فاشترى شيئاً من الحوائج ثقيلاً ودعا حمالاً وقال: بكم تحمل هذه الحوائج؟ وكان الحمال يعرفه، فقال: بحبة قمح، فقال ذلك الثري: أنقص، يعني: لا يوجد شيء أقل من هذا، فقال الحمال: ما أقل الحبة! يعني: ما تريد أكثر من ذلك؟ فقال: لا، أنا أدري، قال: قل، قال: نشتري بالحبة جزرة، فنجلس سوياً فنأكل؛ لأن حبة القمح لا تنقسم، فنستبدل بها جزرة، فهي تصلح للقسمة.

درجات السخاء والبخل

درجات السخاء والبخل واعلم أن السخاء والبخل درجات، فأرفع درجات السخاء: البذل والجود والإيثار، فالسخاء هو أن تؤثر إخوانك بما في يدك، قال الله تبارك وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. والآية هذه نزلت في أبي طلحة الأنصاري وامرأته العظيمة أم سليم رضي الله عنهما، فقد نومت أولادها رغماً عنهم، وقدمت الطعام الذي هو حظها وحظ زوجها وأولادها الصغار لضيف النبي عليه الصلاة والسلام المتعب الذي أتى من سفر طويل، وأمرت زوجها أن يطفئ السراج ويصدر أصواتاً بفمه ويده ليوهم ضيفه أنه يأكل معه، حتى يأكل الضيف جميع الطعام ويشبع، ثم لما ذهب أبو طلحة إلى صلاة الفجر قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لقد عجب الله من صنيعكما تلك الليلة). فهذا هو الصنيع السخي الكريم الجواد المؤثر، وأي امرأة تفعل مثل ما فعلت أم سليم الأنصارية رضي الله عنها؟ فالأخلاق عطايا ومنح يضعها الله عز وجل حيث شاء في خلقه. وأشد درجات البخل: أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض ولا يتداوى، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل وليس الفقر، وهذا شر المال، فصاحبه يبخل به على نفسه وعلى ولده. وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، ففي معركة اليرموك استشهد عشرة من الرجال، سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وجماعة من بني المغيرة، فأتوا لهم بماء فماتوا ولم يذوقوه، وكانوا إذا أتوا بالماء إلى أحدهم نظر إلى صاحبه فوجده ينظر إليه، فيأمر من بيده الماء أن يدفع الماء إلى صاحبه، فلما ذهب إلى آخرهم وجد الأول قد مات، فأتى الثاني فوجده قد مات أيضاً، وماتوا جميعاً، وهم يؤثرون بعضهم على بعض، فمر عليهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم. وأهدي إلى رجل من الصحابة رضي الله عنه رأس شاة فقال: إن أخي أحوج إليه مني، فبعث به إلى رجل، فبعث به ذلك الرجل إلى آخر حتى تداولته في المدينة سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول. هذا هو الإيثار والكرم والجود والأخلاق. وخرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يعمل فيها، فأتي للغلام بقوته، فدخل كلب الحائط ودنا من الغلام، فرمى إليه قرصاً فأكله، ثم رمى إليه قرصاً آخر فأكله، ثم رمى إليه قرصاً فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر إلى ذلك العامل الأسود، فقال: يا غلام! كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت، قال: ما الذي حملك على أن تطعمها للكلب؟ قال: إنه كلب غريب عن المكان وقد دخل البستان، فألقيت إليه قرصاً رجاء أن يشبع فلم يشبع حتى أكل طعامي، فاشترى عبد الله بن جعفر ذلك الحائط واشترى الغلام وأعتقه لله عز وجل. فصنائع المعروف تقي مصارع السوء. واجتمع عشرة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم ثلاثة أرغفة لا تكفيهم، فكسروها وأطفئوا السراج وجلسوا للأكل -والثلاثة الأرغفة لا تكفي لأحدهم- فلما رفع الطعام إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لأصحابه.

تعريف البخل وأسبابه وأسباب حب المال

تعريف البخل وأسبابه وأسباب حب المال البخل: هو أن تمنع ما كان مشهوداً عرفاً أنه من المروءة، وأنت قادر على ذلك. وسبب البخل حب المال، ولحب المال سببان: الأول: حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل وله ولد قام الولد مقام قصر الأمل، فيكون كل همه أن يجمع المال لأولاده. الثاني: حب المال لذات المال، فهو يفرح بجمع المال، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب. فهو يحب المال لذات المال، وفي الأخير يرحل عنه ويسأل عنه كله يوم القيامة، في الوقت الذي لم ينتفع بشيء منه، فهو في منتهى الغباء، يجمع المال ولا ينتفع منه بشيء ويسأل عنه، فأي عقل وأي قلب هذا؟ نسأل الله العافية والسلامة. ثم إنه مع جمعه للمال لا تسمح نفسه بإخراج الواجب عليه، ولا حتى إخراج الزكاة، وهو يعلم أنه إذا مات أخذه أعداؤه، أو ضاع إن كان مدفوناً. وحب المال لذات المال لا يمكن علاجه، ومثال ذلك: رجل أحب شخصاً، فلما جاءه رسول ذلك الشخص أحب الرسول ونسي محبوبه واشتغل بالرسول، فهذا يحب الدنانير لذاتها وينسى الحاجات، وهذا غاية الضلال. واعلم أن علاج كل علة بمضادها ومضاد أسبابها، فيعالج حب الشهوات بالقناعة والصبر، وقصر الأمل في الدنيا بكثرة ذكر الموت، ويعالج احتياج القلب إلى غير الله بأن من خلقه خلق معه رزقه، وكم ممن لم يورث شيئاً أحسن حالاً ممن ورث، ولو أنك فقير وليس معك مال ولكنك غني بالله وبدينك، فأنت أغنى من ذلك الرجل الذي كان يعطي ولده في اليوم الواحد خمسمائة جنيه، فأنت مع فقرك أحسن منه وأغنى منه؛ لأنك غني بالله. فهو يقدم لولده الخير ويقدم هو على الله بشر، فإن كان ولده صالحاً فالله يتولاه، وإن كان فاسقاً فلا يترك له ما يستعين به على المعاصي. أقول قولي هذا، وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.

ندوة حول قانون الخلع

ندوة حول قانون الخلع يسعى العلمانيون إلى هدم أحكام الشريعة الإسلامية عبر قوانينهم وتشريعاتهم، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ذلك فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية في مصر وقانون الخلع وغيره، هؤلاء هم أبواق لليهود والنصارى، فأسيادهم من اليهود والنصارى عقدوا المؤتمرات الدولية باسم المرأة والسكان، وهدفهم تدمير الأسرة المسلمة المبنية على الطهر والعفاف، بينما أسرهم مفككة مدمرة، فأرادوا تدمير كيان البيت المسلم، فينبغي الحذر من هؤلاء وأذيالهم من بني جلدتنا.

أنواع الفتن وأسبابها والمخرج منها

أنواع الفتن وأسبابها والمخرج منها بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ستكون فتن وستنقض عرى الإسلام عروة عروة، وسيكون أولها نقضاً الحكم، وآخرها الصلاة). وهذا بلا شك ثابت وواقع في الأمة، حتى إنه لواقع ملموس لكل أحد منا، فالحكم قد نقض منذ زمن طويل، ولا تكاد تجد خاشعاً، فثبت منها معلم من معالم النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (وستنقض عرى الإسلام عروة عروة). وصح عند البخاري من حديث حذيفة أنه قال: (بينما نحن جلوس عند أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إذ قال: أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا يا أمير المؤمنين! قال: ماذا قال؟ قال: إن فتنة الرجل في بيته وأهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والزكاة والحج، فقال عمر: ليس عن هذا أسألك، إنما أسألك عن الفتنة التي تموج موج البحر. فقال حذيفة: مالك وإياها يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها باباً. فقال أمير المؤمنين: أيكسر أم يغلق؟ فقال: بل يكسر. قال: لا أبا لك. قل: يغلق. قال: لا يا أمير المؤمنين! بل يكسر، فقيل لـ حذيفة: ما هذا الباب؟ قال: عمر). أي: عمر سد منيع رضي الله عنه بين حياته وبين وقوع الفتن للأمة التي لا ترتفع عنها إلى قيام الساعة. هذا الأثر يبين أن الفتن نوعان: فتن تمر وتكفرها الطاعات، وفتن أخرى لا تكفرها الطاعات، بل هي تموج موج البحر، وربما تستأصل شأفة المسلمين من جذورها. ومرد الفتن كما يتفق على ذلك أهل العلم إما إلى شهوة أو إلى الشبهة، فإن كان أصل الفتنة شبهة فإن هذه الأمة تحتاج إلى تعليم وإلى علم صحيح مرده إلى كتاب الله وسنة رسوله. كما يقول ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول سفيه فهذه مصادر العلم الصحيحة المعتبرة لدى أهل العلم من أهل السنة: قال الله. قال رسوله. قال الصحابة. الإجماع. أما إذا كان أمر الفتنة شهوة فهذا هو الموت والخطر؛ لأنه يحتاج إلى تقوى من العبد؛ ولذلك يقول ابن خلدون في مقدمته: إن العرب بالذات من بني آدم لا يهنئون إلا بشرع، حيث لا يقادون إلا بوازع ديني من ذاتهم. هذا الوازع الديني لا يمكن أن يتأتى إلا من قبل الوحي؛ ولذلك إذا انتبه العبد لوحي السماء وحط العبودية الكاملة لله عز وجل، فإنه يطبق شرع الله بينه وبين نفسه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق دون أدنى رقابة عليه من الخلق، فإذا فقد العبد التقوى فإن قوى الأرض بأكملها لا يمكن أن تحمل العبد على أن يطبق قانوناً واحداً.

أهداف انعقاد المؤتمرات حول المرأة والسكان والتوصيات الناتجة عنها

أهداف انعقاد المؤتمرات حول المرأة والسكان والتوصيات الناتجة عنها إذا أردنا أن نضع النقاط على الحروف من أول وهلة لقلنا: إن قانون الخلع الذي سنه العلمانيون إنما هو كلمة حق مشبوهة وقاصرة، ومع هذا أريد بها باطل، وإلا فلنا Q لماذا الخلع بالذات؟ الخلع في دين الله عز وجل لا يختلف عليه قاص ولا دان، لكن لماذا هو بالذات وفي هذا التوقيت كذلك بالذات؟ لابد أن وراء الأكمة ما وراءها؛ ولذلك انعقد المؤتمر في باريس سنة (1951م) ليقرر: هل المرأة آدمية أم حيوان؟ ثم تفضل المؤتمر مشكوراً بتقرير أن المرأة آدمية، وهذه نتيجة تعد طيبة في عالم الغرب؛ لأنهم يتعاملون معها كأي سلعة أو متاع، فكونهم أقروا بأنها آدمية لها حقوق فهذا شيء طيب، ربما لم تصل الجاهلية إلى هذه النتيجة قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم توالت المؤتمرات حتى انعقد مؤتمر بكين، وكانت له من التوصيات ما له، ومرد هذه التوصيات ومفادها هدم الأسر المسلمة بالذات؛ لأنهم يغارون أشد الغيرة من قيام النظم الاجتماعية بين أفراد المسلمين في بلاد المسلمين، فغاظهم ذلك وأكلهم حسدهم وبغضهم على المجتمع الإسلامي، فلابد أن يصل المجتمع الإسلامي إلى ما وصل إليه المجتمع الغربي والأوروبي والأمريكي من التفكك والإنهيار بأي سبيل كان، إما بقوة وإما بتلك الثقافة، فلما فشلوا في إفساد هذا المجتمع بالقوة لجئوا بعد ذلك إلى هذه الثقافات، فزرعوا في بلاد المسلمين أعواناً لهم يُعملون في الأمة الإسلامية أكثر مما يعمله هؤلاء المجرمون.

توصيات مؤتمر السكان المنعقد في مصر

توصيات مؤتمر السكان المنعقد في مصر آخر هذه المؤتمرات المؤتمر الذي سمي بمؤتمر السكان والمنعقد في مصر، وكان من بين التوصيات التي خرج بها هذا المؤتمر إلغاء الميراث، والأزهر بل والدوائر الحكومية قالت: إن أي مخالفة في هذا المؤتمر لقانون السماء لا تلزم أصحابها، لكني أخشى أن يكون هذا كلاماً على ورق، وإلا فالواقع العملي يقول: بأن الأمة الآن وخاصة مصر تمدد هذه التوصيات شيئاً فشيئاً، فكان من بين التوصيات: إلغاء النفقة، والمساواة بين الرجل والمرأة. وكان منها كذلك: إغفال الدين وتجاهل القيم السماوية، والعمل على هدم الأسرة المسلمة، ورفع ولاية الآباء على الأبناء، وتُرجم هذا فيما يسمى الآن بالزواج العرفي بين الفتيات والشباب، وإن شئت فقل: بين الطلبة والطالبات في الجامعات وفي الثانوية، بل وفي الإعدادية، الولد يذهب إلى الفتاة وإن شئت فقل: تذهب الفتاة إليه، فتقول: وهبتك نفسي، وهو يقول لها: وهبتك نفسي، ثم يأتيان على ذلك بشاهدين من نفس الفصيلة، وفي شقة مهجورة أو مفروشة يتم الوفاق، وإن شئت فقل: يتم الزنا باسم الزواج العرفي، بغير إعلان ولا إشهار وربما بغير صداق، ولكن البلية أنه بغير ولي، وأنتم تعلمون أن المذهب الراجح والصحيح عدم صحة النكاح إلا بولي، وهو مذهب الجمهور خلافاً للأحناف، وعند الأحناف ما عندهم من الشبه؛ ولذلك العدل أننا نقضي بأن الزواج الذي يتم على مذهب الأحناف بغير ولي زواج فاسد وليس باطلاًَ وبينهما فرق. وكذلك من توصيات هذا المؤتمر إباحة الزنا وإباحة الإجهاض، وإذا أُبيح الزنا فلابد لزاماً من إباحة الإجهاض؛ ولذلك تتكرر الأسئلة بالليل والنهار وتطرح على مسامع الدعاة والشيوخ والعلماء من الأطباء والطبيبات وغيرهم: ما حكم الإسلام في الإجهاض جائز أم لا؟ وما حكمه قبل الأربعين يوماً أو قبل المائة والعشرين يوماً، أو بعد هذه المدة؟ الأسئلة كثيرة جداً في هذا المجال؛ لأن هذا الذي تفعله تلك الفتاة أو هذا الشاب يحيك في صدرها أنه زنا وأنه ليس زواجاً صحيحاً؛ ولذلك يتواصى الشباب والفتيات فيما بينهم بكتمان هذا الذي يسمونه زواجاً عرفياً، ولذلك الولي يفاجأ إذا تقدم لابنته رجلاً لخطبتها أو لنكاحها؛ يفاجأ بأن ابنته قد تزوجت من قبل، وربما تزوجت بدل الواحد اثنين وثلاثة وأربعة، وترى أن هذا من تنفيذ مؤتمر السكان في تقرير مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، فلها كذلك أن تعدد، كما أن للرجل أن يعدد، وهذا بلاء عظيم جداً، لا أقول: فهماً مخلوطاً ولا مغلوطاً، ولكنه الإلحاد بعينه والكفر بشريعة الرحمن تبارك وتعالى. فالإجهاض لا يتم لإباحة الزنا؛ ولذلك لا نعدم قوانين في المستقبل تبيح الإجهاض مطلقاً بغير قيد ولا شرط. وكان من مؤتمر الإسكان كذلك أنه حارب الختان، لا أقول: منع الختان، وإنما حارب الختان؛ يقولون: الختان مسألة خلافية، وهل يجرم أو يحارب المخالف؟ وهل تصادر أقوال المخالف؟ مع أن المخالف في هذه القضية معه الأدلة، وإذا اختلف أهل العلم في قضية بين الوجوب والاستحباب، فلا أقل من أننا نقول: إن الختان مشروع؛ لأن هذه الأقوال التي تقدم بها أهل العلم سلفاً وخلفاً كلها تقضي بمشروعية الختان، ولكن المشروعية اختلفت بينهم، فمن قائل بالوجوب ومن قائل بعدم ذلك، لكن لم يقل أحد منهم بالتحريم. والعجيب أن كبيراً من كبارهم، وهو أحد رجال جامعة الأزهر الشريف، وعضو بينهم، يقول: ليس في الصحيحين ولا في أحدهما ولا في كتب الحديث كلمة واحدة توحي من قريب أو بعيد بمشروعية الختان، مع أنه قد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا جلس الرجل بين شعبها الأربع ومس الختان الختان)، وفي رواية: (وجاوز الختان الختان فقد وجب الغسل). وفي حديث علي عند أحمد وغيره: (إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل أنزل أم لم ينزل)، فأثبت النبي عليه الصلاة والسلام أن في هذين الحديثين ختاناً. وقوله عليه الصلاة والسلام لـ أم عطية الأنصارية لما دخلت المدينة فوجدها كانت تعمل هذا العمل، وكانت مشهورة به، وهو إجراء الختن للنساء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لها مرشداً وموجهاً: (أشمي ولا تنهكي)، يعني: خذي القدر الزائد فقط (ولا تنهكي) أي: ولا تستأصليه بالكلية فيضر. ولسنا بصدد بيان مشروعية الختان، وإلا فقد رددت على شيخ الأزهر وعلى الدكتور أحمد عمر هاشم وغيرهما ممن سار في ركاب القوم وأنكر مشروعية الختان، وقال: إن الختان عادة فرعونية، على فرض أنه عادة فرعونية، وسنسلم لكم جدلاً بأنه عادة فرعونية، أنتم تحترمون الفراعنة بالليل والنهار، وتظهرون مآثر الفراعنة بالليل والنهار، فلم لا تحترمونهم في مثل هذا، إلا أنه خالف هواهم، فلا أنتم تعبدون الله ولا تتبعون الفراعنة، وإن شئت فقل: ولا لكم نبي تحترمونه؛ لأنكم لو أسلمتم حق الإسلام لانقدتم تمام الانقياد لله ورسوله، لكن لما فاتكم هذا وذاك تخبطتم وتحيرتم هنا وهناك، فإذا

المادة (17) من قانون الأحوال الشخصية في مصر والرد عليها

المادة (17) من قانون الأحوال الشخصية في مصر والرد عليها المادة (17) من قانون الأحوال الشخصية تقضي بسن الزواج للفتاة ستة عشر عاماً والولد ثمانية عشر عاماً، والأصل أن ذلك مرهون بالقدرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام؛ فإنه له وجاء)، فهذا النكاح مشروط بالقدرة وليس مشروطاً بسن معينة؛ ولذلك ارتفع هذا السن إلى إحدى وعشرين سنة من جانب الولاية، فالبنت بعد هذا السن حرة في نفسها، مع أن هذا على خلاف المذهب الصحيح، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الثيب تستأمر -أي: يستأمرها وليها- والبكر تستأذن وإذنها صماتها) أي: سكوتها، فإن سكتت فهو بمثابة الإذن، وإن ردت على وليها نكاح هذا الناكح لا يحل له أن ينكحها إياه؛ ولذلك: (أتت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، فرد النبي عليه الصلاة والسلام هذا النكاح، فقالت المرأة: لا يا رسول الله! ما هذا أردت، إنما أردت أن أعلم النساء أن لهن في أنفسهن أمراً)، يعني: المرأة حرة في نفسها، لكن لابد أن هذه الحرية مندرجة تحت إمرة وليها، سواء كانت ثيباً أو بكراً. وقد كان بين عبد الله بن عمرو بن العاص وبين أبيه من العمر اثنا عشر عاماً، وجاء في (الأم): أن الشافعي رحمه الله تعالى قال: رأيت جدة عندها من العمر إحدى وعشرين سنة، هذه الجدة لا تصلح في قانون الأحوال الشخصية أن تكون زوجة لأول مرة. والخلع وإن كان مشروعاً في الإسلام، إلا أنه مشروع في أضيق الحدود، وهو مرهون بتقوى الله عز وجل. وباعتقادي أن قانون الخلع الجديد فيه فائدة، وفائدته ربما تكمن في أن كل رجل من المسلمين يعلم المرأة التي تحته، أهي امرأة حقاً أم أنها شيطانة؟ فإذا اختلعت منه المرأة لأدنى سبب يمكن علاجه وغير ذلك، فهذه المرأة كما يقال: ذهبت أم عمرو بحمارها فلا رجعت أم عمرو ولا رجع الحمار نعم، خلو البيت منها منفعة عظيمة؛ لأن هذه المرأة لا تؤتمن على الأموال فضلاً عن ائتمانها على الأولاد، نعم هي تذهب إلى الجحيم إن شاءت، والله تبارك وتعالى لها بالمرصاد، فإن كانت محقة في طلبها للخلع فالله تبارك وتعالى يخلف عليها بخير من زوجها ويخلف عليه بخير منها. أما إذا كانت غير محقة فإن الله تبارك وتعالى يسخر لها من يذيقها المر بالليل والنهار، ينتقم منها انتقاماً لا يعلمه إلا الله عز وجل، أتظنون أن الله تبارك وتعالى يغفل أو غافل عما يعمل الظالمون؟ كلا وحاشا.

المادة (21) من قانون الأحوال الشخصية في مصر والرد عليها

المادة (21) من قانون الأحوال الشخصية في مصر والرد عليها المادة (21) من هذا القانون يجعل العصمة بيد المرأة، والرجل هو الذي صار مهدداً، فالله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء؛ لأن الرجل أملك لنفسه وأملك لغضبه، ويكلف بما لم تكلف به المرأة، وتقع عليه من التبعات ما لا تعلمها المرأة وغير ذلك، فالرجل عليه من التبعات ما ليس على المرأة؛ ولذلك جعل الله عز وجل العصمة بيده؛ لأنه أملك لها. ولو كانت العصمة بيد المرأة فإنها لأدنى غضب وأقل إثارة تترك البيت، وتشرد الأولاد، والحكيم اللطيف الخبير الذي خلق الخلق ويعلم ما يصلحهم وما يفسدهم هو الذي شرع هذا، ولكي نسمى المسلمين حقاً فلابد أن نقول كما قال سلفنا: سمعنا وأطعنا، ولا نقل كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا، سمعوا بآذانهم ولم يخلص إلى قلوبهم، فلم يؤمنوا الإيمان الكامل التام، إنما عندهم من الإيمان ما يؤهلهم للثبوت على أول درجة من درجات الإسلام.

المادة (22) من قانون الأحوال الشخصية في مصر والرد عليها

المادة (22) من قانون الأحوال الشخصية في مصر والرد عليها المادة (22) حددت العدة عدة المرأة التي تحيض بستين يوماً، والشرع إنما أخبرنا بأن عدة الحائض ثلاثة قروء، على خلاف بين أهل العلم، هل القرء طهر أم حيض؟ فثلاثة قروء ربما لا تقل عن تسعين يوماً أو ثمانين يوماً، ولكن هذا القانون الجديد يحدد بستين يوماً. وأما التي أيست من المحيض فعدتها تسعون يوماً، والدليل على ذلك من كتاب الله ومن سنة رسوله ومن إجماع أهل العلم. وقضية القضايا وبلية البلايا أنهم يقولون: إن هذا التحديد مشروط بأول يوم سجل فيه الطلاق، فربما لم يسجل الطلاق بعد هذه المدة بمدد عظيمة ستتضرر المرأة بتأخيرها ستين يوماً أو تسعين يوماً عن النكاح، وربما يسجل من يوم الطلاق على يد مأذون أو في جهة رسمية تتولى هذا فلا تكون هذه المدة كافية للعدة التي شرعها الله عز وجل، فهذا كذلك مخالف. وكما قلنا: هذا القانون يشجع الزواج العرفي، وإن شئت فقل: يشجع الزنا ويكون سبباً في انتشار الفاحشة وإبطال حق الولي في زواج ابنته، والولاية شرط في صحة النكاح كما اتفقنا. وكذلك الخلع الذي يسمونه؛ كفيل بجلب حق المرأة لها، أو بالدفاع عن المرأة وإثبات حقوقها، هو من وجهة نظر أهل العلم مضر بحق المرأة في الغالب، فالذي جعلهم يشرعون هذا القانون الفاسد المعوج في إثبات حق المرأة للخلع حين وقوع الضرر عليها، يجعلهم يشرعون قانوناً شرعياً يُلزم القاضي بإيقاع التطليق على الرجل إذا وقع الضرر على المرأة، والمرأة لا تستطيع أن تتخلص منه؛ ولذلك في غالب القضايا التي رفعت في المحاكم إلى الآن والتي قضى فيها القاضي بالخلع كان حقه أن يقضي فيها بالطلاق؛ لوجود الضرر الواقع على المرأة وبينهما فرق، فالخلع يحرم المرأة من أي حق، أما الطلاق فيثبت للمرأة الحقوق على اختلاف أحوالها إذا كانت حاملة أو عندها أولاد، أو لم يكن عندها ولد، وهذا القانون كذلك يهدف بالطلاق الأسري، فهو -أي: الطلاق الأسري- في مهب الريح. وفي نهاية كلامنا نقول: إن قانون الخلع هو صناعة أمريكية بحتة، وهو تنفيذ توصيات مؤتمر بكين الخبيث؛ ولذلك تقول نوال السعداوي ومعها كذلك فريدة النقاش: إن هذا القانون موافق تمام الموافقة لمؤتمر بكين، وهو استمرار لمؤتمر السكان بمصر المنعقد في (1994م)، لم تقل فريدة النقاش ولا نوال السعداوي وهما من هما، معروفتان بعدائهما للإسلام، وأنا دائماً أحب أن أضع النقاط على الحروف، أقول: هما معروفتان بالردة منذ أمد بعيد. هذا القانون موافق لمؤتمرات السكان أو لمؤتمر بكين، والذي يقضي بخراب العالم وانتشار الشذوذ وغير ذلك، أنتم تعلمون هذه الحادثة التي نشأت في الزقازيق إذا صح ما تنقله هذه الصحافة، وعلى أية حال نحن لا نأخذ ديننا من هؤلاء؛ لأنهم أهل فسق ونفاق، والأصل أن عدالتهم ساقطة، وعدالة الراوي شرط في قبول خبره، فهؤلاء ليسوا أهلاً. وإذا صح ذلك فهو أثر سيئ من آثار المؤتمر السكاني، رجل يتزوج برجل، أمر عجيب في بلد العلم والإيمان في مصر، بلد الأزهر وبلد المليون مأذنة، رجل يتزوج برجل، ثم يدافع وينافح ويتبجح في وجه القاضي ويقول: أنا حر، سبقتنا إليه لندن ودول أوروبا، وهذا أمر عجيب جداً، بل هذا يجب أن يعدم في ميدان عام على الهواء مباشرة حتى يكون عبرة لمن اعتبر.

نظرة قانون الأحوال الشخصية الجديد في مصر للزواج والطلاق

نظرة قانون الأحوال الشخصية الجديد في مصر للزواج والطلاق القانون الجديد لا ينظر للزواج ولا للطلاق وإن استوفى الشروط والأركان، إلا إذا كان مسجلاً في الأوراق الرسمية لدى الحكومة، إذا قلت لك الآن: زوجني أختك أو بنتك أو أمك، قلت: أزوجك إياها، أو زوجتك إياها، وأنا قلت: قبلت، بمعنى أن الإيجاب والقبول في حضرة الولي والشهود والإعلام وتحديد المهر أو تسمية المهر وغير ذلك، هذا النكاح ينعقد، وهذه الحكومة لا تعترف به، ولو قال رجل لامرأته: أنت طالق وأشهد على ذلك يقع الطلاق، لكن الحكومة لا تعترف به حتى يكون مسجلاً في الأوراق الرسمية. فأين احترام الحكومة واحترام السلطات لشرع الله عز وجل؟ وهم يدعون أن هذا القانون قانون شرعي (100%)، ويساعدهم على ذلك كلاب يتكلمون بألسنتنا ويدينون بديننا ولم يفهموا القضية، وإن شئت فقل: هم فهموها جيداً، ولكن هذه فتاوى مدفوعة الثمن مقدماً. بلاء عظيم جداً أن يبتلى الإسلام من أبنائه ومن بني جلدته، لأن فتنة العالم فتنة للعالم كله. أما فتنة السلطان فقل أن يتقبلها أحد، أما العالم فإنه أمام الناس وأمام العامة عالم، ومحسوب على الناس عالم، فيجب أن يكون عنده من التقوى والورع ما يؤهله لتنفيذ أوامر الله عز وجل، وحمل الناس على الانتهاء عما نهاهم عنه ربهم تبارك وتعالى. فلابد أن يقع الطلاق، وهو الذي تمر به الأمة الآن، والخلع وإن سلمنا بأنه دين، لكنه مشوه، قدمتموه للناس على طبق مكسر مهدم مشوه، هب أنه دين وسنسلم به، هل هو دين الله عز وجل فقط الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؟ لماذا لم تطبقوا شرع الله كله؟ لماذا لم تطبقوه، بل اكتفيتم من دين الله بالخلع؛ بإثبات أنه من الدين، عندكم الحدود، المجتمع امتلأ بالبلايا والمصائب، حتى يعتاد المرء أن يقول: إن مجتمعات أوروبا أقل فجوراً من مجتمعات المسلمين في بلادهم، فلماذا لا تسنون القوانين التي تحرم وتجرم وتعاقب وتقيم الحد على هؤلاء الذين يمشون بالليل والنهار سكارى، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء؟ بل قل أن تجد في الناس الآن من لا يتعاطى هذه المسكرات، كل الناس سكارى، وهذا بلاء عظيم جداً، وعلى أية حال قديماً قالوا: الحر تكفيه الإشارة، والعبد تقرعه العصا. وأنا أعتذر أني تكلمت بين يدي أستاذنا وشيخنا، والأصل ألا يتكلم الصغار بين يدي الكبار. وقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا. والأصل ألا يتكلم الصغار بين يدي الكبار، وحسبي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال لـ سعيد بن جبير: تكلم، فقال: أوبين يديك يا ابن عباس؟ قال: وما الذي يمنعك أن تتكلم، فإن أصبت دارستك وإن أخطأت قومتك، ولو لم يكن معنا هذا النص ما تجرأنا على الجلوس في هذا المقام. وأسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال. وأستبيح شيخنا عذراً أني تكلمت بين يديه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الزواج العرفي

حكم الزواج العرفي Q هل الزواج العرفي القائم الآن زواج صحيح مشروع؟ وهل هو على المذهب الحنفي؟ A ليس زواجاً صحيحاً مطلقاً؛ لأنه فقد أركاناً كثيرة ليس ركن الولي فحسب، واعلم أن المذهب الحنفي أقر النكاح بغير ولي، إذا كانت المرأة بالغة عاقلة رشيدة تزوجت من كفء. وعلى فرض أن الأحناف قالوا بصحة شهادة الفاسق بخلاف الجمهور، فعلى أية حال هذا نكاح -تجوزاً- على مذهب من يسميه نكاحاً عرفياً ليس هو النكاح العرفي المعلوم المشروع الذي نعرفه جميعاً منذ سنوات طويلة، وهو النكاح الذي اكتملت أركانه وشروطه ولكنه لم يسجل في أوراق رسمية. أما كونه يسجل فهذا التسجيل ليس شرطاً في صحة العقد، بل يصح العقد من غيره، وإنما التسجيل هو فقط من باب ضمان حق الزوجية، سواء كان الرجل أو المرأة، خاصة مع خراب هذه الأمة.

حكم انتخاب أعضاء مجلس الشعب المصري

حكم انتخاب أعضاء مجلس الشعب المصري Q من المعلوم أن هذه القوانين تسن عن طريق مجلس الشعب، فما حكم انتخاب أعضاء مجلس الشعب، لاسيما إذا كان من بينهم أساتذة الأزهر؟ A على أية حال الأزهر ليس حجة على أحد، ولا أحد حجة على الدين، إنما الحجة هي من دين الله عز وجل على الخلائق، ولذلك يقولون: اعرف الحق تعرف أهله؛ لأن الحق لا يُعرف بأحد، وإنما يُعرف كل أحد باتباع دين الحق، وهذا معنى قولهم: اعرف الحق أولاً تعرف أهله. أما إذا كنت تجهل الحق فلابد أنه سيثقل عليك؛ ويلتبس عليك الحق بالباطل. أما حكم انتخاب أعضاء مجلس الشعب فالذي يترجح لدي هو عدم الجواز، خاصة في مجلس الشعب المصري؛ لأن هذا المجلس أو مجلس الفاطمية وإن كانوا وزراء وقادة وسادة، لكنهم حثالة المجتمع، هم أميون وإن تخرجوا من الأزهر، أميون وإن كانوا دكاترة، أميون وإن كانوا وزراء، هم من جهة العلم الشرعي أميون تماماً لا يعرفون شيئاً، ومع هذا هم يجهلون أنهم جهال. فهذه بلية أخرى مؤكدة، فضلاً أن هؤلاء الذين يسنون لنا القوانين لها تعلق في أمور الشرع، وفاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان هو أجهل من دابته، فكيف يقول لنا: إن هذا دين، وهذا ليس ديناً؟ وهذا من الفتن والبلايا التي تمر بها الأمة الآن، لا أسحب هذا الحكم أو هذا الرأي وهو رأيي الشخصي على جميع مجالس الأمة في جميع البلدان، فإن من البلدان ما قد امتنعت تمام الامتناع عن الدخول في مجلسها، وأنا في الكويت منذ أقل من سنتين دعاني أحد الأفاضل وهو الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وهو أحد كبار العلماء في الكويت، وأصله مصري، فدعاني لحضور استجواب وزير الثقافة والتعليم في الكويت، لما أذن بدخول بعض الكتب المخالفة للإسلام في معرض الكتاب الكويتي، فقام إليه أحد أعضاء مجلس الأمة هناك وهو سلفي ليستجوبه علناً في جلسة علنية لمجلس الأمة، وكانت جميعة إحياء التراث هناك قد شنت هجوماً عظيماً على الشيخ عبد الرحمن؛ لأنه يجيز الدخول في مجلس الأمة هناك، فقالوا لي: ما رأيكم فيما يقول الشيخ؟ قلت: الشيخ أخطأ؛ لأن الدخول في مثل هذه المجالس النيابية أمر غير مشروع، ثم ناقشت الشيخ في بيته، فقال: لابد أن تحضر معي غداً مجلس استجواب الوزير، فأبيت، فأقسم علي، وفي نهاية الأمر دخلت، فإذا المجلس في الحقيقة مجلس محترم، وإن لم يكونوا أصحاب توجه شرعي، فعلى الأقل يحترمون الشرع جداً ويفضلونه جداً، ويعظمونه جداً، بل ويقفون عند حد يعلمون أنهم فيه جهال، ثم يتوجهون إلى إخوانهم من بقية أعضاء المجلس فيستفتونهم في الأمور الشرعية التي لا علم لهم بها، احتراماً وتبجيلاً وتعظيماً للشرع، هذا حدث في المجلس في الجلسة الواحدة ثلاث مرات من رئيس الجلسة، يقيم أحد أعضاء المجلس وهو رجل متفقه في دينه وسلفي صاحب عقيدة سليمة يقول له: يا فضيلة الشيخ! ماذا قلت: في كيت وكيت، ثم يضع يده على رأسه ويقول: الإسلام على رأسي من فوق. أما في مجلس الشعب المصري فالإسلام تحت نعالنا بلسان حالنا، إذا قام أحد الأعضاء على استحياء يطلب تقرير أمر شرعي يرمونه بألسنة حداد، وبالسفاهة وبالتأخر وبالرجعية وبالتنطع والتشدد تارة وغير ذلك من هذه المصطلحات التي تؤدي إلى جهنم عياذاً بالله. فالحقيقة أنا تأثرت جداً بالمجلس الكويتي، لا أقول: لما فيه من إسلام، لكن لما فيه من أدب واحترام لآدمية البشر، فقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق هذا يا أخا الإسلام المجلس الذي قلت بجواز الدخول فيه، لم أقل بجواز الدخول في مجلس البلطجية الذي في مصر، فقلت: والله أنا الآن كدت أن أوافقك، كدت أن أوافق على الدخول في مجلس فيه مساحة للتفاهم على أعلى مستوى، لكن إذا كان أصل التفاهم في حرب الإسلام وأهله فلا. إن من يطالب بأدنى جزئية ترضي الله عز وجل أو ترضي رسوله، فإن الكل يقوم عليه قومة امرأة واحدة لا أقول: قومة رجل واحد؛ لأن هؤلاء في الحقيقة ليسوا رجالاً، إنما هم أشبه بالمخنثين، فكيف ننتخب هؤلاء؟ وكيف يمثل هؤلاء؟ وهو مجلس تشريعي الغرض منه سن القوانين التي تحارب الله تعالى وحده، فهذا مجلس ميئوس من صلاحه أبداً، لا علاقة له بالإسلام وأهله، وهو إلى الردة أقرب؛ ولذلك نحن نحذر في كل انتخاب لهذا المجلس من الدخول أو المساعدة بأي وجه من وجوه مساعدة الأعضاء في دخول هذا المجلس.

حكم حل عقد النكاح بين الزوجين

حكم حل عقد النكاح بين الزوجين Q أعلم أن الدين لا يبيح للزوج ترك زوجته كالمعلقة، في حالة ما إذا رغبت عن احتمال مسيرة الحياة الزوجية معه، ولكن ما هو الحل لها في بلدنا هذا بدون هذا القانون، علماً بأني لست أساند هذه القوانين بعدما شرحتم سيادتكم بطلانها شرعاً، ولكن ما حيلة المرأة إذاً، علماً بأني قد تُركت معلقة مدة عشر سنوات حتى شاء الله أن يلقي في طريقه من دفعته لتطليقي، ولقد كان لي أكثر من عذر شرعي في كراهيتي لحياتي معه؟ A إن هذا الدين يحتاج إلى رجال يحملونه، ولذلك جاء رجل سنة (1981م) ونحن في محاضرة في المنصورة إلى المحاضر، وقام إليه كالمتهجم على الشرع، ثم ناوله عدة من الأسئلة وقال: يا فلان! خذ هذه الأسئلة للإسلام وحلها، قال: ومن صاحبها؟ قال: أنا، قال المخاطب: أسلم أنت أولاً وستحل هذه القضايا بعد ذلك. ولذلك كان إذا أتى إلى مالك رجل يسأله لم يجبه حتى يتأدب في السؤال، فلما يتأدب يجيبه مالك، فقال: ما الذي منعك أن تجيبني وسؤالي واحد؟ قال: سل تعلماً ولا تسل تعنتاً. فالشاهد من هذا أن الإسلام يحتاج إلى رجال وإلى نسوة يحملونه أحسن محمل، فإذا كان الحل الشرعي الذي قصد به الله تعالى ورسوله هو حل عقدة النكاح، فيجب على الرجل والمرأة أن يمتثلا هذا الأمر، وإذا كان هناك أمل من استمرار مسيرة النكاح وقيام العلاقة الزوجية بين الرجل وامرأته، فتقوم هذه الحياة على أمر الله تعالى ورسوله، أما وأن يحمل الرجل امرأته حملاً على القيام معه بالزوجية، ثم هو يحرمها حقوقها، فهذا عضل وهذا تعليق لا يحل للرجل؛ ولذلك كم من الناس يخشى الله تبارك وتعالى؟ كم من المسلمين عنده هذا الروح؟ الواحد منا يؤنب نفسه بالليل والنهار في صغيرة ارتكبها، وكثير من الناس يقع في المحرمات والكبائر ثم هو لا يبالي بها، فمنهم من يستصغر الكبيرة، ومنهم من يستعظم الصغائر. فلذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما: (إن المؤمن ليرى معصيته كالجبل يكاد يخر عليه)، أي: إن المؤمن يرى معصيته مهما كانت صغيرة كالجبل يكاد يخر على رأسه، (وإن الفاجر يرى معصيته كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا) أي: فطار. ولذلك لابد أن يراجع كل واحد منا نفسه في حياته وشئونه وفي سيرته مع الله عز وجل، هل هو تائب إلى الله تعالى بتقوى وذل وخضوع واستكانة واستسلام وانقياد لله عز وجل في جميع شئون حياته؟ فإذا كانت المرأة فعلاً تعيش مع زوجها معلقة عشر سنوات، أنا لا أدري أي قلب هذا؟ ولك أن تتصور المفاسد التي قامت بين الزوجين لمدة عشر سنوات لا يجامع الرجل فيها امرأته، وهما تحت سقف واحد، الأمر يهون إذا كان الزوج في سفر، مع أن هذا مخالف من جهة الشرع، لكن على أية حال بُعد الرجل عن المرأة وبُعد المرأة عن زوجها أمر يهون، بخلاف ما إذا كان كل منهما ينام في سرير، أو أنهما ينامانا في سرير واحد، ولكن الرجل يصر على ألا يعطي امرأته حق الفراش، أو أن المرأة تمتنع أن تعطي زوجها حقه في الفراش، بلاء عظيم جداً، ولك أن تتصور المفاسد التي نجمت بين زوجين فضلاً عن انعكاس هذه الحياة السيئة على تربية الأولاد التي هي المبتغى، فالذي أفهم منه أن هذه الزوجة طلقت، فإذا كان الطلاق قد وقع فلا بأس بذلك، وهو خير من استمرار الحياة على هذا النحو.

حكم الاحتكام إلى قانون الخلع المصري

حكم الاحتكام إلى قانون الخلع المصري Q بعد إقرار القانون هل يجوز الاحتكام إليه؟ وما حكم من حصلت على الطلاق في حالة عدم الجواز؟ A على أية حال إذا حصلت المرأة على حكم بالخلع من القاضي، وكان لها الحق في ذلك فليست آثمة. أما إذا لم يكن لها الحق في ذلك فيجب عليها وجوباً شرعياً أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن تراسل زوجها مرة أخرى عن طريق وليها ليؤمِن النكاح بينهما مرة أخرى.

الفرق بين الزواج الفاسد والزواج الباطل

الفرق بين الزواج الفاسد والزواج الباطل Q ما الفرق بين الزواج الفاسد والزواج الباطل؟ A البطلان ينبني على فقدان ركن من أركان النكاح، كما لو قال رجل لولي المرأة: أنكحني ابنتك على ألا مهر لها، فهذا النكاح باطل، بمعنى أنه غير صحيح، وكما لو قالت امرأة لرجل: وهبتك نفسي، فهذا النكاح باطل؛ لأنه نكاح بغير عوض، وأنتم تعلمون أن هبة المرأة للرجل لا تصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم. كما جاء في الصحيحين (أن امرأة قالت: يا رسول الله! وهبت لك نفسي. ثلاث مرات، والنبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنها، ثم لما شعر أحد أصحابه بأن النبي عليه الصلاة والسلام لا حاجة له في هذه المرأة، قال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فأنكحنيها، قال: هل معك شيء تمهرها إياها؟ وفي رواية: ترزقها إياها -أي: تدفع مهرها صداقاً؟ - قال: لا؟ قال: اذهب إلى أهلك فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب الرجل إلى أهله ثم رجع وقال: ولا خاتماً من حديد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم يا رسول الله! إن معي سورة كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنكحتكها بما معك من القرآن). فلو كانت هبة المرأة لآحاد الناس جائزاً لوهبها النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا الرجل، أو وهبت المرأة نفسها لأحد أصحابه عليه الصلاة والسلام من أول وهلة، ولم تحتج في ذلك إلى ولاية النبي عليه الصلاة والسلام. فهبة المرأة للرجل أو هبة الرجل نفسه للمرأة من الأنكحة الباطلة، التي يلزم فيها الفسخ والتفريق لأول وهلة، يعني: إذا عرض هذا الأمر على القاضي يلزم فيه الحكم فوراً، ولا تترتب عليه آثار. أما النكاح الفاسد: فهو الذي ينجبر بما يفسده، كزواج امرأة بغير ولي، فهذا النكاح من الأنكحة الفاسدة، تترتب عليه آثاره، لكنه ينجبر بإذن الولي، إذا أذن الولي حتى بعد قيام الزوجية. وكذلك من الأنكحة الفاسدة النكاح بغير تسمية مهر، ينجبر هذا الفساد في العقد إما بتسمية المهر بالتراضي بين الطرفين، وإما بمهر المثل، ومهر المثل يتحدد بأمثال المرأة في أهلها، كبنت عمها وبنت خالها وغير ذلك من بنات أسرتها. وصلى الله على نبينا محمد.

تحطيم الأصنام

تحطيم الأصنام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم واجبات الدين، فقد أمر الله تعالى به في كتابه وأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، وقد عده بعض العلماء ركناً سادساً من أركان الإسلام، وقد جعل الله تعالى خيرية هذه الأمة منوطة به، فبه يزول الشرك، وبه تزول البدع والمنكرات، وله مراتب وشروط وضوابط ينبغي للآمر والناهي معرفتها.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام وواجبنا نحوه

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام وواجبنا نحوه إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. عباد الله! بمناسبة العام الهجري الجديد نذكر المسلمين جميعاً في شرق الأرض وغربها بأن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد آتى أكله، ولو في بعض بلاد المسلمين، على كره من الكافرين، ومن سار في ركابهم من أبناء المسلمين وأبناء الموحدين. هذا الواجب العظيم هو الذي يجلب العز بعد الذل، والاجتماع بعد الافتراق، والائتلاف بعد الاختلاف، وهو واجب قد فرضه الله عز وجل علينا في كتابه، وأمرنا به نبيه صلى الله عليه وسلم. ربط الله تعالى خيرية هذه الأمة بهذا الواجب العظيم، فقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وهو واجب كفائي. ومن العلماء من قال: بل هو واجب عيني، ولا يكون ذلك إلا في الأمور المهمة العظيمة التي يعلمها الجاهل والعالم، كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها من سائر الواجبات والطاعات المعلومة الظاهرة، أما الأمر الذي يحتاج إلى نوع اجتهاد فإنه لا يجب إلا على أهل العلم، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. هذا الواجب العظيم قال الله تعالى فيه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]. وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، هاتان الآيتان تنصان على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هما فرض كفاية لا فرض عين، وقال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. وقال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وغير ذلك من الآيات. ومن الأحاديث الشيء الكثير، منها ما هو في الصحيحين، ومنها ما كان في غير الصحيحين. ففي حديث أبي سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وفي حديث أم سلمة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) أي: التبعة والهلاك على من رضي بذلك. و (وجد النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً من أصحابه وفي يده خاتم من ذهب فنزعه عليه الصلاة والسلام وألقاه، فقال الصحابة لأخيهم: خذ خاتمك. قال: لا والله ما كنت آخذ شيئاً وضعه النبي عليه الصلاة والسلام). إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان عليكم؛ لأنكم صفوة القوم وطلبة العلم، وأصحاب التوحيد الحق، ودليل ذلك أنكم أتيتم إلى هذا المكان لتسمعوا كلمة حق، فماذا يبقى لكم من عذر بين يدي الله عز وجل، ولعلكم تلتمسون الخير في الدعوة إلى الله عز وجل. إن الذي يرجع إلى الوراء بضعة أعوام، أو عقود، ويرتد إليه طرفه إلى الخمسينات أو الستينات، يجد أنه لم يكن هناك في قرية أو مدينة رجل من أهل التوحيد، أو امرأة تزيت بدين الإسلام، وإننا لنجد ذلك في ك

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة فمنها المتفق عليها، ومنها المختلف فيها. أما المتفق عليها: فينبغي أن يصدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن علم وبصيرة، حيث لا يجوز للجاهل أن يأمر وينهى؛ لأنه ربما ذهب ليأمر بأمر يظن أنه معروف، فإذا به منكر حال بينه وبين معرفة ذلك جهله! وربما ذهب ينهى عن أمر يظن أنه شر ومنكر، فإذا به معروف قد أمر الله عز وجل به. قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] أي: على علم. فهذا واجب على أهل العلم وطلبته من أمة النبي عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة. الشرط الثاني من الشروط المتفق عليها: القدرة والتمكين؛ حيث لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه -وهذا انتقال من القدرة باليد إلى اللسان- فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). ولذلك قال أهل العلم: شرط القدرة متعلق باللسان واليد، ولا تعلق له بالقلب؛ لأنه في مقدور كل إنسان أن ينكر بقلبه، وأن يترك موطن الباطل، وموطن المنكر، ويزول عنه إن لم يستطع إزالته. فالقدرة شرط، والتمكين شرط أي: التمكين من أداء الدعوة إلى الله عز وجل باليد أو باللسان، وأنبه وأحذر أهل الباطل أن يقفوا أمام الدعوة إلى الله عز وجل! والجهاد نوع من أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا واجه قوماً خيرهم بين ثلاث: إما الإسلام، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإما دفع الجزية عن يد وهم صاغرون، وبذلك يضمن لهم النبي عليه الصلاة والسلام حماية أموالهم وأعراضهم، وإما القتال إن حالوا بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين تبليغ دعوة الحق إلى الخلق، فينبغي أن يقاتلوا، فيجب على أهل التوحيد أن يقاتلوا أهل الشرك والكفر إن حالوا بينهم وبين مهمتهم وأداء رسالتهم. الشرط الثالث: أن تعلم أن المنكر عليه وقع في المنكر حقاً، إما بترك الأمر، أو اجتناب النهي، فلابد أن يتحقق وقوعه في هذا المنكر. الشرط الرابع: وهو المتعلق بدرء المفاسد وجلب المصالح، وإنكم لتعلمون جميعاً أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وقياس المصالح والمفاسد يكون بشرع الله كتاباً وسنة، وإجماع أهل العلم، لا بالأهواء، ولا بالمصالح الشخصية؛ ولذلك لا يجوز تعطيل الحدود، ولا شرب الخمر، ولا الخناء ولا الزنا بدعوة المصلحة، أو بدعوى السياحة، أو بدعوى أن في بلاد المسلمين أناساً غير مسلمين، فيزعمون أن تطبيق الشريعة أمر يؤذي مشاعر الآخرين، حتى وإن غاظهم ذلك حتى وإن كمدهم، فلنا ديننا ولهم دينهم. كما لا يجوز كذلك الانطلاق لكسب الحرام، حتى وإن كان الغرض صحيحاً، كما سمعنا مراراً: أن فلانة تغني، وأن فلاناً يرقص وغير ذلك من المنكرات والفظايع والمهلكات بدعوى سداد ديون مصر! إن مصر غنية عن أداهم وبلائهم، إنه لا يصح إلا الصحيح، فالله عز وجل نهى الأمة بنواهٍ يجب أن يأخذوا بها بقوة، كما قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]. {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]. وهذه الأمة في أمس الحاجة إلى أن تتمسك وتعض على هذا الدين بنواجذها في زمن قد اختلط فيه الخير بالشر، والحق بالباطل، بل صار الحق باطلاً، والباطل حقاً، وصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، فإنا لله وإنا إليه راجعون. إذاًَ: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإذا أمنت الفتنة، وتحققت المصلحة الشرعية من الدعوة إلى الله عز وجل، فإنه يجوز حينئذ ولا مناص.

درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول شيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله: درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربع: فإما أن يزول بالكلية، وإما أن يزول بعضه، فهاتان الدرجتان الدعوة فيهما واجبة بلا خلاف، نقل الإجماع غير واحد في هاتين الدرجتين. الثالثة: أن يزول المنكر، لكن يحل محله منكراً آخر يساويه في الدرجة والمرتبة، فهذا بيت القصيد، ومحل اجتهاد أهل العلم في كل حادثة بعينها. أما الرابعة: أن يزول المنكر ويحل محله منكراً أعظم وأخطر، فحينئذ يحرم تغيير المنكر؛ لأنه يؤدي إلى مفسدة أعظم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم). فجعل الأمر بالمعروف وإتيان الطاعة محله الاستطاعة. أما المنكر فقال فيه: (وما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)؛ للدلالة على أن ذلك في مقدور كل إنسان، ولابد من الإتيان به بين يدي الله عز وجل، هذه درجات المنكر. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عظيم، فينبغي على أفراد الأمة وجماعتها أن يتنبهوا لهذا الواجب العظيم، فتركه فيه إزالة وتمييع لأمر دينهم الذي هو دين الحق.

واجب شباب الصحوة تجاه التوحيد وما يضاده من الشرك

واجب شباب الصحوة تجاه التوحيد وما يضاده من الشرك الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن شباب الصحوة في حيرة عظيمة، كأنهم دخلوا في حظيرة حيوانات مختلفة، منهم: الجاهل الذي يتكلم بجهل، وينضح ما في بئره على الآخرين. ومنهم: صاحب الهوى والشبهة. ومنهم: العلماني الملحد الذي يقف على رأس كل مسألة من مسائل الدين والشرع بالاتهام والإلحاد والاستهزاء والسخرية. ومنهم: الطرابيش أصحاب العمائم الذين يعلمون الحق، لكنهم يحيدون عنه؛ لهوى، أو شهوة، أو كرسي، أو منصب أو زعامة أو خوف. ومنهم: من ملك القدرة والقمع، لكنه يعمل بالليل والنهار على قمع أهل الحق والإيمان والتوحيد والدعوة إلى الله، ويحول بينهم وبين تبليغ رسالتهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فماذا يصنع شباب الصحوة في ظل نصوص شرعية في الكتاب والسنة، وأمور أجمعت عليها الأمة؟ نقول: إنهم جهات في مكان، وقد يحال بينهم وبين دعوتهم، لكن إذا مكنوا في مكان آخر أيعذرون بين يدي الله عن تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة إذا كان ذلك في أعظم واجب، بل هو الغرض من إرسال الرسل، ألا وهو تحقيق التوحيد في قلوب الخلق، ونبذ الشرك، والدعوة إلى إبطال البدع؟ النبي عليه الصلاة والسلام أردف معاذاً خلفه فقال: (يا معاذ بن جبل؟! أتدري ما حق الله على العبيد؟ قلت: الله ورسوله أعلم) فمضت ساعة ثم ساعة وهو يكرر السؤال؛ ليجمع حواس معاذ وينتبه، ويلتفت للأمر المهم العظيم الذي هو أعظم حق لله على العبيد. قال: (أن يعبدوه). وفي رواية: (أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً). وجعل لهم جزاء ذلك: أن يغفر لهم، وأن يدخلهم الجنة، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]. وقال سبحانه: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. وغير ذلك من نصوص وردت تدعو إلى توحيد الله، ونبذ ما عداه من شرك وبدع، وخرافات وخزعبلات؛ لأن الدين لا يصفو إلا بطلب العلم على أصول علمية صحيحة. هذه هي المهمة التي أرسل الله تعالى لأجلها الرسل، وهو ثابت في القرآن وفي سير الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم ومن أرسلوا إليهم، فإذا ثبت ذلك فإن عبادة الأصنام والأوثان والتماثيل والصور من أعظم الشرك، ومن أعظم الشرك أن يتقرب المرء إلى الله عز وجل بصنم يعبد في أي بقعة من بقاع الأرض.

شبهات حول تحطيم صنم بوذا في أفغانستان والرد عليها

شبهات حول تحطيم صنم بوذا في أفغانستان والرد عليها لما قام إخواننا -بارك الله في جهودهم، وسددهم ووفقهم لكل خير- بتحطيم الأصنام المعبودة في أفغانستان قامت الدنيا عن بكرة أبيها ولم تقعد، واختلفوا في ذلك اختلافاً عظيماً، ومنهم: أصحاب العمائم للأسف. فمنهم من قال: هذا أمر غير مشروع، وقد أبعد النجعة. ومنهم من قال: الأمر مشروع، ولكن ليس في التوقيت المناسب. وأنا من أصحاب هذا القول في أول الأمر، فلابد أن يسبق ذلك تعليم وإزالة للجهل بين الناس، فإن الناس كثيراً ما يقعون فيما يستوجب الحد بجهل وغباء وحمق، فلابد أن يعلّم الجاهل وأن يهيأ لإقامة الحد عليه، فلما سمعت بعمل إخواننا في أفغانستان، قلت: العمل مشروع، ولكن ليس هذا هو التوقيت، بل لابد أن يسبق ذلك دعوة إلى الله عز وجل، وتعليم للناس، وإني الآن أنسحب بالقول وأنخلع منه كما ينخلع السيف من غمده؛ وذلك لأن شرط القدرة والتمكين متوافر في هؤلاء، فقد قاموا في هذه البقعة من قبل بالدعوة إلى الله عز وجل، ونبذ الشرك سنوات وسنوات، فلا يبقى إلا إزالة عين المنكر، فقاموا إلى الأصنام وحطموها، وقاموا إلى الأنصاب وداسوها وكسروها، وهذا أعظم واجب عليهم: الحيلولة بين الناس وبين أن يشركوا بالله عز وجل. فماذا ينقمون على هذه الفئة المؤمنة؟! أنهم موحدون، أنهم دعوا إلى الله عز وجل على علم وبصيرة أنهم يمكنون أضرب لك مثلاً: أنت في بيتك رب البيت، والمسئول عن رعيتك، فهل تسمح لأحد أبنائك أو لزوجك أن يقارف المنكر وأنت تنظر إليه؟! وإن سمحت فهل أنت معذور بين يدي الله؟! A لا وألف لا، بل أنت مؤاخذ بهذا الإثم. وما حدث في أفغانستان هو تماماً صورة مكبرة لما يمكن أن يحدث في بيتك، وعلى مرأى ومسمع منك؛ ولذلك يجب عليهم الإنكار، فأتى المرجفون في المدائن بشبهات، لكنها أوهى من بيت العنكبوت، قالوا: هل هؤلاء أحرص على دين الله عز وجل وعلى توحيده من عمرو بن العاص ومن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بمصر، لماذا تركوا الأهرام حينئذ؟ ولماذا تركوا أبا الهول حينئذ؟ والجواب على الشبهة من وجوه: الوجه الأول: أن هذه الأصنام معبودة من دون الله عز وجل. الثاني: أن أبا الهول وغيره من هذه الأحجار التي لا تنفع ولا تضر كانت مدفونة تحت الرمال لا يسمع بها أحد. الثالث: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما فتح مصر نزل في الفسطاط، وهي المعروفة الآن: بمصر القديمة، وهذه البقعة الصغيرة التي مثلت منازل القاهرة لم يثبت أن في شارع من شوارعها، أو حارة من حاراتها صنماً يعبد؛ فاكتفى بذلك عمرو بن العاص على بعد هذه الأصنام إن كانت أصناماً في ذلك الوقت. فصنم بوذا حطم على أيدي الموحدين في أفغانستان إنما كان ذلك بجهود جبارة من قنابل وطائرات لم تكن في مقدور عمرو بن العاص، وبعض كتب التاريخ أثبتت أن الفاتحين تعرضوا لأبي الهول بالتكسير أكثر من ثلاثة أشهر حتى كسروا قطعة صغيرة من أنفه، والمرجفون يقولون: بل هذا الكسر إنما تم على يد الحملة الفرنسية، والحملة الفرنسية إنما تمثل دورها في خراب ديار مصر. والمعلوم يقيناً: أن نصارى فرنسا على وجه الخصوص إنما يقدسون الأهرامات لا أبا الهول، فكيف يصح في الأذهان أنهم وصلوا إلى هناك؟ إن هذا لأمر عجاب!

الدلائل على وجوب تحطيم الأصنام والصور ومحوها

الدلائل على وجوب تحطيم الأصنام والصور ومحوها ماذا يفعل هؤلاء المؤمنون إذا سمعوا ما أخرجه مسلم من حديث أبي الهياج الأسدي أنه قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (يا أبا الهياج! ألا أبعثك على ما بعثني عليه النبي عليه الصلاة والسلام: ألا تدع قبراً مشرفاً -أي: عالياً- إلا سويته) أي: جعلته أعلى من الأرض بشبر فقط. ومنهم من قال: بل يسوى بالأرض تماماً، ويجعل على رأس الأرض حجراً؛ ليعلم المار أن هذا قبر فلا يطؤه. قال: (وألا تدع صنماً إلا كسرته). وفي رواية: (إلا لطخته). وفي رواية عند أحمد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعثني عليه الصلاة والسلام على ألا أدع قبراً عالياً إلا سويته، ولا صنماً إلا كسرته). وفي رواية: (إلا لطخته). وهذا محمول على أنه إذا كان يمكن كسره يكسر، وإن لم يمكن كسره تزال معالمه بالتلطيخ بالطين والدخان وغير ذلك. والله تعالى أعلم. وعند مسلم في فتح مكة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت. قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه من دون الله عز وجل، وفي يد رسول الله عليه الصلاة والسلام قوس وهو آخذ بثنية القوس - أي: بمعطوفته - فلما أتى على الصنم جعل يطعنه في عينه، ويتلو قول الله عز وجل: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فلما فرغ من طوافه أتى على الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء الله له أن يدعو). وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]). وكان يقول كذلك: {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49]. قال النووي عليه رحمة الله: هذا الفعل فيه إذلال للأصنام ولعابديها، وإشهار لكونها لا تضر ولا تنفع، ولا تدفع عن نفسها. وتذكرون ما فعل الفتى إبراهيم عليه السلام بالأصنام حين كسرها إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون فيسألونه، وأخزاهم الله ورجعوا إلى أنفسهم ليلفتوا أمرهم؛ لعلمهم أن هؤلاء آلهة مزعومة لا تنفع ولا تضر، وهذه القصة في سورة الأنبياء وغيرها من السور. قال الله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73]. إذا أخذت الذبابة -وهي أحقر المخلوقات- شيئاً من هذا الإله المزعوم لا يستطيع أن يحصلها منها! أخرج أحمد عن أبي بن كعب بسند صحيح: (أنه تلا قول الله عز وجل: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء:117] قال: مع كل صنم جنية). فإن الذي يعبد الصنم إنما يعبد الجنية على الحقيقة. وعند أبي داود (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أفيه صنم؟ قالت: لا يا رسول الله! قال: أفيه وثن؟ قالت: لا يا رسول الله! قال: أوف بنذرك). و (جاء رجل وقال: يا رسول الله! إني نذرت أن أذبح كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: أبه صنم يعبد؟ قال: لا، قال: أفيه عيد من أعياد أهل الجاهلية؟ قال: لا يا رسول الله! قال: أوف بنذرك، فإنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم). كل هذا حفاظاً على جناب التوحيد، ونبذ الشرك وأهله. وفي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد). قال الإمام البخاري مبوباً هذا الحديث بباب إذا كسر الصليب وقتل الخنزير وأراق الخمر وحطم الصلبان فلا ضمان عليهم؛ لأن هذه الأشياء غير متقومة، أي: لا قيمة لها في الإسلام، فمن أهدرها وكسرها بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا يضمنها، ولا يكلف كذلك بإصلاحها. ومن حديث ابن عباس عند البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة قبل أن يدخل البيت وفيه آلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج منها ما كان يمكن إخراجه، فأخرج بإبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام -وهي: السهام التي كان يستقسم بها في الخير والشر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قاتلهم الله! -أي: هؤلاء الذين فعلوا ذلك بإبراهيم وإسماعيل- قاتلهم الله! لقد عل

وقفات مع قصة طالوت وجالوت

وقفات مع قصة طالوت وجالوت لقد أعطى الله سبحانه طالوت الملك على بني إسرائيل مع فقره وعدم انتسابه إلى من يستحق الملك في عرفهم، فالله تعالى يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم، وقد أعطى سبحانه بعد ذلك الملك والحكمة لداود عليه السلام. وفي قصة طالوت وجالوت من العبر أن العاقبة للمتقين الصادقين الصابرين، المنقادين لأوامره سبحانه، المجتنبين لنواهيه، وفيها العظة والعبرة لأبناء الصحوة الإسلامية أن يثبتوا على الدين الصحيح والعقيدة السليمة، والله ناصرهم ومهلك عدوهم، وممكن لهم في الأرض ما استقاموا على دينه.

بين يدي قصة طالوت وجالوت

بين يدي قصة طالوت وجالوت إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي) إلى آخر الحديث. وهذا يدل على أن أعظم أمة من الأمم إرسالاً للنبوة هم بنو إسرائيل، والله عز وجل خصهم بأنبياء لم يخص قوماً غيرهم، ومع هذا فهم يؤثرون الضلال، ويؤثرون الحيرة والتيه، بل هم الذين فعلوا بأنبيائهم الأفاعيل، أقاموا عليهم فقتلوهم وضربوهم وآذوهم، بل وحملوهم على الهجرة من بلاد إلى بلاد أخرى، فعلوا ما لم تفعل أمة بنبيها، وهذا منتهى الفساد في الأرض، فمحاربة الأنبياء والمرسلين إنما هي فرع عن محاربة الله تبارك وتعالى. وقد ذكر الله عز وجل قصصاً لبني إسرائيل في القرآن الكريم، وما أكثرها، نجتزئ منها قصة في هذا اليوم؛ لنأخذ منها العبرة والعظة. قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:246 - 249] إلى آخر الآيات. هذه القصة فيها عبرة عظيمة جداً، فهي تحكي واقع المسلمين اليوم. فقوله: (كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء) أي: يرسل الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل نبياً تلو نبي، بل ربما أرسل عدة أنبياء في وقت واحد، وفي مكان واحد، كما أرسل إلى بني إسرائيل موسى وهارون، وكما أرسل إلى بني إسرائيل داود وسليمان وغير ذلك من الأنبياء. فالله عز وجل كان يرسل العدد من الأنبياء في بني إسرائيل في الوقت الواحد؛ للقيام بأعمال بني إسرائيل، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، والدلالة على الله عز وجل، ولكنهم أعرضوا وجحدوا في كل مرة، ومع كل نبي.

تعنت بني إسرائيل مع أنبيائهم وسبب عدم قبولهم مبدئيا تملك طالوت عليهم

تعنت بني إسرائيل مع أنبيائهم وسبب عدم قبولهم مبدئياً تملك طالوت عليهم قال وهب بن منبه عليه رحمة الله: كانت بنو إسرائيل فترة من الزمان على الطريق المستقيم، وعلى تعاليم موسى عليه السلام، حتى فعلوا فعلتهم المنكرة -ولم يذكر أي فعلة منكرة، وفعالهم المنكرة لا تكاد تقع تحت حصر، ولكنهم لعلهم ارتكبوا فعلة عظيمة أعظم من كل ما يمكن أن نتصوره-، فضرب الله عز وجل عليهم الذلة والهوان، وكانوا من قبل لا يحاربون جيشاً إلا غلبوهم وانتصروا عليهم، ولكنهم لما فعلوا فعلتهم، ما قام عليهم أحد إلا قتلهم، حتى شردهم ملك ظالم من ملوك المشركين في الأرض شرقاً وغرباً، ثم اجتمعوا في أرض فلسطين. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} [البقرة:246] من هو هذا النبي؟ قيل: هو يوشع بن نون، وليس كذلك، فإن يوشع كان بعد موسى عليه السلام وهارون مباشرة، وإنما كانت القصة في زمن داود عليه السلام، ولم يكن يوحى إليه بعد، والمعروف عند أهل السير والتاريخ أن بين داود وموسى عليه السلام أكثر من ألف عام، فداود إنما أرسل بعد موسى بأكثر من ألف عام، فالقصة متأخرة جداً في بني إسرائيل، ولذلك قال وهب بن منبه: لما كانت النبوة في سبط لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهودا، نظر اليهود -وهم أتباع موسى- في سبط لاوي بن يعقوب فلم يجدوا منهم أحداً إلا امرأة حاملاً، فأخذوها وحبسوها في بيت حتى تلد رجاء أن ترزق بولد أو غلام يبايعه بنو إسرائيل على النبوة كأنها بيعة، وكانت تدعو الله عز وجل أن يرزقها بغلام، وأن ينبته نباتاً حسناً، فاستجاب الله عز وجل دعاءها وولدت غلاماً وسمته شمعون، وفي رواية: سمته شمويل، فلما بلغ شمعون أو شمويل سن النبوة، وهو في الغالب سن الأربعين، أوحى الله عز وجل إليه، فاجتمعت عنده بنو إسرائيل، وقالوا: يا نبي الله، ألا ترى ما نحن فيه من ذل وهوان، فعين لنا ملكاً نقاتل معه في سبيل الله، فنظر هذا النبي بعين البصير ببني إسرائيل على جهة الخصوص، وبالناس عامة، فرأى أن الحماس وحده لا يكفي، ولكن هذا الشعب الطويل المترامي الأطراف أصر على أن يعين لهم شمويل ملكاً يقاتلون معه أهل الظلم والطغيان، وكانوا هم أتباع موسى عليه السلام، فعين لهم هذا النبي طالوت ملكاً، ولكنه قبل أن يعينه قال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] هل أنتم على يقين لو كتب وفرض عليكم القتال أنكم ستقاتلون حقاً؟ والمعلوم أنهم قوم بهت وظلم وطغيان وردة، وأنهم لا يفون بوعد ولا عهد، فهو قال لهم: هل أنتم على يقين مما توعدون به الآن؟ {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] فهم حددوا الهدف الذي لأجله يقاتلون بقولهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] يعني: هذا القتال إنما هو لإعلاء راية الله عز وجل. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]، وهذا هو الفصل الثاني، وإن شئت فقل: هو المطلب الثاني. {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة:247] يعني: كيف يكون لهذا الصعلوك الملك علينا، وإنما الملك فينا يعرف في سبط يهودا، وليس طالوت من سبط يهودا، وهم أصحاب الملك في بني إسرائيل، ولا هو من سبط لاوي بن يعقوب وهم أهل نبوة، كما أنه كذلك لم يؤت سعة من المال فهو فقير، والملك يحتاج لغني ينفق من ماله على المملكة؟! فكيف أيها النبي تعين علينا رجلاً بغير مؤهلات؟ كيف تملك علينا رجلاً لم يتخرج من مملكة يهودا، ولا من سبط لاوي بن يعقوب؟! وهذا شبه ما يحصل الآن عندنا: كيف يتعين الدعاة ولم يتخرجوا من جامعة الأزهر، وليس معهم إجازة بحمل العلم الشرعي من الأزهر؟ كأن هذا تخصص لم يأذن الله عز وجل إلا به، وأما من تعلم العلم في غير الأزهر ولو كان من الأنبياء مشافهة، فإنه لا يصلح في هذا الزمان للدعوة إلى الله عز وجل، ما لم يكن خريجاً من الأزهر! ما أشبه اليوم بالبارحة، وصرنا نقول الآن كلاماً قالته بنو إسرائيل من قبل: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247]. يعني: هذا رجل فقير، ثم إنه يعمل سقاء بعد الفجر ودباغ بعد الظهر، أو بعد العصر، يعمل في مهن حقيرة، فكيف يكون ملكاً علينا؟ فرد عليهم نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:247]، إذا كنتم حقاً وتؤمنون بالله عز وجل وتصدقون نبوتي، فأنا ما عينته من عندي، ول

ابتلاء الله تعالى لجنود طالوت بالنهر ومدى صبرهم وثباتهم أمام هذا الابتلاء

ابتلاء الله تعالى لجنود طالوت بالنهر ومدى صبرهم وثباتهم أمام هذا الابتلاء لما آمن بنو إسرائيل بـ طالوت وكذلك بشمويل لم يبق أمام طالوت إلا أن يقاتل بمن معه هؤلاء المشركين، قال: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة:249] أي: لما ميز طالوت الجنود الذين معه، وأراد أن ينطلق بهم إلى القتال قال لهم قبل أن ينطلقوا: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] أي: إن الله سيختبركم بنهر، وأنتم عطشى في غاية العطش تكادون أن تهلكوا منه، لكنكم لابد أن تصبروا وألا تشربوا منه، فإن شربتم منه فإنكم لستم جنوداً لي، والجهاد يحتاج إلى صبر في المأكل والمشرب وعند لقاء العدو، وعند النظر إلى بارقة السيوف في ضوء القمر، أو في حر الشمس. ثم قال: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249] أي: من شرب من هذا النهر وهو نهر الشريعة المعروف الآن بنهر الأردن، فمن شرب منه منكم أيها الجنود فليس من جنودي وأتباعي. قال السدي وقتادة: كان الجند مع طالوت قبل أن ينطلق ثمانين ألفاً، فلما قال طالوت لجنوده: (فمن شرب منه فليس مني) أي: لا يتبعني من شرب منه، يعني: أنتم لا تصلحون للجهاد إذا خالفتم الأمر وارتكبتم النهي، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249] قال السدي: شرب منه ستة وسبعون ألفاً. وجاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه فيما رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي تحت باب رفع الأمانة. قال البراء بن عازب: (كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقول: إن عدة أصحاب محمد في بدر هم عدة أصحاب طالوت لما قاتل جالوت، قيل: كم؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر). فيكون قول السدي وقتادة وغيرهما موافقاً لرواية البراء، بل أكثر من ستة وسبعين ألفاً الذين شربوا من هذا النهر. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] أي: إلا من أخذ شيئاً يسيراً من هذا النهر بيده فشرب فلا حرج عليه حينئذ، والله تعالى يعفو عنه. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان الذي شرب منه لم يرو، والذي اغترف روي تماماً. بركة طاعة الأمراء في طاعة الله عز وجل، جعلها سبحانه محكاً واختباراً وابتلاء وامتحاناً، فإذا نجحوا فيه، فإنهم لما بعده أنجح، وإذا رسبوا فيه، فإنهم لما بعده أرسب وأفشل، فكيف لا يصبر المرء على العطش، ويصبر بعد ذلك على لقاء العدو؟! فجعل لهم هذا النهر ليختبر قوة إيمانهم، فرسبوا رسوباً سحيقاً، ولذلك قال: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249] أي: لا يتبعني في هذا الجيش.

موقف القلة القليلة الذين مع طالوت من جالوت وجنوده

موقف القلة القليلة الذين مع طالوت من جالوت وجنوده بعد أن عبر طالوت النهر بهذه القلة القليلة التي معه، إذا بـ جالوت أعظم الطغاة في زمانه يلقاهم في جيش كثير جداً أفزع القوم، ولذلك اعتذر أصحاب طالوت فقالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] يعني: يا طالوت، نحن نرجو أن تعبر بنا النهر مرة أخرى، ونحن قد كنا عبرنا معك النهر، فهذا دليل على صدقنا، ولكن هذا العدد لا قبل لنا به، فنحن نعتذر الآن، ونرجو ألا تخوض بنا المعركة. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] والظن هنا بمعنى: اليقين، ولا يكون اليقين إلا عند أهل العلم بكتاب الله، وبسنن الأنبياء، قال الذين يوقنون أنهم ملاقوا ربهم: أيها الجهال الأغبياء كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والنصر هو من عند الله عز وجل، نعم، العدة والعتاد والقوة والشجاعة هي من عدد الحرب، ولكن إذا أراد الله عز وجل أن ينصر فئة على فئة فلا راد لهذا النصر: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. في مثل هذا الموطن ينتصر المؤمنون على عدوهم؛ لأنهم آمنوا وتوكلوا على الله، فبسبب طاعتهم وإيمانهم بهذا النبي، واتباعهم لأوامر ملكهم وأميرهم في الجهاد لابد وأن النصر حليفهم أو الشهادة، ولذلك المؤمن يدور بين أمرين كلاهما حسن في ملاقاته للعدو: أن ينصره الله، فهذا مغنم عام، أو أن يقتل، فالشهادة. وهذا هارون الرشيد رحمه الله تعالى الذي صوره المصورون أنه عربيد سكير قاتلهم الله أنى يؤفكون، صوروه بتصاوير شتى، ولكنه كان رجلاً صالحاً يحج عاماً ويغزو آخر، كان إذا أرسل سرية أرسل معها كتاباً إلى زعيم الشرك والكفر، يقول فيها: إني أرسلت إليك جيشاً هو أحرص على الموت حرصك أنت وجيشك على الحياة. فما موقف هذا الملك من هذه الرسالة؟ هذه رسالة كفيلة بتدميره نفسياً قبل لقائه، ومن ذلك رسالته إلى ملك الروم قال فيها: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم إني أرسلت إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي، فالجواب ما ترى لا ما تسمع. الله أكبر! كلمات جبارة قوية تزلزل قلوب الأعداء بغير لقاء. وأما بلاد المسلمين اليوم فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا عقائد، ولا أحكام، ولا طاعة، ولا إيمان، ولا عز ولا نصر ولا تمكين ولا سؤدد، ولا شيء من مظاهر العز والنصر والتمكين، إنما كله ذل في ذل، وهوان في هوان، وخور وضعف ومهانة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. أي: معية الله عز وجل أعظم من كل معية، فثبات هذه الفئة المؤمنة أمام هذا الجيش العرمرم دليل على أنه عز وجل معها، ينزل الملائكة يقاتلون معهم ويثبتونهم، يثبتون الأقدام عند اللقاء، ويربطون الجأش. كان عدد المسلمين في بدر يربو على الثلاثمائة شيئاً يسيراً في مقابلة ألف من صناديد أهل مكة، أتوه إلى بدر لمقاتلته، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن ينوي قتالاً مع استعدادهم ومع ما معهم من العدة والعتاد للقاء محمد عليه الصلاة والسلام وجيشه بغتة. والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم عين اليقين أن النصر من عند الله عز وجل، ولذلك رفع يديه إلى السماء، وظل يدعو حتى سقط رداؤه الشريف من على كتفه عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: (يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً). فتناول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الرداء فوضعه على كتفيه وهو يبكي، ويبشر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله سيفي له ما وعده من النصر والتمكين، وكان الوعد قد نزل من قبل. وانتصر المسلمون نصراً مؤزراً، فليست غزوة من الغزوات في تاريخ البشرية لها من الفوائد والأعاجيب كغزوة بدر، مع قلة الناس، ولكن الإيمان يزلزل الجبال، كان الواحد بأمة؛ ولذلك لما أخطأ أحدهم بعد ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؛ بسبب ثباتهم في غزوة بدر، فقد ثبتوا وألحقوا الهزيمة المنكرة بأعداء الله ورسله. أما حنين فكان عدد المسلمين كثيراً جداً، واغتروا بكثرتهم: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]. وإليكم قصة هذا الذئب الذي دخل في سباق مع السلحفاة، فقال: أنام شيئاً، ثم أقوم فألحق السلحفاة وأسبقها، فكان كلما استيقظ من نومه قال: الوقت مبكر، أنام وقتاً آخر، ثم أدرك السلحفاة وأسبقها، فبقي الذئب نائماً حتى بلغت السلحفاة النهاية والهدف. كذلك لا يحل لقائد أن

وقفات مع قصة طالوت وجالوت

وقفات مع قصة طالوت وجالوت الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد: فهذه وقفات نقفها مع قصة طالوت وجالوت فيها إنارة الطريق لأهل الصحوة الإسلامية في هذه البلاد وفي غيرها.

تأصيل الإيمان وغرسه في قلوب أبناء الصحوة وعدم الالتفات إلى الحماس الزائف

تأصيل الإيمان وغرسه في قلوب أبناء الصحوة وعدم الالتفات إلى الحماس الزائف الوقفة الأولى في هذه القصة: أنه يجب على الدعاة إلى الله عز وجل في هذا الزمان في هذا البلد وغيره ألا يتحمسوا، وألا يغتروا بهذا الحماس الزائف، بل لابد من تأصيل الإيمان، وزرع وبذر أصول العقيدة في قلوب أبناء الصحوة؛ لأن العقيدة إذا صلحت ونبتت نباتاً حسناً في قلب صاحبها، كان بعد ذلك خيره مرجواً وإلا فلا. فليحذر الدعاة إلى الله أن يغتروا بهذا الحماس، بل لابد من وضعه على محك التجربة قبل خوض المعركة.

الثقة بالله عز وجل من أعظم أسباب النصر والتمكين

الثقة بالله عز وجل من أعظم أسباب النصر والتمكين الثانية: الثقة بالله عز وجل من أعظم أسباب النصر والتمكين، ولذلك: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ} [البقرة:249] لما التقوا بجيش جالوت: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]. فقوله: ((أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) أي: صب الصبر علينا صباً؛ حتى نثبت أمام العدو، وننتصر على القوم الكافرين.

التسلح بالصبر في زمن الاستضعاف

التسلح بالصبر في زمن الاستضعاف الثالثة: أن الصبر عبادة في وقت، وأن الجهاد بالسيف عبادة في وقت آخر، ولكل حكمه، فإذا كان المسلمون في فترة ضعف فالصبر واجب في حقهم. وأما طلب لقاء العدو والحالة هذه فليس من مصلحة الإسلام وأهله، بل يجب عليهم أن يتسلحوا بالصبر، وهو أعظم سلاح في هذه الفترة. كما أن أعظم سلاح في فترة القوة والسيادة هو رد كيد الأعداء في نحورهم.

وضوح الطريق لدى أبناء الأمة

وضوح الطريق لدى أبناء الأمة الرابعة: وضوح الطريق لدى أبناء الأمة، والطريق الوحيد هو طريق الله عز وجل، فلابد من بيانه للجنود الذين يحاربون أعداء الإسلام؛ لأن الواحد منا قد يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليقال: جريء، أو شجاع ما أظرفه، ما أعقله، ما أجلده، ليس هذا هو الطريق، وإنما الطريق من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. فبنو إسرائيل قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، فحددوا الطريق أمامهم، وأعلنوا أن القتال إنما هدفه إعلاء راية الله عز وجل، ونصر الإسلام على الشرك والكفر، ولذلك المسلم يكون بين أمرين: إما النصر، وإما الشهادة، ولكن مع عدم وضوح الهدف عند الأعداء، فإن الله ألقى في قلوبهم الرعب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، إذا سمع العدو بمقدم جيش محمد، هزم في عقر داره قبل أن يبلغه الجيش، بل يقول الله عز وجل: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]؛ لأن جيش العدو لا يقوى على اللقاء، ولا يصبر عليه، وينهزم في أول وهلة. أقسم بالله العظيم غير حانث لو أن دولة من دول الإسلام المحيطة بفلسطين رفعت راية الجهاد، ولو في نشرة بثتها من خلال الإعلام أو الصحافة لاعتذر اليهود في نفس اللحظة. أما التخدير وخداع الشعوب بالسلام العادل والشامل، فلا سلام قط، فضلاً أن يكون عادلاً وشاملاً، والله عز وجل قد بين أن اليهود أهل غدر وظلم، وليسوا أهل سلام، فإما أن نصدق هؤلاء ونكذب الله، وهو واقع الأمة الآن، وإما أن نكذب هؤلاء ونصدق الله إخلاصاً، ونطيعه فيما أمر، ونرفع راية الجهاد، وننهي هذه التمثيلية التي يضحكون بها على المسلمين شرقاً وغرباً. إذاً: لابد من وضوح الهدف أمام الجنود؛ حتى يقاتلوا على نور وبصيرة.

اهتمام القائد بصحة عقيدة الجنود وصحة الهدف

اهتمام القائد بصحة عقيدة الجنود وصحة الهدف الخامسة: لابد لكل قائد وذي رأي ومشورة أن يتأكد من صحة العقيدة، ومن صحة الهدف لدى جنوده كما قال طالوت لجنوده: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]، فردوا عليه: {وَمَا لَنَا} [البقرة:246] أي: كيف بنا لا نقاتل {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] حتى قامت المعركة الحازمة بين جند طالوت وجند جالوت، وكتب الله تعالى النصر لـ طالوت وجنوده، وكان طالوت قد أعلن عن هدية في جنده، وقال: من قتل جالوت فسأزوجه ابنتي وأشركه في ملكي، فقام داود عليه السلام قبل أن يوحى إليه، وكان جندياً من جنود طالوت، قام إلى جالوت فتسلل حتى وصل إليه وقتله، وأنتم تعلمون إذا قتل الأمير وقائد الجيش فكأنما قتل الجيش بأسره، فضربت الهزيمة على الجيش بأكمله، وجاء داود برأس جالوت إلى طالوت، فزوجه ابنته وأشركه في ملكه، ومات طالوت بعد هذه الغزوة، ثم انتقل الملك بأكمله إلى داود عليه السلام، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، حتى تعلموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وإن كانوا قلة، لكن الفيصل هو الإيمان بالله عز وجل، والانقياد لأمره. كم من الناس يحضر مسجدنا هذا إذا تعارض الشرع مع مصلحته قدم المصلحة على الشرع، مع أنه يدعي أنه محب لله ورسوله. ذكر ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) عن الأعمش أنه قيل له: جزاك الله خيراً من إمام، لقد علّمت الناس العلم -وهم ينظرون إلى الناس بالآلاف بين يديه- فتبسم الأعمش وقال: لا تعجبون. أما هؤلاء، وأشار إلى مجموعة من طلاب العلم فثلثهم يموت قبل أن يدرك. يعني: يموت قبل أن يتصدر، والثلث الثاني: يذهبون إلى السلطان، ثم قال: وهم شر الناس، وأما الثلث الثالث: فقليل منهم من يفلح. لما سمع ابن المبارك هذا الكلام قال: هذا الكلام جدير بأن يكتب ويحفظ. وينبغي لكل قائد وزعيم أن يجعل هذا الكلام نصب عينيه، فالناس قليل منهم من يفلح، وقليل منهم من يثبت، أما أن يغتر الأمير بهذه الجموع الغفيرة؛ فإنه لا يستحق أن يكون أميراً. كان الصحابة رضي الله عنهم مراتب ودرجات، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر: (الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة). وقال البخاري: باب رفع الأمانة. كأنه يشير إلى أن الناس كثر، والمرضي منهم قليل. أيها المؤمنون! هذه وقفات لابد أن نقف عندها؛ لترشيد هذه الصحوة، والاستفادة منها في الأيام المقبلة، لعل الله عز وجل يرزق هذه الأمة رأياً راشداً وإيماناً يعز به الدين وأهله، ويذل به الشرك وأهله.

التوجه إلى الله عز وجل بإنزال النصر من السماء وعدم الاغترار بالكثرة

التوجه إلى الله عز وجل بإنزال النصر من السماء وعدم الاغترار بالكثرة السادسة: لابد أن تعلم أن العبرة بالتأييد الإلهي لا بالعدد والعدة، وإن كان ذلك مطلوباً، لكنه ليس بيت القصيد، أما بيت القصيد فهو التوجه إلى الله عز وجل بإنزال النصر من السماء: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وقال الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، ونصر الله عز وجل باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، ومحبة أنبيائه، والعمل بتعاليم النبي عليه الصلاة والسلام. قال أبو الدرداء فيما أخرجه البخاري: إنما تقاتلون بأعمالكم. أي: أعمالكم هي سبب نصركم أو سبب هزيمتكم. وقال الحسن البصري: عمالكم أعمالكم. أي: ولاتكم ورؤساؤكم وحكامكم على قدر أعمالكم، فلستم أنتم بأخير منهم، ولا هم بأفسد منكم، أنتم منهم وهم منكم، وهم جزء من مجتمعكم، وأنتم جزء من مجتمعهم، فحسنوا العمل مع الله عز وجل، وصلوا ما بينكم وبين الله يولي الله تبارك وتعالى عليكم خيار عباده، وإلا فلا، وهذه سنن كونية. وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام إذا لقي عدواً كان يقول: (اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، ونجعلك اللهم في نحورهم)، وكان يقول: (اللهم بك أصول وبك أجول)، وإن كان في سند هذا الحديث ضعف. إذاً: فلا نصر إلا من عند الله عز وجل، أما الاغترار بالكثرة فليس ينفع عند اللقاء.

أخذ العظة والعبرة في احتمال الشدائد في الجهاد وغيره

أخذ العظة والعبرة في احتمال الشدائد في الجهاد وغيره السابعة: في هذه القصص عبرة لهذه الأمة في احتمال الشدائد، خاصة عند الجهاد وقتال العدو. لعلك تتصور أن دانة من دانات العدو تلقى في جيش المسلمين تصيبهم بآلام لا قبل لهم بها، لكن أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن سيف العدو لا يصيب ولا يمس بدن المؤمن إلا كشكة إبرة، وإن كثيراً من أبناء الصحوة الآن يتنازلون عن أشياء من دينهم مخافة أن يضربوا بالسوط، أو يحبسوا في الظلام، ونسوا أن المس والألم لا ينالهم إلا مع أول سوط، ولو ضرب بعد ذلك مائة سوط فإنه لا يشعر بذلك؛ رحمة من الله وفضلاً، وسلوا الله عز وجل العافية، لا تسألوه لقاء العدو، ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا، وهذا دين الله عز وجل. إذاً: فيجب عليكم أن تقوموا بالواجب الذي كلفتم من أجله، وتوكلوا على الله عز وجل.

عدم الموازنة بين العلم والجهل وبين العلماء والجهلاء

عدم الموازنة بين العلم والجهل وبين العلماء والجهلاء الثامنة: أنه لا موازنة بين العلم والجهل، ولا بين العلماء والجهلاء؛ فإن أهل العلم يرون الفتنة وهي مقبلة، وأهل الجهل لا يرون الفتنة إلا وهي مدبرة، بعد أن تستأصل شأفتهم يرونها بعد ذلك، ثم يقولون: يا ليتنا كنا ويا ليتنا كنا. فأهل الجهل اغتروا بما كان عليه قارون أعظم طاغية في زمانه، لما خرج عليهم في زينته قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، وفتنوا به أيما فتنة، خاصة بعدما أن رأوا تلك الميديلات التي تحمل المفاتيح التي تنوء بحملها العصبة من الرجال، فما بالك بخزائن قارون، ولذلك نظر الجهلاء نظرة عمياء لزهرة الدنيا ومتاعها، فتمنوا أن يكون لهم ما لـ قارون، ولكن أهل العلم قالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]. فثواب الله خير، فلو أنك قلت لرجل الآن: صل جماعة في المسجد، لربما قال: والله أنا عندي خشونة في رجلي، وعندي مغص في بطني، وعندي فقرات في ظهري، ولو قيل له: إن في المسجد لجنةً توزع على كل مصل سبعاً وعشرين جنيهاً بعد أداء الصلاة، لأتي به محمولاً على الأعناق؛ حتى يحصل على سبع وعشرين جنيهاً، فما بالكم بسبع وعشرين درجة في الجنة، ما بين الدرجة والدرجة مسيرة خمسمائة عام من منكم يصدق النبي عليه الصلاة والسلام؟! أينا يؤمن بالله حق الإيمان؟ تستغني عن سبع وعشرين درجة وتأتي محمولاً على الأعناق لأجل سبع وعشرين جنيهاً، حتى تعلم أنك لا زلت متخلقاً بأخلاق بني إسرائيل لا بأخلاق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. لو أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فينا الآن هل يعرفنا؟ هل يقر الناس على ما هم عليه الآن؟ الغالب على الظن أنه سيتبرأ منا، وسيعتذر إلى ربه أن هؤلاء ليسوا أتباعي، وإنما بدلوا فسحقاً سحقاً، وأنتم تعلمون أن هذه الرواية إنما جاءت في غير أصحابه عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن تكون هذه الرواية قد وردت في شأننا نحن، فـ (بينما النبي عليه الصلاة والسلام على الحوض يدعو أمته إلى أن يشربوا من الحوض، إذا به يسمع صوتاً من قريب أو من بعيد: يا محمد، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لقد بدلوا وغيروا، فيقول عليه الصلاة والسلام: سحقاً سحقاً). أي: بعداً بعداً. أتحب أن تكون من هؤلاء؟! أتحب أن تكون ممن يبعد عن حوضه عليه الصلاة والسلام، الذي إذا شربت منه شربة لا تظمأ بعدها أبداً؟ قال أهل العلم في هذه الآية: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وفي قوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247]: آمنوا وسلموا أن هذا من عند الله عز وجل.

وراثة الأرض لمن شاء الله عز وجل من عباده

وراثة الأرض لمن شاء الله عز وجل من عباده التاسعة: أن الأرض لله يورثها من عباده من يشاء، لكن لابد أن تحقق العبودية في قلب العبد، وقد خير النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون ملكاً رسولاً، أو عبداً رسولاً، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، تواضع، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل عبداً رسولاً)، وقال: (إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد)، وقال لما قام الليل كله حتى تفطرت قدماه، وأشفقت عليه نساؤه، قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً). والعبودية والعبادة: هي فعل الأوامر واجتناب النواهي، إذا امتثلت الأمر واجتنبت النهي فقد حققت العبودية، والعبادة: هي كل أمر يحبه الله عز وجل من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله. ثم قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. كم من طاغية هلك لا ذكر له، وكم من عالم مات يحيا الناس بذكره الآن، تصوروا كم ملايين يأتون يوم القيامة في صحيفة حسنات ابن حجر، أو النووي، أو الذهبي، أو ابن معين، أو الشافعي، أو ابن حنبل، أو مالك أو غيرهم من أئمة الإسلام، فنحن عند ذكر هؤلاء نذكر النبي صلى الله عليه وسلم، الواحد منهم بأمة وزيادة؛ لأنه يتكلم عن الله عز وجل، وكلامه كله علم ونور وبصيرة، ولذلك لا يقارن أهل الجهل جميعاً بواحد فقط من أهل العلم، لا يستوي أهل العلم وأهل الجهل، فلا مقارنة بينهما: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، كالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

قصة طالوت وجالوت عزاء للصحوة الإسلامية

قصة طالوت وجالوت عزاء للصحوة الإسلامية الوقفة العاشرة والأخيرة: والثمرة أن هذه القصة فيها عزاء للصحوة الإسلامية مع ضعفها ومع سوء أدبها مع الله عز وجل حكاماً ومحكومين. بل قد وصلنا إلى زمان يتبنى فيه الكفر والإلحاد، ويحارب فيه أهل الإيمان والعلم، فتحقق فينا قوله عليه الصلاة والسلام: (ستكون سنوات خداعات -أي: في آخر الزمان- يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، ويتكلم فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه السفيه يتكلم في أمر العامة). الرجل التافه الصعلوك الحقير الغبي السوري حيدر حيدر يتكلم في أمر العامة، ويسب الله ويسب الرسول ويسب القرآن، ومع ذلك فإن جهات كثيرة تتبناه، بل صحف وجرائد ومجلات تنشر كتابه الآن كل يوم أحد، فصلاً فصلاً، وإلى الآن نشروا منه بابين، رغماً عن كل مسلم، فمن لم يعجبه فليضرب برأسه على الجدار! أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة لقد جعل الله عز وجل لهلاك الأمم أسباباً، وأنزل الكتب وأرسل الرسل إلى تلك الأمم يحذرونها من الوقوع في أسباب الهلاك، فعصت الرسل، وكذبت بالكتب، فنزل بها أمر الله تعالى وأهلكها، وهذا فيه عظة وعبرة لهذه الأمة الخاتمة، وأنها إن وقعت فيما وقعت فيه الأمم السابقة فسيكون لها نصيب من ذلك الهلاك، إلا أن الله تعالى رحمة بهذه الأمة لن يهلكها هلاكاً عاماً كما أهلك الأمم قبلها، وإنما يسلط الله عليها الأعداء حتى ترجع إلى دينها رجوعاً صادقاً صحيحاً، فتسترد قوتها وعافيتها وسيادتها وريادتها للأمم.

مكانة أمة الإسلام عند الله وعند رسوله وأسباب ما نزل بها من ذل وهوان

مكانة أمة الإسلام عند الله وعند رسوله وأسباب ما نزل بها من ذل وهوان إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لا شك أنه من المعلوم لدى كل مسلم ما قد نزل بالأمة من ويلات وحسرات، فكل منا متوجع ومتألم ومتحسر، ومنا المتألم بصدق وإخلاص، ومنا المتحسر بكذب وبهتان، بل ومنا المتحسر استهزاءً بالله عز وجل وبأنبيائه ورسله وكتبه، وبهذه الأمة المباركة، ولا يدري المسكين أن هذه الأمة هي أبرك أمة خلقها الله عز وجل، وأنها أخير أمة على وجه الأرض, وأن النصر حليفها لا محالة وإن لم يكن اليوم فغداً بإذن الله تعالى، ولكن لا بد لهذه الأمة أن تعلم أمرين اثنين: الأمر الأول: أن ما نزل بها إنما هو بسبب ما اقترفته أيديها. والأمر الثاني، وقد بينه الله في كتابه وبينه نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم في سنته: أنها لكرامتها على الله عز وجل أن النصر لها في نهاية الأمر، وأن الغلبة لها في المآل وإن كانت الأيام دولاً يوماً لها ويوماً عليها. لابد لهذه الأمة أن تقرأ كتاب ربها وسنة نبيها، ثم تنظر في واقع الأمم الهالكة، لتعلم سبب هلاكها حتى لا ترتكب أسباب الهلاك كما ركبتها الأمم من قبلها، ولذلك بين الله تبارك وتعالى في كتابه أن هذه الأمة لا بد أن يظهر فيها الفساد، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، والباء هنا سببية، وهذا الفساد إنما هو بسبب ما ارتكبت أيدي الناس: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. وقال الله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]. وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. إن الذي حل بهذه الأمة كان بسبب ركوبها المعاصي وتركها الطاعة، ولا بد أن ترجع إلى ربها وإلا سيكتب عليها الذل والهوان طالما أعرضت عن كتاب الله وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أجرى الله تعالى في هذه الأمة سنته التي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} [الرعد:11] أي: إذا أنعم الله تعالى على أمة من الأمم بنعمة من النعم، فإنه لا يزيلها ولا يمحقها ما دامت هذه الأمة قائمة لله وبأمر الله وعلى نهج الله، فإن هذه النعمة لا يمكن أن تزول عنهم أبداً، سنة من الله تعالى، إن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا هم، وحتى يبدلوا هم، وحتى يتنكبوا الطريق هم، فحينئذ يزيل الله تبارك وتعالى ما بهم من نعم. ضرب لهذا مثلاً حياً عظيماً في القرآن الكريم فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112] فلما كفرت بأنعم الله أخذها الله تعالى بغتة، وهذه سنته في العصاة والكافرين والضالين الذين سلكوا سبيل الشياطين، وتركوا سبيل الأنبياء والمرسلين. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} [النحل:112] أغلب أقوال أهل العلم على أن هذه القرية هي مكة المكرمة التي كفرت ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وكفرت بالقرآن وبالسنة. {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] أما الجوع فلأن النبي عليه الصلاة والسلام قطع عليهم الطريق

أنواع الهلاك والفتن الواقعة على هذه الأمة وسببها

أنواع الهلاك والفتن الواقعة على هذه الأمة وسببها بعض الناس يتصور أن الهلاك لهذه الأمة إنما هو في إبادتها واستئصال شأفتها عن بكرة أبيها، وهذا لا يكون أبداً في هذه الأمة، نعم. كان في أمم سابقة، لكن الله تعالى تفضلاً منه ورحمة وعد هذه الأمة أنها لا تباد ألبتة، بل: (لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله -أي: حتى تقوم الساعة- وهم على ذلك)، أي: وهم على الحق مظهرين له ظاهرين به، فهذه الأمة لا يمكن أن تبيد بأسرها، ولا أن تهلك كلها رحمة من الله عز وجل. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] بل تصيب العامة، ويبعث كل على نيته، ودليل ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم: في غزوة أحد لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الجند وصف الصفوف وأرسل قطعة من الجيش إلى أعلى جبل الرماة، ثم قال لهم: (على مصافكم، احموا ظهورنا، فإذا رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا -أي: في جمع الغنائم-، وإذا رأيتمونا قد قتلنا فلا تنصرونا). وصية خالدة، ولكنهم تنكبوا هذا بعد أن أمَّر عليهم عبد الله بن جبير وأرسلهم إلى مهمتهم، فلما رأوا الحرب قد وضعت أوزارها وولى المشركون الدبر، تصوروا أن هذا آخر المطاف، فنزل جلهم لجمع الغنائم، فلما رأى خالداً ومن معه قلة الجند على جبل الرماة استداروا من الخلف فصعدوا الجبل، وأتوا على المسلمين ضرباً وتنكيلاً ورمياً بالسهام والنبال، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، بل وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك جراح، فشج وجهه وكسرت رباعيته، ثم قالوا: كيف حصل هذا؟ بعد أن انتصر المسلمون أولاً ما الذي دهانا؟ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] بسبب مخالفتكم اليسيرة للنبي عليه الصلاة والسلام كان لزاماً أن تجرى فيكم سنة الله تبارك وتعالى، وهي التأديب والطرد والقتل والتشريد والسجن والحبس وغير ذلك من سائر العقوبات حتى ترجعوا وتراجعوا دينكم، وترجعوا إلى ربكم، سنة الله تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61] لا يترك شيئاً يدب على وجه الأرض، لو أراد الله تعالى أن يعاملنا بعدله، ولكن الله تعالى المتفضل الرحيم الكريم التواب الغفور دائماً يعامل هذه الأمة بفضله، ويمهل للظالم، ويعطي له الفرصة مرة ومرتين وثلاثاً ومائة ليثوب ويتوب ويرجع إلى ربه، فإذا أصر فالشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وكما قال سائر السلف من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم أجمعين. أخرج البخاري من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم علي فزعاً مذعوراً وهو يقول: الله أكبر، لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بالإبهام والتي تليها -أي: السبابة- قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث). وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أترون ما أرى؟ قالوا: لا يا رسول الله، وما ترى؟ قال: والذي نفسي بيده! إني لأرى الفتن تقع بين بيوتكم كمواقع المطر من السماء) انظروا إلى حجم الفتنة التي تقع بالأمة، والأمة الآن تحيا هذا الحديث حياة ملموسة محسوسة، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام بين ظهرانينا الآن، وذلك مصداق ما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم - أي: تجتمع عليكم الأمم - كما تجتمع الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير) مليار وثلث المليار لا يقوون على مجابهة ثمانية مليون يهودي في العالم كله، لو أن كل مسلم بصق فقط في أرض فلسطين لأغرق اليهود، فما بال اليهود مع قلتهم يسوسون العالم أجمع حتى ساسوا بلد الكفر وأعظم طاغية على وجه الأرض أمريكا، كيف ذلك؟ {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. إي والله! بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. اليهود أنجس خلق الله، وأذل خلق الله، أبناء القردة والخنازير أذاقوا المسلمين في هذه الأيام الذل والهوان، وليس ذلك بقوة اليهود، فإنهم أضعف وأحقر من ذلك، ولكن بمعصيتكم أنتم، بمعصية هذه الأمة وركوبها الخطر وتنكبها عن صراط ربها وسنة نبيها، فأراد الله تعالى أن يلقنها درساً في حياتها لا تنساه، فسلط الله عليها أهون الخلق عليه، اليهود ومن خلفهم النصارى

أسباب دفع الهلاك عن الأمة

أسباب دفع الهلاك عن الأمة أنواع العذاب كثيرة جداً ويتصور البعض أننا بخير والحمد لله، وأننا في رحمة وفي سعة من أمرنا وفي رغد من العيش لا والله، فالعذاب كما يكون بالكفر والشرك يكون بالبدع التي انتشرت في الأمة، ويكون بالفسوق والفجور والعصيان الذي صار إلفاً مألوفاً لكل عين ناظرة، بل ولكل كفيف يتأذى إذا سمع حال الرجال وحال النساء، بل لو أن الواحد نظر في الشارع نظرة لوجد فيه من المعاصي ما لعله قد حرمته بلاد الكفر في بلادها، إن بلاد الكفر الآن أيقنت أن سبب الهلاك لها إنما هو في عري نسائها، فتقدمت وبادرت بعض بلاد أوروبا بتحريم هذه المناظر الخليعة، فهل آن للمسلمين أن يرجعوا إلى الله عز وجل؟ (كلكم مسئول وكلكم راع ومسئول عن رعيته) لا بد من الرجوع إلى الله عز وجل وإلا لا بد أن تجرى عليك سنة الله تعالى في الأمم السابقة من الهلاك والدمار والتشريد، بل ومن الخسف والمسخ الذي كان في بني إسرائيل وغير ذلك من سائر العقوبات وأنواع العذاب الذي ينزل بك وأنت لا تدري، وتتصور أنك على أحسن حال وأنت في أسوأ وشر حال، ولكنك لا تدري لو أردت أن تدري أين أنت؟ اقرأ سير السلف رضي الله عنهم علماً وعملاً وعبادة، لا بد وأنك ستحتقر نفسك، وتحتقر ما أنت عليه من رقة في دينك، ومن عبادة لا تكاد تنفع بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ومن عملٍ قليلٍ، فنحن في قلة وفي سفال دائماً لبعدنا عن الله عز وجل، وبعدنا عن شرع ربنا، وعن سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نستمسك بهذا الكتاب الذي هو حبل الله المتين، طرفه بأيديكم، وطرفه الآخر بيد الله عز وجل، فهو الحبل الموصول بينك وبين الله. (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وإن كل ضلالة في النار) كما جاء في السنن من حديث العرباض بن سارية مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

أسباب هلاك الأمم السابقة ومن بعدهم

أسباب هلاك الأمم السابقة ومن بعدهم لا بد أيضاً من استقراء عام لبعض أسباب الهلاك التي حصلت بالأمم السابقة من قبلنا.

الاختلاف في الكتاب

الاختلاف في الكتاب من أسباب الهلاك: الاختلاف في الكتاب، ولذلك أخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم، فوجد رجلين قد علت أصواتهما هذا ينزع بآية وذاك ينزع بآية) هذا يأتي بآية يحتج بها على إثبات القدر وهذا يأتي بآية يحتج بها على نفي القدر. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أأمرتم بهذا؟ أبعثت إليكم بهذا؟ وغضب واحمر وجهه كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن من كان قبلكم اختلفوا في الكتاب فهلكوا). وهذا الذي ورد عن عبد الله بن عمرو ورد كذلك عن عبد الله بن مسعود في صحيح مسلم، بل وفي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن من كان قبلكم اختلفوا في الكتاب، فأهلكهم الله عز وجل)، ولا زلنا نجد اختلافاً وهلاكاً في القرآن الكريم بين المتفقهين في مسائل الإيمان، بل وفي مسائل العلم والعمل على السواء، فالبعض يقول: العمل ليس من الإيمان ولا يمت له بصلة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] نعم. العمل إيمان، والإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بطاعة الله وينقص بمعصية الله، فكلما ازداد العبد من العمل والطاعة ازداد إيمانه حتى يشعر كأن قلبه يحلق في السماء السابعة، وأما إذا عمل العبد بمعصية الله ضاقت عليه نفسه، وضاق عليه قلبه كأنما يصعد في السماء، كما أخبر الله عز وجل. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ} [الأنعام:125] يشرح صدره فينشرح ويتسع وينفتح، حتى يشعر المرء أن روحه تحلق إلى باريها، خلافاً لمن أراد الله تعالى له السفال والهوان والذل، فإنه لا يوفق للطاعة، بل يعمل بالمعصية، فإذا عمل بالمعصية سلب منه إيمانه شيئاً فشيئاً حتى يخرج الإيمان من قلبه، وربما لا يبقى فيه إلا مثقال ذرة من إيمان. (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فبين النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن الإيمان يتفاضل، فمنه ما هو متعلق بالقلب، ومنه ما هو متعلق بالجوارح، ومنه ما هو متعلق بالنفس وبالعمل. وبعد هذا وجدنا من الناس من يقول: لا علاقة للعمل بالإيمان، هل الأمة الآن مع بطلان هذا القول وفساده تستحق أن تعطى هذه الرخصة -إذا كانت رخصة- مع بطلانها وفسادها؟ هل هذه الأمة في حاجة إلى تسليط أكثر مما هي عليه حتى تقول لهم: اعملوا بالمعصية؛ لأن المعصية لا تضركم، فإن هذا أخبث المذاهب في الإسلام. إي والله.

الاختلاف على الأنبياء

الاختلاف على الأنبياء قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. أتى رجل إلى الإمام مالك في مسجد المدينة وكان محرماً فقال مالك: ما هذا؟ قال: أحرمت بالنسك. قال: ميقات أهل المدينة ذا الحليفة، قال: ما هي إلا فراسخ بيننا وبين ذي الحليفة، قال: إني أخشى عليك الفتنة. قال: أي فتنة في هذا؟ قال: أما قرأت قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]؟ انظروا إلى فهم إمام أهل المدينة وإمام المسلمين في زمانه لمبدأ المخالفة للنبي عليه الصلاة والسلام، حتى وإن كانت يسيرة، فمهما دقت المخالفة لا بد أن تدفع الأمة ثمنها. وسمع رجل النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فقام إليه فقال: يا رسول الله! الحج كل عام؟ فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه ولم يرد عليه، فأعاد الرجل فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأعاد الثالثة، فقال: لو قلت: نعم. لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم). كان هذا سبباً لهلاك أمة من الأمم، فقد هلك اليهود الذين اختلفوا على موسى عليه السلام في أمر البقرة وغيرها من الأمور حتى عبدوا العجل من دون الله عز وجل، ولما رآهم موسى عليه السلام غضب غضباً شديداً وألقى الألواح من يده، فلما سكن غضبه أخذ الألواح واستغفر ربه وأناب إليه وتاب. أيها الإخوة الكرام! لا بد لهذه الأمة أن ترجع كما كان شأن الصالحين من قبلنا، وكما كان شأن السابقين الأوائل من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، ما كانت المعصية تقع من الواحد منهم إلا ويبادر قبل دخول ليله بالتوبة إلى الله عز وجل، ومن محاسبة نفسه أولاً بأول، وقد ثبت أن عمر أمير المؤمنين قال: أريد أن أخرج منها على الكفاف لا لي ولا علي. هذا الذي كان يحاسب نفسه في مدخل كل ليلة فيؤدبها ويضربها بالدرة التي كانت في يده، وهو من هو في العدل والفضل والإمامة والجهاد في سبيل الله عز وجل، هو الذي فتح الله تعالى به البلاد وقلوب العباد، هو الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، ومع هذا كان يحتقر كل ذلك في جنب الله عز وجل. أما نحن مع قلة أعمالنا وهواننا إلا أننا نستعظم العمل جداً وهو قليل بسيط، وهو لا يكاد ينفعنا بين يدي الله عز وجل، ومع هذا نقول: هذا العمل كثير والحمد لله، ماذا يريد الله منا؟ نحن نصلي ونصوم ونزكي ونحج، نعم. رغماً عنا نزكي، ورغماً عنا نحج، ونعتبر الزكاة مغرماً لا مغنماً، لكن على أية حال: نحن بخير. قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي! لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة). (لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين) أي: في الدنيا وفي الآخرة، إما هذا وإما ذاك، فلا بد لهذه الأمة أن تعمل بخوف الله تعالى وبالرجاء فيه بعد العمل، ولذلك لما قرأت عائشة رضي الله تعالى عنها قول الله عز وجل: ({وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] خائفة. {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ قال: لا، يا ابنة الصديق! إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة وجهاد يخافون ألا يتقبل منهم)، يخافون بعد العمل ألا يتقبل منهم، فهم يرجون رحمة الله بعد العمل. وأما نحن فنرجو رحمة الله، ونتكل على رحمة الله بدون عمل، وهذا اغترار بالله تعالى، إذا رأيت الرجل يرجو الله بعد العمل فاعلم أن هذا هو الرجاء الصحيح، وإذا رأيته يرجوه تاركاً للعمل، فاعلم أن هذا العبد مغتر بستر الله تبارك وتعالى عليه، وأن هذا الرجاء إنما هو الرجاء المزيف، وهو الغرور بالله تعالى، والأمن من مكر الله. لابد لهذه الأمة أن تعمل بالخوف والرجاء معاً، ولا بأس أن تغلب جانب الخوف كما غلبه نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو من هو في فضله وشرفه عليه الصلاة والسلام، ومع هذا (كان يقوم من الليل حتى تورمت وتفطرت قدماه، فقالت عائشة: يا رسول الله! أليس قد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أبعد هذا كله ألا يستوجب ما ذكرتِ يا عائشة أن أؤدي شكر هذه النعم التي أنعم الله بها علي؟! فكانت عبادته عليه الصلاة والسلام عبادة شاكر لله عز وجل. في هذه الأمة لا يكاد عالم من العلماء يقول قولاً إلا ويقوم إليه أحد المستمعين من المسلمين المصلين ويقول له: أنا ل

الشح والبخل

الشح والبخل من أسباب الهلاك: الشح والبخل خاصة في باب إعداد هذه الأمة لمواجهة أعدائها، قال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على سفك دمائهم فسفكوها، وحملهم على القتل فقتلوا، وعلى الفجور ففجروا) كل ذلك إنما نبع من الشح، والبخل داء فتاك يفتك بالأمة بأسرها. إن الواحد منا إذا كان يملك أي مساعدة للمجاهدين سواء كانوا في فلسطين أو أفغانستان أو الشيشان، أو أي بقعة من البقاع يرفع فيها راية الجهاد وجب عليه وجوباً عينياً أن يساعدهم بماله، كما يجب على كل حكومات العرب والإسلام أن تقف بجوار هؤلاء في بقاع الأرض وأصقاعها شرقاً وغرباً بجيوشها ونفوسها وأنفسها وأبدانها وعدتها وعتادها. {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] النصر واجب عليكم يا معشر الحكومات، ويا أيها الجيوش المسلمة والجموع الغفيرة عليكم أن تنصروا إخوانكم هنا وهناك، ولا ينفعكم هذا التخاذل، ستدفعون الثمن إما اليوم وإما غداً، حين يطرق اليهود عليكم الباب ويقولون: نحن هنا، فحينئذ ماذا يصنع الناس؟ لو أنك أصبحت أو أمسيت وقد طرق يهودي بابك، وقال: اخرج إلي أو أدخل إليك ماذا ستصنع؟ هل ستنتظر حينئذ رأي جماعي أو موقفاً موحداً؟ أبداً، ليس لك ذلك، بل ستدافع عن نفسك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فابدأ من الآن ودافع بنفسك أو بمالك. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ} [التوبة:111]، وعداً على الله عز وجل أخذه على نفسه وأوجبه على نفسه: أن يدخلكم الجنة أو ترجعوا بأجر وغنيمة، هل رأيتم رباً أرحم من هذا الرب وأكرم من هذا الرب؟ لا والله.

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الهلاك كذلك: ترك واجب من أوجب واجبات الشرع، ومن أفرض فرائض الدين، وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والله ما أتى أحد منكم المسجد إلا بعد أن دعاه أحدنا، فما أنتم ولا أمثالكم إلا ثمرة قيام بعض المخلصين بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منذ عدة عقود من الزمان ما كنا نجد في المدينة كلها رجلاً قد أطلق لحيته، ولا امرأة عفيفة متسترة، والآن نرى هذا في كل بيت من بيوت المسلمين ولله الحمد والمنة، لماذا؟ لأن هذه الصحوة المباركة التي باركها الله عز وجل ووفقها وثبتها وأيدها، رغم ما ينزل بها من ويلات في الداخل والخارج إلا أنها عملت بهذا الواجب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم عذاباً ثم تدعونه فلا يستجيب لكم). و (قرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه آية من كتاب الله عز وجل، وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] ثم قال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتفهمونها على غير وجهها - أي: على غير مراد الله منها - وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب) أن يعمهم جميعاً الصالح منهم والطالح، المؤمن منهم والفاسق الفاجر، ثم يبعث كل على نيته. فهذا واجب من أوجب واجبات الشرع فرطت فيه الأمة شيئاً كثيراً، وعمل بعض أفرادها بهذا الواجب ومع هذا تجد الثمرة عظيمة جداً مع قلة الجهد، وهذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء سبحانه وتعالى، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه سبحانه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

البخس والتطفيف في الكيل والميزان

البخس والتطفيف في الكيل والميزان الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمن أسباب الهلاك: البخس والتطفيف في الكيل والميزان، ومنع الزكاة، ونقض العهد مع الله ورسوله، والحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شريعة الله من أعظم أسباب الهلاك. أخرج ابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن قد مضت في أسلافهم الذين مضوا، وما نقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما نقض قوم العهد والميثاق إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). هذا حديث عظيم يشرح واقع الأمة اليوم. قال: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون) أمراض نسمع عنها ما سمع عنها في أسلافنا، هذا مرض الزهري والسيلان ما كنا نسمع عنه في بلاد الإسلام حتى جاءنا من بلاد الغرب، ولذلك كان أجدادنا يسمون هذه الأمراض أمراض الفرنجة، المرض الإفرنجي الذي أتانا مستورداً من وقوع ونزو الرجال على النساء في بلاد الغرب، حتى اقترفت هذه الأمة ما وقعت فيها الأمم الكافرة، فصارت الواحدة تختار من تحب وتعشق من تحب وتزني بمن تحب. ومن حديث ابن مسعود عند الطبراني وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما ظهر الزنا والربا في قوم قط إلا عمهم الله بعذاب). (إلا عمهم) أي: شملهم بعذابه ونقمته. هذا الزنا صار إلفاً مألوفاً في المجتمع المسلم، وهذا الربا صار مقنناً بقوانين، وله عمائم تارة تبدو حمراء وتارة تبدو زرقاء وتارة خضراء تقننه وتشرعه، وتلوي ألسنتها بالكتاب لي البقر الطعام بألسنتها، فهل تستكثرون ما نزل بالأمة مع هذه الأمراض والبلايا؟ والذي نفسي بيده! إن ما ينزل بالأمة بالنسبة إلى معاصيها لقليل، ولا يكشف الله تعالى الضر إلا إذا رجع كل فرد من أفراد الأمة إلى ربه، وعمل بطاعة الله تعالى، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وما نقص قوم المكيال والميزان) لماذا ينقص الناس المكيال، ويقعون في الويل وهو واد في جهنم تستعيذ منه جهنم إلى ربها في اليوم سبعين مرة. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3] (يخسرون) يمنعون حقوق الناس ويأكلونها بغير حق، لماذا؟ ويل لهم ثم ويل لهم، ومع هذا لا بد من قيام السؤال ولا بد من الجواب، لماذا أمنع حق الغير في الميزان والكيل؟ لأتكسب وأزداد ويعظم مالي ويكثر، ومع هذا يعاقبك الله تعالى من جنس قصدك، فيقول: (وما منع قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين) بالجدب والقحط والفقر والغلاء، عقوبات متتابعة متتالية ومع هذا أنت تستكثر، فربما استكثرت حتى ملأت البيت من الأرض إلى السماء فأتى عليه ماء فذهب، نار فذهب، أنت بين يدي الله عز وجل والرزق في السماء لا في الأرض، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] ولم يقل: ورزقكم في السماء، وإنما قدم شبه الجملة من الجار والمجرور ليدل على الحصر، وأن الرزق في السماء لا في الأرض، ولو شاء الله تعالى أن يفتح عليك باباً لفتحه، ولو شاء أن يمنع عنك لمنع، ولا يدل فتحه على المحبة، ولا يدل منعه على السخط، بل يبتلي الله تعالى عبده بالنعم لينتقم منه، ويبتلي عبده الآخر بالفقر دليل على الرضا، لعلمه السابق أنه لو أغناه لطغى وبغى، فالفقر أحسن إليه. ومَن أتباع الرسل؟ أتباع الرسل الفقراء والصعاليك الذين لا مال لهم، ولذلك قال الله تعالى: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] إياك يا محمد! أن تنصرف عن هؤلاء، وعاتبه الله عز وجل أشد العتاب لما أعرض عن عمرو بن أم مكتوم ليتكلم مع أشراف قريش، هؤلاء لا ينفعون، وليسوا أتباعاً للرسل، ولا يرجى منهم خير، ولذلك الخير كل الخير في الفقراء والضعفاء والمساكين. انظر إلى حال هذا الحي الشعبي، وإلى حال حي من الأحياء التي يقال عنها: راقية، أنا على يقين أنك ستجد المساجد في هذا اليوم قد امتلأت، لكن شتان والله بين هذا المسجد وبين مسجد في حي من الأحياء الراقية، أي: في مستوى الإيمان ورسوخه وثباته والمحافظة على الصلوات الخمس، شتان وهيهات هيهات أن يستوي الغني مع الفق

منع الزكاة

منع الزكاة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منع الله عليهم القطر من السماء) سبب الخير يمنعه عنهم حتى يعيشوا في جدب وقحط. (ولولا البهائم لم يمطروا) تصور أن الإنسان المكرم يكرم لأجل البهائم العجماوات التي لا ذنب لها في هذا الجدب والقحط وتصاب بسببه، فإن الله تعالى ينزل الخير من السماء ليكرم البهائم ويكرم بكرمهم بني آدم، إنا لله وإنا إليه راجعون.

نقض العهود

نقض العهود (ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم -من أمريكا ولندن وروسيا- فأخذوا بعض ما في أيديهم) وليس كل ما في أيديهم، وإنما بعض ما في أيديهم لماذا؟ لأنهم نقضوا عهد الله وعهد رسوله، وهذا تشخيص للداء الذي تمر به الأمة، فلا بد من الصلح مع الله، ولا بد من الرجوع والالتزام بالعهد والميثاق الأول الذي أخذه الله تعالى من ذرية آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] نحن نشهد يا رب أنك ربنا وإلهنا، فلا بد من العمل بمقتضى هذه الإلهية وتلك الربوبية، أما نقض العهد والميثاق فجزاؤه أن سلط الله علينا عدواً من غيرنا فسلب منا مقدساتنا وشرفنا وعزنا وريادتنا وقدسيتنا.

التحاكم إلى غير شرع الله

التحاكم إلى غير شرع الله قال النبي عليه الصلاة والسلام في آخر هذا الحديث الذي يصف أحوال الأمة: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) أي: البأس بيننا شديد، العلة والداء: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواء، فتداووا عباد الله) أين الدواء؟ الرجوع والتحاكم إلى الله وبكتاب الله، الواحد منا يأبى أخذ حقه بمجالس التحكيم الشرعية، ويصر على الذهاب إلى تلك المحاكم، وما هي إلا ترجمة عملية لترك التحاكم بكتاب الله وإلى شرع الله. (وما لم تحكم أئمتهم) من الحكام والعلماء والأمراء بل والعامة، (إلا جعل الله بأسهم بينهم) حتى عمَّ البأس بين الزوج والزوجة وبين الوالد وولده وبين الكبير والصغير وبين الرجال والنساء عم البأس جميع فئات الأمة، لماذا؟ لتركهم لكتاب الله والتحاكم إلى شرع الله.

المحسوبية والرشوة

المحسوبية والرشوة ومن أسباب الهلاك كذلك: المحسوبية والرشوة التي يعمل بها كل فرد من أفراد الأمة الآن إلا من رحم الله عز وجل، ولذلك لما سرقت تلك المرأة المخزومية القرشية الشريفة أرادت قريش أن تعفيها من الحد، فقالوا: (من يكلم فيها رسول الله؟ قالوا: ومن يجرؤ عليه إلا حبه، إلا أسامة بن زيد بن حارثة، فذهب أسامة ليشفع لهذه المرأة المخزومية ألا يقام عليها الحد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟) حتى ندم أسامة ندماً شديداً على ذلك، (قال: والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) لا محسوبية حتى في بيت النبوة، قال: (ولا تكونوا كالذين من قبلكم، كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) أما وضع الأمة اليوم من كان له ظهر لا يضرب على بطنه. هذه ترجمة عملية للمحسوبية. أخرج الطبراني من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أنه لما رجعت مهاجرة الحبشة إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: ألا تحدثوني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة؟ قالوا: نعم يا رسول الله! لقد كان منهم فتية مرت بهم عجوز قد وضعت على رأسها قلة فيها ماء، فقام إليها أحدهم فوضع يده بين كتفيها ودفعها دفعة سقطت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فقامت وقالت: يا غدر! - أي يا غدار - غداً ستعلم إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، غداً ستعلم بين يديه أمري وأمرك. قال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت، صدقت، صدقت. كيف يقدس الله تعالى أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟).

التبايع بالعينة والخلود إلى الدنيا وترك الجهاد

التبايع بالعينة والخلود إلى الدنيا وترك الجهاد قال النبي عليه الصلاة والسلام في أسباب هلاك الأمم كما أخرج ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر: (إذا تبايعتم بالعينة، واتخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، إلا سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم). (إذا تبايعتم بالعينة) وبيع العينة من البيوع المحرمة، وهو حيلة للوقوع في الحرام، وهو حرام صراح حرمه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن ما هو بيع العينة؟ أن تذهب لتقول لرجل من الناس: أعطني ألف جنيه قرضاً حسناً، فيقول: ما عندي مال ولكن خذ هذا القمح بألف جنيه نسيئة، ادفع كل شهر مائة جنيه على عشرة شهور، ثم قبل أن تحمل هذا القمح يقول لك: هل رضيت بالبيع؟ نعم. هل استقر الثمن في ذمتك؟ نعم. يقول لك: تبيعني هذا القمح بثمانمائة جنيه نقداً عاجلاً؟ تقول: نعم، تأخذ منه الثمانمائة جنيه ثم ترد إليه عين السلعة قبل أن تنقلها إلى رحلك، ولذلك سماه الشرع: بيع العينة، حيلة إلى الربا والفجور. قال: (واتخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع) اهتمام بالدنيا على كل حال، كأن النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء إلا لتحصيل الدنيا لا لتحصيل الدين. ولذلك أنت الآن كلما قلت لأحد من الناس: ما شأن الجهاد وماذا نصنع؟ يقول لك: لا جهاد. الجهاد سفك للدماء، وخراب للبلاد، وخراب للاقتصاد، بل هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة، والله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ويحتج كذلك من القرآن على فساد معتقده، وهذا من باب الاختلاف في الدين الذي هو سبب هلاك الأمم، يحتج بقول الله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] على الجهاد في سبيل الله الذي هو عز المسلم وشرفه، ولذلك لما قال رجل في حرب مع الروم في القسطنطينية: (لو أني ألقيت بنفسي في جيش الروم أكنت قد ألقيت بنفسي في التهلكة؟ قال الجيش: نعم، لو أنك فعلت لكنت ملقياً بنفسك إلى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: لا تفعلوا - هذا فهم خاطئ - فإن هذه الآية فينا نزلت معشر الأنصار، فنحن قد شرفنا الله بنصرة نبيه، ومنعناه مما نمنع منه أولادنا وأبناءنا وأموالنا ونساءنا، فلما كثر الإسلام وظهر المسلمون قلنا: هلا رجعنا إلى أرضنا وأموالنا فأصلحناها، فأنزل الله تعالى قوله: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] قال أبو أيوب: فكانت التهلكة الركون إلى الدنيا، وترك الجهاد في سبيل الله). هذا هو الإلقاء في التهلكة أن تركن إلى حياتك ودنياك، وتتصور أو تعتقد أن الجهاد في سبيل الله هلاك للأبدان أو للأرواح، أو خراب للبلاد وللعباد، أو ضياع للاقتصاد وغير ذلك، بل الاقتصاد ضائع ضائع، وما يأكل الناس اليوم إلا سماً زعافاً في أبدانهم، وقد ظهرت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم. وبالجملة فإن عموم معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ومعصية الله تعالى هي التي أوردت هذه الأمة الموارد والهلكة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم). معظم الأمة الآن أمريكان في العقائد والأخلاق والسلوك والآداب، وهم يزعمون أنهم يحاربون أمريكا، وأنهم يبغضون اليهود والنصارى، وهم الواحد منهم إذا لبس نعلاً يهودياً أو إسرائيلياً يفتخر به في المجالس العامة، ويقول: لقد اشتريت هذا النعل بخمسمائة دولار من المكان الفلاني، الذي لا يبيع إلا المنتجات الإسرائيلية. انظروا! ثم يقلب النعل من فوق إلى أسفل يفتخر بأنه يلبس نعلاً يهودياً أو ثوباً أمريكياً أو فانيلية إنجليزية، ويقول: هذا صوف إنجليزي أصيل، يقول ذلك على سبيل الفخر، ما هذه الحسرة؟ وما هذه النكسة في العقائد والأخلاق والسلوك والآداب، ثم تزعم أنك متبع لنبيك مخالف لليهود والنصارى؟! لا بد من وقفة، ولا بد أن تضرب فوق أم رأسك لتعلم أنك أمريكاني وأنك إنجليزي وأنك أوروبي في معظم أحوالك وفي غالب أوقاتك، لا بد أن ترجع وتتشبه بالنبي عليه الصلاة والسلام وبأصحابه الكرام. تشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح أطع النبي عليه الصلاة والسلام في كل أمر، في كل كبيرة وصغيرة، في كل ما دق وجل. (هذا عبد الله بن مسعود لما كان قادماً إلى صلاة الجمعة قام رجل من الناس يصلي ركعتين، فقال له النبي: اجلس، فسمعها عبد الله بن مسعود وهو خارج المسجد، فظن أن الأمر له فجلس في الشمس، وما قام إلا إلى الصلاة، فلما فرغ من الصلاة جلس في مكانه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شأنك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: يا رسول الل

حقيقة النصر

حقيقة النصر لقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على إثبات النصر في نهاية المطاف لأهل الإيمان وحملة العقيدة الصحيحة، وأن النصر ليس بالضرورة أن يكون في ساحات المعارك، فبقاء الإيمان رغم موت أصحابه نصر، وانتشار الدين نصر، والصبر على البلاء نصر، فأصحاب الأخدود انتصروا، والنبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي انتصر هو وأصحابه على قريش لما ثبتوا على عقيدتهم ودينهم.

انتصار أصحاب العقائد وأهل الإيمان

انتصار أصحاب العقائد وأهل الإيمان إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما قَلَّ وكفى خير مما كَثُر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. اللهم صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. ثم أما بعد: يتردد في هذه الآونة سؤال بين كثير من الشباب وخاصة بين شباب الصحوة مضمونه: لماذا غُلب هؤلاء وأولئك في فلسطين وأفغانستان؟ ألم يعد الله تبارك وتعالى بالنصر والتمكين لعباده المؤمنين؟ فوقع هؤلاء بين فكين كلاهما مر: أحدهما كفر، والآخر إساءة ظن. أما الكفر: فبعضهم شك في وعد الله عز وجل، وأما سوء الظن فإنهم شككوا في إيمان وصلاح تلك الطوائف من أهل الإيمان في أفغانستان وفلسطين، وخفي على هؤلاء جميعاً أنه لا يلزم أن يكون النصر نصراً مادياً أو عسكرياً، وأن النصر الحقيقي إنما هو نصر العقيدة والإيمان، هذا هو النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى به، وإذا كان النصر هو النصر المادي فحسب والغلبة والقهر، فكم من أنبياء بني إسرائيل قتلتهم بنو إسرائيل، فهل تلك هزيمة لهؤلاء الأنبياء؟ فإن قالوا: نعم. كفروا بالله عز وجل، ولذلك أعظم الناس بلاءً نبينا عليه الصلاة والسلام، أنسيتم ما حدث له في الطائف؟ أنسيتم ما حدث له في مكة بين أهله وعشيرته؟ أنسيتم أنهم أدموه عليه الصلاة والسلام وسبوه وشتموه؟ أهذه هزيمة للنبي عليه الصلاة والسلام؟ كلا وألف كلا، لقد مات النبي عليه الصلاة والسلام وبقيت عقيدته ترفرف في سماء الدنيا إلى يوم القيامة.

قصة أصحاب الأخدود

قصة أصحاب الأخدود ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للنصر الحقيقي الذي ينبغي أن يحرص عليه المرء، وللأشخاص الذين يموتون وتبقى عقائدهم، وذلك فيما أخرجه مسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كان فيمن كان قبلكم ملك له ساحر يسحر له)، وهذا على عادة الملوك والرؤساء والزعماء، فإنما يصدرون عن تكهنات وأسحار وأوهام، ولذلك تجد أن كل رئيس أو زعيم -إلا من رحم الله- قد اتخذ لنفسه عدة من السحرة والعرافين والكهنة، ولا يصدر إلا عن آرائهم، خاصة في بلاد أوروبا وأمريكا، فلكل رئيس منهم وزعيم وعمدة قرية ساحر يسحر له، ولا يصدر ولا يتحرك إلا بأمره، حتى يكاد أن يكون الذي يحكم العالم اليوم هم السحرة وليسوا تلك الرءوس؛ لأنهم لا يصدرون إلا عن آرائهم.

ابتلاء أصحاب العقائد

ابتلاء أصحاب العقائد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، ورق عظمي، وحضر أجلي، فابعث إلي بغلام أعلمه السحر، فأرسل إليه الملك غلاماً يعلمه السحر، وكان على الطريق بين الغلام والساحر راهب، فذات مرة جلس الغلام إلى الراهب فسمع كلامه فأعجبه كلامه فلازمه، وكان إذا خرج من عنده متأخراً ذهب إلى الساحر، عاقبه الساحر على التأخير، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال الراهب للغلام: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر) يكذب لينجو بنفسه، وهذا أمر مشروع، أو يكذب لينجي نفساً أخرى، ولا بأس بالكذب هنا؛ لأن الحرب خدعة، وهذه حرب ضروس بين الإيمان والكفر. قال: (وذات يوم انطلق الغلام في طريقه إلى الساحر فوجد دابة عظيمة قد حبست الناس فلم يمروا، فقال الغلام في نفسه: اليوم أعلم أي الأمرين أحب إلى الله تعالى، أمر الساحر أم أمر الراهب، فأخذ حجراً في يده وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، ثم رماها بحجر فقتلها، فقال: الآن أيقنت أن أمر الراهب أحب إلى الله من أمر الساحر، وانطلق الناس يمشون، فجاء الغلام إلى الراهب، فقال له: لقد كان من أمري اليوم كذا وكذا، فقال الراهب: يا بني! إنك اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى)، انظروا إلى هذه السنن الربانية: لا بد من الابتلاء لأهل الإيمان؛ لأن العقيدة أشرف شيء يمكن أن يدعو إليه الداعي، أو يحافظ عليه المسلم، وهذا لا يكون رخيصاً، بل لا بد من دفع الثمن مقدماً، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يبتلى المرء على قدر دينه) أي: لا بد أن تبتلى في دينك، فاصبر فإنهم لا يضرونك شيئاً، إنما سلطانهم على أبدانكم، وليس على أرواحكم أو قلوبكم أو عقائدكم، فتلك أمور لا سلطان لأحد عليها إلا سلطان الله عز وجل؛ لأن (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) سبحانه وتعالى. وقال عليه الصلاة والسلام: (يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة). منحة من الله عز وجل لعباده المؤمنين أن يبتليهم بالأمراض والأوجاع والأسقام، وتسلط الكافرين عليهم حتى يطهرهم من ذنوبهم كبيرها وصغيرها، ويقدمون على رب رحيم غفور، ثم يوم القيامة سيدخلهم الجنة مع أول الداخلين بغير حساب ولا سابقة عذاب، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم. ثم قال: (وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي) وصية أهل الإيمان بعضهم لبعض، إذا ابتليت يا فلان فلا تدل علي إلا أن تعجز عن ذلك، ويقع على جسدك من العذاب ما لا يمكن أن تقدر عليه، ويكون المخرج أن تدل علي، ويغلب على ظنك أنني لا أفتن بهذه الدلالة، فلا بأس حينئذ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

إظهار شعائر التوحيد والصبر على ذلك

إظهار شعائر التوحيد والصبر على ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (وكان الغلام يبرئ الأكمه). أي: الذي ولد أعمى، وكان يداوي من سائر الأدواء والعلل، وكان للملك جليس أعمى، فلما سمع بأمر الغلام جهز هدايا عظيمة وذهب بها للغلام، وقال: لقد جمعت لك هذا على أن تشفيني من العمى، فقال الغلام: أنا لا أشفي، إنما يشفي الله عز وجل! انظروا إلى ظهور عقيدة التوحيد، من أول لحظة نسب العلاج لله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] لا يزعم أنه يشفي ويداوي من الأسقام والعلل، وإنما هو سبب سببه المولى عز وجل. قال: أنا لا أشفي، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك من العمى، فآمن الجليس فدعا الغلام الله تعالى لهذا الجليس فشفاه الله عز وجل، فرجع ليجلس في مجلسه عند الملك، فقال الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، فقال بغطرسة ووقاحة وتبجح: ألك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله! انظروا إلى إظهار شعائر التوحيد على أيدي فئة قليلة، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. قال: ربي وربك الله، فأخذه فعذبه ونكل به حتى دل على الغلام، وأخذ الغلام وقال له: أبلغ من سحرك هذا المبلغ؟ فقال: أنا لا أشفي وإنما يشفي الله عز وجل، فنكل به حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فقال: لا. وأبى أن يرجع عن دينه. فوضع المنشار في مفرق رأسه وشقه نصفين حتى ألقي على الأرض ولم يرجع عن دينه. انظروا إلى رجل ضحى بنفسه فداءً لدينه وعقيدته، لقد سجل التاريخ وسجل الإسلام شهادة تقدير واحترام لهذا الراهب لأنه قدم نفسه فداءً لعقيدته. هذا هو النصر الحقيقي؛ إنه نصر العقيدة. ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى ألقي على الأرض نصفين فمات فتقبله الله عز وجل، وجيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه، فأمر الملك أعوان السوء أن يأخذوه ويصعدوا به إلى ذروة جبل كذا وكذا في تلك البلدة من بقاع الأرض، فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه من ذروة الجبل، فلما كانوا في ذروة الجبل قالوا له: ارجع عن دينك، فأبى أن يرجع عن دينه، ورفع يديه إلى السماء؛ ليستخدم أعظم سلاح عرفه أهل الإيمان -ويستهين به أبناء الصحوة في هذا الزمان- قال: اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت، فارتج الجبل فسقطوا جميعاً في الوادي ورجع الغلام بعزة أهل الإيمان واستعلاء وفخر أهل التوحيد إلى الملك المتغطرس الجبار يمشي على قدميه، فلما رآه الملك قال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء وكيف شاء! فأمر بعض أصحابه أن يأخذوه في قرقور -سفينة- حتى إذا كانوا في وسط البحر قالوا للغلام: ارجع عن دينك، فأبى ورفع يديه إلى السماء وهو يقول: اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت، فغرقوا جميعاً ورجع الغلام إلى الملك يمشي على قدميه، ثم تحدى الغلام الملك! أرأيتم صبياً صغيراً يتحدى ملك الأرض؟! غلام واحد يقول كلمة الحق عند سلطان جائر، إن هذا لمن أعظم الجهاد وأفضله. (قال له: إنك لن تقتلني حتى تفعل ما آمرك به، قال الملك: وما تأمرني؟) انظروا إلى موقف الذل والهوان لأهل الكفر والطغيان، حين يقول الملك بغروره وكبريائه للغلام: (وماذا تأمرني أيها الغلام؟ قال: إنك لن تقتلني حتى تجمع الناس جميعاً في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخلة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي فتضعه في كبد القوس وتقول على مرأى ومسمع من الناس: باسم الله رب الغلام) انظروا إلى هذه النكتة: (أن تقول باسم الله) لا باسم الملك، ولا باسم المسيح، ولا باسم العذراء، ولا باسم فلان، إنما تقول: (باسم الله رب الغلام، فإن فعلت قتلتني). ففعل الملك، ربطه على جذع نخلة، وجمع الناس في صعيد واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام فوضعه في كبد القوس وأطلقه قائلاً: (باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغ الغلام، فوضع الغلام يده على صدغه فمات، فلما رأى الناس ذلك قالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام) أي نصر بعد هذا؟ أي انتصار لعقيدة الإيمان والتوحيد بعد هذا؟ أتظنون أن الغلام إذ قتل، وأن الراهب إذ قتل، وأن جليس الملك إذ قتل؛ أن تلك هزيمة؟ أهذا خذلان؟ كلا والله، تلك هي الملحمة الكبرى بين الإيمان والكفر التي يكتب فيها النصر لأهل الإيمان، والهزيمة والخسران، لا للجحود والكفر والطغيان.

التضحية في سبيل الله للحفاظ على العقيدة

التضحية في سبيل الله للحفاظ على العقيدة بعد هذا الموقف اجتمع أصحاب السوء وبطانة السوء إلى الملك فقالوا: أرأيت أيها الملك! لقد نزل بك ما كنت تحذر، لقد آمن الناس، فانظر ماذا ترى. قال: (خدوا لهم الأخاديد في أفواه السكك) أي: في أطراف الطرق احفروا لهم حفراً عظيمة وأججوا فيها النار، وانظروا من رجع منهم عن دينه فقد نجا من تلك النيران، ومن أبى فاقذفوه فيها، ففعلوا ذلك، فتتابع الناس إلى النيران، وكان الملك يظن أن الناس إذا رأوا ذلك هربوا، ولكنه فوجئ بأمر لا يتوقعه، فوجئ بأن الناس يقتحمون النيران حفاظاً على عقيدتهم ودينهم وتوحيدهم الذي لم تخالط بشاشته تلك القلوب إلا للحظات يسيرة، ولكنهم كانوا من الإخلاص والصدق في المحل الأعظم. الناس كلهم يشتركون في الموت، ولكن الناس جميعاً لا يشتركون في المجد، فمنهم من يختار طريق المجد وهم قلة، وكثير من الناس ينظر إلى زهرة الحياة الدنيا ينظر إلى بقائه وحياته وإن عاش ذليلاً مهيناً، ولا يختار ميتة شريفة إلا من يعلم شرف الموت في سبيل الله عز وجل. لقد كان موقف أهل الملك وأتباع الملك آنفاً أن آثروا الدخول في هذه النيران على انحرافهم عن عقيدة التوحيد. مثلهم مثل سحرة فرعون الذين خروا لله سجداً بمجرد أن علموا أن موسى ليس ساحراً، وإنما هو رسول من عند الله، ولذلك قال لهم فرعون ذاك الطاغية الجبار العنيد: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] وصار يتوعدهم ويتهددهم؛ لأنهم آمنوا بالله عز وجل. فالمعركة منذ أن خلق الله تعالى الخليقة إلى قيام الساعة معركة إيمان وكفر، ولذلك اعتقاد أهل الإسلام جميعاً وكل أتباع الأنبياء والمرسلين: أن الفوز والنصر فيها لأهل الإيمان، يدل على ذلك بقاء الإيمان وظهوره إلى هذا اليوم، وسيكون كذلك إلى قيام الساعة بإذن الله تعالى. فخد لهم الأخاديد وألقاهم في النار، فتدافعوا إليها، إلا ما كان من امرأة معها صبي على صدرها، فتقاعست وتراجعت وخافت أن تلقي بنفسها ووليدها في النار، فنطق الغلام وقال: (يا أماه! اصبري فإنك على الحق)، نطق الغلام ناصحاً أمه أن تصبر، وأن تقذف نفسها وإياه في النار فإنها على الحق. فتبين من هذا أن عدة النصر الصبر، (ولكنكم قوم تستعجلون).

صور من نصر الإيمان في المعارك المعاصرة

صور من نصر الإيمان في المعارك المعاصرة قامت هذه الفئة في فلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير وبلاد الألبان وغيرها من بقاع الأرض برفع راية الجهاد في سبيل الله؛ لإظهار دعوة الحق، ولتبليغ الحق إلى الخلق، فما أخطأوا وما أرهبوا، وإنما أرادوا أن يقوموا بأعظم واجب اعتقدوه -وهو اعتقاد صحيح- أن الله تعالى أوجب عليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، أوجب عليهم أن يبلغوا دين الحق إلى الخلق، فلا غروا حينئذ أن يرفعوا راية الجهاد لمن وقف حجر عثرة في سبيل ذلك. وقد انتصروا بفضل الله عز وجل، وجعلوا العالم أجمع يسمع بمحمد ودعوته وعقيدته وشريعته صلى الله عليه وسلم، وهذا أعظم نصر، ذهب الأشخاص وبقيت عقائدهم ترفرف على وجه الأرض ليسمع بها القاصي والداني، أي نصر بعد هذا النصر؟ وأي فلاح ونجاح بعد هذا الفلاح وذاك النجاح؟ لا شيء بعد ذلك، حسبهم أن الله تعالى قد رضي منهم أفعالهم وأقوالهم، حسبهم أنهم فئة قليلة قامت عليهم سائر ملل الكفر وأجلبت عليهم بخيلها ورجلها، ثم هم إلى الآن لم يحققوا أدنى نصر في مواجهة تلك الفئة القليلة من أهل الإيمان إلا ما قد أظهروا من كلمات رنانة، بينما أولئك قد رفعوا سواعدهم للدلالة على النصر المبين، تلك هي الهزيمة لملل الكفر، فما فعلوا بكلماتهم التحسين للوجه القبيح، والمداراة لذلك الخزي والعار الذي لحق دولة الصليب العظمى أمريكا ومعها أوروبا ومن كان معهم من العرب والعجم على السواء. نعم. هم يدارون خزيهم وعارهم وهزيمتهم على أرض فلسطين وعلى أرض أفغانستان، ويقولون: في كل يوم نقتل كذا وكذا، القتلى عندنا نحسبهم عند الله شهداء، وذاك مرادنا إما النصر أو الشهادة، وهذا هو مبتغى المؤمن من ربه في الجهاد إما أن ينصره الله ويثبت بهذا النصر دينه وعقيدته، وإما أن يختاره الله تعالى إلى جواره. وهذا نصر عظيم للأفراد والجماعات. نعم. المؤمن يدور أمره بين خيرين لا شر فيهما: النصر أو الشهادة، لكن ماذا ينتظر هؤلاء؟ من المعلوم أن أمريكا في أفغانستان وفلسطين على السواء تعاني من حرج شديد أمام العالم أجمع، ففي أفغانستان يزعمون النصر، وأن طالبان والقاعدة والمجاهدين في أفغانستان ذهبوا إلى حيث لا رجعة، بينما أمريكا تورطت أخيراً مع روسيا في قتال 70 ألفاً من جند طالبان على أرض روسيا، من أين هؤلاء 70؟ ما كنا نسمع بهم من قبل، كيف وقد زعموا أن طالبان من أولها إلى آخرها لا تزيد عن 19 ألفاً؟ فما بالهم الآن يقولون: إن 70 ألفاً من طالبان هربوا من جبال أفغانستان إلى جبال روسيا؟ إن هذا العدد الزائد ما هو إلا من جند أمريكا الذي نزل على أرض أفغانستان ليحارب فمنَّ الله عليه بالإسلام فانضموا إلى صفوف طالبان. أليس هذا نصراً من عند الله عز وجل؟ أليس هذا نصراً وتأييداً لدين الله تعالى؟ النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل على الغلام اليهودي يعوده في مرض الموت ويدعوه إلى الإسلام والإيمان قال له: (يا غلام! قل لا إله إلا الله تنجو بها من النار، فنظر الغلام إلى أبيه فقال له: أطع أبا القاسم، فنطق الغلام بالشهادتين ثم فاضت روحه إلى باريها، فخرج النبي فرحاً وهو يقول: الحمد لله الذي نجى بي نفساً من النار). نفس واحدة فما بالكم بالآلاف المؤلفة نجت من جراء تلك الحرب على يد هذه الفئة القليلة العارية الحافية الجائعة التي سكنت الجبال والتحفت السماء، قتلوا برداً وجوعاً، ومع هذا أتت أمريكا من تلك البلاد البعيدة لتقاتلهم، ثم تبدو سعيدة بهذا النصر الذي أوهمتنا أنه نصر، وليس الأمر كذلك. هذا عين ما فعلته أمريكا، وإن شئت فقل: ما فعله الصليبيون على أرض أفغانستان في محاربة أهل الإيمان، يظنون أنهم تخلصوا من ثلة أهل الإيمان ممن رفعوا راية الجهاد، ولا والله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون دونه، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). هذه هي عقيدة الثبات على دين محمد عليه الصلاة والسلام، أمر لا يكل ولا يمل منه المؤمن، يقدم نفسه فداءً له وهو راض، أرأيتم رجلاً يهراق دمه ويعقر جواده في سبيل الله، وهو راض بل حريص على ذلك، أناس يحرصون على الموت حرص أهل الكفر على الحياة. هذه هي سنة الله تعالى، حرب طاحنة بين الفريقين، ونحن لا نعبأ بمن قتل من الجانبين، وإنما نعبأ بالنتيجة الحتمية لبقاء الإيمان وزوال الكفر. هذا هو الذي كان وسيكون إلى قيام الساعة.

إنفاق الكفرة لأموالهم للصد عن سبيل الله

إنفاق الكفرة لأموالهم للصد عن سبيل الله إن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، يحاربون الإسلام والإيمان بشتى أنواع المحاربة، يستخدمون النساء تارة للفتنة، ويستخدمون المال والرشوة تارة أخرى. لقد عرض كفار مكة من قبل على النبي عليه الصلاة والسلام عروضاً كثيرة منها: إذا كان بك مرض أو جنون أو مس عالجناك واستدعينا لك أعظم الأطباء، قال: ما بي من مس ولا جنون. قالوا: إذا كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش، وليس به حاجة إلى مال، إذا كنت تريد كذا وكذا وكذا، وفي كل ذلك يأبى عليه الصلاة والسلام إلا نصر عقيدته ودينه ورسالته. هذا هو النصر الحقيقي. فلما أيسوا من محمد عليه الصلاة والسلام قلبوا له رأس المجن، فبعد أن كان الأسلوب ناعماً ولم يجد نفعاً مع صاحب الدين والعقيدة، قاموا بعد ذلك يسبونه ويلعنونه ويشتمونه ويقاتلونه ويحاربونه. لا بد أن يمر المؤمن إلى قيام الساعة بتلك المراحل. أنسيتم ما قالت أمريكا: من أتى لنا بفلان فله خمسة ملايين دولار، ثم رأت أن هذا المال قليل فزادوه إلى عشرة، ثم خمسة عشر، حتى أوصلوا المبلغ إلى خمسة وعشرين مليون دولار، لو كان مع ذاك المطلوب أصحاب دنيا لهرب أحدهم ودل عليه وانتهت القضية. أتظنون أن تلك الجحافل الكفرية أتت من شرق الأرض وغربها، تزعم أنها لو أخذت شخصاً أو شخصين لوضعت الحرب أوزارها، واستقر الأمر، وانتشر الأمان؟ أتظنون أن هذه الجحافل استطاعت إلى يومنا هذا أن تحصل على ما أتت إليه بزعمها؟ أهذا هزيمة لأهل الإيمان ونصر لأهل الكفر؟ إن هذه الفرقة المؤمنة قضت على آمال أمريكا والصليب، وحققت عليهم نصراً مادياً وعسكرياً مؤزراً فضلاً عن نصر عقيدتهم، وقد نصروا العقيدة بهدم أعظم تمثال يعبد من دون الله في الأرض، وهو تمثال بوذا، وهذا يدل دلالة واضحة على رسوخ الإيمان وعقيدة التوحيد في قلوب طالبان والقاعدة. أيها الإخوة الكرام! لقد ضرب الله عز وجل لنا أمثلة عظيمة للثبات، كمؤمن آل فرعون، وكل نبي مع قومه ووجه وجوبه بالتكذيب والطرد والتشريد والقتل والسجن وغير ذلك، ولكنهم ثبتوا على عقيدتهم، وما سمعنا أن واحداً قال لما سجن يوسف إنه انهزم، بل سعى يوسف عليه السلام في السجن وأسس نواة التوحيد داخل السجن، أسس نواة تدعو إلى الله عز وجل، وإلى توحيده وعقيدته وشرعه في ذلك الوقت في داخل السجن. إن الأمر كما قال ابن تيمية عليه رحمة الله: أنا جنتي وبستاني في صدري، ما يفعل أعدائي بي؟ إن سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة! فلما أدخلوه وأغلقوا دونه الباب تلا قول الله عز وجل: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] انظروا إلى هذا الدرس الذي يعلمه ابن تيمية لأمة كاملة: أنا هنا في حياة طيبة، وأنتم في عذاب؛ لأن الله معي. هذا هو النصر الحقيقي لأهل الإيمان، ولعقيدة الإيمان والتوحيد. أقول هذا من باب التثبيت لكثير من شباب الصحوة وعامة الأمة؛ ليعلموا أن ما يدور اليوم على ساحة أفغانستان إنما هو النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى به، وأرجو ألا تقيس النصر أو الهزيمة بقياس مادي بحت، ولكن انظر إلى الآثار المترتبة على تلك الحرب الضروس التي شنها الصليبيون على أرض أفغانستان.

نصر الله لدينه

نصر الله لدينه أما أرض فلسطين تلك الأرض السليبة المغتصبة التي اغتصبها اليهود بمعاونة الصليبيين في أوروبا وأمريكا، فهناك نصر عظيم جداً، ولذلك لما تولى شارون الحكم رفع إبهامه في مجلس اليهود في فلسطين وقال: موعدكم للتخلص من الانتفاضة بعد مرور مائة يوم لا مائة وواحد. فمر على توليه عاماً كاملاً ويزداد الأمر تعقيداً ثم تعقيداً، مما جعل شارون واليهود جميعاً في حرج بالغ، واليهود الآن يتنكرون ويبكتون شارون أين المائة التي وعدت بها، أين الوفاء يا شارون؟ فهو في مأزق عظيم لا يكاد أن يخرج من أزمة إلا ويدخل في أزمات حتى يلحق بسابقيه باراك ونتنياهو، لا بد أن يلحق بهما ويلقوا جميعاً في مزبلة التاريخ، ولن يبقى إلا نصر عقيدة التوحيد على أرض فلسطين، وذلك كائن لا محالة؛ لأن الله تعالى هو الذي وعد بذلك، ووعد الله لا يتخلف: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]. ألا ترون أن اليهود بأسطولهم الجوي والبري على أرض فلسطين يخافون من أطفال الحجارة، ثم ازداد خوفهم ورعبهم من صاروخ يسمى القسام اثنين، صاروخ يمكن للأطفال أن يصنعوه بالمطارق والفئوس، حديد جمع من هنا وهناك ومعدات بسيطة يسيرة، ولكنهم لما أطلقوه بفضل الله وقدره دمر لهم دبابة، وهم في ذعر وأي ذعر منذ أن أطلق ذلك الصاروخ، ويدندنون بالسلام الشامل والسلام العادل، ولكن الله تبارك وتعالى نهانا أن نجنح للسلم إلا من علو قهر وغلبة وتمكين، وأن نكون نحن الأعلين وهم الأسفلين: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال:61] هم أولاً. {فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61] أي: لا يضرك غدرهم بعد ذلك. لكن لا بد أن تعد لهم العدة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. إذا كان الدفاع عن الإسلام هو الإرهاب، فأول إرهابي على وجه الأرض هو آدم عليه السلام، ثم نوح عليه السلام، ثم كل الأنبياء والمرسلين، وأعظمهم إرهاباً هو محمد عليه الصلاة والسلام إذا كان دين الله هو الإرهاب فمرحباً بالإرهاب، ومرحباً بالقتل والقتال أفواجاً وجماعات في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل هذا الإرهاب: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. إن إرهاب العدو واجب على أهل الإيمان، ولذلك سطر الله تبارك وتعالى في كتابه شهادة حق وتقدير لهؤلاء الذين قتلوا في ذلك الأخدود، قال الله تعالى مقسماً على فوزهم وفلاحهم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:1 - 7]. {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [البروج:7] أي: هؤلاء الظلمة الطغاة الكفرة على ما يفعلون بالمؤمنين يأتون شهوداً يوم القيامة، كما أنهم كانوا شهوداً على قتلهم وتدميرهم وتشريدهم وسلبهم في الدنيا، فإنهم يأتون كذلك شهوداً على أنفسهم يوم القيامة. هذه شهادة حق سجلها التاريخ. ثم من رحمة الله عز وجل أن فتح لهم باب الأمل والتوبة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]. قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الجود والكرم، قتلوا أولياءه وأحرقوهم ثم يدعوهم إلى التوبة. {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البروج:10 - 11] ثم يأتي الحكم النهائي: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11]. حكم الله تعالى على هذه القضية بأن الفائز فيها هم أهل الإيمان الذين أحرقت أبدانهم وذهبت أجسامهم، ومع هذا فهم أصحاب الفلاح وأصحاب النصر، وهم الفائزون في هذه القضية، وإن الناظر منا إلى هذا الموقف لا بد أن يرجع إليه طرفه بأن الخاسر في هذه القضية هم أهل الإيمان وليس الأمر كذلك؛ لأن النصر الحقيقي إنما هو نصر العقيدة والتوحيد، ولذلك بيَّن الله تبارك وتعالى -كما وعد في غير ما آية من كتابه- أن دينه قائم، وأن ما وعد الله تعالى به عباده المؤمنين لا بد أن يتحقق رغم أنوف الكافرين، رضي بذلك من رضي وسخط على ذلك من سخط، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ ا

مواقف في نصرة العقيدة والتوحيد

مواقف في نصرة العقيدة والتوحيد موقفان في نصرة العقيدة لإبراهيم عليه السلام: الأول: لما حطم الأصنام أججوا له النيران وألقوه فيها. وربما يقول قائل من أول وهلة: لقد خسر إبراهيم عليه السلام، ولكن الله تعالى أمر النار أن تكون برداً وسلاماً عليه، ثم خرج منها يمشي إليهم، وهذا نصر آخر في قضية واحدة، وهي الرسالة الحنيفية السمحة التي جاء بها إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55] فأهل الإيمان فوق أهل الكفر بإيمانهم وعقيدتهم إلى قيام الساعة. وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]. وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أي: إن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون -بإذن الله- ولا يلزم من ذلك ألا تقدم لله تعالى نفسك وروحك ومالك. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] تلك هي السلعة الغالية وثمنها أن تقدم نفسك ومالك رخيصاً لله عز وجل. وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، حزب الله هم الغالبون أي غلبة كانت؛ لكن لا بد أن تكتب لهم الغلبة، ولا يلزم من ذلك ما تراه في واقع الناس اليوم في مقابلة قول الله تعالى: {أوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]. ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20] (في الأذلين): هذه عقوبة من الله وتهديد ووعيد لأهل الكفر والطغيان. {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]. ومن المبشرات لأهل الإيمان: أن الله تعالى مع الذين آمنوا، ومع الذين أحسنوا، ومع الذين اتقوا، ومع الذين صبروا: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام لما كان في غار ثور وقال له أبو بكر: (يا رسول الله! إن أحدهم لو نظر تحت قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا). خرجت عليه جحافل الشرك من مكة وغيرها ليقتلوه فلم يستطيعوا فعل شيء، ففي هذا الوقت وذاك الضعف يبشر النبي عليه الصلاة والسلام من تولى أمر قريش للدلالة على محمد عليه الصلاة والسلام، لما آمن يبشره بكنوز كسرى وقيصر، ويبشر النبي عليه الصلاة والسلام الأمة في آخر الزمان أنها ستملأ الأرض عدلاً وإسلاماً وتوحيداً. هذا دين الله وهو ناصره لا محالة، وهذا رسوله ولن يضيعه الله عز وجل. وقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] هذا فرعون وملؤه أتوا، سيدركوننا ويقتلونا، فقال موسى الواثق بالنصر من ربه: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وهداية الطريق إلى الله أعظم نصر لموسى عليه السلام في ذلك الوقت. وقال الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، حق أوجبه الله تعالى على نفسه؛ لكننا لا نفرض على الله تعالى نوعية النصر وكيفية النصر؛ لأن النصر له عدة وعتاد وثمن لا بد أن يفتح، قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] للدلالة على أن الحرب بين أهل الكفر وأهل الإيمان إنما هي في حقيقتها حرب مع الله عز وجل. قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] ثم يشهد الله لنفسه بالغلبة والقوة والنصر، قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] سبحانه وتعالى، ولذلك يقول: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16] ولم يقل: إنهم يكيدون كيداً وتكيدونهم كيداً، وإنما قال: {وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:16 - 17] دعهم يا محمد! يطغون ويبغون في الأرض، ويفسدون فيها شرقاً وغرباً، فإن الغلبة في النهاية لأهل الإيمان، والعبرة بالخواتيم. قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْف

الصبر طريق النصر

الصبر طريق النصر الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وبعد: فتلك الآيات تدل دلالة واضحة على تلك العقيدة الراسخة في قلوب الموحدين أن النصر في نهاية الأمر لأهل الإيمان، بل كتب الله تعالى نصرهم في الدنيا والآخرة. وجودكم في هذا المسجد نوع من أنواع النصر، رفعكم لراية الجهاد نوع من أنواع النصر، طلبكم للعلم الشرعي نوع من أنواع النصر، بقاء المفتين والعلماء والمحدثين وأهل الخير من أهل الجود بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله نوع من أنواع النصر، فالنصر باق وقائم في الأمة إلى قيام الساعة، والإسلام قادم وإن رغمت أنوف، فقد بشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري من حديث خباب بن الأرت: (أصابنا من المشركين شدة ونحن في مكة، فأتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسند ظهره إلى الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا ترى ما نحن فيه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، واحمر وجهه، وكان متكئاً فجلس، ثم قال: إن الرجل فيمن كان قبلكم لينشر بالمناشير حتى يلقى على الأرض نصفين لا يرده ذلك عن دينه شيئاً، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه)، ثم قال: (ولكنكم قوم تستعجلون). لما مر النبي عليه الصلاة والسلام بآل ياسر وهم يعذبون ويسحقون، لم يقل: لقد هزمنا وانتهى الدين وذهب إلى غير رجعة. بل قال: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة) وهذا أعظم نصر في ذلك الوقت، أن ينتصر المرء على نفسه بالصبر لله عز وجل؛ ليلقى جزاءه في الآخرة جنة عرضها السماوات والأرض، أي نصر بعد هذا؟ بل أنت لماذا تسعى في هذه الحياة وتصبر على هذا الشقاء وتلك الحياة الضنك؟ لأنك تعتقد أن ما عند الله في الآخرة خير لك وأبقى، حياة نعيم أبدية سرمدية. (يا أهل الجنة! خلود فلا موت) تتحمل هذا الشقاء لأجل تلك الكلمة. (يا أهل الجنة! خلود فلا موت)، هذا مبتغانا من عبادتنا وعقيدتنا وصبرنا على ما حل بنا من بلاء وأذى. (ولكنكم قوم تستعجلون) الثمرة قائمة بل هي حاضرة، ونرى والله فروعها وأغصانها يانعة قوية مزهرة مثمرة ولكنكم قوم تستعجلون، ولكن النبي عليه السلام يبين لـ خباب بن الأرت الذي عليه، قال: (إن الرجل كان فيمن كان قبلكم ينشر بالمناشير لا يرده ذلك عن دينه شيئاً)، الثبات على العقيدة هو أعظم نصر لله عز وجل.

مبشرات بالنصر

مبشرات بالنصر وقالت عائشة لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى. قالت: يا رسول الله! إني لما قرأت قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] قلت: إن ذلك لتام. قال النبي: يا عائشة! إنه سيكون من ذلك ما شاء الله أن يكون) بشارة عظيمة وإن خالطها شيء مما يقول الناظر إنه هزيمة، وليس في حقيقته كذلك. وهذا تميم الداري ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار). (ليبلغن هذا الأمر) أي: هذا الدين وعقيدة التوحيد في كل بقاع الأرض شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فوق وتحت. (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار) أي: يدخل في كل مكان، ويسمع به كل إنسان، وهذا نصر عظيم. انظروا من بدأ بهذه الدعوة؟ واحد فقط، النبي عليه الصلاة والسلام، ثم اثنان وثلاثة وأربعة، رجال ونساء، صبيان وغلمان، عبيد وأحرار، وظل الأمر ينتشر ويتسع حتى سمع به الإنس والجن، أليس هذا أعظم نصر لعاقبة الصبر على الإيمان والتوحيد؟ (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر -أي: في الحضر والقرى والبوادي- إلا أدخله الله تعالى هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر). وفي حديث ثوبان: (إن الله زوى لي الأرض) أي: جمع وضم لي الأرض. (كأنها رقعة قماش) ينظر إليها النبي عليه الصلاة والسلام. (إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها -ثم تأتي البشارة- وإن ملك أمتي سيلغ ما زوي لي). هذه الأمة هي التي تملك زمام الأمر، وتملك قيادة العالم، لأنها ملكت زمام العالم أولاً، وسيكون هذا العالم تحت إمرة أمير واحد ومهدي واحد، وخليفة لأهل الإيمان على منهاج النبوة، وعلى منهاج الخلافة الراشدة كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وسكت للدلالة على أن هذا هو آخر الأمر في آخر الزمان. وكذلك لا بد من عودة الرخاء والأمن لبلاد العرب خاصة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تكون أرض العرب مروجاً وأنهاراً)، وهي كائنة وقائمة، ولذلك من بين أغراض أهل الكفر والطغيان استغلال ثروات العرب والمسلمين من الذهب والبترول والصناعات وغير ذلك، هم يريدون لنا أن نكون أمة تابعة لا أمة متبوعة، أمة ذليلة لا عزيزة، عملوا لذلك بالليل والنهار ونجحوا في بعض خططهم، ولكن الله تعالى لن يمكن لهم أبداً، فهو يختار ويصطفي من عباده قلة قليلة لمحاربة تلك الأمم الكبيرة الكافرة: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) للدلالة على أن الخيرية قائمة وباقية في الأمة ما بقيت الدنيا، فكما أن الخير فيها أولاً فكذلك الخير فيها آخراً، وما بينهما خير. وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينما أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي. قال الراوي أبو هريرة: فهذا النبي قد مات وأنتم تنتشلونها) أي: مفاتيح الأرض وقيادة الأرض بين أيديكم يا أهل الإيمان، تنتشلونها جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر، وزماناً بعد زمان، ومكاناً بعد مكان، وغير ذلك مما يدل على البشارة العظيمة. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود -أي: على أرض فلسطين- حتى يختبئ اليهودي خلف الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! خلفي يهودي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود)، وهذا الشجر يزرع الآن في بلاد الشام، وهذا يدل على قرب الموعد وقرب الملحمة الكبرى بين أهل الإيمان وأهل التوحيد، ليتبين أن موشي ديان عليه لعنة الله ذاك المصري اليهودي الذي كان يعمل وزيراً للدفاع في دولة اليهود، ذهب ليزور مدارس قرية من قرى فلسطين، فأراد أن يسلم على أبناء المدرسة فامتنع تلميذ من التلاميذ عن مصافحته، قال: إليك عني يا عدو الله، أخذتم بلادنا، وسلبتم حرياتنا، وانتهكتم مقدساتنا، وتريد أن أضع يدي في يدك، كلا والله، وإن وعد رسول الله ووعد الله لا بد أن يتحقق فيكم، إن الملحمة تكون بيننا وبينكم أنتم شرقي النهر ونحن غ

حوض النبي صلى الله عليه وسلم

حوض النبي صلى الله عليه وسلم الحوض ثابت في أحاديث متواترة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو الكوثر على القول الراجح، بل له ميزابان من الكوثر، فالحوض في عرصات يوم القيامة، يسقي النبي صلى الله عليه وسلم منه أمته بكفه، إلا من ابتدع أو ضلَّ أو كفر، فإن الله عز وجل يحرم عليه الوصول إليه، وللحوض صفات مبسوطة في كتب السنة.

بيان تواتر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحوض

بيان تواتر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحوض باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحوض: الأحاديث التي جاءت في إثبات حوض النبي عليه الصلاة والسلام من رواية ابن عمر وابن مسعود وجابر بن سمرة وجندب وغيرهم كثير، وهي روايات متواترة باتفاق أهل العلم، فهي متواترة في إثبات الحوض وإثبات صفاته، قد رواها جمع كثير عن الصحابة، وعنهم أضعاف أضعاف التابعين، وهكذا في كل طبقة نازلة. وأنتم تعلمون أن حكم المتواتر أنه يفيد القطع، فالحديث المتواتر كالآية تماماً بتمام وسواءً بسواء، وهو يفيد العلم الضروري القطعي؛ ولذلك إجماع أهل السنة والجماعة أن من أنكر آية أو حديثاً متواتراً فقد خرج من الملة. فهذه النصوص صحيحة في إثبات الحوض لنبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ وذلك تكريماً له صلى الله عليه وسلم ولأمته. قال ابن حزم الإمام الكبير أبو محمد الظاهري: وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن ورد عليه من أمته، ولا ندري لمن أنكره متعلقاً. يعني: لا ندري علام يستند الذي ينكر الحوض وإلام يتكل؟ ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا ولا في غيره، فضلاً عما تواتر عنه عليه الصلاة والسلام. قال الإمام القرطبي في المفهم شرح صحيح مسلم: ومما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به: أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي حصل بمجموعها -أي: بمجموع طرقها وأسانيدها- العلم القطعي؛ لأنه متواتر؛ إذ روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين -يعني: بضع وثلاثون- منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين -أي: على العشرين صحابياً- وفي غيرهما بقية ذلك مما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرّاً. وأجمع على إثباته: السلف وأهل السنة من الخلف.

النزاع الواقع بعد السلف في إثبات الحوض

النزاع الواقع بعد السلف في إثبات الحوض قال: ووقع نزاع بعد السلف، هذا النزاع كان على أشكال: الشكل الأول: إثبات الحوض. الشكل الثاني: إنكار الحوض. الشكل الثالث: إثبات الحوض بغير صفاته، أي: بغير الصفات التي وردت في النصوص من حيث الشراب ومن حيث اللون، ومن حيث عدد الأواني، ومن حيث مكان الحوض أين يوجد؟ فمنهم من قال: الحوض في الجنة، ومنهم من قال: الحوض في عرصات القيامة. والصواب هو الرأي الثاني: أن الحوض في عرصات القيامة. ومنهم من قال: الحوض هو الكوثر وليس كذلك، بل الكوثر باتفاق أهل السنة نهر في الجنة، والحوض في عرصات القيامة، وعرصات القيامة قبل الجنة، وبين الحوض والكوثر ميزاب، أي: طريق كالقناة، ومادة الحوض هي مادة الكوثر، والكوثر هو الذي يغذي الحوض، هذا معتقد أهل السنة والجماعة، وسترى أدلة ذلك. فأجمع السلف على إثبات الحوض وأهل السنة من الخلف؛ لأن الخلف عند الإطلاق: هم كل من خالف السنة -أي: العقيدة- وإن كان من أبناء القرن الأول، والسنة عند الإطلاق في باب الاعتقاد تعني: من استقام على منهاج النبوة في العقيدة على جهة الخصوص. أما الخلف فتعني: الانحراف عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام في باب الاعتقاد حتى وإن كان من أبناء القرن الأول. إذاً: السنة هي: اتباع منهاج النبوة في باب الاعتقاد حتى وإن كان ذلك في آخر الزمان فهو من أهل السنة، بخلاف الخلف. وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة كالخوارج وبعض المعتزلة. إذاً: الذي أثبته أهل السنة سواء كانوا من أزمنة السلف الخيرية أو من أتى بعدهم إلى قيام الساعة، وكذلك الخلف الذين خالفوا أصول الاعتقاد كالخوارج وبعض المعتزلة، فليس كل المعتزلة ينكر الحوض، وإنما بعض المعتزلة أنكر الحوض. فالذي أثبت الحوض هم أهل السنة في كل زمان ومكان بدليل تواتر الحديث، والإمام ابن حزم قال: لا يحل لأحد أن يخالف نصاً صحيحاً قد ورد في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن متواتراً. وقال: الحجة عندي تفيد العلم واليقين والقطع إذا أتت من طريق الثقة عن الثقة حتى بلغت النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا يحتاج إلى تواتر. ويقول -ويؤيده في ذلك الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله-: حديث الآحاد يفيد العلم القطعي الضروري ما دام أن إسناده صحيح، بخلاف جماهير المحدثين والعلماء الذين يقولون: لا يفيد العلم القطعي الضروري -أي: اليقيني- إلا الحديث المتواتر. قال: وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره، ومعنى أحالوه أي: قالوا باستحالة أن يكون الحوض على ظاهر هذه الأرض، أو استحالة أن يكون هذا النص على ظاهره. قال عليه الصلاة والسلام: (حوضي ما بين أيلة إلى عدن، ماؤه أحلى من العسل وأبيض من الورق -أي: الفضة- آنيته عدد النجوم)، قالوا: مستحيل أن يكون هناك حوض بهذا، كما أنه هو مستحيل على الخلق أجمعين أن يجعلوا حوضاً كهذا الحوض، نقول: هل هذا مستحيل في حق الله؟! وهل الله تبارك وتعالى يوصف بأنه يستحيل عليه شيء؟! A لا، فإذا كان خالق الحوض هو الله عز وجل فحينئذ لا يمكن أن يقال: مستحيل في حقه أن يفعل كذا. وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو كذلك إلى تأويله؛ لأن الذي ينكر شيئاً لابد أن يقع بين فكين: الفك الأول: إقراره واعترافه بصحة الآيات والأحاديث الواردة في هذا الشيء الذي ينكره، وإلا فأهل السنة والجماعة لا يثبتون شيئاً إلا إذا كانت أدلته صحيحة وصريحة، فالذي ينكر يلزمه أن يتعامل مع هذه النصوص الصريحة والصحيحة، فإما أن ينكرها وأن يجحدها فيكفر بها، وإما أن يصرفها ويؤولها على غير ظاهرها. فهؤلاء المبتدعة الذين أنكروا الحوض كان لزاماً عليهم أن يتعاملوا مع هذه النصوص المتواترة التي ثبت من خلالها حوض النبي عليه الصلاة والسلام، فأولوها عن ظاهرها، قالوا: الحوض رمز الخير؛ ولذلك قالوا لـ ابن عباس: أما علمت يا ابن عباس أن الحوض هو الكوثر، وأن الكوثر هو الخير الكثير؟ قال: إي والله! إن الكوثر لهو الخير الكثير. يريد أن الكوثر والحوض هما من الخير الذي أعطيه النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا -بلا شك- خير كثير خصه الله عز وجل به. فخرقوا الإجماع الذي انعقد عند السلف وفارقوا مذهب أئمة الخلف. قال الحافظ ابن حجر: أنكر الحوض الخوارج وبعض المعتزلة.

ذكر بعض الروايات في صفة الحوض

ذكر بعض الروايات في صفة الحوض قال: ووقع نزاع بعد السلف، هذا النزاع كان على أشكال: الشكل الأول: إثبات الحوض. الشكل الثاني: إنكار الحوض. الشكل الثالث: إثبات الحوض بغير صفاته، أي: بغير الصفات التي وردت في النصوص من حيث الشراب ومن حيث اللون، ومن حيث عدد الأواني، ومن حيث مكان الحوض أين يوجد؟ فمنهم من قال: الحوض في الجنة، ومنهم من قال: الحوض في عرصات القيامة. والصواب هو الرأي الثاني: أن الحوض في عرصات القيامة. ومنهم من قال: الحوض هو الكوثر وليس كذلك، بل الكوثر باتفاق أهل السنة نهر في الجنة، والحوض في عرصات القيامة، وعرصات القيامة قبل الجنة، وبين الحوض والكوثر ميزاب، أي: طريق كالقناة، ومادة الحوض هي مادة الكوثر، والكوثر هو الذي يغذي الحوض، هذا معتقد أهل السنة والجماعة، وسترى أدلة ذلك. فأجمع السلف على إثبات الحوض وأهل السنة من الخلف؛ لأن الخلف عند الإطلاق: هم كل من خالف السنة -أي: العقيدة- وإن كان من أبناء القرن الأول، والسنة عند الإطلاق في باب الاعتقاد تعني: من استقام على منهاج النبوة في العقيدة على جهة الخصوص. أما الخلف فتعني: الانحراف عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام في باب الاعتقاد حتى وإن كان من أبناء القرن الأول. إذاً: السنة هي: اتباع منهاج النبوة في باب الاعتقاد حتى وإن كان ذلك في آخر الزمان فهو من أهل السنة، بخلاف الخلف. وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة كالخوارج وبعض المعتزلة. إذاً: الذي أثبته أهل السنة سواء كانوا من أزمنة السلف الخيرية أو من أتى بعدهم إلى قيام الساعة، وكذلك الخلف الذين خالفوا أصول الاعتقاد كالخوارج وبعض المعتزلة، فليس كل المعتزلة ينكر الحوض، وإنما بعض المعتزلة أنكر الحوض. فالذي أثبت الحوض هم أهل السنة في كل زمان ومكان بدليل تواتر الحديث، والإمام ابن حزم قال: لا يحل لأحد أن يخالف نصاً صحيحاً قد ورد في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن متواتراً. وقال: الحجة عندي تفيد العلم واليقين والقطع إذا أتت من طريق الثقة عن الثقة حتى بلغت النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا يحتاج إلى تواتر. ويقول -ويؤيده في ذلك الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله-: حديث الآحاد يفيد العلم القطعي الضروري ما دام أن إسناده صحيح، بخلاف جماهير المحدثين والعلماء الذين يقولون: لا يفيد العلم القطعي الضروري -أي: اليقيني- إلا الحديث المتواتر. قال: وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره، ومعنى أحالوه أي: قالوا باستحالة أن يكون الحوض على ظاهر هذه الأرض، أو استحالة أن يكون هذا النص على ظاهره. قال عليه الصلاة والسلام: (حوضي ما بين أيلة إلى عدن، ماؤه أحلى من العسل وأبيض من الورق -أي: الفضة- آنيته عدد النجوم)، قالوا: مستحيل أن يكون هناك حوض بهذا، كما أنه هو مستحيل على الخلق أجمعين أن يجعلوا حوضاً كهذا الحوض، نقول: هل هذا مستحيل في حق الله؟! وهل الله تبارك وتعالى يوصف بأنه يستحيل عليه شيء؟! A لا، فإذا كان خالق الحوض هو الله عز وجل فحينئذ لا يمكن أن يقال: مستحيل في حقه أن يفعل كذا. وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو كذلك إلى تأويله؛ لأن الذي ينكر شيئاً لابد أن يقع بين فكين: الفك الأول: إقراره واعترافه بصحة الآيات والأحاديث الواردة في هذا الشيء الذي ينكره، وإلا فأهل السنة والجماعة لا يثبتون شيئاً إلا إذا كانت أدلته صحيحة وصريحة، فالذي ينكر يلزمه أن يتعامل مع هذه النصوص الصريحة والصحيحة، فإما أن ينكرها وأن يجحدها فيكفر بها، وإما أن يصرفها ويؤولها على غير ظاهرها. فهؤلاء المبتدعة الذين أنكروا الحوض كان لزاماً عليهم أن يتعاملوا مع هذه النصوص المتواترة التي ثبت من خلالها حوض النبي عليه الصلاة والسلام، فأولوها عن ظاهرها، قالوا: الحوض رمز الخير؛ ولذلك قالوا لـ ابن عباس: أما علمت يا ابن عباس أن الحوض هو الكوثر، وأن الكوثر هو الخير الكثير؟ قال: إي والله! إن الكوثر لهو الخير الكثير. يريد أن الكوثر والحوض هما من الخير الذي أعطيه النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا -بلا شك- خير كثير خصه الله عز وجل به. فخرقوا الإجماع الذي انعقد عند السلف وفارقوا مذهب أئمة الخلف. قال الحافظ ابن حجر: أنكر الحوض الخوارج وبعض المعتزلة.

رواية ابن عمر رضي الله عنهما

رواية ابن عمر رضي الله عنهما قال ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمامكم حوضاً ما بين جرباء وأذرح) وهما: قريتان بالشام بينهما جبل. وفي رواية: (بينهما مسيرة ثلاثة أيام). النقاد طعنوا في هذه الزيادة: (بينهما مسيرة ثلاثة أيام)، وقالوا: هاتان القريتان في الشام الآن معروفتان، وليس بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وإنما قد أتت رواية لـ أبي هريرة رضي الله عنه، يقول كما أخرجه عبد الكريم الديرعاقولي في فوائده عن أبي هريرة بإسناد حسن قال: (عرضه مثلما بينكم وبين جرباء وأذرح) عرض الحوض فقط مثلما بينكم الآن وأنتم بالمدينة؛ لأن الخطاب موجه لأصحابه وهو في المدينة عليه الصلاة والسلام. فهذا الحديث - أي: حديث ابن عمر - فيه نقد من وجهين: الوجه الأول: أنه أثبت أن الحوض عموماً ما بين جرباء وأذرح، وفي الحقيقة هذا النص فيه سقط، وبيانه في حديث أبي هريرة: (إن عرض الحوض ما بينكم -أو: كما بينكم- وبين جرباء وأذرح) فيكون في هذا النص سقط، فيكون عرضه كما بين المدينة وأيلة، أو كما بين المدينة وجرباء وأذرح، أو ما بين المدينة والقدس، كما جاءت الروايات كلها. والشاهد منها: أن النبي عليه الصلاة والسلام ما أراد تحديد طول الحوض وعرضه على وجه الدقة، وإنما أراد أن يبين أن الحوض طويل. فقال ابن مسعود رضي الله عنه وجابر بن سمرة وجندب البجلي: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا فرطكم على الحوض) ومعنى الفرط: السابق، يعني: أنا أسبقكم على الحوض، وهذا يعني: أنه لا يذهب إلى الحوض ولا يشرب منه أحد قط قبل النبي عليه الصلاة والسلام لا نبي مرسل ولا أحد من أتباع الأنبياء، فأول من يشرب من الحوض هو نبينا عليه الصلاة والسلام. قال: (أنا فرطكم) يعني: أنا أسبق إنسان يذهب إلى الحوض ثم أنتم بعد ذلك تأتون.

رواية زيد بن أرقم رضي الله عنه

رواية زيد بن أرقم رضي الله عنه أما رواية زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم ونحن معه في بعض أسفاره في منزل نزلوه: ما أنتم بجزء من مائة ألف جزء ممن يرد علي الحوض من أمتي، قال أبو حمزة راوي الحديث: فقلت لـ زيد كم أنتم يومئذ؟ قال: ثمانمائة أو تسعمائة). فلا يصح أن يقال: نضرب مائة في ثمانمائة أو في تسعمائة، لا يصح أن يقال هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن العدد الكائن أمامه يبلغ جزءاً من مائة جزء، قال: (ما أنتم بجزء من مائة جزء) فهو أثبت أن العدد الذي أمامه هذا لا يبلغ جزءاً، فيمكن أن يبلغ ربع جزء، أو خمس جزء، أو عشر جزء، أو جزءاً إلا ربع جزء، أو نصف جزء، لا أحد يعلم. فهذا موكول إلى الله عز وجل حتى لا يقوم أحد الآن ويضرب مائة في تسعمائة فيقول: إذاً: الناتج أن الذي سيدخل الجنة هو كيت وكيت وكيت.

رواية عمرو بن العاص رضي الله عنه

رواية عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال النبي عليه الصلاة والسلام: (حوضي مسيرة شهر)، يعني: من أراد أن يقطعه يقطعه في شهر، وهذا للراكب المسرع، قال: (زواياه سواء) يعني: طوله مثل عرضه، قال: (وماؤه أبيض من الورق) والورق بكسر الراء هو الفضة، والفضة بلا شك أكثر بياضاً ولمعاناً من الذهب. قال: (وريحه أطيب من المسك، وكيزانه -أي: الأواني التي عليه- بعدد نجوم السماء) ونجوم السماء لا يحصرها إلا الله عز وجل، ومع هذا فإنه لا يشرب أحد بنفسه من الحوض، إنما الذي يسقيه هو النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (وكيزانه بعدد نجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ بعده أبداً) أي: يكفيك أن تشرب منه شربة واحدة، لا تحتاج بعد ذلك أن تشرب؛ لأنك لا تصاب بظمأ قط بعد ذلك.

رواية أنس وحذيفة رضي الله عنهما

رواية أنس وحذيفة رضي الله عنهما وقال أنس: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن قدر حوضي ما بين أيلة وصنعاء اليمن)، وأيلة هي قرية بالشام. قال: (إن قدر حوضي ما بين أيلة وصنعاء اليمن) فهذا قدر طول أو عرض حوض النبي عليه السلام؛ لأننا قلنا: إن طوله كعرضه لاستواء زواياه. قال: (وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء) وهذا الحديث أخرجه الشيخان كسابقه. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن حوضي لأبعد ما بين أيلة وعدن). ففي الرواية الأولى قال: (إن قدر حوضي ما بين أيلة وصنعاء اليمن) وفي الرواية الثانية يقول: أبعد من ذلك. فهذا التقدير إنما أراد به عظم حجم الحوض طولاً وعرضاً، وما أراد أن يحدد قدره بالملي والسنتيمتر، فقال: (إن حوضي لأبعد ما بين أيلة وعدن، والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء). وفي الرواية الأولى قال: (وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء) والكاف تفيد التشبيه والمماثلة بين العدد والمعدود، ولكنه هنا أراد كذلك أن يبين كثرة هذه الأباريق، وكثرة هذه الكيزان. قال: (والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد النجوم، ولهو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، والذي نفسي بيده إني لأذود عن الرجال، أو إني لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل الغريبة من الإبل عن حوضه). فالنبي عليه الصلاة والسلام يضرب هنا مثلاً للتشبيه فيقول: هل رأيتم الرجل عنده الحوض وعنده الإبل، لو أن بعيراً غريبة دخلت في وسط إبله فأرادت أن تشرب من حوضه ما الذي يكون منه؟ يدفعها ويذودها ذوداً حتى لا تشرب فتفني الماء، كل ذلك من أجل أن تشرب إبله، فقال عليه الصلاة والسلام: (وإني لأذود عن الحوض رجالاً كما يذود الرجل الغريبة عن إبل). فهنا إشعار بأن هذا لا يمكن أن يكون في الجنة، والغريب أن بعضهم قال: الحوض حوضان: واحد في الجنة وواحد في عرصات القيامة. وليس كذلك، بل الروايات كلها تثبت أن الحوض واحد. (قيل: وهل تعرفنا -يا رسول الله- يومئذ؟ قال: نعم. تردون علي غراً محجلين من آثار الوضوء، ليست لأحد غيركم) يعني: أن يشع النور من وجهك وأنت متوضئ مصل، وليست هذه الخاصية لأحد غيركم، إنما هي لكم خاصة، والغرة هي: بياض في وجه الفرس أو في يده ورجله، بمعنى: أن يكون الفرس كله أحمر أو بنياً أو أسود وهناك خصلة من الشعر بيضاء في وجهه أو في قدمه أو يده، فلا شك أنه لو دخل فرس كهذا في وسط خيل كثيرة لعُرف هذا الخيل؛ لأنها مميزة بهذه الغرة وهذا التحجيل، فالغرة: بياض في الوجه، والتحجيل: بياض في الأطراف، سواء كانت الأطراف هذه أيدياً أم أرجلاً، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)، وفي هذا الحديث: (فإنكم تردون علي غراً محجلين) أي: في وجوهكم وأيديكم وأرجلكم بياض؛ لذلك كان أبو هريرة إذا توضأ رفع كمه حتى بلغ في غسل يده إلى المنكب، وبلغ في غسل رجله إلى ركبته، فلما قيل له في ذلك قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنكم تردون علي غراً محجلين من آثار الوضوء. وأنا أحب ذلك) أي: أنا أحب أن آتي على هذه الصفة يوم القيامة.

رواية ثوبان رضي الله عنه

رواية ثوبان رضي الله عنه وعن ثوبان أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنا بعقر حوضي يوم القيامة) يعني: أنا في وسط الحوض يوم القيامة. قال: (أذود عنه الناس، وأضربهم بعصاي حتى يرفضوا عنه- أي: حتى يبتعدوا عن الحوض- قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: ما سعته؟ قال: من مقامي إلى عمان). (من مقامي) أي: من المدينة. (إلى عمان البلقاء) عاصمة الأردن. قال: (يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة) (يغت) يعني: يصب. إذاً: الحوض خارج الجنة، ولكن الإمداد يأتيه من الجنة، وهذا الإمداد مصدره الكوثر. قال: (يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من ورق) وهذا الحديث أخرجه مسلم. والعرصات: هي موضع المحشر الذي يحشر فيه الناس ويعرضون على ربهم.

رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه

رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا فرطكم بين أيديكم) يعني: أنا أسبقكم إلى الحوض. (فإن لم تجدوني فأنا على الحوض) كأنه أراد أن يقول: أنا أسبقكم كذلك في البعث، فإنه أول من تنشق عنه الأرض هو نبينا عليه الصلاة والسلام، قال: فإذا قمتم من قبوركم وبعثتم فلم تجدوني فاعلموا أني عند الحوض، قال: (فإن لم تجدوني فأنا على الحوض، وحوضي قدر ما بين أيلة إلى مكة)، قال قبل ذلك: (من مقامي هذا) أي: من المدينة، وفي هذه الرواية: (من مكة)، وليس هذا اضطراباً في الروايات، بل هو تقدير عظم الحوض. قال: (وسيأتي رجال ونساء بقرب وآنية)، وفي حديث علي بن مسلم: (يأتون ثم لا يذوقون منه شيئاً) يعني: لا يشربون منه شيئاً.

رد أنس بن مالك على من أنكر الحوض

رد أنس بن مالك على من أنكر الحوض وعن ثابت عن أنس قال: دخلت على ابن زياد وهم يذكرون الحوض، فقال: هذا أنا، فقلت: (لقد كانت عجائز بالمدينة). هذا أنس بن مالك يرد على من أنكر الحوض، يقول: (لقد كانت عجائز بالمدينة -يعني: نساء كبيرات طاعنات في السن- كثيراً ما يسألن ربهن أن يسقيهن من حوض نبيهن) يعني: يريد أن يقول لهم: ألا تستحون يا من تدعون العلم والمعرفة والحذلقة فتنكرون حوض نبيكم عليه الصلاة والسلام، وقد أدركنا نساءً عجائز بالمدينة لا علاقة لهن بالعلم يسألن الله عز وجل أن يسقيهن من حوض نبيهن عليه الصلاة والسلام، فدين العجائز أصح وأكرم من دينكم ومعتقدكم. وفيه: (ما حسبت أن أعيش حتى أرى مثلكم ينكر الحوض) يعني: يريد أن يقول: إنه لأمر عجيب جداً أن أعيش حتى أرى أناساً ينكرون الحوض.

الرد على من أنكر الحوض والميزان

الرد على من أنكر الحوض والميزان فالكلام في الحوض كلام كثير جداً، وللأسف الشديد قبل عدة أسابيع سمعت أن أحد الفضلاء في الأزهر ينكر الحوض والميزان، وكان يلقي محاضرة في المقطم، فلما أتى عند الحوض قال كلاماً هو إلى الكفر أقرب، بل إنه زاد على الإنكار استهزاء وتهكماً، فقال: كيف يُعد الله تعالى في الآخرة حوضاً لعباده؟ أهم بهائم؟ وهل الصفات الواردة في صفة الحوض هي نفس الصفات الواردة في الحياض التي تردها أنت مع البهائم وتشرب منها؟! ثم يقول: قد دلت النصوص أن الميزان يوزن به الأعمال ويوزن به الأبدان والأشخاص، كيف توزن الأبدان يوم القيامة وما قيمة وزنها؟! ثم قال: وكيف توزن الأعمال مع أن الأعمال أمر معنوي وليس محسوساً؟! A إن أموراً كثيرة جداً معنوية يجعلها الله تعالى في صورة المحسوس يوم القيامة، ولا يمكن أن يقع ذلك تحت طائلة العقل لبني آدم، أليس الموت شيئاً معنوياً؟ ومع هذا يأمر الله تبارك وتعالى به فيكون في صورة كبش يذبح على الصراط بين الجنة والنار. وغير ذلك من المعنويات التي تكون في صورة المحسوسات يوم القيامة، ولا يمكن أن يقاس عليه عمل العباد في الدنيا قط. فالله تعالى إذا أراد أن يزنها على حالتها فإنه قادر على أن يفعل ذلك، وإذا أراد أن يحول هذه المعنويات من الأعمال إلى محسوسات فتوزن لفعل ذلك سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]، وغير ذلك من الأمور المعنوية. فالروح شيء معنوي، ولا يستطيع أحد منكم أن يأخذ روحه بيده، لكن إذا مات العبد جعلت الروح في خرقة ولفَّت فيها وصعد بها إلى السماء، فمنها من تفتح لها أبواب السماء، ومنها من تغلق فترجع إلى الأرض مرة أخرى، ولا يكون هذا إلا في المحسوسات، مع أننا نوقن أن الروح من الأمور المعنوية وليست من الأمور المحسوسة، فإقحام العقل في هذه النصوص التي تفوق مستوى العقل بلا شك نوع محادة لله عز وجل ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.

خلاصة الأحاديث المتواترة في إثبات الحوض

خلاصة الأحاديث المتواترة في إثبات الحوض إذاً: أخلص من ذلك إلى إثبات حوض النبي عليه الصلاة والسلام، وأن طوله كعرضه، وأن الحوض طويل أو عريض كما بين أيلة إلى مكة أو إلى المدينة، أو من الشام إلى اليمن أو غير ذلك من اختلاف الروايات التي وردت، والقصد منها والهدف: إثبات حجم الحوض، وأن هذا الحوض أطيب من المسك وأحلى من العسل، وآنيته كعدد نجوم السماء وزيادة وغير ذلك مما ورد في صفاته، وأن الحوض واحد، وأنه في عرصات القيامة، وأن الكوثر في الجنة، وأنه يمد الحوض بميزابين: أحدهما من ذهب والآخر من ورق -من فضة-، وأن النبي عليه الصلاة والسلام هو فرط الناس على الحوض -هو سابقهم-، وأنه لا يشرب أحد من الحوض إلا بيد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم هذا الحوض يأتيه الناس من كل حدب ليشربوا، والنبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم للشرب، فإذا بجنود الرحمن يذودون هؤلاء عن الحوض، أي: يدفعونهم ولا يسقونهم، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رب! أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وهذا نص عظيم يفيد أن الحوض لا يمكن أن يكون في الجنة؛ لأن المرء إذا دخل الجنة تمتع بكل ما فيها من نعيم في درجته، وأنه لا يذاد عن شيء اشتهته نفسه، وإنما هذا الحرمان بسبب التبديل والتغيير والابتداع في الدين. فقال: (إنك لا تدري) يا محمد، أي: لا تدري ما سر ذود هؤلاء عن الحوض وطردهم وإبعادهم عنه؛ إنما السبب في ذلك أنهم بدلوا وغيروا وارتدوا من بعدك كما جاءت بذلك الروايات.

تعقيب على الشيخ أحمد حكمي في تفسير الحوض بالكوثر

تعقيب على الشيخ أحمد حكمي في تفسير الحوض بالكوثر قال الشيخ أحمد حكمي فيما جاء في الحوض والكوثر: وحوض خير الخلق حق وبه يشرب في الأخرى جميع حزبه قوله: (حوض خير الخلق) أي: حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وهو الكوثر الذي أعطاه ربه عز وجل، وهذا -بلا شك- كلام غير سديد، فليس الحوض هو الكوثر، ولكن الشيخ أحمد حكمي عليه رحمة الله -هو من أئمة السنة- ذهب مذهباً مرجوحاً، وهو إثبات أن الحوض هو الكوثر، فقد صح الحديث في أن الكوثر في الجنة، وأن الحوض في عرصات يوم القيامة، وبينهما طريقان: أحدهما من ذهب، والآخر من فضة. روى البخاري عن ابن عباس: أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لـ سعيد بن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. يعني: بعض الناس يقولون: الكوثر عبارة عن نهر، والنهر في الجنة، فقال: هذا لا يختلف مع كلام ابن عباس، فإذا كان الكوثر هو نهر في الجنة، وأنتم تقولون: الخير هو نهر في الجنة فلا بأس أن يكون هذا هو نهر الكوثر، إنما أورد المؤلف هذا الحديث لإثبات أن الحوض هو الكوثر، وليس كذلك. قال: وقد ورد في ذكر الحوض وتفسير الكوثر به وإثباته وصفته من طرق جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهر واستفاض، بل تواتر في كتب السنة من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن. وهذا كلام غير صحيح، فهو بالفعل قد ورد في ذكر الحوض وبيان صفته دون تفسير الكوثر به، هذه الأحاديث المتواترة. فممن روى ذلك من الصحابة أنس وابن عمر وحارثة بن وهب وجندب البجلي وسهل بن سعد وعائشة وعد أناساً كثيرين من الصحابة فوق الثلاثين. وفي حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟! قال: هذا الكوثر). فالشيخ أحمد بن حكمي يورد هذا لبيان أن الكوثر هو الحوض، مع أن الرواية ليس فيها ذكر للحوض، إنما فيها ذكر أن الكوثر نهر أصله في الجنة. وقال البخاري كذلك: عن أنس بن مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام: (بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟! قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه أو طينه -شك هدبة الراوي- مسك أذفر). وقال أنس بن مالك: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق بعدد نجوم السماء). وفي لفظ: (ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة). وفي لفظ: (ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء). وفي رواية عند البخاري قال: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك).

تتمة الروايات الواردة في الحوض

تتمة الروايات الواردة في الحوض

رواية أبي سعيد وعائشة رضي الله عنهما

رواية أبي سعيد وعائشة رضي الله عنهما وفي رواية أبي سعيد قال: (فأقول: إنهم مني) أي: فيقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الذين يذادون عن الحوض ويدفعون عنه: (إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي) وهذه الرواية عند مسلم. وفي رواية: (سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي) والمعنى واحد. وقالت عائشة رضي الله عنها: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بين ظهراني أصحابه: إني على الحوض أنتظر من يرد علي منكم، فوالله ليقتطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب! مني ومن أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم) أي: يرتدون ويتركون الدين.

رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه

رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه وعن أبي القيس عن عقبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف على المنبر -أي: ثم صعد على المنبر- فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها) أي: في الدنيا. وفي رواية: (صلى النبي عليه الصلاة والسلام على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات على السواء، فقال: إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم. قال عتبة راوي الحديث: فكانت آخر ما رأيت رسول الله على المنبر) يعني: هذا كان من آخر كلامه على المنبر صلوات الله وسلامه عليه. والروايات كلها بنفس المعنى.

رواية أبي هريرة رضي الله عنه

رواية أبي هريرة رضي الله عنه وفي رواية أبي هريرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بينما أنا قائم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم. فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله)، وهل يتصور أن أحداً دخل الجنة يخرج منها إلى النار؟! من دخل الجنة لا يخرج منها قط، بخلاف النار فإنه يخرج منها مادام موحداً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام وقف مع بعض الناس الذين يعرفهم، فإذا برجل يأخذ بعضهم ويدفعهم عن الحوض، فيقول النبي عليه السلام لهذا الذي أخذ بعض من يعرفهم: (إلى أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على الحوض). وطبعاً أنتم تعرفون الحديث الموضوع: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) والحقيقة أنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب؛ لأن هذا الكلام قاله وهو حي، وما يدريه عليه الصلاة والسلام أنه سيقبر في هذا المكان، وأنتم تعلمون أنه ما من نبي يموت إلا ويجب دفنه حيث مات، وهذه خاصية من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)؛ لأن هناك فرقاً بين القبر والوثن. فالقبر: أن يقبر المسلم مع المسلمين في المقابر العامة للمسلمين. أما الوثن: أن يتخذ القبر إلهاً من دون الله. وهل يتصور أن واحداً يتخذ المقبور إلهاً؟ نعم. إذ يصرف لهذا المقبور ما لا يجوز صرفه إلا لله؛ فيدعوه ويستغيث به ويذبح له ويؤمن به وغير ذلك من سائر العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله، فيصرفها لهذا المقبور فيكون قد اتخذه إلهاً من دون الله؛ ولذلك قرأ النبي عليه الصلاة والسلام: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] عند دخول عدي بن حاتم بعد أن أسلم، ولكنه كان يلبس الصليب على صدره، فقال عليه الصلاة والسلام: (دع عنك وثن الجاهلية يا عدي)، يعني: ألق هذا الصليب فإنه من أوثان الجاهلية، مع أن الصليب ما هو إلا مجرد قطعة من الخشب أو الحديد أو النحاس أو الفضة أو الذهب أو أي شيء؛ سمي وثناً لأنه صار معبوداً وإلهاً يعبده الناس من دون الله، فتحول من كونه مجرد تمثال إلى كونه إلهاً. أنتم تعلمون تمثال بوذا، فهو ليس تمثالاً فقط، بل صار إلهاً يعبد من دون الله، إذ يأتيه الوفود والعباد من أقطار الأرض، فيعبدونه في أرض أفغانستان، حتى طار شرره وذاع صيته في الآفاق: أن بوذا يملك النفع والضر، ونحن نعلم أنه لا يملك النفع والضر إلا النافع الضار سبحانه وتعالى. فلما كان من شأن معتقد الناس في حجر كهذا وجب إزالته وتدميره، خاصة لقوم بذلوا العلم على مدار سنوات طويلة. الثاني: أنهم مسئولون عن نشر التوحيد ونبذ الشرك في هذه البقعة التي مكنهم الله تعالى منها، فهم ممكنون كرب البيت تماماً، رب البيت إذا أشرك بالله تعالى في بيته فإن هذا الشيء سيكون من مسئوليته، والله تعالى يحاسبه عليه؛ لأنه ممكن: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فهؤلاء ممكنون وهم على قمة البلاد ويملكون سيادة الأمر فيها. إذاً: فلم يتركون هذا الشرك في بلادهم؟! فإنهم سيسألون بين يدي الله، فلما قاموا بتدمير هذا الوثن قاموا بأمر مشروع، وواجب عليهم، ولكن المرجفون هنا وهناك خرجوا بشبهات، هذه الشبهات لا تنطلي إلا على الجهال. الشبهة الأولى: أن عمرو بن العاص لما جاء مصر لم يكسر الأصنام. نقول: أولاً: لأنها لم تكن معبودة. ثانياً: لأنها كانت تحت الرمال وليست واضحة ولا بادية، فإن أبا الهول له آلاف السنين، لكن لم ينقبوا ويبحثوا عنه إلا قبل (200) سنة، لذلك لم تكن يسمع الناس عن أبي الهول. فمن هو أبو الهول؟ أهو شخص أو حيوان أو هو طائر أم ماذا؟ لا أحد يعرف شيئاً عنه، ومع هذا تجد أناساً يعبدونه، لأنهم ليسوا أحسن حظاً ولا عقلاً منه، فهو حجر لا يضر ولا ينفع. وقيل: إن عمرو بن العاص رضي الله عنه أمر بالتنقيب عنه وتكسيره، فذكرت كتب التاريخ أن محاولات عدة على مدار عدة أشهر بذلت في تحطيمه فلم يكسروا منه إلا قطعة في أنفه لا تزال تعالج إلى الآن. معنى ذلك أن تكسير هذه الأصنام يحتاج إلى مجهود ضخم جداً، فصرف إمكانية الدولة الضعيفة في ذلك الوقت في تكسير حجر لا خطورة منه؛ لأنه لا يعبد ولم يسمع عنه أحد، ولم يكن في تلك الأيام منطقة اسمها الجيزة، بل القاهرة كلها كانت عبارة عن مصر القديمة والمنيل حيث الحصن. أما الموطن الذي اتخذه لنفسه عمرو بن العاص كان في مقابلة هذا الحصن في مصر القديمة، فالقاهرة كلها عبارة عن منطقة ضيقة بسيطة، ولم يثبت أن هذا المكان الآهل بالسكان كان فيه صنم وتركه عمرو بن العاص، فكيف يترك الرومان في وسط ال

الأسئلة

الأسئلة

الأمة التي ينتمي إليها الذين يذادون عن الحوض

الأمة التي ينتمي إليها الذين يذادون عن الحوض Q هل الذين قال عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: (أمتي أمتي) أحدثوا في الدين أم أنهم من غير أمته عليه الصلاة والسلام؟ A هم من أمته، لكنهم أتوا بأفعال استوجبت ردتهم، أو بدلوا وغيروا، أو قالوا بغير مقولة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأصول الاعتقاد.

حكم رضاعة المسلم من النصرانية أو اليهودية

حكم رضاعة المسلم من النصرانية أو اليهودية Q هل يجوز رضاعة المسلم من النصرانية؟ A نعم. يجوز، وإذا أرضعته نصرانية فهي أمه وأولادها إخوته. أما إذا كنت تسأل عن الأفضل فبلا شك أن الأفضل ألا ترضع ولدك إلا امرأة صاحبة دين، ولا يكفي أن تكون مسلمة فقط، بل تكون صاحبة دين. وقد ورد عن الإمام أحمد بن حنبل أن جارية أرضعت ولده، ولا يزال العرب يفرقون بين الحرة والأمة في الأخلاق وفي الديانة، فيقولون: للحرة من الخلق والديانة والحشمة ما ليس للأمة، فلما رأى ولده يرضع من ثدي الأمة أدخل أصبعه في حلقه حتى قاء اللبن، فلما سئل عن ذلك قال: إنما يرضع الولد الأخلاق قبل اللبن، أما إذا كنت تسأل عن المشروعية: جائز أم حرام فهو جائز، واليهود والنصارى في ذلك سواء.

الحكم على حديث: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين)

الحكم على حديث: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) Q قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها) هل هذا الحديث صحيح أم لا؟ A نعم. هو صحيح في الصحيحين.

معنى كلمة: (أسنت)

معنى كلمة: (أسنت) Q من المعلوم أن قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء:128] الآية، نزلت في سودة. قالت عائشة: (فرقت سودة أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسنت)، فما معنى (أسنت)؟ A أي: كبرت في السن.

المقصود بقوله: (وهل تعرفهم يا رسول الله) في خبر الحوض

المقصود بقوله: (وهل تعرفهم يا رسول الله) في خبر الحوض Q قوله: (وهل تعرفهم يا رسول الله؟!) هل يقصد الصحابة، أم يقصد المسلمين؟ A لا. هو يقصد من بدل من أمته سواء كانوا من الصحابة أم من غيرهم، ولم يثبت أن أحداً من أصحابه عليه الصلاة والسلام بدل، فهذا الخطاب موجه لعموم الأمة، والصحابة من الأمة، وهم في نفس الوقت أمة، فمن بدل منكم -أيها الصحابة- أو من سائر المسلمين إلى قيام الساعة فإنه يذاد عن الحوض، ولم يثبت أن واحداً من الصحابة بدل أو حرف أو غير، وإنما كلهم كانوا على عقيدة واحدة، ولم يثبت أن واحداً من الصحابة رضي الله عنهم انحرف عن أصول اعتقاد نبيه عليه الصلاة والسلام. والخلاف الذي وقع في فرعيات الاعتقاد معلوم يقيناً عند أهل السنة أن هذه الفرعيات مختلف فيها، ولا يبدع ولا يفسق بها المخالف، وإنما هي أمور كانت محل اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم.

حكم قراءة الفاتحة في الصلاة

حكم قراءة الفاتحة في الصلاة Q ما حكم قراءة الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية؟ A واجب على المذهب الراجح.

صفة الاستعاذة عند قراءة القرآن

صفة الاستعاذة عند قراءة القرآن Q هل القول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن صحيح؟ A أي نعم. صحيح؛ لأن الاستعاذة على ثلاثة أنحاء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه. هذه ثلاث صور وكلها صحيحة، وقد جاءت بها النصوص.

حكم التصوير الفوتوغرافي بالكاميرا والتصوير بالفيديو

حكم التصوير الفوتوغرافي بالكاميرا والتصوير بالفيديو Q ما حكم التصوير الفوتوغرافي بالكاميرا؟ وما حكم التصوير بالفيديو؟ وما الفرق بينهما؟ A طبعاً التصوير الفوتوغرافي هو محل نزاع بين أهل العلم، والذي يترجح لدي: أن التصوير الفوتوغرافي ما لم تدع الضرورة إليه فهو حرام، كالصور الصغيرة التي لا تسير مصالح الناس إلا بها، وما دون ذلك فهو حرام، والذين قالوا بجواز التصوير الفوتوغرافي بلا شك لا يقصدون، -بل قد استثنوا- الصور التي تدعو إلى الرذيلة كصور العاريات أو غير ذلك، وكذلك استثنوا التعليق، وحرمة التعليق محل إجماع أهل العلم؛ لأن التعليق ينبئ عن التعظيم، فحكم التصوير شيء وحكم التعليق شيء آخر، وأنت يا أخي إياك أن تغتر بالخلاف القائم بين العلماء فيما يتعلق بجواز التصوير من عدمه، فتعمد إلى تعليق الصورة وتقول: أنا آخذ برأي الذي يقول: إن الصور حلال، مع أن الأحوط لدينك أن تأخذ بالرأي الآخر ما لم تعتقد أنه حرام. واعلم أن الذين قالوا بجواز التصوير قالوا بحرمة التعليق؛ فلم أخذت بعض أقوالهم وتركت البعض الآخر؟ أما الفيديو فقد سمعنا الشيخ الألباني رحمه الله وكذا الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين -على الجميع رحمة الله- يقولون: إذا دعت الضرورة إلى ذلك وإلا فلا يجوز. وعلى أية حال: هم لا يسوون بين الصورة المتحركة غير الثابتة وبين الصورة الثابتة، ربما يكون هذا فرقاً صحيحاً، لكنه لم تقم الحجة المقنعة لدى الكثير بأن هذا فارق جوهري في الحكم على الفيديو والحكم على الصور.

كيفية المسح على الرأس عند الوضوء وحكم المسح على الخمار

كيفية المسح على الرأس عند الوضوء وحكم المسح على الخمار Q هل يكفي المسح على الخمار، أم يجب المسح على جزء من الشعر أيضاً؟ وهل عند الوضوء يكفي المسح على نصف الرأس أو جزء من خلف الرأس فقط، أم يجب المسح من الأمام؟ A على أية حال: هذه المسألة محل نزاع، وأرجح الآراء فيها، بل إن هذه العملية هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام: أنه كان يمسح رأسه، يبدأ بمقدم رأسه ويذهب إلى قفاه ثم يرد يديه إلى حيث بدأ، أي: إلى ناصيته، فكان يضع يديه على ناصيته ويذهب بهما على شعره يمسح ثم يردهما إلى مقدم رأسه، وهذا للرجال والنساء سواء؛ لأنه لم يكن ثمة فرق بين صفة وضوء النساء والرجال، وهذا مما يدل على أن الوضوء واحد لهما، وكذلك لا فرق قط في أحكام الصلاة بين صلاة الرجل وصلاة المرأة، وكل الفروق تقول: المرأة لابد أن تكون مضمومة، والمرأة لابد أن تشد على ثديها وغير ذلك، كل هذا كلام لا دليل عليه، والأحكام واحدة في حق الرجل والمرأة. أما إذا كان الرجل أو المرأة يلبسان الخمار -الخمار هو كل ما خامر الرأس وغطاه، سواء كان ذلك عند الرجل أو عند المرأة- فإذا بدا من رأسه شيء أو بدت من رأسها شعرة أو شعرات فلتمسح عليها ولتكمل على خمارها، وإذا غطى الخمار كل الشعر فلا بأس أن تمسح على الخمار كله ذهاباً وإياباً، والله تعالى أعلم.

حكم الوصية بأكثر من الثلث

حكم الوصية بأكثر من الثلث Q أوصت امرأة قبل وفاتها بأكثر من ثلث تركتها، فهل تنفذ هذه الوصية؟ A تنفذ في أكثر من الثلث بإجازة الورثة. هذا شرط، وإذا لم يرض الورثة بإنفاذ الوصية وأنكروها كلها ولم يرضوا أن يوزع شيء من الميراث قط فتنفذ الوصية قسراً وجبراً في حدود الثلث، وما فوق الثلث لا يلزم إنفاذه إلا برضاهم.

قسمة تركة المتوفى عن ابن وبنتين وأولاد ابن

قسمة تركة المتوفى عن ابن وبنتين وأولاد ابن Q جدتي ماتت عن بنتين وابن لأب وأولاد ابن، فكيف تقسم تركتها؟ A لا شك أن البنتين لهما في ميراث الأم الثلثان، وأولاد الابن يأخذون حظ الابن تحت باب الوصية الواجبة، والابن لأب يأخذ بقية التركة تعصيباً.

حكم احتلام الحاج بعد أداء مناسك الحج

حكم احتلام الحاج بعد أداء مناسك الحج Q نمت في المسجد الحرام بعد أداء مناسك الحج ثم احتلمت، ولما رجعت إلى هذه البلاد لم يكن عندي أدنى رغبة لمباشرة النساء، فهل هذه عقوبة من الله عز وجل؟ A لا. ليست عقوبة، لأن الاحتلام أمر لا يملكه الإنسان.

حكم اللقطة في القطار

حكم اللقطة في القطار Q لقد وجدت (كماناً) في القطار فذهبت إلى شرطة السكة الحديدية فقالوا لي: طالما لم تجده في قطار المكيف فلن يسأل عنه أحد، وإن تركته فسوف يباع في المزاد بسعر منخفض، وقال لي: إنه حلال لك! ولكن لم أقتنع بهذا؛ فذهبت أركب نفس القطار في نفس اليوم الذي وجدت فيه هذه اللقطة، وحدث هذا مرتين، ولكن لم أوفق نظراً للزحام الشديد. فماذا أفعل؟ A هذا يدخل في باب اللقطة، واللقطة لها أحكام، لكن يصعب جداً تنفيذ أحكام اللقطة في هذا الزمان، فلا عليك أن تبيع هذا الجهاز أو أن تأخذه وتتصدق بثمنه عن صاحبه، لا حرج عليك.

قدر ارتفاع القبر عن الأرض

قدر ارتفاع القبر عن الأرض Q ما هو قدر ارتفاع القبر عن الأرض كما ورد في السنة؟ A في الحقيقة ورد فيه صفتان: صفة التسوية تماماً، ويميز القبر بحجر يوضع على رأس المقبور؛ حتى يعلم الناس أن هنا قبراً فلا يطئوه، ومنهم من قال: يرفع القبر عن الأرض قدر شبر، وبنفس العلة قالوا: حتى يعلم الناس أن هنا قبراً، فسواء كان هذا أو ذاك فهو خير.

حكم الحجاب في الشريعة الإسلامية

حكم الحجاب في الشريعة الإسلامية Q هل النقاب فرض أم سنة؟ وما هو الدليل من الكتاب والسنة؟ وهل هذه الآية تدل على أن النقاب ليس من السنة: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]؛ لأنه حدث بيني وبين أحد الإخوة خلاف واستدل بهذه الآية. وجزاك الله خير. A أدلة النقاب كثيرة جداً في الكتاب والسنة، ولا يكفي هذا الوقت الضيق لذكر الأدلة، لكن بإمكانك أن ترجعي إلى المجلد الثاني من كتاب (عودة الحجاب) ففيه الأدلة، وكتاب (عودة الحجاب) ثلاثة مجلدات للشيخ محمد إسماعيل حفظه الله. أما قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أي: إلا ما ظهر منها بغير قصد منها، كما قال ابن عباس وغيره: أن المرأة إذا خرجت من بيتها لحاجتها أطارت الريح ثوبها، فإذا رأى أحد شيئاً من بدنها أو أن الثياب التصقت ببدنها فرأى أحد مفاتنها من فوق الثياب فلا حرج على المرأة حينئذ؛ لأنه ظهر منها عفواً بغير قصد.

حكم التكبيرة لجلسة الاستراحة في الصلاة

حكم التكبيرة لجلسة الاستراحة في الصلاة Q هل جلسة الاستراحة لها تكبيرة؟ A الجواب: لا. وأنا مدرك أن فضيلة مولانا وشيخنا: محمد إبراهيم شقرة في كتاب فقه الصلاة قال: ويكبر مع كل انتقال، وجلسة الاستراحة انتقال وسط بين السجود وبين القيام إلى الثانية والرابعة. هكذا قال الشيخ. وكان أمامنا في عمان يكبر فيجلس للاستراحة، ثم يقوم وهو يكبر، وهذا بلا شك خلاف لما أجمعت عليه الأمة علماً وعملاً.

حكم التسبيح في جلسة الاستراحة

حكم التسبيح في جلسة الاستراحة Q ما حكم التسبيح في جلسة الاستراحة؟ A لم يثبت في جلسة الاستراحة تسبيح.

دائرة المحرمية بين الرضيع وإخوته مع أولاد من رضع منها

دائرة المحرمية بين الرضيع وإخوته مع أولاد من رضع منها Q رضعت أختي من زوجة خالي مع ابنها الرضيع، فهل نحن نحرم شرعاً على أولاد خالي جميعاً، أم على ابن خالي الذي رضع مع أختي؟ A هذه الأخت التي رضعت إنما يحرم عليها جميع أولاد الخالة، أما أولاد الخالة فلهم أن يتزوجوا أي بنت من بنات أو من إخوة هذه الرضيعة، ولا تثبت الحرمة في حقهن، أي: أن الذي رضع يحرم عليه من رضع معه وجميع إخوته.

الفرق بين التفويض وبين التأويل في الصفات

الفرق بين التفويض وبين التأويل في الصفات Q ما الفرق بين التفويض والتأويل؟ وهل يجوز أن نفوض في الصفات؟ A نعم. يجوز أن نفوض الكيفية، أما تفويض العلم والمعنى فلا، ليس مذهب أهل السنة تفويض العلم ولا تفويض المعنى، إنما تفويض الكيف. والتأويل في الصفات هو صرف النص عن ظاهره، وهذا -بلا شك- ليس منهجاً لأهل السنة والجماعة. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

اليهود

اليهود تاريخ اليهود ممتلئ بالغدر والخيانة والكذب والغش والافتراء، ليس فقط في حق البشر، بل في حق الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله، فقد سبوا الله تعالى، وعادوا ملائكته، وحرفوا كتبه، وقتلوا رسله، وهم أهون الخلق وأخوفهم في الحروب والقتال، حتى مع وجود نبي مؤيد بالوحي معهم.

حقيقة دين الأنبياء

حقيقة دين الأنبياء إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما قلَّ وكفى خير مما كَثُر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد). يقال للرجل: إذا تزوج الثانية قد أعل من الأولى، وإذا تزوج الثالثة فقد أعل من الثانية وهكذا، فأثبت النبي عليه الصلاة والسلام أنه هو وجميع الأنبياء إخوة لعلات، اختلفت أمهاتهم ولكن دينهم واحد. وإجماع أهل العلم كما نقله النووي وابن حجر: أن هذا الحديث على ظاهره غير مقصود، إنما المقصود أن الأنبياء جميعاً إنما أرسلوا بدين واحد وهو دين الإسلام، وهو توحيد الله عز وجل، فلم يكن الشرك مباحاً على لسان نبي بعث قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، إنما اختلفت فروع شرائعهم وأزمانهم فقط. فمثل النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث ليقرب المعنى إلى الأفهام والأسماع، لكن المعنى المجمع عليه، بل الذي اتفق عليه العقلاء: أنه ما من نبي أرسله ربه إلا وأتى بدين الإسلام وبعقيدة التوحيد وبأصول الإيمان، ولذلك لما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وتؤمن باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشر)، فهذه أصول الإيمان التي بعث بها كل نبي ورسول، فهل يا ترى آمن اليهود وآمن النصارى بهذه الأصول الإيمانية التوحيدية التي دعاهم إليها أنبياؤهم ومرسلوهم؟! A كلا، وشاهد ذلك فيما يتعلق بالإيمان بالله عز وجل: أن الله تعالى متصف بكل صفات الكمال والجلال التي تليق بذاته وعظمته، وأن الله تعالى قد نفى عن نفسه النقص تماماً، فلا ينسب إليه نقص قط، ومن نسب إلى الله تعالى النقص فهو كافر بذلك.

موقف اليهود من الله عز وجل

موقف اليهود من الله عز وجل انظر إلى موقف اليهود من الله عز وجل الذي هو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، نسبوه إلى البخل والشح: (لما نزل قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] أتى اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا له: يا محمد! افتقر ربك فاستقرض العباد -يعني: أصار ربك فقيراً بعد أن كان غنياً يطلب القرض من الخلائق؟ - فنزل قول الله عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:181]) فالله عز وجل شاهد على قول اليهود. كما أنهم جعلوا من المخلوقين أبناء لله عز وجل، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وهذه مقولة اليهود، وعزير بريء منها، ومن بعدهم قالت النصارى نفس المقولة: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وعيسى عليه السلام بريء من قولة النصارى كذلك، إنما الله تعالى إله واحد لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون. وكذلك اليهود هم الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، فنسبوا الغل -وهو كناية عن الشح والبخل- لله عز وجل، إذا كان له أخذ، وإذا كان عليه لا يعطي، سبحانه وتعالى عما يشركون {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، (خزائنه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أي: لا تنقصها نفقة مهما أنفق. انظروا إلى ما أنفق الله عز وجل منذ أن خلق السماوات والأرض إلى يومنا هذا، بل إلى قيام الساعة، بل بعد قيام الساعة، وفيضه بالنعيم على أهل رضوانه وأهل جنته، هل نقص ذلك من ملك الله تعالى شيئاً؟ A لا، إلا كما ينقص البحر إذا أدخل أحدكم فيه إبرة، وهذا شيء لا يكاد يذكر، ولذلك خزائن الله تبارك وتعالى ملأى لا تغيضها نفقة، لكن اليهود أبوا إباء شديداً إلا أن ينبسوا الله تبارك وتعالى إلى النقص والعجز والتقصير، معاذ الله أن يكون كذلك، وتتبع خطواتهم النصارى. هذا موقفهم من الله عز وجل باختصار شديد، فما موقفهم من الملائكة؟

موقف اليهود من الملائكة

موقف اليهود من الملائكة يتجلى هذا في مقدم النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، لما سمع بمقدمه حبر من أحبار اليهود اسمه عبد الله بن سلام جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا محمد! إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، قال: يا ابن سلام سل عما بدا لك -والحديث في البخاري من طريق أنس بن مالك - قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما طعام أهل الجنة؟ وكيف ينزع الولد؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، قال: صدقت، قال: وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، قال: صدقت، قال: إذا اجتمع الرجل والمرأة -أي: في الجماع- فعلا ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها. قال: صدقت، وإنك لنبي، وإني لأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله -هذه شهادة حبر من أحبار اليهود- ثم قال عبد الله بن سلام: يا رسول الله! ادع اليهود فسلهم عني قبل أن تخبرهم بإسلامي، فإنك إن تخبرهم بإسلامي يبهتوني، فإنهم قوم بهت، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام اليهود وقال: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، فخرج عليهم عبد الله بن سلام من خلف الستار فقال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا، وحقيرنا وابن حقيرنا، وسبوه وتنقصوه -هكذا هم اليهود، ويهود اليوم شر من يهود الأمس- قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا ابن سلام! إن الذي سألتني عنه لم يكن لي به علم غير أن جبريل نزل علي آنفاً فأخبرني به، قال: إن الذي ينزل عليك يا رسول الله هو جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة -تصوروا أن اليهود يعادون الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، ومع هذا اتخذهم اليهود أعداء- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]). عمر رضي الله عنه كانت له أرض في عوالي المدينة عند بني النضير وبني قينقاع، وكان يذهب إليها ليباشر العمل فيها، وكان اليهود يطمعون في عمر رضي الله عنه، أي: في ردته إلى الكفر على الأقل، حتى وإن لم يدخل في دين اليهود؛ لأن اليهود من عنجهيتهم وصلفهم وغرورهم لا يريدون من أحد أن يدخل في دينهم، إنما يريدون زعزعة الإيمان، وخروج أهل الإيمان من إيمانهم ودخولهم في الكفر العام لا في اليهودية؛ لأنهم يأبون أن يدخل مسلم في دينهم. انظروا إلى هذا الصلف وهذا الغرور، يدخل في النصرانية، في الدرزية، في الديمقراطية، في الماسونية، في الشيوعية، في أي ملة من ملل الكفر، لكنه لا يدخل في ملة اليهود، هكذا يريد اليهود، وهم يحاولون بالليل والنهار إخراج الموحدين من توحيدهم ومن دينهم الحق إلى أي ملة من ملل الباطل. فلما طمع اليهود في عمر رضي الله عنه قالوا: يا عمر إنك لتعلم أنك أحب أصحاب صاحبك إلينا، قال: وبم ذاك؟ يعني: ما سر هذا الحب، فلم يعيروه جواباً. ثم قالوا: وإنا لنتبعك بشرط أن تخبرنا من ينزل على صاحبك؟ قال: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن، قال: والرحمن إن الذي ينزل عليه لجبريل، قالوا: أما علمت يا عمر أن ذاك عدونا من الملائكة؟ قال: إن الذي يعادي جبريل يعادي ميكائيل، قالوا: لا، بل ميكائيل ولينا، إنما عدونا جبريل، وهكذا فرق اليهود في إيمانهم بالملائكة على فرض أنهم قد آمنوا بميكائيل واتخذوه ولياً، وهم كذبة وغششة وخونة في مثل هذا القول كذلك، بل هم قد كفروا بجميع الملائكة لا يستثنون من ذلك واحداً، والآيات والأحاديث شاهدة على موقف اليهود. وحجتهم في ذلك: أن جبريل إنما هو رسول الغلظة والشدة والفظاظة، بخلاف ميكائيل فإنه رسول الرحمة واللطف واليسر والتبشير وعدم التنفير، هكذا يقولون، وإن شئت فقل: هكذا يصفون ملائكة الله عز وجل. وعند مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قال (دخل حبر من أحبار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا محمد، قال ثوبان: فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقام الحبر وقال: يا ثوبان لم دفعتني؟ قال: قلت: ألا تقول: السلام عليك يا رسول الله؟ قال الحبر: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله)، وهل يليق بكل أحد أن ينادى باسمه؟! أأنت تنادي أباك باسمه، أو أمك باسمها، أو الحاكم باسمه، أو القائد باسمه، أو

موقف اليهود من الكتب السماوية

موقف اليهود من الكتب السماوية أما موقفهم من الأنبياء والكتب التي أنزلت على الأنبياء فهو في غاية الخزي والعار والشنار، الله تبارك وتعالى بين أنهم يبدلون كلام الله بأيديهم ويحرفونه عن مواضعه، يأخذون الأقلام والأحبار، ويأتون بالصحف فيكتبون كلاماً من عند أنفسهم، ثم ينسبونه لله عز وجل، أي جرم هذا؟! إن الله تعالى بعد أن بين فظائع اليهود وجه الخطاب للمسلمين فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] وحتى قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] والأمنية التلاوة، كما أن الأمنية تكون بالقلب فكذلك الأمنية تكون بالتلاوة، كما في قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج:52] معنى الأمنية هنا: التلاوة، فيكون التقدير: وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله على أمته، فحينئذ يلقي الشيطان بكلام من عنده في أثناء تلاوة النبي كلام الله حتى إذا سمعه المشركون ظنوا أن كلام الشيطان هو كلام النبي، وليس الأمر كذلك، ولذلك ينسخ الله أي: يبطل الله تبارك وتعالى كلام الشيطان، ثم يحكم الله تعالى آياته التي أوحى بها إلى ذلك النبي. فلما كانوا يبدلون ويحرفون قال الله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:78 - 79] شهادة وافتراء على الله عز وجل {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:79] اللام هنا للتعليل، أي: لأجل أن يشتروا بهذا الكلام ثمناً قليلاً، وهذا يدل على نفسية اليهود المحطمة، وأنهم يسعون ويلهثون خلف المادة لهث الكلاب، حتى وإن كان ذلك على حساب الوحي، {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] أي: مما اكتسبوه من مال ومتاع قليل؛ بسبب تحريفهم وتبديلهم لكلام الله عز وجل إلى غير ذلك من الآيات التي قضت بأن الكتاب الذي أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام إنما هو الكتاب المهيمن والقاضي والمسيطر على جميع الكتب السابقة، ولذلك كان اليهود يستنجدون بالنبي عليه الصلاة والسلام على أعدائهم من المشركين والكفار، فلما عرفوه كفروا به، وهكذا أخلاق اليهود مراوغة، ومحايلة، ومداهنة، وكذب وافتراء، وإنهم والله إن ماتوا على ذلك فإنهم حطب جهنم هم لها واردون، وكذلك النصارى وسائر ملل الكفر.

موقف اليهود من الأنبياء

موقف اليهود من الأنبياء أما عن موقفهم من الأنبياء فهو لا يقل خزياً وعاراً عن موقفهم مما ذكرنا، فإنهم قالوا: إن يوسف حل معقد الإزار وجلس من المرأة ليبغي بها مقعد الرجل من امرأته، افتراء على يوسف عليه السلام، وهو الذي برأه الله تبارك وتعالى في سورة سماها باسمه وهي سورة يوسف عليه السلام، وليس هذا مجال الدفاع عن الأنبياء بالتفصيل. وكذلك قالوا: إن لوطاً شرب الخمر فسكر فقام على ابنتيه فزنا بهما، وكان من نسله -أي: ومن نتاج زناه- أن بعث الله تعالى أنبياء ومرسلين، مع أن الله تبارك وتعالى ما بعث نبياً إلا وهو حسيب في قومه، بل من أشرافهم. ثم قالوا: إن إبراهيم عليه السلام قدم سارة لطاغية مصر ليزني بها، ويأخذ منها هواه، مع أنه أخرج البخاري ومسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، قال: إني سقيم) أي: لما دعوه وحملوه على أن يشارك في أعيادهم الكفرية والشركية، قال: دعوني فإني سقيم. على تقدير ما سيكون لو أنه شارك، وهكذا أهل العربية يفهمون أن هذا من باب المجاز باعتبار ما سيكون، كما في قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه:74] ولا يأتي أحد يوم القيامة مجرماً، بل لا يجرؤ أحد أن يقدم بين يديه إجراماً يوم القيامة، ولكن الله تعالى سماه مجرماً باعتبار ما كان منه في حياته الدنيا، فهكذا قال إبراهيم عليه السلام: إني سقيم، أي: باعتبار ما سيكون لو أنه فعل ذلك. ولما دخل مصر وكان يعلم أن بها طاغية جباراً عنيداً يأخذ كل امرأة لها بعل بعد قتل زوجها، فقال لـ سارة: (إنا قادمون على جبار طاغية، وإن من شأني كيت وكيت، فإذا أخذك فقولي: إنني أخته وإنك أختي في الإسلام)، هكذا كذب إبراهيم عليه السلام، وليست في حقيقة الأمر كذبة، ولذلك إذا طلب العدو أحداً بين يديك وكان العدو ظالماً، وكان هذا المتخفي عندك مظلوماً، فيحرم عليك أن تدل العدو عليه، وإلا لكنت شريكاً في قتله وإراقة دمه، بخلاف ما لو كان هذا الطالب طالب حق، والمطلوب ظالماً ومحدثاً فالأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله تبارك وتعالى في المدينة من أحدث بها حدثاً، أو آوى بها محدثاً)، أي: آوى رجلاً محدثاًَ مبتدعاً بدعة في الاعتقاد استوجبت قتله، فطلبه السلطان ليقتله، فامتنع الناس عن تسليم هذا المحدث؛ فحينئذ تنزل عليهم لعنة الله عز وجل. من براءة إبراهيم عليه السلام: (أن الطاغية لما مد يده إلى سارة تصلبت، فقال الطاغية: ادعي الله لي أن يرد علي يدي ولا أمسك بسوء؟ فدعت، فرجع إلى ما كان آنفاً، ثم قال لها: ادعي الله لي أن يعافيني ولا أصيبك بسوء، فدعت، فعاد الثالثة ثم أعطاها الوعد فصدق، فانصرفت وأعطاها هاجر تخدمها، فلما قدمت على إبراهيم قال: مهيم؟! أي: ما خبرك مع هذا الطاغية؟ قالت: عافني الله تعالى من شره وأخدمنا خادمة)، أما اليهود فيقولون: إن إبراهيم قدم سارة لهذا الطاغية. وفي المقابل نجد الملاحدة الذي يتكلمون بألسنتنا ويدينون بديننا في الظاهر يقولون: إن هذا الحديث لا يمكن قط أن يتفق مع العقل، وإن رواه البخاري ومسلم. حتى قال لي أحدهم: والله لو أن هذا الحديث ورد في كتاب الله لكفرنا به! نعم، الوقت يسمح لكل جبار وطاغية وعنيد وملحد وزنديق أن يأتي بإلحاده وزندقته، فلا حارس ولا راعي لهذا الدين العظيم، ولذلك كل من تكلم بكفر الآن يعلم أنه في مأمن من السيف، لكنه ليس في مأمن من قعر جهنم، فليقل ما شاء والموعد الله، هذا دين الله عز وجل، وإن تقاعس الخلق أجمعون عن نصرته فإن الله تعالى جدير وخليق وأهل لأن يحمي دينه، فلا أقل من أن نعتقد ما اعتقده ذلك المشرك عبد المطلب لما قال: أما البيت فله رب يحميه. أما هذا الإلحاد الذي يخرج علينا في كل يوم وفي كل ليلة أقسم بالله أنه ظاهرة صحية؛ لأن كثيراً من الناس يتأذى بذلك، لا والله بل هذا مهم لتمييز الحق من الباطل، وتمييز أهل الإيمان من أهل الجحود النكران والكفران، هذا تمييز للصف {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح:25]، فالتزيل والتميز أمر مطلوب جداً حتى ينقى الصف، وإلا لو اختلط الحابل بالنابل لم نعرفهم. لو أن كل امرأة الآن لبست النقاب لاختلطت علينا المؤمنة بالكافرة، والملحدة والعاصية التي لم تلبسه عن قناعة وذل وخضوع، وامتثال لأمر الله عز وجل، ولكن الآن نستطيع أن نفرق بين الحرة العفيفة المؤمنة وبين غيرها، فاللباس مظهر للتميز، فهذه ظاهرة صحية والله وليست ظاهرة مرضية، حتى لا يتأذى بها كثير من الناس، وانظروا إلى مصداق كلامي في الحديث الصحيح: (أتى خباب بن الأرت رضي الله عنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو مسند ظهره إلى الكعبة، فقال: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا، فإنه ق

صفات من يقاتلون اليهود وغيرهم من الكفار

صفات من يقاتلون اليهود وغيرهم من الكفار الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإذا كان الحل مع اليهود هو الجهاد أو القتال فلا بد أن نطرح سؤالاً: من الذي يقاتل؟ ومن الذي يدافع؟ ومَن مِن المسلمين اليوم صاحب رسالة، يعلم حقيقة الأمر، ويعلم ألاعيب اليهود والنصارى؟ والعجيب أننا نتكلم كثيراً عن اليهود وندع النصارى وكأنهم أحباب لنا! أنسيتم الحروب الصليبية؟ أنسيتم التخطيط والغدر، والخداع، والمكر، والإعداد على أعلى مستوى إلى يومنا هذا في هذا البلد وفي غيره؟ أنسيتم هذا؟ كل من لم يكن مسلماًً فهو عدو يجب على كل مسلم أن يتخلص منه ليكون الدين لله، ولذلك لا بد أن نقرر أن المسلمين اليوم عبارة عن موقوذة، ومتردية، ونطيحة، وقلّ منهم من يصلح أكلاً لسبع، إلا من رحم الله عز وجل، فهل نقاتل بهذا الشباب المتسكع في الطرقات والنوادي؟ هل نقاتل بشباب وفتيات الجامعات أو حتى الثانوية؟ إن البغاء والسكر والخمر والمعاكسات قد ظهرت في أطفال الابتدائية، فبأي شيء نقاتل؟ وبمن نقاتل؟ لا بد أن تتربى الأمة من جديد على شريعة الرحمن تبارك وتعالى عقيدة، وعلماً، وعملاًَ، وعبادة، حتى يأتينا أجيال تعلم الإسلام، وتعلم الإيمان قولاً وعملاًَ وتتمثل دين الله، فيمشون على الأرض كأنهم قرآن أو أنبياء، هذه الأجيال التي ينتظر على أيديها النصر والفوز، أما نحن فلا خير فينا إلا ما ندر. إذا خرج في المسلمين اثنا عشر ألفاً ماذا ستكون النتائج؟ ربما تعترضني وتقول: المسلمون ملايين. لكن أنا لا أفرح بهذه الملايين، إنما تكلم النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا العدد وأخبر أنهم لا يغلبون من قلة، الواحد منهم بأمة، والأمة الآن لا تساوي واحداً منهم، كان سلمه بن الأكوع مثلاً يسرع خلف العدو، فكان إذا ضرب واحداً على قفاه خر ميتاً، وكان يدخل في جيش العدو وحده فيهزمهم، هذا وأمثاله هم الذين عناهم النبي عليه الصلاة والسلام! هذه الأحاديث ليست لنا ولسنا أهلاً لها، ولا أهلاً للنصر، أتظنون أن الله تعالى يخلف وعده؟ إن الله تعالى قال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] فلما تأخر النصر علمنا أننا لم ننصر الله تبارك وتعالى، هذه سنن كونية ربانية لا تتخلف قط. اليهود أجبن الناس عن المواجهة والقتال ولكنهم يتجرءون؛ لأنهم يعلمون أننا أبعد الناس عن الإيمان، وعن الحقيقة التي أنيطت بنا، ولذلك قال طالب فلسطيني لهذا الهالك موشى ديان لما كان يتجول يوماً في كل شهر يسلم على أطفال المدارس، كان يذهب هذا الهالك المصري اليهودي الذي تربى وترعرع في أرض مصر، ثم أخذ رئاسة وزراء اليهود هناك، ثم حارب الإسلام في كل بقعه من بقاع الأرض، لما أراد أن يسلم على طالب مسلم موحد، قال ذاك الطالب: لا أضع يدي في يدك أيها المحارب الكافر، وإنا إن شاء الله لنا الغلبة عليكم. فضحك موشى ديان مستهزئاً وهو يقول: نعم. إذا تمسكتم بتراثكم وتخلينا عن تراثنا حينئذ تغلبوننا؛ لأنه يفهم القضية، ولم يترأس اليهود على طول تاريخهم إلا رئيس وزراء يعلم القضية، وصاحب عقيدة يعمل لأجلها. اليهود يعلمون أنهم قوم أذلاء، ولذلك {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] تنكير (حياة) يدل على قبول عموم الحياة: حياة الذل، والهوان، والكرامة، والسعادة، والشقاء، يقبلون أي حياة، فما بالهم الآن لا يقبلون إلا حياة العزة، والأبهة، والسطوة، والشرف، والسيادة؟ وما بالنا كذلك لا نقبل هذا الشرف وهذه السيادة والريادة التي فرضها الله عز وجل علينا؟

موقف اليهود من خوض الحروب

موقف اليهود من خوض الحروب أما عن الحرب مع اليهود، فلو كان اليهود أهل حرب لحاربوا مع موسى عليه السلام لما أمرهم أن يدخلوا الشام قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] بل قالوا أولاً: {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22] لو أن الكفار خرجوا منها دخلناها، أما أن توقع بيننا وبين هؤلاء الكفار في حرب ضروس يعلم أولها ولا يعلم آخرها فلا! اذهب أنت أولاً وربك الذي تزعم أنه القوي العزيز المكين فحارب هؤلاء وأخرجهم؛ فإن خرجوا منها فإنا داخلون. والله تبارك وتعالى بين نفسية اليهود في القتال وأنهم جبناء فقال: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]؛ لأنهم جبناء. استشعر طفلاً من أطفال المسلمين يأخذ حجراً ويجري به خلف كلب من كلاب اليهود في أرض فلسطين الحبيبة وهو مدجج بالسلاح، ومع هذا تجد اليهودي يعدو أمام طفل سلاحه حجارة! ليدلك هذا على جبن وهلع اليهود عند اللقاء؛ فإنهم ليسوا صُبراً، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى لهم في كتابه في سورة البقرة مثلاً عظيماً جداً فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} [البقرة:246] أي: فلما فرض عليهم القتال تولوا وأدبروا وأعرضوا عن القتال؛ لأنهم ليسوا كفئاً ولا أهلاً له {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]. يقول وهب بن منبه وغيره: لا زال بنو إسرائيل على طاعة وعبادة بعد موت موسى بزمن طويل حتى أحدثوا ما أحدثوه، وابتدعوا ما ابتدعوه، فقامت بينهم وبين الكفار مقاتل عظيمه فسبوا ذراريهم، وأخذوا أزواجهم وأولادهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وما كان اليهود من قبل يدخلون في حرب إلا انتصروا، فسلط الله تبارك وتعالى عليهم لما بدلوا وحرفوا هؤلاء الطواغيت، حتى أخذوا منهم أعز ما لديهم، أخذوا تابوتاً فيه التوراة، وفيه رُضاض الألواح، وفيه نعل موسى وهارون، وعصا موسى. تابوت عظيم كانت توضع فيه مآثر وتراث اليهود، لما قامت المقتلة بين بني إسرائيل وبين هذا العدو أخذوا منهم كل شيء حتى تراثهم. فلما بعث الله تبارك وتعالى فيهم شمعون أو شمويل أتوا إليه وقالوا: اجعل لنا ملكاً نقاتل حتى نسترد ما فقدناه، انظروا إلى قوله: ((أَلَمْ تَرَ)) كأنه أمر مشهود وواقع، فانظر إليه بعينيك يا محمد، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا} [البقرة:246] يعني: أميراً يقاتلون معه {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ} [البقرة:246] يستوثق منهم، وهكذا ينبغي للقائد أن يستوثق من الحماس، وأنه صدق، أما الحماس وحده فلا يكفي، الحماس يبدأ بسقوط ثم يتبعه سقوط ثم سقوط ثم سقوط، ثم مآل الأمر إلى الهاوية، ولذلك لا بد من وضع الحماس على محك التجربة قبل خوض المعركة. قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] أيضاً يحددون الهدف والغرض من القتال، وأنه أشرف قتال، بل لا يقبل قتال عند الله إلا إذا كان في سبيله. {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} [البقرة:246]، وهذا هو السقوط الأول. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]. قال: (إن الله) ولم يقل: إني اصطفيت عليكم طالوت، فالله هو الذي بعث لكم طالوت ملكاً، وهذا هو السقوط الثاني {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة:247] كان يعمل سقاءً أو دباغاً كيف يكون ملكاً علينا؟ كيف تعين هذا ملكاً علينا؟ ليس هو من سبط الأنبياء، ولا من سبط الملوك، وإنما هو من رعاع الناس، فكيف تعينه علينا ملكاً؟ {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] يعني: لا هو من سبط الأغنياء سبط يهودا، ولا من سبط الملوك، ولا من سب

خطبة الوداع

خطبة الوداع لقد أرسل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ومبشراً ونذيراً، فجاهد في الله حق جهاده، وصبر حتى أعز الله دينه ودخل الناس فيه أفواجاً، ودخلت مكة في دين الله، فاجتمع الناس معه صلى الله عليه وسلم في موسم الحج في مشهد ليس له نظير، فخطب صلى الله عليه وسلم بين الجموع المحتشدة خطبة الوداع، وبلغ الله القاصي والداني تلك الخطبة التي تحتوي على حرمات وحقوق وواجبات في الشرع، تكفي لتنظيم حياة الناس.

فضل خطبة حجة الوداع ومكانتها وبيان ما فيها من الأحكام العظيمة

فضل خطبة حجة الوداع ومكانتها وبيان ما فيها من الأحكام العظيمة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ففي مثل هذا اليوم، وبعد أسبوعين من العام الهجري الذي صعد فيه النبي صلى الله عليه وسلم منبر مسجد نمرة؛ ليعظ أمته موعظة بليغة، ويدلها على الطريق المستقيم في آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم؛ ليحدد في هذه الخطبة العصماء معالم هذه الأمة، وأمارات هذه الشريعة، فقال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم من حديث جابر: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، فإنه موضوع كله، والربا موضوع، وإن أول رباً أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، ألا فاستوصوا بالنساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح). ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله، وإنكم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته إلى السماء ينكتها إلى الناس، وهو يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد). انتهت خطبته عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أوتي جوامع الكلم، وجوامع الكلم: هي قلة في المباني وكثرة في المعاني، ولعمري إن هذه الخطبة لتصلح أن تكون ديناً كاملاً ينزل من السماء لا يحتاج الناس في حياتهم ولا معادهم إلى غير هذه الخطبة. ولا غرو حين قال الشافعي رحمه الله في حق سورة العصر: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكفتهم. أي: لكفت المسلمين، وكذلك لو لم يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الخطبة لكفت. فالنبي عليه الصلاة والسلام قاس ما يمكن أن يكون مجهولاً لدى البعض على ما كان معلوماً يقيناً لدى الكل؛ ولذلك سألهم في فتح مكة: (في أي بلد أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. في أي يوم أنتم؟ الله ورسوله أعلم). أدب بين يدي المعلم، ونسبة العلم إلى الله ورسوله ما دام حياً، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا سأل الصحابة عن شيء ردوا العلم إلى الله ورسوله، وهو الذي سأل معاذاً: (أتدري ما حق الله على العبيد؟ قال: الله ورسوله أعلم). ومعاذ يقيناً يعرف ذلك، ولكنه الأدب بين يدي المعلم. فقال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)، فلما كان أمراً معلوماً لديهم ويقيناً أن البلد حرام، وأن الشهر حرام، وأن اليوم حرام قاس عليه ما يمكن أن يجهله بعض السامعين، قال: وكذلك دماؤكم وأموالكم حرام عليكم كما أنكم تعلمون حرمة هذا اليوم، وحرمة هذا الشهر، وحرمة هذا البلد، صلى الله على نبينا محمد.

حرمة الدماء والأموال في الإسلام

حرمة الدماء والأموال في الإسلام إذا تكلمنا عن حرمة الدماء فإننا نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما يقضى بين الناس في الدماء)، هذا القضاء العام بين الخلائق. وهناك قضاء خاص فيما يتعلق بالعبد مع ربه: (إن أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة صلاته، فإن صحت صح ما بعدها، وإن فسدت فسد ما بعدها) ولا تعارض بين الحديثين. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات) فذكر من هذه السبع المهلكات: (قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق). فقتل النفس حرام بالكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق). وراوي هذا الحديث عبد الله بن عمر يفهم هذا جيداً، ويقول: إن من فظائع الأمور التي إذا دخل فيها العبد ربما لا يجد منها مخرجاً قتل امرئ بغير حق. وقال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). كأن النبي عليه الصلاة والسلام يضيق الحلقة جداً على إنسان سولت له نفسه أن يقتل إنساناً بغير حق؛ ولذلك كلمة الإسلام تعصم المرء في دمه وماله إلا بحقها. والحق جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة). وقال عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه). أي: من بدل دين الإسلام؛ لأنه الدين الحق، وهذا بخلاف ما قد فهم بعض أهل العلم، ونطق بذلك، بل وصدر بذلك في بعض الرسائل. قال: (من بدل دينه) أياً كان دينه، هكذا قال. وهذا ضلال مبين؛ لأن العالم أجمع مطالبٌ أن يتخلى عن ديانته وعن شريعته، ويدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته. وما ينبغي لموسى لو كان حياً إلا أن يكون تابعاً لنبينا عليه الصلاة والسلام. والأنبياء جميعاً أتوا برسالة الإسلام والإيمان والتوحيد. الدماء فظيعة يقبل عليها الناس بكل استهتار، فنرى في كل يوم وليلة فلاناً قتل أباه، وزوجة قتلت زوجها، وزوجاً قتل ابنه أو ابنته أو زوجته، وكأن الدماء ما أرخصها! وهي غالية، وأيما غلاء لهذه الدماء التي صانها الله عز وجل من فوق سبع سماوات، حتى دماء المعاهدين من الكفار ما داموا قد التزموا بالعهد والميثاق، كما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) أي: لا يشم رائحة الجنة، كما يحرم على الإنسان أن يقتل نفسه، ولا يجوز أن يقول: هذا بدني وهذه نفسي، وأنا فيها حر، بل أنت عبد لله تعالى لا تصدر إلا عن قال الله وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فسمه في يده يتجرعه يوم القيامة خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً). وهكذا يحرم على المرء أن يصيب نفسه بأذى، وأنت مسئول عن بدنك هذا فيما عملت فيه. لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن هذا السؤال، وحتى يجيب بإجابة مرضية مبنية على أصول الشريعة الغراء، هذه الدماء تراق في الداخل والخارج، دماء المسلمين ما أرخصها هنا وهناك؛ وذلك لأن المسلمين تخلوا عن دينهم، فكان لابد أن يتسلط عليهم أبناء القردة والخنازير من هنا ومن هناك سلباً وأسراً وتقتيلاً وبقراً للبطون، وإراقة لدماء الأطفال والنساء والأبرياء والمدنيين؛ لأنهم تخلوا عن دينهم، ولو استمسكوا به وأرسلوا رسالة إلى زعماء العالم: نحن قادمون، لانتحروا في بيوتهم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر). وصدق الخلفاء رحمهم الله، فقد كانوا يرسلون الرسائل إلى هذا وذاك، ويقولون: الجواب ما ترون لا ما تسمعون، وسأرسل إليكم جيشاً أوله عندكم وآخره عندي. هذه مواقف العزة إذ كان يستمسك بها الولاة والأمراء والخلفاء، فما بال المسلمين اليوم في الحضيض وفي الذل والهوان؟! السبب في ذلك هو ترك الكتاب، وترك العمل بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أن المسلمين رجعوا إلى دينهم، ورفعوا راية الجهاد، وتركوا البيع بالعينة، ولم يتبعوا أذناب البقر إلا رجع إليهم دينهم، ورجعت إليهم عزتهم، إنا لله وإنا إليه راجعون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) هذا المال إن تكسبته من حرام فهو حرام، وإن تكسبته من حلال وأنفقته في حرام فهو حرام، وإن تكسبته من حلال وأنفقته في حرام فهو حرام، وكل أموالك حرام إلا ما اكتسبته من حلال، وأنفقته في حلال، وأنت مسئول عن مالك من أين ا

وضع كل أمور الجاهلية وتركها دلالة على عزة الإسلام وتمكينه

وضع كل أمور الجاهلية وتركها دلالة على عزة الإسلام وتمكينه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع). وانظروا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (تحت قدمي موضوع) أي: باطل مردود لا يحل لصاحبه أن يطالب به بعد الإسلام. وقوله: (تحت قدمي) يدل على العزة، ويدل على السؤدد والرئاسة، ويدل على النصرة والتأييد من الله عز وجل لنبيه ورسوله. وانظروا إلى التوقيت الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام قوله هذا، إنه في العام التاسع الهجري، وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً من تاريخ الدعوة المحمدية، وبعد بناء دولة الإسلام، وكثرة أتباع محمد عليه الصلاة والسلام. قال ذلك من منطلق القوة والعزة، ولم يقل ذلك في أول العهد المكي؛ لأن الوقت غير مناسب، والبلد غير مناسبة، لكنه قال ذلك في مكة بعد فتحها، والرجوع إليها مرة أخرى للحج في العام التاسع، وفي هذا الموقف الرهيب الذي شهده (114000) من المسلمين يعلن هذا صراحة: أن أخلاق الجاهلية موضوعة، وأن عادات الجاهلية موضوعة، وأن آداب الجاهلية ما دامت ليست موافقة لآداب وأخلاق الإسلام فإنها موضوعة كلها؛ ولذلك أخرج أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية -أي: أخلاق الجاهلية وآداب الجاهلية- وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي). الناس قسمان: مؤمن تقي، وفاجر شقي: (وليدعن أقوام فخرهم بآبائهم؛ إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها). فهذا أمر مردود وباطل أن يتخلق بعض المسلمين ببعض أخلاق الجاهلية؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من ضلل أعمى عن الطريق) أي: أن ذلك من أفعال الجاهلية. وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها) أي: أفسدها على زوجها؛ لتتحول إليه. ليس منا هذا الخلق، إنما هذا من أخلاق الجاهلية، وآدابها وأعرافها، فلابد من التخلص تماماً من أخلاق الجاهلية؛ ولذلك بوب البخاري عليه رحمة الله في كتاب الإيمان قال: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ثم ذكر تحت هذا الباب: حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه حين عير بلالاً وقال له: (يا ابن السوداء! فلما رفع الأمر إليه عليه الصلاة والسلام قال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية. قال: يا رسول الله! أو على ساعتي هذه؟ - أي: بعد هذه المدة الطويلة في الإيمان والإسلام-؟ قال: نعم) فقوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) أي: فيك خلق من أخلاق الجاهلية. وهذا لا يعني: الكفر والخروج من الملة، إنما هو الاتصاف بصفات أهل الجاهلية، والتخلق بأخلاق أهل الجاهلية وغير ذلك مما قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: ليس منا، ليس منا، ليس منا، كلها أخلاق الجاهلية، ويجب الحذر منها. قال عليه الصلاة والسلام: (أربع من أمر الجاهلية في أمتي لا يدعونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وإن المرأة النائحة إذا لم تتب قبل يوم القيامة أتت وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب) وغير ذلك من أخلاق الجاهلية. قال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] قال عطاء وقتادة: تبرج الجاهلية الأولى: أن المرأة كانت تضرب بخمارها على رأسها، وتغطي بدنها، ولكنها تخرج إلى الشوارع والطرقات فتزاحم الرجال، ولعمري إن هذا هو النقاب الآن، وهذا هو الالتزام الآن، هذا كان من أخلاق الجاهلية، وتبرج الجاهلية. قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. أعظم الجاهلية ترك الكتاب والسنة، والعمل بالقوانين الوضعية والحكم بها والتحاكم إليها، كل ذلك من أخلاق الجاهلية.

بدء النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وأهله في تنفيذ أحكام الله تعالى لتحقيق الأسوة

بدء النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وأهله في تنفيذ أحكام الله تعالى لتحقيق الأسوة قال: (ودماء الجاهلية موضوعة)، وبدأ بنفسه عليه الصلاة والسلام؛ ليحقق القدوة والأسوة، لأنه القائل - كما في مسلم -: (أما لكم في أسوة). وعند أحمد: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من اقتدى بي فإنه مني) أي: من هديي وسنتي وطريقتي. قال عليه الصلاة والسلام: (وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث) وهو إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقصته: أنه كان طفلاً رضيعاً، وعلى عادة العرب حملته قريش إلى بني سعد ليرضع هناك، فإذا أتم مدة الرضاعة رجع إلى قومه وأهله، فقتلته هذيل، فقامت قريش بأسرها تطالب بدم هذا الطفل الرضيع قتل قبيلة هذيل بأسرها، فهل هذا دين؟ وهل هذه أخلاق؟ رجل أو طفل أو امرأة قتل على سبيل الخطأ ليس له إلا الدية، وديته على العاقلة، وليست على القاتل؛ لأنه قتله على سبيل الخطأ. وهكذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجو الملبد بالمعاصي والأعراق البالية، وقد قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فوجد حروباً بين الأوس والخزرج؛ بسبب ناقة نزلت أرض الغير فأكلت منها، فقامت بين القبيلتين حروب طاحنة على مدار أربعين عاماً، ربما ذهب فيها العشرات، أو المئات، أو الألوف. وفي الصحيح: (أن رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! واصطف الفريقان للقتال، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ومشى بين المهاجرين والأنصار، ثم قال: دعوها فإنها منتنة). أي: هذه الدعوة دعوة الجاهلية دعوها فإنها منتنة، فقد كان الناس يجتمعون للقتال بسبب ناقة، ولا يدري الناس الذين اجتمعوا لماذا الحرب، وعلى ماذا الحرب والقتال وإراقة الدماء؟ فكانوا في الجاهلية يقولون بظاهر النص: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). فلما جاء الإسلام بين النبي عليه الصلاة والسلام أن نصر الظالم كفه عن الظلم، نعم هذا هو الدين الذي نزل من السماء دين الحق والعدل، دين المحبة والسلام؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]. ومع أنه موت، وإراقة للدماء، وإقامة للحدود؛ لكن من قتل يقتل دون سواه، ولا تزال بعض الأعراف الفاسدة قائمة في بلاد الإسلام، خاصة في صعيد مصر، أن من قتل واحداً من قبيلة أخرى أو من عائلة أخرى يطالبون بأغلى الدماء في عائلة القاتل، ولا يطالبون بقتل القاتل، فيختارون ويمتازون من أسرة القاتل أفضل الناس، فهل هذا دين؟ وهل هذا عدل؟ ومنهم من يقول: قتيلي بعشرة، قتيلي بمائة، قتيلي بألف، وهذه الكلمات محفوظات ومسموعات في الصعيد وغيره، وهذا كله تحاكم إلى أخلاق الجاهلية، وعادات الجاهلية. فاحذروا أيها الإخوان! بارك الله فيكم. ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن كل رباً موضوع، وإن أول رباً أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب). فانظروا كيف يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أولاً قبل أن يقول الناس: لم حرم علينا كذا، وأحل لأهله وأحل لقومه وعشيرته وقبيلته؟ فالأسوة أن يبدأ المرء بنفسه. والقدوة أن يدعو الإنسان الناس بعمله، لا بقوله فحسب، فلابد أن يرى الناس منك الخير والصلاح والاقتداء والأسوة. فيا معشر الطلاب! ويا معشر الدعاة إلى الله! ويا معشر طلاب العلم! ادعوا الناس بأعمالكم وأخلاقكم، فإنكم لا تدعونهم بأموالكم ولا بألسنتكم، إنما تدعونهم بأعمالكم، فلأن تدعو الناس بعملك خير بألف مرة من أن تدعوهم بقولك، وتخالفهم بعملك. ولذلك في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى، ويجتمع عليه الناس فيقولون: يا فلان! ما بالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). وقال عليه الصلاة والسلام: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة). ولو سكت النبي عند هذا القول لقلنا: إن هؤلاء هم أصحاب الكبائر الموبقات المهلكات، ولكن المفاجأة أن النبي عليه الصلاة والسلام يحذر ثلاث فئات من الخلق أنهم أعظم الناس على الإطلاق، فقال عليه الصلاة والسلام: (العالم، والمجاهد، والجواد) ثم بين سر ذلك في بقية الحديث: أن العالم تعلم العلم لغير الله، ودعا الناس ليقال: عالم، وهذا جاهد ليقال: مجاهد، وذاك أنفق ليقال: جواد (فيسحبون على وجوههم) سبحانك ربي! رأينا السحب على الظهر والبطن والجنب، أما الوجه فما رأيناه!. (فيسحبون على وجوههم حتى يلقوا جميعاً في النار)، فيكونون وقودها لأول وهلة. فيا أيها الإخوان! عل

وصية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بالنساء

وصية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بالنساء الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله). قال النووي: الراجح في (كلمة الله) قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]. وقال غيره: (كلمة الله) هي الإيجاب والقبول. وقال غيرهم: (كلمة الله) هي الإسلام والتوحيد؛ لأنه لا يحل لكافر أن يتزوج مسلمة؛ كما لا يحل لمسلمة أن تقبل الزواج من كافر خلافاً لمن فقد عقله في هذا الزمان، وأجاز أن يتزوج الكافر بالمسلمة في بلاد أمريكا وأوروبا، هذا إنسان قد فقد عقله تماماً، وقد تواترت عنه النقول في مخالفات في أصل الاعتقاد، وفي أصل الأحكام التي أجمع عليها العلماء. فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال: (فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه). يفهم بعض الناس أنه لا يحل للزوجة أن تدخل رجلاً أجنبياً، ويستندون إلى هذا الحديث، وهذا لعمري فهم خاطئ للنص، وإنما لا يجوز للمرأة أن تدخل بيتها أحداً من محارمها رجلاً كان أو امرأة، ما دامت تعلم أن زوجها يكرهه ويبغضه، وما دامت تعلم المرأة أن الزوج لم يأذن بذلك، لا إذناً صريحاً، ولا إذناً ضمنياً، فذلك لا يحل لامرأة أن تدخل في بيتها رجلاً من أهلها، ولا امرأة من أهلها ما دامت تعلم أن في نفس زوجها منه شيئاً، أو غلب على ظنها، فيحرم عليها دخول أحد من محارمها والحالة هذه. ولا يجوز لكل زوج أن يضيق الخناق على امرأته، وأن يمنعها من صلة أرحامها ومن دخول محارمها، بل ينبغي أن يعقد حبه وبغضه في الله عز وجل، فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، كل أقوالك وأعمالك صادرة عن الله عز وجل، وعن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]. إن كثيراً من الشباب إذا تزوج بعد الزواج بأسبوع أو أسبوعين، وربما في ليلة الزفاف يصدر قراراً لامرأته لا يقبل النقاش، وهو ألا تدخل أحداً من أهلها، وألا يأتيها أحد من أهلها، إنا لله وإنا إليه راجعون. هذه أخلاق يقيناً لم تكن موجودة في الجاهلية، فما بال الشباب قد تخلقوا بأخلاق هي من أسافل الأخلاق وأردئها؟! ما بالهم قد فعلوا ذلك؟! ألا يحكمهم دين؟! ألا يحكمهم شرع؟! إنا لله وإنا إليه راجعون. فلا يحل لرجل أن يمنع دخول محارم الزوجة في بيته خاصة في غيابه، إلا إذا خشي الفتنة على امرأته، أو على أولاده، وعرف من هؤلاء المحارم فجورهم، وتعديهم لشرب الخمر والقتل والاستهتار بالشرع وغير ذلك؛ حينئذ من حق الرجل أن يحافظ على امرأته، وأن يحافظ على أولاده، ويمنعهم من دخول البيت، ولو كان هذا الممنوع أبا الزوجة أو أخاها أو حتى ابنها من زوج آخر. واجب عليه أن يحافظ على بيته، ولا يحل له أن يمنع صلة الأرحام إلا إذا كان الأمر على هذا النحو، أما دون ذلك فتعدٍ لا يصح، بل يأثم به؛ لأنه من أعظم الإفساد في الأرض كما قال الله عز وجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، ولهن عليكم طعامهن، وكسوتهن بالمعروف). دخل معاوية بن حيدة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها مما تلبس، ولا تضرب الوجه ولا تقبح) أي: لا تقل: هذا الوجه وجه قبيح، أو وجهكِ قبيح، أو قبحك الله أو غير ذلك. هذا ممتنع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، وفي رواية: (على صورة الرحمن). فكما أن لآدم صورة فكذلك الله تعالى له صورة، وكما أن لله صورة، فإن آدم له صورة، وبينهما من الفروق ما بين الخالق والمخلوق. إنما المماثلة في اسم الصورة فقط، فالله له صورة، وآدم له صورة، وهذا المضروب على صورة آدم، فمن ضرب أخاه على وجهه فكأنما ضرب أباه آدم. هذا بعض حقوق الزوجة؛ ولذلك أمر الله عز وجل بتبادل العشرة، فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] أي: عرفاً، هذه امرأة غنية، وهذه امرأة فقيرة، فهذه لها من الحقوق ما تعارف عليها أهلها ووسطها، وكذلك الجانب الآخر. إذاً: حقوق المرأة لا ينبغي لأحد أن يخرمها، ولا ينبغي لزوج أن يبخل أو أن يضن بمال الله إذا كان في سعة على زوجته وأولاده، إذا وسع الله عليك فوسع على عيالك، وإذا ضاقت الأمور شيئاً فعش على قدر ما معك، وإياك والحرام، فلأن تأكل م

وصية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بالتمسك بالكتاب والسنة وإشهاده بتبليغ رسالة ربه

وصية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بالتمسك بالكتاب والسنة وإشهاده بتبليغ رسالة ربه تأتي النصيحة الجامعة: (وإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله). وانظروا إلى قوله: (ما إن) أي: إذا تمسكتم به لن تضلوا أبداً، فمفهوم المخالفة أنه إذا لم يتمسك بهذا الكتاب لابد أن يقع الضلال، وتقع الحيرة في شرق الأرض وغربها، ولابد أن تكون نعال الأسافل فوق هامات الأماجد، هذه نتيجة طبيعية يراها كل ذي عينين، وواقع الأمة لا يخفى على أحد. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (كتاب الله هو حبله المتين، طرفه بيد الله، والطرف الآخر بأيديكم فتمسكوا به). وقال في رواية عند مالك: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض). والنبي عليه الصلاة والسلام يشير في نهاية هذه الوصية الجامعة بقوله: (وإنكم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: يا رسول الله! نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فأشار بسبابته إلى السماء -حيث الله تعالى- ينكتها إلى الناس في الأرض وهو يقول ثلاثاً: اللهم اشهد). أخرج البخاري في صحيحه: (أنه يجاء بنوح يوم القيامة بين يدي الله عز وجل فيقول الله: يا نوح! هل بلغت؟ فيقول: نعم. يا رب! ويؤتى بأمته: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا، يا رب! ما جاءنا من بشير وما جاءنا من نذير) هذه أخلاق اليهود، يقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولا أعني بذلك: أن أتباع نوح هم يهود، فاليهود لا يعرفون إلا بعد موسى عليه السلام، ولكن هذه هي الأخلاق المعروفة عن المكذبين حتى بين يدي الله عز وجل، يوم يطمس على الأفواه، وتنطق الجوارح، ويكون لكل إنسان من نفسه شاهد. قال: (هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا. يا رب! ما جاءنا من بشير وما جاءنا من نذير، فيقول الله عز وجل لنوح: من يشهد معك؟ فيقول: محمد وأمته). فنحن أمة الوسط وأمة العدل وأمة الشهادة. قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. هذا مصداق الشهادة يوم القيامة لجميع الأنبياء والمرسلين أنهم قد بلغوا وأدوا الأمانة ونصحوا أممهم، حتى تقوم الحجة على جميع الخلائق بشهادة أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وبشهادة الحبيب عليه الصلاة والسلام. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا، وصلى الله على نبينا محمد.

سلوك المسلم في البيع والشراء

سلوك المسلم في البيع والشراء يجب على التجار ومرتادي الأسواق تعلم أحكام البيع والشراء، فكثير من المخالفات إنما تقع عن الجهل بأحكام الشرع فيها، وقد كان الخلفاء يلزمون الناس بتعلم الأحكام المتعلقة بالبيع والشراء كشرط لدخولهم الأسواق، وقد جاء الإسلام بجملة من الآداب والمنهيات في هذا الباب، والتي تحفظ المصلحة العامة، وتبعد الإنسان عن الوقوع في الغرر أو الغبن أو الربا من حيث لا يشعر.

أهمية تعلم فقه البيع والشراء

أهمية تعلم فقه البيع والشراء إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. حياة المسلم كلها ينبغي أن تكون مليئة بمظاهر العبودية لله عز وجل، فالعبد لا يكون عبداً إلا إذا سلم لله عز وجل في أمره ونهيه، في حضره وسفره، في حله وترحاله، لا بد أن يكون عمل العبد وقوله ومسلكه ومخبره ومظهره عنواناً للعبودية التامة لله عز وجل، وقد ظن بعض الناس -وإن شئت فقل: أكثر الناس- أن دين الله عز وجل إنما هو صلاة وصيام وزكاة وحج وكفى، ولذلك إذا لمت أحدهم على خطيئة وقع فيها أو معصية ارتكبها قال: أنا والحمد لله أزكي وأصوم وأحج كل عام، ظناً منه أن هذا هو دين الله عز وجل وحسب، وليس الأمر كذلك، بل كل ما يمكن أن يمر به المسلم في يومه وليله وفي عمره كله ينبغي أن يكون محكوماً ومضبوطاً بضوابط الشرع أمراً ونهياً، إتياناً وتركاً، قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وهذه آيات عامة مطلقة تحكم حياة المسلم. أقواله وأفعاله، سلوكياته وأخلاقه في كل وقت وحين. هناك باب عظيم من أبواب العلم هجره الناس، وبالتالي وقعوا في المأثم والمغرم؛ لأنهم تصوروا أن الأصل في البيع والشراء الحِل على كل حال، وليس الأمر كذلك، فقد أتانا الشرع ببيوع كثيرة محرمة يقع فيها الناس، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدخل السوق، فإذا وجد بائعاً لا يفقه كيف يبيع ويشتري علاه بالدرة، وقال له: تعلم. من لم يتعلم ذلك الفقه وقع في الربا شاء أما أبى. وهكذا كان يفعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وغير واحد من مسئولي الأمة في صدرها الأول كانوا يفعلون ذلك مع الباعة والمشترين في الأسواق، كانوا يحملونهم على أن يتعلموا كيف يبيعون وكيف يشترون، وهذا باب من أبواب العلم الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) صحيح من حديث أنس. وقال عليه الصلاة والسلام من حديث النعمان بن بشير في الصحيحين وغيرهما: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات). وكثيراً ما تقع الشبه في البيع والشراء، فلا يدري البائع كيف يبيع، ولا كيف يشتري المشتري، وبالتالي يدخل المرء السوق فيقع في المأثم ويخرج بالمغرم، وهو يظن أنه قد باع واشترى، وهو في حقيقة الأمر ليس عند الله كذلك، بل دخل ليتحمل من الآثام والأوزار ما الله تعالى به عليم، ولذلك جعل الله تبارك وتعالى للبيع والشراء آداباً، وأحكاماً، وأخلاقاً.

دلالة الكتاب والسنة والإجماع على حل البيع وتحريم الربا

دلالة الكتاب والسنة والإجماع على حل البيع وتحريم الربا البيع حلال بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] رداً على اليهود الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] نفس الصورة التي يتم بها عقد البيع يتم بها عقد الربا، ولكن الله تعالى أحل هذا وحرم ذاك، بل ومحق الربا، وربّى ونمّى البيع، {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] يربيها وينميها كما ينمي أحدكم فلوه -المهر الصغير-، يربيه حتى يكون حصاناً كبيراً يصلح لنقل البضائع والأمتعة. البيع والربا وإن كانا متحدين في الصورة إلا أنهما مختلفان في الحقيقة والجوهر، كما أنهما يختلفان في الحكم الشرعي: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والرضا شرط في صحة البيع بين البائع والمشتري، كما يشترط ألا يكون هناك غبن ولا تدليس ولا تمويه في البيع والشراء. أما السنة: فقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع). فأثبت النبي عليه الصلاة والسلام خياراً للبائع والمشتري في مجلس العقد، أي: مجلس البيع والشراء، فإذا انصرف البائع أو المشتري من المجلس فقد تم ونفذ البيع حينئذ، فلا يحل للمشتري ولا للبائع أن يرجع في بيعه وشرائه؛ لأن بعض الناس يذهب إلى البائع فيشتري سلعة، ويدفع الثمن ويقبض السلعة بين يديه، ثم تمكث عنده اليوم واليومان ثم يرجع إلى البائع مرة أخرى ويقول: أنا لا أريدها. خذها وأعطني ما دفعت، فلو أن البائع رفض لكان محقاً في الشرع؛ لأن المشتري أخذ السلعة وانصرف عن مجلس البيع فانقطع خيار الرد، إلا أن يكون في السلعة عيب خفي فللمشتري أن يرجع إن لم يكن من أهل الخبرة بهذا العيب، أما إذا كان العيب ظاهراً فلا، كأن يشتري شيئاً من الثمر أو الطعام به عيب ظاهر في الرائحة أو المنظر ورأى هذا العيب أو لم يره فلا يحق له أن يرجع على البائع إذا انصرف؛ لأنه قصر في معرفة السلعة التي أراد أن يشتريها، ولذلك لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام السوق ووجد رجلاً يبيع سلعة من السلع فقلبها فوجدها مبتلة! قال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابها المطر يا رسول الله، قال: هلا أظهرت عيبها، ثم قال له: من غشنا فليس منا). قوله: (من غشنا)، خطاب عام لجميع الأمة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (التجار هم الفجار إلا من بر واتقى)، وقال: (ليس للتجار الصدوق جزاءً إلا الجنة) إذا كان صادقاً، أما إذا كان غاشاً ومدلساً فالنار مثواه أو يعفو الجبار تبارك وتعالى. كذلك إجماع الأمة منعقد على حل البيع والشراء، وأنه خاضع للضرورات وحاجات الناس، فلا يمكن لإنسان أن يحقق الاستغناء والكفاية التامة لنفسه أو لغيره، والإنسان اجتماعي بطبعه يحتاج إلى أخيه كما أن إخوانه يحتاجون إليه، وليس للمرء أن يعيش وحده أبداً، فلما دعت حاجة الناس إلى التبادل والبيع والشراء أحل الله عز وجل ذلك للناس تيسيراً لهم، ورفع الحرج والمشقة عنهم، وأمرهم بأوامر وأحكام منها: وجوب الكيل بالقسط والميزان، والوفاء في الكيل والميزان، كما قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152]، وقال الله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35]، وهدد الله عز وجل من خالف ذلك فقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]، ثم وصفهم الله عز وجل فقال: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:2]، إذا أخذوا من الناس أخذوا أنصبتهم كاملة وافية، وإذا أعطوا الناس بخسوهم في الكيل والميزان {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:1 - 4] بين يدي الله عز وجل، وموقوفون، ومحاسبون على النقير والقطمير، لا بد أن يعلموا ذلك، فإذا علموا فليعلم من طفف الكيل والميزان أن الله تعالى قد أعد له في الآخرة الويل والثبور؛ لأجل حبات من القمح، أو الشعير، أو الأرز، أو الثمار، الأمر لا يستحق، بل الدنيا بحذافيرها لا تساوي أن يتعرض المرء للفح النار فضلاً عن أن يدخلها ويمكث فيها ما شاء الله له أن يمكث.

من آداب البيع والشراء وأحكامهما

من آداب البيع والشراء وأحكامهما

السماحة

السماحة من آداب البيع والشراء وأحكامهما: غض الطرف في البيع والشراء، والقضاء والاقتضاء، كما روى البخاري من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى). مسامحة في البيع والشراء، لين الجانب، خفض الجناح، المسامحة في الشيء الحقير التافه، البائع يرفض البيع لأجل خمسة قروش أو عشرة، وهذا بلاء عظيم، ونتن وعفن قلبي، وكذلك يتحرج المشتري أن يقدم على شراء حاجته من عنده لأن ماله غير مكتمل؛ لأنه لم يتأكد من أخلاق البائع، ويعلم أن البائع سيوقعه في الحرج والعنت والمشقة. البائع يعرض سلعته بأغلى الأثمان، يريد بذلك عند المساومة إنزال بعض هذا السعر، لكنه يتعنت أشد التعنت في أول الأمر، فإذا غلب على ظنه أن المشتري سوف يفلت منه نزل بالسعر نزولاً يوحي بأنه كاذب وغاش وليس صادقاً في بيعه وشرائه، وهذا يتنافى مع السماحة التي دعا النبي عليه الصلاة والسلام لأهلها.

النهي عن الحلف في البيع والشراء

النهي عن الحلف في البيع والشراء نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الحلف، كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة). نعم ستنفق السلعة، لكن لا بد أن تعلم علمَ يقين أن المال الذي أخذته بهذا الحلف صادقاً يدل على قلة تعظيم الله عز وجل وأسمائه وصفاته في قلبك، واستهانة منك بأن جعلت يمين الله تعالى عرضة له في البيع والشراء، وإن كنت حلفت كاذباً فقد اقتطعت به حق امرئ مسلم بغير حق، وهذا هو اليمين الغموس، وسمي غموساً؛ لأن الله تعالى يغمس صاحبه في نار جهنم! لأجل أن تباع سلعة -لعل الله تعالى لا يقدر لها البيع قط- يخرج الإنسان من هذا الموقف بغضب الله وسخطه، الأمر لا يستحق كل هذا، فلا بد لكل مشتر وبائع من وقفة في البيع والشراء. عاقب الله تعالى الحالف بعقوبة عظيمة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينظر الله تبارك وتعالى إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). المسبل: الذي أطال ثوبه تحت الكعبين، والمنان: الذي يفعل الشيء ويَمنُّ به، والذي ينفق سلعته بالحلف الكاذب، هؤلاء لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب يتألمون منه في نار جهنم.

تحريم المماطلة والنهبة

تحريم المماطلة والنهبة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله عز وجل). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف وهو مؤمن). (ولا ينتهب نهبة): يأخذ أموال الناس نهبة. نفى النبي عليه الصلاة والسلام عنه الإيمان! وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم أو أتبع أحدكم على مليء فليتبع، أو قال: فليحتل). (مطل الغني ظلم) المطل من المماطلة، والتسويف في دفع حقوق الناس، وهذا ظلم لمن كان يملك المبلغ الذي للناس في ذمته، وأما إذا كان لا يملك فهو معسر، وعليه قال جماهير العلماء: فلا يحل حبسه، ولا ملازمته، وتكره مطالبته، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فأمر الله عز وجل الدائن أن ينظر المعسر، أما إذا كان غنياً يملك مبلغ الدين فيجب عليه أن يعطي أصحاب الحقوق حقوقهم، ولو مات على ذلك فهو على خطر عظيم، ففي الحديث: (أن رجلاً مات وعليه من الدين ديناران، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعلى صاحبكم دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله! عليه ديناران، فقال: أترك ما يوفى به؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، وامتنع النبي عليه الصلاة والسلام أن يصلي عليه، فقام أحد أصحابه فقال: يا رسول الله صل عليه وعلي دينه، فصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وفي المساء سأل الذي تحمل الدينارين، فقال: أقضيت عن صاحبك؟ قال: لا يا رسول الله، قال: اذهب فاقض عنه، فذهب الرجل فقضى الدين عن صاحبه، فلما جاء في صلاة الفجر، قال: أين الذي تحمل الحمالة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: هل قضيت عن صاحبك؟ قال: نعم، قال: متى؟ قال: الآن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الآن بردت عليه جلده من نار جهنم). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) الشهيد الذي حباه الله تعالى بمكارم الهدايا والعطايا والمنح، ورفعة المنزلة فوق كل الخلق ما عدا الأنبياء والمرسلين؛ فإن الشهيد بعدهم في الفضل والمنزلة، النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله تعالى خلق في الجنة مائة درجة للشهداء في سبيل الله). وقال: (يغفر للشهيد مع أول دفقة من دمه، ويؤتى به يوم القيامة يثغب جرحه دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، ويزوج من الحور العين باثنتين وسبعين، ويشفع في سبعين من أهل بيته)، ومع هذا لا يغفر له الدين! وقوله: (وإذا أحيل أحدكم على مليء) أي: إذا قلت لك: اذهب إلى فلان الغني الذي يملك أن يقضي عني ديني فخذ منه دينك، فلا يحل لك أن ترفض هذا وتأباه. فقوله: (وإذا أحيل أحدكم إلى مليء فليحتل) أي: فيقبل عقد الحوالة، لا خيار له في ذلك.

ضرورة الصدق في البيع والشراء وتحريم الكذب فيهما

ضرورة الصدق في البيع والشراء وتحريم الكذب فيهما قال عقبة بن عامر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (لا يحل لمسلم باع من أخيه شيئاً فيه عيب إلا بينه له)، وهذا يعني بمفهوم المخالفة: أنه يحرم على أحدكم أن يبيع أخاه شيئاً وهو يعلم عيبه ولا يبينه له، كثير منا يجمل ويحسن العيب ويخفيه ويستره ويداريه عن نظر المشتري حتى يبيع السلعة، فإذا سأله المشتري: هل بها من عيب؟ وهنا مأزق عظيم، فإذا أراد البائع أن يهرب من الإثم بزعمه قال: نعم، لقد وقعت هذه السيارة أو تعرضت لحادث حتى كانت كعلبة السردين، ثم أصلحتها، وهو يريد بذلك المبالغة في ذكر العيب الذي ليس فيها، حتى إذا نظر إليها المشتري، قال: لا أجد أصدق منك؛ لأنها ليست كذلك. ولذلك إذا باع رجل بيتاً بأعمدة، المعلوم يقيناً أن هذه الأعمدة والسواري لا بد أن يكون لها قواعد في الأرض، فإذا سأل المشتري البائع، قال: هل قواعدها متينة قوية؟ قال: أنا لم أبن هذا البيت على قواعد ألبتة، هذا البيت أمامك، إن شئت أن تأتي بخبير، وإن شئت أن تشتريه على هذه الحال، أما أنا فلم أضع قواعد في الأرض، فيعلم المشتري صدق هذا البائع، وأنه لا يريد أن يقسم أيماناً، وهو يريد أن يبيع هذا البيت على حالته، فيغتر بذلك ويشتري البيت، وفي حقيقة الأمر أن قواعده ضعيفة لا تقوى على مزيد من البناء، أو على تحمل البناء لسنوات طويلة قدرت في العمر الافتراضي لهذا البناء، فيكون هذا من باب الغش لا من باب الصدق في البيع والشراء. وقال الله عز وجل: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). الناس ينظرون إلى الأموال بكثرتها، والشرع ينظر إلى الأموال ببركتها، فكم من إنسان ليس له مال، لكن الله تبارك وتعالى يبارك في القليل بين يديه لتقواه، وصدقه، وحرصه على مرضاة ربه، وكم من الناس معهم الأموال الطائلة أنفقوها في الملذات والشهوات والخمور والنساء والمخدارت وغير ذلك؛ لأن الله تعالى نزع البركة منها؛ ولذلك روى مسلم والبخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلاً كان يخدع في البيع والشراء، فأتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله إني أخدع إذا بايعت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا بايعت أحداً فقل: لا خلابة) والخلابة بمعنى الخداع أو التدليس والتمويه.

بيوع محرمة

بيوع محرمة

بيع الملامسة والمنابذة والعصا

بيع الملامسة والمنابذة والعصا هناك من يبيع القماش أو الأثواب للناس إذا قلت له: أعطني هذا الثوب أو هذا القماش، قال لك: إذا لمسته بيدك فلا بد أن تشتريه، لا تخرج من هنا إلا مشترياً، هذا بيع الملامسة وهو حرام، وكذلك المنابذة أن أقول لك: أنبذ إليك ثوبي، وتنبذ إلي ثوبك، فتجعل مجرد النبذ أو الدفع والإلقاء بيعاً، بمجرد أن أنبذ إليك الثوب فقد تم البيع، فالنبذ يقوم مقام الرضا حتى مع وجود العيب، وهذا كذلك بيع محرم في الشرع. وهناك بيع آخر يسمى بيع العصا، ولا يزال موجوداً في الأرياف، أن يأتي الرجل بعصا طويلة ثم يجعل فيها كرة من الطين أو يأخذ حصاً من الأرض ثم يقول للمشتري: أبيعك من هذه الأرض ما بلغت إليه الحصى بثمن كذا، ثم يرمي المشتري هذا الطين أو هذه الحصى بأقصى جهد له إذا كان صادقاً في بيعه وشرائه، فحيث ما استقرت الحصى وجب البيع واستحق البائع الثمن، وأخذ المشتري قطعة الأرض بغير زيادة ولا نقصان، هذا البيع كذلك محرم، ولكننا نراه إلى يومنا هذا في أرياف مصر على جهة الخصوص. وحرم الشرع ذلك للغرر، وهو غلط يقع فيه المرء، لا يدري ماذا يبيع؟ وماذا يشتري؟ هل هو مغبون مظلوم في البيع أو ظالم للبائع؟

بيع العبد الآبق والدين والطير في الهواء والسمك في الماء وبيع ما لا يملك

بيع العبد الآبق والدين والطير في الهواء والسمك في الماء وبيع ما لا يملك كذلك الذي يبيع العبد الآبق (الهارب) من سيده، أقول لك: أبيعك عبدي الذي هرب بمائة دينار، إذا وجدته وجب البيع، وإن لم تجده وجب البيع، لا علاقة لي بك. وكذلك بيع الدين، رجل معه شيك بعشرة آلاف يبيعه لآخر بسبعة آلاف على أن يتصرف المشتري في هذا الشيك كيف شاء، ولا يحق له الرجوع على البائع الأول، حتى وإن كان هذا الشيك مزوراً. كل ذلك من البيوع المحرمة؛ لأنها من بيوع الغرر، كالذي يبيع الطير في الهواء، أقول لك: بعتك هذا الحمام الذي على هذه الشجرة. أو أبيعك السمك الذي في قناة السويس، أو في البحر الأحمر، أو المتوسط، أو في الترعة الفلانية، كما يفعل الفلاحون إلى يومنا هذا عندما يبيعون السمك في الترع التي في مقابل أراضيهم، فيأتي المشتري فيجعل في أول الأرض وفي آخرها سداً من هنا ومن هناك، فربما وجد سمكاً كثيراً أو ربما لا يجد، فضلاً عن أن هذا الذي باع السمك في الماء أو الطير في الهواء باع ما لا يملك، وهذا حرام، وباع ما لا يقدر على تسليمه وهذا حرام، وباع ما لم يتمكن من نقله إلى رحله، والنبي عليه الصلاة والسلام: (نهى أن يبيع الرجل ما لا يملك، وأن يبيع ما لا يقدر على تسليمه، وأن يبيع الشيء حتى يستوفيه وينقله إلى رحله). لا تذهب إلى التاجر وتقول: بعني هذه المروحة بمائتين من الجنيهات، خذ الثمن وسأرسل إليك فلاناً فأعطه إياها، وتذهب إلى آخر، وتقول له: إني أملك مروحة في المكان الفلاني فهل تشتريها مني؟ قال: نعم، بكم؟ تقول: بمائتين وخمسين، ثم تقبض الثمن، وتقول: اذهب إلى فلان التاجر فخذها منه، لا يحل هنا البيع إلا بشرط أن تنقل هذه المروحة إلى مكانك، وأن تبتعد بها عن مكان البيع والشراء الأول، (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يبيع الرجل السلعة حتى ينقلها إلى رحله)، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر. وكذلك بيع اللبن في الضرع، لا يعلم الإنسان كمية اللبن، فكيف يبيع اللبن في الضرع؟ أو يبيع الطير في الهواء؟ أو السمك في الماء؟ أو الحمل في البطن؟ كيف يبيع شيئاً مجهولاً أو معدوماً، كل هذه من البيوع المحرمة.

بيع المستثنى غير المعلوم

بيع المستثنى غير المعلوم أقول لك: بعتك الأثواب إلا ثوباً واحداً، أو البستان إلا شجرة، أو النخيل إلا نخلة، هذه كلها بيوع محرمة، لا بد من تعيين الثوب، والشجرة، والنخلة، أقول: بعتك البستان إلا هذه الشجرة بعينها، أو هذه النخلة بعينها، أو بعتك الأثواب إلا هذا الثوب بعينه، أما قولك: بعتك الأثواب إلا ثوباً، إلا شجرة، إلا نخلة، إلا عبداً، كل ذلك من البيوع المحرمة؛ لأنها من بيوع الغرر، إلا أن يكون الغرر حقيراً قد تعارف الناس عليه، كأن يبيع الرجل الوسادة محشوة وهو لم ينظر إلى الحشو، أو أن يبيع الدار المؤسسة لكنه لا ينظر إلى أساسها؛ لأن هذا أمر يحتاج إلى عنت ومشقة وهذا يصعب، فالغرر فيه يسير، أو أن يبيع الرجل شيئاً يسيراً لا يمكن تتدارك الحقيقة لبلوغ العنت والمشقة، فحينئذ لا بأس أن يبيع الرجل، ويتسامح في الغرر.

بيع حبل الحبلة

بيع حبل الحبلة (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع حبل الحبلة) ومعنى حبل الحبلة: أن تبيع أنت ولد ولد الناقة الذي لم يولد بعد، تقول: هذه ناقتي وهي حامل، فإذا ولدت الأولى بعتك ولد ولدها بكذا الآن، وهذا بيع من بيوع الغرر؛ لأنك لا تدري أتنتج هذه الناقة التي بين يديك، وإذا نتجت أتحمل أم لا؟ أتعيش أم لا؟ وإذا نتجت أتلد أم لا؟ وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي حرمها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر في الصحيحين.

بيع النجش

بيع النجش كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش، والنجش: هو الخداع برفع سعر سلعة للتغرير بآخر، وهذه الصورة موجودة في الأسواق، ستجدون رجلاً يبيع ثياباً أو ثماراً أو خضرة، ويقول البائع: هي بجنيهين، فيقول رجل ممن حوله: أنا أشتريها بثلاثة، ويقول الرابع: بخمسة، وهكذا فيغتر من لم يعرف ذلك، ويعتقد غلاء هذه السلعة، فيشتريها بأعلى الأثمان، هذا الذي زاد في ثمن السلعة لا يريد شراءها أصلاً، وإنما فعل ذلك ليغر الجاهل الذي دخل السوق ليشتري، وهذا قد أسماه الشرع: نجشاً، أو يأتي هذا الناجش فيمدح السلعة ويطريها حتى يستقر في قلب المشتري أن هذه السلعة تستحق الثمن الفلاني، فإذا اشتراها فوجئ أنها لا تستحق شيئاً، وأنها مليئة بالعيوب الظاهرة والباطنة.

بيع الحاضر للبادي

بيع الحاضر للبادي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الحاضر للبادي، مثاله: رجل أتى من البدو أو القرية ودخل المدينة، فنزل على قريب له، فهل يحل لهذا القريب أو الغريب الحاضر أن يبيع لهذا البادي؟ A لا، وقال ابن عباس: معنى النهي عن بيع الحاضر للبادي أن يعمل له سمساراً، وليس معنى ذلك تحريم السمسرة، لكن على أن تكون بين غير الحاضر والبادي. مثال ذلك: أن رجلاً أتى بسلعة أو بضاعة من الريف ودخل القاهرة، فقال له قريبه: السعر في هذه الأيام نازل، فدع السلعة عندي أمانة لأبيعكها إذا ارتفع السعر، فهذا هو نهي النبي عليه الصلاة والسلام أن يبيع الحاضر للبادي، وهذا البيع راعى فيه الشرع مصلحة الجماعة؛ لأن البائع لو أنه نزل السوق فباع برخص السعر لانتفع مجموع الناس، وهكذا يحرص الشرع على المنفعة الجماعية ويقدمها على المنفعة الشخصية.

بيع التصرية

بيع التصرية يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من باع شاة مصراة -وفي رواية: من ابتاع إبلاً أو غنماً مصراة- فهو بخير النظرين بعد ثلاث، إما أن يمسكها، وإما أن يردها ومعها صاعاً من تمر). وبيع التصرية معناه: أن يترك الرجل ناقته أو شاته أو بقرته يوماً أو يومين أو ثلاثة دون أن يحلبها، يعظم لبنها ثم ينزل بها إلى الأسواق، فيظن المشتري أن هذه عادة تلك البهيمة، فيشتريها طلباً لكثرة اللبن، فإذا حلبها في اليوم الأول أتت بلبن أكثر من اليوم الثاني، وفي الثاني أكثر من الثالث، ثم بعد ذلك يكون اللبن أقل من الأول والثاني والثالث؛ لأنها رجعت إلى عادتها الأولى، فاكتشف المشتري الخدعة التي وقع فيها، وأن البائع قد صر هذه الناقة، ومعنى التصرية: الحبس، أي قد حبس اللبن في ضرعها ولم يحلبها، يغر المشتري، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن وجد ذلك فهو بالخيار بعد ثلاث)، وهذه هي المدة التي تسمح لك بمعرفة العيب، وجعل للمشتري الخيار في رد البيع وأخذ الثمن، أو الاستمرار في قبض السلعة بين يديه. فقال: (فمن وجد ذلك فهو بالخيار بعد ثلاث، إن شاء أمسك -أي: احتفظ بالشاة أو الدابة- وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر)، والصاع من التمر مقابل اللبن الذي نتج عنده. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

البيع والخطبة على بيع الأخ وخطبته

البيع والخطبة على بيع الأخ وخطبته الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرجل على بيع أخيه، وعن خطبة الرجل على خطبة أخيه) كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (وأن يستام على سوم أخيه)، وفي رواية: (على سيمة أخيه) وهذا هو النجش. أما حديثه عليه الصلاة والسلام: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه إلا أن يدع أو يأذن له، ولا يبيع أحدكم على بيع أخيه إلا أن يأذن له) وهذا إذا حدد الثمن ولم يتم العقد، ولذلك ربما ظن بعض الحاضرين أن ما يسمى بالمزاد حرام؟ لا! المزاد حلال؛ لأنه مجلس لإتمام البيع لشخص واحد قد أعد لزيادة السعر في سلعة واحدة، فإذا أتى صاحب السلعة وقال: أنا أبيع هذه السلعة بمائة أو أبيعها بأعلى سعر فالناس في زيادة مستمرة في هذا المجلس، فلا حرج حينئذ من زيادة في المجلس، فقد ساوم النبي صلى الله عليه وسلم في زيادة بيع قصعة رجل، حتى يقبض الثمن ويذهب فيحتطب، أو يجمع لنفسه معاشاً كريماً نزيهاً، فالمزايدة حلال لا بأس بها، أما إذا كنت تعلم أني قد ذهبت إلى هذا الرجل واشتريت منه سلعة ما بمائة، ثم قلتُ له: أنظرني حتى أذهب إلى البيت وآتي لك بالثمن الذي اتفقنا عليه، وتذهب أنت من ورائي وتقول للبائع: بكم بعت السلعة؟ فيقول: بعتها بمائة، فتقول له: أنا اشتريها منك بمائة وعشرة، هذا لا يحل لك. أو أن تذهب إلى ولي امرأة فتقول له: هل خطبت ابنتك؟ فيقول لك: نعم، فتقول: لمن؟ فيقول: لفلان، تقول: أنا أفضل منه وأشرف، وعائلتي أفضل من عائلته، وأنا متقدم لخطبة موليتك فانظر ماذا ترى؟ أو تقول لوليها: كم دفع؟ وعلى كم اتفقتم؟ فيقول: خمسة آلاف، تقول: أنا أدفع مائة ألف، فتغري الولي بفسخ الخطبة الأولى، وإتمام الخطبة الثانية، كل ذلك نهى عنه الشرع وحرمه.

تلقي الجلب والركبان

تلقي الجلب والركبان نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تلقي الجلب والركبان والسلع حتى تبلغ الأسواق: والجلب، هو ما يجلب من خارج المدينة من الأرياف، يخرج رجل بعد الفجر على الطريق، فإذا وجد سيارة قد ملئت ثمراً أو متاعاً، أو شيئاً مما يلزم الناس في حياتهم، يذهب به الجالب إلى السوق كي يبيعه، وقد علم هذا المتلقي بغلاء الثمن والسعر في الأسواق، فقابل أصحاب السلع على الطريق، فقال: بكم تبيعون هذا الثوم، أو البصل، أو الجزر، أو اللحم، أو التمر؟ فقالوا: بكذا وكذا، فقال: أنا أشتريه منكم بكذا، وهو يعلم أن السعر أعلى من ذلك في السوق، ولكنه أخفى ذلك عنهم، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تلقي الركبان وتلقي الجلب، وتلقي السلع حتى يدخل صاحبها الأسواق، فيبيع ويشتري حيث شاء، وكل هذا من عقود الغرر.

بيع العينة

بيع العينة نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع العينة. قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، ضرب الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم). بيع العينة: هو أن تذهب إلى رجل وتقول له: أقرضني مائة جنيه، فيقول لك: ليس عندي مالاً لأقرضك، ولكن خذ هذا الحب بمائة جنيه بالتقسيط في كل شهر تدفع عشرة، فتأخذ هذه السلعة، ثم يقول لك البائع نفسه: ادفع لي هذه السلعة أو بعني إياها بثمانين حالاً؟ فتقول: نعم، خذ السلعة وأعطني ثمانين جنيهاً، فتكون قد اشتريت بالثمن العالي مؤجلاً ودفعت عين السلعة لعين البائع بثمن أقل حاضراً، هذا البيع حرام وهو حيلة للربا، والله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقد حرم هذا البيع. وسميت عينة؛ لأن عين السلعة يشتريها عين البائع، بثمن أقل حاضراً، وقد باعها لنفس المشتري بثمن أكثر مؤجلاً، يعني بالتقسيط.

بيع الثمار حتى يبدو صلاحها

بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فقيل لـ ابن عمر: وما بدو صلاحها؟ قال: حتى تحمر وتصفر وتذهب عنها الآفة). أما أن تذهب أنت إلى نخلة فتقول لهذا الرجل: أنا أشتري هذا البلح، أو هذا الثمر بكذا الآن، فلا! وألف لا، حتى يبدأ البلح في الحمرة أو الصفرة، وهذه الحمرة أو الصفرة دليل على أمن العاهة والآفة أن تلحق به، أو أن يبيض السنبل ويقوى، إذا أردت أن تبيع أرزاً أو شعيراً أو قمحاً أو غير ذلك فلا تبعه رطيباً؛ لأنه معرض للآفة، ولكن إذا عظم حبه وكان صلباً قوياً فهذه علامة على سلامته من الآفة، فحينئذ يجوز لك أن تبيعه على هذا النحو، وإلا فلا.

اقتناء الكلاب ومهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام

اقتناء الكلاب ومهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وعن مهر البغي، وعن حلوان الكاهن، وعن كسب الحجام. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، وكسب الحجام خبيث). فهذه بيوع كلها محرمة، كما أنها مخلة بالمروءة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو حراسة أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان). (من اقتنى) أي: من ربى كلباً في بيته بغير حاجة ولا ضرورة، والحاجة هي الحراسة للزرع ونحوه، وإلا فيحرم اقتناء الكلاب بلدية أو غير بلدية، وبعض الناس الآن يتباهى ويتشبه بفعل الغرب ويقتني الكلاب، وربما دفع فيها المئات، بل الألوف، ويفاخر القاصي والداني ببياض كلبه، أو حمرته، أو بلون عينيه، أو بطول لسانه، ويعد له مقعداً خاصاً في سيارته، ونزهه بما لا ينزه أولاده، ثم إذا أراد إلحاق الأذى بالناس وقف عند محطة سيارات أو باصات عليها العشرات والمئات من الفقراء والمساكين ينتظرون دابة بغير نول، أو باصاً بأبخس الأثمان، ثم يخرج الكلب لسانه ربع متر، فما موقف الفقراء وما شعورهم حينئذ، هو أحق، وأجدر، وأليق، وأخلق، بأن كان له أجر عند الله أن يمحو الله تبارك وتعالى أجره، ويعطيه لهؤلاء الفقراء والمساكين. (من اقتنى كلباً إلا كلب حراسة أو صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان، القيراط الواحد مثل جبل أحد). كم لدينا من القراريط؟ هل نحن في غنى عن فضل الله عز وجل؟ إذاً: لم نعرض أنفسنا ونحن الفقراء إلى الله عز وجل لضياع ثوابنا وحسناتنا في مثل تربيته الكلاب. وكذلك مهر البغي، وهي المرأة الزانية، مال خبيث، سواء المال الذي تأكله، أو المال الذي تدفعه، فكله مال خبيث لا يحل الإنفاق منه بحال، حتى ولو على الأولاد والأحفاد، فإنه لا يجوز لهم، وهم في غنى عن هذا المال أن يتكسبوا منه، أو أن ينفقوا منه على أنفسهم في الطعام والشراب أو غير ذلك. وكذلك حلوان الكاهن، المبلغ الذي تدفعه أنت إلى العراف والساحر والكاهن كل ذلك حرام، وهو مال خبيث، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (حد الساحر ضربة بالسيف). وقال عليه الصلاة والسلام: (من ذهب إلى ساحر أو عراف أو كاهن فلم يصدقه، لم يقبل الله تعالى منه صلاة أربعين يوماً، وإن صدقه فقد برئت منه الذمة). ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن كسب الحجام، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم، وأعطى الحجام أجره، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله إذا احتجم ناول الحجام ديناراً، فإن أبى الحجام قال: إن أخذت وإلا فلا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجام أجره. والجمع والتوفيق بين الروايتين: أن أجر الحجام خبيث إذا طلبه، أو اشترطه، أو غالى فيه، أما إذا أعطي بغير إشراف نفس منه فلا بأس بذلك.

الولاء والبراء

الولاء والبراء تعتبر قضية الولاء والبراء من قضايا العقيدة الواجب على المسلم تحقيقها، لاسيما في التعامل مع الكفار، إذ تحوي العلاقة بهم صوراً عديدة من الولاء المحرم يجب على المرء اجتنابها، وأخرى دائرة في إطار الجواز، وكل ذلك بحاجة إلى فقه لهذه المسألة العظيمة.

اجتماع قوى الشر على المسلمين وسعي اليهود والنصارى في نزع الدين من قلوبهم

اجتماع قوى الشر على المسلمين وسعي اليهود والنصارى في نزع الدين من قلوبهم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يعجب كثير من المسلمين، بل يعجب المسلمون أجمعون من اجتماع قوى الشر على بعض إخواننا العزل في بقعة من بقاع الأرض، وليس هذا بعجيب لمن اطلع في كتاب الله عز وجل، وكانت له عناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن الله تعالى بين أن اليهود والنصارى لا يرضون أبداً عن المسلمين، إلا إذا تركوا دينهم وارتدوا عنه، ودخلوا في الكفر البواح، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] أي: حتى تكفر بالله العظيم، وتترك دينك بالكلية، وتدخل في الكفر البواح معهم في اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو الشركية، أو عبادة الأصنام. فقوله: ((وَلَنْ تَرْضَى)) نفي للحاضر والمستقبل. و (حتى) تفيد الغاية، يعني: غاية اليهود والنصارى أن نترك ديننا، وأن ندخل في دينهم. واليهود عندهم غرور، فهم لا يتمنون أن ندخل في اليهودية، وإنما يحرصون كل الحرص أن نترك ديننا إلى أي دين آخر، وإلى أي ملة من ملل الكفر الأخرى، فهم لا يريدون منا أن ندخل في اليهودية، لكن في المقابل لا نبقى على إيماننا ولا إسلامنا، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] فإذا كان هذا الخطاب موجهاً بالدرجة الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالكم ببقية الأمة؟! إن اليهود والنصارى تفرقوا في كل مكان على وجه الأرض، فلو نظرت في خريطة العالم الإسلامي لوجدت أن لليهود والنصارى ثقلاً ووجوداً في كل مكان، إلا في أرض القوقاز أرض أفغانستان وما حولها من مدن، فكان لابد أن يكون لهم هناك موقع ومكان وقواعد عسكرية، ولذلك دبر شارون مع أمريكا تلك الحادثة التي حدثت في الحادي عشر من سبتمبر؛ لأجل أن يتخذوا ذلك تهيئة لوجودهم في أرض أفغانستان، والقضاء على هذه الفئة المؤمنة التي رفعت راية الجهاد في بقعة من بقاع الأرض. كما أنها دبرت من قبل الوقيعة بين العراق وبين الكويت؛ لأجل دخول الدول العربية، حتى يكون لأمريكا وقوى الشر أجمع مكان في أرض العرب، وقد نجحوا في ذلك مع غباء وحماقة المسلمين أجمع، وبالذات في أرض الجزيرة العربية، فالآن اليهود والنصارى موجودون في جزيرة العرب، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يجتمع في جزيرة العرب أهل ملتين، والآن قد اجتمعت كل الملل في جزيرة العرب، كأنها علامة وأمارة من علامات الساعة، قال الله عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]. وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة:109] أي: يودون من قلوبهم لو أنهم يسيطرون عليكم، ويخرجونكم من دينكم بالكلية، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، فكل ملل الكفر تعلم يقيناً أننا على الحق، وأننا أتباع الرسالة الحقة، وأننا أهل الوحي، ولكنهم حسدونا على ذلك، {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْ

أسباب العداوة الكفرية للمسلمين وطريق دفع كيد الكفرة عن المسلمين

أسباب العداوة الكفرية للمسلمين وطريق دفع كيد الكفرة عن المسلمين قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]. يبين الله عز وجل أسباب الحرب، ومواد الحرب، ثم المخرج من هذه الحرب، {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] أي: هذا بلاء يقع في المال وفي النفس والبدن، ثم غداً يقع على المسامع وعلى الآذان، {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]. فبين الله تعالى علاج ذلك أنه بالصبر والتقوى، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، قال عز وجل: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، يعني: هم يعلمون أنهم يستمتعون في حياتهم الدنيا فحسب، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، لا حظ لهم ولا نصيب في جنة عرضها السماوات والأرض، أما المسلم فإنه إن انتصر فاز بالغنيمة، وإن لم ينتصر ولم يرجع ببدنه ونفسه وماله فله جنة عرضها السماوات والأرض. وقد أعد الله عز وجل للذي قتل في سبيل الله مائة درجة في الجنة، ما بين الدرجتين ما بين السماء والأرض. وفي رواية: (ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام)، وهناك فضائل ومناقب أخرى للشهيد. وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]. تصور أن اليهود يجتمعون مع صناديد الشرك والكفر في مكة ويقولون لهم: إنكم أهدى وأقوم سبيلاً من محمد وأصحابه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة:59]، أي: ما تنقمون منا إلا أننا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وآمنا بما أنزل إليكم، وآمنا بالكتب المنزلة من قبل محمد عليه الصلاة والسلام، فهل تنقمون منا إلا أن آمنا بذلك؟! وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]. فهؤلاء أشد الناس عداوة وضراوة على أهل الإيمان، إذا انفردوا بهم فتكوا بهم، هذا موقف اليهود وموقف المشركين وموقف سائر ملل الكفر. وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. ومهما كره الكافرون ذلك، وقد أرادوا قولاً وفعلاً، فقد قاموا بطبع مليون نسخة محرفة من المصحف، فهم ينشرونها هنا وهناك مجاناً بغير ثمن، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8]، ولكن كيف وقد تكفل الله عز وجل بحفظ هذا الكتاب: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالذي تولى حفظ الكتاب هو الله عز وجل، فلو اجتمعت قوى الشر كلها لتحريف هذا الكتاب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وقال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، يعني: ودوا من قلوبهم أن نكفر بالله عز وجل، وأن نخرج من ديننا، ونكون نحن وإياهم سواءً في الكفر. وقال تعالى: {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، إذا كان هذا هو بيان الله عز وجل للكافرين من قبلنا وممن حولنا؛ فلا عجب أن تجتمع قوى الشر على قلة قليلة، ولكنها عند الله بإذنه تعالى عظيمة القدر والشأن؛ لأنها فئة استمسكت بدين ربها، ودهمت أكبر قضية بينها وبين ملل الكفر، فرفعت راية الجهاد تريد طمس معالم الكفر، وإظهار معالم الإيمان، فما راق ذلك لأهل الكفر مهما بعدت ديارهم وأوط

أهمية عقيدة الولاء والبراء

أهمية عقيدة الولاء والبراء ينبغي أن نعلم أننا في هذه الحرب القوية التي منعنا وحيل بيننا وبين اللحاق بإخواننا هنا وهناك، يجب علينا أن نعلم أن المطلوب منا مسألة هي أصل التوحيد وأصل الاعتقاد، وقد سماها الله عز وجل ورسوله وأهل العلم: مسألة الولاء والبراء. ولا يزال كثير من الناس يسأل إلى يومنا هذا: وهل يجوز قتل الأبرياء في أمريكا أو غيرها؟ A لا يجوز، السؤال الذي ينبغي أن يطرح: من الذي قتل الأبرياء؟ إن الذي قتل الأبرياء هم حكام هؤلاء الأبرياء، الذي قتل الأبرياء هنا وهناك في فلسطين، وفي أمريكا، وفي أوروبا، ولا علاقة البتة من قريب أو بعيد لـ أسامة بن لادن، ولا تنظيم القاعدة بما خططته أمريكا، إلى الآن لم يظهر دليل واحد على إدانة هؤلاء، ومع ذلك بغير دليل ولا برهان ولا بينة يأتي أهل الكفر من شرق الأرض وغربها يجتمعون على أناس عزل لا ناقة لهم ولا طعام ولا شراب، يسكنون الكهوف والجبال، تأتي قوى الشر بخيلها ورجلها لطمس هذه الفئة وقتلها وإزالتها من على وجه الأرض، بعد أن أخزى الله تبارك وتعالى ودمر على أيديهم أعظم أمبراطورية ماركسية، أمريكا بصلفها وغرورها وحزامها الصاروخي خافت من أناس لا حيلة لهم، إنما يسكنون الكهوف والجبال، فقامت أمريكا بكل ما تملك من عدة وعتاد وأشخاص وأفراد؛ لأجل أن تقضي على هذه الفئة المجاهدة، وهيهات هيهات أن يفعلوا ذلك، وأن يكون لهم ذلك؛ لأن الناصر الحقيقي لهؤلاء هو الله عز وجل، وما زال المجاهدون في فلسطين، وفي شرق الأرض وغربها -كما في كشمير وغيرها- يستغيثون بالأمة المسلمة ولا مجيب، وهذا السكوت مدفوع الثمن مقدماً، ولابد أن يعلم الجميع ذلك، ولذلك ينبغي أن تظهر لدينا تلك القضية العظيمة: قضية الولاء والبراء، الولاء لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الكفر والكافرين بجميع أشكالهم وألوانهم ومذاهبهم، وإن تسموا بأسماء المسلمين، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، ما زلت ترى الكثرة الكاثرة من المسلمين حكاماً ومحكومين إنما ينقمون على هؤلاء الأفراد في فلسطين أو في كشمير أو في بورما، أو في البوسنة والهرسك، وما سمعنا واحداً يتكلم عن اليهود، وما سمعنا واحداً يتكلم عما يفعله بوش المجرم اللعين على أرض الأفغان، قتل الأبرياء والأطفال والنسوة بالليل والنهار بالمئات والآلاف في أفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين، بينما تكلم المسلمون -لا أقول: الكافرون- عن قتل الأبرياء في برج التجارة العالمي في نيويورك، مع أنه لا علاقة للمسلمين بذلك، وإنما هذا مسمار جحا، وهو الذي يتكئ عليه النظام العالمي الجديد الوحيد، وهذا أشبهه بعمدة في قرية يسمع له الناس جميعاً ويطيعون له إلا واحداً، فأراد أن يتخلص من ذلك الواحد حتى يصفو له أهل القرية سمعاً وطاعة. فهؤلاء خرجوا من تحت عباءة هؤلاء، ورفضوا أن يدخلوا في طريقهم وطاعتهم؛ لأنهم كفار ملعونون على ألسنة الرسل أجمعين. فأبى هؤلاء كما نأبى نحن أن ندخل تحت حكم جائر، أو تحت حكم كافر، ورفعنا شعار: أننا لا نريد أن نحكم بأمريكا ولا بروسيا ولا بأوروبا، فهذا هو الذي فعله إخواننا في أفغانستان، فماذا تنقمون منهم؟! فهم منا ونحن منهم، هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وقد أسقطوا عنا الإثم بقيامهم بهذا الواجب الغائب، وهو واجب الجهاد في سبيل الله عز وجل. فينبغي أن نقف معهم ولو بالولاء، والولاء هو الحب والنصرة، والى فلان فلاناً أي: نصره وأحبه، وإذا كان الولاء هو النصرة والحب؛ فقد اشتمل على ركني العمل: العمل القلبي، وهو أن نحب إخواننا المجاهدين هنا وهناك، والنصرة بالقول والعمل إذا استطعنا، والدعاء الذي نحرم منه على منابر المسلمين في بلاد المسلمين، ونعاتب هنا وهناك، بينما اليهود والنصارى يدعون لبعضهم، ويعقدون المؤتمرات والندوات بغير نكير منهم، بل ولا منا، فهل تنقمون منا أن نقدم السلاح الذي نملكه وهو سلاح الدعاء، مع أن الواجب علينا أن ندعو لإخواننا وأبنائنا وآبائنا ونسائنا وأطفالنا هناك، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قد انقلبت الموازين رأساً على عقب، يحرم أحدنا أن يدعو على هذه المنابر لإخواننا المجاهدين، إن هذا لهو البلاء العظيم. من الولاء: النصرة لله تعالى باتباع شرعه والدعوة إليه، ونشر سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذب عنها، وترك معالم البدع، واجتناب ما نهى عنه وزجر، واتباع ما قد حض عليه وأمر، هذا هو الولاء لله تعالى ورسوله، والولاء لإخواننا المؤمنين المخلصين أن نحبهم في الله، وأن نعادي من يعاديهم، وأن نمقت من مقتهم، نمقتهم في ذات الله عز وجل، فنكره الكفر وأهله؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قال الله تعالى: من عادى الله لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، أو فقد آذنته بالحرب)، أي: صارت الحرب بينه وبين الله عز وجل، فالذي يتولى الدفاع عن هؤلاء المؤمنين هو الله عز وجل، (من عادى لي ولياً) ونحن نعاديهم بالقول: أنتم إرهاب

من صور الولاء المحرم

من صور الولاء المحرم أما الولاء المحرم فمنه ما يؤدي إلى الكفر البواح، وله صور:

منح الكفار حرية التنقل والإقامة في بلاد المسلمين

منح الكفار حرية التنقل والإقامة في بلاد المسلمين من صور الولاء المحرم: منح الكفار حرية التنقل والإقامة في بلاد المسلمين. الآن في أمريكا وفي أوروبا لا يهنأ المسلمون بلقمة العيش، وقد منعوا المسلمين أن يؤدوا صلاة الجمعة في المساجد، ومع ذلك الكفار في بلاد المسلمين يجوبون فيها شرقاً وغرباً تحت ستار: الدين يدعو إلى السلام، ويدعو إلى حرية الأديان، نعم هو كذلك، لكن بشروط: لنا مثل ما لهم، أما أن يمنعونا حقنا؛ فيجب علينا أن نمنعهم حقهم.

تمليك الكفار ما يتخذونه لمعصية الله وتمكينهم من ثروات المسلمين

تمليك الكفار ما يتخذونه لمعصية الله وتمكينهم من ثروات المسلمين كذلك من صور الولاء المحرم: تمليك الكفار لما يتخذونه موضعاً لمعصية الله تعالى، ورفعاً للصليب في بلاد المسلمين. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم (اقتضاء الصراط المستقيم): لا يحل لمسلم أن يؤجر بيتاً أو دكاناً لمشرك، وهو يعلم أنه يرفع عليه الصليب، يحرم على المسلم أن يترك الحرية لأهل الصليب أن يرفعوا صليبهم، ومع ذلك الآن يرفعون الصليب، ويضعون مظاهر الشرك والكفر على جدر هذه الدار أو ذاك الدكان، فأنت قد ساعدت على دخول مظاهر الكفر في مسكنك، فهذا مظهر من مظاهر الشرك والكفر. وكذلك السلام عليهم لا نبدؤهم به، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها)، أي: ليكن لكم وسط الطريق، وهم حافة الطريق، هذا مظهر من مظاهر العز، إذا كان المسلمون يريدون العزة فليمشوا في وسط الطريق، كما يمشي الكبار والوجهاء في وسط الناس. من مظاهر الولاء المحرم: تشييع موتاهم وتعزيتهم. من المظاهر: تمكين الكفار من استغلال أموال المسلمين، وبحار المسلمين، وذهب المسلمين، وتولي الوظائف الهامة في الدول الإسلامية. كذلك من المظاهر المحرمة: إهانة المسلم بما دون القتل إرضاءً للكفار، فما بالك بقتل المسلمين إرضاءً للكافرين؟! هذا بلاء عظيم وقعت فيه الأمة.

إباحة المحرمات بين المسلمين إرضاء للكافرين

إباحة المحرمات بين المسلمين إرضاء للكافرين كذلك من صور الولاء المحرم: إباحة المحرمات بين المسلمين إرضاءً للكفار، نشرب الخمر ونوفره؛ لأن بلدنا بلد سياحي، ونحن نتعامل مع عالم بأكمله مؤمنهم وكافرهم، وهم يشربون الخمر، فلابد أن يسهل لهم الخمر؛ لأجل الاقتصاد، وسداد ديون مصر، كيف تسدد الديون؟! وكيف تنهض الأمة بما حرمه الله عز وجل عليها؟! كل مظاهر المحرمات ظهرت في بلاد المسلمين تحت دعوى الانفتاح والتطور في المدنية والتحضر، فلا بد أن نكسر الباب الذي بيننا وبين العالم الخارجي، يعني: نخرب ديننا، وقد صرحوا بذلك مراراً، قالوا: الدين رجعية، الدين تخلف، الدين جمود، الدين إرهاب، حتى الأطفال سمعوا هذه المصطلحات.

التآمر مع الكفار ضد المسلمين وتنفيذ مخططاتهم والتجسس لصالحهم

التآمر مع الكفار ضد المسلمين وتنفيذ مخططاتهم والتجسس لصالحهم من صور الولاء المحرم: التآمر معهم ضد المسلمين، وتنفيذ مخططاتهم، والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم، والتجسس من أجلهم، ونقل عورات المسلمين إليهم. وهذا حادث في المسلمين اليوم. وكذلك الانخراط في الأحزاب العلمانية والإلحادية، كالشيوعية، والاشتراكية، والباطنية وغيرها من المذاهب الإلحادية. وكذلك من صور الولاء المحرم: إطلاق حرية الدعوة إلى الكفر في بلاد المسلمين ببناء الأديرة والكنائس وغيرها، فهذا من صور الولاء المحرم فلا يجوز، ولذلك لما دخل عمر رضي الله عنه بلاد الشام وضع بينه وبين النصارى شروطاً, ومن هذه الشروط: عدم بناء الكنائس، مع ترك الكنائس المبنية على أصلها، ثم حصر عبادة هؤلاء في داخل كنائسهم، وعدم إظهار شعائر دينهم في الشوارع والطرقات والحانات، فعبادتهم لم تتعد الكنائس، فليس لهم أن يدعوا إلى دينهم، ولا أن تكون لهم النداءات والكتب والمجلات والأنباء وغير ذلك، فهذا مما حرمه الشرع.

استئمان الكفار والتشبه بهم والرضا بأعمالهم وتعظيمهم ومساكنتهم

استئمان الكفار والتشبه بهم والرضا بأعمالهم وتعظيمهم ومساكنتهم من صور الولاء المحرم: استئمانهم وقد خونهم الله عز وجل، فهم خونة، فإذا كانوا يخونون الله ورسوله؛ فلم لا يخونون المؤمنين حينئذ؟! ومع هذا نحن نستأمنهم ونقول: هم ناس صادقون مجدون صريحون وغير ذلك. وكذلك من صور الولاء المحرم: الرضا بأعمالهم والتشبه بهم، والتزيي بزيهم. وكذلك إعانتهم على ظلمهم ونصرتهم ومناصحتهم والثناء عليهم، ونشر فضائلهم، وتعظيمهم، وإطلاق الألقاب عليهم. وكذلك السكنى معهم في ديارهم، وتكثير سوادهم، وقد نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن الهجرة إلى بلاد الكفار، قال عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح)، أي: لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت بلد إيمان وإسلام، بعد أن كانت بلد شرك وكفر، فلا هجرة منها، (ولكن جهاد ونية)، لكن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان باقية بقاء الدهر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكن نجد الآلاف من الناس يتمنون لو أنهم يذهبون إلى بلاد الكفار، فتراهم يترددون على سفارات الكفار في بلاد المسلمين، كل ذلك رغبة في تلك الملذات والشهوات، لم يذهبوا لإظهار معالم الدين الإسلامي، ولا لأجل تبليغ أحكام هذا الدين، وبيان فضائله، إنما ذهبوا لجمع الدنيا، وذهبوا إلى بلاد الكفر للنظر إلى المرأة الجميلة ذات الشعر الأصفر والعيون الزرقاء، والسيقان البيضاء، لا غرض لهم إلا هذا، فتراهم يعملون بالليل والنهار في الخمور، ثم هم ينفقون أموالهم على النساء والخمور، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من جامع المشرك وسكن معه؛ فإنه مثله). أي: من اجتمع مع المشرك في بلد من البلاد، وسكن معه، فإنه مثله. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أقام بين ظهراني المشركين فليس مني). وفي رواية عند أبي داود: (فقد برئت منه الذمة). ولذلك أجمع علماء السنة أنه لا يجوز الذهاب إلى بلاد الكفار إلا لغرض شرعي، وأن تصطحب معك زوجتك؛ حتى لا تتعرض لفتنة النساء هناك، ثم إذا فرغت من حاجتك ترجع إلى بلادك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل الكرة إلى أهله). فإذا كان هذا في بلاد المسلمين، فما بالكم إذا كان السفر إلى بلاد الكفار؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الرضا بكفر الكافرين والشك في كفرهم وموالاتهم والتحاكم إليهم

الرضا بكفر الكافرين والشك في كفرهم وموالاتهم والتحاكم إليهم منها: الرضاء بكفر الكافرين، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح مذاهبهم، هذا كفر بواح. كذلك أن يتولاهم المرء محبة ونصرة وتأييداً وتصحيحاً ومساندة ومساعدة وغير ذلك، فهذا -بلا شك- بلاء عظيم جداً. وكذلك التحاكم إليهم دون كتاب الله عز وجل، لا يتحاكم إلى كتاب الله، وإنما يتحاكم إلى تلك القوانين الوضعية، وإلى حثالتهم الفكرية. وكذلك مودتهم ومحبتهم والركون إليهم، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]. وكذلك مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]. وكذلك اتخاذهم بطانة أعواناً وأنصاراً من دون المؤمنين. يعني: اتخاذهم أعواناً، كوزير أو وكيل وزارة وغير ذلك، فهؤلاء الكفار لا يجوز اتخاذهم بطانة في بلاد المسلمين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118]، أي: من غيركم يا أهل الإيمان، {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] أي: أنهم يتمنون نزول العنت بكم، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] إي والله قد بدت البغضاء، ولم يقل الله عز وجل: قد أبدوا البغضاء، وإنما بدت البغضاء وظهرت وخرجت بنفسها بغير قصد منهم، كأن البغضاء ملأت قلوبهم، ثم فاضت على صدورهم، فخرجت من ألسنتهم بغير قصد، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. هذه هي الحرب الحقيقية بين أهل الإيمان والفسق، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].

طاعة الكفار فيما يأمرون

طاعة الكفار فيما يأمرون من صور الولاء المحرم: طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149].

صور من المعاملات الجائزة مع الكفار

صور من المعاملات الجائزة مع الكفار كذلك العمل لدى الكفار وتحت ولايتهم بغير ضرورة ولا حاجة، أما إذا دعت الضرورة أو الحاجة فلا بأس، على أن يحرص العامل أن يتخلص من هذا العمل في أقرب فرصة، أما أن يعمل لدى الكافر ويهان ويذل، ويحمل على فعل الحرام، كتقديم الخنزير، وتقديم الخمر في مطاعم أوروبا وغيرها فلا، تجد الطبيب أو المهندس المسلم يعمل خادماً في مطاعم أوروبا يغسل الأطباق، ويمسح البلاط في اليوم مرتين أو ثلاثاً، وهو طبيب أو مهندس، وقد رأينا أستاذ جامعة يقف على مغسلة أطباق في أمريكا، ما هذه الإهانة؟! هو أستاذ حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية في علم المواريث. كان على هذا الأستاذ أن يعود إلى بلاده ويعطي دروساً خصوصية في الشريعة الإسلامية واللغة العربية، إذا كان دخله يتعدى الألفين أو الثلاثة فيكفي، ماذا يريد من الدنيا بعد ذلك؟! يريد أن يهان وأن يذل، ثم هو بعد ذلك يفاخر الرائح والجائي بأنه أستاذ جامعي، ماذا تصنع بها وقد أهنت نفسك؟! وهنا أشياء من الولاء، لكنها ليست محرمة، بل هي على الجواز. منها: معاملة اليهود والنصارى بالحسنى ما داموا غير محاربين؛ لأن الكفار منهم المحاربون، ومنهم المسالمون لا يحاربون، يقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8] أي: لا ينهاكم الله تعالى عن القسط والعدل معهم، وكذلك الصدقة على محتاجيهم، تصور أن الإسلام أباح لنا أن نتصدق على اليهودي والنصراني وغير ذلك إذا كان محتاجاً فقيراً، وهذا حق من حقوق الجوار للكفار فضلاً عن المسلمين. كذلك ينبغي رد التحية عليهم إذا سلموا علينا سلاماً صحيحاً، أن يقولوا: السلام عليكم، نقول: وعليكم السلام، أما (رحمة الله وبركاته) فلا، فليست لهم من الله رحمة ولا بركة. وكذلك معاملتهم في العقود المالية المباحة التي لم يحرمها الله تعالى علينا، واستعمالهم عند الحاجة إليهم في الأمور التي لا تمس الإسلام، ولا تمس معالم المسلمين الكبرى، والسفر إليهم لأغراض مباحة، مع القدرة على إعلان الدين هناك، نسافر إلى بلادهم لغرض مشروع، بشرط أن نتمكن من إعلان مظاهر الدين الإسلامي، وكذلك زيارتهم لغرض مشروع كدعوتهم للإسلام، ولذلك دخل النبي عليه الصلاة والسلام على غلام من اليهود يعوده وقد بلغه أنه مرض وهو محتضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الغلام: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه، فقال الأب: أطع أبا القاسم، فشهد الولد بالشهادتين، ثم مات، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: الحمد لله الذي أنجاه بي من النار). الزيارة مشروعة للكفار في بيوتهم، لكن لا تزورهم لأجل أن تسامرهم وتجالسهم وتضحك وتسخر وتهزأ وتنكت حتى يطلع الفجر، فهذا مما حرمه الله عز وجل عليك. ومن صور الولاء: مخالطتهم عند اللزوم، مع عدم الركون إليهم، والاستفادة مما عندهم من تقدم بما لا يتعارض مع الشرع، وكذلك أكل طعامهم، والزواج من نسائهم اللاتي لا علاقة لهن بالشرك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

طرق تصحيح المسار في قضية الولاء والبراء

طرق تصحيح المسار في قضية الولاء والبراء الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإذا كانت قضية الولاء والبراء قد ظهر لنا منها جانب من الجوانب، فينبغي علينا أن نضع بعض الخطوط؛ لتصحيح المسار.

القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحلي بمكارم الأخلاق

القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحلي بمكارم الأخلاق كذلك التزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا كاد أن يغيب في الأمة، بل يقول بعض الناس الآن: طأطئ رأسك حتى يمر السيف، هذه كلمة المخذولين، والذي أكثر منه خذلاناً من إذا وجدك تأمر وتنهى يقول لك: أنا حر، نعم هو حر وليس عبداً لله عز وجل؛ لأنه قد خرج من عبودية الله وصار عبداً للشيطان، أما المؤمن الحق فهو يعلم أنه عبد لله عز وجل، يأتمر بأوامره، وينتهي عن زواجره. وكذلك التحلي بمكارم الأخلاق، والتحلي ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والصدق، وتجنب الكذب، والرفق والحلم والتواضع، وترك الغضب والكبر. كذلك التحلي بالحياء؛ لأن الحياء كله خير، والحياء لا يأتي إلا بخير كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك بعض المعالم في طريق الإصلاح، وإن كان واقع الأمة واقعاً مؤلماً ومراً، ولذلك عبر عنه كثير من الشعراء، يقول أحدهم: فمن أين أبتدئ الحكاية كلها غصص تثير كوامن الأشجان في كل أفق على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان فاليوم لا شاعر يبكي ولا صحف تحكي ولا مرسلات عند شان هل هذه غيرة أم هذه ضعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان ويقول آخر: صديق ليس ينفع يوم بؤس قريب من عدوّ في القياس تنكرت البلاد ومن عليها كأن أناسها ليسوا بناس ومن أقوى ما يصور واقع المسلمين اليوم قول الشاعر: في كل أرض بلد موثق يعيش في القيد وفي كربه قد عقه الخارج من صلبه وخانه النابت من تربه قسوا عليه وهم أهله في محنة الدهر وفي خطبه قد شاركوا الطاعم من لحمه وساعدوا الغاصب في غصبه يرتزق الخائن من بيعه ويسعى مع الساعي إلى صلبه ألسنة تهذي لتضليله وأنمل تمتد إلى سلبه ويقول آخر: أيها القوم أعيروا سمعكم إني أقذف ناراً لا كلاما ما أنا شاكي ولكن أمة أصبحت تشكو كما يشكو اليتامى تبصر الشر ولا تنكره وعن المعروف جنباً تتحامى وتداري كل دجال ولو بث في أبنائها الرأي الحراما وترجي من أعاديها الهدى وتواليهم قضاءً واحتكاماً كم صفيق الوجه صفقنا له وسفيها قد جعلناه إماماً بحت الأصوات في تمجيده وهو للأعداء سهماً وحساماً وشريف القصد شهرنا به وظلمناه اعتداءً واتهاماً يا أيها الناس إن الله يأمركم ألا تكونوا لأهل الظلم أعواناً يا قوم لا تنصروا من ليس ينصره ولا تكونوا لمن عاداه إخواناً يلقى العدى طاعة منكم ومسكنة مهما أرادوا ويلقى الله عصياناً إني أخاف عليكم حادثاً جللاً لا تملكون له رداً إذا حانا قال الله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58]. اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. اللهم عليك بالكفر والكافرين، اللهم عليك بالكافرين ومن والاهم، اللهم عليك بالكافرين ومن والاهم. اللهم انصر إخواننا في أفغانستان، وفي الشيشان، وفي بورما، وفي كشمير، وفي فلسطين. اللهم إنهم عراة فاكسهم، جوعى فأطعمهم، عطشى فأسقهم. اللهم كن لهم ولا تكن عليهم. اللهم أنزل عليهم جنداً من عندك، اللهم أنزل عليهم جنداً من عندك. اللهم كثرهم في أعين الكافرين، وقلل الكافرين في أعينهم. اللهم يا رب سدد رمي المجاهدين، اللهم سدد رمي المجاهدين، اللهم سدد رمي المجاهدين، ووحد كلمتهم، ووحد صفهم. اللهم شتت شمل الكافرين، رمل نساءهم، يتم أطفالهم، اجعل الدائرة عليهم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الاهتمام بتربية النشء المسلم على التوحيد

الاهتمام بتربية النشء المسلم على التوحيد من هذه الخطوط: الاهتمام بتربية النشء المسلم على توحيد الله عز وجل، وعلى حب الله عز وجل، فإن المرء لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يبغضه لا يبغضه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار. لابد من تربية النشء على هذه المعاني الإيمانية الطيبة القوية، ولذلك أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرو سفيان بن عبد الله أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم). يعني: إيمان يتبعه استقامة، إيمان له مقتضيات وله شروط وله أركان، فلابد من الوفاء بها والإتيان بها. وكذلك نربي أطفالنا على حب أهل الإيمان والإسلام، وبغض الكفر والكافرين، وحب الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأنه لا عز للإسلام ولا سؤدد لهم ولا شرف إلا برفع راية الجهاد، خاصة في هذا الزمن بالذات، فلا يمكن رد الكافرين إلا برفع راية الجهاد، ولذلك من صور النهوض بالأمة، ومن صور الإصلاح فيها: ترسيخ عقيدة الولاء والبراء. يا بني! تحب من؟ وتبغض من؟ متى تحب؟ ومتى تبغض؟ لمن ينعقد الحب؟ ولمن ينعقد الولاء؟ وعلى من ينعقد البراء؟ تبرأ ممن، ولماذا؟ لابد أن يتربى النشء على هذه المعاني الطيبة.

وصية عمرو بن العاص

وصية عمرو بن العاص آخر لحظة في الدنيا هي أصعب اللحظات، والموفق من ثبته الله فيها، فأحسن الظن بربه، ونطق شهادة التوحيد، ويمثل عمرو بن العاص رضي الله عنه مثالاً لذلك، ففي آخر لحظاته يلخص مراحل حياته من كفر وبغض للدين والرسول إلى حب وإعظام وإكبار للدين والرسول، ثم فتوحات وولايات في ميزان الحسنات، ثم هو على فراش الموت يرجو رحمة الله تعالى، ويوصي بألا يتبع بنار ولا نائحة، وأن يقفوا على قبره مقدار ما تنحر الجزور ليدعوا له بالثبات، وينظر ما يراجع به رسل ربه عز وجل ويستأنس بهم.

وصية عمرو بن العاص عند احتضاره وما فيها من العبر والعظات والمسائل والأحكام

وصية عمرو بن العاص عند احتضاره وما فيها من العبر والعظات والمسائل والأحكام إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أخرج مسلم في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن شماس المهري رحمه الله أنه قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى حتى علا نحيبه، ثم استدار ناحية الجدار، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت! ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فقال: يا بني! إن أفضل ما نعد: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإني لعلى أطباق ثلاثة، ولقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار، فلما شرح الله تعالى صدري للإسلام أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قلت: يا رسول الله! أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قال: قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟ ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من كل شيء، وما كنت أطيق النظر إلى وجهه، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني من النظر إليه صلى الله عليه وسلم، ولو مت على تلك الحال لرجوت الله أن يدخلني الجنة، قال: ثم ولينا من هذا الأمر، ولا ندري ما الله صانع بنا فيها، فإذا أنا مت فلا تتبعني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، وامكثوا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها كي أستأنس بكم، وأراجع رسل ربي). هذا حديث عظيم القدر، جليل الشأن، اشتمل على عدة مسائل في العقيدة والأحكام، حديث صاحبه إمام من أئمة المسلمين في زمن النبوة، إنه عمرو بن العاص، صاحب مصر وواليها وفاتحها في العام الحادي والعشرين، وكان يلقب في الجاهلية بداهية العرب، كان سيداً ذكياً مطاعاً مجاهداً شجاعاً، أتى إلى مصر وفتحها سلماً أو حرباً، حتى يأتي كل مصري بعد ذلك إلى يوم القيامة في صحيفة حسنات هذا البطل المجاهد، صاحب واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يدخل بسببه ملايين الناس إلى الجنة، وهكذا كان دأبهم رضي الله تعالى عنهم، فقد باعوا أنفسهم وأموالهم بجنة عرضها السماوات والأرض. هذا البطل لما دخل عليه قومه وأصحابه وهو في لحظة الاحتضار، وفي آخر ساعات حياته قام يبكي؛ لأنه يعلم أنه قادم على الله عز وجل، وراحل عن هذه الدار التي لابد لكل حي أن يرحل عنها. لما رأى منه ذلك ولده عبد الله ذلك الابن البار والعالم النحرير، فقد كان عالماً عابداً ولا يزال طفلاً صغيراً في الثانية عشرة من عمره أثار إعجاب النبي عليه الصلاة والسلام، وإعجاب أصحابه بكثرة عبادته، وبحرصه على طلب العلم وكتابته، لما رأى ذلك من أبيه قال: يا أبت! لم تبكِ؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فقال له: يا بني. انظر إلى الملاطفة والموادعة: الابن يقول لأبيه: يا أبتِ، والرجل يقول لولده: يا بني. ملاطفة وموادعة، ومودة في الخطاب تفتح القلوب، وإنما فعل عبد الله ما قد أوجبه الشرع عليه من تذكير أبيه في هذا الموطن بعمله الصالح، وببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم له، حتى يقدم الوالد على ربه وقد أحسن الظن به، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه). وقال الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) أي: إن

المرحلة الأولى من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة قبل الإسلام

المرحلة الأولى من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة قبل الإسلام قال عمرو: (ولقد رأيتني على أطباق ثلاثة)، أي: على مراحل وحالات ثلاث: المرحلة الأولى والطبق الأول: قال: (لقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: قبل إيمانه وإسلامه، (ولا أحب إلي أني قد استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار). انظر إلى القطع بدخول النار لمن بغض الناس إلى الله، ولمن بغض الناس إلى رسول الله وإلى شرع الله، وانظر إلى حكم من أبغض الله، وأبغض رسول الله، وأبغض شرع الله، وصار يتهكم عليه بالليل والنهار، ويهزأ من أهله، ويسخر بهم، كل ديدنه أنه لا يعجبه الإسلام، وإن تسمى بأسماء المسلمين، فإنه من أهل النار إلا أن يتوب إلى العزيز الغفار، وإلا فكل من استهزأ بدين الله عز وجل وسخر منه ومن أهله وأبنائه، فإنه من أهل النار إلا أن يرجع إلى ربه، ويستغفر الله تعالى مما بدر منه. قال: (ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار). انظروا إلى الربط بين حاله الذي كان يتمثل في البغض القلبي، وعمل الجوارح؛ لأنه قال: (لقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله عليه الصلاة والسلام). والبغض: أمر قلبي. قال: (ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته). هذا عمل من أعمال الجوارح، وهذا الذي يقرر عقيدة أهل الحق: أن الإيمان قول وعمل، قول: باللسان لمن قدر على ذلك، ومن لم يقدر على ذلك فتكفيه الإشارة، أو الكتابة إذا كان يحسنها. ثم العمل عمل الجوارح، وعمل القلب من الصدق والإخلاص والمحبة والتوكل والرجاء وغير ذلك من أعمال القلب، ولابد للقلب إذا آمن أن تنطلق الجوارح فتعبر بما أوجب الله عز وجل عليها، مما وقر في قلب صاحبها من صلاة وصيام وزكاة وحج وسائر الطاعات التي هي من أعمال الجوارح الظاهرة. فالإسلام يكمن في القلب، ويظهر على الجوارح، ولذلك جمع بين هذا وذاك عمرو بن العاص؛ ليقرر ابتداءً في ذلك الزمان عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان، وعمل بالقلب والجنان، ولا يصلح عمل القلب بدون الأركان، كما أن عمل الأركان لا يصلح قط إلا إذا نطق صاحبها بلسانه بكلمة التوحيد، واستقر ذلك في قلبه، ودون ذلك خرط القتاد لا تنفع صاحبها لا في الدنيا ولا في الآخرة، اللهم إلا من نطق بها نفاقاً، فيثبت له حكم الإسلام ظاهراً وهو عند الله كافر. قال: (ولو أني مت على تلك الحال). لم يقل: لظننت أني من أهل النار، أو ربما دخلت النار، وإنما قطع بأنه من أهل النار.

المرحلة الثانية من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة بعد الإسلام

المرحلة الثانية من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة بعد الإسلام قال: (فلما شرح الله صدري للإسلام أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك). نظام البيعة على الإسلام، أو البيعة للنصح لكل مسلم وغير ذلك مما أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم البيعة على أصحابه. طريق ذلك: أن الواحد منهم كان يأتي إليه صلى الله عليه وسلم ويبايعه يداً بيد، وكفاً بكف، ويذكر ما يبايع عليه، فقال: (يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فلما بسط النبي عليه الصلاة والسلام يمينه قبض عمرو بن العاص يمينه ولم يضعها في يمينه عليه الصلاة والسلام قال: ما لك يا عمرو! قال: يا رسول الله! أردت أن أشترط - إذا دخلت الإسلام فلي شرط - قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي). انظروا إلى ذكاء هذا العاقل، وإلى فطنتنه، يريد أن يطمئن على نفسه قبل أن يدخل الإسلام، هل الإسلام يغفر له ما كان منه من بغض النبي عليه الصلاة والسلام وآله وأصحابه أم لا؟ أما إذا كان لا يغفر ذلك له فما قيمة أن يسلم حينئذ، ولذلك بشره النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا عمرو! أما علمت) أي: من أصحابي ومن عموم الرسالة، ومن رحمة الله تعالى، ومن أجواء المسلمين في المدينة أو في مكة (أن الله يغفر لمن أسلم، أما علمت يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما كان قبله). ومعنى: (يهدم) يغفر ويمحو ويزيل كل المعاصي والذنوب السابقة على حياة المرء قبل دخول الإسلام، إذا كنت يا عمرو تعتقد أن الإسلام يجب الكفر ويبطل الكفر، فمن باب أولى أن يهدم ما دون ذلك، ولذلك قال له: (أما علمت) -أي: بعد أن استفاض ذلك في الناس- أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟) فحينئذ قال عمرو بن العاص: فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي، وأجلهم في عيني، وما كنت أطيق أن أنظر إليه إجلالاً ومهابة وتعظيماً، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت ذلك؛ لأني ما كنت أقدر أن أملأ عيني منه عليه الصلاة والسلام. أما علمت أن الإسلام الذي هو الإذعان والخضوع والذل والانكسار بين يدي العزيز الجبار يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن المرء إذا انقاد لله في أمره ونهيه، إذا عمل بالأمر واجتنب النهي أن ذلك يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الإسلام هو الصلاة والصيام والزكاة والحج، والشهادة أولاً؟ أما علمت أن الإسلام هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله، واليوم الآخر، والبعث والحشر والنشر وغير ذلك من سائر أركان وفروع الإيمان بالله؟ أما علمت أن الإسلام هو هذا يا عمرو بن العاص، وأن من التزم به دخل الجنة؛ لأنه يغفر له ما قد كان منه آنفاً؟

هجرة عمرو وبيان أنواع الهجرة في الإسلام وبيان أحكامها

هجرة عمرو وبيان أنواع الهجرة في الإسلام وبيان أحكامها أما علمت أن الهجرة يا عمرو بن العاص تجب ما كان قبلها، وتهدم ما كان قبلها، وتغفر ما كان قبلها؟ والهجرة هجرتان: هجرة ظاهرة، وهجرة باطنة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) أي: لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار إسلام وإيمان، فلا هجرة منها إلى قيام الساعة؛ لأنها لا تكون في يوم من الأيام بلد شرك ولا كفر، إشارة إلى أن مكة وساكنيها بلد إيمان وتوحيد وإسلام إلى قيام الساعة، لا يؤثر فيها كفر ولا شرك بالله تعالى، ولذلك قال: لا هجرة منها. فمن زعم الآن أو بعد الآن الهجرة من مكة بما وقع فيها من شرك أو كفر، فهذا غلو في دين الله عز وجل، ونقض للأدلة بالأهواء والآراء، وهيهات هيهات أن يصح له قول، أو يقبل منه زعم، فإن مكة بلد حرام إلى قيام الساعة، كما أن المدينة كذلك حرم ما بين عير إلى ثور، حرم ما بين لابتيها. لكن الهجرة الظاهرة باقية ما بقيت الدنيا إلى قيام الساعة من بلاد الكفر والشرك إلى بلاد الإيمان والتوحيد والإسلام. الهجرة باقية بقاء الزمن، وبقاء الدهر، فيجب على كل من خشي على دينه في بلد كفر أن يهاجر منها إلى بلاد الإيمان والإسلام، التي يأمن فيها على دينه، ولا يزال قوم يلهجون ويهرفون بما لا يعرفون، يقولون: نهجر بلاد الإسلام والمسلمين إلى بلاد أوروبا وأمريكا؛ لأننا نأمن على ديننا في تلك البلاد! A هذا قول بالهوى، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين ثلاثاً). فإذا فتحت باب الهجرة إلى تلك البلاد التي هي بلاد كفر وشرك وعصيان لله عز وجل، فيحرم على أبناء المسلمين أن يدخلوا هذا الباب لطلب الدنيا، وطلب الدولار والدينار والدرهم فيها، فإن هذا لا يحل لهم بحال. أما من ذهب إلى تلك البلاد ليدعو الناس، وليكون سبباً لإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد والإيمان فحسن، وقد أرسل النبي عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه إلى اليمن وإلى الشام وغيرهما من البلدان يدعون الناس إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام والأوثان، ومن ذهب للدعوة يشترط ألا يستقر، ولا بأس أن يصحب معه زوجته حتى لا يفتن بالجميلات البيضاوات ذوات الشعور الصفراء، والعيون الزرقاء، فتن عظيمة تعرض عليك هناك بالليل والنهار، فينبغي أن تقضي مصلحتك، ثم تفر بدينك منها، تذكر الناس بين الحين والحين بما أوجب الله تبارك وتعالى عليهم، تدعو الناس إلى الدخول في الإسلام، تدعو المسلمين إلى الالتزام بأحكام شرعهم ودينهم. هذا الذي يجب على الدعاة إلى الله عز وجل. أما سائر الناس الذين ذهبوا ليطلبوا الدنيا، فما فيهم من خير قط إلا ما ندر، وإذا ذهبت إلى هناك وجدت أن أصحاب الالتزام أقل واحد منهم قد وقع في كبيرة إلا من رحم الله وقليل ما هم، لم؟ لأنه يحب الدنيا، ويكره الموت، يكره الآخرة ويكره بلاد الإسلام، بلاء عظيم جداً يقع فيه المرء، الهجرة الظاهرة من بلاد الكفر هناك إلى بلاد الإسلام، وبلاد المسلمين، يكفي أنك في بلاد الإسلام تصلي وتصوم، يكفي أنك في بلاد الإسلام تسمع الأذان الذي ربما لا تسمعه في بلاد الكفر أعواماً. ولقد التقينا برجل -وقس عليه آلاف- لم يصل الجمعة منذ سبعة عشر عاماً، أين هذا من الدين؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه). أما يخشى من هذا الوعيد؟ هذه هجرة ظاهرة انقطعت من مكة بفتحها، ولم تنقطع من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان إلى قيام الساعة. جاء عند البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه). وعند أبي داود: (والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه). وعند أحمد في مسنده: (والمهاجر من هجر السيئات). وهذه هي الهجرة الباطنة، ربما تظاهر المرء بترك السيئات إذا اطلع عليه الناس، ويتظاهر بالورع والخشوع والإقبال، وإذا خلا بالله عز وجل انتهك محارمه. فالهجرة الحقيقية أن تصدق في ترك المعاصي وهجران السيئات فيما بينك وبين الله عز وجل، قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا يتكل أصحابه الذين هاجروا مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، لا يتكلوا على الهجرة الظاهرة، وليعلموا أن الهجرة لا تتم وتكمل إلا بهجر الذنوب والمعاصي. أو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك تطييباً لخاطر أصحابه الذين لم يهاجروا من مكة إلى المدينة أو غيرها من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان، أن الهجرة الحقيقية الكاملة التامة هي أن تهجر المعاصي، وأن تهجر الذنوب إذا ما دعاك إلى ذلك الشي

تبشير عمرو بأن الحج يهدم الكبائر والصغائر من الذنوب

تبشير عمرو بأن الحج يهدم الكبائر والصغائر من الذنوب (يا عمرو أما علمت أن الحج يهدم ويغفر ما كان قبله؟) أي: من الذنوب، ولذلك قال أهل العلم: الحج يكفر الصغائر دون الكبائر؛ لأن الكبائر تحتاج إلى توبة، أو إلى دخول في الإسلام على حسب الذنب الذي وقع من ردة، أو كفر أصلي، أو حد من حدود الله وقع فيه فيحتاج إلى توبة، أو إقامة حد، أو دخول في الإسلام، لكن مذهب جماهير العلماء: أن الحج يهدم الكبائر والصغائر، وهذا من رحمة الله عز وجل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق ولم يصخب رجع من حجه كيوم ولدته أمه). والمعلوم يقيناً أن المولود يولد من بطن أمه لا ذنب له، وقد شبهه النبي عليه الصلاة والسلام بالمولود حديث الولادة الذي لا ذنب له، لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه القلم، فأرجح الأقوال: أن الحج يهدم الكبائر والصغائر. والحج مفروض على الفور في أصح الأقوال كالصلاة لا يجوز لك أن تؤخرها، وكذلك الزكاة لا يجوز لك أن تؤخرها، والحج كذلك واجب على الفور لمن استطاع إليه سبيلاً، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحج واجب على التراخي، والصحيح الأول. والإنسان لا يدري حياته من مماته، فيجب عليه أن يعجل بما أوجبه الله تعالى عليه، والاستطاعة لما سئل عنها النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الزاد والراحلة)، أي: زاده في الطريق، وزاد من يعولهم حتى يرجع، وأجرة الطريق الراحلة أو الدابة التي يركبها، وكم من ملايين الناس يملكون ملايين الدينارات والجنيهات وإذا سألته عن الحج اعتذر، وقال: أنا ما حججت إلى الآن، وما ذهبت إلى تلك الديار إلى الآن، لم؟ لشغله الذي لا ينتهي، وإذا سألته عن الشغل قال: الولد، البنت، الزواج، البيت، التجارة، الصناعة وغير ذلك من الأعذار التي لا تنفعه بين يدي العزيز الجبار، متى ملكت الزاد والراحلة وجب عليك الحج، ولذلك يجب على كل من ملك الزاد والراحلة أن يبادر من الآن بإدراك موسم الحج في هذا العام، فإن لم يكن فلا أقل من أن يكون في العام المقبل يسعى إلى ذلك جاهداً، كما يسعى للحصول على مغنم من مغانم الدنيا، فإنه يبذل الطاقة والوسع في سبيل الحصول على دنياه، فلأن يبذل ذلك في سبيل حصول دينه من باب أولى وهو الواجب، وإن فرط في الحصول على دنياه، فربما لا يأثم بذلك، أما إذا فرط في واجب وركن من أركان الإسلام، فلا يدري بعد ذلك ما النتائج، كما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، منهم عمر: من ملك الزاد والراحلة فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً. وكان إذا أرسل عاملاً له على قرية أو مدينة قال: ومن ملك الزاد والراحلة فلم يحج فاقتله. فحمل بعض أهل العلم ذلك على الزجر الشديد، وحمل البعض الآخر ذلك على ظاهره، أي: أنه يستتاب ثلاثاً فإن تاب وبادر بهذه الطاعة، وإلا قتله الوالي بأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه. الحج يجب ما كان قبله، وهو من أبر وأفضل الأعمال، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور). وفي رواية: قدم عليه الجهاد، قال: (الجهاد في سبيل الله. قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور) والحج المبرور: أي: الذي لا إثم فيه، لا فسوق ولا جدال ولا رفث ولا صخب يؤثر على الحج المبرور، ويجعله غير مبرور. فإذا حج الإنسان حجاً مبروراً غفر له ما تقدم من ذنبه من الكبائر والصغائر. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر). و (ما) هنا شرطية، وإذا تحقق الشرط تحقق المشروط، ولذلك ذهب أهل العلم إلى أن العمرة إلى العمرة، والوضوء إلى الوضوء، والصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، وسائر ما ورد في النصوص التي تكفر ما بينهما، تكفر بشرط إذا اجتنبت الكبائر. كأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: هذه الأعمال وهذه الطاعات تكفر الصغائر إذا اجتنب صاحبها الكبائر. ومذهب آخر يقول: إن هذه الأعمال تكفر الصغائر مطلقاً إذا اجتنب صاحبها الكبائر أو لا، فكأن السياق والتقدير: هذه الأعمال تكفر صغائر الذنوب دون الكبائر: (ما اجتنبت الكبائر) أي: دون الكبائر. واعتبروا أن (ما) زائدة، وليست شرطية، وهكذا اختلاف أهل العلم رحمة، فمنه ما كان تهديداً، ومنه ما كان بشارة. فأما التهديد فيدفع العاصي ليقف عن غيه وطغيانه وتعديه الحد، وأما الطائع فإنما تنفعه البشارة. وقد درج أهل العلم قديماً وحديثاً على أن الأمة إذا أخذت بالعزائم وسقط أحدها في رزية أو معصية بشروه؛ لأنه من أهل الطاعة ابتداءً، وإذا فرطت الأمة في دينها -خاصة في هذه الأزمان- فينبغي أن تؤخذ بالعزائم والتهديد والوعيد الوارد في الكتاب والسنة. أسأل الله تعالى أن يغفر لي ولكم، وأن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

تتابع مواسم الطاعات في الإسلام

تتابع مواسم الطاعات في الإسلام الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فلا تزال رحمات الله تعالى تنزل على هذه الأمة بالليل والنهار، فكلما انتهت عبادة بدأت أخرى بعدها، وكلما ذهب فرض دخل المسلم في الذي يليه، ولذلك سرعان ما انقضى رمضان، ولن ينتهي الصيام بل لا يزال الناس تهفوا قلوبهم إليه بصيام النوافل الذي هو شبيه برمضان. إن المرء إذا صام الإثنين والخميس، أو الأيام البيض، فلا يزال المرء يشعر أنه متعلق بالله، موصول برحمة الله، وهكذا إذا انتهى رمضان دخل الناس في عبادة أخرى وهي الحج، وهكذا نفحات الله تبارك وتعالى، نفحات ربانية تنزل بالأمة بالليل والنهار، ولولا هذه النفحات ما طاقت الأمة يوماً واحداً على ظهر هذه الأرض؛ فإن الكل يعيش ويحيا برحمة الله عز وجل وفضله، ولذلك شرع الإسلام لنا بعد الفراغ من العبادات عبادات أخرى، قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199]. فشرع لنا الاستغفار بعد طواف الإفاضة، مع أن الحج كان قبل طواف الإفاضة وهو الوقوف بعرفة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة). ومع هذا فقد بشرنا الشرع بأن من وقف بعرفة تم حجه، وغفر ذنبه، ومع هذا أمرنا بالاستغفار. وقال الله عز وجل بعد هذه الصلاة التي تصلونها: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]. فلست حراً في أن تنطلق من هذا الباب لتفعل ما يحلو لك، بل إذا خرجت من هذا المسجد فاعلم أنك في عبادة أخرى وهي ذكر الله تعالى. إن الإسلام لم يدع لحظة في حياة المسلم إلا وحكمها وقضى عليها، إما بصلاة أو صيام أو زكاة، أو حج أو ذكر أو استغفار، أو أمر بالمعروف، أو نهي عن المنكر، ما ترك الإسلام لك حرية قط أن تفعل ما تشاء، إلا ما كان طاعة لله عز وجل. النبي عليه الصلاة والسلام شرع لنا بعد الفراغ من الصلاة أن نقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فأنت في ذكر وعبادة في قومتك ونومتك ومماتك، كما قال الخليل إبراهيم عليه السلام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ليس له منها شيء، وإنما كلها لله عز وجل حتى الممات لله عز وجل. ولذلك أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون كأبيه إبراهيم فقال له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. أنت يا محمد مطلوب منك العبادة في كل وقت وحين حتى تلقى الله عز وجل، حتى آخر نفس في حياتك، وهذا الذي كان منه عليه الصلاة والسلام. أما تذكرون أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج بعد أن استخلف أبا بكر يجر إزاره حتى وقف عن شمال أبي بكر فائتم به الصديق، وائتم المسلمون بـ الصديق، خلافاً لما يزعمه الصوفية الذين فقدوا عقولهم، وفقدوا ديانتهم: اليقين في الآية درجة ومنزلة إيمانية إذا بلغها العبد سقطت عند التكاليف الشرعية، فلم لم تسقط عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ هل نقول: إنه لم يبلغ هذه المرتبة التي يزعمها مخرفو الصوفية؟! اتهام لجناب النبي عليه الصلاة والسلام، بل اتهام لجميع الأنبياء والمرسلين، وقول بالباطل في كتاب الله عز وجل. وقال العبد الصالح: {?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31]. مطلوب مني العبادة ما دمت حياً، أي: طوال حياتي، (وأوصاني) أي: وأمرني: (بالصلاة والزكاة ما دمت حياً) وغير ذلك من سير الأنبياء والصالحين فيها أنهم كانوا يعبدون الله في كل وقت وحين، حتى لقوا ربهم تبارك وتعالى. وهكذا ينبغي إذا كان رمضان قد انقضى ألا تنقطع صلتك بالله عز وجل، وألا تقطع حبل الطاعة والاعتصام بالله تعالى، لا ينقطع منك هذا، فإذا انقطع فقد انقطعت صلتك بالله، وأنت لا تستغني عن الله طرفة عين، أو أقل من ذلك، والله تعالى غني عن عباده وعن عبادتهم، فلا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم إنما ذلك لك أو عليك، وليختر العاقل لنفسه ما يبيض وجهه أو يسوده يوم القيامة.

المرحلة الثالثة من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة الإمارة والولاية والفتوح والفتن

المرحلة الثالثة من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة الإمارة والولاية والفتوح والفتن قال عمرو بن العاص في المرحلة الثالثة: (ثم ولينا أشياء) أي: من الإمارة والفتوح، أو الفتن التي وقعت في زمن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يدري أمحسن هو فيها أم مسيء؟ أمخطئ فيها أم مصيب؟ قال: (ولا ندري ماذا يصنع بنا؟ قال: فإذا أنا مت فلا تتبعني نائحة ولا نار). أما النار فهي من شعار أهل الجاهلية، كانوا يفتخرون بذلك إذا مات لهم ميت يتبعونه بنار، وإن كان ذلك في رابعة النهار، فنهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمرو بن العاص: ولا تتبعني نائحة، وهي التي تنوح وتضرب بالصوت خلف الميت. وفي صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والأنواء -أن يقال: مطرنا بنوء كذا- والنياحة، وإن النائحة إذا لم تتب قبل يوم القيامة أقيمت وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب). والأمة الآن تستأجر النائحات، وجعلت النياحة باباً من أبواب الكرم والضيافة، ترى المرأة إذا أتت لبيت الميت تأتي وهي تضحك وتلعب وتلهو في طريقها، فإذا ما اقتربت من بيت الميت ناحت على الميت وندبت، وفعلت ما كان من أمر الجاهلية، ثم إذا انطلقت راجعة إلى بيت أهلها رجعت بغير تأثر ولا حزن قلبي؛ لأنها مستأجرة، ولذلك قال العرب: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة. المكلومة المجروحة هي صاحبة الهم حقيقة، أما من أتت لتساعد هذه المرأة، أو لتكرمها أو لترد لها الواجب إذا حل بها ما قد حل بأختها، فإن هذا ليس من دين الله، بل هو كبيرة من الكبائر إذا لم تتب النائحة، وما أكثر النائحات في هذا الزمان، ثم في يوم القيامة تُلبس سربالاً من قطران، ويكون عليها درع من جرب، أي عقوبة بعد هذا؟ ثم قال عمرو بن العاص: (فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً). أي: أهيلوا علي التراب، وصبوا علي التراب صباً، وهذه سنة كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا، والشق لغيرنا). حتى في القبر ميز النبي عليه الصلاة والسلام بين قبر المسلم وقبر الكافر، فجعل لأهل الإسلام اللحد، وجعل لغيرهم الشق؛ لأنه من عادتهم. ثم قال: (وامكثوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه)، أي: وقتاً يتسع لذبح بعير وتقسيم لحمه. والناس الآن إذا ألقوا الميت في القبر انطلقوا مسرعين كما ينطلقون من بيوت الله بعد صلاة الجمعة، وقبل أن يقرءوا الأذكار، ينطلقون من مواطن العبادة، ومواطن الرحمات والمغفرة، كما لو كان الصحابة رضي الله عنهم في بيوت المعصية، الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفرون من مواطن الشهوات فرارنا نحن من دور العبادات، ومواطن المغفرات والرحمات، ولذلك شتان ما بيننا وبين سالف هذه الأمة، وإن الأمة لا ترجع إلى عزها وشرفها وسيادتها إلا إذا رجعت إلى ما كانت عليه أولاً، كما قال مالك وغيره: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. أي: إلا بما كان عليه سلفها. قال: (وامكثوا عند قبري مقدار ما ينحر جزور ويقسم لحمه). وهذا المكث ينشغل كل واحد ممن شيع الجنازة بالدعاء للميت بالتثبيت، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما دفن جعفر بن أبي طالب: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل) ولم يدع عليه الصلاة والسلام ليؤمن أصحابه، ولو كان ذاك مشروعاً لكان أولى الناس بالدعاء، وهو الدعاء المجاب يقيناً منه عليه الصلاة والسلام، ولكنه عليه الصلاة والسلام إنما أمر أصحابه أن يدعو كل واحد بما تيسر له، بطريقته الخاصة، يدعو حتى لا يحرمهم من الدعاء، وربما أصابت دعوة ووافقت إخلاصاً في قلب الداعي انتفع بها الميت، وثبت حين السؤال. أما ما يفعله الناس اليوم من إقامة من يدعو وهم يؤمنون فهذا مخالف للسنة، ولا يلزم أن يكون في كل تشييع جنازة موعظة يسيرة يذكر الناس بخطورة هذا الموقف، وأن الكل قادم عليه لا محالة، حتى يذكروا العصاة، وما أكثر ما يشيع العصاة الجنائز من باب أداء الواجب! فربما أصابت الموعظة قلب واحد أو أكثر فرجع وتاب إلى الله عز وجل وقام وصلى. لو أن واحداً الآن نصلي عليه بعد الجمعة لوجدت أن أولياءه وأقرباءه وجيرانه يقفون خارج المسجد لا يصلون الجمعة، ومن باب أولى فإنهم لا يصلون عليهم جنازة، (أفندية) لا دين لهم، ولا خلق لهم، وهم أحوج الناس إلى مثل هذه الصلاة إذا ماتوا، ولا يدرون أنه من جنس عملهم يسلط عليهم، ويكون لهم بشرى، فإذا قدموا طاعة وصلوا على الميت أجرى الله تبارك وتعالى وطوع لهم قلوب العباد ليصلوا عليهم إذا ماتوا، وإذا كان هذا موقفهم، فلا يبعد أن يصرف الله تعالى قلوب العباد عن الصلاة عليهم، وأنتم تعلمون أن الميت ينتفع بصلاة الموحدين. النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من ميت يصلي عليه أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من أمة تبلغ مائة يصلون على ميت إلا كانوا له شفعاء يوم القيامة). قال

الطلاق شريعة محكمة

الطلاق شريعة محكمة الأسرة هي النواة الأولى لبناء المجتمع، إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع؛ ولذا فقد أحاط الإسلام الأسرة بهالة من النصوص المحكمة التي تنظم جوانبها، من بداية اختيار الزوجة وحتى تربية الأطفال وتنشئتهم، مبيناً حق كل واحد من الزوجين على الآخر، ومرشداً إلى المحافظة على البيت المسلم من كل سوء ومكروه.

التفكك في الأسر الكافرة

التفكك في الأسر الكافرة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فيقول الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]. بين الله عز وجل في هاتين الآيتين بياناً شافياً: أنه لا يمكن أن يكون رضاً قط بين ملة الإيمان وملل الكفر على حد سواء، وأنهم لا يمكن قط أن يرضوا عنا إلا أن نترك ما نحن عليه من إيمان وشرع، وأن ننحاز وندخل فيما هم عليه من كفر حتى نكون نحن وإياهم سواء، حينئذ يحصل الرضا، وهو أيضاً رضاً ظاهر، لقول الله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، فهم قد رضي بعضهم عن بعض في الظاهر، وأما في الباطن فهم متفرقون متشرذمون، هذا البغض والحقد الدفين يظهر أثره بين الحين والحين متمثلاً شبهات في العقيدة، وشبهات في الشريعة، وشبهات فيما يتعلق بجوانب الحياة كلها. لما فسدت أسر اليهود والنصارى، ولم يكن بينهم ترابط أسري ولا اجتماعي، أصبح يزج الولد بوالده أو بأمه في بيت يسمى بيت العجزة، وهذا البيت يوجد في كل حي من أحياء بلاد أوروبا وأمريكا، إذا كبر الوالد أو الوالدة حمله ولده فزج به في غياهب هذه الديار المظلمة. وفي سنة (79) سألت رجلاً في هذا البيت من بيوت ميلانو في إيطاليا، قلت: ما الذي أتى بك إلى هنا؟ قال: ولدي. قلت: ولم؟ قال: لأن دوري قد انتهى. قلت: وكيف انتهى؟ قال: كبر سني، ورق عظمي، ولا فائدة مني! هكذا قال. قلت: أما نحن معاشر المؤمنين فإن دورك عندنا لا ينتهي إلا بدخولك القبر، وربما يكون لك دور بعد الموت، فقال: كيف؟ قلت: أخرج البخاري ومسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؛ بدعائهم وصلاتهم)، وكان بيننا من يترجم ترجمة جيدة، صاحب رسالة كما أنه صاحب لسان، فبكى الرجل طويلاً ثم أسلم، وصلى معنا ثلاثة أيام ثم قبض، ففرحت بذلك فرحاً شديداً بعد أن وفقني ربي أن أبين له أننا لا يهنأ لنا بال حين ننزل إلى أعمالنا في الصباح حتى نتوجه إلى آبائنا، وأجدادنا، وأمهاتنا، وجداتنا فنلتمس منهم الدعوات الصالحات، وأن هذا هو خير يوم يطلع علينا أن يرضى آباؤنا وأمهاتنا عنا، أما أنتم فإن أبناءكم الذين هم من أصلابكم ليس يربطكم بهم أدنى علاقة، هذا الفارق بين الإيمان والكفر، وبين الإسلام وغيره كاليهودية والنصرانية، وهو مظهر ومعلم حسن من معالم الإسلام. ولذلك الواحد من أهل ملل الكفر إنما يؤوي ولده ذكراً كان أم أنثى حتى إذا بلغت البنت اثني عشر عاماً، والولد خمسة عشر عاماً، فإذا بلغ الولد منهم هذا المبلغ من العمر فرض عليه أن يأتي بطعامه، وشرابه، وأجرة سكنه، مما يجعل الولد يذهب فينحرف، ويجعل الأنثى في هذه السن المبكرة تذهب لتطلب معاشها بفرجها، وأما نحن في الإسلام فإن الأب والأم يبذلان النفيس والغالي في سبيل الحفاظ على الأولاد حتى يستقلوا بأزواجهم وبيوتهم، الواحد منا عنده عزم أكيد على الإنفاق على ابنته حتى تنتقل إلى بيت الزوجية، وإن بلغت من العمر أربعين أو خمسين سنة، ولا يطالبن قط بالمساهمة في الإنفاق بالبيت، إلا أن يكون إنساناً لم يبلغ من العلم مبلغاً وليست لديه روح الإسلام، فهو شريك في بعض الشيء مما يأتي به أهل الكفر من المنكرات والفواحش، وهذا قليل جداً في الأمة، أما عامة الأمة وإن لم يكن لهم حظ من العلم الشرعي إلا أنهم يأبون إباء شديداً أن تخرج بناتهم وأزواجهم إلى ميادين العمل، أو أن يتسكعوا في الشوارع للقاء الشباب والمخنثين وغيرهم لأجل أن يأ

الأسرة المسلمة نواة المجتمع والدولة

الأسرة المسلمة نواة المجتمع والدولة بالعودة إلى أصل موضوعنا فإننا نجد في كتاب الله عز وجل آيات عظيمة، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث صحيحة هي في الكثرة بمكان تأمر ببناء الأسرة المؤمنة التي تنبني أسسها وقواعدها على تقوى من الله عز وجل، كل فيها راع وكل فيها مسئول عن رعيته، كل فيها له حقوق عند الآخرين، وكل عليه واجبات نحو الآخرين، فمن مجموع هذه الأسر تتكون الدولة أو الدويلة، ومن مجموع هذه الدول يتكون المجتمع الإسلامي بأسره، وهذه الحقوق الخاصة في داخل الأسرة هي تلك الحقوق العامة تجاه كل بلد مع البلد الآخر، وتجاه كل مجتمع مسلم مع المجتمع الآخر، فإذا أدت كل دولة ما عليها من حقوق وواجبات في طريق بناء المجتمع الإسلامي الأعظم المنشود؛ سيكون لنا حينئذ يمكن أن نعقد الأمل في بناء دولة الإسلام في أرض الله عز وجل. إذاً: الدولة الإسلامية الأولى المنشودة إنما أساسها وأصلها الأسرة بأفرادها القلائل، هذه الأسرة لم يترك لنا الشرع أن نتخير خطوطها وأصولها وفروعها، بل حدد لنا كل شيء، حتى تبنى الدولة على أسس إلهية لا على أهواء شخصية. ولذلك دخل الشرع أول ما دخل في كيفية اختيار الزوجة، وبين الغرض المنشود من لقاء الرجل بالمرأة، وأنه ليس علاقة جسدية، بل هذه أدنى أغراض الزواج, وأما أعلى أغراض الزواج فهي تكوين المجتمع الإسلامي المتحضر الذي يتعامل مع كتاب الله وسنة رسول عليه الصلاة والسلام بقلب تقي مؤمن موحد، وأما اليهود والنصارى فأعرضوا عن شرع الله عز وجل وبدلوه وغيروه، ولذلك لم ولن يفلحوا قط: (ما أفلح قوم قط ولوا أمرهم امرأة) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري من طريق أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه. ولذلك لو نظرت إلى البيت لو تزعمت فيه المرأة وصارت الكلمة كلمتها والأمر أمرها والنهي نهيها لابد أن تنقلب الأسرة رأساً على عقب؛ لأن هذا الوضع صادم النص، ولابد أن تعلم يقيناً أن هذا النص ما أتى إلا ليبين أصل الفطرة، وأصل الفطرة قد قرره الله تعالى في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، حين انعدمت قوامة الرجل على بيته انعدم واختل توازن الرجل كلياً في الحياة العملية في الاجتماع، والسياسة، والأخلاق، والآداب؛ لأنه انهزم نفسياً في داخل بيته، فلابد أن تكون الهزيمة إليه في خارج بيته أسرع، يتصرف تصرفاً لا يليق من جهة الأدب، ولا الخلق، ولا الديانة، ولذلك الذي يهزم في بيته لابد أن تجد عليه انحرافاً في المسلك، والأخلاق، والآداب في خارج بيته، يحاول جاهداً أن يثبت زعامته، وقوامته المكذوبة على غيره ممن تولى سلطانهم رغماً عنهم لو قدر له أن يكون كذلك، كضابط -مثلاً- فقد هيمنته وسيطرته في بيته فيخرج على جنوده بالبلاء الأعظم إثباتاً لرجولته؛ لأنه يشعر من داخل نفسه أنه قد انهزم في بيته، وكذلك الزعماء، والرؤساء، والقادة، ورؤساء مجالس الإدارة وغيرها من هذه المناصب المرموقة، أما إنسان يتعامل معاملة سوية فهذه إشارة إلى أنه حكيم في بيته، ولا تزال القوامة في يده. وحدد الله عز وجل أصل النكاح في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فأصل النكاح مودة ورحمة بين الرجل والمرأة، لا علاقة جسدية، بل أسمى من ذلك، ولذلك إذا فقدت الأسرة هذه المودة وهذه الرحمة فلك أن تتصور كيف تحيا هذه الأسرة حياة كلها ضنك وشتات وتشريد لأذهان القائمين عليها، كما أنها لا تثمر الثمار الحية في تربية أبنائها وأطفالها، ولذلك حدد الإسلام المعالم الأخلاقية، والقيم الوجدانية الوثيقة الصلة بالإيمان في هذه الآية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه، فالحياة الزوجية ليست علاقة رجل بامرأة فحسب، إنما هي أكبر من ذلك.

مسئوليات الأسرة المسلمة

مسئوليات الأسرة المسلمة الحياة الزوجية لابد أن تبنى على أسس دينية أخلاقية، والمسئولية في هذا البيت تقع على كل أفراده، ولذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته) مسئول عن زوجه، وبناته، وأولاده، ومسئول عن أبيه وأمه في كبرهما، ومسئول عن أشقائه الذين أقعدتهم الأمراض والعلل عن الكسب إن كان قادراً ومن أصحاب الأموال. وكذلك (المرأة راعية ومسئولة في بيت زوجها) وهي مسئولة عن ذلك بين يدي الله عز وجل، والولد كذلك راع لأبيه وأمه من جهة البر، والصلة، وتمام الود والحب، ودفع كلمة (أف) التي هي أقل ما يمكن أن يتأذى به الأب والأم، ولذلك قرن الله عز وجل بر الوالدين بالتوحيد والعبادة فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، أي: وأمر بالإحسان إلى الوالدين كما أمر بعبادته وحده؛ فمن لم يحسن إلى والديه فكأنه ما عبد الله حق العبادة؛ لأن من تمام العبادة لله عز وجل امتثال الأمر واجتناب النهي، وقد أمرك أن تعبده بالإحسان إلى الوالدين، فإذا تركت هذا فما عبدت الله على الحقيقة، وانظر إلى اقتران الأمرين في آية واحدة وفي نسق واحد. ترتيب الرعاية على كل أفراد المجتمع الإسلامي أمر حتمي لازم، فالحقوق والواجبات على كل من الزوجين، ولك أن تتصور لو أن الله تعالى رتب حقوقاً للزوجة ولم يرتب عليها واجبات، ماذا كان سيكون حالها؟ وكذلك في جانب الزوج، لو أن الله جعل له حقوقاً ولم يجعل عليه واجبات، لابد أن يختل ناموس الحياة بأسره؛ لأنه لا يسود إلا بسوق الحقوق إليه، وأخذ الواجبات التي عليه، ولذلك رتب الإسلام في ذمة الرجل حقوقاً، وكذلك للرجل في ذمة المرأة حقوق، وقابل ذلك بالواجبات، فإذا أدى الرجل ما عليه لابد أن يأخذ ما له، وإذا أدت المرأة ما عليها لابد أن تأخذ ما لها بالإحسان وطيب العشرة، لا أن يتعامل الزوجان مع بعضهما بلغة افعل وافعل، أو: إن فعلت سأفعل، والله تبارك وتعالى بين أن درجة الفضل أعظم بكثير من درجة العدل في قوله: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، أي: حين وقوع الشقاق والخلاف وما يمكن أن يترتب عليه من اضطراب قال: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237].

محافظة الإسلام على الأسرة

محافظة الإسلام على الأسرة حافظ الإسلام كل الحفاظ على قيام الأسرة، وألا يشوبها أدنى شائبة، ولذلك حرم النبي عليه الصلاة والسلام اختلاط الرجال بالنساء؛ لأن اختلاط الرجال بالنساء ينتج عنه نظرة، ثم ابتسامة، ثم ضحكة عريضة توقع المرأة الضعيفة في حبائل الشيطان، فحرم الإسلام الاختلاط مخافة أن يؤدي إلى الفاحشة البينة التي يترتب عليها خراب البيت وفساده واختلاط الأنساب باختلاط المياه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يسقي أحدكم ماءه زرع غيره) أي: لا يزني أحدكم بامرأة أجنبية. هذا المراد من الحديث؛ لأن الزنا مغبته عظيمة، أتدرون أن أعظم مغبة للزنا بعد غضب الله تبارك وتعالى التفكك الأسري وبالتالي تفكك المجتمعات. في مجتمعات أوروبا وأمريكا نسبة تزيد عن 70% لا يعرفون لهم أباً ولا أماً، ولو أن بيننا الآن رجل لا يعرف أباه فهي الحياة البئيسة البغيضة بعينها، فتصور أن مجتمعاً تبلغ فيه نسبة اختلاط المياه بسبب الزنا وغير ذلك 70%، كيف يكون هذا المجتمع؟ مجتمع منحل لا تربطه عقيدة، ولا تربطه مودة ولا إخاء ولا محبة، ولا صلة، ولا أي معنى من هذه المعاني الإسلامية التي أكرمنا الله عز وجل بها، فهي نعمة عظيمة جداً تستحق الشكر كما بين النبي عليه الصلاة والسلام، وكل هذا في سبيل الحفاظ على الأسرة كريمة عزيزة مصونة. قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطرقوا النساء ليلاً) حتى الزوج إذا كان في سفر ولا يعلم وقت مجيئه يمنع أن يطرق بابه ليلاً؛ حتى لا يجد ما يكره، أو لتستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، أي: تتجمل لزوجها، وتحلق ما يسن لها حلقه من الإبط والعانة، وتتجمل بأحسن الزينة لزوجها، وتتطيب فتلقى زوجها في أحسن زينتها؛ لأن زوجها يجب ألا يقع أنفه، ولا سمعه، ولا بصره من امرأته إلا على ما يحب، أما لو فاجأ الرجل امرأته من سفر طويل بعيد فربما رأى ما يكره فأحدث ذلك نفرة بينه وبين زوجه قد تؤدي في نهاية الأمر إلى الطلاق والفراق وخراب البيت وتشريد الأولاد، ويكون ذلك بسبب ترك سنة يراها الناس يسيرة. أما الصحابة فلم يكونوا كذلك، إنما كانوا يأخذون أمره عليه الصلاة والسلام مهما دق أو جم كأعظم ما يكون الأمر بالنظر إلى قدر وعلو الآمر لا بالنظر إلى مجرد الأخذ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، وخبب بمعنى: أفسد امرأة على زوجها، وأنتم تعلمون أنه قد استشرى في مجتمعات المسلمين أن الجار يمازح جارته، ويلاطفها، وهو مع زوجته من أعبس الناس، وهذه الجارة من أعبس النساء كذلك مع زوجها، ولكنها تتلطف وتضحك الضحكات العريضة لتوقع الجار بحبائلها، في الوقت نفسه زوج هذه المرأة يلاطف زوجة ذلك الرجل، فكأن هذه المرأة تزوجت جارها، وكأن هذه الجارة تزوجت جارها، فكل يميل إلى أخرى بالحرام، كما أن كل أخرى تميل إلى آخر في الحرام، وبذلك يفسد المجتمع بسبب كلمة، ولذلك نهى سلفنا رضي الله عنهم أن يلاطف الواحد منا طفلاً وأمه تنظر إليه، انظر إلى هذه الدقة من نظر علمائنا البعيد إلى صلاح القلوب وترك الأهواء، تصور لو أنك أخذت طفلاً رضيعاً فمازحته ولاطفته وقبلته وأمه تنظر إليك ماذا سيقع في قلبها؟ لن يقع إلا الحب، والميل لك، وبالتالي تقارن المرأة بينك وبين زوجها الذي ربما لا يقبلها، أو لا يروق له أن يقبلها أو يقبل حتى ولده، فتقول: إن فلاناً كان يفعل كذا وكذا بولدك وأنت حتى لا تفعل، وكلمة من هنا وكلمة من هناك حتى يقع المحظور ويخرب البيت، ولذلك حرص الإسلام دائماً على أن يبقى البيت المسلم بكماله وتمامه في العز والسرور والهناء والسعادة، وأنكر كل شيء ممكن أن يعكر عليه. الإسلام نهى عن الشذوذ، ونهى عن اللواط بين الذكور، ونهى عن السحاق بين النساء، ونهى عن الاستمناء للرجال والنساء سواء؛ لأن هذا أمر سرعان ما يخل بالبيت المسلم، ولذلك كثير من الشاب الآن يتوجه في أول ليلة له بهذا Q يا شيخ! أنا إلى الآن ما قارفت امرأتي ولا أستطيع، فإني أشتهيها وأنا بعيد عنها، فإذا قربت منها انطفأت نار الشهوة عندي. كل هذا بسبب الاستمناء أو المخالفات الشرعية قبل الزواج. وخراب بيت إذا ضم إلى خراب بيت آخر وثالث ورابع وعاشر، ومئات، وآلاف، فبخراب هذه البيوت يخرب المجتمع بأسره، فانظر إلى أي مدى حرص الإسلام كل الحرص على صلاح البيت حتى يصلح بالتالي من مجموع هذه البيوت المجتمع المرجو.

الزواج في الإسلام

الزواج في الإسلام الحياة الزوجية تبدأ بتوجيه نظر الزوج والزوجة بحسن الاختيار، والأمر بالنظر إلى الخاطب والمخطوبة سواء بسواء، وبعض الإخوة يتصور أن المطلوب من جهة النظر: النظر إلى المرأة، وهذه نظرة قاصرة، فللمرأة الحق في النظر إلى الرجل الذي تقدم لخطبتها، فإن راق لها وقبلته كان لها أن تعلن عن القبول. إن كانت المرأة ثيباً فتستأذن وتوافق هي، وإن كانت بكراً واستؤذنت فسكتت فذلك إذنها؛ لأن حياءها يمنعها من الكلام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الثيب تستأمر، والبكر تستأذن، قيل: يا رسول الله! كيف إذنها؟ قال: صماتها أو سكوتها)؛ لأن البكر حيية ليس لها معرفة بأحوال الرجال، فهي إذا استؤذنت ضحكت، أو سكتت حياء، أو عرقت، أو خجلت، أو انصرفت عن موطن السؤال، أما إذا قالت: لا، لا أريده، فلا يجوز قط لوليها أن يزوجها مع رفضها إذا كانت بالغة عاقلة، أما إذا كانت قاصرة فيزوجها وليها من رجل كفء ولو بغير إذنها، وحتى إن رفضت، كما تزوج النبي عليه الصلاة والسلام عائشة وعمرها ستة أعوام، وبنى بها النبي عليه الصلاة والسلام وعمرها تسعة أعوام، وذلك بغير إذنها؛ لأنها لم تبلغ. ولذلك يقول العلماء: الولاية على النكاح ولايتان: ولاية إجبار، وولاية اختيار، أما ولاية الاختيار فهي أن يستأذن الوالد أو الولي البنت البالغة، العاقلة، الراشدة، فإن أبت فيحرم عليه أن ينكحها، وإن سكتت أنكحها؛ لأن السكوت إذن، أما ولاية الإجبار فتثبت للأب خاصة؛ لأن الأب أحرص الناس على سوق الخير إلى ابنته؛ فإن تقدم لها الكفء الذي يرفع رأس الأسرة في السماء؛ فإنه حينئذ يحملها على النكاح منه ولا حرج عليه.

قوامة الرجل على المرأة

قوامة الرجل على المرأة لو فرضنا أن البيت المسلم قام وأسس على تقوى من الله عز وجل؛ فلابد أن تبدأ مهمة كل أحد في بذل ما أوجب الله تعالى عليه، وأخذ حق كل واحد منهما من الآخر من هذه الحقوق الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله. حق القوامة للرجل، كما قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، وهذه الدرجة التي يعلو بها الرجال على النساء لها أسباب. منها: ما خص الله عز وجل به الرجال دون النساء من ضبط الأمر، وحزم القيادة، والقيام على مصالح ورعاية البيت من زوجة وأولاد، ومعاملة مع سائر أنواع من يمكن أن يتعامل معهم من سائر أفراد المجتمع، فالرجل مؤهل بالفطرة أن يقوم بهذا الدور، أما المرأة فليست كذلك، واستحق بهذا أن يكون قيماً عليها، أو قائماً على أمرها وشئونها. السبب الثاني: أنه المسئول عن الإنفاق وليست المرأة، فأي مخالفة لهذه الفطرة ولهذه النصوص الشرعية إنما هي مخالفة في أصل الإيمان، ولذلك لو أن المرأة نشزت من يؤدبها؟ ولماذا يؤدبها؟ وكيف يؤدبها؟ هذا أسئلة كثيرة جداً لابد أن تكون أجوبتها في الأفهام.

حقوق الزوج

حقوق الزوج أما عن حقوق الزوج: فإن المرأة لا تصوم النافلة وزوجها حاضر إلا بإذنه؛ لأن حق الزوج مقدم في النافلة على حق الله عز وجل، خاصة فيما يتعلق بصيام الزوجات وأزواجهن شباب، فالشاب يحتاج إلى امرأته في الليل أو في النهار، فإذا وجدها صائمة دخل قلبه الحزن والهم لحاجته إليها، خاصة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وقع نظر أحدكم على امرأة فأعجبته فليأت امرأته؛ فإن معها مثل الذي معها)، يعني: عندها الذي عند هذه المرأة الأجنبية، فاقض وطرك وحاجتك مع امرأتك، وهذا لا يكون إلا في النهار. ومن الحقوق: ألا تأذن لأحد من محارمها أو محارمه بدخول بيته إلا برضا منه؛ لأنه لا يجوز أن تأذن للأجانب في غيبة من زوجها حتى وإن أذن. ومن الحقوق: ألا تأبى عليه الفراش إذا دعاها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أيما رجل دعا امرأته إلى الفراش فأبت عليه فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح، وأيما امرأة باتت هاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، فاللعنة تلحقها في كل الأحوال ما دام زوجها يغضب عليها وعلى سلوكها، وأخلاقها، وإبائها، ونشوزها، فإنها في خطر عظيم جداً، لكن لا يهرب من هذا الخطر ويقبل على الجنان إلا امرأة آمنت بالله ورسوله، التي أمرت أنت بها أولاً في اختيار تأسيس الحياة والبيت. ومن الحقوق: ألا تطلب المرأة الطلاق من زوجها في غير ما بأس، فإذا وجد السبب فلا بأس أن تطلب الطلاق، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة قالت لزوجها: طلقني من غير ما بأس فالجنة عليها حرام)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة طلبت الطلاق من زوجها من غير ما بأس فإنها لا تريح رائحة الجنة)، وقد تتابعت نسوة في طلب الخلع، حتى صار الخلع لقمة سائغة في أفواه النساء، وإن التي تطالب بالخلع من غير ما بأس من رائدتها؟ أهي حفصة، أم عائشة، أم جويرية، أم زينب بنت جحش؟ أبداً والله، رائدتها فريدة الناقش، ونوال السعداوي، وغيرهن من النسوة اللاتي نعرفهن بالنفاق والإلحاد، بل بالكفر البواح ومعاداة الإسلام في أصوله وفروعه، فإن المرأة التي تطالب بالخلع إذا لم يكن لها مسوغ شرعي في هذا فلابد أن تعلم أنها لابد أن تحشر حتماً مع نوال السعداوي، وفريدة الناقش وهؤلاء المشبوهات، ولتفعل المرأة ما تشاء.

حقوق الزوجة

حقوق الزوجة أما عن الحقوق التي تترتب على الزوجين فإن أول حق بينهما هو حسن العشرة، ولذلك قال الله تعالى بصيغة الأمر الذي يفيد الوجوب ولا صارف له، قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} [النساء:19]، والأمر وإن كان موجهاً إلى الرجال خاصة إلا أنه لا يمنع أن يوجه إلى النساء كذلك؛ لأنه لا يتصور أن الله عز وجل أمر الرجال بحسن العشرة، وجعل للنسوة سوء العشرة، لا. بل هناك نصوص أخرى بينت للمرأة ما لها وما عليها، ولذلك قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، فهي حقوق وواجبات لابد من الوفاء بها في الجانبين، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ولذلك بين النبي عليه الصلاة والسلام المراد من هذا النص فيما أخرجه مسلم أنه قال عليه الصلاة والسلام: (لا يفرك مؤمن مؤمنة)، يفرك: يبغض، والمعنى: لا يبغض زوج مؤمن زوجته المؤمنة، (إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)؛ لأن المؤمنة لا يمكن أن يجتمع فيها الشر كله، بل فيها وفيها، كما بين النبي عليه الصلاة والسلام طبائع النساء وأصل خلقتهن فقال: (إنهن خلقن من ضلع أعوج، وإن أعوج ما فيه أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وكسره طلاقها)، وإن طلقتها فلن تتزوج إلا امرأة مثلها. قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} [البقرة:228]، قال ابن عباس: (إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي، ولا أحب أن آخذ حقي منها حتى أوفيها حقها)، هذا يفهم منه: أن لامرأته حقاً عليه، كما أن له حقاً عندها. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله) أحسنكم أحسنكم لأهله، وقال عليه الصلاة والسلام: (يضرب أحدكم امرأته ضرب الأمة -وفي رواية: ضرب العبد- ثم يضاجعها بالليل؟!)، يبين صورة مقززة منفرة لمن يضرب امرأته طوال النهار فإذا جن الليل طلبها للفراش! كيف ذلك؟! وأي نفس تقبل هذا؟! ومن يقوى على المباشرة والإتيان والجماع والحالة النفسية هكذا، إلا أن يكون هو والحيوان سواء بسواء؟! ينزو على امرأته كما ينزو ذكر الحيوان على أنثاه. ويقول الله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36] الصاحب بالجنب هو الزوجة كما قال العلماء. وسأل معاوية بن حيدة النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، وألا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجرها إلا في البيت) فللمرأة عند الرجل حقوق بينها النبي عليه الصلاة والسلام للرجال، وذكر الرجال بالوفاء بها.

ميثاق النكاح

ميثاق النكاح إذا التقى الرجل بالمرأة فأول لقاء يجمع بينهما يسبقه مجلس الميثاق الغليظ، ولك أن تتصور أن العقود كلها لم توثق بالميثاق الغليظ إلا ميثاق الإيمان وميثاق النكاح، ميثاق الإيمان وصفه الله تعالى بأنه ميثاق غليظ، وميثاق النكاح كذلك وصفه رب العزة تبارك وتعالى بأنه ميثاق غليظ، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:20 - 21]، فعقد النكاح ميثاق غليظ ليس لعباً ولا لهواً، بل حياة ربما تطول على قدر عمر الزوجين، ليس عقد بيع وشراء، ولا عقد معاوضة، ولا عقد إجارة، إنما هو الميثاق الغليظ الذي ترتبت على جانبيه حقوق وتكاليف وواجبات، والله تعالى يقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، وأن اللباس هو الذي يباشر بدن المرأة، فشبه الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل بالزي الذي تلبسه فيلتصق ببدنك؛ لأن بدنك يلتصق ببدن زوجك والعكس بالعكس، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة:187]، الرجل يلبس المرأة، والمرأة تلبسه فيلتحمان، وهذا باب عظيم من أبواب المودة والرحمة، وهي من أغراض النكاح. وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج)، أحق شرط يمكن أن يشترطه المرء على نفسه، ويجب عليه أن يؤديه هو الصداق والنفقة اللازمان لقيام الحياة الزوجية، وهما حق استحلال الفرج، لا تطالب المرأة بالإنفاق على بيتها، ولها السكنى والنفقة والمهر أو الصداق كل ذلك واجب على الزوج، وهذا الذي جعل الله عز وجل يفضل الرجل ويرفعه على النساء درجة لما أنفق من أمواله.

أهمية اختيار صاحب الدين

أهمية اختيار صاحب الدين أمر الإسلام الولي بأن يختار صاحب الدين: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم)، وفي رواية: (وفساد كبير)، وأنتم تعلمون الفساد الواقع في المجتمع بسبب زواج الفساق، أو الملاحدة، أو من ليس بكفء لقلة الدين والأخلاق، وغير ذلك من سائر البلايا والرزايا التي ابتلي بها المجتمع الإسلامي. وفي المقابل من ذلك يجب على الرجل أن يتخير ذات الدين: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها، ودينها؛ فاظفر بذات الدين) وهذا اختيار النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، قال: (فاظفر بذات الدين)، وإن لم تفعل: (تربت يداك)، وإن التصقت يداك بالتراب، دليل على الهوان والخسارة، والذي يتزوج امرأة لجمالها سرعان ما يزول جمالها وبالتالي يزول بيتها، وإذا تزوج الرجل المرأة لحسبها كان ذليلاً بين يديها، كما أنه إذا تزوجها لمالها كان عبداً أسيراً عندها، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن النساء هن الأسيرات، فكيف تنتكس الفطرة ويكون الرجل هو الأسير أسير المال؟ (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، هذا لمن عبد المال فلهث خلفه، أو عبد الجمال، ألا تعلم أن الجمال يشقيك؟! أيرضيك أن المرأة تتدلل عليك بجمالها؟! وربما أفسدت زوجها بجمالها، فإما أن يكون غيوراً شديد الغيرة فتتنغص عليه حياته، وإما أن يكون ديوثاً متساهلاً لا يبالي ببقاء امرأته مع الأجانب، ولا يرى في ذلك بأساً، فيفعل المحظور. كل ذلك أنكره الإسلام وحذر منه، بل وبين العلاج، وهو اختيار ذات الدين.

الوسائل الشرعية للتعامل مع نشوز المرأة

الوسائل الشرعية للتعامل مع نشوز المرأة النشوز في اللغة: الارتفاع، كما تقول: أرض ناشز، أي: مرتفعة، والنشوز في الاصطلاح سواء كان في حق الرجل أو المرأة؛ لأن النشوز في حقهما ثابت: هو أن تخرج المرأة من الطاعة، وتدخل في المعصية، وترك الأمر والوقوع في النهي، وكذلك الرجل، فإذا وقع هذا من المرأة أليس القائم على أمرها هو أحق الناس بردها إلى ما كانت عليه قبل النشوز؟ لكن Q كيف يربيها؟ بطلاقها؟ لا، بلطمها؟ لا، بهجرها؟ لا، هناك وسائل: الوسيلة الأولى: يبدأ بوعظها، يذكرها بالجنة والنار، يذكرها بحال العصاة من الأمم الغابرة، وممن ساءت خاتمته من أمة الإسلام بسبب معصيته واقترافه الذنب، وغير ذلك مما يمكن أن يوجع قلبها، ويردها إلى رشدها، يذكرها باللعنة النازلة عليها من الله ورسوله والمؤمنين وملائكة الله عز وجل، ويذكرها بحقه عليها، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، يذكرها ويعظها في نفسها موعظة بليغة، وهذه الموعظة ربما استغرقت لحظات أو ساعات أو أياماً أو أسابيع أو أشهراً أو حتى أعواماً؛ لأن الموعظة لا تعمل عملها في القلوب على نسق واحد، فالذي يجزئ مع هذا لا يجزئ مع ذاك، وربما الذي يجزئ مع هذا في لحظة ينتفع به الآخر في لحظات. الوسيلة الثانية: إذا بلغ الأمر في الوعظ ذروته ولم يجدِ انتقل الزوج إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الهجر، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بين كيفية الهجر؟ ومتى يكون؟ لا يكون الهجر قبل الوعظ، إنما الوعظ أولاً، وهذا على الترتيب في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث معاوية بن حيدة أنه قال: (ولا تهجر إلا في البيت) لا تخرجها من بيتها، ولا تخرج هي كذلك، وأنت لا تخرج، إنما تنام معها في نفس الفراش وفي نفس المخدع وولها ظهرك، يقول ابن عباس: الهجر أن يكلمها، يعني: لا يخاصمها، لكن لا يجامعها، ويقول الحسن وغيره: الهجر أن ينام معها في فراش واحد يوليها ظهره. وهذا أشد عليها، لو أنه ترك الفراش بالكلية لهان عليها، لكنه لو نام معها في سرير واحد وأعطاها ظهره لم يستجب لملاطفتها ومداعبتها مع نشوزها؛ لكان هذا من أقسى وأشد الأمور على نفسها. الوسيلة الثالثة: هب أن كل هذا لم يجد معها، نغير وسيلة أخرى، وينتقل إلى الوسيلة الثالثة وهي الضرب، {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، المرأة التي لا ينفع معها الوعظ، واللوم، والتوبيخ، والهجر ربما ينفع معها الضرب، وكثير من النساء -إن لم يكن كلهن- تحب أن يضرب الرجل، انظروا إلى العجيب في نفسية النساء، المرأة تحب أن تكون تحت رجله بمعنى الكلمة، أما الرجل الناعم فهو لا يعجب المرأة وإن أحسن إليها أيما إحسان، لكن المرأة إذا علمت من زوجها أنه يتدرج معها بتدرج الله له، وأنه لابد أن يصل في يوم من الأيام إلى الضرب فهذا أمر يجعلها تستجيب له. والضرب يكون بشيء معقول، مثل السواك، والسواك يطلق على شجرة الأراك كلها، فبإمكانك أن تأخذ جذعاً من شجرة الأراك وتضرب به، لكن بشرط: ألا تشج رأساً، وألا تكسر عظماً، كما جاء عند أبي داود بسند صحيح، لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الضرب كيف هو؟ قال: (ألا تشج رأساً، ولا تكسر عظماً)؛ ولابد أن تعلم أن الإسلام ما أباح للرجال الضرب إلا بنية التأديب، لا بنية الانتقام والتشفي، ولذلك قال الله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34]، ما دام أنها رجعت وتابت وأنابت لابد أن ترفع يدك عنها، هذه الوسيلة الثالثة. الوسيلة الرابعة: إذا وجدت المرأة نفسها شريكة لك في حياتك استقامت، وتكلفت الود، وتكلفت الملاطفة، والقيام بواجباتها وزيادة، ولذلك يدعو كثير من الناس الآن إلى تعدد الزوجات، وأنا لا أدعو لتعدد الزوجات ولكني لا أفتح الباب على مصراعيه حتى يصير علامة علي وعلى دعوتي، وأنتم تعملون أن طوائف كثيرة من المسلمين اهتموا بجانب واحد من جوانب الإسلام، وعيب عليهم أن يقفوا في الإسلام كله عند جانب واحد، كمن يقف على جانب واحد وهو السياسة، ومن يقف على جانب واحد وهو الجهاد، ومن يقف على جانب واحد وهو العلم، ومن يقف على جانب واحد وهو تعدد الزوجات، وقضيته في قومته ونومته تعدد الزوجات. فنجد من يؤلف لنا كتباً: تعدد الزوجات واجب، فيرد عليه الآخر في كتب: بل تعدد الزوجات مباح، أما الآخر فيقول: التوسط هو استحباب تعدد الزوجات، حتى صار أمراً يشغل العقول الدعوية على مستوى الساحة، وهذا خبط عشوائي لأناس لا رسالة لهم، ولا يستغلون الوقت استغلالاً جيداً، والوقت مع ضيقه إلا أنه مباح لمن أراد أن يتكلم ولمن كان عنده علم أن يتكلم به ويعلم شباب الصحوة دينهم وأحكام شرعهم، أما في كل مجلس، وفي كل درس، وفي كل قومة ونومة لا يتكلمون إلا عن تعدد الزوجات، وكأن دينهم وشرع ربهم هو تعدد الزو

شبهات حول الطلاق في الإسلام وردها

شبهات حول الطلاق في الإسلام وردها إذا استنفد الخلاف بين الرجل والمرأة كل هذه الوسائل، فهل يمكن للعلمانيين والملاحدة والكفار في بلادنا وفي غير بلادنا أن يأتونا ببديل؟ لقد أجرينا مع الزوجة جميع الوسائل فلم ترجع عن نشوزها، فإما أن نشابه النصارى في عدم إيقاع الطلاق إلا في ظروف ضيقة جداً يتضرر لها الزوج والزوجة، فقد بلغ النشوز بين الرجل والمرأة مبلغاً عظيماً حتى صار كل واحد منهما يأبى أن يسمع اسم الآخر، فحياتهما بعد أن كانت سعيدة في أولها، أصبحت في غاية التعاسة في آخرها، فما البديل بعد استخدام كل وسائل الصلح والتأديب والتربية والإرجاع عن هذا النشوز، الإسلام يقول: الطلاق. كما أثار الملاحدة تبعاً لأسيادهم في الشرق والغرب شبهات حول الإسلام في الزواج، أثاروا شبهات أخرى في الطلاق وفي الحدود وغيرها من سائر فروع الإسلام، فماذا قالوا عن الطلاق؟! قالوا: الطلاق عبارة عن وحشية، وحشية لماذا؟ قالوا: وحشية ولم يبينوا دليل هذه الوحشية، غير أنه زج وإلقاء بالمرأة في الشوارع والطرقات بعد أن كانت مستورة في بيتها، هذا البيت انقلب على رأسها جحيماً، فنقول: هي طلبته، واستنفذنا معها وسائل إرجاعها إلى بيتها فأبت، ونحن نتكلم عن الطلاق بعد استنفاد وسائل الصلح بينهما، لا نتكلم عنه بادئ ذي بدء، ومعاذ الله أن يكون وحشية، فهل الطلاق وحشية بعد هذا كله أم ما يفعله مجتمع الغرب الآن من الانحلال والانسلاخ من كل قانون سماوي أو حتى أرضي؟! إن الغرب يعيش إباحية لم تشهدها الجاهلية الأولى، ويعيش مرحلة تهتك وعري وإهانة للمرأة لم تبلغها المرأة في تاريخ البشرية بلغها الغرب الآن، ثم هو يتكلم عن وحشية الإسلام للمرأة في الطلاق، كما قال من قبل: إن النكاح للمرأة إنما هو حد لحريتها، فلا الحد نافع عند الغرب وأذنابهم في بلاد الإسلام، ولا الطلاق نافع كذلك، فما الذي ينفع؟ هل هذا الانسلاخ وشرب الخمر وأنك إذا سرت في شوارع أوروبا وجدت الرجال والنساء فوق بعضهم إما سكارى وإما زناة؟! هل هذا هو الذي يستقيم مع كرامة المرأة وعفتها وصيانتها وشرفها؟ أبداً. إنه لا يقوم بذلك إلا إنسان قد انتكست فطرته تماماً، والحل بعد استنفاذ وسائل تأديب المرأة لا حل لها إلا الطلاق. الطلاق في اللغة: الإرسال والترك. أما في الاصطلاح: فهو حل عقدة النكاح، الطلاق هو حل الميثاق الغليظ الذي أخذ علينا في نكاح النساء، إذا انفرط عقده فإنما هو الطلاق، والطلاق ثابت بكتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإجماع أهل العلم، وكذلك ثابت بالمعقول، يعني: المنطق يقول هذا، المنطق يقول: امرأة سيئة الخلق، زانية، خائنة، ولا يجدي معها نصح، ولا وعظ، ولا ضرب، ولا تحكيم ولا غير ذلك، فلا يكون معها إلا الطلاق. ويقولون أيضاً: الطلاق تشريد للأولاد، فنقول لهم: يرد على شبهتكم من زاويتين. الزاوية الأولى: لو أننا اعتبرنا أن الطلاق موت؛ فكيف يتربى الأطفال بعد موت أبيهم أو أمهم؟ فليس الطلاق بشر من الموت، فالذي يربي أولاده في حال موت أحد الوالدين يربيهم في حال طلاق الوالدين. الزاوية الثانية: أيهما أنفع للأولاد: أن يتربى الولد في جو مليء بالعطف والحب والحنان والود عند أحد الوالدين، أو في أحضان امرأة أخرى تزوجها أباه، أو في أحضان رجل آخر تزوجته أمه، أو يتربون في جو قد امتلأ بالتوتر، والعصبية، والسباب، والشتائم في كل صباح ومساء، أيهما أنفع وأجدى للولد؟ الأول دون الثاني. ولذلك كل الشبهات التي أثارها الملاحدة لا تقوى على مجابهة الإسلام، بل هي أوهى من بيت العنكبوت، ولذلك لا تثبت قط أمام من عنده مسكة من علم وفهم عن الله تعالى ورسوله، فربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مفسدة عظيمة ومضرة بالغة لسوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى الحال بين الزوجين حينئذ إيقاع الطلاق، والله تعالى يقول: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:236]، يعني: الطلاق مشروع، وقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229]، واعلم أن هذا أحد وسائل الإصلاح، يظهر هذا في كيفية إيقاع الطلاق، يقول الله تعالى: ((الطَّلاقُ مَرَّتَانِ))، إجماع أهل العلم أن المراد بذلك مرة بعد مرة، لا يقع مرتان دفعة واحدة، وإنما مرة بعد مرة.

الطلاق السني والطلاق البدعي

الطلاق السني والطلاق البدعي الطلاق المسنون أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يجامعها فيه، فإذا طلقها في حيض أو في طهر مسها فيه أمر بإرجاعها وتبقى عنده حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق، أرأيتم إلى الشرع كيف يوسع مدة إيقاع الطلاق؟ ((الطَّلاقُ مَرَّتَانِ))، مرة تتلوها مرة، وهذه الآية تتكلم عن الطلاق الرجعي، أي: الذي يحق للرجل أن يراجع امرأته في مدة العدة بغير عقد ولا مهر؛ لأنها لا تزال امرأته له حق الرجعة عليها حتى وإن أبت وأبى وليها ما دامت في العدة، فالعدة من حق الرجل له أن يراجع فيها امرأته بالقول أو الفعل: راجعتك إلى عصمتي، أو يجامعها بنية الرجعة، حتى بعض أهل العلم قالوا: القبلة تكفي في الرجعة مع النية، أي: لثبوت الرجعة إلى عصمة الرجل وإلى قيادته وريادته. إذاً: الطلاق المسنون أن تطلق مرة واحدة، ثم إذا أردت أن تراجعها راجعتها، فإن شئت أمسكت على الدوام، وإن شئت طلقت الطلقة الثانية في طهر لم تمسها فيه، وبطلقة واحدة كذلك.

البقاء في بيت الزوجية بعد الطلاق

البقاء في بيت الزوجية بعد الطلاق المرأة إذا طُلقت الطلقة الأولى لا تخرج من البيت ولا يخرجها زوجها، وإنما تبقى لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، ويجعل بينهما وداً، فعندما تكون المرأة غائبة عن زوجها أو امرأة خرجت عنوة عندما قال لها زوجها، وأخذت ثيابها وخرجت خارج البيت، فما دامت بعيدة عن العين فلابد أن تكون بعيدة عن القلب، لكن بقاؤها في البيت لا يؤمن معه أن ينظر إليها وأن تنظر إليه، وأن يسمع منها كلمة أو تسمع منه، أو ينام معها في فراش، له ذلك كله، لكن لا يجامعها إلا بنية الرجعة، فتصور أن الرجل يقيم مع امرأة في بيت واحد ثلاثة قروء للعدة، وهو يكلمها، لابد أن يحدث بينهما شيء من الملاطفة أو يحصل الندم من الطرفين فيندمان على ما بدر منهما فيعالجان ويصلحان ويصححان ما فسد من سوء تصرفهما، فيرجعان إلى بعضهما، ويعزمان على ألا يعودا إلى ما ندما عليه من قبل، فإن تسلط الشيطان في لحظة ضعف وطلق الطلقة الثانية ذاق مرارة الفراق، وذاقت هي ألم الهجر وعار الطلاق الذي تعير به هنا وهناك، فإن راجعت نفسها واعتذرت عما بدر منها، وراجع نفسه، فوافق هواها هواه أو العكس رجعا وندما وحرصا على ألا يقع بينهما الطلقة الثالثة؛ لأن الحال بعدها ليس كما كان قبلها؛ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] أي: الثالثة، {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] في نكاح صحيح، ليس نكاح تحليل، ولذلك قال النبي عليه السلام: (لعن الله المحلل، والمحلل له)، إذا تزوج رجل امرأة صاحبه ليحلها له فهو ملعون، وإذا كان هذا باتفاق مع زوجها الأول فهو ملعون، ولذلك لابد أن يكون في نية العاقد عند العقد بقاء العشرة ودوامها مع هذه المرأة، وإلا فهذا النكاح نكاح متعة مؤقت بوقت، يقول: أنا أتزوجها ليلة أو أسبوعاً أو شهراً أو عاماً أو مدة بقائي في هذا البلد أو غير ذلك، فإن هذا النكاح الذي يعجبني فيه من أقوال أهل العلم: أنه نكاح متعة غير صحيح، وهو نكاح باطل منسوخ بالإسلام منذ عهد نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا ناسخ بعده عليه الصلاة والسلام. فإذا وقعت الطلقة الثالثة خرب البيت، وفسدت الأسرة، وكان فيها من السلبيات ما فيها، لكن أقول: هذا إذا كان عند الزوج نوع تسرع، ولذلك من أعظم فوائد جعل القوامة بيد الرجال أن الرجل أضبط لأمره، تصور لو أن المرأة غضبت وكانت الولاية في يدها ستقول له: أنت طالق، لو كانت المرأة هي التي تطلق لخربت كل البيوت بعد النكاح بأشهر على الأقل. لكن الرجل يعرف مغبة ذلك من نفقة وسكنى وحضانة وغير ذلك بعد الطلاق، وهذا عبء لا يستطيع أن يصبر عليه حتى بعد الطلاق، مثل أن يقول قائل: يا رب! أنا مريض فأمتني! أولاً هل تعلم أنك إذا مت ستذهب إلى النعيم؟ ربما ذهبت إلى الجحيم فكان المرض لك خيراً من الموت، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، فلا اعتداء في الدعاء، يدعو بهذا ويكل الأمر إلى الله عز وجل اللطيف الخبير الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الخير والشر، يعلم ما ينفعك ويضرك، ويختار لك، والنبي عليه الصلاة والسلام شرع لنا الاستخارة في الأمور، وكان الصحابة رضي الله عنهم يدعون الله تعالى حتى في شراك -سيور- نعالهم، يعني: توكل كامل على الله عز وجل فيما دق من حياتهم وجل، فيما عظم وكبر، يكلون أمرهم كله لله عز وجل.

حد الطلاق المخول للرجل

حد الطلاق المخول للرجل يقول الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]؛ حينئذ إذا وقع الطلاق فالله تبارك وتعالى ربما هيأ لهذه المرأة رجلاً يوافقها، وهيأ لهذا الزوج امرأة توافقه، فسعد كل منهما بنكاحه الجديد، وكما أمرنا الإسلام بذلك حرم علينا الإمساك بالزوجة لأجل الضرر، قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] الآية، وانتبه لهذه الآية، فقد نزلت رداً على أهل الجاهلية، كان الواحد منهم يطلق امرأته فإذا قاربت نهاية العدة أرجعها، وفي نفس اليوم يطلقها، فتعتد عدة جديدة، فإذا قاربت العدة على النهاية ردها، كأنه يقول لها: لا تحلين لي ولا لغيري، يعني: سأجعلك هكذا، لا هي زوجة ولا هي مطلقة تنتفع بزوج آخر، معلقة، ولذلك قال الله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129]، أي: كما كان الأمر في الجاهلية، فأمر الله تبارك وتعالى أن يطلقن بإحسان. ثم أعطها حقها بما استحللت من فرجها، أما إذا كنت لا تكرهها قط، وأنت تصنع ذلك من أجل الله عز وجل، وإنما هي التي كرهتك من غير ما بأس منك، كما قالت امرأة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! طلقني من فلان، قال: أتعيبين عليه شيئاً؟ قالت: لا أعيب عليه خلقاً ولا ديناً، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فإني نظرت إليه يمشي مع فتية من قريش فإذا هو أكثرهم دمامة، وأقلهم قامة، وهو جعد، أفطس) وصارت تعدد من معايب زوجها وأن كل شباب قريش أصحابه كانوا على قمة من الجمال والطول، والنسق الجميل، وغير ذلك، فلما رأت هذا في زوجها كرهته، لكنه صاحب دين وصاحب خلق، فلما وصل الأمر إلى زوجها قال: (يا رسول الله! إنها أخذت مني حديقة كانت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم وزيادة، قال: أما الزيادة فلا، وأمره أن يطلقها تطليقة)، ولذلك إذا لم يكن بأس ولا عيب من قبل الزوج، ولكن المرأة بنفسها كرهت المقام والبقاء مع هذا الزوج من غير ما عذر ولا حرج؛ فلها أن تنصرف وتحل عقدة هذا النكاح، ولا يكون هذا النكاح وزراً على ظهرها، ولا غلاً في قدمها، وإنما جعل الإسلام لها أمرها أن تفتدي منه بماله الذي أخذته صداقاً لها دون زيادة، وفي بعض الروايات وعند بعض أهل العلم: لها أن تدفع الزيادة إذا كان بطيب خاطر منها، وأخذه بغير أن تستشرف إليه نفسه، فلها ذلك. فقوله: ((الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)) أي: مرة بعد مرة، يهيئ الجو لمراجعة كل من الزوجين نفسه، والاعتذار عما بدر منه، فإذا كان ذلك منهما، ولكن تم اللقاء بينهما بعد الطلقة الأولى وبعد الطلقة الثانية حتى وقعت الثالثة، فإن هذا البيت في الغالب لا يصلح للقيام بين هذين الزوجين، ولذلك حرمه الإسلام بعد وقوع الطلقة الثالثة وجعلها طلقة بائنة بينونة كبرى.

الأصل في الطلاق من حيث الحظر والإباحة

الأصل في الطلاق من حيث الحظر والإباحة اختلف العلماء: هل الأصل في الطلاق الحظر أم الإباحة؟ يعني: هل مباح وأمر مشروع وجائز يفعله المسلم ويوقعه أينما شاء، ويعبث ويلهو به متى شاء بغير ما عذر يحمله على ذلك، أم الأصل فيه الحظر ولا يصار إليه إلا للضرورة؟ مذهب الجمهور -وهو الرأي الذي أذهب إليه- أن الطلاق محظور مكروه إلا إذا دعت إليه الضرورة، وليس الأصل فيه الإباحة، دليل ذلك قول الله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، يعني: لا يطلق الزوج زوجه حتى مع كراهيته المحتملة لأخلاقها، ولذلك العلماء يعدون هذا من نوع الطلاق المكروه؛ أن يطلق الرجل امرأته وبإمكانه أن يحتمل بعض سوء خلقها، ولذلك ذهب جماهير أهل العلم إلى أن الأحكام الشرعية الخمسة تقع على الطلاق كما تقع على النكاح، فأحياناً يكون الطلاق حراماً، وأحياناً يكون مكروهاً، وأحياناً يكون جائزاً مباحاً، ومندوباً ومستحباً. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء:35]، لم يقل: فطلقوهما، وإنما قال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا} [النساء:35] إلى آخر الآية، فهنا حث الله تعالى على الصلح مخافة الشقاق والنشوز. وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، ولم يقل: والفراق أو الطلاق خير، وإنما قال: ((وَالصُّلْحُ خَيْرٌ))، دل على أن بقاء الأسرة ونبذ الطلاق هو الأصل. إذاً: لا يصار إلى الطلاق إلا في أضيق الحدود لضمان بقاء الأسرة، وحفاظاً على كيانها، وبالتالي الحفاظ على كيان المجتمع بأسره، والمجتمع وإن كان صغيراً أو كبيراً فإن المكون له هو الأسرة التي تبني المجتمعات الإسلامية الإيمانية، أما الإسراع إلى إيقاع الطلاق في كل ما هب ودب فهذا على خلاف الأصل. أسأل الله تعالى أن يصلح لي بيتي، وبيوتكم، وبيوت جميع المسلمين. اللهم تقبل منا صالح الأعمال والأقوال إنك ولي ذلك والقادر عليه.

حقوق الأخوة [1]

حقوق الأخوة [1] لقد ميز الإسلام أهله بصفات يتميزون بها عن غيرهم وينفردون بها، ومنها الأخوة، فقد حرص الإسلام على الأخوة بين أفراده، وجعل لذلك وسائل عديدة، حتى يحقق هذه الغاية النبيلة، وما نشاهده اليوم من ضعف في العلاقة بين المسلمين مرده إلى تخلي المسلمين عن تعاليم دينهم، وابتعادهم عن توجيهاته العظيمة.

فتور العلاقة بين المسلمين في هذا الزمان

فتور العلاقة بين المسلمين في هذا الزمان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: فإن الناظر في علاقات الصحابة رضي الله عنهم بين بعضهم مع بعض والمقارن لهذه العلاقات بعلاقات المسلمين في هذا الزمان يجد البون شاسعاً في أخلاقهم وسلوكهم وآدابهم ومعاملاتهم، فضلاً عن عقيدتهم، ولذلك أصيب المسلمون في هذا الزمان بما يسميه بعض أهل العلم بالفتور الشديد في العلاقة، مما أدى إلى إماتة الرابطة الإيمانية الأخوية الشرعية الإسلامية بين أبناء التيار الواحد، فتجد البرود والفتور قد ساد العلاقة بين الأخ وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين الوالد وأولاده، وبين الأولاد وآبائهم، ولم تعد العلاقة بينهم ترضي ربنا تبارك وتعالى، وسيحار المرء ولابد إذا سئل يوم القيامة عما كان بينه وبين بقية مجتمعه من العلاقات التي فرضها الله عز وجل على العباد من فوق سبع سماوات. ولو نظرنا إلى العلاقة الإيمانية بين التيارات الإسلامية في الستينات والسبعينات لوجدنا البون شاسعاً بين ذلك الوقت ووقتنا هذا، فما بالكم بالصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين؟! وقد كان الواحد منا أيام أن كنا في الجامعة وقبلها في الإعدادية والثانوية إذا رأى أخاً له في طريق آخر قطع الطريق وانتظره حتى يسلم عليه ويصافحه، وأما الآن فإن الأخ يضرب أخاه بكتفه، وربما ينطحه بقرنه ورأسه ولا يلقي عليه السلام، ولابد لنا من السؤال هنا: لماذا بلغ المسلمون هذه المنزلة؟ أنجحت التيارات الإلحادية في بث العداوة بين أبناء التيارات الإسلامية؟ أم أن هذا هو البأس الشديد الذي ضرب بين هذه الأمة وفي قلوب أفرادها؟ أم هو الجهل بفضل السلام والأخوة الإيمانية؟ والإجابات كثيرة، والاختيار محير، والأولى أن نقول: لقد اجتمع كل ذلك في غياب العلم الشرعي عن أبناء هذه الأمة المباركة مما أدى إلى فساد قلوبها وتحير عقولها واضطرابها في معرفة الحق والباطل، حتى في الآداب الإسلامية التي فرضها الله عز وجل وفرضها رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام على أبناء هذه الدعوة، ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. فهل بيننا نحن اليوم رحمة؟ وهل نحن فعلاً وحقيقة أشداء على الكفار؟ A لا، فليس بيننا رحمة، ولا في قلوبنا عداوة على أبناء الكفر وملل الكفر.

من صفات المؤمنين

من صفات المؤمنين من صفاتهم ما ذكره الله في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]. وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، أي: عليم بأحوالكم وبما في قلوبكم، وخبير بسرائركم، ولما كانت التقوى محلها القلب اختار الله عز وجل اسمان من أسمائه فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]؛ ليتناسب معرفة عملك الظاهر مع معرفة عملك القلبي الباطني، فإن أمرك مهما خفي لا يخفى على الله عز وجل؛ لأن الغيب والشهادة مشهودان لله عز وجل، وهما معلومان مكشوفان له عز وجل.

النهي عن الحسد والبغضاء

النهي عن الحسد والبغضاء وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض)، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن حذر من هذه الأمراض: (وكونوا عباد الله إخوانا)؛ ليدل على أن من أتى بهذه الخصال الذميمة، وهذه المساوئ من الأخلاق فلن يستطيع أن يحقق الأخوة الإيمانية، ولن يكون عبداً لله عز وجل كما تنبغي العبودية له سبحانه وتعالى، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وكونوا عباد الله إخواناً). فحذر النبي عليه الصلاة والسلام من الحسد، وهو داء الأمم السابقة، وهو خلق من أخلاق أهل الكتاب -اليهود والنصارى- لا من أخلاق المسلمين، كما قال الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]، فبين الله عز وجل في هذه الآية أن الحسد خلق من أخلاق أهل الكتاب، وليس خلقاً لأهل الإسلام. كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته فقال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين). فالحسد والبغضاء يحلقان دين المرء، فانتهوا عن الحسد الذي هو تمني زوال النعمة عن المنعم عليه وانتقالها عنه، ومن الحسد ما هو شر من ذلك، وهو تمني المرء زوال النعمة عن إخوانه وإن لم يبلغوا شيئاً منها، ويسعد هو ويفرح كل الفرح بزوال النعمة عنهم، ولو تعرى هو عن تلك النعمة، ويسعده ويبسطه ويفرحه أن يكون الكل مثله أو أقل منه، وهذا بلا شك ينبئ عن قلب مريض سيئ الحظ في الدنيا والآخرة، فالحسد والبغضاء ليسا من أخلاق أهل الإسلام. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا تباغضوا) والبغض هو حمل القلب لكل شر وسوء تجاه المسلمين، فلا ينبغي أن يكون المسلم على هذا الخلق الذميم.

الاقتداء بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ميراث المؤمن

الاقتداء بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ميراث المؤمن وقد صنف ابن أبي الدنيا كتاباً عظيماً بين فيه خطورة سوء الخلق، وسماه (مساوئ الأخلاق)، وصنف كتاباً آخر يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام ضرب المثل الأعلى في غير ذلك وسماه (مكارم الأخلاق)، والله تبارك وتعالى قد أثنى على نبيه وعظمه وشرفه، وبين أنه تخلق بجميل الأخلاق وعظيمها وأحسنها فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. ولما كانت الأسوة كل الأسوة في الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في هديه وسمته كان لابد أن نتخلق بأخلاقه الكريمة الحسنة، والنبي عليه الصلاة والسلام ضرب أمثلة عظيمة يطول الوقت بسردها، فقد كان يعامل الجفاة الغلاظ الأعتال المتعنتين معاملة حسنة، وكان ذلك سبباً في هدايتهم، ورجوعهم إلى دين الله عز وجل، وفي دخولهم في دين الله عز وجل، وانتقالهم من الكفر إلى الإيمان. والأخلاق الحسنة إنما هي ميراث الصالحين، وسئل أحمد بن حنبل رضي الله تبارك وتعالى عنه ورحمه عن ميراثه، وعما يعتز به في دنياه، فقال: لقاء الإخوان. لقاء الإخوان والحرص على مودتهم وصحبتهم هو ميراثكم، فاتقوا الله تبارك وتعالى، وحسنوا أخلاقكم فيما بينكم وبين الخلق أجمعين، وفيما بينكم وبين رب العالمين، ومع نسائكم في بيوتكم، ومع أولادكم، وعلموهم كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، واحرصوا على أن يكونوا هداة مهديين. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح سنته أن العمل الصالح لا يرد، وأن صاحبه مأجور كل الأجر، فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود: (إنما مكارم الأخلاق ميراث المؤمن). فمكارم الأخلاق مواريث المؤمنين، فحسنوا أخلاقكم مع كل من تقابلون، لا أن يكون شعارنا تعبيس الوجه والتكشير عن الأنياب عند اللقاء وإبداء كل السوء، فقد التقى النبي عليه الصلاة والسلام بصناديد الكفر والشرك وعبدة الأصنام والأوثان، ومع هذا هش عليه الصلاة والسلام في وجوههم ولقيهم أحسن لقاء، فهذا منافق طرق عليه الباب فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من؟ فقال: فلان بن فلان، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بئس أخو العشيرة، ثم أذن له بالدخول، قالت عائشة رضي الله عنها: فلما دخل هش النبي عليه الصلاة والسلام في وجه ذلك الرجل، فلما خرج قلت: يا رسول الله! رأيتك تفعل فعلاً ما رأيتك وما عهدتك عليه من قبل، قال: يا عائشة! إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه). وهؤلاء المنافقون لا يتورعون عن سب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال سيدهم وإمامهم: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، وقصد أنه العزيز عليه لعنة الله، وأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذليل، فأذله الله عز وجل، والجزاء من جنس العمل، فقد أذله الله على يد ابنه الأكبر عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان ابنه من أهل الإيمان والإحسان الذي حسن إيمانه وعمله، وعظم حبه لله تبارك وتعالى ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، بخلاف والده الذي أساء مع الله، وأساء مع النبي عليه الصلاة والسلام، فرماه الله بالذل والصغار، وهو الذليل والصغير، والنبي عليه الصلاة والسلام هو العظيم والقوي والشريف والإمام، وخليفة الله تبارك وتعالى في أرضه. والأخلاق الحسنة تدل على صاحبها، والأخلاق السيئة تدل كذلك على صاحبها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه). وقد سمعت أن أحد المسلمين ادعى أنه أحرص من إخوانه جميعاً على حب الله ورسوله، وعلى انتشار الدعوة بين أبناء الأمة الإسلامية شرقاً وغرباً، حتى بلغ به الأمر أن شهر السيف في وجه إخوانه؛ ادعاء وزعماً منه أنه يحب الله تعالى ورسوله، وأنه يدافع عن دين الله حتى آخر قطرة من دمه، وكذب ورب الكعبة، فإنما مثله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: هلك الناس فهو أهلَكَهم)، أي: هو تسبب في هلاكهم، وفي رواية أنه قال: (من قال: هلك الناس فهو أهلًكُهم)، أي: فهو أشدهم هلاكاً. فهذا الزاعم لا يخرج عن أحد هذين الشخصين، فإما أنه أشد الناس هلاكاً، وإما أنه هو الذي تسبب في هلاك الناس، ولا أرى إلا أن الله تعالى جمع له بين الأمرين، فعليه أن يتوب ويرجع، وإلا فليصل في بيته صلاة النساء، ويكف أذاه عن الناس، فإن هذا أكرم له، والنبي عليه الصلاة والسلام سن لمن لم يكن قادراً على أن ينفع إخوانه أن يمكث في بيته، وأن يكف عنهم أذاه، وذلك منه صدقة، فكف الأذى عن الناس وعن الخلق أولى ألف مرة من حضور صلاة الجماعة وإيذاء المسلمين من خلالها، وعامة الناس أبلغوا الجهات المسئولة أن فلاناً تهجم عليهم مرة بالضرب ومرة بالسب، ومرة باللعن، بل وبلغ الأمر به أن شهر السيف في وجوههم، فإنا لله وإنا إليه

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالخلق وأثرها على هدايتهم

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالخلق وأثرها على هدايتهم الله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، أي: يا محمد! بسبب رحمة الله عز وجل الخلق ألان لهم جانبك، ولو كنت فظاً غليظاً جواظاً عتلاً لانفضوا من حولك، ولما آمن لك أحد من الخلق يا محمد. فالرحمة هي سبب دخول الناس في دين الله عز وجل. وقال الله عز وجل: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]. وقال في آية أخرى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، هذا أمر للنبي عليه الصلاة والسلام بخفض الجناح ولين الجانب، وإلا لما كان له مكسب في الخلق فضلاً أن يكون له مكسب بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، فانظروا إلى أخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام، واعلموا أن الله تعالى أخبر أن الأسوة في رسوله فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فالأسوة الحسنة في رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن كان مقتدياً ومتأسياً فليتأس بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، وإن الناس اليوم بعقولهم يقولون ما لا يفعلون، ويستحسنون ما هو عند الله قبيح، ويقبحون ما هو عند الله حسن، وذلك بسبب بعدهم عن دين الله عز وجل، وعدم تخلقهم بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

فضل الأخوة في الله

فضل الأخوة في الله للصحبة فضل عظيم جداً، منه: ما رواه البخاري ومسلم: (أن رجلاً أراد أن يزور أخاً له في قرية مجاورة، فأرصد الله تبارك وتعالى له ملكاً على مدرجته، فقال: يا عبد الله! أين تريد؟ قال: أريد أن أزور أخاً لي في هذه القرية، قال: لأجل نعمة تربها عليه -أي: لك حاجة عنده؟ - قال: لا، قال: أبينكما مصالح -أي: أبينكما دنيا؟ - قال: لا، إنما ذلك هو الحب في الله تعالى، قال: إني رسول الله تعالى إليك أخبرك أن الله تبارك وتعالى يحبك كما أحببته فيه). وإن أعظم عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله تبارك وتعالى، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من والى في الله وعادى في الله وأحب في الله وأبعض في الله فقد استكمل الإيمان). وتمام الإيمان وكماله إنما يتحقق بالولاء والبراء، وبالمحبة في الله والمعاداة في الله. وفي الصحيحين من حديث أنس أنه قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)، أي: يتذوق حلاوتهن كأنهن أشياء محسوسة، (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فلا يكن حبك لأخيك إلا لله عز وجل خالصاً، وأي رابطة تنعقد لغير الله عز وجل فهي إلى فناء وزوال، وإذا انعقدت أخوة الإيمان فاعلم أن هذه الأخوة ليس لها زوال قط، بل ويبقى لها بعد موتك ذكر جميل وثناء حسن على ألسنة الناس وفي قلوبهم، (وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). ومن فضل المحبة في الله عز وجل أن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة: (أين المتحابون في؟) فبإخلاصك في محبة الخلق تشرف أيما شرف عند الله تبارك وتعالى، فيناديك يوم القيامة فيجعلك في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والناس يغرقون في عرقهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبه، ومنه من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى سرته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وأنت بسبب حبك لإخوانك وشفقتك عليهم وقيامك على مصلحتهم وقضاء حوائجهم وتفريج كربهم يظلك الله تعالى في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، فتكون في برد من العيش، وتنجو من هول الموقف، وغيرك يتلوى في الحر والشمس، فإن الشمس تدنو من الرءوس يوم القيامة قدر ميل، قيل: هو ميل المسافة، وقيل: هو المرود أو المكحلة التي يكتحل بها، ونحن نتصبب الآن عرقاً لأجل أن حرارة الشمس بلغت بضعاً وثلاثين درجة، فما بالك لو كانت الشمس فوق رأسك قدر شبر أو أقل قليلاً أو أكثر قليلاً، فاتق الله يا عبد الله، واعمل لهذا الموقف، وانج بنفسك، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نوقش الحساب عذب)، فانظر يا عبد الله إذا حاسبك الله: لمَ لم تحب إخوانك وتقض حوائجهم ماذا يكون جوابك لله عز وجل؟ فيلجمك العرق إلجاماً؛ لأنك لم تكن عاملاً بهذا في الدنيا، فالله تبارك وتعالى يختم على فيك يوم القيامة، وتظل حائراً أمام ربك، فانج بنفسك من هذا الموقف الرهيب، ومن سؤال الله عز وجل لك، وكن محباً لإخوانك، ومحباً لربك ولرسولك ولشرعك، ولا تكن كبني إسرائيل الذين تاهوا وضلوا، وسبوا الله تبارك وتعالى تارة، والشرع تارة والأنبياء تارة أخرى، فلا تكن مثلهم، فإن حجة الله بينة، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر بذلك فقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك). أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من الناجين.

الوسائل المقوية للعلاقة الأخوية

الوسائل المقوية للعلاقة الأخوية الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بشيراً ونذيراً إلى الناس كافة، بل أرسله إلى الإنس والجن. وبعد: هناك بعض الوسائل التي تعين وتساعد على تمتين أواصر الأخوة الإيمانية بين العباد بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الله عز وجل، وبينهم وبين رسولهم وشرعهم الذي جاء به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.

إخبار الأخ بمحبتك له

إخبار الأخ بمحبتك له ومن هذه الوسائل: أن تخبر أخاك أنك تحبه، فإن أخبرته فلا شك أن ذلك يؤلفه على محبتك، ولما (مر رجل على مجلس النبي عليه الصلاة والسلام فقال أحد الجلوس: يا رسول الله! والله! إني لأحب هذا الرجل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أأخبرته بذلك؟ قال: لا، قال: قم فأخبره). ولا بد وأن يكون لذلك رد فعل عند ذلك المحب.

الهدية

الهدية ثانياً: التهادي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تهادوا تحابوا). فالهدية مهما كانت قليلة الثمن فإنها تعمل عملها في القلوب؛ لأن العاقل ينظر إلى الهدية على أنها رمز، ولا ينظر إلى قيمتها أبداً، فلو أهديت لأخيك قلماً لا قيمة له ولا وزن فإنه ينظر إليه على أنه رمز للوفاء والمودة والأخوة، وأن الذي حركه إلى ذلك حبه إياه.

خفض الجناح ولين الجانب

خفض الجناح ولين الجانب ثالثاً: خفض الجناح ولين الجانب.

طلاقة الوجه والبشر عند اللقاء

طلاقة الوجه والبشر عند اللقاء رابعاً: طلاقة الوجه والبشر عند اللقاء، وإظهار الحزن عند الفراق، فإن ذلك يعطي انطباعاً لصاحبك على أنك تحبه، وأنك تكره فراقه، وتود لو أنك تقضي معه بقية حياتك.

الزيارة

الزيارة سادساً: تعاهد الزيارة بين الحين والحين، فليكن في وقتك حظ ونصيب لزيارة إخوانك بغير ثقل وبغير تفريط، فإن الناس بين مفرط ومسرف في هذا. ولا تثقلوا على دعاتكم ومشايخكم وأئمة دعوتكم بالزيارة والاتصالات وغيرها، وقد يتصل الشخص ويبقى على الهاتف الساعة والساعتين من غير حاجة، وإنما يخلف الشيخ والمسئول عن مهامه وعن دعوته، فاتقوا الله تبارك وتعالى، فإنه يستحي أن يعتذر لأضيافه عن ضيق وقته، وعن مهامه ومسئولياته، ويكون ذلك سبباً في تخلف الشيخ في آخر النهار وفي صلاة المغرب عما كلف به من درس أو محاضرة أو غيرها، فضلاً عن أنه يثير قلبه غضباً وبغضاً لصاحبه ذلك؛ لأنه بقي ومكث بغير حاجة، فاتقوا الله تبارك وتعالى، واعلموا أن الحاجات أكثر من الأوقات، فاسمحوا لغيركم أن ينتفع بوقته، فقد كان السلف رضي الله عنهم ينتفعون بأوقاتهم ولا يفرطون في شيء منها، فهذا المجد بن تيمية رحمه الله كان إذا دخل الكنيف لقضاء حاجته يقول لامرأته: اقرئي علي وأنا أسمع في الحمام حتى لا يضيع الوقت، وأما نحن فإننا نقضي الساعات والأيام والشهور والأعوام ولا نفكر مرة في النظر في كتاب الله، أو تعلم مسألة من مسائل الشرع، والواحد منا إذا زار أخاً له في الله ففتح له كتاباً من كتب العلم الشرعي ليتعلم معه مسألة غضب وقال: أنا أحضر الدروس كلها! والشوكاني كان يحضر في اليوم الواحد اثني عشر درساً، عليه رحمة الله، والإمام الصنعاني اليماني كان يحضر في اليوم الواحد أحد عشر درساً، وقيل: اثني عشر درساً، فاتقوا الله تبارك وتعالى في دينكم وشرعكم، واعلموا أنكم لستم على شيء من طلب العلم، ولا على شيء من أخلاق نبيكم إلا القليل النادر، فاتقوا الله تبارك وتعالى، وارجعوا واستمسكوا بكتاب ربكم وبسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.

التهنئة في المناسبات والتعزية والمواساة في المصائب

التهنئة في المناسبات والتعزية والمواساة في المصائب سابعاً: تعاهد تهنئة الأخ في المناسبات السارة وإدخال الفرح عليه، وتعزيته وتسليته ومواساته عند المصائب، ومساعدته ومعاونته عند الحاجة، وتفريج الكربات عنه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من فرج كربة عن أخيه المسلم فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة). والجزاء من جنس العمل. وبالجملة فينبغي على الأخ مساعدة ومعاونة أخيه عند الحاجة إلى ذلك.

رد السلام وإلقاؤه

رد السلام وإلقاؤه ثامناً: السلام عليه، ورد السلام عليه إذا سلم، وأفضل السلام أن تقول لأخيك: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وأن يرد عليك بمثل هذا الرد وزيادة، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، (وأتى رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: السلام عليك يا رسول الله! قال: وعليك السلام، عشر، ثم أتى آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، قال: وعليك السلام ورحمة الله، عشرون، ثم جاء ثالث وقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثلاثون، كل واحدة بعشر درجات، الدرجة بينها وبين أختها كما بين السماء والأرض)، وفي رواية: (بينها وبين أختها كما بين السماء والأرض)، وفي رواية: (بينها وبين أختها مسيرة خمسمائة عام).

حقوق الأخ على أخيه

حقوق الأخ على أخيه

إجابة دعوته

إجابة دعوته من حقوق الأخ على أخيه إجابة دعوته، يقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا دعاك فأجبه)، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من دعاكم فأجيبوه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من دعي إلى وليمة فلم يجب وهو قادر على ذلك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)، وبعض الناس لا يجيبون الدعوة؛ تنزهاً وترفعاً ومخافة أن ينسب إليهم أنهم أصحاب بطون، وباحثون عن الطعام والشراب، والأمر في دين الله عز وجل بخلاف ذلك، والأمر دين وشرع، فأخلص نيتك لله عز وجل تؤجر يا عبد الله.

النصح له في أمر دينه ودنياه

النصح له في أمر دينه ودنياه وابذل النصح له في أمر دينه ودنياه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).

حب الخير له

حب الخير له ثم بعد ذلك حب الخير له، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). ونفي الإيمان في هذا الحديث هو نفي للكمال والتمام، وهو نفي الإيمان الواجب، فلا يتحقق للمرء الإيمان الواجب ولا يأتي بكمال الإيمان ومطلقه إلا إذا أحب لإخوانه ما يحبه لنفسه.

تشميته إذا عطس

تشميته إذا عطس وأيضاً إذا عطس أخاك فحمد الله فشمته، فإذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل من سمع ذلك أو بعضهم: يرحمك الله، ثم يرد عليه العاطس بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم. فهذا من حقوق الأخوة. وقد (عطس شخص عند النبي عليه الصلاة والسلام فلم يحمد الله فلم يشمته، وعطس آخر فحمد الله فشمته، فقال الأول: يا رسول الله! إن فلاناً عطس فشمته، وعطست فلم تشمتني، فقال: لأنه حمد الله وأنت لم تحمده).

عيادته إذا مرض

عيادته إذا مرض وإذا مرض فعده، واعلم أن الله تبارك وتعالى عند المريض برحمته وفضله وجوده وإحسانه، وقد قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (عبدي! أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده) الخ.

بذل المعروف له وكف الأذى عنه

بذل المعروف له وكف الأذى عنه ومن حقوق الأخوة: أن تبذل له المعروف، وتكف عنه الأذى، وتتخلق بالأخلاق الكريمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما. وأن تكف أذاك عنه من الغيبة والنميمة والطعن في حسبه ونسبه، وأن تكف عنه لسانك فيما رزقه الله تبارك وتعالى وحباه من مال أو نعمة. والأمر لا يتوقف عند ذلك، وإنما يجب عليك أن تذب عنه الغيبة إذا اغتيب في مجلس أنت فيه، وإلا فقم ودعهم إذا لم تستطع أن تزيل المنكر.

الاستئذان عند الدخول عليه

الاستئذان عند الدخول عليه ولا تدخل على أخيك إلا بعد إذن منه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما جعل الاستئذان لأجل البصر).

عدم النظر في كتابه بدون إذنه

عدم النظر في كتابه بدون إذنه ولا تنظر في كتابه إلا بإذن منه كذلك، واعلموا أن هذه من خصوصيات المرء، والمرء يكره أن يطلع على خصوصياته أحد إلا بإذنه. هذه كلها من آداب المسلم تجاه إخوانه.

الاحترام والتوقير والإنصاف

الاحترام والتوقير والإنصاف وأيضاً لابد أن ترحم الصغير وتوقر الكبير، وتعرف للعالم حقه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا، ولم يعرف لعالمنا حقه). وأيضاً إنصاف الإخوان ومعاملتهم بما تحب أن يعاملوك به.

الصلح بين المتخاصمين وستر عورات المسلمين

الصلح بين المتخاصمين وستر عورات المسلمين وأيضاً الصلح بين المتخاصمين، والتقريب بين المتباعدين، وستر عورات المسلمين، وصيانة أعراضهم وأنفسهم وأموالهم، وعدم الغدر بهم أو غشهم، والوفاء بوعودهم وعهودهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! -أي: يا من ادعى أنه مسلم ولكن الإيمان لم يدخل إلى قلبه- لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من اتبع عورتهم اتبع الله تبارك وتعالى عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته)، وفي رواية: (حتى يفضحه ولو في جوف رحله). فالحرب تنتقل بعد ذلك بينك وبين الله عز وجل، فإذا كنت تحارب العبد فاعلم أن الله تبارك وتعالى فوق العباد جميعاً، وقد حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرماً، فاتقوا الله تبارك تعالى.

الدعاء له في حياته وبعد مماته

الدعاء له في حياته وبعد مماته ثم الدعاء له في حياته وبعد مماته، كما تدعو لأولاده، وأحسن الظن بهم، واتق مواضع التهم، وصل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وأحسن إلى من أساء إليك، واشكر من أحسن إليك وكافئه على إحسانه ولو بالدعاء له؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله). وقال عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه).

إبرار قسمه

إبرار قسمه ثم أن تبر قسمه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ومن حسن إسلام المرء إبرار القسم). وقال عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم ست -وفي رواية-: خمس، ومنها: إبرار القسم)، وفي رواية: (أن تبره إذا أقسم عليك).

حفظه بالغيب

حفظه بالغيب حفظه بالغيب إذا غاب عنك؛ وذلك بأن تقوم على أهله وأولاده وذويه وأقاربه وجيرانه كما كنت تقوم في حضوره، وهذه ضالة مفقودة، فإذا غاب الأخ غاب أخوه عن أبيه وأمه، وإخوته الأشقاء، وإذا مات مات معه زوجه وبنوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فحق الأخوة أن يبذل الرجل مهجته لإرضاء إخوانه طاعة لله عز وجل ويخدمهم بماله ونفسه وبدنه، ولكنهم إذا غابوا عنه لم يقم بحقوق الأخوة تجاه زوجاتهم وأولادهم، ولا يرعاهم برعاية الله عز وجل، فاتقوا الله، واعلموا أن هذه أخلاق المنافقين لا أخلاق الصالحين الأتقياء. وتمتين أواصر العلاقات الأخوية لا يكون إلا بأداء الصلاة في جماعة، وخاصة صلاة الجمعة، والحج إلى بيت الله الحرام، والمحافظة على هذه المجامع، فيلقى كل منا أخاه فيطمئن على أحواله وعلى بيته وأهله وأسرته وأولاده.

العفو عن زلاته

العفو عن زلاته ثم العفو عن زلته، والتغاضي عن هفواته، فإن من أخذ على أخيه كل كبيرة وصغيرة أبغضه قلبه، وكان سبباً في وقوع النفرة بينه وبين أخيه، ولا تكلفه من الأعمال إلا ما يدخل في طاقته وتحت قدرته وسلطانه، فإذا كلف أخاه فوق طاقته كان سبباً في وقوع الضغينة والبغضاء والغل والحسد بينهما.

فوائد الأخوة وثمراتها

فوائد الأخوة وثمراتها ومن فوائد الأخوة وثمراتها أنك تتذوق حلاوة الإيمان، وأن الله تبارك وتعالى يحيطك برحمته، ويقيك شدة يوم القيامة، وتنال الأمن والسرور والحبور، وتكون من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، وتزداد بذلك إيماناً؛ لأن الأخوة في الله من أعظم الطاعات، والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ومن فوائد الأخوة وثمراتها أنك تستشعر محبة الله ورسوله، وتجد حلاوة ذلك في قلبك، ويكفيك شرفاً وفخراً وفضلاً أن الله تبارك وتعالى إذا أحبك أمر جبريل في السماء أن يحبك، ثم ينادي أهل السماء أن يحبوك فيحبونك، ثم يوضع لك القبول في الأرض، والمحبة في الله علامة على قبول العمل، وعنوان التوفيق والسداد، ثم إنك تتبوأ منزلة عالية بصدق الإخاء في الله عز وجل، وتحصل على الأمن والأمان؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فكل صاحب يتبرأ من صاحبه، ويعاديه يوم القيامة، إلا من صاحب مسلماً لأجل إسلامه ودينه وطاعته. والأخوة في الله تورث طمأنينة القلب؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، والمتحابون في الله مع الذين أنعم الله تبارك وتعالى عليهم {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. والأخوة في الله سلوك حسن، وصحبة نافعة، وسيرة طيبة، ونية صالحة، وعيشة هنيئة سعيدة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي). والحب في الله والبغض في الله يدل على كمال دين صاحبه، وصفاء سريرته، وعمله المتقن، وخوفه من الله عز وجل، ورعايته لحقه، واحترام كتابه وسنة نبيه، ومحبته لله ورسوله، والأخوة أكبر وأعظم طاعة لله عز وجل، وأكبر وأعظم نظام يحقق التكافل الاجتماعي. والأخوة في الله أنس ومحبة وإحساس بحاجة الأخ لأخيه وسعي في قضاء حوائجه، ولا يكون ذلك ولا ينفع ولا يشعر بهذه الثمرات وهذه الفوائد إلا من كان مخلصاً في هذه الأخوة لله عز وجل، وقرنها بالإيمان والتقوى، وبغير ذلك لا ينفع المرء في الدنيا ولا في الآخرة صحبة صاحب. والإلف يألف أليفه، والصاحب يقترب من صاحبه وشبهه، فيجب أن تقوى هذه العلاقة في الله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الدين النصيحة)، وقد بايع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تبارك وتعالى عنه النبي عليه الصلاة والسلام على النصح لكل مسلم. أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بما قلنا وسمعنا، وأن يجعلنا متآخين متحابين متوادين، وأن يرزقنا النجاة يوم المحشر، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وأقم الصلاة.

حقوق الأخوة [2]

حقوق الأخوة [2] على المرء أن يختار أصدقاءه من أهل الديانة الموثوق بهم، ويحذر صحبة أهل الفسق والمعصية، فالمؤمن لا يصاحب إلا مؤمناً، وللصحبة في الإسلام أحكام وآداب، ينبغي على المسلم الالتزام بها؛ لتدوم صحبته مع غيره، وينعم بها في الدنيا والآخرة.

التحذير من صحبة أهل الغفلة والمعاصي

التحذير من صحبة أهل الغفلة والمعاصي إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: قال الله عز وجل آمراً نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. فالله عز وجل يحذر النبي عليه الصلاة والسلام من صحبة من توافر فيه هذان الشرطان، وهما: أولاً: من كان من الغافلين وليس من الذاكرين، ثانياً: وهو متبع لهواه، مما نتج عنهما أن أمره كان فرطاً، أي: مفروطاً مضيعاً مسرفاً على نفسه، فإذا كان الله تعالى يحذر نبيه وينهاه عن صحبة هؤلاء فلا شك أن من دون النبي عليه الصلاة والسلام أولى بهذا التحذير، وكنا في القديم نوجه النصائح للصغار ونخاف عليهم من صحبة الأشرار، واليوم أصبحنا نخاف على الكبار والصغار، وعلى طلبة العلم، بل وعلى العلماء العاملين؛ لأن الفتنة كادت أن تعصف بالجميع؛ بسبب انتشار المعاصي والرذائل، ولم يكد يسلم منها أحد، لا ناصح ولا منصوح. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له -أي: توجع له- سائر الجسد بالحمى والسهر). وقال عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل). فالمرء على منهاج صاحبه في الخلق والسلوك، بل وفي الاعتقاد كذلك، وقديماً قالوا: الطيور على أشكالها تقع، فلا تجد صحبة قط بين مؤمن موحد مستقيم وبين فاجر فاسق لئيم، إذ كيف يجتمعان وهما مختلفان من كل وجه، اللهم إلا أصل الإسلام؟ وكيف يطيق المؤمن صحبة الفاسق؟ وكيف يصبر الفاسق على صحبة المؤمن؟ فالإيمان أمر يقض مضجعه؛ لأن قومته ونومته وسلوكه وأخلاقه تخالف الهدي النبوي، والمؤمن قائم عليه بالنصيحة، والفاسق لا يحتمل أن ينصح في كل كلمة وقومة وحركة وسكنة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حدد في غير ما حديث آداب الصحبة، وأصولها، ومن نصاحب، ولماذا نصاحب، وفيم نصاحب، وبين آداب وأحكام كل ذلك. ومن أهل العلم من كتب رسائل في ذلك، وهي في غاية الأهمية، ولكن قل من المسلمين من ينتبه لمثل ذلك، بل منهم من يعد أن هذه الآداب يمكن للمرء أن يدركها دون أن يتعلمها، ولا شك أن الشرع قد مدح الخلق الحسن وإن لم يكن منصوصاً عليه في الكتاب ولا في السنة؛ لأن الخلق الحسن ممدوح شرعاً وعقلاً وعرفاً، وإن لم يرد على هذا الخلق نص في كتاب الله ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أن الكتاب والسنة قد نبها وحضا وحثا على حسن الخلق، وحسن الصحبة والعشرة، وجاء الكتاب والسنة باعتبار أعراف الناس، فهي معتبرة ما لم تخالف كتاب الله ولا سنة النبي عليه الصلاة والسلام. صنف الإمام الكبير أبو البركات الغزي كتاباً في حسن العشرة وآدابها، وذكر الصحبة والأخوة، وهو كتاب عظيم جداً في بابه، فقد ذكر الأصول التي ينبغي أن يتحلى بها الأخلاء والأصحاب، وذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان). وهذا حديث عظيم جداً، ولا يشعر بعظمة النصوص إلا من عاشها، فإن المؤمن لو وقع في بلية من البلايا ونزلت به آفة من الآفات واجتمع حوله المؤمنون في بليته هذه، وأخذوا بيده وواسوه فيها وأعانوه على أن يخرج منها بسلام فإنه يشعر بأهمية الأخوة الإيمانية، ويشعر بأن المؤمن للمؤمن كالبنيان، تماماً بتمام؛ لأن البنيان لا يقوم ولا يتماسك إلا إذا رصت أحجاره واتصل ببعض، وكذلك المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.

المؤمن لا يصحب إلا مؤمنا

المؤمن لا يصحب إلا مؤمناً قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف -أي: اجتمع وتلاقى- وما تناكر منها اختلف). ولذلك فالمؤمن لا يستريح مع الفاجر الفاسق، والعكس بالعكس سواء؛ لأن روح المؤمن طيبة نقية، وروح الفاسق خبيثة لئيمة، فلا يجتمعان، فـ (الأرواح جنود مجندة)، أي: كالجنود تماماً، (فما تعارف منها ائتلف)، واجتمع وانظم بعضه إلى بعض. (وما تناكر منها اختلف)، وتباعد وتنافر، فإذا أراد الله بعبد خيراً وفقه لمعاشرة أهل السنة والجماعة والصلاح والدين، ونزهه عن مصاحبة أهل الأهواء والبدع المخالفين. ومن علامات سعادة المرء أن يصاحب مؤمناً، ولا يصاحب شقياً خبيثاً، ومن سعادته كذلك أن يوفق إلى مسجد بجوار داره قائم على السنة، وأن يوفق لشيخ يعلمه العقيدة الصحيحة وأصول دينه، ومن تعاسة المرء وسوء قدره وقلة نصيبه وحظه أن يتعرف على رجل من أهل البدع فيعتقد أنه أعلم الناس وأتقاهم، فيشرب بدعته، ويكون بئس الخلف لبئس السلف، بخلاف من وفق لأهل الصلاح والدين لأجل الاستقامة كذلك. وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ماشاه وللشيء على الشيء مقاييس وأشباه وللقلب على القلب دليل حين يلقاه

آداب الصحبة والأخوة

آداب الصحبة والأخوة إذا وفقت ابتداء لرجل من أهل الصلاح ينصحك إذا أخطأت، ويردك إلى الصواب إذا شردت؛ فاعلم أن هناك آداباً وأحكاماً وأصولاً تتبع بين هؤلاء الأصدقاء.

حسن الخلق

حسن الخلق ومن هذه الآداب: حسن الخلق، فيتخلق كل واحد لصاحبه بأحسن ما عنده من خلق، فهذا واجب لكل أخ على أخيه، ولما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (ما خير ما أعطي المرء -أي: ما أعظم شيء يعطى المرء-؟ قال: الخلق الحسن). والخلق الرديء المذموم تنفر منه الطباع، حتى البهائم والحيوانات والحشرات تنفر من الخلق السيئ، فتجد الحيوانات تنفر من أصحابها إذا كانوا يكثرون ضربها، ولا يؤدون لها حقها من الطعام والشراب والمبيت وغير ذلك، وأنتم تعلمون قصة الجمل الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وتكلم بين يديه، وشكا صاحبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه سيء الخلق.

حسن الظن

حسن الظن ومن حقوق الأخوة: تحسين الظن؛ فإذا كان صالحاً فحقه عليه أن يحسن به الظن، ولذلك يقول ابن سيرين: احمل أخاك على أحسن الظن إلا أن تعذر، يعني: إلا ألا تجد في الخير محملاً، كأن يفعل فعلاً أو يقول قولاً ليس له فيه مخرج، فأما مادام هناك مخرج فلابد من حمله على أحسن المحامل حتى وإن كان في ظاهره قولاً سيئاً، وقل: إنما كان يقصد كذا، فمن حق الأخ عليك حمل عيوبه على التحسين لا على التقبيح، ولقد قال ابن المبارك: المؤمن يطلب معاذير إخوانه، يعني: دائماً يرى لهم العذر في أفعالهم وأقوالهم القبيحة، ويجد لها مخرجاً، بخلاف الفاجر والمنافق فإنه يطلب عثراتهم، وإن أخطئوا عفواً أو سهواً أو خطأ فإنه لا يغفر لهم هذا الخطأ وهذه الزلة قط، وأما المؤمن فإنه وإن كان هذا الفعل قبيحاً فإنه يحمله على محمل حسن.

المعاشرة بالحسنى

المعاشرة بالحسنى ومن حقوق الأخوة في الله: المعاشرة بالحسنى، ومعاشرة الموثوق بدينه وأمانته ظاهراً وباطناً، كما قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} [المجادلة:22]، وعدد الله عز وجل في الآية كل ما يمكن أن يكون قريباً منه، فلا يمكن أن تكون هناك مودة قط بين رجل آمن بالله ورسوله وبين رجل لم يؤمن بالله ورسوله، ولو كان أقرب المقربين إليه. وحسن المعاشرة تكون مع الأكابر بالحرمة والخدمة والقيام بأشغالهم، وتكون مع الأقران ومن كان في عمرك وسنك بالنصيحة، وبذل الموجود الممكن لهم، ما لم يكن إثماً، وللصغار والأتباع بالإرشاد والتأديب والحمل على ما يوجبه العلم، وآداب السنة، وأحكام البواطن، والهداية، والتقويم بحسن الأدب.

الصفح عن العثرات

الصفح عن العثرات ومن حقوق الأخوة كذلك الصفح عن عثرات الإخوان، وترك تأنيبهم عليها؛ لأن المرء إذا أُنب على كل خطأ فلابد أن يمل، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى خطأ من بعض أصحابه نصح نصيحة عامة، ولا يخص الذي أخطأ بعينه، وإنما كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)، ولا يقل: ما بال فلان بن فلان، أو فلانة بنت فلان، وإنما يقول: ما بال أقوام، فيصلح أمر المخطئ، ويعم بالنصيحة دون إحراج، لا يخص الذي أخطأ، فربما لا يدري الذي أخطأ أنه أخطأ أو أنه خالف الشرع، فالأولى أن يترفق به، ولا يؤنب في كل كبيرة وصغيرة، ويتوجه إليه بالنصيحة بلطف ورفق، وموافقة الإخوان والأصحاب والخلان خير من مخالفتهم الدائمة، ما لم يكن في هذه الموافقة إثم في مخالفة أمر أو ارتكاب نهي، والعفو عن زلاتهم وحمد الإحسان منهم أكبر عامل على دوام هذه الأخوة الإيمانية.

ترك الحسد

ترك الحسد ومنها: ترك الحسد، فهو من أعظم عوامل تآلف القلوب، واحتفاظها بالود القائم بينها، ولو علم عن صاحب أنه يحسد ويستكثر نعمة الله عز وجل على إخوانه وأصحابه فسينفضون عنه وينفرون منه، فترك الحسد أعظم عامل على دوام الصحبة وبقائها، فعلى المرء أن يفرح بذلك ويحمد الله على ذلك، كما يحمده إذا كانت هذه النعمة عليه هو، والله تعالى ذم الحاسدين على ذلك بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]، فهو فضل الله عز وجل، والحاسد لم يؤمن بقضاء الله وقدره المقدر قبل خلق السماوات والأرض؛ لأنه لو آمن بهذا القدر لبارك لإخوانه ما آتاهم الله تعالى من فضله، وحمده تبارك وتعالى على ما أنعم به عليه، أو صبر على ما وقع به من بلية وكرب، فإن من العباد عباداً فقراء لو أغناهم الله تبارك وتعالى لكفروا بهذه النعمة، وإن من العابد عباداً لو أفقرهم الله لكان الفقر سبباً في هلاكهم بل وفي كفرهم، فالله عز وجل حكيم يضع نعمه حيث شاء، فإذا وضع نعمة المال أو الصحة أو العافية أو الفراغ عند عبد فإنما وضع ذلك لحكمة عظيمة، وإذا نزع ذلك من عبد فإنما نزعه لحكمة عظيمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (كاد الحسد أن يغلب القدر). وهو حديث فيه ضعف إلا أن معناه صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تحاسدوا). والنهي هنا للتحريم.

البشاشة في وجوه الأصحاب

البشاشة في وجوه الأصحاب كذلك من حقوق الأخوة الإيمانية: إظهار الفرح والبشاشة، وأعظم من يتحلى بهذه الصفة هم أهل العلم، وأكثر الناس تخلياً عن هذه الأخلاق هم العباد؛ لأن العباد يعتبرون أن البشاشة والتبسم كبيرة من الكبائر، ومنقصة، ومذهبة لبهاء عبادتهم، والشيطان يعلم أن العالم خير من ملء الأرض من العباد، وإن العالم ليمزح مع إخوانه وطلابه، وفي مزحه معهم غيظ ودحر للشيطان. وبشاشة الوجه ولطف اللسان وطلاقته وسعة القلب وبسط اليد وكظم الغيظ وترك الكبر وملازمة الحرمة وإظهار الفرح بما زرق من عشرتهم وأخوتهم أمر ممدوح في كل شريعة نزلت من عند الله عز وجل.

مصاحبة أهل العلم والصلاح

مصاحبة أهل العلم والصلاح ومن حقوق الأخوة: ألا تصاحب إلا عالماً، أو عاقلاً فقيهاً حليماً؛ لأن صحبة الجهال لا تثمر إلا نكداً، وصحبة أهل العلم والصلاح والديانة فيها ثمرات يانعة، وخيرات عظيمة جداً، فإنهم إذا رأوك على معصية قومك ونهوك، بخلاف الجاهل الفاسق فإنه إذا وجدك على طاعة استهزأ بك، وسخر منك، حتى تشعر بضعف إيمانك وقلة علمك بالله عز وجل، حتى تشعر بأنك أقل منه، ثم تفقد الإيمان شيئاً فشيئاً حتى تكون على منهجه وأخلاقه وسلوكه، والمرء على دين خليله. قال ذو النون رحمة الله عليه: ما خلع الله على عبد من عبيده خلعة أحسن من العقل، ولا قلده أجمل من العلم، ولا زينه بزينة أفضل من الحلم، وكمال ذلك كله تقوى الله.

سلامة القلب للصاحب ونصيحته

سلامة القلب للصاحب ونصيحته ومنها: سلامة القلب، وإسداء النصيحة من علامات صحة الصحبة، وحسن العشرة، والله تعالى يقبل ذلك منه، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]. فلابد أن يكون قلبك سليماً في معاشرتك لإخوتك وخلانك، وأما إذا كان القلب فاسداً ممتلئاً بغضاً وحقداً وحسداً وغلاً وغشاً وخيانة لرفيقك في الطريق أو لجارك أو لمن يصلي بجوارك بالمسجد فكيف تسمي هذه العلاقة صحبة؟! وقال السقطي رحمة الله عليه: من أجل أخلاق الأبرار سلامة الصدر للإخوان والنصيحة لهم. وكل حرف من هذا يحتاج إلى ضبط، إلا أننا نجمل المعاني اتكالاً على أن معاني هذا الكلام معلومة لدى السامع. فمن أجل أخلاق الأبرار والصالحين سلامة الصدر والنصيحة للإخوان، وإن رأى الناصح في أخيه منقصة نصحه بلطف. واليوم أصبحت النصيحة آخر العهد بين الصاحبين، فما دام أنه نصح فقد وقف على فضيحة ومنقصة فيه، فيسد هذا الباب تماماً؛ لأنه كل قليل سيرى أنه أرفع منه، وأصبح من يقبل النصيحة الآن قلة جداً، بل إن الواحد يطلب النصيحة فإذا نصح وقيل له: إن فيك كيت وكيت قال: وأنت أيضاً فيك كيت، ويرد النصيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يرى أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه). والمؤمن مرآة أخيه، فهو يرى أدق العيوب التي عند صاحبه وأصغرها وأحقرها، وهذا الصاحب عنده عيوب كبائر وعظائم، ولكنه لا يراها، وهو غافل عنها، فإذا ذكر بها قال له: وأنت عندك مصائب، فإذا قلت: إن هذه التي تذكرني بها قد تبت منها إلى الله عز وجل، قال: وأنا لن أنساها لك، فلن أنسى أنك في يوم كذا زنيت، وفي يوم كذا سرقت، وفي يوم كذا قطعت الطريق، وفي يوم كذا غششت، وفي يوم كذا خنت، ولو تبت من هذا كله فلن أنساه، فما دام أنك تكشف ستري فأنا أيضاً سأكشف سترك. وهو الذي قال له أولاً: انصحني. فلا أحد يقبل اليوم النصيحة بصدق وإخلاص لله عز وجل، فإذا نصحك ناصح وأغلظ لك في النصيحة فاقبلها منه واشكره عليها، وقد كان عمر بن الخطاب -الذي هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الذين شهدوا بدراً والعقبة، وهو من خيار الصحابة- يقول: ما أبقت لي النصيحة صاحباً. إن سلامة القلب وإسداء النصيحة من ألزم حقوق الأخوة، ولكن وسع صدرك من أجل أن يصلح حالك، واطلب النصيحة من أجل الاستقامة، والنصيحة ثقيلة على القلب، فعلى من يطلبها أن يوسع قلبه وصدره لقبولها وليجاهد نفسه على ذلك.

الوفاء بالوعد

الوفاء بالوعد ومن حقوق الأخوة أيضاً: عدم إخلاف الوعد، يقول عليه الصلاة والسلام: (آية المنافق ثلاث وذكر منها: إذا حدث كذب) فلا يمكن مصاحبة من اشتهر عنه الكذب؛ إذ كيف يصدق هذا؟! فهو كلما تكلم كذب، فكلامه لا يؤمن، وهذه الصحبة ستكون في منتهى الحذر، إذ كل ما يقوله يلزم التحقق منه، فمثل هذا لا يمكن مصاحبته. (وإذا وعد أخلف)، أي: لا يكاد يفي بوعد إذا وعد. (وإذا اؤتمن خان). وقال الثوري رحمه الله: لا تعد أخاك وتخلفه فتعود المحبة بغضاً. وقد أنشدوا فيمن اعتاد خلف الوعد: يا واعداً أخلف في وعده ما الخلف من سيرة أهل الوفا ما كان ما أظهرت من ودنا إلا سراجاً لاح ثم انطفا

صحبة أهل الوقار ومن يستحيا منه

صحبة أهل الوقار ومن يستحيا منه ومنها: صحبة أهل الوقار، ومن يستحيا منه؛ ليزجره ذلك عن المخالفات، وأما صحبة أهل اللهو واللعب فإنها تعلم اللهو واللعب، وصحبة أهل السمت والوقار والسكينة والرجولة والجد والصبر عليها تعلم الوقار والسكينة والحلم والجد وترك اللهو والهزل، وقد قال علي كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه. فكأن الحياء هذا يموت ويحيا، وحياته بمصاحبة من يستحيا منه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه، أي: من لا أستحي منه، وهذا مثل الشخص إذا خلا بنفسه واستشعر أن الله تعالى مطلع عليه ويراه فإنه لا ينتهك محارم الله قط. وقد سألني سائل أنه لا يقوى على ترك الاستمناء، فقلت: أتستمني أمام أبيك؟ قال: لا، قلت: وأمام أمك؟ قال: لا، أمام أحد من الناس؟ قال: أحياناً أستمني مع أصحابي، أراهم ويرونني، فقلت له: إذا كنت لا تستمني وتستحي من والديك ومن أصحاب الوقار وأهل العلم والصالحين فكيف لا تستحي من الله عز وجل إذا خلوت؟! فأقسم بالله ألا يعود إليها قط مهما بلغت به الشهوة، فقلت له كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن تصدق الله يصدقك). فلو كنت صادقاً في هذا العهد مع الله عز وجل فلابد وأنه سيصرف عنك هذا الشر.

الإخلاص لله في الصحبة

الإخلاص لله في الصحبة ومنها: أن تكون الصحبة قائمة على الإخلاص لله عز وجل، فلا تصحب أحداً لمصلحة، ولا لغرض، ولا لحيازة متاع، وإنما ترعى في الصحبة صلاح الإخوان لا مرادهم، يعني: لا تراعي صاحبك هذا في ماذا يريد منك فتفعله، وإنما صاحبه لأجل صلاحك وصلاحه، لا لأجل هواه، سواء كان هذا الهوى مخالفاً أو موافقاً للشرع، فإن هذا من سوء العشرة والصحبة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). والعبد يحب لنفسه الصلاح والتقوى، ولا يكون العبد على غير ذلك إلا إذا كان العبد منكوس الفطرة معكوس الهداية، وقد قال أحد الحكماء: صفوة العشرة للخلق رضاك عنهم بمثل ما تعاشرهم به. وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله: اطلب الفضل بالإفضال منك، فإن الصنيعة إليك كالصنيعة منك. يعني: لابد أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وهذا الذي عبر الله تبارك وتعالى عنه بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. ولو أن رجلاً يقدم إخوانه على نفسه في ماله فهذا إخلاص في الصحبة، وأعظم ما تجد الإيثار في النوازل والملمات وأوقات الضيق، مثل السجون، فتجد الواحد يأتي لزيارة السجون ومعه الملابس والطعام والأموال والأدوية، فيتصدق به المسجون على بقية إخوانه ويؤثرهم؛ لأنه في خلوة بين هذه الجدران الأربعة مع الله عز وجل، فهو يرجع ويتوب ويراجع نفسه في كل قولة وحركة وسكنة فهو قريب من ربه، والعبد غالباً ما يقترب من ربه ويستشعر قرب ربه منه إذا نزلت به بلية، فإذا انغمس في مجتمع الشهوات والحيوانات تناسى ما كان عليه من إخلاص وقرب وإيثار لإخوانه.

المودة

المودة ومنها المودة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ثلاث يصفين لك ود أخيك)، يعني: إذا فعلت ثلاثاً مع إخوانك صفا لك ودهم، (أن تسلم عليه إذا لقيته)، فلو قابلك أخ ولم يسلم عليك وهو يراك وترك السلام متعمداً فإنك تغضب منه، ولو سلم بتحية غير تحية الإسلام فإنك تغضب أيضاً، فلو قال لك: صباح الخير، لقلت: هذه تحية الإفرنج، والسلام أين ذهب؟ وفي نفسك ألا ترد عليه، وأما السلام فهو يزيد في المحبة، ويقرب الود ويثبته، ويقويه في القلب، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

ترك الغل والضغينة ولزوم الصفح والعفو

ترك الغل والضغينة ولزوم الصفح والعفو ومنها: ترك الغل والضغينة وأمراض القلب، ولزوم الصفح والعفو عن الإخوان، قال هلال بن العلاء: جعلت على نفسي ألا أكافئ أحداً بشر ولا عقوق؛ اقتداء بهذه الأبيات: لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من غم العداوات فأول نتيجة للعفو والصفح أنه يريح النفس من الرد على هذا. إني أحيي عدوي حين رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر للإنسان أبغضه كأنه قد حشا قلبي مسرات وأنشد أحمد بن عبيد عن المدائني: ومن لم يغمِّض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهداً كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب يعني: لن يسلم لك صاحب ليس عليه عتاب ولا عيوب، فهو بشر جبل على النقص والعيب، ولو أنك التمست صديقاً لا عيب فيه فلن تجد، وستكره حتى نفسك بعد هذا؛ لأن فيك عيوباً. والنبي عليه الصلاة والسلام كان حسن الخلق جداً حتى مع عبدة الأصنام والأوثان، بل ومع المنافقين الذين أطلعه الله عز وجل على ذواتهم، وأسمائهم، وقد (استأذن رجل على رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: من؟ فقال: فلان، فقال: ادخل بئس أخو العشيرة، فلما دخل هش في وجهه، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! قلت كذا وكذا، فلما دخل هششت وبششت في وجهه! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هؤلاء أقوام تبغضهم قلوبنا، وشر الناس من يتقى لفحشه). فهذا إنسان فاحش، وأنا أتجنب فحشه بطلاقة وجهي وبشاشتي في وجهه، وهذا يسميه أهل العلم المداراة، وهو ليس نفاقاً.

حفظ العهد

حفظ العهد ومنها: حفظ العهد.

ملازمة الأخوة والمداومة عليها

ملازمة الأخوة والمداومة عليها ومنها: ملازمة الأخوة، والمداومة عليها، وترك الملل منها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، أي: وإن كان قليلاً، ولكن صاحبه مداوم عليه، فهذا خير وأحب إلى الله من عمل كثير منقطع. وقال محمد بن واسع: وليس لملول صديق ولا لحاسد غنى.

إقلال العتاب والإغضاء عن بعض العيوب

إقلال العتاب والإغضاء عن بعض العيوب ومنها: إقلال العتاب والإغضاء عن الصديق في بعض المكاره. قال الشاعر: صبرت على بعض الأذى خوف كله ودافعت عن نفسي بنفسي فعزت أي فأصابها العزة. فيا رب عز ساق للنفس ذلها ويا رب نفس بالتذلل عزت

ترك الاستخفاف بالإخوان

ترك الاستخفاف بالإخوان ومنها: ترك الاستخفاف بالإخوان، ومجالس الفساق كلها استخفاف واستهزاء وضحك لا قيمة له، وقلة عقل وتفاهة في الأسلوب والنقاش والتفاهم، وكل ذلك من أردأ أنواع الخلق، فاعرف كل واحد منهم لتكرمه على قدره؛ لأن الإسلام أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وكل واحد له في الإسلام منزلة، فلا يساوى في الإكرام وفي المنزلة بين العزيز وبين الذليل، ولا بين صاحب الطاعة وبين من خلط طاعته بمعصية، فكل له قدره، والاستخفاف بأهل العلم ليس كالاستخفاف بغيرهم، قال ابن المبارك: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته؛ لأن العلماء هم الذين يدلونك على الآخرة، فإن استخففت بهم خزنوا عنك علمهم، فخضت في العماية والجهالة والحيرة، حتى لا تدري أين تضع قدمك. وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف من خيار التابعين، وكان في خلقه حدة، وقد كان تلميذاً لـ ابن عباس ولكنه كان يغلظ له، فلما مات ابن عباس وبرز سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وغيرهما من تلاميذ ابن عباس الذين عرضوا القرآن عليه مرات ورأى ذلك أبو سلمة قال: سبحانك ربي! لو أني رفقت بـ ابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً. ولكن حدته وسوء خلقه ضيعته عن شيخه، فخزن عنه العلم، ولذلك ورد عن كثير من السلف التحذير من ذلك، وذكر ذلك ابن عبد البر والخطيب البغدادي في كتبهم التي تكلمت عن أحكام الرواية وآدابها، كجامع بيان العلم، والفقيه والمتفقه، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وذكروا أبواباً كثيرة في الآداب التي يتحلى بها الطالب مع شيخه، وكيف يستخرج ما عند شيخه من علم بحسن الأدب والسمت والهدي والذل والأخلاق، أبو سلمة ندم ندماً شديداً على أنه لم يتأدب مع ابن عباس. يقول مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير، كل منهما يقول: وإني كنت أحصل على المسألة من ابن عباس ولو أذن لي أن أقبل قدمه لفعلت. فانظروا وقارنوا بين موقف هذين وبين موقف أبي سلمة. ولذلك كان كثير من السلف إذا دخل في المجلس من يكرهه يقول: إما أن تنصرف، وإما ألا أحدثكم اليوم ولا غداً. وكان إسماعيل بن أبي عياش والفضيل ورجاء بن حيوة وابن عون ومالك والشافعي وابن عيينة والثوري يهابون في مجالس العلم أعظم من هيبة الأمير، حتى كان لا يبرى قلم، ولا تقلب ورقة، ولا يضحك ولا يبتسم في مجالسهم، ولذلك ورد عن الأعمش أنه كان يملي في مجلس فإذا قال: حدثنا فلان سمع همهمة فقال: السماء تمطر؟ قالوا: لا، فيسكت ثم يقول: حدثنا فلان، فيسمع همهمة، فالكل يحدث بعضهم بعضاً: حدثنا فلان ويسكت، فيسمع من مجموع الأصوات كأن السماء تمطر فيقول: السماء تمطر؟ فيقولون: لا، فيقول: بل تمطر. فينظر كل واحد منهم إلى سقف المسجد فيقولون: لا تمطر يا شيخ! فيقول: إذا سمعت مطر السماء قمت عنكم لا أرجع إليكم إلا بعد شهر. ورجاء بن حيوة لما ضحك أحد في مجلسه قال: أتطلب العلم وأنت تضحك؟! فقال: يا إمام! أليس الله تبارك وتعالى قال: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]؟ يعني: يريد أن يقول له: الضحك هذا بقدر الله عز وجل، فهو الذي أضحكني، فيقول له: إذاً: ابك، فقد قال الله: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]. ثم انطلق رجاء ولم يعد إليهم إلا بعد شهر بشفاعة الشافعين. فهناك آداب ينبغي أن يتحلى بها الطالب؛ حتى يحصل على العلم.

عدم مقاطعة الصديق بعد مصادقته

عدم مقاطعة الصديق بعد مصادقته ومنها: ألا تقاطع صديقاً بعد مصادقته، ولا ترده بعد قبول، ولذلك قال الشاعر: لا تمدحن امرأً حتى تجربه ولا تذمنه من غير تجريب فإن حمدك من لم تبله سرف. يعني: مدحك لمن لم تخبره وتعرف أخلاقه من الإسراف. وإن ذمك بعد الحمد تكذيب. وهذا كما فعل اليهود مع عبد الله بن سلام، فقد كان عبد الله بن سلام حبراً من أحبار اليهود، ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وسمع بمقدمه أتاه فقال: يا محمد! إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي، فسأله ثلاثة أسئلة فلما أجابه النبي عليه الصلاة والسلام قال: أشهد أنك نبي ودخل في الإسلام، ففرح النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامه فرحاً شديداً جداً؛ لأنه حبر كبير من أحبار اليهود، وقد كان يمثل المرجعية لليهود، كالبابا شنودة اليوم يمثل المرجعية للنصارى، فتصور شنودة أسلم -وذلك ليس ببعيد على الله عز وجل- فما موقف النصارى في مصر؟ ولو أن بابا الفاتيكان أسلم فما موقف أمة النصارى؟ والنبي عليه الصلاة والسلام لما وجه الرسالة لـ هرقل قال له: (أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين). مرة على الإسلام، ومرة على الأريسيين -أي: على الفلاحين- الذين معه، فلو أسلم لأسلم من معه، ولو بقي على الكفر لأعطى لهم مصداقية ومشروعية لما هم عليه من كفر. فأهل العلم يستفاد منهم في كل قولة وحركة وسكنة، ولو أخطئوا فهم بشر، ولابد من احتمال الخطأ منهم، وقد كان السلف قبل أن يذهبوا إلى المجلس يتصدقون عن شيوخهم وعلمائهم، ويقولون عند الصدقة: اللهم استر عيوب شيوخنا، ونحن في هذا الوقت نذهب نتلمس عورة الشيوخ وأهل العلم وتصبح فضيحة، وهذا ليس من خلق الإسلام أبداً. ولما سرق رجل مصري في الأردن سنة خمس وثمانين سرقة عظيمة يقام عليها الحد اجتمع هناك الإخوة والمشايخ والعلماء وفضحوه فضيحة عظيمة، وهذا الذي سرق ولد صالح، ولكن وقع في السرقة، هذه مثلما وقع ماعز الأسلمي في الزنا ووقعت المرأة الغامدية في الزنا، فلا حرج عليه إن تاب، وأرسل أحد الشيوخ هناك لوالد الولد هنا رسالة طويلة عريضة جداً يبين له أن ولده سرق وقد انتشر الخبر في كل بقاع الأردن بل وغير الأردن من البلاد المجاورة كالسعودية وغيرها، فرد والد الولد على ذلك الشيخ برسالة لطيفة جداً كلها تنضح أدباً، فقال: أيها الشيخ الفاضل! إذا كان ولدي سرق فهو بين أمرين، إما أن تقيموا عليه الحد إن وسعكم، وإما أن تستروا عليه وهذا يسعكم، ولا يوجد غير هذا، فإما أن يؤدب بأدب الشرع، وإما أن يستر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ هزال الذي كان ماعز في حجره: (ويحك يا هزال -يعني: يا ويلك- لو سترته بثوبك لكان خيراً لك). وإذا صفا لك من الدنيا صديق واحد فقد رضي الله عنك، وقد كتب عالم إلى عالم مثله أن: اكتب لي بشيء ينفعني في عمري، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، استوحش من لا إخوان له -يعني: من ليس له أصدقاء فإنه في وحشة وضيق- وقد فرط المقصر في طلبهم، وأشد منه تفريطاً من ظفر بواحد منهم فضيعه، فوجد الكبريت الأحمر أيسر من وجدانه. أي: أن وجد الكبريت الأحمر أيسر من وجدان الصديق المخلص، أي: أن وجدان الصديق المخلص أشد عزة وندرة من وجدان الكبريت الأحمر، والناس ثلاثة: معرفة، وأصدقاء، وإخوان، فالمعرفة بين الناس كثيرة، فأنا أعرف فلاناً وفلاناً وفلاناً، ولكن ليس بيني وبينهم صداقة، والصداقة عزيزة، والأخ قلما يوجد، يعني: الصديق عزيز جداً ومناسب جداً، وأندر منه الأخ الذي أنت وهو سواء.

التواضع وعدم الكبر

التواضع وعدم الكبر ومن حقوق الأخوة كذلك: التواضع وعدم التكبر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد). وقيمة التواضع أنه ينجي من الفخر بين الناس، والبغي عليهم، فمن كان صاحب تواضع وإخبات وذل فليعرف أن هذه نعمة الله عز وجل أداها إليه ولو شاء لسلبه إياها ومنحها آخر، فيصبح متعالياً على الناس ومفسداً في الأرض بهذا المال ومتكبراً على عباد الله، فإن كان الآخر من أهل الصلاح استصحب التواضع، فكان المال بين يديه محموداً، بخلاف الأول الذي كان المال بين يديه مذموماً؛ لأنه استخدمه في الكبر والفخر والخيلاء والغطرسة والتعالي على إخوانه وعدم أداء حقوق الله عز وجل في هذا المال، بخلاف الرجل الصالح الذي يعرف حق الله وحق العباد فيما رزق من مال، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح). فقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام المال بالصلاح مع أن المال في ذاته لا يوصف بالصلاح ولا الفساد؛ لأن المال يصلح أو يفسد بسبب مالكه، وإنما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاح؛ لأنه لا يستخدم إلا في أوجه الصلاح، والذي يستخدمه هو ذلك العبد الصالح.

جوامع العشرة

جوامع العشرة وجوامع العشرة قول ابن الحسن الوراق وقد سأل أبا عثمان عن الصحبة، قال: هي مع الله تعالى بالأدب، أي: حسن الصحبة مع الله عز وجل أن تتأدب معه عز وجل وتعرف ما له عليك. ومع الرسول عليه الصلاة السلام بملازمة العلم واتباع السنة. وأنت إذا نظرت إلى الصحبة مع الله عز وجل تجد الكثير جداً من الأمة لا يحسنون صحبة الله عز وجل؛ لأن الكل يسخر بالله وبأسمائه وصفاته وكتابه وأنبيائه ورسله، ويكتبون سخريتهم على صفحات الجرائد والمجلات، ويسخرون أيضاً بأهل العلم والفضل، وحسبنا أن الكلمة النافعة تمكث في الأرض وتبقى ويكون لها الجذور، وينتفع بها من وفقه الله عز وجل للخير، ولذلك قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، وقد ضرب الله عز وجل للكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة مثلاً بالشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة، فهذه تثمر وتورق، ويعم خيرها بخلاف الأخرى، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للمسلم بالشجرة الطيبة، فقال: إن مثل المسلم مثل شجرة، فضرب الناس في أشجار البوادي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما هي؟ قال عبد الله بن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة -لأنها تثمر رطباً وبلحاً، وتغذي أصحابها وطالبيها-، ولكن منعه أن يتكلم صغر سنه، فلما أخبر بذلك أباه، قال: لو كنت قلتها لكانت أحب إلي من الدنيا وما فيها. فالمرء يحب لولده الخير أكثر مما يحبه لنفسه. ولو نظرنا إلى التأدب مع الله عز وجل في هذا الزمان لوجدنا أمراً عجباً جداً، والأعجب منه أنه يسب الله تعالى، ويسب كلامه ويعترض على الله عز وجل في كل آية، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل حديث، ويدعي من يفعل ذلك أنه مسلم، وهذا أمر محير؛ إذ كيف يكون مسلماً وهو يرد على الله عز وجل معظم كلامه، ولا يتعامل مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا من منطلق ضحالة عقله، فما وافق العقل أخذه وما خالفه رده؟ فهو ينسب العيب لدين الله عز وجل ولشرعه ولا ينسبه لنفسه أبداً، فكيف يكون هذا إيمان ودين؟! فالأدب مع الله في هذا الزمان قليل، بل هو أقل من القليل، فكل يوم يظهر شخص يسب النبي صلى الله عليه وسلم، ويسب الله عز وجل ويسب الدين، وفي هذا الوقت أصبح سب الإله بين أطفال المسلمين مثل مضغ اللبانة، وحتى في مجتمعات الكفر لا تجد سب الدين إلا من المسلمين أيضاً، وحتى الكفار أنفسهم لا يسبون الدين، ولم يعهد ذلك إلا في بلاد المسلمين وخاصة في مصر. فحسن الصحبة مع الله عز وجل هي بالتأدب معه عز وجل، والتأدب مع كلامه، ومع أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى. والتأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام بملازمة العلم واتباع السنة، والخطاب بالسنة إذا كنت طالب علم. ومع الأولياء بالاحترام والخدمة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، يعني: من آذى ولياً من أولياء الله عز وجل فبدلاً من أن تكون الحرب بينه وبين ذلك الولي تنتقل مباشرة إلى حرب بين الله تعالى وبين هذا الذي آذى عباد الله وأولياءه، ومن يطيق محاربة الله له؟ فالخلق بأسرهم أضعف من أن يدخلوا مع الله عز وجل في كيد أو في حرب. وكذلك مع الإخوان بالبشر والانبساط وترك وجوه الإنكار عليهم، أي: ترك الإنكار عليهم في كل صغيرة وكبيرة، إنما تنكر عليهم ما لا يسعك السكوت عنه، ولم يكن فيه خرق شريعة أو هتك حرمة، كما قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199]. والصحبة مع الجهال بالنظر إليهم بعين الرحمة، فالجاهل إذا وقع في معصية بجهله فإنه يحتاج إلى صبر، والكلام هذا يلزمنا نحن أكثر مما يلزم العوام؛ لأننا نقابل هؤلاء الجهال، وهم لا علم لهم، بل ولا خلاق لهم، فمثلاً الرجل الذي دخل المسجد فبال فيه، لو تصورنا أن شخصاً جاء الآن وبال على جدار المسجد من الخارج من جهة الشارع فإننا سنقوم عليه قومة رجل واحد، فإما أن ينجو إن قدر على الهرب وإما أن يهلك، وكل واحد سيجد لفعله مسوغاً بأنه بال على بيت من بيوت الله، وهناك من سيقول له: يا كافر! وآخر سيقول له: يا فاسق! وثالث سيقول له: يا جاهل! فالرجل دخل المسجد فبال فيه قائماً، والصحابة فعلوا مثل ما كنا سنفعل نحن بالضبط، فقد قاموا عليه قومة رجل واحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه)، أي: لا أحد يفزعه، والرجل واقف يبول ولم يمنعه حتى الحياء، وبعد أن فرغ من بوله أتى وسأل: أين محمد؟ وهذه جلافة وسقطة ثانية، قال: ها أناذا، قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً. وهذه سقطة ثالثة، والنبي صلى الله عليه وسلم رد على هذه فقط، فقال: (لقد حجرت واسعاً). فرحمة ربنا وسعت كل شيء، فالناس الذين آمنوا أين ستأتي بهم؟ يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث: والحكمة النبوية اقتضت هذا؛ فلو أنهم قاموا وأزرموه وفجع

حفظ المودة والأخوة

حفظ المودة والأخوة ومنها: حفظ المودة والأخوة أمر مطلوب أيضاً، فقد دخلت امرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدناها، فقيل له في ذلك، فقال: (إنها كانت تأتينا أيام خديجة)، يعني: دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فأكرمها، فتعجب الصحابة رضي الله عنهم لاهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بها، فقال: (إنها كانت تأتينا أيام خديجة). وهذا الموقف قد وقع في بيت عائشة رضي الله عنها، فقد كان لـ خديجة أخت صوتها مثل صوت خديجة، فلما ماتت خديجة وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة سمع صوت أختها على الباب تنادي عليه صلى الله عليه وسلم، وكان رأسه في حجر عائشة وعليه إزاره، فلما سمع بصوت أخت خديجة قام مسرعاً وضم إزاره إلى حقوه، وخرج مسرعاً إليها وقال: هذه أخت خديجة، فغارت عائشة غيرة شديدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غارت أمكم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ ود خديجة رغم أنها قد ماتت، لما كان بينهما من ود وإخاء ومحبة وخدمة وغير ذلك، ومن أوفى في البشر بعهده من النبي عليه الصلاة والسلام؟ ما ذاقت النفس على شهوة ألذ من حب صديق أمين من فاته ود أخ صالح فذلك المغبون حق اليقين

صحبة السلامة

صحبة السلامة وصحبة السلامة، وهي كما عرفها أبو عثمان الحيري وقد سئل عنها فقال: أن يوسع الأخ على أخيه من ماله، ولا يطمع في ماله، وينصفه من نفسه، ولا يطلب الإنصاف منه، ويستكثر قليل بره، ويستصغر ما منه إليه. وهذا عظيم جداً، فعليك أن تحفظ ود أخيك بعدة أشياء: أن توسع عليه من مالك، فإذا كان في حاجة فاصرف عليه، ولا تحوجه إلى السؤال، فإن الحياء يقطع مالك، وإذا كنت صاحب مال فاعلم أن الله تعالى افترض في مالك حقاً لذلك الفقير، ولا تطمع في ماله. وأن تنصفه ولا تطلب الإنصاف منه، يعني: أن تنصفه من نفسك ولا تقل له: أنا أنصفتك من نفسي، فأنصفني أنت أيضاً، واترك هذه له هو، فطالما أنك أديت له حقه فلابد وأنه سيعطيك حقك. واستكثر قليل بره، يعني: إذا أعطاك هدية صغيرة فقل: لقد كلفت نفسك، وما كان لك أن تفعل هذا قط، وهذا أمر فوق الطاقة، ونحن لا نستحقه، وقد أتيت لنا بالدنيا بأسرها، وتشعره بأنه أعطاك جبلاً من الخير، ولا تستكثر ما أعطيته له، بل استكثر ما قد أتاك منه ولو كان هيناً ولا قيمة له.

معرفة حقوق الفقراء والقيام بحوائجهم

معرفة حقوق الفقراء والقيام بحوائجهم ومنها: معرفة حقوق الفقراء، والقيام بحوائجهم وأسبابهم، قال ابن أبي أوفى: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضي حاجتهما).

حفظ أسرار الإخوان

حفظ أسرار الإخوان ومنها: حفظ أسرار الإخوان، فإذا أردت إظهار سر فأطلع عليه شخصاً آخر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود). وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إفشاء السر خطراً عظيماً جداً، وصاحبه فيه خصلة من خصال المنافقين، فمن علامات المنافق أنه (وإذا خاصم فجر)، يعني: أنه يظهر كل عيوبك ونقائصك بعد الخصومة ويفشيها.

شرح كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي [1]

شرح كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي [1] سؤال أهل العلم أمر مشروع توافرت النصوص الكريمة على بيان حكمه، غير أن له آداباً عظيمة أرشد إليها السلف رحمهم الله تعالى بأقوالهم وأعمالهم، ينبغي لكل سائل ومستفت أن يتأدب بها وأن يراعيها.

بيان الأسباب الباعثة على التأليف والتصنيف

بيان الأسباب الباعثة على التأليف والتصنيف الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فموضوع درسنا هو بداية شرح كتاب: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) والذي يسميه العامة بـ: الداء والدواء. ودائماً لابد قبل وصف الدواء أن يحدد وأن يشخص الداء، وإلا فلا يكون العلاج أو الدواء مناسباً للداء، ولا يكون ناجحاً ولا ناجعاً حينئذ، والأئمة رضي الله عنهم قد سلكوا مسلكاً في التصنيف بعد السؤال، فكان الواحد منهم إذا سئل سؤالاً انبرى قلمه لإجابة السؤال في رسالة أو كتيب أو كتاب، وربما يكون الباعث على التأليف والتصنيف عموم البلوى، أي: بلوى تنزل فتعم المسلمين فيرى أنه من الواجب عليه -وقد هيئ لكشف هذه الغمة- أن يكتب فيها كتاباً ينور البصائر ويزيل الغمة، أو يذكر أسباب هذه الغمة، ثم يتكلم عن المخرج منها. وربما يكون السبب والباعث على التأليف والتصنيف: رد الجميل لذي النعمة والفضل، كإنسان أحسن إليه فأراد أن يكافئه. وربما يكون الباعث أيضاً: أن طلب منه ولا يسعه مخالفته، فينبري قلمه حينئذ لإجابة هذا الطالب، وغير ذلك من البواعث. وفي المقابل ربما يكون الباعث على التصنيف والتأليف: الرغبة في هدم الإسلام وخراب العقائد، ولذلك يكتب في دين الله الصالح والطالح، فنرى في عالم الكتب كتباً تكون عوناً لأبناء المسلمين على الثبات واليقين، وأحياناً نجد كتباً تهدم أصول الدين من صلاة وصيام وزكاة وحج، وكل على شاكلته، والطيور على أشكالها تقع، فترى أهل الإيمان مجتمعون، وترى أهل الشقاء كذلك مجتمعون، فهذا يجتمع على الخير، وذاك يجتمع على الشر، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:4 - 10] فكل ميسر لما خلق له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن القيم رحمه الله تعالى واحد من أئمة العلم، وأئمة الهدى، وشيخ من شيوخ الإسلام، سئل سؤالاً عن القلوب وأحوالها، وعن التخلص من عللها، فما استطاع أن يجيب السائل مشافهة، وإنما أجابه في رسالة مستقلة، هذه الرسالة سماها: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، أي: في شفاء القلوب من أدرانها وعللها وأدوائها، وغير ذلك مما يعتريها، فشخص الداء أولاً -أي: داء القلوب- من الغل والحقد والحسد والضغينة وغير ذلك، ثم بدأ يعالج كل واحدة من هذه، ويذكر أسباب الداء أولاً، ثم يصف العلاج المناسب بها، وما تبعت الأمة علماءها فخاب سعيها قط؛ لأن العلماء هم شموس الإسلام، وأنوار الهداية للخلق جميعاً، وهم الذين يجب أن يحكموا العالم، وهم الذين يجب أن يقودوا الناس، ويأخذوهم بنواصيهم إلى الله عز وجل، وإلى بر الأمان، ولابد أن يكون الذي ينير الطريق، ويسلك بالناس في غياهب الظلمات أن يكون حاملاً للمشعل، وليس ذلك لأحد إلا لأهل العلم.

نص السؤال المجاب عنه في الجواب الكافي

نص السؤال المجاب عنه في الجواب الكافي سئل ابن القيم عليه رحمة الله تعالى عن رجل ابتلي ببلية، وعلم أنها إن استمرت به أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق -أي: أنه سلك كل طريق لدفع هذه المصيبة عنه- فما يزداد الأمر إلا توقداً وشدة، فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟ فرحم الله من أعان مبتلىً، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى. هذا سؤال السائل، ولا شك أن الجواب كان أعظم من السؤال، إذ إن الجواب شمل الرد على السؤال وعلى غير السؤال مما يتعلق بالمسألة التي لأجلها سأل هذا السائل.

تأصيل مشروعية توجيه السؤال لأهل العلم بدلائل الكتاب والسنة

تأصيل مشروعية توجيه السؤال لأهل العلم بدلائل الكتاب والسنة لكن يحسن بنا قبل الدخول في أصل الكتاب، وفي رد الشيخ عن هذا السؤال، أن نبين أن هذا السائل إنما سلك سبيل السلف، كما كان الصحابة رضي الله عنهم عندما يتوجهون بالسؤال للنبي عليه الصلاة والسلام، وكما توجه المسلمون عامة بالسؤال، فأجابهم الله عز وجل بما يناسب المقام، ولذلك ورد في القرآن في أكثر من عشرة مواطن أن الله تعالى قال: ((يَسْأَلُونَكَ))، يعني: يا محمد! يسألونك عن كيت وكيت وكيت وكيت، فالجواب عن هذه المسائل هو: كيت وكيت وكيت. فتوجه أهل الحاجة والمسألة والنازلة بالسؤال إلى أهل العلم أمر له أصل في الكتاب والسنة.

السؤال عن الأهلة

السؤال عن الأهلة أما في الكتاب: فقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، والأهلة: جمع هلال، وهم قد سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن فائدة هذه الأهلة، فيبدأ الشهر في كذا وينتهي في كذا، فأجاب الله عز وجل: أن بهذه الأهلة تعرفون صومكم، ولذلك جاء في الحديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)، وكذلك تحسب بها عدة الطلاق، وكذلك تحسب بها بقية أحوال الناس ودنيا الناس، ولا غنى لأحد قط عن هذه الأهلة.

السؤال عن كيفية الإنفاق

السؤال عن كيفية الإنفاق وقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215] و (ماذا) هنا بمعنى (كيف)، أي: يسألونك كيف ينفقون؟ قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:215]، أي: من فضل، {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215].

السؤال عن حكم القتال في الأشهر الحرم

السؤال عن حكم القتال في الأشهر الحرم وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217]، أي: هل الأشهر الحرم فيها قتال يا محمد؟ {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:217] إلى آخر الآية. وقصة ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل سرية وأمر عليها عبد الله بن جحش، وأعطاه كتاباً وقال له: (لا تفتح الكتاب إلا في مكان كذا وكذا)، ففتح الكتاب في المكان الذي أمره النبي عليه الصلاة والسلام، فوجد فيه الأمر بقتال المشركين، وكان ذلك في آخر ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب، والمشركون كانوا يعدون أن هذا اليوم هو أول يوم من رجب، والمسلمون ظنوا أن هذا آخر يوم من جمادى، فما وجدوا أدنى حرج أن يقتلوا مشركاً لما انفردوا به، فأتى المشركون يعاتبون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له: أنتم الذين انتهكتم الأشهر الحرم وقتلتم فيها، مع أن دينكم ينهى عن ذلك. فأنزل الله قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217]، والتقدير: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام أهو جائز يا محمد؟ فلما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وأخرجوهم من بيت الله الحرام، وكان ذلك في الأشهر الحرام، رد الله عز وجل عليهم فقال: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:217]، أي: أن الذي فعلتموه أعظم من ذلك كله، {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217]، فأنتم الذين أخرجتمونا من المسجد الحرام، وربما يخرجوننا من المسجد الأقصى، بل قد أخرجونا بالفعل، فهذا أكبر إثماً وأعظم جرماً مما وقع من بعض أفراد السرية في قتل ذلك الرجل، ولو كان ذلك في شهر رجب الفرد، فإن ما فعلتموه أعظم جرماً وصد عن سبيل الله عز وجل.

السؤال عن حكم الخمر والميسر

السؤال عن حكم الخمر والميسر وقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219]، والخمر هو: كل ما خامر العقل، والميسر يطلق على كل أنواع القمار. قال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، ومنافعه هي: البيع والشراء والربح وغير ذلك مما كان يبدو للناس، لكن الإثم الذي فيه إثم متعلق بالدين، فلو قورنت به منافع الدنيا بأسرها لا تساوي هذا الإثم عند الله عز وجل. والمعلوم أن هذه الآية إنما هي حلقة من حلقات تهيئة المسلمين إلى التحريم القطعي لشرب الخمر ولعب الميسر. قال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]، أي: الفضل، وهو ما زاد عن حاجته، ولذلك: (أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن معي دينار. قال: أنفقه على نفسك، قال: إن معي ديناراً آخر، قال: أنفقه على أهلك. دينار ثالث قال: على ولدك، دينار رابع، قال: أنفقه على ذوي قرابتك الأولى فالأولى والأدنى فالأدنى، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً، وابدأ بمن تعول، واعلم أن اليد العليا خير من اليد السفلى)، ولذلك هل يجوز للإنسان أن يتصدق بما معه ثم يتكفف الناس بعد ذلك؟ A لا. والدليل على ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام زار سعد بن أبي وقاص في مرضه، وكان سعد صاحب مال كثير، فقال سعد للنبي عليه الصلاة والسلام: (ترى يا رسول الله ما نزل بي، وإني ذو مال، أفأتصدق بكل مالي، قال: لا، قال: بشطره؟ قال: لا. قال: بثلثه؟ قال: نعم والثلث كثير)، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: أحببت لو أن الناس نزلوا في وصاياهم من الثلث إلى الربع، لقول النبي عليه السلام: (والثلث كثير). ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة -أي: فقراء- يتكففون الناس).

السؤال عن اليتامى

السؤال عن اليتامى وقال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة:220] إلى آخر الآيات. وسبب نزول هذه الآيات: أنه وقع الحرج الشديد جداً لما نزل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فقام الصحابة رضي الله عنهم يميزون أموال اليتامى عن أموالهم، حتى إن أحدهم كان يصنع الطعام لليتيم من مال اليتيم ولا يقربه وإن فسد، وهذا إفساد للمال وخراب لهذه الذمة المالية، والإسلام لا يرضى بذلك، فلما وقع الحرج والعنت والمشقة للصحابة في هذا الباب سألوا النبي عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ))، أي: أن تميزوا أموالهم بشرط ألا يفقد منها شيء فهذا خير، وإن كان لابد من خلط أموال اليتامى بأموالكم، وأن تباشروا هذا بالمعروف؛ فهذا لا حرج عليكم فيه، وإن تخالطوهم فهم إخوانكم، وهم معكم على طعام واحد وشراب واحد، فكلوا من أموالهم بالمعروف، وهذا للوصي وولي اليتيم الذي لا يجد ما ينفق على نفسه، فله أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف، كأن يأكل سد رمق، لا يشبع، فلما رفع النبي عليه الصلاة والسلام عن أوصياء اليتامى الحرج في هذا الباب ارتفع العنت، والدين يسر. قال تعالى: ((قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ))، وهذا اللفظ عام، فالإصلاح في كل باب من أبواب الخير، من المطعم والمشرب والملبس والتعليم والتربية وحسن الأخلاق وغير ذلك، ولذلك نرى الكثير من الناس يفهم طريقة التربية للأيتام فهماً خاطئاً جداً، فما دام أن هذا الطفل يتيم فلا يقربه أحد ولا يزجره أحد ولا ينهره أحد مطلقاً، والعلة في ذلك: أنه طفل يتيم، فيتركونه يزداد من سوء الأخلاق يوماً بعد يوم، فإذا كبر بهذه الأخلاق أفسد في الأرض إفساداً عظيماً، لذا إصلاح هذا الطفل خير له من أن يتمادى في هذا الباطل وفي هذا الفساد، واليتيم إذا كان تحت يدك فيجب عليك أن تربيه، وأن ترعاه في أخلاقه وآدابه ومسلكه كما ترعى أولادك وزيادة؛ فتقيمه على الإصلاح، ولو كان ذلك بالقهر والقسر والجبر؛ لأن هذا هو الذي أمر الله عز وجل به المؤمنين، أو أمر به القائمين على أمر الأيتام. أما أن تتركه يرتع في الأرض كما يحلو له، ويفسد فيها كيف يشاء؛ فهذا ليس من أبواب الإصلاح، بل هو من أعظم أبواب الإفساد.

السؤال عن المحيض

السؤال عن المحيض وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، وسألوا عن المحيض لأن اليهود عليهم لعنة الله كانوا يمتنعون عن الأكل والشرب مع المرأة الحائض، بل ولا ينامون في البيت الذي فيه امرأة حائض، فإما أن يخرجوا هم من البيت، وإما أن يأمروا بإخراجها من البيت، ولذلك اليهود دائماً يلعبون بقضية النساء ويستخدمونها سلاحاً للإفساد في الأرض، فكذلك كان لهم موقف من المرأة الحائض في أيام النبوة، والصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عما إذا كان هذا الأمر صحيحاً أو فاسداً. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]. قوله تعالى: ((قُلْ هُوَ أَذًى))، أي: الحيض والمحيض، والمطلوب: اعتزلوا النساء في المحيض، لكن ليس اعتزالاً كلياً كما يفعل اليهود، ولذلك أتى مسروق إلى عائشة رضي الله عنها وقال: (يا أم المؤمنين! أريد أن أسألكِ سؤالاً يمنعني حيائي، قالت: سل يا بني! فإنما أنت ولدي وأنا أمك. فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: كل شيء إلا الفرج، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمر إحدانا إن كانت حائضاً أن تستر فرجها ويباشرها عليه الصلاة والسلام)، أي: كان يلاعبها ويداعبها فيما دون الفرج. وفي رواية: (كان يأمرنا أن نغطي أفخاذنا)، ومن باب أولى سوءاتنا وعوراتنا الكبرى، (فيباشرنا من فوق الثياب)، فهذه عائشة رضي الله عنها قبل أن تعلم حكم ذلك لما حاضت فارقت فراش النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (مالكِ أنفستِ؟)، والنفاس هنا يطلق على الحيض، (قالت: نعم يا رسول الله! قال: لا عليكِ)، أي: لا حرج عليك، ثم أمرها أن تستر فرجها، وأخذها النبي عليه الصلاة والسلام في فراشه ونام حتى الصباح، فلا حرج حينئذ أن يباشر المرء امرأته فيما دون الفرج من جهة القبل أو الدبر؛ لأن كل ذلك لابد أن يكون محكماً في أيام الحيض والنفاس. والعجيب أن كثيراً من عامة الناس لا يعلمون هذا الحكم، أو يعلمونه ولكنهم ينتهكونه، فتجد الواحد منهم لا يميز بينما إذا كانت امرأته طاهراً أو حائضاً، فيأتيها في الحيض كما يأتيها في الطهر، ويأتيها بعد الولادة كما كان يأتيها قبل الولادة، وكل هذا الإتيان محرم للضرر الواقع عليه وعليها، قال تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا} [البقرة:222] أمر، ثم قال تعالى: ((حَتَّى يَطْهُرْنَ))، ولم يقل: حتى يتطهرن؛ لأن الطهر شيء والتطهر شيء آخر. قال: ((وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)) أي: حتى يرتفع عنهن الدم، فإذا ارتفع الدم دخلت المرأة في الطهارة، لكن لا تتم طهارتها ولا يحل لزوجها أن يأتيها إلا إذا اغتسلت بالماء، وهذا هو التطهر، فالطهر رفع الدم، والتطهر الغسل بالماء. ثم قال: ((فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ))، أي: من القبل أو الدبر في الفرج، ولذلك سأل اليهود المسلمين عن إتيان المرأة من الدبر، فأجابوهم بأن ذلك -أي: الإتيان من الدبر- جائز، قالوا: كنا نعد أن من أتى امرأته من دبرها -أي: من جهة دبرها- يأتي الولد أحول. فنزل القرآن: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223])، أي: أنى شئتم من القبل أو من الدبر في الفرج. وللإنسان أن يأتي امرأته من الأمام أو من الخلف بشرط أن يكون الإتيان في موضع الحرث وموضع الولد، أي: في الفرج أو في القبل.

السؤال عما أحل الله تعالى من المطاعم

السؤال عما أحل الله تعالى من المطاعم وقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة:4]، بعد أن بين الله تبارك وتعالى أنواع الخبائث التي حرمها، سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام عما أحل لهم، فقال الله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4]، أي: كل الطيبات حلال لكم، {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4]. قوله: ((وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ))، أي: من الكلاب والسباع والنمور والنسور، وكل ما يمكن أن يعلم للصيد، لكن بشروط: الشرط الأول: أن يكون الكلب معلماً. الشرط الثاني: أن ترسل أنت الكلب، ولا يذهب لوحده. الشرط الثالث: أن تذكر اسم الله على هذا المصيد. الشرط الرابع: ألا يمسك الكلب لنفسه؛ لأنه إن صاد لنفسه، أو إذا أرسلته أنت وذكرت اسم الله فصاد الصيد، لكنه أكل جزءاً منه أو أكله كله فلا يحل هذا الصيد؛ لأن هذا يدل على أن الكلب لم يتمرس في التعليم ولم يتم تعليمه، ولو كان معلماً لأمسك لك أنت، ولا يمسك لنفسه قط، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله عليه، وكل مما أمسك عليك، لا مما أمسك لنفسه)، وهنا نكتة مهمة جداً، وهي: أن العلم له شرف وإن كان في الكلاب، ولذلك ميز الله تبارك وتعالى بين صيد الكلب المعلم والكلب غير المعلم، فقال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة:4]؛ لأن الأمر فعلاً يحتاج إلى مناقشة ومخاطبة القلوب، ولأن الواحد منا ربما رأى كلبه المعلم يصطاد وأكل شيئاً من صيده، لكنه يغالط نفسه ويقول: الكلب لم يأكل شيئاً، ولذلك خاطب الله تعالى من أرسل الكلب المعلم فقال: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))؛ لأنكم تعلمون حقيقة هذا الكلب، وحقيقة هذا الصيد، ((إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ))، أي: أنكم معروضون على الله عز وجل.

السؤال عن موعد الساعة

السؤال عن موعد الساعة قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:187]، أي: متى الساعة؟ هذا مما استأثر الله عز وجل بعلمه، فلم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:187]، وبعدها يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف:187]، أي: كأنك تعرف موعدها، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:187].

السؤال عن الأنفال

السؤال عن الأنفال قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، و (الأنفال) جمع نَفَل بفتح الفاء، وأخطأ من قال: (نَفْل) بتسكين الفاء، والنَفَل إما أن يكون من أصل الغنيمة قبل توزيعها، أو من الأربعة الأخماس التي هي للمقاتلين والمجاهدين، أو من خمس الخمس الذي هو للنبي صلى الله عليه وسلم قبل توزيع الغنيمة. والأنفال هو: الذي يأخذه الفارس فوق حقه من الغنيمة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للفرس سهمين وللفارس سهم)، وهذا من أصل الغنيمة، فإذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي هذا الفارس شيئاً زائداً عن السهم أو عن السهمين أو عن حظه في الغنيمة فله ذلك، وكذلك لمن ناب عنه من أمراء الجند والقتال دون أدنى اعتراض، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أقواماً ويمنع آخرين. قال سعد بن أبي وقاص: (رأيت رجلاً أبلى بلاءً حسناً، فأعطى النبي فلاناً ولم يعطه، فقلت: يا رسول الله! لقد أعطيت فلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، فقال: يا سعد! أومسلم؟)، يعني: إنما كان يكفيك أن تحكم بالظاهر، ومسألة الإيمان هذه مسألة قلبية لا اطلاع لك عليها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (يا سعد! إنما أعطي أناساً وغيرهم أحب إلي منهم مخافة أن يكبهم الله في النار)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم العلة من ذلك، ولذلك لما وزع النبي عليه الصلاة والسلام الغنائم على بعض المهاجرين ومنع الأنصار تكلم الأنصار فيما بينهم، فجمعهم النبي عليه السلام وقال: (يا معشر الأنصار! ألستم الذين قلتم كذا وكذا؟ فقالوا: قد كان منا يا رسول الله!)، أي: هذا كلام قد حصل منا، (فقال: أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالدينار والدرهم وترجعون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فرضوا وطابت نفوسهم بذلك. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام له أن يضع هذه الأموال الزائدة حيث يشاء، فيعطيها لهذا ويمنعها من هذا دون أن يعترض عليه أحد.

السؤال عن ماهية الروح

السؤال عن ماهية الروح قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].

السؤال عن ذي القرنين

السؤال عن ذي القرنين وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83]، ثم سرد ذكر أمر ذي القرنين.

السؤال عن حال الجبال يوم القيامة

السؤال عن حال الجبال يوم القيامة وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]. فقد سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن الجبال، وما موقفها يوم القيامة؟ وهل تبقى كما هي أم ماذا تكون؟ فبين الله تعالى لنبيه أن الجبال يوم القيامة ستنسف نسفاً، هذه الجبال التي هي أوتاد في الأرض، وتمسك الأرض أن تمور يجعلها ربي ذراً ورماداً، حتى تصبح هي والأرض سواء. قوله: ((فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا))، والقاع: هو المكان المنخفض، أي: بعد أن كانت عالية ستكون يوم القيامة منخفضة جداً، لا زرع فيها ولا ماء، ((لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا))، أي: مكاناً معوجاً منخفضاً أو مرتفعاً، ((وَلا أَمْتًا)) أي: مكاناً عالياً، وإنما يسويها ربي بالأرض.

حكم سؤال أهل العلم

حكم سؤال أهل العلم إذاً: هذه الأسئلة وغيرها الموجهة للنبي عليه الصلاة والسلام، والتي أجاب عنها القرآن الكريم. وهذا يدل على مشروعية السؤال، بل أحياناً على وجوب أن يتوجه السائل بالسؤال لأهل العلم، ولذلك قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، وكرر ذلك في القرآن مرتين، فأوجب على الجاهل أن يسأل، كما أوجب على العالم أن يجيب. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة). قوله: (من كتم علماً)، أي: من سئل عن شيء من أبواب الدين وأمور الدين فكتمه وما أجاب فيه بما يتناسب مع الحق ألجم بلجام من نار، والجزاء من جنس العمل، فلما كتم شفتيه وأطبقهما وما أجاب بهما وبلسانه؛ عوقب من نفس جنس عمله. وهذا أمر خطير جداً ألا يسأل الجاهل، وأخطر منه إذا سئل العالم فامتنع عن الجواب.

نهي السلف عن السؤال تعنتا والسؤال عما لا ينفع

نهي السلف عن السؤال تعنتاً والسؤال عما لا ينفع لكن لا يحل للسائل أن يسأل في كل ما عن له إلا أن يكون أمراً متعلقاً بالدين، وينبني عليه العمل في العقيدة والسلوك والأحكام والأخلاق وغير ذلك، وهناك أسئلة كثيرة جداً يسأل عنها العامة لا طائل من ورائها، ولا حاجة في طرحها، ومع هذا تجد الواحد منهم دائماً مشغولاً بتوجيه هذه الأسئلة، وإذا سأل واحداً لا يكتفي بذلك، بل يسأل الثاني والثالث والرابع، فتكون حياته كلها أسئلة، وليس من باب التعلم، وإنما من باب التعنت، ولذلك عندما كان السائل يسأل مالكاً رحمه الله يقول له مالك: يا فلان! اتق الله، سل تعلماً ولا تسأل تعنتاً، فيمتنعون عن الجواب حينئذ؛ لأن السائل ليس صادقاً في سؤاله، وإنما يسأل من باب إحراج الشيخ أو العالم أو إظهار جهله أو غير ذلك، فحينئذ يحرم على السائل أن يوجه سؤاله. والنبي عليه الصلاة والسلام قد علم الصحابة رضي الله عنهم أن يتوجهوا إليه بالسؤال كذلك ولا حرج، لكن لا يسألون في كل شيء، ولا يلحون في السؤال، ولذلك سأله رجل: (يا رسول الله! الحج كل عام؟ فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، حتى قال في الثالثة: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتم)، أي: أن الشيء أو السؤال الذي تركتم فيه من أول مرة لا تعيدوا علي فيه السؤال، وإنما يكفيكم أني أعرضت عنه؛ لأنكم لو ألححتم علي فربما أجبتكم بما يشق عليكم، ويشق على الأمة كلها إلى يوم القيامة. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر -أي: البكر إذا زنى ببكر- جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة). وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ بن جبل: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً). وقال: (يا معاذ! قلت: لبيك وسعديك، ثلاث مرات، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صادقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار. فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: إذاً يتكلوا)، وما بشر بها معاذ إلا في آخر حياته تأثماً، أي: مخافة الإثم. وعن سعيد بن المسيب قال: ما كان أحد من الناس يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه. إذاً: يجوز للعالم المتمكن النحرير أن يقول للناس: سلوني. وقال علي بن أبي طالب: فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، سلوني عن كتاب الله، فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار، بسهل أم بجبل. فقام إليه ابن الكواء -وكان رجلاً من أهل البدع- فقال: يا علي! ما الذاريات ذرواً، فالحاملات وقراً، فالجاريات يسراً، فالمقسمات أمراً؟ يسأل تعنتاً لا يسأل للتعليم، فقال علي: ويلك، سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً، ومع هذا فالذاريات ذرواً هي الرياح، والحملات وقراً هي السحاب، والجاريات يسراً هي السفن، والمقسمات أمراً هي الملائكة. قال: أفرأيت السواد الذي في القمر ما هو؟! وما يضرك لو أنك جهلت هذا؟ هل سيسألك الله عز وجل عنه يوم القيامة؟ وهل ينبني عليه جنة ونار في الآخرة؟ وهل ينبني عليه عمل في الدنيا؟ أبداً، ومثله من يبحث عن اسم أم موسى عليه السلام، مع أن جهله بذلك لا يضر، وليس مطالباً به، لكنه يشغل نفسه بالليل والنهار، وكذلك من يسأل عن اسم كلب أهل الكهف، مع أنه غير مطالب أن يعرف أسماء أشخاص أهل الكهف فضلاً عن اسم كلبهم، فهذا الرجل إنما شغل نفسه بما لا طائل تحته، فينبغي عليه أن يرجع إلى رشده. قال: أفرأيت السواد الذي في القمر؟ قال -أي: علي بن أبي طالب -: أعمى سأل عن عمياء، أي: أنت أعمى البصر: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. ثم قال: أما سمعت قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:12]، فمحوه هو السواد الذي فيه. ومع هذا أجابه، لكن بين له أن هذا من الأمور التي لا ينبغي ولا يجوز السؤال عنها. قال: أفرأيت ذا القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ قال: ليس بنبي ولا ملك، ولكنه كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، وناصح الله فناصحه الله، دعا قومه إلى الهدى فضربوه على قرنه -والقرن هو جهة الرأس- ثم دعاهم إلى الهدى مرة أخرى فضربوه على قرنه الآخر. ولم يكن له قرنان كقرني الثور كما يتوهم بعض الناس. قال: أفرأيت هذا القوس ما هو؟ قال: هي علامة بين نوح وبين ربه، وأمان من الغرق. عن ابن أبي مليكة قال: دخلنا على ابن عباس فقال: سلوني فإني قد أصبحت طيبة نفسي، أخبرت أن الكوكب ذا الذنب اطلع، فخشيت أن يكون

أحوال أهل العلم في طرق نشر العلم من حيث السؤال والجواب

أحوال أهل العلم في طرق نشر العلم من حيث السؤال والجواب ومذاهب أهل العلم في قضية السؤال والجواب على ثلاثة: الأول: أنه يبدأ في طرح العلم بغير سؤال. الثاني: أنه لا يجيب حتى وإن سئل، فهو ضنين جداً بالرواية وبالعلم وبالتفقيه وبتعليم الناس، ومن أمثال هؤلاء: إمام كوفي يسمى: سليمان بن مهران الأعمش، فقد كان له تلاميذ، واعلم أن تلاميذ الأعمش من أئمة الدين وأعلام الهدى في الأمة؛ لأن الأعمش كان الأول في العلم في زمانه في العراق، ومع هذا كان يربي في بيته كلباً، فإذا علم أن أصحاب الحديث وأصحاب السؤال أتوه وطرقوا عليه الباب كان يطلق عليهم الكلب، فيجرون في الشوارع أمام الكلب، فيسر الأعمش بذلك. ومن طرائفه: أنه اختلف مع امرأته ذات يوم، فأتى بأحد الطلاب ليصلح ما بينه وبين امرأته، فكان مما قال هذا الطالب للمرأة: لا يضرك عمش عينيه، ولا جعد بشرته، ولا سقوط شعره ولا كذا ولا كذا، وظل يعدد عيوبه، فقال له: قم قبحك الله، فإنك قد أخبرتها ما لم تكن تعلم، أأنت جئت للإصلاح أم ماذا؟ ومنها: أنه شيع جنازة ذات يوم -والأعمش هو الذي لا يرى جيداً- فأخذه طالب ذكي ومهذب، فقال له: يا إمام! تريد أن ترجع إلى بيتك؟ قال: نعم، فأخذه واصطحبه، ثم قال له: أتعرف أين أنت الآن؟ قال: على مشارف الكوفة، فقال لا: بل أنت عند جبانة فلان، وقد انصرف عنك الناس، ووالله لا أردك إلى بيتك حتى تحدثني وتملأ هذا اللوح. وبدأ يحدثه الأعمش والطالب يكتب بخط دقيق وصغير جداً من أجل أن يأخذ أكبر قدر من العلم، فلما ملأ اللوح قال: الآن يا إمام، ثم لما كان على مشارف القرية ناول اللوح أحد إخوانه سراً، فلما أيقن الأعمش أنه أمام باب داره قال: امسكوا هذا الفاسق وخذوا منه اللوح، فقال: يا إمام! لقد رحل اللوح، فقال الإمام: كل ما حدثتك به باطل، فرد الطالب المؤدب قائلاً: أنت أجل وأعظم من أن تكذب على الله ورسوله، أي: لست أنت الذي تكذب على الله ورسوله. ودخل عليه أناس ذات يوم وقالوا له: يا إمام! حدثنا بعشرة أحاديث، فقال: ولا بخمسة، قالوا: حدثنا بخمسة، قال: ولا باثنين، قالوا: حدثنا باثنين، قال: ولا بواحد، فقالوا: بواحد، قال: ولا بنصف، قالوا: حدثنا بنصف، قال: إن شئتم حدثتكم سنداً وإن شئتم حدثتكم متناً، يعني: يقول لهم: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوقف، فهم لو ركبوا هذا الإسناد في متن سيكونون كذابين، ولو حدثهم بالمتن وركبوا له إسناداً سيكونون كذابين كذلك، والحاصل أنه سيعطيهم شيئاً لا ينتفعون به. فاتفق الطلاب ذات يوم أن يدخلوا عليه في داره ويحملوه على الحديث، فلما كانوا في بيته قالوا: يا إمام! هل عندك من طعام فنطعم؟ فنظر إليهم وقال: نعم عندي، فذهب وأتى بالعدس ووضعه أمامهم، ثم ذهب ليأتي بالخبز وجاء فوجد العدس قد انتهى، فوضع الخبز وذهب ليأتي بالعدس فجاء فوجد الخبز قد انتهى، وفعل ذلك ثلاث مرات، ولك أن تتصور أن الأعمش ذاهب وآت، وهو ساكت لا يتكلم بكلمة، ثم قال لهم: لقد أذهبتم طعامي وطعام أهل بيتي، وأتى بطبق من تبن فقال: ولم يبق إلا طعام دابتي، فكلوه هنيئاً مريئاً. ودخلوا عليه ذات يوم فوجدوه يبكي بكاءً غزيراً، فقالوا له: يا إمام! ما الذي يبكيك؟ قال: مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ويقصد بذلك كلبه، فطرد هؤلاء الأئمة باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! وله من الأخبار الشيء الكثير جداً، ومع هذا كان عزيزاً جداً، فقد أتاه رجل من عند السلطان ذات يوم، ومعه رسالة منه يأمره فيها أن يحدثه، وكان لا يجرؤ أحد أن يطرق باب الأعمش، فلما طرق الرجل عليه الباب قال: ادخل. فدخل، وكان الأعمش يفتل شيئاً من الطعام ويطعم دابته، فقال: يا إمام! لقد جئتك من عند الأمير، فنظر إليه وقال: ما هذا الذي معك؟ قال: رسالة من الأمير. قال: ناولنيها. فأخذها ثم فتلها وناولها الدابة فأكلتها. فانظر إلى العزة، وليس كبعض الناس الذين يغيرون ويبدلون ويبيعون دينهم، ثم قال: هيه، هات ما عندك. قال: يا إمام! كيف تفعل هذا برسالة الأمير، وهو يأمرك فيها أن تحدثني. قال: والله لا أحدثك ولا أحدث قوماً أنت فيهم، لذا لا يمكن أن يكون للسلطان أمر على العلماء، قال أبو الأسود الدؤلي، وهو سيد من سادات التابعين، ورجل له الفضل على الأمة بأسرها؛ لأنه هو الذي ضبط القرآن وأشكله وأنقطه بأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه: السلاطين حكام على الناس، والعلماء حكام على السلاطين. إذاً: العلماء هم الذين يجب أن يحكموا العالم بما قد أوتوا من علم وهدى ونور، وهذا الذي صدرنا به هذا المجلس. وقال قتادة: أتى على الحسن زمان يعجب ممن يدعو إلى نفسه، أي: أن الحسن البصري كان دائماً عندما يسمع شخصاً يقول: اسألوني، يتعجب من ذلك، وهو ما مات حتى قال للناس: سلوني. وقال

النهي عن كثرة السؤال والتعنت فيه

النهي عن كثرة السؤال والتعنت فيه وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الشيخان: (إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال)، أي: الكلام في القيل والقال، في النافع والضار، كلاماً ليس من هدي النبوة، وقيل: ذلك هو الغيبة والنميمة. قوله: (وكثرة السؤال)، أي: فيما لا يعني ولا يفيد، أما إذا كان في أمر الدين فالعبد مأمور بذلك، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43]. وعن سهل بن سعد قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها)، أي: المسائل التي لا قيمة لها. وعن عبدة بن أبي لبابة قال: وددت أني أحضا في أهل هذا الزمان ألا أسألهم عن شيء ولا يسألونني عن شيء، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم. يعني: أن الواحد دائماً كلما يقابلك يخرج لك عريضة من جيبه تحتوي على خمسين سؤالاً، ثم يقول لك: انتظر يا شيخ حتى أسألك هذه الأسئلة! وهل تظن أن الشيخ له وقت حتى يجيبك على هذه الأسئلة؟ وربما السؤال الواحد منها يحتاج إلى مجلد كما أجاب ابن القيم عن سؤال واحد، لذا فهذا أمر لا يصح. وعن الحجاج بن عامر الثمالي رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم وكثرة السؤال). وسئل مالك عن قوله تعالى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]. فقال: لا أدري أهو هذا، أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء. وقال ابن عمر يروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أعظم المسلمين للمسلمين جرماً)، أي: أعظم واحد مجرم في المسلمين: (من سأل عن شيء لم يحرم فحرمت لأجل مسألته)، فهذا أكثر واحد أضر بالأمة كلها، ويظل ماسكاً بالنبي عليه الصلاة والسلام ليسأله، والنبي يعرض عنه إلى الجهة الأخرى، فيأتي له من الناحية الأخرى، ويسأل نفس السؤال، والنبي يبعد وجهه إلى ناحية أخرى، ويظل يتابعه ويلاحقه حتى يقول: حرام، أي: حرام على الأمة كلها، لذا كان أعظم المسلمين جرماً في حق المسلمين من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته، أي: لسبب مسألته. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)؛ لأن النهي في مقدور كل إنسان، (وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم). وقال عمر رضي الله عنه وهو على المنبر: أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإن الله عز وجل قد بين ما هو كائن. وقال عمر رضي الله عنه أيضاً: إنه لا يحل لأحد أن يسأل عما لم يكن، فإن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن. ولذلك كان العلماء يكرهون جداً الافتراضات، وعابوا على أصحاب الرأي آراءهم، وذلك أنهم كانوا يسألون عن أشياء لم تقع بعد، فيفترضون مسائل لم تقع، ويقولون: يا شيخ! افرض لو كان كذا، وكل هذا ليس من هدي السلف، وإنما هدي السلف أنهم كانوا دائماً إذا سئلوا في مسألة قالوا: آلله أثم هي؟ أي: هل وقعت هذه المسألة أم لا؟ فإذا قيل: وقعت أجابوا عنها وتكلموا فيها، وإذا قيل: لم تقع بعد قالوا: أجمونا عنها، يعني: اجعلونا منها في استجمام وأبعدونا عنها ولا تكلفونا جواباً، فإذا وقعت أعاننا الله عليها. وهذا الكلام ورد عن كثير من سلف هذه الأمة، فقد كانوا إذا سئلوا في المسألة قالوا: أوقعت هذه المسألة أم أنها مجرد فرض؟ فإن وقعت أجابوا عنها، وإن لم تقع لم يجيبوا عنها، بل يسكتون ويقولون: اجعلونا منها في استجمام. وقال حماد بن زيد: قيل لـ أيوب: ما لك لا تنظر في الرأي؟ والأمر كما قال الشافعي: الرأي ليل والحديث نهار، والسلف وعلماء الأمة يعتقدون -وهو الاعتقاد الحق- أن الدين قال الله قال الرسول، أما أن يكون عندي النص أو كلام الله وكلام الرسول، ثم أقول: أنا أرى كذا وكذا! فهذا لا يصدر إلا عن جاهل، وعن إنسان يصدر في فتاواه عن رأيه الشخصي، وهذا لا يصح، ولذلك قال الشافعي كما ذكرنا: الرأي ليل والحديث نهار، أي: أن الحديث كالنهار في وضوحه وضوئه ونوره وهداه، والليل مظلم؛ لأنه لا يعتمد على النص، ولذلك قيل لـ أيوب: ما لك لا تنظر في الرأي؟ لم لا تقول بالرأي؟ قال أيوب: قيل للحمار: ما لك لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل -يضرب المثل بالحمار- فإذا اجتر فإنما يمضغ الهواء، ولا يغني عنه مضغ الهواء، ثم قال: وكذلك صاحب الرأي مهما تشدق بالرأي فإنه لا يغني عنه من الحق شيئاً، فهو ضرب المثل بهذا. وقال ابن وهب: قال لي مالك وهو ينكر كثرة المسائل ويعيبها: يا عبد الله! (ما علمته فقل به ودل عليه) أي: ما علمته من أدلته الشرعية فقل به ودل

تورع السلف عن الفتوى

تورع السلف عن الفتوى قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه، وما كان منهم فقيه إلا ود أن أخاه كفاه، أي: كان الداخل يدخل المسجد وهناك مائة وعشرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم موجودين، فيسأل الأول عن مسألة معينة فيحيله إلى الثاني والثالث والرابع والعاشر، حتى يمر على المسجد كله، فيرجع إلى الأول، فلا يجد الأول بداً أن يجيب فيجيب، فهل هذه أخلاقنا الآن؟ لا، إذاً: فما هي أخلاقنا؟ إذا سئل الشيخ أو العالم في مسألة وحوله الطلاب فإن كل طالب يجيب بجواب يختلف عن جواب صاحبه، والعالم لم يجب بعد، وإنما ينظر إلى الحالة التي فيها الطلاب، والأدب الذي بلغ بطلاب العلم، وحتى وإن سأل واحداً منهم فلا يجوز له أن يجيب ما دام هناك من هو أعلم منه. وقال ابن مسعود لـ تميم بن حذلم: يا تميم! إذا استطعت أن تكون المحدَّث فافعل. أي: إذا استطعت أن تكون مستمعاً فافعل. وكان معاوية بن أبي عياش جالساً عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر، فجاءهم محمد بن إياس بن بكير فقال: إن رجلاً من أهل المدينة طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، فماذا تريان؟ فقال عبد الله بن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فسلهما، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لـ أبي هريرة: أفته يا أبا هريرة؛ فقد جاءتك المعضلة. أي: أنت صاحب المهمات الصعبة، لذا كان أبو هريرة أفقه الأمة في زمانه، ولذلك الملاحدة حرصوا كل الحرص على الطعن بالذات في أبي هريرة؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه قد روى أكثر من نصف الدين، فإذا سقط أبو هريرة سقط معه نصف الدين، فتكون القضية كلها أننا ليس لنا علاقة بالدين، ويقولون: نحن كنا نتكلم عن شخص! شخص يا أعداء الله ورسوله! بل إنهم يريدون أن يسقطوا الثقة بـ أبي هريرة رضي الله عنه، وإذا سقطت الثقة به سقطت الثقة بمروياته التي تعتبر نصف الدين، وهم بذلك ليس لهم أدنى علاقة بـ أبي هريرة، ولا يهمهم من قريب ولا من بعيد الطعن في شخصه، وإنما يهمهم إسقاط هيبة الإسلام في قلوب أبنائه. قال أبو هريرة: الطلقة الواحدة تبينها. أي: تصير بائنة بينونة صغرى بطلقة واحدة، فإذا أراد أن يتزوجها فبعقد جديد ومهر جديد. ثم قال: والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره. وقال ابن عباس: إن من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون.

التعامل مع السائل عما هو أكبر منه من القضايا الكبرى

التعامل مع السائل عما هو أكبر منه من القضايا الكبرى فإذا أتاك شخص يسألك عن شيء فقل له: تعال، هذه المسألة أكبر منك، من أين أتيت بها؟ ومثلما رأينا أن امرأة في كلية الدراسات الإسلامية كانت واقفة على محطة الباصات وتقول: اللهم العن أبا بكر وعمر، وبعد أبي بكر وعمر لا أدري من كانت تسب، وأنا أسوق السيارة سمعتها، فأوقفت السيارة ونزلت منها، وقلت لها: ماذا تعرفين عن أبي بكر وعمر؟ فخافت وظنت أنني إرهابي، فقالت: أنا لم أقل شيئاً، قلت: لا، أنت لعنت أبا بكر وعمر، وأنا أريد أن أسألك سؤالاً: من وراءكِ؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي أريد أن أسأله لك؛ لأن الشيعة منتشرون، والشيعة هم الذين يسبون ويلعنون أبا بكر وعمر، ويتقربون إلى الله بذلك، ويقولون عنهما: هما الجبت والطاغوت، وغير ذلك مما ذكرناه آنفاً في دروس مضت، فأقسمت عليها بالله مراراً أن تقول من وراءها، فقالت: أنا بصراحة أسمع من الدكتورة آمنة نصير. ووالله العظيم أني توقعت ذلك؛ لأن الدكتورة آمنة نصير زوجة الدمرداش العقاري الذي كان يدافع عن الإخوة المتهمين بقتل رفعت المحكوم، وقد فتن الناس بدفاعه عن الإخوة، وهو المسئول عن الشيعة رسمياً في مصر. فقلت لها: أنا كنت متوقعاً ذلك، قالت: أتعرفها؟ قلت: نعم، وأعرف زوجها ونشاطها كيت وكيت، وبينت لها مذهب أهل السنة فيما يتعلق بالاعتقاد في الصحابة رضي الله عنهم، وقلت لها: والله لا تنفعكِ آمنة ولا ينفعكِ الدمرداش، وإنما ينفعك حسن اعتقادكِ في الله عز وجل، وفي النبي عليه الصلاة والسلام وفي أصحابه الكرام، وأنتِ مأمورة بكيت وكيت وكيت، ووقفت معها من قبل صلاة الظهر تقريباً بساعة حتى كاد أن يخرج وقت الظهر، وأنا واقف معها في الشارع أربع ساعات؛ لأن هذا أمر خطير جداً ينبغي تصحيحه، وقد أتانا بغير قصد ولا تعمد، وإنما سمعناه ونحن نسير بالسيارة، وهذا بلا شك مسألة عظيمة لا ينبغي للإنسان أن يسمعها ويغض الطرف عنها. كذلك: قد يأتي شخص فيسأل عن مسألة ليست له، مثل: طالب يأتي فيسأل عن أشراط الساعة وفتن آخر الزمان، وهو لا يعلم كيف يصلي؟! وكيف يصوم؟! وكيف يزكي؟! وكيف يحج؟! وآخر يأتي ويسأل عن حكم المظاهرات التي تحدث، وحكم الذهاب إلى القتال أو الجهاد أو المشاركة مع إخواننا المجاهدين في فلسطين أو في غيرها من البلدان، فيُسأل: أتصلي؟ فيقول: لا، أتصوم؟ فيقول: لا، أتزكي؟ فيجيب: لا، سبحان الله! إن الله سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فالجهاد أصلاً من أجل أن نصلي ونصوم ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. قوله: ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ)) ماذا عملوا؟ ((أَقَامُوا الصَّلاةَ))، إذاً: فالجهاد ليس مطلوباً لذاته، لكنه مطلوب ليتمكن المسلم من تحقيق العبودية الكاملة التامة لله عز وجل، وهذا هو الغرض من الجهاد. وآخر في وقت سلمه وراحته لا يصلي ولا يصوم ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، لماذا يجاهد؟ لا أعلم لماذا يجاهد؟ هذه مغالطات ينبغي تصحيحها قبل الدخول. وآخر يأتي فيسأل عن مسألة عظيمة جداً ليست سهلة، فيتكلم عن الحاكمية فيقول: يا شيخ! الحكم بغير ما أنزل الله كفر أو ليس بكفر؟ فتسأله أنت عن الصلاة فلا يعرف شيئاً، وعن الصيام فلا يعرف شيئاً، وعن مهمات الدين التي تلزمه فلا يعرف شيئاً، مع أنه لو مات فإن الله لن يسأله عن الحاكمية، وإنما يسأله عن هذه المهمات، وعن أصول الدين التي لا يعرف منها شيئاً. صحيح أن مسألة الحاكمية من أهم المسائل في الدين، لكن كما يقولون: طعام الكبير سم للصغير. والعلم نتف وطبقات ومراتب، ولذلك إذا نظرنا في كتاب البخاري أو مسلم أو أي كتاب من كتب السنن أو غيرها من المصنفات سنجد أن الأئمة بدءوا بالإيمان والعلم، ثم الطهارة والحيض، والأذان والوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق والرضاع والرجعة وغير ذلك، ثم في نهاية الكتاب بعد خمسة عشر مجلداً تجدهم يتكلمون عن الفتن وأشراط الساعة، فهل معنى هذا أن الترتيب هذا جاء بدون فائدة وهدف؟ لا، بل لابد أن هذا هو الترتيب الطبيعي لطلب العلم، فتترك أنت كل هذه المهمات وتأتي للكتاب من آخره! إن هذا عكس وانتكاس للفطرة، فينبغي أن يؤخذ العلم نتفاً، أي: حبة حبة؛ لأن من أخذ العلم جملة فاته جملة. وقال ابن عيينة: أجسر الناس -أي: أجرأ الناس- على الفتيا أقلهم علماً. فتجد دائماً أن الجاهل جريء، بينما العالم خائف، كما كان حال المائة والعشرين من الصحابة، فهذا يحيل على هذا، وهذا يحيل على هذا؛ لأنهم عرفوا خطورة الفتوى، ولأجل ذلك صنف

شرح كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي [2]

شرح كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي [2] يعتبر كتاب الجواب الكافي لابن قيم الجوزية من أعظم الكتب في وصف الداء والدواء، وهو رسالة مستقلة عبارة عن جواب سؤال، بين فيه أن لكل داء دواء، وأن من أعظم الأدوية كتاب الله عز وجل، إذ هو شفاء كله، كما بين فيه أسباب تخلف الشفاء، وأسباب تخلف أثر الدعاء، والآفات المانعة من أثر الدعاء.

نص الاستفتاء ودلالة صيغته

نص الاستفتاء ودلالة صيغته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. سئل الشيخ الإمام العالم العلامة المتقن الحافظ الناقد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح أبي بكر المعروف بـ ابن القيم الجوزية رضي الله عنه سؤالاً قال فيه سائله: [ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل ابتلي ببلية، وعلم أنها إن استمرت به أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريقة، فما يزداد إلا توقداً وشدة، فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟ فرحم الله من أعان مبتلىً، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى]. يلحظ القارئ لهذا السؤال ما كان عليه السائل من أدب جم في التعامل مع أهل العلم، فقد خاطبه وناقشه بلفظ السيادة والقيادة، فقدم قبل أن يسأل ما أوجب الله تعالى عليه من تبجيل واحترام لهذا العلم، ثم سأل سؤالاً، ثم ختمه بالدعاء له بالأجر والمثوبة والرحمة، وبين أن طريق من أراد الله له الهداية أنه إذا حزبه أمر من الأمور هرع إلى أهل العلم، فعندهم دائماً الأمان، وعندهم الهداية والنور، كما أن عندهم راحة القلوب بما أودعهم الله تعالى بعض خزائن العلم. والعلم المطلق هو لله عز وجل، ومن بعد الله تعالى من الخلق أعلم الخلق هم الأنبياء والمرسلون، وهم مع هذا قليلو العلم بالنسبة إلى علم الله عز وجل، والمخاطب أولاً بقول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الخلق على الإطلاق، ومع هذا لم يؤت من العلم إلا قليلاً، فإذا كان علم النبي قليلاً؛ فما بالكم بعلم الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً؟! قال: فأجاب الشيخ الإمام العالم شيخ الإسلام مفتي المسلمين شمس الدين أبو عبد الله ابن القيم الجوزية فقال: [الحمد لله]، وهذا من أشد الاستحباب، بأن يجيب السائل بالحمد لله أولاً، والصلاة والسلام على رسول الله ثانياً، ثم يحمد الله تعالى في آخر جوابه، ويصلي ويسلم على نبيه عليه الصلاة والسلام. قال: [أما بعد] و (أما بعد) وردت في روايات كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان إذا أرسل رسالة إلى ملك من الملوك، أو تكلم في قضية من القضايا، أو خطب في أصحابه، وقدم بمقدمة يمدح الله تعالى فيها، ويثني عليه ويمجده بما هو أهله، قال: أما بعد، ثم يدخل في الموضوع، ولذا فكلمة (أما بعد) فاصلة بين المقدمة والغرض، أي: فاصلة بين المقدمة التي فيها الحمد والثناء على الله والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم الإتيان بـ (أما بعد) وكأنه يقول: فهذا أوان الشروع في المقصود.

ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء

ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء قال رحمه الله تعالى: [فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً)]. فكل الأدواء لها دواء إلا دائين اثنين لا دواء لهما: الأول: الهرم، أي: كبر السن والشيخوخة. الثاني: الموت. فهذان قد وردت السنة في أنهما لا دواء لهما البتة، فمن أدركه شيء من ذلك فلا يحاول دفعه أبداً؛ لأنه مهما حاول سيفشل في ذلك، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام، قالوا: وما السام يا رسول الله؟ قال: الموت)، فبين عليه الصلاة والسلام عظمة هذا النبات، وأنه شفاء من كل داء إلا داءً واحداً، ثم بين أنه الموت؛ إذ لا ينفع معه علاج كيماوي ولا عشب نباتي، بل لا يصلح معه أي محاولة؛ لأنه واقع بساحة كل مخلوق لا محالة. قوله: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً) تشعر بأن هذا الداء نازل من السماء، وكذلك الشفاء، كما يفيد بأن الذي خلق الداء هو الله عز وجل، والذي خلق الشفاء هو الله عز وجل، وعليه فنفهم من هذا أن الله تعالى خالق للخير والشر، وليس في خلق الله تعالى للشر أي منقصة في جانب الألوهية ولا في جانب الربوبية، فالشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل، بل الشر يحمل بين طياته الخير، فلو قلنا في هذا الباب: إن الداء كالمرض أو المصيبة أو الموت أو غير ذلك إذا نزل بالعبد هو شر، فهل كل هذه فيها خير؟ نعم، فالمرض فيه خير، ومن خيره: أنك تعلم قيمة الصحة والعافية، فتشكر الله تعالى على ما من عليك من الصحة والعافية، وكذلك يكفر الذنوب، فإن لم يكن ذنب -ولا إخالك هكذا- فإنه يرفع الدرجات، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة - أي: قوة - زيد له في البلاء حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة). فمن رحمة الله عز وجل أن يبتلي عبده بالأمراض والأوجاع والأسقام خاصة في آخر حياته وقبل موته حتى يطهره من الذنوب جميعاً، فإذا قبضه إليه قبضه نقياً صافياً. قال رحمه الله: [وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء -وهذا لفظ جامع كما في الحديث الأول- فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله)]. أي: أنه لابد من إصابة الدواء للداء، وإلا فلا يكون هناك موافقة ولا مطابقة بين الداء والدواء، كما لو أنك ذهبت إلى طبيب فأخبرته بما تعاني من آلام، فوصف لك علاجاً لا يتناسب مع هذا الداء، فإنه مهما تعاطيت من هذا الدواء فإنه لا يوافق الداء، فكيف يبرأ الداء إذاً؟ والعلاج سبب، لكن هذا السبب لم يوافق محل الداء، أو أن الطبيب وصف لك دواءً مناسباً للداء، ثم بين لك طريقة تعاطي هذا الدواء، لكنك قصرت في ذلك إما سلباً وإما إيجاباً، ومعنى ذلك: أن الطبيب وصف لك دواءً بقدر معين، كأن تأخذه ثلاث مرات كل يوم، فأخذته مرة واحدة، وكذلك لو وصف لك الدواء لتتعاطاه شهراً كاملاً على نحو معين، ثم ما تعاطيته إلا يوماً أو يومين، فلا شك أن هذا الدواء لا يمكن أن يقاوم هذا المرض، وهذا الذي يعبر عنه العلماء بأنه لم يصادف محله، فكيف يصلح هذا الدواء لمعالجة ذاك الداء؟ لا بد أنه سيضعف عن مقاومة هذا الفيروس أو هذا المرض، وبالتالي لا يؤثر فيه. وهب أن رجلاً آخر على النقيض من ذلك، فلو وصف له الطبيب دواءً معيناً وقال: هذا الدواء تأخذه على مدار أسبوع، فرفعه إلى فيه وأخذه جرعة واحدة، فربما أصيب بالسم فهلك؛ لأنه خالف الطبيب، ولذلك أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن أخي يشتكي بطنه، فقال: أعطه عسلاً، فذهب وأمر أخاه أن يتناول العسل فما برئ، ثم قال: يا رسول الله! إن أخي يشتكي بطنه، فقال: أعطه عسلاً ثلاث مرات، ثم أتى وقال: يا رسول الله! ما برئ، قال: صدق الله وكذبت بطن أخيك)، أي: صدق الله الذي قال: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]، وكذبت بطن أخيك، وهذا الكذب كذب عملي؛ لأن الرجل لم يتناول الجرعة المناسبة للداء، لا أن العسل ليس فيه شفاء، وإنما القدر اللازم من تناول العسل لم يكتمل، فلذلك ضعفت الكمية المتعاطاة عن مقاومة الداء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله، ولم يقل: برئ، للدلالة على أن الشافي هو الله عز وجل، وأن الدواء هذا ما هو إلا سبب، وربما تناول المرء الدواء بطريقة لائقة وبكمية لائقة، ولكن الله تعالى ما أراد له الشفاء، فالشافي أولاً وآخراً هو الله عز وجل، والدواء سبب وربما يتخلف، ولذلك حرم الشرع على العبد أن يعتقد أن الشفاء بغير يد الله عز وجل، وجعله باباً من أبواب الشرك، والعلماء دائماً يقولون: الاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد؛ لأن من توحيد الله عز وجل: أن تتعاطى تلك الأدوية التي أمرك بها. قا

الجهل داء وشفاؤه السؤال

الجهل داء وشفاؤه السؤال وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهل داءً، وجعل علاجه العلم والسؤال؛ لأنه المعاكس له، بل إن أعظم داء أن يعيش المرء ويرضى ويخضع بأن يعيش حياة الجهل والجهالة طيلة حياته ولا يتعلم، وقد أوجب الله تعالى على الجاهل أن يسأل، وأوجب على العالم بأن يجيب، فقال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، وأهل الذكر هم أهل العلم. وقوله: {إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، أي: إن كنتم تجهلون، فهذه الآية فيها أمران: الأمر الأول للجاهل بأن يسأل، والأمر الثاني للعالم بأن يجيب، وهذه سنة الله تعالى في الخلق وفي الكون، وقد جرى عليها خلقه منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى قيام الساعة، أن الجاهل دائماً يعلم أن حاجته وأن ملاذه عند العالم إذا ما حزبه أمر. قال رحمه الله تعالى: [وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهل داء، وجعل دواءه سؤال العلماء، فروى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه)]، أي: جرح في رأسه. قال: (ثم احتلم) أي: أصابته الجنابة في ليله أو في نومه. قال: (فسأل أصحابه) وهنا تشعر بأهمية طرح المسألة على العالم، فهذا الرجل رغم ما أصابه فإنه مأمور بأن يسأل أهل العلم. قال: (فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟) أي: هل إذا تيممت خرجت مما أنا فيه؟ قال: (قالوا: ما نجد لك رخصة)، أي: ليس لك رخصة. قالوا: (وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات)، أي: ما دمت تجد الماء فيجب عليك الغسل، وهذا الذي يعرفه العامة من أنه إذا وجد الماء بطل التيمم، وهذا الكلام وإن كان صحيحاً لكنه ناقص؛ لأن التيمم يجب عند فقد الماء كما يجب عند وجود الماء، كأن لا يقدر على استعماله، بأن يكون بينه وبين الماء عدو يخافه، فحينئذ جاز له التيمم، ومثله المحبوسون في السجن، فكثيراً ما يمنع عنهم الطعام والشراب والماء، ولو كان الهواء بأيديهم لمنعوه، ولكنها رحمة الله تعالى، وكذلك الرجل المريض يؤذيه استعمال الماء، ففي هذه الحالة يلزمه التيمم، وهذا الذي لا يعرفه كثير من الناس. إذاً: التيمم واجب عند فقد الماء، أو عند وجود الماء وعدم القدرة على استعماله أي: عند عدم القدرة الحسية والمعنوية. قال: (قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. قال جابر: فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله) أي: تسببوا في قتله، ثم دعا عليهم عليه الصلاة والسلام، إذ قالوا على الله تعالى بغير علم، فكان ذلك سبباً في قتل صاحبهم، ولكن هذا القتل لا يقاد به القاتل؛ لحسن نيته وعمله بما يعلم. (فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟) وهنا موطن الشاهد، أي: هلا سألوا إذ لم يعلموا، ثم قال: (إنما شفاء العي السؤال) والعي هو: الجهل، والعيي: هو الجاهل الذي لا يقدر أن يفصح عن مكنون نفسه، يقال: فلان عيي، أي: لا قدرة له على الكلام والإفصاح. وقوله: (فإنما شفاء العي السؤال)، أي: إنما دواء الجاهل أن يسأل. ثم قال: (إنما كان يكفيه)، وهذه الزيادة محل نظر عند أهل العلم، قال: (أن يتيمم ويعصر -أو يعصب- على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)، وهذا باب آخر من أبواب الطهارة يورده العلماء تحت باب المسح على الجبيرة، فلو أن إنساناً كسر أو شج فربط على كسره بخرقة، ثم أصابته جنابة، وأراد يصلي فماذا عليه؟ قال بعضهم: إنما يكفيه التيمم. وقال بعضهم: يغسل سائر أعضائه ويمسح على الجبيرة، وهذا أشهر الآراء عند العامة. أما المذهب الراجح في هذه المسألة بغير تفصيل فهو الجمع بين التيمم والوضوء، أي: يتيمم من ربط الجبيرة على ذراعه، ثم يغسل سائر أعضائه ويمسح على الجبيرة، وهذا جمع بين المذهبين الأولين.

القرآن شفاء

القرآن شفاء قال رحمه الله: [فأخبر أن الجهل داء، وأن الشفاء هو السؤال. وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء، فقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]] أما الذين كفروا به، أو شكوا فيه وارتابوا فكيف ينفعهم حينئذ؟ ولذلك لا يصلح القرآن قط أن يكون محلاً للتجارب، فبعض الناس يقول: أنتم جربتم كل المناهج الأرضية والقوانين السفلية فجربوا القرآن الكريم، وهذا كلام في غاية الخطورة، لذا لابد أن نعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا حل إلا في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن هذا المنهج هو وحده المنهج الذي يحمل بين طياته وبين صفحاته الهداية للعالمين: عالم الإنس وعالم الجن. قال: [وقال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]]، و (من) ههنا لا تفيد التبعيض، وإنما تفيد الجزم، وكأن تقدير الآية: وننزل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين. أما أن يعتقد أن بعض القرآن شفاء وبعض القرآن هدىً وبعض القرآن رحمة وما دون ذلك من القرآن ليس فيه شفاء ولا هدىً ورحمة فهذا لم يرده الله عز وجل من العباد، ولا أراده من كلامه هذا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، أي: القرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين، ولذلك يحلو لي أن أقول: إن بعض أهل اللغة يقولون بالحروف الزائدة في القرآن الكريم، وإن كان يترجح لدي أنه ليس هناك حرف زائد في القرآن، وإنما زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فكيف ذلك؟ كما لو قلت: ما جاءنا من بشير، التقدير: ما جاءنا بشير، لكن هناك فرق بين الأمرين: الأول: قوله: (ما جاءنا بشير) ينفي أن يكون قد أتاه بشير، لكن ربما أتاه بشيران أو ثلاثة أو أربعة، فالنفي للمذكور فحسب. الثاني: قوله: (ما جاءنا من بشير) نفي لجنس البشير، أي: ما أتانا بشير قط، لا واحد ولا أكثر منه، وهذا ما لا يفيده الأول، هنا قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82] تأكيد؛ لأن القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين الذين آمنوا به. وكذلك يحلو لي أيضاً أن أنبه إلى أن كثيراً من الذين أصيبوا بداء الوسوسة، أو بداء السحر ومس الشياطين لا علاج لهم إلا في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لابد أن يكون الفاعل -أي: المعالج- صاحب همة عالية، كما أن المريض لابد أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الشفاء بكتاب الله، لكن لو أن الفاعل لا همة له؛ فإنه لا يكون له تأثير في العلاج، وكذلك المعالج -المريض- إذا لم يكن يؤمن بهذا الكتاب إيماناً جازماً، واعتقاداً قلبياً وعملاً بالجوارح؛ فإنه لا ينفعه العلاج، ليس لعلة في كتاب الله تعالى -معاذ الله- وإنما لعلة في الفاعل أو في المفعول به، أي: في المعالج.

الرقية بالفاتحة

الرقية بالفاتحة قال رحمه الله: [وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: (انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها)، والنفر هم: الجماعة من الناس، أو الرهط من الناس، ويكونون من الثلاثة إلى العشرة. قال: (حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم)، أي: أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أرادوا أن ينزلوا في ضيافة هذا الحي من أحياء العرب، قال: (فأبوا أن يضيفوهم)، أي: رفضوا ضيافتهم، قال: (فلدغ سيد ذلك الحي)، أي: لدغته عقرب، قال: (فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء)، أي: طلبوا له العلاج بكل سبيل فما أفلحوا. قال: (فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا)، أي: الذين نزلوا في ضيافتكم أو قريباً منكم قال: (لعله أن يكون عند بعضهم شيء)، أي: شيء من العلاج. قال: (فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط! إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي)، أي: أنا أستطيع أن أستخدم الرقية، ولا علاج لسيدكم إلا هذا. قال: (ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لي جعلاً)، أي: تجعلوا لي حظاً ونصيباً. قال: (فصالحوهم على قطيع من الغنم)، أي: اتفقوا معهم على أنه لو برئ أخذوا منهم قطيعاً من الغنم. قال: (فانطلق يتفل عليه)، أي: يتفل على ذلك السيد الذي لدغ، والتفل هو النفخ الذي معه شيء يسير جداً من الريق. قال: (ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2])، أي: ليست هذه الآية فحسب، بل يقرأ بفاتحة الكتاب كلها. قال: (فكأنما نشط من عقال)، أي: كأن هذا السيد محبوس ومربوط ومقيد من قدمه في حال مرضه، فلما قرئت عليه الفاتحة انطلق يمشي، وهذا كناية عن ذهاب الداء تماماً والبرء إلى أكمل حد. قال: (فانطلق يمشي وما به قلبة)، أي: وما به علة ولا آفة. قال: (فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه)، أي: أعطوهم القطيع من الغنم. قال: (فقال بعضهم: اقتسموا)، أي: دعونا نوزع الغنائم هذا المال. قال: (فقال الذي رقى: لا نفعل حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان)، وهذا أدب جم، أي: الرجوع إلى الإمام والعالم دائماً ليفتي في هذه المسائل. قال: (فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟)، وكأن النبي استعجب جداً أن يلهم أحد أصحابه أن الفاتحة رقية، مع علمه عليه الصلاة والسلام، بأنها رقية، وإنما علم صاحبه أنها رقية لأنها من القرآن، بل هي أم الكتاب، وإذا كان الكتاب والقرآن فيه شفاء وهدىً ورحمة للمؤمنين فهذا يدل على أن الفاتحة من باب أولى. وبعض القرآن أعظم من بعض، وكلام الله عز وجل كله عظيم، لكن بعضه أعظم من بعض، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بن كعب أبي المنذر: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟)، وهذه دلالة واضحة على أن بعض القرآن أعظم من بعض. قال: (فقلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إلى آخر آية الكرسي. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليهنك العلم أبا المنذر)، أي: هنيئاً لك العلم، قد أصبت جواباً على السؤال، وأعظم سورة في القرآن على الإطلاق: سورة الإخلاص، لأن كل جزئياتها احتوت على توحيد الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، فهي أعظم سورة تكلمت عن ذات الله تعالى، وعن أوصاف الله تعالى، وعن أسماء الله تعالى. قال: ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قد أصبتم)، أي: أحسنتم أنكم رقيتم بالقرآن وبفاتحة الكتاب. قال: (اقتسموا واضربوا لي معكم سهماً)، فانظر إلى هذه المشاركة النبوية في أسهم العلاج، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشارك، وإنما قال: (اضربوا لي معكم بسهم) من باب المشاركة الوجدانية للدلالة على صحة العمل، وأنه لا شبهة فيه. وفي الحديث فائدة عظيمة جداً، وهي: جواز أخذ الأجرة على القرآن، وجواز أخذ الأجرة في التداوي والتطبيب، وجواز أخذ الأجرة في التعليم والتعلم، وكل ذلك جائز بلا خلاف بين أهل العلم، ولذلك: (أتت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: يا رسول الله! وهبت لك نفسي، فأعرض عنها، فأعادت عليه ثلاث مرات، فقال رجل من أص

شروط تحقق الشفاء

شروط تحقق الشفاء قال رحمه الله: [ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له]، أي: إذا كنا نقول: إن العلاج بالقرآن هو أفضل العلاج وأحسن التداوي؛ فلا بد أن يتفطن المعالج -بكسر اللام الأولى- والمعالج -بفتح اللام الثانية- إلى أمور عدة. قال: [وهو أن الأذكار والآيات أو الأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية]؛ لأنها كلام الله عز وجل، وهذا أول شرط، أي: أن نعتقد اعتقاداً جازماً بأن كلام الله تعالى كله شفاء. قال: [ولكن تستدعي قبول المحل]، وهذا هو الشرط الثاني، فإذا كنا نعتقد أن هذا الدواء الذي وصفه الطبيب هو في ذاته بإذن الله تعالى شفاء، أو هو سبب قوي للشفاء، فلابد أن يتناسب مع المحل، أي: مع العلة أو المرض أو بدن المعلول، حتى يكون هناك توافق وتطابق وتناسب بين الداء والدواء. قال: [وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجح فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء]، فلو أن إنساناً أصيب بحمى، وعلاج الحمى موجود عند أي طبيب، فيصف كيت وكيت من الدواء، وهذا شيء محفوظ ومتفق عليه، ثم أخذه هذا المعلول، لكنه لم ينفع معه؛ لعدم قبول طبيعة هذا المنفعل أو هذا المعلول لذلك الدواء، لذا كان انتفاع البدن بحسب ذلك القبول، ولو أنك قلت لرجل مسحور أو ملبوس أو أصابه جان: يا فلان! أنت عندك من المعاصي كيت وكيت، أتصلي؟ يقول: أنا لا أصلي، كيف لا تصلي؟! إذاً لا ينفع معك العلاج إلا إذا كنت مؤمناً بالله وملتزماً أحكامه وشرعه، فيقول: يكفي، لا أريده. وآخر يقول: على أية حال أنا رحت إلى أكثر من مائة طبيب وكلهم قالوا لي: أنت ما عندك شيء، لا علة محسوسة ولا غيرها، وإنما اذهب إلى من يعالجونك بالقرآن. لذا لابد أن يكون عنده اعتقاد جازم بأن هذا القرآن ينفع، لا أن يجرب فقط. قال: [فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول] فإذا كان القبول في كتاب الله تعالى (100%) نفع معه (100%)، وإذا كان أقل من ذلك -تسعين ثمانين سبعين خمسين صفراً- كان الانتفاع بالقرآن على قدر القبول. وعليه فالعلة ليست في كتاب الله، وإنما هي في المنتفع بكتاب الله على حسب اعتقاده في كلام الله تعالى، قال: [وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان للراقي نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء برئ المريض بإذن الله تعالى]، أي: إذا كان القبول قبولاً جيداً، ووافق الداء الدواء، وكان للمعالج -بكسر اللام الثالثة- نفس فعالة وقوة تأثيرية كبيرة، وكل هذه تدل على التناسب العظيم بين الداء والدواء، فلابد أن يبرأ بإذن الله تعالى، لأن النبي يقول: (فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله)، وهنا إصابة من كل وجه، فلا بد أن يقع الشفاء بإذن الله تعالى.

أسباب تخلف أثر الدعاء

أسباب تخلف أثر الدعاء وكذلك من الأدوية التي جعلها الله عز وجل علاجاً لكثير من الأدواء: الدعاء، قال: [وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره -تدعو فلا يستجاب لك- إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله، لما فيه من العدوان]، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فيقول مثلاً: اللهم أهلك والدي! ثم لم يهلك الوالد، وعاش مدة من الزمان، فيقول: قد دعوت الله فلم يستجب لي؛ لأنه دعاء لا يحبه الله ولا يرضاه، بل ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال: (دعوة الوالد على ولده لا ترد). وفي رواية: (دعوة الوالد لولده لا ترد)، أما الولد إذا دعا على أبيه فهذا من الإثم والعدوان. قال: [وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً]. أي: إن أتيت بقوس، ووضعت فيه السهم، فلابد أن يكون القوس مشدوداً على آخره حتى يصيب السهم الهدف، فإن كان القوس رخواً فلابد أن يخرج السهم رخواً، وبالتالي لا يصيب الهدف، مع أن السهم قد انطلق، لكن ليس الانطلاق المطلوب، وإنما أقل من المطلوب، وكذلك إذا كان القلب مشغولاً لاهياً عن الله عز وجل، أو كان الداعي غافلاً عن مطلوبه وعن حاجته التي يدعو الله بأن يقضيها له، فكيف يستجيب الله تعالى له؟! قال رحمه الله: مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما عند الحاكم والترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)، أي: ادعوا الله وأنتم على يقين بأن الله تعالى يقبل دعاءكم، (واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلب غافل لاه). وربما ذهب المرء إمعاناً في غفلته يدعو لنفسه فيدعو على نفسه؛ لأنه لا يفكر بدعائه، بل يقوله مجرد كلام محفوظ، ولو سألته: بم دعوت؟ وكيف دعوت؟ فربما لا يذكر أنه دعا، أو يقول: أنا دعوت، ولكني لا أذكر ماذا قلت؛ لأنه كان في غفلة، أما الذي جمع قلبه على الله عز وجل، وأيقن بدعائه ودعواته علم كيف دعا الله؟ وبماذا دعا الله عز وجل؟ أما القلب الغافل الساهي اللاهي عن الله عز وجل، وعن طلبه لله تعالى بأن يرفع عنه الضر، ويكشف عنه الغم، فهذا جدير بألا يقبل له دعاء. قال رحمه الله: [فهذا دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته. وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال النبي عليه السلام: (يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)]، أما الخبيث الذي يريد أن يتصدق به المرء فإن الله لا يقبله، كمن يسرق ليتصدق، وهو غني عن هذا، وحري أن يلزم طاعة ربه، والله تعالى غني عن صدقته. وهذا قد عمل بقاعدة لا علم لأهل الإسلام بها، وهي: أن الغايات تبرر الوسائل. وهذه القاعدة تناقض أصولاً شرعية كثيرة، لذا لابد أن يكون الغرض مشروعاً، وكذلك الوسيلة مشروعة، فشرعية الوسيلة لا تقل أهمية عن شرعية الغرض، ولا بد أن يكون كل منهما مشروعاً، وإلا فلا يقبله الله عز وجل. قال: [(إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين)]، أي: أن المؤمن مطالب بما طولب به الأنبياء والمرسلون. قال: [(فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51])، وقال الله تعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]] هناك فرق عظيم جداً بين الآيتين، والقدر المشترك بين المرسلين وبين المؤمنين: أن كلاً منهما مطالب بألا يأكل إلا طيباً، وألا يأكل إلا حلالاً، لكن المرسلين مطالبون بأن يأكلوا من أطيب الطيب، ولذلك عرفت كلمة (طيبات) بـ (أل) المعرفة، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51] ولم يقل: كلوا من طيبات ما رزقناكم، فكأن الألف واللام للعهد، أي: كلوا أيها الرسل من الطيبات التي تعلمون أنها الطيبات المعنية في الآية. ثم وسع دائرة الطيبات للمؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ولم يقل: كلوا من الطيبات اللاتي رزقناكم، وإنما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} [البقرة:172]، فالطيبات نكرة في سياق الإثبات تفيد العموم، أي: عموم الطيبات حلال لنا، أما بالنسبة للأنبياء فإنهم يتورعون عن بعض الطيبات، أو عن كثير من الطيبات، ولا ينتقون في طعامهم وشرابهم إلا أطيب الطيب، فهذا هو الفارق بيننا وبين الأنبياء. قال: [(ثم ذكر النبي صلى الله

مقامات الدعاء مع البلاء

مقامات الدعاء مع البلاء قال: [والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل. وهو سلاح المؤمن كما روى الحاكم في مستدركه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض)]، هذا الحديث لا يصح البتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو حديث موضوع. قال رحمه الله: [وله مع البلاء ثلاث مقامات]، أي: كيف يتعامل الدعاء مع البلاء، أو كيف يتأثر البلاء بالدعاء، قال: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه]، أي: أن يكون الدعاء قد استجمع أسبابه ومقومات نجاحه، والبلاء يسير ضعيف، فحينئذ إذا دعا المرء ربه بحرارة، وحضور قلب، وترك غفلة، وأكل الطيب في مطعمه ومشربه وملبسه وغذائه، فحينئذ ويرفع الداء بإذن الله تعالى، فكان نزول هذا البلاء بقدر ودعاء هذا العبد بقدر، فينزل البلاء بقدر ويرفعه الله تعالى بقدر، ويجعل سبب القدر حينئذ دعاءك. قال: [الثاني: أن يكون الدعاء أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً]. يعني: أن الدعاء وإن كان ضعيفاً، لكن ربما يكون له بعض التأثير في البلاء، بأن يجعله بلاءً خفيفاً. قال: [الثالث: أن يتقاوما]، أي: يحصل هناك معالجة وتعالج وتدافع وحرب بين الدعاء والبلاء، قال: [ويمنع كل واحد منهما صاحبه]. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر)] فالحذر من قدر الله، والبلاء من قدر الله، فكل بقدر، لكن إذا جاء القدر كما قال ابن عباس: عمي البصر، فإذا أراد الله تعالى إنفاذ البلاء في عبده أعماه حتى عن الدعاء، وذلك في علم الله الأزلي السابق، فحينئذ ينزل البلاء فيركب بدن العبد. قال: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فليقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة)] أي: يتنازعان في السماء إلى يوم القيامة. قال: [وفيه أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)]، لأنه علاج نافع. قال: [وفيه أيضاً من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرد القدر إلا الدعاء)]. وفي رواية: (لا يرد القضاء إلا الدعاء). قال: [(ولا يزيد في العمر إلا البر)] وقد تكلمنا من قبل عن زيادة العمر كيف هي؟ قال: [(وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)]، (الرجل) هنا لا مفهوم له، بدليل أن المرأة كذلك يشملها الخطاب، لكن هذا من باب التغليب، ويستفاد من ذلك: أن الذنوب ماحية لبركة الأعمال والأقوال والأرزاق والأحوال، وربما تكون مانعة أصلاً للأرزاق.

أهمية الإلحاح في الدعاء

أهمية الإلحاح في الدعاء قال: [ومن أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء، وقد روى ابن ماجة والترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يسأل الله يغضب عليه)]. قال الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب وقال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] فهذا أمر من الله بالدعاء، ووعد من الله بالإجابة، فهنيئاً لمن استجاب لهذا الأمر، وهنيئاً لمن أجابه الله تعالى لطاعته. ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، بإجماع المفسرين أن العبادة هنا بمعنى: الدعاء، وكأن معنى الآية: إن الذين يستكبرون عن دعائي. قوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أي: صاغرين محتقرين ضعفاء كالذر، كما أخرج الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)، والحديث صحيح. قال: [وعند الحاكم -بسند ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً- من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تعجزوا في الدعاء، فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد) وأكثر منه وضعاً ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الملحين في الدعاء). وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن قتادة قال: قال مورق: ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجلاً في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب، يا رب، لعل الله عز وجل أن ينجيه.

الآفات المانعة من أثر الدعاء

الآفات المانعة من أثر الدعاء ومن الآفات كذلك التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً، أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله!] فالذي يبذر بذراً لا بد أن ينتظر مدة من الزمن كافية لإثمار هذا البذر، لكن لو بذر أرزاً أو قطناً أو قمحاً أو برسيماً وتعجل الثمرة في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين، فاستبطأ الثمر ثم لم يثمر شيئاً، ثم ترك الأرض، فإنه لابد أن يموت الزرع؛ لأنه لم يتعاهده، وكذلك المرء يدعو ثم يتعاهد الدعاء، فيدعو ولا يمل ولا يستحسر حتى يثمر الدعاء، والواحد منا لعرض من عرض الدنيا يصبر ربع عمره أو أكثر من ذلك حتى ينال -مثلاً- شهادة من شهادات الدنيا، مشروعة أو غير مشروعة، ولكنه -الشاهد- يصبر على هذه الشهادة، ولذلك كثيراً ما نضرب مثلاً باستعجال طلبة العلم الشرعي على فهم الكتاب والسنة، فيذهبون للدرس أسبوعاً أو أسبوعين، شهراً أو شهرين، عاماً أو عامين، ثم هو يشعر بأنه لم يفهم شيئاً، فيدع طلب العلم الذي هو أشرف مطلوب على الإطلاق ولا شبهة فيه البتة، لذا فمن أراد أن يعمل عملاً لا شبهة فيه، أو يسلك مسلكاً لا شر فيه فعليه بتعلم أحكام الكتاب والسنة، وأن ينخرط في سلك الطلب ويصبر عليه، وأعظم عدة يتسلح بها الطالب الصبر، فما باله يستعجل الثمرة بعد عام أو عامين؟! وإذا سألته: ما هي الشهادة التي حصلت عليها؟ لقال لك مثلاً: التجارة أو الهندسة أو الصناعة أو الطب، ولو سئل: كم قضيت فيها من عمرك؟ فربما كان خمسة عشر عاماً أو عشرين عاماً أو بين ذلك، ولو سئل أيضاً: هل استعجلت الثمرة؟ لقال: لا، فهو منذ أن كان في الابتدائية وهو يمني نفسه أن يكون طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو غير ذلك، فإذا قطع مشواراً أو عاماً أو مرحلة من مراحل تعليمه فرح بدخوله في مرحلة جديدة، وكل ذلك وهو صابر محتسب لأجل الحصول في نهاية ربع العمر أو نصف العمر على شهادة ربما لا ينتفع بها، وربما انتفع بها ونفع بها الآخرين، وليس هذا من باب ذم تلك الشهادات، وإنما نقول: الشاهد أنه صبر عليها، وأولى بالصبر تلك العلوم الشرعية التي فيها الهدى والنور، وهي المعنية أولاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، والمعنية أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)، وغير ذلك مما ورد في فضل العلم. قال: [وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل -أي: ما لم يستعجل الثمرة- يقول: دعوت، فلم يستجب لي)] فحينئذ يستحسر ويدع الدعاء. قال: [وعند مسلم من حديث أبي هريرة: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء). وعند أحمد في المسند من حديث أنس قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، قالوا: يا رسول الله! وكيف يستعجل؟ قال: يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب)] وما يدريك أن الله لم يستجب لك؟

صفة العلو لله عز وجل

صفة العلو لله عز وجل صفة العلو لله تعالى من الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وأثبتها أهل السنة والجماعة كما تليق بجلال الله تعالى من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، بخلاف أهل البدع على اختلاف فرقهم، فمنهم من أوّل الصفات تأويلاً مخالفاً للنصوص الشرعية ومقتضى اللغة، ومنهم من عطل الصفات ونفاها عن الله عز وجل، ومنهم من شبه الله بخلقه تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.

مقتضى الإيمان بصفة العلو والفوقية

مقتضى الإيمان بصفة العلو والفوقية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن أعظم مطلوب للإنسان أن يتعرف إلى الله عز وجل الذي خلقه وسواه، ومعرفة الله عز وجل لا تكون إلا بطريق أوصافه وأسمائه سبحانه وتعالى. فقد اتصف الله عز وجل بكل صفات الكمال والجلال على سبيل الإطلاق، ولله الأسماء الحسنى، وقد سمى الله عز وجل نفسه بأحسن الأسماء وأفضلها، فيجب على العبد أن يتعرف إلى الله عز وجل بما شرع له وأذن له فيه، فإذا تسمى الله عز وجل باسم لا ينبغي لأحد من العباد أن ينازع الله في هذا الاسم، وإذا اتصف الله عز وجل بصفة ينبغي الإيمان بها إيماناً جازماً دون خوض، أو شك، أو تردد، أو تخلف، فإن من لم يثبت صفات الله عز وجل بما وصف به نفسه فليراجع إيمانه مرة أخرى، كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، ومن أسباب ضعف الإيمان المنازعة في خبر الله عز وجل ولو أدنى منازعة، وأهل الإيمان يقبلون الأمر والخبر وإن لم تستوعبه عقولهم آمنوا به ولم ينازعوا فيه. فنتعرف إلى الله عز وجل بصفة من صفاته، وهي: صفة العلو والفوقية، وربما يقول قائل: لماذا هذه الصفة بالذات؟ أقول: إن هذه الصفة ضل فيها خلق كثير، وطرحوا آيات الاستواء وآيات العلو وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن إلى غير مراد الله عز وجل، وإلى غير ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك انحرفوا عن إثبات صفة العلو والفوقية لله عز وجل، فمن الناس من قال: إن إثبات العلو لله عز وجل يستلزم التحيز والحد والمكان، ومنهم من قال: إن علو الله عز وجل هو علو قدر ومنزلة وعظمة، ومنهم من قال وهم أهل السنة: إن الله عز وجل في السماء، مباين لخلقه كما أراد سبحانه وتعالى، ومع أنه عالم ومستو على عرشه، فإنه مع خلقه في كل مكان بعلمه، وسمعه، وبصره، وقدرته، وإحاطته، ونصره، وتأييده، فلا مانع من الجمع بين علو الذات والمعية سواء كانت المعية خاصة أو عامة، خاصة مقيدة بشخص أو بصفة، كما سيتبين لنا أثناء المحاضرة بإذن الله، ولكني أقول كلاماً عاماً: إن هذه الصفة هي أصل صفات الله عز وجل في الإيمان. إن من آمن أن الله عز وجل فوق رأسه لابد وأن يؤمن بأن الله تعالى محيط به، مطلع عليه يعلم سره ونجواه، هذا الذي يدفع العبد إلى أن يحسن عبادة الله عز وجل، إذا علمت أن ملكاً من ملوك الأرض -ولله المثل الأعلى- يطلع عليك، بل أدنى من ذلك عبداً من عباد الله يطلع عليك لا يمكن أبداً تقع في محذور يعاتبك عليه هذا العبد، فما بالك بالله عز وجل، إذا كنت تؤمن أن الله تعالى مطلع عليك من فوق سبع سماوات، فإنك لا تجرؤ أن ترتكب محارم الملك، ألا وإن لكل ملك محارمه، ومحارم الله تعالى هي حدوده التي حدها لك، ونهاك عن أن تقترب منها أو تقترف منها شيئاً.

فوائد الإيمان بأسماء الله وصفاته

فوائد الإيمان بأسماء الله وصفاته فأول فائدة من فوائد الإيمان بأسماء الله وصفاته: أنها تقيم العبد على حسن العبادة، وحسن التقوى، وحسن المراقبة لله عز وجل، خاصة صفة العلو، فإن من آمن بأن الله تعالى مستو على عرشه، فلابد وأن يؤمن بجميع الصفات بعد ذلك؛ لأنها من جهة العقل أهون من صفة العلو، فإن العقل لا ينازع بأن يكون الله تعالى هو الحكيم، واللطيف، والخبير، ولكن ينازع في علو الله عز وجل على خلقه، فإن انطبع جدار العقل الخرب، وآمن بأن الله عز وجل في عليائه، مستو على عرشه مطلع على خلقه سهل عليه بعد ذلك أن يؤمن بكل صفة من صفاته، وبكل اسم من أسمائه سبحانه وتعالى، فهذه فوائد سلوكية، عملية. ربما يقول قائل أيضاً: لسنا بحاجة إلى هذا الموضوع خاصة في هذه الأيام؟ و A إننا بأمس الحاجة لأن نؤمن بكل صفة من صفات الله عز وجل، وبكل اسم من أسمائه سبحانه وتعالى خاصة في هذه الأيام، فلو أن الحكام يؤمنون بأن الله تعالى هو صاحب الشرع، ولا أحد يشرع غيره، فإن من شرع للبشر وحكم بما شرع فقد كفر، وآمنوا بأن الله تعالى الذي خلق الخلق هو أعلم بهم، وهو اللطيف الخبير، لم يجرءوا على أن يشرعوا من دون الله عز وجل ولو في أتفه المسائل، فلما اختاروا أن تحل شرائع الكفر مكان شريعة الرحمن، دل بهذا على أنهم كفروا بالله، ودل ضميرهم هذا على أنهم لم يعتقدوا أن الله تعالى هو الذي خلق الخلق وشرع لهم سبحانه تعالى. فلو أن الناس آمنوا أن الله تعالى هو الحكم وهو اللطيف، وهو الخبير، وهو الذي يعلم ما يصلحهم وما يفسدهم، لسلموا وآمنوا بأنه لا حكم إلا لله، ولا شريعة إلا شريعة الله عز وجل، فلما غابت عنهم هذه المعاني الإيمانية، وحل محلها الكفر والضلال آثروا حثالات العقول البشرية على شريعة الرحمن سبحانه وتعالى. الشاهد من هذه الكلام كله أنه يجب الإيمان بالله عز وجل عن طريق الإيمان بأسمائه وصفاته، ولو أنك تتبعت الأسماء والصفات اسماً اسماً، وصفة صفة، لوجدت في كل اسم وصفة من المعاني ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ولو علمتم ما في أسماء الله وصفاته من معان لكان وجه الأرض غير وجه الأرض الآن، ولكنه الكفر الذي حل ودب بالقلوب فغير حياة الناس، وغير البشرية، بل وغير وجهة الأرض جميعاً مما كان عليه الصحابة الذين كانوا يؤمنون بأسماء الله وصفاته، والذي أورثهم هذا أشد المراقبة وأقواها لله عز وجل، فلما غابت عنا هذه المعاني جميعاً وقعنا فيما لم يقع فيه السلف؛ لأنهم آمنوا بما لم نؤمن به نحن.

الأدلة من القرآن على إثبات صفة العلو لله تعالى

الأدلة من القرآن على إثبات صفة العلو لله تعالى إن صفة العلو هي أصل صفات الله عز وجل، وصفة العلو ثابتة بالكتاب والسنة، وآثار السلف بل وبالمعقول كذلك، فإن العقل إذا أدرك أن الله عز وجل في ذاته مغاير ومباين لخلقه، لابد وأن ندرك أن علو الله عز وجل كذلك بل وجميع صفات الله عز وجل لابد أن تكون مغايرة ومباينة لصفات المخلوقين، فكما أن الخالق يختلف عن المخلوق في الذات فلابد وأن تختلف صفات الذات لله عز وجل عن صفات المخلوقين، وهذا لازم الأمر، وإذا كنت تعتقد أن الله عز وجل غير الخلق في ذاته فلابد وأن تعتقد أن صفات الله عز وجل مختلفة عن صفات المخلوقين، فإذا كان الله عز وجل متصفاً بالرحمة، والخلق متصفين بالرحمة، فلابد أن تعلم أن رحمة الله عز وجل غير رحمة الخلق، وقس على هذه بقية الأسماء والصفات. فالعلو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وثابت بأخبار السلف والمعقول كذلك، فلو نظرنا إلى الكتاب لوجدنا أن هناك آيات كثيرة تدل على علو الله عز وجل. وعلو الله عز وجل نازع فيه الناس، ونازعت فيه الفرق، وأول من أنكر علو الله عز وجل علواً ذاتياً على خلقه هم الجهمية.

الدليل الأول

الدليل الأول أول آية تثبت علو الله عز وجل هي قوله سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، هذه الآية صريحة بمنطوقها بأن الله عز وجل هو الأعلى، ولا شك أن الأعلى فوق العلي؛ لأن الأعلى أقوى في الدلالة من العلي، والنبي عليه الصلاة والسلام شرع لنا أن نقول في سجودنا: (سبحان ربي الأعلى)، فبعض الناس نازع وقال: العلو هنا هو علو منزلة ومكانة، وسيأتي الرد على هذه الشبهة وهذا الزعم وهذا القول، فإن الله عز وجل متصف بصفات الكمال من كل الوجوه، فهو صاحب العلو المطلق من كل وجه، فهو متصف بعلو شرف، وعلو ذات، وعلو قدر، وعلو رتبة. وأما حمل هذا اللفظ على نوع معين من أنواع العلو هذا تحكم بلا دليل، وتخصيص بلا مخصص، والأولى إطلاق هذه الصفة وهذا اللفظ لله عز وجل من كل الوجوه، وأن تثبت لله عز وجل صفة العلو من كل الوجوه. يقول الإمام سعد بن علي الزنجاني رحمه الله: قد أجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو؛ لأن العلو صفة مدح عند كل عاقل، فثبت بذلك أن لله علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة. والإمام أبو سعيد الدارمي من كبار أئمة أهل السنة قال في كتاب له: إجماع من الأولين والآخرين، العالمين منهم والجاهلين، أن كل واحد ممن مضى وممن غبر إذا استغاث بالله تعالى أو دعاه أو سأله يمد يديه وبصره إلى السماء يدعوه منها، ولم يكونوا يشيرون بهما إلى الأرض، ولا إلى أمامهم، ولا إلى خلفهم ولا عن أيمانهم، ولا عن شمائلهم، وإنما إلى السماء؛ لمعرفتهم بالله أنه فوقهم، حتى اجتمعت الكلمة من المصلين في سجودهم: (سبحان ربي الأعلى)، فلا يقول أحد منهم: سبحان ربي الأسفل. وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة له كتاب عظيم في صفات الله عز وجل اسمه: (التوحيد وإثبات صفات الرب)، قال فيه: وقال جل وعلا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، فالأعلى مفهوم في اللغة أنه أعلى كل شيء، وفوق كل شيء، فلو قلت: العلي لقلت: هناك من هو أعلى، ولو قلت: الأعلى، دل بذلك على أنه لم يكن شيء أعلى منه. وقال الإمام ابن عبد البر عليه رحمة الله: وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وهذا من العلو. فهؤلاء العلماء العظام وغيرهم كثير فهموا الآية على حقيقتها، من أنها تتضمن العلو، غير هذه الحثالة من بقايا الجهمية الذين أنكروا علو الله عز وجل على خلقه.

الدليل الثاني

الدليل الثاني الآية الثانية في إثبات علو الله عز وجل: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]، فهذه الآية أثبتت الفوقية لله عز وجل، ففي هذه الآية دلالة بينة على أن الله يعلو خلقه بذاته وعظمته، فعلوه محقق مؤكد من كل الجوانب؛ لأن الآية ذكرت القهر، وهو دلالة العظمة، وذكرت الفوقية وهي علو الذات، فأثبت صفة القهر، وصفة الفوقية، فالفوقية تفيد علو الذات، والقهر يفيد العظمة، فأثبت الله عز وجل لنفسه صفة العظمة وصفة العلو حتى لا يدعي بعد ذلك أحد أن علو الله عز وجل علو عظمة وعلو شرف فقط، إنما علو الله عز وجل علو ذات، وعظمة، وشرف، ورتبة.

الدليل الثالث

الدليل الثالث الآية الثالثة: قول الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وهذه الآية نص في الرد على من قال: إن العلو علو عظمة، فالله عز وجل أثبت لنفسه في هذه الآية صفتين: الصفة الأولى: صفة العلو، والصفة الثانية: صفة العظمة، فقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، فلو كان العلو هو علو عظمة لما كان هناك داع من ذكر العظيم، فدل بذلك على أن العلو شيء والعظمة شيء آخر، والعلو صفة، والعظمة صفة أخرى؛ لأن الله تعالى ذكرهما وقرنهما، وعطف الثانية على الأولى والعطف يقتضي المغايرة والتباين. قال ابن أبي العز الحنفي عليه رحمة الله: وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ظل ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص، أي: فقد نسب الله عز وجل إلى النقص، وكل صفات النقص منفية عن الله عز وجل. وقال الإمام سعيد بن محمد التميمي: وقد أجمع المسلمون أن الله تعالى العلي الأعلى ونطق بذلك القرآن، فزعم هؤلاء أن ذلك بمعنى علو الغلبة لا علو الذات، وعند المسلمين أن لله عز وجل علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو؛ لأن العلو صفة مدح، فثبت أن لله تعالى علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة. وقال ابن خزيمة: والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله ووحيه، وأعلمنا أنه العلي العظيم، أفليس العلي يكون عالياً؟ A بلى، فصفة العلو ثابتة لله عز وجل وهي علو الذات. وقال البغوي عليه رحمة الله في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} [الحج:62]، قال: العالي على كل شيء، فليس فوقه شيء. وقال الشيخ السعدي عليه رحمة الله في تفسيره (تيسير الكريم المنان) في تفسير (العلي) و (الأعلى): وهو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه، علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر، فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وله جميع صفات العظمة والكبرياء والجلال، والجمال، وغاية الكمال اتصف، وإليه فيها المنتهى.

الدليل الرابع

الدليل الرابع الآية الرابعة: قول الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]، وهذا أمر لازم، إذا أيقنت أن الله تعالى فوقك فلابد وأن يورثك الخوف منه سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذه الآية وردت في ملائكة الرحمن، وأنا وأنت نؤمن بلا نزاع أن ملائكة الله عز وجل في السماوات، والله عز وجل فوقهم، فإن الله تعالى خلق سبع سماوات، وفوق السماء السابعة البحر المسجور، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، والله مستو على العرش، والكرسي موضع قدميه سبحانه وتعالى كما صح في ذلك الأقوال والأخبار. إذاً: الملائكة في السماوات، والله عز وجل فوق العرش، وإن لم يقل السلف بذاته إلا أن الأمر لزم بعد عصور السلف، فاضطروا اضطراراً لإثبات العلو الذاتي لله عز وجل أن يقولوا: إن الله تعالى مستو على العرش بذاته، وهو مع خلقه معية علم وإحاطة وسمع وبصر وإدراك ونصرة وتأييد. فقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] أي: أن الملائكة يخافون الله عز وجل وهو فوقهم.

الدليل الخامس

الدليل الخامس الآية الخامسة: وهي قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، والذي في السماء كما صح من تفسير ابن عباس حبر الأمة أنه الله عز وجل، فلولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا. وقال شيخ المفسرين الإمام الطبري عليه رحمة الله في قوله عز وجل {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]: هو الله. ونقل أبو الفرج بن الجوزي عليه رحمة الله في قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16] عن حبر الأمة ابن عباس كذلك أنه قال: أأمنتم عذاب من في السماء وهو الله عز وجل. وكذلك قرن الحافظ ابن كثير في تفسيره بين هذه الآية وقوله تعالى: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:68]، وهذا القول في إسناد الخسف إلى الله عز وجل، وعن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] قال: هو الله عز وجل، فإذا أتاك التفسير من جهة ابن عباس ومن جهة مجاهد فكفى بهما، ومجاهد أخذ التفسير عدة مرات عن ابن عباس. وقال القرطبي عليه رحمة الله: قال ابن عباس: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، أي: أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه، ولا شك أن الذي ينسب إليه العصيان هو العبد، والعصيان لا يكون إلا لله عز وجل، فلا يتصور أن يقصد بالذي في السماء أنه جبريل، أو أنهم الملائكة. قالوا: لو سلمنا بأن الله بالسماء، لوقعنا في التشبيه؛ لأن الله يصبح محوياً والسماء حاوية له، وهذا لا يجوز؛ لأن الله لا يحيط به مخلوق، ف A أن هذا جهل فاضح، فعلو الله عز وجل لا يستلزم أنه في حيز، ولا أنه محدود، ولا أن شيئاً من خلقه لا الكرسي، ولا العرش، ولا جميع الخلق يحيطون بالله عز وجل، فلما كان العرش فوق السماوات قال الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وحرف الجر (في) س هنا بمعنى (على)، أي: أأمنتم من على السماء؟ فقول فرعون لمن عصاه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] والمعنى: ولأصلبنكم على جذوع النخل؛ لأنه لا يتصور أن يصلب هؤلاء في أصل النخل، وفي جذوع النخل من الداخل وإنما يكون ذلك بالصلب على جذوع النخل. وقول الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2]، ليس المعنى فسيحوا في بطن الأرض، وإنما هو فسيحوا على الأرض، و (في) هنا تفيد العلو ولا تفيد الظرفية. وقال ابن أبي العز الحنفي: التصريح بأن الله تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد الوجهين: إما أن تكون (في) بمعنى (على)، ويراد بها العلو، وهذا هو المعنى الراجح من المعنيين، لا يختلفون في ذلك ولا يجوز الحمل على غيره. ويقول الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي: والمراد بالسماء هنا ما فوق العرش؛ لأن ما علا يقال له: السماء. وفي (لمعة الاعتقاد) لـ ابن قدامة قال: المعنى الصحيح لكون الله تعالى في السماء أن الله تعالى على السماء، فـ (في) بمعنى (على)، وليست للظرفية؛ لأن السماء لا تحيط بالله، أو أنه في العلو، فالسماء بمعنى العلو، وليس المراد بها السماء المبنية، فالمراد بالسماء هنا الفوقية والعلو. وابن تيمية عليه رحمة الله تعالى يقول: والسماء في قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] اسم جنس العالي، لا يخص شيئاً بعينه، فقوله: (في السماء)، أي: في العلوي دون السفلي، وهو العلي الأعلى، فله أعلى العلو وهو ما فوق العرش. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كذلك في (الفتاوى) قوله: من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهمه من اللفظ، ولا رأينا واحداً نقله عن واحد، ولو سئل سائر المسلمين: هل يفهمون من قول الله ورسوله أن السماء تحوي الله لبادر كل أحد منهم إلى إنكاره، وقالوا: هذا شيء لم يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله، بل عند المسلمين أن الله في السماء، وأنه على العرش واحد، إذ السماء إنما يراد بها العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل. إذاً: المقصود أن الله تعالى في السماء ليس في ذات السماء المبنية وإنما في جهة العلو. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لو أثبتنا أن الله في السماء لقلنا بتحيزه، وهذا لا يجوز، إن أراد

الدليل السادس

الدليل السادس الآية السادسة: وهي قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، فهذا دليل أيضاً على علو الله عز وجل فوق مخلوقاته، فالصعود لا يكون إلا للأعلى وهو جهة العلو، بخلاف النزول فإنه إلى جهة السفل، وكذلك الرفع كالصعود، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] لم يقل: ينزله أو يأتيه أو يجريه، وإنما قال يرفعه، فالرفع والصعود لا يكون إلا لله عز وجل في جهة العلو، وهذا أحدث شبهة عند بعض الناس فقالوا: ليس المقصود الصعود وإنما هو كناية عن تقبل الأقوال والأعمال، فالصعود والرفع هنا بمعنى قبول العمل. والرد عليهم يكون بحديث عبد الله بن السائب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن وقت يقع بعد الزوال: (إن فيه ساعة تفتح فيها أبواب السماء -ولم يقل: أبواب الأرض- فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح -وحدد المكان- في السماء ترفع إليه الأعمال)، أي: ترفع إلى الله عز وجل فيه الأعمال ومنه الأعمال، قال: (فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) ففي هذا القول النبوي دليل واضح على أن هذا الصعود على حقيقته وذلك في قوله: (تفتح فيها أبواب السماء) فأبواب السماء تفتح، لأن الصاعد إنما هو صاعد إلى المولى جل في علاه، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، أي: يرفع ذكر العبد إياه وثناؤه عليه.

الدليل السابع

الدليل السابع الآية السابعة: وهي قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فالذي يقول: إن العروج هنا إنما هو عروج الملائكة، أو عروج جبريل عليه السلام على جهة الخصوص، فهذا التأويل يفسد الآية أيما إفساد، لأن روح القدس هو جبريل عليه السلام، فهل يتصور أن جبريل يصعد إلى جبريل، والضمير في قوله إليه يعود إلى الله عز وجل، فلو كان الصعود والعروج هنا هو عروج الملائكة وعروج جبريل لكان المعنى: تعرج الملائكة وجبريل إلى جبريل، وهذا التأويل يفسد المعنى، فكان الراجح والصحيح من تفسير هذه الآية وتأويلها عند أهل السنة تعرج الملائكة وجبريل إلى الله، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]. ويقول الإمام القرطبي: تصعد الملائكة والروح، وهو جبريل عليه السلام، إليه يعني: إلى الله عز وجل، وهاء الضمير في قوله (إليه) عائد على اسم الله. وقال ابن خزيمة: مفهوم عند العرب أن المعارج هي المصاعد، قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، وإنما يعرج الشيء من أسفل إلى أعلى وفوق، لا من أعلى إلى دون وأسفل. وقال مجاهد في هذه الآية: يقال: ذي المعارج الملائكة تعرج إلى الله عز وجل.

الدليل الثامن

الدليل الثامن الآية الثامنة: وهي قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة:5] فالله الذي فوق السماء يدبر الأمر ثم ينزله إلى الأرض، فهاهو ربنا يخبرنا أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ألا يدل ذلك أنه دبر الأمر من فوق حيث هو إلى تحت حيث نحن فسبحان الله! فقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة:5] مسبوق بذكر الاستواء على العرش الذي هو فوق السماوات السبع، ومعقب عليه بقوله: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] أي: يصعد إلى الله تعالى. قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى: أليس معلوماً في اللغة السائرة عند العرب التي خطبنا بها، والتي نزل بها الكتاب أن تدبير أمر السماء إلى الأرض إنما يدبر بها المدبر، وهو في السماء لا في الأرض.

الدليل التاسع

الدليل التاسع الآية التاسعة: وهي قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، والرفع لا يكون إلا لجهة العلو، فقول الله عز وجل: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] أي: قابضك إلي، وفي أحد التفسيرات: إني منيمك، أي: سألقي عليك أمنة ونعاساً، وسأقبضك لا قبض الأموات وإنما قبض الأحياء إلي، فأرفعك إلى السماء فتكون عندي، فليس متوفيك هنا بمعنى مميتك، فاعتقاد أهل الملة أن عيسى عليه السلام حي وسيبقى حياً إلى أن ينزل في آخر الزمان، فيقتل المسيح الدجال ويضع يده في يد المسلمين، ويحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو بدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويصلي في الصف كأحد أفراد هذه الأمة رغم أنف النصارى. فقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] أي: إلى جهة العلو في السماء.

الدليل العاشر

الدليل العاشر الآية العاشرة: وهي قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، واستوى هنا متعدية بـ (على) التي تفيد الفوقية، وفسر بعض العلماء أن استوى بمعنى استولى، وهذا التأويل يفسد المعنى أيما إفساد وهو من أخطرها؛ لأن الاستيلاء يستدعي الغلبة، ويستدعي الأخذ والرد، حتى يكتب لأحد المتصارعين أو المتخاصمين الغلبة والاستيلاء، والله عز وجل كان ولم يكن أحد من خلقه، واستوى على عرشه، قبل أن يخلق السماوات والأرض، فتفسير استوى بمعنى استولى لا يعرفه العرب، إنما نعلم ولا شك أن العرش فوق السماوات السبع، ونعلم أن ربنا عندما خلق الأرض وقدر فيها أقواتها صعد إلى السماء وارتفع حتى علا واستقر على عرشه العظيم، الذي نسبه إليه في غير آية من كتابه، فهو رفيع الدرجات ذو العرش، سبحانه وتعالى. فاستوى بمعنى استولى من التفسير الباطل، فمن كان قبل ربكم حتى يغلبه الله ثم يستولي على العرش؟ فهل من مكان لم يستول عليه الله عز وجل؟ إذا كان الله عز وجل استوى على عرشه بمعنى استولى على عرشه، أي: صار له تحكم في العرش، لا يستطيع أحد أن يغلبه ولا أن يغالبه، فلماذا العرش بالذات استولى الله عز وجل عليه، هذا وجه آخر من الوجوه العقلية للرد على من فسر استوى بمعنى استولى. الرد الأول: أن هذا التفسير لا يعرفه العرب. ثانياً: أن العرب فسروا استوى بمعنى العلو لا بمعنى استولى. ثالثاً: لو كان استوى بمعنى استولى لنسبنا استيلاء الله عز وجل إلى العرش فقط، في حين أن قهر الله عز وجل، وتحكم الله عز وجل ثابت في جميع الخلق، فلماذا نخصص العرش من بين مخلوقات الله عز وجل؟ وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما أنهم يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. وقد قال قائلون من المعتزلة، والجهمية، والحرورية، في قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: إنه استولى، وملك، وقهر، وأنه عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش وبين الأرض. ونقل داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي وكان من أكابر أهل السنة، فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله ما معنى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ قال: هو على عرشه كما أخبر، وهذا كان موقف السلف، كانوا يؤمنون بصفات الله عز وجل دون خوض، يؤمنون بها هكذا كما جاءت، ويؤمنون بها بلا تأويل ولا تحريف ولا تعطيل. فقال الرجل: ليس كذلك إنما معناه: استولى، فقال ابن الأعرابي: اسكت، وما يدريك ما هذا، العرب لا تقول للرجل: استولى على الشيء، حتى يكون له فيه مضاد، فهل لله عز وجل في خلقه مضاد؟ ف A لا، فأيهما غلب قيل: استولى، والله تعالى لا مضاد له وهو على عرشه كما أخبر.

الدليل الحادي عشر

الدليل الحادي عشر الآية الحادية عشرة: قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، والنزول لا يكون إلا من فوق إلى أسفل، وقوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، فقوله: (الظاهر) ظاهر في إثبات العلو لله عز وجل، فالظاهر في اللغة: هو العالي، وهي صفة ربنا الذي يعلو المخلوقات كلها، وليس فوقه شيء، فالظهور هو العلو، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى عن يأجوج ومأجوج، الذين أرادوا أن يخرجوا بعد أن جعل ذو القرنين بينهم وبين هؤلاء سداً فقال سبحانه: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97]، أي: فما استطاعوا أن يعلوه، فالظهور بمعنى العلو. والعمدة في تفسير هذه الآية هو قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يثني على الله عز وجل حيث قال: (أنت الأول ليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء،)، ومعنى ذلك أنه هو الذي فسر (الظاهر) بمعنى العلو، ثم قال: (وأنت الباطن فليس دونك شيء)، والباطن هو القريب، والقرب هنا أن الله تعالى هو الذي علم ببواطن الأمور، (اقض عني الدين وأغنني من الفقر)، أما وجوب الأخذ بالظاهر خاصة في كتاب الله عز وجل، فإنما ذلك كان ديدن السلف عليهم رحمة الله.

الدليل الثاني عشر

الدليل الثاني عشر الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، ومعية الله عز وجل معية عامة ومعية خاصة، ومعية الله عز وجل العامة لكل خلقه الكافر منهم والمؤمن، فقوله تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] هذه معية عامة، فإنه مع خلقه المؤمن منهم والكافر، قال: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فالآية بدأت بذكر العلم لله عز وجل وانتهت بذكر علم الله عز وجل، مما دل على أن معية الله عز وجل لخلقه إنما هي معية علم، وسمع، وبصر، وإحاطة، وقدرة، وغلبة. وقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، فذكر العلم هنا مرتين، وذكر المعية مرة، دل ذلك على أن معية الله عز وجل بخلقه إنما هي معية علم. قال الإمام الطبري في قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، أي: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم، يعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق السماوات السبع. إذاً: لا منافاة بين علو الذات لله عز وجل وبين معية الله عز وجل لخلقه، فإن الله عز وجل مستو على عرشه بذاته، وهو مع خلقه بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته، وهذه المعية كثيرة في القرآن، ولها أكثر من معنى، وذلك يرجع إلى القرينة التي اقترنت بها. ومن ذلك قول الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، أي: إنني معكما بسمعي ورؤيتي، لا بذاتي وحضرتي، فكان ذكر السمع والرؤية بعد المعية قرينة عينت المعنى وبينته. ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] كذلك المعية هنا بمعنى الرقابة والاطلاع بالسمع. ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194]، فهذه معية خاصة مقيدة بصفة التقوى، فإن الله تعالى مع كل تقي، فالكافرون لا يكون الله معهم مع أن المتقين والكافرين مشتركون من الناحية الذاتية، فلو كان الله بذاته مع أحدهم لكان مع سواه، ثم علمنا أن هذه المعية أنها معية التأييد والنصر لأهل التقوى، ومعية الخذلان لأهل الفجور. ومنه قول الله تعالى على لسان نبيه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فهذه معية خاصة أيضاً ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن الله تعالى معهما بتأييده ونصرته. ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، فلو كان الله بذاته لما كان من معنى لهذا التخصيص؛ لأن يكون بذاته عندئذ مع الصابرين وسواهم. ومنه قوله تعالى على لسان إبراهيم: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فالقرينة هنا قرينة الهداية؛ لأنه ذكر الهداية فدل بذلك على أن الله تعالى مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام معية هداية ونصر وتأييد على أعدائه وعلى حزب الله الكافرين، فنكتفي بهذا القدر من كتاب الله عز وجل لإثبات معية الله عز وجل، ولإثبات فوقية الله عز وجل على عرشه فوق سماواته.

الأدلة من السنة على إثبات صفة العلو لله تعالى

الأدلة من السنة على إثبات صفة العلو لله تعالى

الدليل الأول

الدليل الأول أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرة، والتي منها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)، ومناسبة هذا أن علي بن أبي طالب أرسل ذهبية من اليمن، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر من نجد فغضب القرشيون وتضايقوا وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله يا محمد، فجاء قوله رداً عليهم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)، أي: فإذا أنتم تأمنوني على خبر السماء فكيف لا تأمنوني على تقسيم الذهب؟ والشاهد من هذا أنه قال: (وأنا أمين من في السماء) ولم يقل: وأنا أمين من في الأرض، وإنما قال: (وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً).

الدليل الثاني

الدليل الثاني حديث جرير بن عبد الله البجلي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لم يرحم من في الأرض، لم يرحمه من في السماء) فبعض الناس تكلف تأويل هذا الحديث وقال: الذي في السماء هو جبريل، ومعلوم أن هذا تكلف شديد جداً، فهل تطلب الرحمة من جبريل أم من الله عز وجل؟ لا شك أن الرحمة تطلب من الله عز وجل، فدل على فساد هذا التأويل وخروجه عن المعنى المستقيم. ولذلك جاء في كثير من الروايات ذكر الله عز وجل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى)، (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقوله: (من لم يرحم الناس لم يرحمه الله) فهذا بيان وتحديد أن الذي في السماء هو الله عز وجل.

الدليل الثالث

الدليل الثالث حديث أبي هريرة: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء)، لم يمد يديه أمامه، ولا عن يمينه، وشماله، ومن تحته، وإنما يمد يديه إلى السماء، (يقول: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرم، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) أي: كيف يستجاب الدعاء لمن كان طعامه، وشرابه، وملبسه، وحياته كلها حرام في حرام؟! إنما يتقبل الله عز وجل الطيبات من الطيبين. والشاهد من هذا الحديث قوله: (يمد يديه إلى السماء)؛ لأنه يطلب أن يغفر الله تبارك وتعالى له، فلما علم هذا الداعي أن الله تعالى في السماء، مد يديه للسماء، وهذا الحديث فيه دليل عظيم على علو ربنا. وفيه: أن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فلا فرق في ناحية التكليف، إنما الفرق في باب الاختصاص، فالطيبات قد أحلها الله لهم جميعاً، وحرم الخبائث عليهم جميعاً.

الدليل الرابع

الدليل الرابع حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه؛ إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)، هل يتصور أن الذي يسخط على المرأة هو جبريل عليه السلام؟ وما علم جبريل بأن هذه المرأة امتنعت أم لم تمتنع حتى يغضب عليها؟ وما قيمة غضب جبريل في هذه الموطن؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على أن الله تعالى يسخط على امرأة دعاها زوجها إلى الجماع فأبت ورفضت؛ لما في ذلك من مخالفة لأمره، وتضييع لحقه، وتخريب للمجتمع؛ لأن الامتناع قد يفضي بالرجل إلى الزنا فيعم الفساد. وشاهدنا هو قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها)، فمن الذي يسخط هنا جبريل أم الله عز وجل؟!

الدليل الخامس

الدليل الخامس حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: روح فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل)، أي: التي عليها الله عز وجل، فلا شك أن هذا الحديث يدل على أن الله تعالى فوق السماء السابعة.

الدليل السادس

الدليل السادس حديث أبي هريرة كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل)، فلو أن الرجل تصدق من طيب كسبه ومن أحسنه وأطهره، ولو بما يعادل تمرة واحدة، فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها وينميها ويزيدها له، كما يربي أحدكم فلوه، والفلو: هو المهر الصغير ابن الفرس، حتى يكون فرساً عظيماً ينفع للجهاد، فكذلك الله عز وجل يربي هذه الصدقة وينميها حتى تنفع صاحبها يوم القيامة.

الدليل السابع

الدليل السابع حديث أبي هريرة كذلك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى نادوا: أن هلموا إلى بغيتكم، فيحفون بهم، فإذا تفرقوا صعدوا إلى السماء، فيقول الله تعالى: أي شيء تركتم عبادي يصنعون؟)، وفي لفظ مسلم: (فيسألهم وهو أعلم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك)، وفي هذا حجة دامغة على علو الله تبارك وتعالى، إذ هؤلاء الملائكة السياحون يصعدون إلى الله تعالى إلى السماء؛ فيسألهم وهو أعلم بعباده.

الدليل الثامن

الدليل الثامن حديث أبي هريرة كذلك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان ملك الموت يأتي الناس عياناً) يعني: من كتب الله تعالى عليه الموت يرى ملك الموت، وهذا أمر مخيف، قال: (فأتى موسى عليه السلام فلطمه موسى ففقأ عينه)، وهذا الحديث صحيح، وإن نازع فيه مرضى القلوب والنفوس وضعيفو الإيمان، (فصعد إلى ربه عز وجل) وهذا فيه إثبات جهة العلو، (فقال: يا رب! إن عبدك موسى فعل بي كذا وكذا، ولولا كرامته عليك لشققت عليه)، يعني: لولا كرامة موسى عليه السلام كنت رددت عليه، فملك الموت صعد إلى السماء.

الدليل التاسع

الدليل التاسع حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعداً ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه؛ كأن عينيه كوكبان دريان)، يعني: منذ أن قال الله لإسرافيل: أنت مهمتك النفخ في الصور من أجل البعث، فهو ينظر إلى جهة العلو، إلى جهة العرش فوق السماء السابعة، وفوق الماء، وفوق الكرسي، ينتظر الأمر، فلم يغمض عينيه؛ لأنه خائف أن يصدر إليه الأمر وهو في أثناء الطرفة فيفوت المقصود، ويقع في معصية، فانظروا إلى ذلك الوقت وذلك الزمان الذي أمر فيه إسرافيل بهذا الأمر.

الدليل العاشر

الدليل العاشر لو نظرتم إلى معظم الأحاديث الواردة في هذا الباب، بل وفي كل باب تجدونها أكثر الروايات من رواية أبي هريرة ولذلك حنق عليه الحاقدون، وغضب عليه الغاضبون، وطعن في عرضه وفي روايته كثير من الطاعنين، فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، وبين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام).

الدليل الحادي عشر

الدليل الحادي عشر قال أيضاً: (إن سألتم الله عز وجل فاسألوه الفردوس؛ فإنه في وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)، وفي هذا الحديث دلالة على العلو، فالفردوس أعلى الجنة، وفي وسطه وفوقه عرش الرحمن تبارك وتعالى.

الدليل الثاني عشر

الدليل الثاني عشر حديث أبي هريرة كذلك أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان)، أي: كأنه صوت الحديد على الجبل، والشاهد من هذا الحديث: (إذا قضى الله أمراً في السماء).

الدليل الثالث عشر

الدليل الثالث عشر حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي).

الدليل الرابع عشر

الدليل الرابع عشر حديث رفاعة بن رافع الزرقي قال: (كنا نصلي يوماً وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً)، وفي راية: (لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكاً أيهم يصعد بها) أي: أيهم يصعد بها إلى الله عز وجل، وهذا كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وفي رواية أخرى: (والله! لقد رأيت كلامك يصعد في السماء حتى فتح باب فدخلت فيه)، فهو يصعد في السماء الحسية حتى يفتح له باب فيدخل فيه.

الدليل الخامس عشر

الدليل الخامس عشر حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تصعد إلى الله كأنها شرارة)، وفي لفظ: (فإنها تصعد في السماء)؛ وهذا لأن الله تعالى فيها، فدعوة المظلوم تصعد إلى الله لا إلى غيره.

الدليل السادس عشر

الدليل السادس عشر حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام)؛ لأن النوم صفة نقص، والله منزه عن صفات النقص، (يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار)، والرفع لا يكون إلا إلى أعلى، ففيه إثبات العلو لله عز وجل (وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره)، انظروا إلى قوله: (يرفع إليه عمل الليل قبل النهار).

الدليل السابع عشر

الدليل السابع عشر حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (التسبيحة والتحميدة والتهليلة يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن، ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الرحمن ما يذكر به)، فالكلم الطيب كما عرفنا يصعد إلى الله عز وجل فقوله: (ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الرحمن ما يذكر به) أي: عند الله الذي في السماء.

الدليل الثامن عشر

الدليل الثامن عشر حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها إليهم في الأرض ويقول: اللهم اشهد)، وكأنه يشهد الله عز وجل الذي في السماء على عباده الذين في الأرض، والذين قام النبي عليه الصلاة والسلام بواجبه في تبليغهم الرسالة، فهذه إشارة من إصبع النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة إلى السماء حيث يليق بالله تعالى، يستشهد ربه على أمته بتنكيسها إليهم، فيقول: (اللهم اشهد)، فإنها إشارة حسية إلى الله عز وجل. وقال ابن شيخ الحزاميين رحمه الله: فلا يمكن معرفته والإشارة بالدعاء إليه إلا من جهة الفوق؛ لأنها أنسب الجهات إليه. وقال أبو القاسم التيمي رحمه الله: وفي منعهم الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى من جهة الفوق خلاف منهم لسائر الملل؛ لأن بعض الناس قال: لا نشير إلى جهة فوق لله عز وجل؛ لأن الإشارة تستوجب الحد والحيز وهذا كلام اتفق الرد عليه، ولذلك قال أهل السنة: الله فوق السماوات لا يعلوه خلق من خلقه، ومنه الدليل على ذلك أن الخلق يشيرون إلى السماء بأصابعهم ويدعونه، ويرفعون إليه رءوسهم وأبصارهم. وقال الإمام الخطابي في كتابه (شعار الدين): وقد جرت عادة المسلمين خاصهم وعامهم بأن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه، ويرفعوا أيديهم إلى السماء، فذلك لاستفاضة العلم بأن المدعو في السماء سبحانه وتعالى.

الدليل التاسع عشر

الدليل التاسع عشر حديث سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم إذا رفع العبد إليه يديه يستحيي أن يردهما صفراً، حتى يضع فيهما خيراً)، فهذا الحديث يدل على أن الله تعالى في السماء؛ وهذا واضح في قوله: (إذا رفع العبد إليه يديه)، والعبد لا يرفع يديه عند الدعاء إلا إلى الله عز وجل، فكونه يرفع إلى جهة الفوق، جهة السماء، فلا شك أن العبد الداعي في هذا إنما يستجيب لداعي الفطرة الموجودة في النفوس، والمقصودة في القلوب أن الله تعالى في السماء.

الدليل العشرون

الدليل العشرون قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم، قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم يا رسول الله؟ قال: يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف).

الدليل الحادي والعشرون

الدليل الحادي والعشرون حديث أنس بن مالك أن مالك بن صعصعة حدثه: (أن نبي الله حدثه عن ليلة أسري به، ومن ذلك: أنه بعدما عرج به إلى السماء حتى وصل إلى موسى عليه السلام، ثم صعد إلى ربه، فكتب عليه خمسين فريضة، ثم سأل ربه التخفيف، وأخذ يتردد بين موسى وربه صعوداً ونزولاً) مما يدل على علو الله تعالى.

الدليل الثاني والعشرون

الدليل الثاني والعشرون دليل آخر يكمن في اختلاف الصحابة: هل رأى ربه عند المعراج أم لم يره؟ يعني: مجرد اختلاف الصحابة في هذه الأمر يدل على فوقية الله عز وجل وعلى علوه.

الدليل الثالث والعشرون

الدليل الثالث والعشرون حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (كانت لي غنم بين أحد والجوانية -وهما منطقتان في أعلى المدينة- فيها جارية لي، فأطلعتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة)، يعني: راقبها ذات يوم فوجد أن الذئب أخذ منها شاة، (وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون -يعني: فحزنت؛ لأن الذئب أخذ غنمة من الغنم- فصككتها -أي: ضربتها على وجهها- فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء)، وهذا سؤال يغيظ قلوب كثير من الناس، بل قلوب كثير من الدعاة والعلماء، يقولون: لا يجوز أن تسأل هذا السؤال، ولا يجوز أن تعلم ولدك، ولا أن تعلم أحداً هذا Q أين الله؟ إذا كان المعصوم صلى الله عليه وسلم سأل هذا السؤال وعلمه أصحابه، فما الحرج في أن تسأل هذا السؤال؟ بل ينبغي أن ينشأ الطفل الصغير على هذا السؤال، وعلى الإيمان بالله عز وجل بأسمائه وصفاته، وهذه كانت جارية صغيرة لم تبلغ الحلم ومع هذا سألها النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أمة غير حرة، وكان عملها رعي الأغنام، والغالب على رعاة الغنم الجهل، إلا أن يكون العلم قد بلغهم، ومع هذا سألها النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم جزاء إيمان هذه الجارية، وصحة اعتقادها في الله عز وجل، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم أن أعتقها، وصيرها حرة بعد أن كانت أمة، وهذا الحديث صحيح بلا ريب، وهو عند مسلم في الصحيح، ونازع قوم لا يحبون توجيه هذا السؤال في صحة الحديث، فإنهم إن أثبتوا ضعف الحديث أثبتوا عدم جواز السؤال، ولكن هيهات هيهات، فالحديث صحيح، لا يشك في ذلك إلا جاهل أو من أهل الأهواء الذين كلما جاءهم نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف ما هم عليه من الضلال حاولوا الخلاص منه إما بتأويله، أو بتعطيله، أو بضعفه، فإن لم يمكنهم ذلك حاولوا الطعن في ثبوته أو في الصحابي الراوي له. يقول الشيخ خليل هراس عليه رحمة الله: هذا حديث يتألق نصاعة ووضوحاً، وهو صاعقة على رءوس أهل التعطيل، فهذا رجل أخطأ في حق جاريته بضربها، فأراد أن يكفر عن خطيئته بعتقها، فاستمهله الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يمتحن إيمانها، فكان السؤال الذي اختاره لهذا الامتحان: أين الله؟ ولما أجابت بأنه في السماء رضي جوابها وشهد لها بالإيمان، ولو أنك قلت للمعطل: أين الله؟ لحكم عليك بالكفر، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن قوله، وفضلاً عن فعله، في إثبات العلو والفوقية لله عز وجل.

الدليل الرابع والعشرون

الدليل الرابع والعشرون حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا) فقولك: ينزل النازل لا يكون إلا من جهة العلو إلى السفل، (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، وهذا الحديث معروف عند أهل العلم بحديث النزول العظيم الذي رواه جمع من الصحابة، واتفقت الأمة من أولها إلى آخرها على ثبوته، بل ذهب بعضهم كـ الذهبي إلى أن حديث النزول متواتر، وصنف الإمام الدارقطني فيه كتاباً سماه: (كتاب النزول)، وشرحه شرحاً مستفيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.

الدليل الخامس والعشرون

الدليل الخامس والعشرون مما يدل على إثبات علو الله عز وجل على خلقه: حديث أنس بن مالك أنه قال: (كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات)، وهذا هو الشاهد، وفي رواية أنها كانت تقول: (إن الله أنكحني في السماء)، أي: زوجني وهو في السماء، وفي رواية أخرى: (زوجنيك الرحمن من فوق عرشه). فهذه زوجة النبي عليه الصلاة والسلام وابنة عمته تفتخر على سائر الأزواج؛ لأنها كانت ذات شأن خاص في زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم، فـ زيد هو مولى النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلقها وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها عملاً بوحي ربه، كان يخفي في نفسه البشرية شيئاً؛ خوفاً على دعوته أن يقول الناس: تزوج بزوجة ابنه، وقد كان تبناه لما كان التبني مباحاً في ذلك الوقت.

أقوال الصحابة في إثبات صفة العلو لله تعالى

أقوال الصحابة في إثبات صفة العلو لله تعالى

القول الأول

القول الأول قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: العرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. إذاً: معية الله لخلقه معية علم؛ لأنه قال: العرش فوق الماء، والله بذاته فوق العرش، يعلم أعمالكم وسركم ونجواكم. وحديث ابن مسعود وإن كان موقوفاً عليه إلا أنه في حكم المرفوع؛ لأنه ليس لأحد أن يعلم هذا إلا بنص من المعصوم صلى الله عليه وسلم.

القول الثاني

القول الثاني جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله تعالى كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً. وهذا يدل على علوه تبارك وتعالى حتى قبل خلق السماوات والأرض، إذ هو على عرشه لا عرشه عليه، وعندما خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقهما تحت العرش فما تغير شيء أبداً. وجاء عنه رضي الله عنهما قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره. وجاء عن ابن عباس أيضاً: إن العرش يحيط بجميع المخلوقات. فلما استوى الله عز وجل على عرشه، بمعنى علا على العرش وكان فوقه، لا يدل هذا على الحد، بل يدل على علو المولى عز وجل.

القول الثالث

القول الثالث جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لـ عائشة رضي الله عنها عندما دخل عليها وهي في مرض الموت، فقال لها: كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، جاء بها جبريل، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر فيها الله إلا وهي تتلى آيات الله فيه آناء الليل وأطراف النهار. فهنا الشاهد من قول ابن عباس رضي الله عنهما: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات.

القول الرابع

القول الرابع جاء عن ابن مسعود أنه قال: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة، حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سماوات، فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإن يسرته له أدخلته النار. يعني: العبد يهم بتجارة معينة ثم يحسب حسابه، والله عز وجل يعلم سلفاً أن هذه التجارة تكون سبباً لصرف العبد عن ربه فيدخل بهذا الصرف والتوجه إلى غير الله عز وجل فيكون سبباً لدخول النار، فمن رحمة الله عز وجل بالعبد أنه يصرفه عن هذه التجارة، أو يصرفه عن هذه (الفيزة)، أو يصرفه عن الإمارة وعن الرياسة، وعن كثير مما يظن العبد أن فلاحه ونجاحه وسعادته في الدنيا إنما هي متعلقة بإنشاء هذا الأمر أو عمله، ولكن اللطيف الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم ويفسدهم، إنما يصرف من شاء من عباده عما شاءوا من أعمال رحمة بهم ورضواناً عليهم.

القول الخامس

القول الخامس عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، قال: (أما إنا قد سألنا عبدك فقال: أرواحهم في أجواف طير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءوا، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فبينما هم كذلك، إذ اطلع عليهم ربهم اطلاعاً فقال: سلوني ما شئتم)، قال ابن خزيمة: فكل من له فهم بلغة العرب يعلم أن اطلاعه إلى الشيء لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل.

القول السادس

القول السادس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في موت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت. بعد هذا كله، بعد هذه الآيات وفهم الصحابة والأحاديث، وفهم السلف جميعاً، وإجماعهم على أن الله تعالى بذاته في السماء، وأن معيته لخلقه معية علم وسمع وبصر وإحاطة ونصرة وتأييد، ومع ذلك ينازع قوم في علو الله عز وجل على الخلق، لا شك أن هذا ضلال مبين.

القول السابع

القول السابع قال عبد الرحمن بن غنم سمعت عمر بن الخطاب يقول: ويل لديان الأرض من ديان السماء. أي: ويل لملوك الأرض وحكام الأرض وسلاطين الأرض الذين بدلوا الدين وغيروا الشريعة وأفسدوا على الناس حياتهم، الذين يعذبون عباده الصالحين، ويرفعون ويجلون الفساق والفجار والمغنين وأشباههم من أهل الضلال والفسق والزندقة، يرفعونهم ويجعلونهم نجوماً وأئمة، ويل لهم من ديان السماء، ثم ويل لهم، ثم ويل لهم.

القول الثامن

القول الثامن عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت مبرئة نفسها من إرادة قتلها لـ عثمان لأن الذين نسبوها أيضاً إلى الإفك والزنا والبهتان نسبوا قتل عثمان إليها أيضاً، قالت: علم الله فوق عرشه أني لم أحب قتله. أي: علم الله فوق عرشه في السماء أني لم أحب قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.

القول التاسع

القول التاسع قال زيد بن أسلم: مر ابن عمر براع يرعى إبلاً فقال: هل من جزرة؟ فقال: ليس هاهنا ربها، أي: ليس هاهنا مالكها، قال ابن عمر: قل له: أكلها الذئب، ابن عمر يختبر ذلك الراعي؛ فإن ابن عمر من أكثر الصحابة لزوماً للسنة، قال: فرفع يده إلى السماء وقال: فأين الله؟ راعي الغنم يراقب الله عز وجل في عمله، فما بال كثير من الإخوة إذا عملوا في تجارة فكبر عليهم أربعاً، فقال: فأين الله؟ فقال ابن عمر: أنا والله أحق أن أقول: أين الله؟ واشترى الراعي والغنم فأعتقه وأعطاه الغنم. وروى ابن الجوزي هذه القصة عن نافع مولى ابن عمر لا عن زيد بن أسلم، فقال نافع مولى ابن عمر خرجت مع عبد الله بن عمر في بعض نواحي المدينة ومعنا أصحاب له فوضعوا سفرة له، فمر بهم راع فقال له عبد الله بن عمر: هلم يا راعي إلى هذه السفرة، فقال: إني صائم، فقال له عبد الله في مثل هذا اليوم الشديد؟ أي: تلبث في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم، وبين الجبال ترعى وأنت صائم، فقال له الراعي: أبادر في أيامي الخالية، أي: أبادر عملي الصالح في أيامي الخالية، فعجب ابن عمر وقال له: هل لك أن تبيعنا شاة، تجتزرها ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها؟ فقال الراعي: إنها ليست لي إنها لمولاي، قال: فما عسى أن يقول لك مولاك إن قلت: أكلها الذئب؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله؟ قال: فلم يزل ابن عمر يقول: قول الراعي: فأين الله؟ فما أن قدم المدينة بعث إلى سيده واشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي ووهب له الغنم، مكافئة له على حسن اعتقاده بالله عز وجل.

القول العاشر

القول العاشر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأخيه: اعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء)، يعني: أبو ذر قبل أن يسلم يقول لأخيه الكافر لما علم بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام وبمبعثه وهو في المدينة، قال: اذهب فتلمس خبر هذا الرجل الذي يزعم أن الخبر يأتيه من السماء، فالكفار في الجاهلية كانوا يعلمون أن الله تعالى في السماء، وهذا نص في سياق الأمر، فدل هذا على أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الوحي ينزل من السماء، أي: من عند الله عز وجل.

القول الحادي عشر

القول الحادي عشر عن قيس قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام استقبله أهل الشام وهو على حمار، فقالوا: يا أمير المؤمنين لو ركبت برذوناً يلقاك عظماء الناس ووجوههم، فقال عمر رضي الله عنه: ألا أريكم هاهنا إنما الأمر من هاهنا فأشار بيده إلى السماء، يعني: هم صعب عليهم أن عمر بن الخطاب يدخل الشام وهو راكب حماراً، فأراد عمر أن يزهدهم في هذا، وقال لهم: ليس الأمر كما تظنون فإن هذا من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وإنما الأمر من هنا، وكأنه يشير إليهم أن تواضعوا لله عز وجل يرفعكم الله في أعين بعضكم بعضاً.

أقوال التابعين في إثبات صفة العلو لله تعالى

أقوال التابعين في إثبات صفة العلو لله تعالى أما أقول التابعين في هذا الأمر فكثيرة جداً، فثبت عن كعب الأحبار أنه قال: قال الله عز وجل في التوراة: وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي، لا يخفى علي شيء في السماء ولا في الأرض. وقال قتادة بن دعامة السدوسى رحمه الله: قالت بنو إسرائيل: يا رب! أنت في السماء ونحن في الأرض، فكيف لنا أن نعرف رضاك من غضبك، قال: إذا رضيت عنكم استعملت عليكم خياركم، وإذا غضبت استعملت شراركم. وعن ثابت البناني قال: كان داود عليه السلام يطيل الصلاة، ثم يركع، ثم يرفع رأسه إلى السماء ثم يقول: إليك رفعت رأسي يا عامر السماء، نظر العبيد إلى أربابها يا ساكن السماء. فها هو نبي من أنبياء الله تعالى يثبت لله تعالى صفة العلو في صلاته.

للرجال فقط [1]

للرجال فقط [1] لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبداً: الكتاب والسنة، فالتمسك بهما سبيل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، واتباع الهوى ومخالفة الوحيين ضلال وخسارة في الدنيا والآخرة، وما تخلُّف الأمة بعد ازدهارها، وذلها بعد عزها، وضعفها بعد قوتها إلا بسبب اتباع الهوى وترك الهدى.

التحذير من اتباع الهوى وترك الهدى

التحذير من اتباع الهوى وترك الهدى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن المقارن بين القرون الخيرية وبين ما نحن فيه يجد أن المسلمين الأوائل كانوا ذروة السنام، وكانوا هم الأئمة الأعلام، وكان الإسلام يرفرف على أنحاء المعمورة شرقاً وغرباً، مع قلة عددهم وعدتهم وفقرهم وحاجتهم. وأما نحن فمع كثرة عددنا وعدتنا إلا أننا في هوة سحيقة وفي واد سحيق، وإنا أخس الأمم وأرذلها يدوس اليهود والنصارى فوق رقاب وهامات المسلمين بنعالهم. فرب سائل يسأل: لم هذا مع كثرة الإمكانيات في هذا العصر على جهة الخصوص، وما الذي جعل الأوائل يرتقون بإسلامهم حتى بلغوا به مبالغ عظيمة في شرق الأرض وغربها؟ وربما يسأل سائل -والحالة متردية ومزرية إلى هذا الحد-: هل نحن مسلمون؟ الجواب، نعم. ونحن مسلمون كإسلام الأوائل؛ لأننا نشهد شهادتهم، أي: نشهد بما شهدوا به، ونعتقد ما اعتقدوه، ونؤمن بما آمنوا به، لكن: هل نحن متبعون أم مبتدعون؟ فإذا قال قائل: نحن متبعون؛ كان لزاماً أن يسأل سؤالاً فرعياً آخر: هل نحن متبعون للأثر؟ هل نحن متبعون للسنة، أم نحن متبعون للهوى؟ وإن شئت فقل: اتباع هدى، أو اتباع هوى؟ فربما تختلف الأنظار هنا: فمن يرى أن الصورة حسنة وأن المسلمين بخير يرى أن المسلمين متبعون للكتاب والسنة، والذي ينظر نظرة تفحص، ويعلم أن الأمة قد اختلفت كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت إلى اثنتين وسبعين، وإن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: هم من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). فإن الذي ينظر إلى تفرق الأمة في هذا الزمان يعلم أن الأمة ليست متبعة للهدى، وإنما هي متبعة للهوى، وهذا سر خذلانها وسر تأخرها وسر تكالب الأمم عليها. وصدق فينا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟!). يعني هم اليهود والنصارى، ومع هذا فإن اليهود والنصارى الآن لا يرضون بمجرد تقليدنا لهم إلا أن نعتقد معتقدهم، وأن نتهود كيهوديتهم، وأن نتنصر كنصرانيتهم، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. فهم يرسمون الخطوات تتلوها أخرى؛ حتى ينخلع وينسلخ المسلمون من دينهم بالكلية، فلا يبقى فارق ولا مميز بين كافر وبين مسلم. فلو أنك نظرت الآن وأنت تسير في شوارع القاهرة في بلد الأزهر، لا تكاد تميز قط بين يهودي ونصراني ومسلم، الخصال واحدة، والأخلاق واحد، والسلوك واحد، ولا أكاد أبالغ إن قلت: وكادت العقائد تقترب وتقترن، ويدخل بعضها في بعض. فهذا هو سر التخلف، وسر التخلف هذا لم يصب طائفة من الأمة، وإنما أصاب جميع الطوائف إلا ما ندر، وإلا ما رحم ربك تبارك وتعالى، أصاب الحكام وأصاب المحكومين، أصاب الكبار والصغار، أصاب الرجال والنساء، فالأمة كادت تنفلت من هويتها وشخصيتها؛ ولذلك لن تجد كبير فرق بين المسلم وغيره، فهذا هو السر في تأخر المسلمين، أنهم تركوا الكتاب والسنة اللذَيْن أكد النبي عليه الصلاة والسلام عليهما طيلة حياته الدعوية النبوية، بل وأكد على ذلك قبل موته بأيام وساعات، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي). وهذا وعظ وخبر، والأمة آمنت بهذا الكلام باللسان وكفرت به من جهة العمل، فإن الواحد منا الذي يرفع شعار الالتزام وشعار التوحيد والاتباع، حتى إذا رأى الشرع يتعارض مع مصلحته مهما كانت هذه المصلحة فإنه يقدم هواه، ويقدم مصلحته على كتاب الله وعلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. يظهر هذا في أن اثنين تخاصما وأنت حكم بينهما، فلزمك أن تأخذ عليهما أولاً: العهد والميثاق، وأن يلتزما بالحق مهما كان مراً، فإن كليهما يقر ذلك ويحترمه، حتى إذا حكمت في نهاية المجلس على أحد الخصمين قال: هذا الحكم جائر، وأنت لست قاضياً ولا مفتياً ولا عالماً؛ ولذلك أنا لا أقبله، يقول ذلك لأن اله

النصوص الواردة في وجوب اتباع الهدى وترك اتباع الهوى

النصوص الواردة في وجوب اتباع الهدى وترك اتباع الهوى إن الأمة قد انحرفت عن كتاب الله وعن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، مع أن الأوامر في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام لا تكاد تحصى عدداً في الأمر بطاعة الله وبطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وبيان أن النصر في الاستمساك والعض بالنواجذ على الكتاب والسنة، وعلى هدي السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ولكن الأمة تغافلت أو تناست هذا كله، ووقعت في هواها بجميع طوائفها وفئاتها، وإن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين باتباع الأثر وترك الهوى، فقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135]. وهذا أمر موجه لأهل الإيمان. فالمؤمن لا ينبغي له قط أن يكون متبعاً لهواه؛ لأن المؤمن لا يسعه إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا عند سماع قول الله تعالى وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأثنى الله تبارك وتعالى على نبيه الكريم أنه لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. والأنبياء عليهم السلام لا يتكلمون بأهوائهم ولا بأمزجتهم وإنما يتكلمون بوحي من السماء، خاصة فيما يتعلق بالوحي، فليس من نبي نبئ ولا من رسول أرسل إلا تكلم فيما أمره الله تعالى أن يبلغه لأمته، أو يبلغه إلى الناس عامة كما أمر نبينا عليه الصلاة والسلام، فكانت رسالته عامة وشاملة للإنس والجن إلى قيام الساعة. وهذا أسلوب حصر وقصر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ما تكلم بحرف واحد فيما يتعلق بالتشريع والعبادة والعقيدة، وما يتعلق بالدين في الجملة إلا بوحي السماء، ولو أنه تكلم بكلامنا لربما زاغ، ولكن هذا الزيغ منتف؛ لأن الأنبياء معصومون في البلاغ عن الله عز وجل. وحذر الله تبارك وتعالى نبيه أن يتبع أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، فقال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. والنبي عليه الصلاة والسلام ليس متبعاً لهواه؛ لأن هواه في طاعة الله عز وجل، أمره ربه تبارك وتعالى أن يطيع، وألا يتبع أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. وقال سبحانه: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16]، وهذا يدل على أن من اتبع هواه تردى في هوة سحيقة، وقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]، أي: لا تحاب أحداً -يا محمد- في طاعة الله وشرعه مهما كان عظيماً أو شريفاً، أو ذا منزلة أو وجاهة أو منصب أو مكانة في قومه، فلا تعبأ بهذا؛ لأن العبرة بموافقة الحق من كتاب الله ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال سبحانه مذكراً نبيه وآمراً له: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]. لا تحكم بينهم بما يتوافق مع أهوائهم، وهذا لمجرد توجيه النبي عليه الصلاة والسلام، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم عن اتباع الهوى. ثم بين الله تعالى لرسوله الكريم عاقبة اتباع الهوى، فقال سبحانه لداود عليه السلام: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26]، لأنك لو اتبعته يضلك عن سبيل الله؛ فلذلك من أعظم عواقب اتباع الهوى: أنه يوقع في الضلال. وقوله عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً). فكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام هما النجاة من الضلال، وهذا يعني: أننا لو أعرضنا عن الكتاب والسنة لوقعنا في الضلال، بمفهوم المخالفة، وهذا الذي وقعت فيه الأمة الآن.

عواقب اتباع الهوى

عواقب اتباع الهوى قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] أفرأيت -يا محمد- من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم. تصور أن واحداً لم يتخذ الله تبارك وتعالى إلهاً مشرعاً حكماً عدلاً قسطاً، وإنما حكم هواه ونفسه الأمارة بالسوء، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]. وقال تعالى: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56]. يعني: لو أني اتبعت أهواءكم لكنت من الضالين، ولكن الأنبياء معصومون كما ذكرنا. وقال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119] يعني: يتبعون الهوى وهم لا يعلمون أن هذا اتباع للهوى، كمن تخصص في بدعة وتفنن فيها وناظر ونظر فيها، فصدق نفسه أنه صاحب حق وعلم؛ لأن كثيراً من الناس يكذبون كذبة ومع مرور الوقت والزمان يصدقون أنفسهم، ويحسبون أنهم على الحق المبين، وينافحون ويدافعون عن هذا الضلال على أنه الحق المبين الذي ليس بعده حق. ولذلك قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا} [الأنعام:119] ولم يقل: (وإن قليلاً من الناس) {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119]. هذه العاقبة الأولى من عواقب اتباع الهوى، وهو: أن الهوى يورث الضلال. فمتبع الهوى متكبر متغطرس بطراً للحق ولأصحابه وأهله، كما قال الله تعالى في بني إسرائيل: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] هذا الذي حدث من بني إسرائيل، أبوا رسالة الأنبياء فكذبوهم وسبوهم ولعنوهم، بل وقتلوهم، فذكر الله تبارك الله صنيعهم هذا في كتابه، فقال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ} [البقرة:87]، أي: بما لا يوافق هواكم (استكبرتم) عن قبول الحق، واستنكفتم، وقمتم على الأنبياء وقتلتموهم وكذبتموهم. قال تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة:70]. اتباع الهوى يورث التكذيب قولاً وفعلاً، قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنعام:150]، فمتبع الهوى مكذب لله تعالى، ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وقال تعالى: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:3]. فبعد أن كذبوا اتبعوا أهواءهم، وكل أمر بعد ذلك مستقر، أي: مستقر في هواهم أنهم أصحاب الحق وليسوا كذلك، متبع الهوى قد أسلم نفسه للشيطان، وأنتم تعلمون أن المرء لا غنى له عن الله طرفة عين؛ لأن المرء إما أن يكون في معية الله ورعايته ورحمته، وتحت فضله ومشيئته، وإما أن يكون واقعاً في حبائل الشيطان، ومن كان كذلك فإنه متردد متحير متخبط هنا وهناك، ولذلك قال الله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام:71] هم يتصورون أنهم على الهدى، فيدعونه لماذا؟ {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام:71] ائتنا، تعال، الحق بنا، فإننا على الهدى، وليسوا كذلك؛ ولذلك أعقب الله تبارك وتعالى هذا بقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71] وليس للشيطان؛ لأن من أسلم نفسه للشيطان تحير، وضل وابتعد عن الصراط المستقيم. وأخيراً قوله تعالى يكفينا في هذا الباب: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. والآيات في كتاب الله تبارك وتعالى في ذم الهوى كثيرة، وكلها مبناها على التحذير وذم الهوى.

الآثار الواردة في التحذير من اتباع الهوى

الآثار الواردة في التحذير من اتباع الهوى كذلك وردت آثار كثيرة جداً عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن أصحابه الكرام، وعن الأئمة المتبوعين، وأئمة الدين ومشايخ الإسلام في كل زمان ومكان من التحذير من اتباع الهوى: فعن مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أدري أي النعمتين علي أعظم -أي: أنا لا أعرف أي النعمتين أنعم الله تعالى علي بهما أعظم من الأخرى- أن هداني للإسلام -أي: أن جعلني مسلماً- أو عافاني من هذه الأهواء؛ لأنها نعمة عظيمة جداً. والشعبي عامر بن شراحيل رحمه الله يقول: إنما سمي الهوى بهذا الاسم؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار. وهذا يدل على أن الاتباع يرتفع بصاحبه في أعلى عليين على خلاف الهوى، ولا يستوي المتبع للأثر والمتبع لهواه، فإن الأول في أعلى عليين، والثاني في أسفل السافلين، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). وهذا حديث عظيم جداً، ولو أراد الشارح شرحه لاستوعب فيه محاضرة بأكملها، وقد خصه بعض أهل العلم بالتصنيف، فقالوا فيه كلاماً عجيباً جداً يعجب منه المرء، ويعجب من ثراء هذه الشريعة بعلمائها وبأدلتها ونصوصها وحججها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ضارباً المثل لمن حرص على أن يكون ثرياً ذا مال، أو أن يكون في القوم صاحب وجاهة وشرف حتى يشير إليه الناس أنه صاحب علم، وصاحب فتوى، وصاحب كيت وكيت. فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن من الناس من يحرص على أن يأخذ المال من حل وحرام، ويبحث عنه ويلهج في تحصيله، ومنهم من يحرص على أن يشار إليه بالبنان، وأن يكون مبرزاً في الناس. فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هذين الرجلين أفسد للدين وللأمة من ذئبين ضامئين دخلا في زريبة غنم فأفسدا ما فيها من غنم، فقال عليه الصلاة والسلام بأسلوبه النبوي الجميل: (ما ذئبان جائعان) وما بمعنى: ليس، (ما ذئبان جائعان أرسلا) أي: دخلا في زريبة غنم بأفسد لها من ماذا؟ (من حرص المرء على المال والشرف لدينه). فكم من واحد في الأمة الآن يحرص على جمع المال، وإن كان على حساب دينه، كم من واحد الآن ممن تصدر للدعوة إلى الله وتصدى لها، كم من واحد منهم أخلص في هذا لله عز وجل؟ سفيان الثوري -وهو من هو في الإمامة والفضل والعلم والإخلاص لله عز وجل- يقول: والله لقد طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله. والسلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم تورعوا أن يقولوا: إنهم قد أخلصوا لله عز وجل في أعمالهم وأقوالهم، وأنت لو سألت صعلوكاً من الصعاليك الآن أو طويلب علم: لماذا تطلب العلم؟ لبادر بقوله: أطلبه مخلصاً لله عز وجل، وكأنه يزكي نفسه على الله، ولا يتورع ولا يتراجع، ولا يتردد ولا يخبت إلى ربه، وإنما يبادر بقول لو سمعه السلف لأنكروه غاية الإنكار، فكلهم يدعي أنه كان منافقاً، وكلهم يدعي أنه بعيد عن الحق، وكلهم يدعي أن الناس لو أخذوا علمه ثم لم ينسب إليه منه حرف واحد؛ لكان ذلك أدعى لقبول هذا العمل عند الله عز وجل، هذا الشافعي رحمه الله تعالى يقول: وددت لو أن الناس أخذوا ما عندي من علم، ثم لم ينسب لي منه حرف واحد، يتمنى لو أن الناس يتعلمون العلم، ولكن في النهاية لا يقولون: علمنا الشافعي. وأما نحن فإننا نحرص كل الحرص على أن نثبت مشيختنا وأستاذيتنا وتكبرنا وغير ذلك من الأمراض الدفينة، التي تخرج مرة على تقسيمات الوجه ومرة في المشية ومرة في الجلسة، ومرة بالقول، ومرة يخزنها المرء في قلبه حتى يتحين الوقت المناسب؛ ليبثها للسامع، وهذا يتنافى مع الإخلاص لله عز وجل؛ ولذلك سر الانتصار عند السلف: أنهم أخلصوا لله عز وجل واتبعوا الهدي. وسر تأخرنا: أننا فقدنا الإخلاص إلا ما ندر، وإلا ما رحم الله عز وجل، وأعرضنا عن الكتاب والسنة، واتبعنا أهواءنا. وقال أبو برزة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى). والهوى كله ضلال، ولكنه قال: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم - أي: أكل الحرام - وفروجكم - الوقوع في الفاحشة- ومضلات الهوى) أي: مضلات الفتن. وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنه يخرج في أمتي قوم يهوون هوى) أي: يكونون أصحاب هوى: (يهوون هوى، يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله). انظر إلى هذا الحديث؛ حتى تعلم أن الأمة وصلت إلى هذه الحال التي قررها النبي عليه الصلاة والسلام منذ عدة قرون، قال: (ألا وإنه سيخرج في أمتي قوم يهوون هوى) أي: يكونون أصحاب هوى، (تتجارى بهم هذه الأهواء) أي: تتمادى هذه الأهواء (كما يتجارى الكلب بصاحبه

وقفات مع النصوص والآثار الواردة في التحذير من اتباع الهوى

وقفات مع النصوص والآثار الواردة في التحذير من اتباع الهوى هذه النصوص -أيها الإخوة الكرام- التي وردت في ذم الهوى في كتاب الله وسنة رسوله لابد لنا فيها من وقفات؛ حتى نستفيد من هذه النصوص الطيبة التي حذرنا بها أهل العلم قديماً وحديثاً. فالأهواء يجر إليها الخصومات، فما هي الأهواء من حيث المفهوم والأسباب؟

الخصومات في الآراء شعار أهل الأهواء

الخصومات في الآراء شعار أهل الأهواء الوقفة الأولى: هي الكلام عن الخصومات، والخصومات: هي التكلف في الانتصار للرأي، والمراء والجدل بغير حق، والمماحلة والمماطلة في قبول الحق، هذا معنى الخصومة. والخصومات شعار لأهل الأهواء، فالواحد منهم ليس ساكتاً أو مجتمعاً، بل إن أهل الأهواء متكلمون دائماً، رافعون أصواتهم ببدعتهم، وللأسف الشديد أنك تجد كثيراً من أهل الحق صامتون ساكتون، فمبنى الخصوم إذاً على التكلف والانتصار للرأي، وكذلك التشفي من الخصم والنيل من عرضه، وتنحل الحجج والأدلة، فهي أعظم أبواب الشبهات، وهي كذلك تفتح أبواب الشيطان على صاحبها؛ لأن الأصل في الخصومات: الانتصار للرأي، وليس الانتصار للدين. ولذا نجد أن أهل السنة لهم منهج مع خصومهم، فإذا ماحل الخصم وخاصم وجادل؛ فإنهم لا يسترسلون معه، إنما يكتفون بإظهار الحجة والإتيان بالبرهان، ثم يدعونه وينصرفون. بل كثير منهم لم يتكلم في بدعة إلا بعد أن انتشرت، وإن رأوا أن البدعة ما دامت قاصرة على صاحبها؛ فليس من مصلحة عامة الناس أن تظهر، ولا تظهر إلا بقول إمام مبرز فيها؛ ولذلك يعرض كثير من أهل العلم بأنفسهم عن أن يتكلموا في بدعة ما، حتى ظهرت وأطلت بقرونها على العامة، فصارت على كل لسان، ودخلت في كل قلب، حينئذ يتصدون لبيان هذه البدع. وصاحب البدعة والهوى إذا أراد الحق فإنما يكفيه لذلك بيان الدليل وصحته، والدليل الواحد، لكن صاحب الهوى في الغالب لا يكفيه دليل واحد، تقول له: قال الله تعالى: يقول لك: ثم ماذا قال؟ فتقول: وقال الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: حجتك ضعيفة! فالدليل الواحد كافٍ، لكن الدليل عند أصحاب الأهواء لا يقوم ولو من مائة طريق، لأن في قلبه ظلمة منعته أن يقبل هذه الأدلة، وربما هو لم يسمعها ولم يعقلها من قبل، وصدق ابن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: وإن للمعصية ظلمة في القلب، وسواداً على الوجه. فصاحب الهوى إن كان مريداً للحق ولم يتمكن هواه من قلبه يكفيه دليل واحد صحيح وصريح، وإذا قبل الدليل ثم رجع فيه وتردد وتحير فاعلم أنه باق على هواه، وهذا لا ينسحب على الجاهل الذي قامت الشبهة لديه، فهو يسأل ويستعيد المسئول ويطلب منه الجواب، وإعادة الدليل مرة أخرى، وثانية وثالثة، فلا حرج عليه في ذلك ما دامت الشبهة بعد عالقة بذهنه وقلبه، فلا حرج عليه أن يسأل حيث جهل، حتى ولو استعاد المسألة مرات متعددة، واستبانه في الدليل الواحد أكثر من مرة؛ لقيام الشبهة لديه.

العبرة بالثبات على الإسلام لا بدخوله

العبرة بالثبات على الإسلام لا بدخوله وأما الوقفة الثانية: أن الإنسان قد يدخل الإسلام بعد كفر وشرك، فلا يثبت على النهج الصحيح، حيث ينحرف عنه إلى البدعة والهوى؛ لأن العبرة ليست بمجرد دخوله في الإسلام، وإنما العبرة بالثبات على هذا الإسلام، والثبات على الإيمان؛ ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. فلو نصرنا الله تبارك وتعالى ولم يثبت أقدامنا على هذا النصر فإنه لابد أن ننزلق مرة أخرى إلى الهزيمة؛ لأننا لم نثبت على النصر، ولم نستمسك بالسنن الظاهرة والباطنة، فعاقبنا الله تبارك وتعالى بأن سحب منا الثبات على النصر، فكانت الأيام دولاً: اليوم منصورون، وغداً مهزومون. وقال الله تعالى آمراً نبيه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] أمره بالاستقامة على الأمر الذي كلفه به، وأمره أن يكلف أمته بذلك كذلك. ولذلك كثير من أهل الكفر والشرك في بلاد أوروبا وأمريكا يدخلون في الإسلام -خاصة في غير بلاد المسلمين- ويرتدون غداً، والذي سافر إلى هذه البلاد يعلم هذه الحقيقة؛ لأنه يراها في كل يوم، الرجل الآن يدخل في الإسلام وقبل صلاة العشاء ربما يرتد عن الإسلام مرة أخرى. والسبب الرئيس في ذلك هو حال المسلمين في هذه البلاد، فالكفار إذا دخلوا في الإسلام لا يجدون فارقاً عظيماً بين ما كانوا عليه، وما عليه المسلمون من أخلاق وسلوك وآداب، بل ربما تأدب أهل الكفر فيما بينهم بآداب يفقدها كثير من المسلمين، ولا أقول: إنها ليست في الإسلام، بل إن كل أدب دعا إليه الإسلام وحث عليه، ولكن المسلمين تخلوا عن هذه الآداب والأخلاق والسلوكيات، فيرى الكفار بعد إسلامهم كل المخازي والرزايا والمعايب في علاقات المسلمين مع بعضهم، فيقولون: إذا كان هذا هو الإسلام فالكفر أفضل منه، فيرتدون إلى ما كانوا عليه آنفاً. هذا من جهة. من جهة ثانية: أن الكفار والمشركين إذا أسلموا تلقفتهم أيدي بعض المثقفين من المسلمين الذين لا علاقة لهم في الغالب بدين الله تبارك وتعالى، ولا بأصول معتقد السلف، ولا بشرائع الإسلام على جهة الخصوص، ويصنعون منهم نجوماً عظيمة، كما يصنعون بأهل المعاصي إذا تابوا من معاصيهم، فإن الراقصة اليوم إذا تابت صارت إمامة في الدين غداً، هذا أمر. والمرء من شدة وجده وحزنه ينخرط وينعقد لسانه أن يتكلم في ذلك، كأن تكون راقصة الأمس مفتية اليوم في دين الله عز وجل، أو أن يكون لاعب كرة ترك اللعب ثم يتلقفه أصحاب اللحى، ويرفعونه على أكتافهم ويهتفون به في شوارع القاهرة، أو في شوارع الرياض، أو في شوارع أمريكا وأوروبا، هل هو تاب لنفسه أم تاب للإسلام والمسلمين؟ A تاب لنفسه، ورجع عن غفلته، وهذا لا يعني أنه صار إماماً ومفتياً كما يصنع كثير ممن يشار إليهم بالبنان. لما كان رجاء جارودي منهمكاً في أوحال الشرك والوثنية والكفر، وكان منظراً بالإلحاد قبل إسلامه، فلما أسلم عقدوا له مؤتمراً إسلامياً عظيماً في القاهرة، وجلس بجواره المشايخ عن اليمين وعن اليسار، ووجهت الأسئلة من المغفلين إلى رجاء جارودي أن يفتيهم في الاعتقاد، وفي الصلاة والصيام والزكاة والحج، وأنا أقسم بالله أنه إلى ذلك الوقت لا يحسن الوضوء ولا الصلاة! فكيف يستفتى في أمور العقيدة؟! وإن الطالب الذي لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه القلم لهو أفقه في دينه من رجاء جارودي، لكن لما كان رجاء جارودي نجماً وصاحب شرف في وثنيته كان لزاماً على المغفلين من المسلمين أن يجعلوه -وفي لحظة إسلامه- نجماً في الإسلام والتوحيد والإيمان، ويجعلوه منظراً لأهل الإيمان والتوحيد، ما هذه الغفلة؟ وما هذا البعد عن الهدى؟! ألم يكن لزاماً على الجارودي وأمثاله إلى يومنا هذا أن يبركوا على الركب عند أهل العلم وطلاب العلم؛ حتى يعلموا كيف يصلون، وكيف يتوضئون، وكيف يصومون إذا أتى عليهم رمضان، وكيف يحجون إذا أتى عليهم موسم الحج، وماذا يجب عليهم أن يعتقدوا في ربهم تبارك وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؟ إن رجاء جارودي يجهل هذا كله؛ ولذلك يعجبني أشد العجب أن شيخنا ابن باز رحمه الله لما سئل عن أقوال قالها رجاء جارودي في إسلامه: أليست هذه الكلمات -يا إمام- مخرجة من الملة؟ قال: ومتى دخل جارودي في الإسلام حتى يخرج منه؟! هذا الرجل البصير علم من هذا الرجل هذا، وهذا شأن العلم، فـ رجاء جارودي وأمثاله ينبغي أن يبركوا على أنوفهم وعلى هاماتهم، ويطئوا بها الأرض طلباً للعلم، لكن ضحك عليه الضاحكون المغفلون الذين يعتقدون أن التقريب بين الأديان واجب، وأقلهم وطئاً قال: جائز، فصدروا رجاء جارودي لهذه المهمة، فجلس رجاء جارودي وكوَّن مجمعاً عظيماً اسمه: مجمع تقريب الأديان، نقول: إن الدين واحد والشرائع مختلفة، ونسخت بشريعة النبي عليه الصلاة

للرجال فقط [2]

للرجال فقط [2] لقد جاء في الكتاب والسنة ذم أصحاب الهوى والبدع والضلال والتحذير من مخالطتهم، والهوى هو كل ما يميل عن الحق، فتجد صاحبه يقدمه على قول الله وقول رسوله، ولأصحاب الأهواء والضلالات علامات وسمات يعرفون بها، وهم أصناف شتى، فليحذر المسلم من هذه الطوائف إيثاراً لسلامة دينه.

معنى الهوى

معنى الهوى الهوى في اللغة: هو الميل والعدول والنزوع إلى ما تهواه النفس، يعني: متابعة النفس على ما تهواه، لا على الكتاب والسنة. والهوى في الاصطلاح: هو الميل عن الحق، وعن طريق السنة، ويشمل هوى الاعتقاد، وهوى العمل، وهوى الشبهات والشهوات، كلها أهواء. والأهواء نوعان: منها ما هو واضح جلي لا خلاف عليه، ومنها ما هو دقيق صغير لا يكاد يعرفه إلا المتخصص. والهوى الجلي ينفر منه الطيب النقي بطبعه، أما الهوى الدقيق الذي لا يتبين لأول وهلة فإن معظم الأهواء تقع من هذا النوع، خاصة وأن كثيراً من المسلمين يتبعون العاطفة التي تتدرج بهم شيئاً فشيئاً؛ حتى يتمكن الهوى من قلوبهم. وقلنا: إن الهوى حكمه أنه هوىً عارض، وهوى مستقر. فالهوى العارض: هو الذي يزول بقوة الإيمان وبيان الحجة واستظهار الدليل والبرهان، وهذا أمر يسير، لأنه ما هو إلا شبهة أو شهوة خطرت بالقلب والعقل، وسرعان ما زالت بالحجة والبرهان والدليل، فإن هذا لا يحاسب الله تبارك وتعالى العبد عليه، أما الهوى الذي استقر في العقيدة والقلب، فيكون صاحبه على بدعة خطيرة جداً؛ فإنه يختلف باختلاف ما إذا كانت هذه البدعة مكفرة أو مفسقة فقط.

علامات أهل الأهواء وسماتهم

علامات أهل الأهواء وسماتهم

مخالفة أهل الأهواء للسنة

مخالفة أهل الأهواء للسنة أما سمات أهل الأهواء وعلاماتهم فإنها كثيرة جداً نختصر منها شيئاً يتناسب مع المقام، فالفرق بين الهوى والهدى، وبين السنة والبدعة يتميز بملامح كثيرة: منها: أن صاحب الهوى مخالف للسنة؛ لأن السنة ليست هوى، وإنما هي أدلة ونصوص، وصاحب الهوى لا يتبع النصوص وإنما يتبع الرأي، فصاحب الهوى مخالف بأي أنواع المخالفة؛ سواءً كانت هذه مخالفة في العقيدة، أو في العمل، أو في السلوك، أو في الأخلاق، أو في الآداب، حتى ولو ظهر منه مظهر الصلاح والتقى والبر، ولو برر هواه بشتى أنواع المبررات، فإنه يكون مخالفاً لكلام أهل العلم الذين يقتدى بهم في دين الله تبارك وتعالى. هذه أول علامة على أصحاب الهوى: أنهم مخالفون للسنة متبعون للبدع.

الانعزال عن أهل العلم والفقه في الدين

الانعزال عن أهل العلم والفقه في الدين المعلم الثاني: أن صاحب الهوى يعرف بانعزاله عن أهل العلم والفقه في الدين، وأنتم تعلمون أن واصل بن عطاء البصري كان تلميذاً في حلقة الحسن البصري، فلما دخل داخل ووجه سؤالاً للحسن: يا إمام! ما تقول في صاحب الكبيرة؟ فكان أدبياً وأخلاقياً وسلوكياً أن يسكت الجميع حتى يتكلم المسئول، ولكن صاحب البدعة يطل بقرنه هكذا من وسط أهل السنة، فقام واصل بن عطاء وقال: صاحب الكبيرة ليس كافراً ولا مؤمناً، وهو مخلد في النار، فهو في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وخلوده ليس كخلود الكفار الأصليين، والحسن ساكت. ولم يكتف واصل بذلك، بل أخذ ثيابه وانصرف في مؤخرة المسجد -أخره الله تعالى- وأخذ زاوية منه وجلس، وقام من مجلس الحسن أصحاب الهوى وجلسوا مع واصل، فتأسف الحسن لذلك أشد الأسف وقال: اعتزلنا واصل، فسموا المعتزلة بتسمية الحسن البصري لـ واصل بن عطاء، فأنت تجد أن أصحاب الهوى ليسوا من طلاب العلم، وإلا فاذكر لي صاحب هوى الآن في هذا الزمان، واذكر لي على يد من طلب العلم، وهل برك وتمرغ في التراب على أبواب وأعتاب أهل العلم؟! كان أبو موسى الأشعري إماماً في العلم والدين والفقه، وهو من كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الذي أكبر منه في دين الله وفي العلم والفقه هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود، فـ أبو موسى الأشعري لما رأى قوماً قد تحلقوا حلقاً في مسجد الكوفة أنكر هذا الوضع أيما إنكار، ولكنه لم يتكلم، فذهب إلى بيت عبد الله بن مسعود، ولم يطرق عليه الباب أبداً حتى خرج إليه - أي: في صلاة الظهر - فلما خرج إليه قال: من؟ أبو موسى؟ قال: نعم. قال: ما الذي جاء بك، وما الذي منعك أن تطرق علينا؟ قال: انتظرتك يا إمام حتى تخرج. قال: وما الذي جاء بك؟ قلت: رأيت أمراً منكراً، رأيت أن ناساً قد تحلقوا حلقاً في مسجد الكوفة، وجعلوا على كل حلقة كبير من يلقي إليهم الحصى ويقول: كبروا مائة فيكبرون، سبحوا مائة فيسبحون، هللوا مائة فيهللون. ومع أن هذا تكبير وتسبيح وتهليل، لكن هذه الكيفية ليس للصحابة عهد بها، فقال عبد الله بن مسعود لـ أبي موسى الأشعري: هلا أنكرت عليهم؟ قال: انتظاراً لرأيك يا إمام! وكان بإمكان أبي موسى وهو من كبار أهل العلم أن ينكر، ولكن أهل العلم درسوا على أنهم لا يتكلمون في قرية فيها من هو أعلم وأفقه، وكانوا يجعلون مدار الفتوى والعلم والتدريس لكبار القوم، وليس لصغارهم وطلابهم، فذهب إليهم عبد الله بن مسعود ووقف على رءوسهم وقال: ما هذا الذي تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! والله ما أردنا به إلا الخير. قال: كم من مريد للخير لم يدركه، فإما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد -يعني: أن الله تعالى أطلعكم على خير قد حجزه عن نبيكم وعن أصحابه- وإما أنكم مفتتحو باب ضلالة. فهب أننا رأينا هذا المنظر في بيت من بيوت الله، وقال واحد منا ما قاله ابن مسعود لاتهمنا الحاضرون بالتزمت والتشدد والانحراف وغير ذلك، والغلظة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، حتى قال الراوي: فوجدنا هؤلاء -أي: الذين تحلقوا وذكروا الله- يوم النهروان يقاتلوننا بالسيف. وذلك لأن الهوى قد تمكن من قلوبهم آنفاً، ألا تعلمون أن أشد الناس خطراً في دين الله عز وجل هم الخوارج والشيعة؟ أوما علمتم أن الخوارج أشد الناس عبادة في دين الله عز وجل، ولكن هيهات هيهات! هيهات هيهات! حتى أجمع أهل العلم على أن الخوارج لا يكذبون؛ لأنهم يكفرون بالمعصية والكذب معصية، فلو أنهم كذبوا لحكموا على أنفسهم بالكفر، بخلاف الرافضة فإن السمة البارزة عليهم الكذب ويسمونه: التقية. فاعلموا -أيها الكرام- أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنه سيظهر أقوام في أمتي تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). يعني: لا عبرة بصلاتهم وصيامهم؛ لأنها تكلف وغلو في دين الله عز وجل، وكل بدعة قامت على الغلو، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه). وقال: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين). وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] (لا تغلوا) أي: لا تغالوا في دينكم. فصاحب الهوى يعرف بانعزاله عن حلقات العلم، وعن أهل العلم، فإن الذي استقى ما عنده من غير طريق أهل العلم يكون استقاه من هواه، ومن مزاجه ووجده. ولذلك فإن طالب العلم لا يجوز له أن يعتد بعلمه، ولا أن يفاصل أهل العلم ويتميز عنهم بأي نوع م

شدة الخصومة

شدة الخصومة وأما العلامة الثالثة من علامات أهل البدع وأصحاب الأهواء: فإنها شدة الخصومة، فبعد أن تقام عليه الحجة يلج في الخصومة، وبعد أن يبين له البرهان ينتكس مرة أخرى؛ لأن قلبه قد أشرب بالهوى، حتى لو أقر واعترف بالحق الذي مع صاحب الحق، فإنه يرجع عنده، ويتردد في قبوله مرة أخرى.

التكلف والتمحل في الانتصار

التكلف والتمحل في الانتصار العلامة الرابعة من علامات أهل الأهواء: التكلف والتمحل في الانتصار، والاستدلال بكل دليل، بل ولي أعناق الأدلة حتى تخدم هواه؛ بإخراجها عن المراد منها، والتفرد بمعاني الأدلة عن أقوال أهل العلم المختصين بها. إن صاحب الهوى يقرأ دليلاً ويفهم منه فهماً يخالف فيه أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ومع هذا يعتد بهذا الفهم الذي خالف فيه، ويدع إجماع أهل العلم قديماً وحديثاً. فيقول: أنا عقلي كعقولهم، وأنا رجل وهم رجال، وأنا شيخ وهم شيوخ، وهذا الكلام الذي نسمعه بين الحين والحين، وفي مسجد تلو مسجد.

لمز أئمة الدين

لمز أئمة الدين العلامة الخامسة من علامات أصحاب الأهواء هي: لمز وغمز أئمة الدين، إن لم يتب ويعلن صراحة فإنه يغمز ويلمز ويعرض، ويلوح ببعض الفتاوى لأهل العلم، ويقول: هذا الذي يفتي الناس في النوازل وغيرها، وهذا الذي يشار إليه بالبنان، ويقال: إنه من أئمة المسلمين قال في يوم كذا: كذا وكذا، وقال في حديثه كذا وكذا، وعلى أية حال، وإن كان هذا الرجل رجلاً له احترام وتبجيل وتعظيم فإنه رجل ونحن رجال، وكلانا يقبل من قوله. سبحان الله! طالب علم صغير، ولم يبلغ الثلاثين من عمره وذاك الشيخ قد قارب المائة، ومع هذا يسوي نفسه به، ويقول: وهذا الشيخ مع جلالته وإتقانه وحفظه وخدمته للإسلام، وسبقه في العلم والعمل والعبادة، إلا أنه يخطئ ويصيب، وقد أخطأ في هذا القول، وهذا الشيخ إنسان غير معصوم وهو مأجور! فيا له من غمز ولمز لأهل العلم! نعم هذا القول جائز في العموم، لكنه جائز بين أهل العلم وليس بين أهل العلم وطلاب العلم الصغار.

التعالي والتعالم والغرور والاستقلالية

التعالي والتعالم والغرور والاستقلالية والعلامة السادسة: التعالي والتعالم والغرور والاستقلالية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان). هذه علامة أهل الأهواء والبدع، تراه متكئاً شبعان قد ملأ بطنه، (يأتيه الأمر من أمور الحلال والحرام فيقول: ما وجدنا في كتاب الله حراماً حرمناه، وما وجدنا في كتاب الله حلالاً أحللناه، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). فهذا الرجل صاحب الهوى يقول: قال أحمد بن حنبل في المسألة كيت وكيت وكيت. وأنا أقول كيت وكيت وكيت. ثم يقول: هذا رأيي ومن كان عنده غير ذلك فليأتني به وهيهات! ثم يقول: لقد ظهر لي بحمد الله ما لم يظهر لأئمة الدين، تصور الكلمات التي تقرؤها في كتابه، وتأمل صاحب الكتاب فإنك ستجده إنساناً مغموراً محفوراً لا أحد يعلم به لا من الإنس ولا من الجن، فهذا جزاؤه الضرب بالنعل، لكن لما انتشر التصنيف في عصر الفوضى، كان لكل من هب ودب أن يتكلم في دين الله؛ وذلك لأن الدين مرتع له، فلا يستطيع أحد أن يتكلم في الطب أو الهندسة أو الفيزياء أو غير ذلك من علوم الدنيا، ولكن الشرع ساحة بلا حارس، ومن عجز عن الكلام في غيره فليتفضل، ولينتهك ولينهش. وفوق هذا يقول: هذا وأظنني غير مسبوق بها، وقد أتيت بما لم تأت به الأوائل.

المخالفة في منهج الاستدلال والتلقي

المخالفة في منهج الاستدلال والتلقي العلامة السابعة من علامات وملامح أهل الأهواء: اختلافهم في منهج الاستدلال والتلقي. إذا أردت أن تستدل على شيء بدليل؛ فإنك تقول: قال الله قال رسوله، تستدل بالمنقول، وصاحب الهوى لا علاقة له بالمنقول ولا علاقة له بالنصوص، فتراه يستدل بالآراء، قال أهل العلم: إياكم وأرأيت؟ أو رأيت إياكم وإيانا. فصاحب الهوى منهجه في الاستدلال والتلقي منهج يخالف منهج أهل السنة والجماعة؛ لأنه يقول: إني أرى، وإني رأيت، وإن هذا الأمر معقول، وهذا غير معقول، هذا يدخل في عقلي ويستوعبه، وهذا لا يدخل فيه ولا يستوعبه، ولذلك أنا أقبل هذا، وأرد هذا بعقلي، أما أهل السنة والجماعة فإن منهجهم في الاستدلال ما قاله ابن القيم رحمه الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فمنهج التلقي عند أصحاب البدع: قال الشيخ الفلاني، وقالت الطائفة الفلانية، وقال به الجماعة الفلانية، أي: قالت جماعتي وطائفتي وشيخي. يا فلان! هذه الجماعة خالفت كتاب الله في قول كيت، وخالفت سنة النبي صلى الله عليه وسلم بقول كيت؟ فيقول: أنا لا أعرف شيئاً من هذا، يكفيني أن آخذ على الشيخ الفلاني؛ لأنه شيخ الطائفة، أو شيخ الجماعة، أو شيخ الفرقة، أو شيخ المجموعة، أو الفئة من الناس أو غير ذلك، منهجه في التلقي يختلف عن منهج أهل السنة والجماعة، فيجعل قول شيخه وجماعته وطائفته فيصلاً في القضية المطروحة، وكذلك أصحاب الأهواء جميعاً.

الاستهزاء في الاستدلال بكلام أهل العلم وأخذه إذا وافق الهوى

الاستهزاء في الاستدلال بكلام أهل العلم وأخذه إذا وافق الهوى العلامة الثامنة: الاستهزاء في الاستدلال من كلام أهل العلم، بل من كلام الله تبارك وتعالى بما يحلو لهم، ويتفق مع هواهم وبدعتهم. ترى كثيراً ممن يتكلمون بكلام يريد أن يؤيد هواه وبدعته، فيقول: يا أخي! شيخ الإسلام ابن تيمية قال: يجوز حلق اللحية لمصلحة الدعوة، تقول: وأين قال ابن تيمية هذا الكلام؟ يقول: في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) وأنت سترى هذا بعينيك وتقرؤه بنفسك، فإذا بك تقرأ بعد أن ملئوا الدنيا صياحاً وضجيجاً أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد أفتاهم كتابة ونقلاً عنه أن الواحد له أن يتحلل من مظهره كله، يقول: ولو أن مسلماً في بلاد حرب، يخشى على دينه، ويخشى على نفسه من مظهره الذي يدل على التزامه بدين الله تبارك وتعالى فله أن يتخلى عن مظهره، وأن يحاول الفرار من هذه البلاد إلى بلاد يتمكن فيها من إظهار ذلك. فلو أنك قرأت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية برمته لعلمت أن الفتوى مستقيمة على منهج السلف في الاستدلال، ولكن صاحب الهوى انتزع منها ما يوافق هواه، ثم ينسب هذا لإمام من أئمة الدنيا ثقة عندك وعنده، وإلا لما استدل بكلامه، بل أنكره أصلاً. وتجد أن الواحد منهم يبغض الشيخ الفلاني، أو الشيخ العلاني أشد البغض، ويتهجم عليه في محاضراته ودروسه وخطبه، وإذا قال الشيخ قولة واحدة توافق هواه يقول: ألم يقل الشيخ الألباني بجواز كشف الوجه والكفين؟ أليس هذا هو شيخكم المبجل الذي هو المرجعية والمنظر عندكم؟ نقول: نعم. وهذه المسألة مما اختلف فيها أهل العلم، ووسع السلف الخلاف فيها، فنحن لا نحرج على الشيخ وعلى من قال بغيره، وإن كنا نعتقد وجوب الستر إلا أن الشيخ له أدلته، ولم يصدر هذه الفتوى عن هوى، ويكفيك أن تعلم أن معظم أهل العلم وجماهير أهل العلم قالوا بجواز الكشف، لكن الذي يترجح خلاف ذلك، وعلى أية حال: المسألة واسعة إن شاء الله، فانظر إلى هذا الرجل الذي يكره الألباني ويبغضه على كل خط ومدار إلا في هذا الأمر، فيقول: والله نحن نأخذ بفتوى الشيخ الألباني في هذا، فما هو سر هذا التمسك؟ سره أنه وافق عندك هوى، ولو كنت تمسكت بهذا لاستظهار الأدلة عندك لقلنا لك: أنت مأجور عند الله عز وجل، وليس الأمر كذلك. أو أن صاحب الهوى يأخذ من كتاب الله تبارك وتعالى نصوص الوعد ويترك نصوص الوعيد، أو يأخذ الوعيد ويترك الوعد، أو لا يحمل المطلق على المقيد، أو الخاص على العام، أو لا يقول بالنسخ في القرآن والسنة، أو غير ذلك، ويتغافل عن قواعد الشرك المبنية على النصوص العامة، ويأخذ من النصوص ما يتوجه أن يكون حجة له، لا حجة عليه ويدع الباقي؛ لأنه يعلم أن الزيادة المتروكة حجة لغيره، وهذا بخلاف منهج السلف. كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن الحق معه. هل فينا واحد مهما بلغت استقامته بلغ هذا المبلغ؟ يقول الشافعي ذلك لأنه يضمن لنفسه أن يرجع إلى الحق وأن يقبله، ولا يضمن لغيره، فيا ليت أن خصمي معه الدليل والحجة والبرهان، يا ليتني أستدل له بالمنسوخ ويكون معه الناسخ الذي لم يبلغني، يا ليتني أكون متمسكاً بالعام ومعه المقيد، يا ليتني متمسك بالمطلق ومعه المقيد، وغير ذلك؛ لأني أضمن نفسي - أي: الشافعي - ولا يضمن غيره، فيقول: وددت لو أن الناس تعلموا، ثم لم ينسب إلي منه حرف واحد، وما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن الحق معه. ويقول كذلك: إذا ناظرت أحداً فربما يكون قولي حقاً، وكلامه أحق مني. وقد وردت رواية أخرى عنه تقول: قولي صحيح يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب. وأما نحن فإن أقوالنا كلها صحيحة، وأقوال الأئمة بأسرها خطأ، فيا أخي المسلم! إن سمعت من عالم فتوى فاحمله على أحسن المحامل حتى تجد له في الخير محملاً، إذا سمعت كلاماً لأخيك فاحمله على أحسن المحامل والوجوه. وشى رجل بـ الربيع بن سليمان المرادي -تلميذ الشافعي - عند الشافعي، فلما بلغت هذه الوشاية الربيع هرول إلى الشافعي وقال: يا إمام! والله ما قصدتك بذلك. قال الشافعي: والله لو أنك قلته في وجهي لعلمت أنك لا تقصدني. فأهل الأهواء لا يحسنون الظن بخصومهم حتى وإن كانوا من كبار أهل العلم، ويتصيدون الأخطاء، وإن رجعوا عنها في مواطن أخرى. فنجد مثلاً: أن بعض أهل العلم في زمن من الأزمنة قد صنفوا كتباً، وتكلموا بكلام، وربما أخطئوا فيه في مكان، فاستدركوا ذلك في نفس الكتاب في مكان آخر، وربما لا يدرون أنهم قد أخطئوا من قبل، ولكن ظهر لهم ما كان قد خفي فصححوا في مواطن أخرى. أو أن القائل تكلم بمقولة يؤاخذ بها فاعتذر عنها وتاب منها، فيأتي من يأتي بعد ذلك، ولا يلتفت إلى هذا الاعتذار، ولا إلى توبة المخطئ من خطئه، ويشن الحرب الشعواء الضروس عليه، ويقول: هو أشد على الإسلام من اليهود

الحرص على مواطن الإشكال وغرائب النقول والأقوال

الحرص على مواطن الإشكال وغرائب النقول والأقوال ومن علامة أهل الأهواء كذلك: الحرص على مواطن الإشكال، وغرائب النقول والأقوال، تجدهم يتقعرون في مقولاتهم، ولا يتكلمون بكلام واضح، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم مع أصحابه، ومع من أتوا من البادية، أو من هنا وهناك، كان السائل يسأل السؤال فيأخذ جوابه وينصرف دون أن يسأل عن التفسير إلا ما ندر؛ ولذلك إذا راجعت تفسير النبي عليه الصلاة والسلام لكتاب الله لا تكاد تجد أنه فسر إلا بعض الآيات من كتاب الله عز وجل، ولم يفسر القرآن كله؟ لأنه نزل بلغة العرب، والنبي عليه السلام تكلم بلغة العرب، فكانوا يفهمونه أحسن الفهم، وينطلقون دون أن يستبينوا معاني الكلمات، فما الذي يمنعك -أيها العبد- أن تتكلم بلغة يفهمها أهل زمانك وأهل عصرك؟!

البعد عن العدل في الحكم

البعد عن العدل في الحكم ومن علاماتهم كذلك: البعد عن العدل في الحكم، إذا حكموا لا يعدلون، وإذا تكلموا لا ينصفون، ويتناسون الحسنات، ويذكرون السيئات، ويخوضون في الأعراض -أي: في أعراض أهل العلم على جهة الخصوص- ويقولون: ليس منهج أهل السنة والجماعة الموازنة بين الحسنات والسيئات، هكذا يدعون. وعجبي أنهم لم يطلعوا على قول الله عز وجل وقد أثنى أولاً على أهل الكتاب، فقال سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75]. فأثنى على من استحق الثناء منهم أولاً، ثم ذكر المعايب بعد ذلك، فإن المرء إنما يوهب لما غلب عليه، فإن كان الأصل فيه الفساد والشر والانحراف والهوى؛ فإنه يكون صاحب هوى وإن صدق وعدل في قول أو قولين أو ثلاثة، فليس صاحب البدعة إذا وافق أهل السنة وأهل الالتزام وأهل الاستقامة في مسألة أو مسألتين معناه: أن يكون صاحب سنة، بل هو صاحب بدعة؛ وذلك لأن موافقته للسنة في بعض المسائل لا تقدم الكم الهائل في بدعته. كما أن صاحب السنة إذا أخطأ في مسألة أو مسألتين، ووافق فيها أهل الأهواء وأصحاب البدع؛ فإنه يعذر في هذا ويقال: أخطأ فيه، ولا يقال: إنه ابتدع، وإنه خرج عن منهج أهل السنة والجماعة، فيبين خطؤه مع بقائه على أصله في الاستقامة والاعتدال، هكذا منهج أهل السنة والجماعة أنهم يعدلون في أحكامهم، وينصفون في أقوالهم، ويذكرون الحسنات والسيئات إن دعت الضرورة إلى ذلك، ويلتمسون الأعذار لأهل الأعذار، ويبررون المواقف، ويحسنون الظن خاصة بأهل العلم.

الإغراق في الجزئيات وإهمال الكليات

الإغراق في الجزئيات وإهمال الكليات ومن علامات أهل البدع والأهواء كذلك: الإغراق في الجزئيات، والتغافل عن الكليات، والانشغال بها، وصرف الوقت في تحصيلها، ويجعلون من مسألة ما دينه كله الذي يشغل حياته، فيدخل فيما لا يعنيه، فالدخول فيما لا يعني من سمات وملامح أهل الأهواء، فلو أن عالماً قد اختلف مع عالم آخر لوجدت أن طلاب العلم الصغار الذين لا يلزمهم الخوض في هذه القضية ينشغلون أشد الانشغال، ويسيرون بهذه المسألة يمنة ويسرة، ويطيحون بها في كل واد، ويرتفعون بها على قمم الجبال، فيسألون: الحق مع من؟ ما القول الفصل في هذه القضية؟ ويظل يسأل، ثم يسمع الجواب، ويسأل ثانية، ويسمع الجواب، وعاشرة ومائة وألفاً، هل أنت مكلف بهذا؟! أنت مكلف أن تبحث عن دينك، أنت مكلف أن تتعلم أصول اعتقادك، وأصول الشرائع من صيام وصلاة وزكاة وحج وغير ذلك، أنت قد أفنيت عمرك في البحث عن مسألة واحدة، هل هذا منهج سلفي يا من تدعي أنك سلفي؟! وإن كان الكبار يلامون على ذلك أيضاً، ولكن الصغار أشد لوماً؛ لأنهم قد صرفوا حياتهم، وبذلوا أوقاتهم في البحث عن مسألة واحدة، وربما تكون هذه المسألة من جزئيات الجزئيات التي لو تركتها لا تلام بين يدي الله عز وجل. الكثير من الشباب يشغل نفسه بالفتن الواقعة على الساحة، أنت لست مطالباً بهذا يا أخي، فإن كلام الأقران يطوى ولا يروى، ولا عبرة بقول كل واحد منهما في الآخر، وإنما العبرة في بحثك أنت عن الحق، فابحث عنه عندما تثق به مرة واحدة ويكفيك، وتعذر بهذا أمام الله عز وجل. أما إغراق الوقت واستيعابه في البحث عن جزئية؛ فهذا من الأمور العصرية المنكرة، بل والمنكرة جداً، فاتقوا الله تبارك وتعالى أيها الشباب.

الوقوف على مسائل الخلاف ومنازع الاجتهاد

الوقوف على مسائل الخلاف ومنازع الاجتهاد والعلامة الثالثة عشرة: الوقوف على مسائل الخلاف والإشكاليات، ومنازع الاجتهاد، والمفارقة في ذلك، وإشاعة ذلك بين الخاصة والعامة.

اتخاذ المواقف المزرية فيما يجوز فيه الخلاف

اتخاذ المواقف المزرية فيما يجوز فيه الخلاف والعلامة الرابعة عشرة: اتخاذ المواقف المزرية المخزية من مخالفيهم فيما يجوز فيه الخلاف شرعاً، وعدم قبول معذرتهم، كقضية الخمار والنقاب، ووجوب قراءة الفاتحة من عدمه في الصلاة، وهل تدرك الركعة بإدراك الركوع أم لا؟ وهل البسملة آية من كل سورة أو من الفاتحة؟ ووضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع سنة أو بدعة؟ فتجد الشخص يقابل هذه السنة بسؤال، وفي السنة الثانية يأتي بنفس السؤال، والسنة التي بعدها يأتي بنفس السؤال, ومن المفترض أنه لقي غيرك؛ فتسيء أنت به الظن أنه لا يسأل أحداً من أهل العلم إلا عن هذه المسألة. فقد سألني سائل في مسألة: هل وضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع سنة أم بدعة؟ فقلت له: يا أخي الكريم! الشرك على أنواع، أتعرفها؟ قال: لا والله، قلت: هذا أوجب عليك مما تسأل، انصرف.

عقد الولاء والبراء على البدعة والهوى

عقد الولاء والبراء على البدعة والهوى العلامة الخامسة عشرة من ملامح أهل الأهواء: أنهم يعقدون الولاء والبراء على هواهم وعلى بدعتهم، ويتعصبون لجماعتهم وينتمون إليها في مشربهم، وفي نزعاتهم الشخصية والخلافات، كما كان الأمر كذلك في الجاهلية تماماً. فأي تحزب يضعف الولاء لله عز وجل؛ وذلك لأنك اجتزأت من ولائك لله جزءاً لجماعتك، ونحن نسمع كثيراً أننا إذا قلنا لفلان: ما الحكم الشرعي في المسألة الفلانية؟ قال: جماعتي قالت كيت، وشيخنا قال كيت، أو يقول: أميرنا قال كيت، وهكذا جعل جزءاً من الولاء له، فضعف ولاؤه لله عز وجل، حتى إذا خالف ذلك الأمير أمر الله تعالى وأمر رسوله قدم أمر الأمير على أمر الله ورسوله.

التصدر للفتوى في النوازل

التصدر للفتوى في النوازل ومن ملامح أهل البدع: أنهم يبرزون ويظهرون في النوازل والكوارث التي لا يجوز أن يظهر فيها إلا أهل العلم، أي نازلة ومصيبة تنزل بالمسلمين تجدها تطل بقرونها على رءوس كثير من طلاب العلم الصغار، فترى كل واحد منهم يموج في أرجاء المعمورة بهذه الفتنة، فإن قيل له: هل أنت مكلف بهذا؟ يقول: هذا أمر المسلمين، ومن لم يهتم بهم فليس منهم، ويحفظ لك قليلاً من الأدلة والنصوص، منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هو موضوع؛ حتى يبين أنه صاحب الهم الأعظم، وأنه قد أحيل إليه الفصل في هذا النزاع، وفي هذه الفتن والملمات.

التعصب لغير شعارات وأصول أهل السنة والجماعة

التعصب لغير شعارات وأصول أهل السنة والجماعة ومن ملامحهم كذلك: التعلق والتعصب لشعارات غير شعارات وأصول أهل السنة والجماعة، واتخاذ مناهج في الدين تخالف منهج أهل السنة والجماعة، وأنا أظن أن هذا كاف في إثبات العلامات، وإن كانت العلامات أكثر من ذلك.

أصناف أهل الأهواء

أصناف أهل الأهواء أما أصناف أهل الأهواء فكثيرة جداً نختصر البعض منها:

العلمانيون

العلمانيون الأول مثلاً: (العِلمانيون) والتسمية الصحيحة: (العَلْمانيون) نسبة إلى العالم، لا العِلمانيون نسبة إلى العلم؛ لأن النسبة إلى العلم شرف، وأما النسبة إلى العالم فإنها معرة وخسة ونذالة وانحطاط فكري؛ لأن النسبة إلى العالم علماني كالنسبة إلى الدهر دهريون. والعلمانيون هم أصناف وفئات وطبقات كثيرة جداً، وأشكالهم لا يعلمها إلا الله عز وجل، وتجمعاتهم كثيرة بدأت في بلاد الغرب، ثم في بلاد أمريكا، وانتشرت في بلاد المسلمين، بل وتمسك كثير من المسلمين بالعلمانية أكثر من تمسك العلمانيين الأصليين بها؛ فإنهم قد يتخلون عن مبادئهم بعد إثبات فسادها وبيان ضعفها، ولكن المسلمين وفاءً للغرب الكافر لا يتنازلون عنها، كنظرية داروين -مثلاً- الذي ثبت فشلها وكذبها في بلاد الغرب أجمع، وتخلوا عنها وتركوا تدريسها في المدارس، ولكن المسلمين لا يزالون وفاءً للغرب يدرسون هذه النظرية البائسة التعيسة التي تخالف دين الله عز وجل في خلق الإنسان. وهكذا الديمقراطية، ومعناها: أن الناس يحكم بعضهم بعضاً، فلا حكم إلا للناس على الناس، أما حكم الله تبارك وتعالى فقد جعلوه وراء ظهورهم. فتجد الناس يلهجون بها هنا وهناك، بل وبعض الجماعات الكبيرة التي لها ثقل عظيم تبنت كبر هذه القضية، وكتبوا فيها المقالات والكتب، يقولون: الديمقراطية في الإسلام، عنوان جذاب وخطير، يراه المرء لأول وهلة فيقول: نعم هناك ديمقراطية في الإسلام، مع أنه لا يعرف معنى الديمقراطية أصلاً. فبعض الناس يتصورون أن المسلم يسعه أن يكون ديمقراطياً أو اشتراكياً أو علمانياً، إذا كان هذا ظنك بكل مسلم، فما المانع أن تتصور في المستقبل أنه يسع المسلم أن يكون كافراً؟! والعلمانيون في بلادنا قد أخلصوا كل الإخلاص لأسيادهم في بلاد أوروبا، ذهبوا إلى هناك بحجة دراسة العلوم الدنيوية، أو حتى العلم الشرعي، وإن المرء ليعجب أشد العجب ممن يذهب إلى فرنسا ليأخذ الشهادة في الأدب العربي، أو الشهادة في التفسير، أو الشهادة في علوم السنة، أو غير ذلك، أو يذهب إلى أمريكا أو أي دولة من دول أوروبا، وربما يكون هذا مقبولاً إذا كان هذا فيه علم من علوم الدنيا؛ لأنهم أخذوا علمنا وفاقوا علينا به ومن خلاله، فأصل تقدم أووربا كله نابع من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن اجتهاد أهل العلم السابقين في الإسلام. وهذا أمر لا ينازع فيه الغرب الآن، وآخر صيحة الآن يرجعون إليها هي: الطب بالأعشاب، فالغرب الآن بأجمع أدرك فساد هذه العقاقير الطبية، وهو يميل الآن إلى استخلاص هذه العقاقير من الأعشاب الطبية. ولا شك أن هذا الأصل عندنا، وكل أصل أخذوه منا، وبرعوا وتفننوا فيه ونحن نيام، نسأل الله أن يوقظنا. فتجد أن الواحد منهم يذهب إلى الدراسة هناك، ويتحول بزاوية (180) درجة، ويأتي بحرب شديدة شعواء على الإسلام وأهله، فيحتقر ويسترذل ويستدني كل مظاهر الإسلام والمسلمين، وينظر إليهم شزراً كأنه لا يعرفهم، وكأنه ليس منهم، بل ينظر بهذه النظرات إلى أبيه وأمه وإخوته وأبنائه، ويرميهم بالجهل والتخلف وغير ذلك، ثم يتطرق إلى الكلام في الدين وأن مظاهر الديانة تخلف ورجعية وغير ذلك، ولا أريد أن أذكر أسماءً؛ لأن الأسماء كثيرة جداً، فأعظم الشهادات العالية المرفوعة في البلد حصل عليها الأستاذ الدكتور الفلاني رئيس قسم كذا في كلية كذا في جامعة كذا، وهو علماني بحت، ويقول كلاماً أنا أتعجب لماذا لا يكفر نفسه؟! هذه ورقات قد طبعها بعض الطلاب في كلية من الكليات لهذا الأستاذ الدكتور، فانظروا ماذا يقول؟! يقول في يوم السبت الموافق: (11/ 10/97) محاضرة الفرقة الثالثة: ما هذا الكرسي الذي يقولون عنه: إنه وسع السماوات والأرض؟! ما هو مقداره؟! وهل من اللازم وجود هذا الكرسي؟! ويوم الثلاثاء: (14/ 10/97) محاضرة الفرقة الرابعة قال في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]: ما أدراني إن كانت الأسماء أسماء آدميين أم فاكهة؟ وعلى العموم أنا لا أحب إلا التفاح والعنب! استهزاء وسخرية بكتاب الله. ثم يقول: ستجد نبياً ولد تحت التين والزيتون فوضعوا التين والزيتون في الآية، وإلا لماذا لا يقول: خيار وبطيخ وشبرى، لا أعرف ما علاقة الفاكهة بالمكان؟! ثم قال يوم الثلاثاء: (21/ 10/97) في محاضرة الفرقة الرابعة: من هذا الأهبل الذي قال لكم: إن الصحابة كانوا مؤمنين بصدق؟ إنما كانوا خائفين أن يقتلوا؛ فقالوا: نقول له الذي يريده، ونضع الصنم تحت السرير ونستريح. وقال يوم السبت (25/ 10/97) في محاضرة الفرقة الثالثة لطالبة محجبة: ما هذه الملاية التي تلبسينها؟! استمري على ذلك حتى يسقط شعرك وحينئذ تعرفين الحق! وفي يوم الثلاثاء: (28/ 10/97) في محاضرة الفرقة الرابعة قام بطرد طالبة منتقبة بدون سبب، وبعد خروجها قال: ترفع علي لسانها من تحت الفوطة، أنا لا أعرف ما هي المناظر التي تخفيها عنا؟! وقال في يوم السبت: (8/ 11/97) محاضرة الفرقة الثالثة: المسيح -عليه السلام- كان يركب الحمار، ويدلدل رجليه المقشَّفتين

الفرق الضالة

الفرق الضالة الصنف الثاني من أهل الأهواء: الفرق الضالة كالرافضة وفرقهم، والصوفية الحلولية والاتحادية وفرقهم، والبهائية والقاديانية والفابية، وهم موجودون اليوم بيننا، وللأسف لهم كلمة مسموعة وسطوة في بلاد كثيرة، وكذلك في بلادنا لهم كلمة مسموعة ويبجلون ويحترمون أشد الاحترام، بخلاف أهل السنة والجماعة، وتجاهلهم من أعظم الأخطاء التي تفتك بالأمة؛ لأن هذا الصنف يستعين بعدوك وبخصمك، فإذا بك تنظر في يوم ما أنه أكبر منك وأقوى، فلا تستطيع أن تحاربه، بل لا تستطيع أن تنقم عليه شيئاً من عقيدته أو مسلكه وخلقه؛ لأنك تخاف حينئذ، وأكبر دليل على ذلك انتشار الشيعة في بلاد العرب، وإذا أراد داعية أن يتكلم في محاضرة ما عن الشيعة الرافضة غمزوه وشدوا على ثوبه، وقد فعلوا ذلك معي عدة مرات، فقد تكلمت في محاضرة عن الالتزام بالسنة ونبذ البدعة، فأتاني رجل وأخذ أذني والتقمها وقال: يا شيخ! مالك وللشيعة، دعهم! قلت: أعندكم شيعة؟ قال: (20%) من السكان شيعة، فلو كانوا هؤلاء أقوياء بإيمانهم لما خافوا من الشيعة حتى لو كانوا (100%)، ولكن الذي يتخلى عن منهج الله ورسوله يجبن ويخاف من كل شيء حتى من الفئران والقطط. قد يقول قائل: لماذا تدرسون معتقدات هذه الفرق؟! أوليس قد مضوا وانتهوا؟! أقول: هذه الفرق الأصلية موجودة في زماننا، وستكون موجودة إلى قيام الساعة، وإن اختلفت أشكالها وألوانها ومسمياتها، وأنتم تعلمون الآن ما يطلق على ألسنة أهل العلم: المدرسة العقلية، فهذه التسمية شرعية ويقصد بهم المعتزلة، ومعظم الناس الآن يقعون بجهل في الإرجاء، تقول لأحدهم: صم يا فلان، فيقول لك: إن الله غفور رحيم، وسأدخل الجنة مباشرة، فتراه مفرطاً في العمل ويتمنى أن يدخل الجنة، ويتمنى على الله الأماني، وهذا كله ضلال وانحراف. والنبي عليه الصلاة والسلام كان رأس التكليف في هذه الأمة، فقد كان يصوم ويصلي ويزكي ويحج ويأتي بكل الطاعات حتى لفظ آخر نفس من حياته، وهو الذي غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا كان يقوم الليل نافلة حتى تورمت قدماه، وأشفقت عليه إحدى نسائه عائشة رضي الله عنها وقالت: أما غفر الله لك يا رسول الله! أشفق على نفسك، فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً). ولكن الأمة وقعت فيما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام.

أصحاب النزعات البدعية

أصحاب النزعات البدعية الصنف الثالث: أصحاب النزعات البدعية، وإن لم ينتموا إلى فرقة من الفرق، وهي نزعات في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، أو في كيفية الدعوة إلى الله عز وجل، أو في كيفية عبادة من العبادات، كأن تكون نزعة شخصية لشخص لا علاقة له بالصوفية ولا بغيرها، لكنه يبتدع بدعة لنفسه، ويتقرب بها إلى الله عز وجل، فهي طريقة في العبادة اخترعها من عند نفسه ليس عليها دليل سابق، ويزعم أنه يتقرب بها إلى الله عز وجل، فهذا كذلك صاحب هوى بعيد عن الدليل. ومما ساعد على انتشارهم سكوت بعض الدعاة عن نصحهم تأليفاً للمسلمين ولم الشمل بزعمهم، فلماذا لا يكون الشمل على أسس متينة من كتاب الله ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟! كم من بدعة أطلت برأسها وسكت عنها العلماء؛ لأنهم لا يستطيعون أمام الانتشار وهذا المد العظيم أن ينكروها أو يبينوا خطرها؛ ولأنهم إن أنكروا قامت الخلافات وتبادلوا سهام السباب والشتام. وقد بلغني أن كبير جماعة من الجماعات قال: والله أقسم بربي أن من ترك الخروج أربعين يوماً، أو ثلاثة أيام أو أربعة أشهر؛ فهو مشرك مرتد عن ملة الإسلام، ورب السماء الذي رفعها وبسط الأرض قال هذا، وهو كبيرهم الذي يشار إليه بالبنان هنا وهناك. فلو أن الأمة أنكرت من أول الأمر على صاحب البدعة ما كان وصل الأمر إلى هذا الحد، ولكن على أية حال نقول: لا ننسى أن هذه الجماعة لها فضل في السمت والهدي والأخلاق والسلوك والعبادة وقيام الليل وغير ذلك، وندعو الله تبارك وتعالى أن يمن عليهم بنعمة الالتزام بالعلم الشرعي والعقيدة الصحيحة، والدعوة إلى الله تبارك وتعالى على بصيرة كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل.

أصحاب الشعارات الحزبية

أصحاب الشعارات الحزبية الصنف الرابع من أصحاب الأهواء: هم أصحاب الشعارات الحزبية والدعوية والتعصب لها دون الكتاب والسنة، والرجوع لأهل العلم الثقات، ولابد من معالجة هذه الأخطاء خاصة في الشباب الناشئ.

بعض أرباب الثقافة

بعض أرباب الثقافة الصنف الخامس: طائفة من أرباب الثقافة الذين يظنون أنهم أئمة هدى، يتحدثون بلغة: أنا ونحن، أنا دكتور في الأزهر، أنا أبي كذا، يقولون ذلك وهم من أجهل الناس، ويتهكمون بذلك على أعلم الناس.

ماذا بعد رمضان؟

ماذا بعد رمضان؟ إقبال الناس على الطاعات بأنواعها في شهر رمضان علامة على أن الخير باقٍ في الأمة، ولكن ماذا بعد رمضان؟ ينبغي للمسلم أن يعلم أن الاستمرار على الطاعات بعد رمضان علامة على قبول الله تعالى للأعمال، وعلى توفيق الله تعالى للعبد، بخلاف من يعبد الله في رمضان فقط، فإذا ما انتهى رمضان ترك العبادة والطاعة، فهذا على خطر عظيم، ويدل هذا على أنه دخل رمضان بغير نية صادقة، وإنما تعبد لله فيه مجاراة للناس، فيحذر هؤلاء أن تحبط أعمالهم، وليعلموا أن رب رمضان هو رب بقية الشهور، وأنه المستحق للعبادة في رمضان وغيره.

حال السلف قبل رمضان وبعده

حال السلف قبل رمضان وبعده إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. زارك زائر عزيز عليك فتمنيت لو أنه بقي معك بقية عمرك، فإذا به يصدمك في أحاسيسك ويقول: (أياماً معدودات) فماذا أنت صانع حينئذ؟ لا بد أن تتجمل بأحسن الثياب وأطيب الطعام، وأفضل الكلام وغير ذلك مما يمكن أن يسر به ضيفك، وكذلك ضيفك إنما أتاك بالبشريات من الله عز وجل، فلا بد من المكافأة، ولا بد من شكر العمل، وشكر القول، وشكر القلب، وشكر اللسان، وشكر الاعتقاد، لا بد من ذلك كله، إنما ذاكم هو شهر رمضان، شهر القرآن، شهر الصيام، شهر القيام، شهر الخيرات والبركات، شهر الصدقات والزكوات، هذا الشهر العظيم هو أعظم شهر خلقه الله عز وجل، واصطفى الله تعالى هذا الشهر لأن يكون محلاً لنزول كلامه الذي هو أشرف الكلام على الإطلاق، وخص الله تعالى هذا الشهر بعبادات عظيمة جداً ليست مفروضة في غير هذا الشهر الكريم، فماذا أنتم صانعون بعد هذا الشهر؟ إن السلف رضي الله عنهم كانوا يستقبلون الشهر قبل قدومه بستة أشهر، فإذا ما مضى رمضان ومر كانوا يقفون لله عز وجل راجين داعين أن يتقبل منهم ذلك الشهر، فستة أشهر ينتظرون الشهر، وستة أشهر أخرى يطلبون من الله تعالى أن يتقبل منهم هذا الشهر، أن يتقبل منهم أعمالهم، وقيامهم، وصيامهم، وزكاتهم التي كانوا يفعلونها في هذا الشهر المبارك. فهذا عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه وسيد من سادات التابعين، خطب الناس في يوم عيد الفطر، وقال: أيها الناس! إنكم قد صمتم لله ثلاثين يوماً، وقمتم لله ثلاثين ليلة، وها أنتم قد خرجتم الآن لتطلبوا من الله عز وجل أن يتقبل منكم ذلك. لم يخرجوا ليتفسحوا، أو يمرحوا، أو يضحكوا، أو يلعبوا؛ ولذلك قال وهيب بن الورد رحمه الله تعالى -وهو كذلك سيد من السادات- لما رأى أناساً يضحكون في يوم عيد الفطر قال: سبحان الله! يا للعجب إن هؤلاء يضحكون بعد خروجهم من رمضان، فإما أن يكون الله تقبل منهم، أو يكون لم يتقبل منهم؛ فإن كان الله تقبل منهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان الله تعالى لم يتقبل منهم فما هذا فعل المتحسرين النادمين المقصرين. والضحك في يوم العيد لا بأس به، ولكن السلف رضي الله عنهم ما كانوا ينظرون إلى العبادة على أن الله تعالى واجب عليه أن يقبلها، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد حرصاً منكم على العمل، أما علمتم أن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: لو أني أعلم أن الله تقبل مني ركعتين لكان ذلك حسبي وكفاية؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، يعني: هذا القبول يجعله مطمئناً على أنه من أهل التقوى عند الله عز وجل، فالسلف رضي الله عنهم بعد عبادتهم كانوا يتوقفون مع أنفسهم ويراجعون أعمالهم، هل هي مخلصة لله عز وجل؟ هل هي مستقيمة على منهاج النبوة؟ فكانوا يربطون ذلك بقبول العمل أو رده، ولذلك كانوا إذا عملوا عملاً كانوا يخافون بعده، لم يكونوا يفرحون أنهم قد صلوا وصاموا، وإنما كانوا وجلين خائفين أن يرد الله عز وجل عليهم عبادتهم؛ ولذلك عندما (قرأت عائشة رضي الله عنها ذات يوم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] ظنت أن هذا في باب المعاصي والآثام، فقالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني، والسارق يسرق؟ قال: لا يا بنت الصديق، إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة ويخافون ألا يتقبل منه

حرص السلف على تنقية الأعمال وتصفيتها من الشوائب وإخلاص النية فيها

حرص السلف على تنقية الأعمال وتصفيتها من الشوائب وإخلاص النية فيها كان السلف رضي الله تعالى عنهم يحرصون على تنقية العمل وتصفيته من أي شائبة شرك أو رياء، شرك أكبر، أو شرك أصغر، كما كانوا يحرصون على ضبط أعمالهم بميزان النبوة، وهذان هما الشرطان الأساسيان لقبول العمل عند الله عز وجل، إن الله تعالى لا يقبل عملاً أريد به غير وجهه تعالى، كما أنه لا يقبل عملاً ليس مستقيماً على منهاج النبوة، شرطان أساسيان: أن تخلص العمل لله عز وجل، وأن تستقيم في عملك على منهاج النبوة، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. فالذي يرجو لقاء الله تعالى لا بد أن يقدم بين يديه ما يبيض وجهه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، بأن يخلص العمل لله، وأن يستقيم على منهاج النبي عليه الصلاة والسلام، أما يعمل المرء عملاً صالحاً ولكنه ليس خالصاً، أو يعمل عملاً خالصاً وليس صالحاً، فإنه لا ينتفع به بين يدي الله عز وجل. وتصور يا عبد الله لو أنك عقدت النية قبل رمضان على مزيد الطاعة في رمضان، والتخلي عنها بعد رمضان، أتظن أن هذا يخفى على الله تعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟! هذا سوء ظن بالله عز وجل، إن الذي يعقد النية على ترك العبادة بعد رمضان، وكان حريصاً عليها في رمضان ليس هذا بالمؤمن الصالح، وما هذا بالمؤمن الراجي لرحمة ربه، إنما هذا إنسان يتلاعب بأحكام الرحمن تبارك وتعالى، والله عز وجل يعلم منه فساد نيته قبل أن يخلق السماوات والأرض، فلا بد من رد عمله؛ لأن الله تبارك وتعالى إنما يجازيه من جنس عمله، إن الذي ينوي أن يصلي الصبح لأجل الرزق، وهو مع ذلك يقضي بقية اليوم بغير صلاة، فإن الله تعالى إنما يحرمه الرزق لعلمه الأزلي السابق أن هذا العبد ما يصلي خالصاً له عز وجل، فهذا لا يخفى على الله عز وجل وهو اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، يعلم ما تكن الصدور وما تخفي النفوس، ولذلك الله تبارك وتعالى إذا أراد به خيراً يعاقبه أولاً بأول؛ حتى يرجع إلى الله عز وجل. وكان السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم يقولون لبعضهم بعد انتهاء رمضان: من المحروم في هذا الشهر؟ المحروم من حرم الخير حقاً، المحروم من حرم دوام الطاعة حقاً، ليس المحروم من منع الدينار والدرهم كما يظن غالب الناس، ولذلك صحح النبي عليه الصلاة والسلام عقيدة المسلمين، فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! من لا درهم له ولا دينار، قال: لا، إنما المفلس الذي يأتي بصيام وصلاة وزكاة وحج، ولكنه يأتي وقد سب هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وانتهك عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ويأخذ ذاك من حسناته، فإذا ما فنيت حسناته، أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار). هذا هو المفلس حقاً يا عباد الله، المفلس الذي يأتي يوم القيامة لا حسنة له. قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، أهل الطاعة، أهل الإخلاص، أهل الصدق مع الله عز وجل، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين وأهل البدع، وأهل الأهواء، هذا يوم يقول فيه المنافقون والكافرون لأهل الإيمان: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50]، أي: أفيضوا علينا بأي نعمة من النعم التي أنعم الله بها عليكم، ذلك يوم التغابن. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27] ولكن هذا وقت لا ينفع فيه الندم والحسرة، إنما ذلك هو يوم الحساب، ويوم العقاب، ويوم الجنة والنار، ويوم الجزاء والثواب. فهذا اليوم بين يديك الآن قبل أن تقول يوم القيامة: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53]. عد نفسك الآن في الموتى، وأن الله قد ردك إلى الدنيا فماذا أنت صانع حينئذ؟! ولذلك كان بعض السلف يدخل القبر في كل يوم ويغلق عليه الباب، ويقول: يا فلان -ينادي على نفسه- لقد أماتك الله، ثم يفتح القبر ويخرج منه ويقول: وهذا هو الله قد أحياك لتعمل، فانظر ماذا تعمل. اعمل قبل أن يأتي يوم فتقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]. هذا اليوم بين يديك، وهذه الطاعة ماثلة بين يديك، فلم لا تقوم لله تبارك وتعالى بالليل والنهار؟ ولم لا تصوم من أيام الله تبارك وتعالى بعض الأيام؟

نماذج من حياة الصحابة مع سائر الطاعات والقربات

نماذج من حياة الصحابة مع سائر الطاعات والقربات هذا عبد الله بن عمرو وهو طفل صغير لم يبلغ اثني عشر عاماً من عمره أتى به أبوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (يا رسول الله إن هذا الغلام قد فضحني البارحة، زوجته امرأة من قريش فانصرف عنها وقام الليل كله، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: يا عبد الله في كم تقرأ القرآن؟ قال: يا رسول الله أقرؤه في كل يوم مرة، قال: كيف صيامك؟ قال: أصوم كل يوم، قال: كيف قيامك؟ قال: أقوم لله تعالى الليل كله، قال: ما هكذا يا عبد الله). هذا الطفل الصغير لم تعمل الأمة في مجموعها في هذه الأيام بعمل ذلك الطفل في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، هذا فارق جوهري بيننا وبين سلفنا، خاصة أصحاب النبي محمد عليه الصلاة والسلام. انظروا إلى عبادة هذا الغلام، النبي عليه الصلاة والسلام يقول له (صم من كل شهر ثلاثة أيام، يقول: يا رسول الله أقدر على أكثر من ذلك، قال: صم الإثنين والخميس، يقول: يا رسول الله أقدر على أكثر من ذلك، حتى بلغ به النبي عليه الصلاة والسلام أن قال له: أفضل الصيام صيام أخي داود، صم يوماً وأفطر يوماً). ووقف على أن أفضل الصيام أن تصوم يوماً وأن تفطر يوماً. (ثم قال له: يا عبد الله بن عمرو اقرأ القرآن في كل شهر مرة). انظروا كان رضي الله عنه يقرأ القرآن في كل يوم مرة، فيقال له: اقرأه في كل شهر، فماذا قال؟ (قال: يا رسول الله! إني أقدر على أكثر من ذلك، فقال: اقرأه في كل عشرين، في كل أسبوع، في كل ثلاث، وهو يقول: أقدر على أكثر من ذلك، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقهه). ووقف في قراءة القرآن عند هذا الحد، فلا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن في أقل من ذلك، وإن كان قد ورد عن السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يعنون بكتاب الله في كل رمضان أكثر من عنايتهم في غير رمضان، فكانوا يقرءونه في كل يوم مرة، أو في كل يومين مرة، أو في اليوم مرتين، فإن الحجة في قول النبي عليه الصلاة والسلام لا في قول أحد من المسلمين، وكل الناس يؤخذ من قولهم ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك لما سأله عن قيام الليل، قال: قم نصفه، قم ثلثه، قم ربعه، فرده النبي عليه الصلاة والسلام إلى قيام داود عليه السلام. قال عبد الله بن عمرو لما كبر سنه وضعف عن العبادة قال: (ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم). نحن أمة الوسط، أمة وسطية، أمة العدل، أمة الاعتدال في كل أمر، وما كانت الوسطية في شيء إلا زانته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه). وكما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. فالأمة الوسط هي الأمة العدل، وأمة العدالة هي أمة محمد عليه الصلاة والسلام، لا أمة أمريكا، ولا أمة أوروبا، الذين يزعمون الآن أنهم يقومون بالعدالة المطلقة المتمثلة لديهم في قتل الملايين من الأبرياء والمدنيين، وتشريد النساء والأطفال والغلمان هنا وهناك، وهم بكل بجاحة يقولون: نحن أمة العدالة المطلقة. أي عدالة هذه؟! لم تكن حتى عدالة أرضية؛ لأن العقلاء بل المجانين من أهل الأرض يمقتون عدالة أمريكا، وعدالة روسيا، وعدالة أوروبا كلها؛ لأنهم الآن يقتلون المسلمين في كل مكان بالملايين، ويزعمون أنهم إنما يقومون بواجب العدالة المطلقة على الدولة الراعية للعالم كله، هذه غطرسة وقلة حياء، إذا لم تستح فاصنع ما شئت. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام يأمرنا أن يكون لنا نصيب من العبادة في غير رمضان، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يشبع المؤمن من خير يعمله حتى يدخل الجنة). وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا. إن الواحد منا إذا قرأ من القرآن الكريم ربعاً أو أقل من ربع أو أكثر قليلاً إذا به يمل ويتثاءب ويريد النوم؛ لأنه لم يعتد العبادة على هذا النحو، وما علم حقيقة فعل السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم مع الله عز وجل، في كل ميادين الطاعة والعبادة. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في باب الصيام: (من صام في يوماً سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة رضي الله تعالى عنه: (يا حذيفة! من ختم له بصيام يوم دخل الجنة). فهنيئاً لمن مات صائماً، وهنيئاً لمن مات قائماً، وهنيئاً لمن مات راكعاً أو ساجداً، وهنيئاً لمن مات تالياً لكتاب الله، وهنيئاً لمن مات وهو يمشي في مصالح إخوانه المسلمين، وهنيئاً في الجملة لمن مات على طاعة. وكل إنسان يبعث على ما مات عليه، قال ابن

مشروعية صيام أيام البيض والإثنين والخميس وغير ذلك

مشروعية صيام أيام البيض والإثنين والخميس وغير ذلك شرع النبي عليه الصلاة والسلام لنا في باب الصيام في غير رمضان أن نصوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، من كل شهر عربي، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، فلما سُئل عن ذلك قال: (إن الأعمال ترفع إلى الله عز وجل في كل يوم إثنين وخميس، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم). وخير الصيام صيام داود كما قدمنا، أن تصوم يوماً وأن تفطر يوماً، ولا علاقة لك بالإثنين والخميس، ولا بإفراد الجمعة، ولا بإفراد السبت، فمن اختار خير الصيام فلا كراهة في إفراد السبت أو إفراد الجمعة؛ لأنه اختار قسماً ونوعاً معيناً من الصيام يحافظ عليه ويواظب عليه، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منه صيامه.

فضل قيام الليل

فضل قيام الليل في باب قيام الليل الذي هو شرف المؤمن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن قيام الليل دأب الصالحين قبلكم). يعني: أن قيام الليل هو دأب الأنبياء والحواريين، وأتباع الأنبياء السابقين، فقد كانوا يقومون لله عز وجل بالليل؛ ليعبدوه في وقت نزول الرب تبارك وتعالى، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن ربكم ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر، فينادي الله تعالى فيقول: ألا هل من داع فأجيبه؟ ألا هل من مستغفر فأغفر له؟) ألا هل من كيت وكيت؟ ولا يزال الله تعالى ينادي على عباده حتى تطلع الشمس. ومع ذلك الناس في غفلة عظيمة جداً عن الله عز وجل. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيراً إلا أعطاه إياه)، رواه مسلم في صحيحه. قال أهل العلم: هذه الساعة، هي ساعة نزول الرب تبارك وتعالى، وهي آخر ساعة من الليل، ولذلك شرع لنا الله عز وجل وشرع رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بعد كل عبادة استغفاراً وتكبيراً وتهليلاً؛ حتى نعلم أننا لسنا بمجرد انتهاء العبادة في حل، بل ينبغي أن تدخل في عبادة أخرى بعدها فوراً، قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الجمعة:10]، وهذا بعد صلاة الجمعة، فأنت لست حراً بأن تخرج من هذا المسجد فتمرح وتلعب وتضحك، بل مطلوب منك أن تكون ذاكراً لله تعالى في كل أحيانك وأوقاتك، تتبع العبادة بالعبادة وتصلها بعبادة أخرى، قال الله تعالى في الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] , طواف الإفاضة إنما يكون في يوم النحر بعد الوقوف بعرفة، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الحج عرفة)، وفي يوم النحر تكون قد أديت معظم الحج، ولم يبق لك إلا رمي الجمرات، وأعمال يوم النحر قليلة في المشاق والمتاعب بالنسبة ليوم عرفة، ومن وقف بعرفة فقد صح حجه، وإن تخلف عن بعض الواجبات، فإنما عليه أن يذبح دماً. وبعد أداء الحج والوقوف بعرفة، ونزول المزدلفة والمبيت بها، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199]، لِمَ نستغفر الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أن من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من حجه كيوم ولدته أمه، وفي أرجح أقوال أهل العلم: إنه قد غفر له جميع الذنوب كبيرها وصغيرها؟ فلم نستغفر الله تعالى إذاً؟ لوصل العبادة بالعبادة، وأن يكون المسلم متصلاً بالله عز وجل في كل أحيانه وأوقاته وهكذا. وقال الله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، والأسحار: هو الوقت الذي يسبق الفجر. يقول الحسن البصري في معنى الآية: هؤلاء قد وصلوا قيام الليل بوقت السحر، فأمروا بالاستغفار بعد صلاة الليل الطويلة. يعني: بعد قيام معظم الليل يؤمر العبد أن يستغفر الله في وقت السحر، الذي هو شرف المؤمن وعزه ومغفرة ذنبه، وهو دأب الصالحين قبلكم، ومطردة للداء عن أبدانكم، ومنهاة للإثم عنكم، ومع ذلك نؤمر بالاستغفار بالأسحار بعد طول قيام الليل؛ وصلاً للعبادة بعبادة أخرى، ولأجل حياة كريمة طيبة للمؤمن مع ربه عز وجل، ولذلك قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] يعني: أو من كان ميتاً قلبه بظلمات الكفر والنفاق، وبظلمات المعاصي والآثام، فأحيا الله تبارك وتعالى قلبه بنور الوحي والإيمان، وجعل يمشي به في الناس. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه هذا النور هو نور الوحي المتلو وغير المتلو، نور القرآن، ونور السنة، ونور الطاعة.

وجوب الاهتمام بكتاب الله قراءة وتدبرا وتطبيقا

وجوب الاهتمام بكتاب الله قراءة وتدبراً وتطبيقاً ينبغي أن يكون للعبد بعد رمضان نصيب من كلام الله عز وجل؛ وذلك بأن تقرأ في كتاب الله عز وجل شيئاً، إذا كنت تقرأ القرآن خلال رمضان في كل ثلاث، أو في كل أسبوع، أو في كل عشر، أو في الشهر مرة، فما بالك الآن تدع القرآن جانباً، ولا تنظر إليه ولا تتذكره حتى يدخل رمضان المقبل، هذا جفاء مع الله عز وجل، ومع كلام الله تعالى، اقرءوا القرآن على أنه رسالة من الرحمن الكريم العزيز إليكم، على أنه تشريع الله تعالى إليكم، يأمركم فيه بالحلال، وينهاكم فيه عن الحرام، ويأمركم فيه بصحة الاعتقاد، وبالآداب والأخلاق وغير ذلك من سائر الصفات الكريمة، وسائر الأفعال الحميدة. لو أتتك رسالة من حبيب وعزيز لديك فإنك ستقرؤها مرة واثنتين وثلاثاً وأكثر من ذلك؛ لعلمك أنها من حبيب عزيز عليك، فكلام الله عز وجل أغلى وأحسن وأشرف الكلام، فينبغي أن يعيش المرء مع كلام الله دائماً، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما، أما الصيام فيقول: يا رب أظمأت نهاره فشفعني فيه، ويقول القرآن: أسهرت ليله فشفعني في) لم يقل القرآن: يا رب؛ لأن القرآن ليس مخلوقاً، بل هو كلام الله عز وجل، وإنما الصيام مخلوق، فالصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما، ولو أن لك مصلحة في الدنيا وتعتقد أن فلاناً يشفع لك عند القيم على هذه المصلحة، لتذللت وتملقت له، وربما ذهبت بالرشوة بين يديك مختاراً لتقضي مصلحتك، فهذا كلام الله بين يديك شفيع لك، يقول عليه الصلاة والسلام: (ولا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء). وقد عد أهل العلم أن من قرأ جزءاً واحداً من كتاب الله عز وجل فله بذلك ما يربو أو يزيد على (113000) حسنة في جزء واحد، فما بالك لو قرأت عشرة أجزاء في كل يوم، أو خمسة أجزاء، أو على الأقل جزءاً ولو في كل شهر، وهذا أمر يسير، لو أنك بعد كل فرض فتحت كتاب الله عز وجل، أو قرأت من حفظك ربعاً واحداً أو ربعين، فإنه سيجتمع لك في آخر النهار جزءاً أو ما يقارب الجزء، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قرأ مائة آية في يومه أو ليلته لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائتي آية في يومه أو ليلته كتب من القانتين). أي شرف، بل أي دين من الديانات وشريعة من الشرائع فيها هذا الفضل، وفيها هذا الثواب العظيم الجزيل على العمل القليل؟ اقرأ كلام الله بتدبر وتفهم ولا يكن همك سرد الآيات وتقليب الصفحات، وإنما همك أن تتدبر وأن تعقل عن الله عز وجل ما قاله لك، وأرسل به النبي صلى الله عليه وسلم إليك، هذا كلام الله عز وجل.

المداومة على قيام الليل بعد رمضان

المداومة على قيام الليل بعد رمضان أما قيام الليل فشرف المؤمن، فمن يقوم في شهر رمضان بإحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك، ثم هو في ليلة عيد الفطر يترك ذلك كله، ولا يكون له حظ في قيام الليل ولا بركعتين، هذا جفاء مع الله عز وجل، وتفويت للثواب العميم والخير الجزيل، الذي وعد الله تبارك وتعالى به القائمين الصائمين، أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وجوب تأدية زكاة المال في رمضان وغيره

وجوب تأدية زكاة المال في رمضان وغيره الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على أشرف المرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فلقد ارتبط في أذهان الناس أن زكاة المال تؤدى في شهر رمضان، وكل الناس يحرصون على أداء زكاة أموالهم في شهر رمضان؛ طلباً للخير والثواب، هذه عقيدة فاسدة؛ لأن الله عز وجل لما شرع لنا وجوب زكاة المال شرعها بشرطين اثنين لا ثالث لهما: الشرط الأول: بلوغ النصاب، أن يبلغ المال عندك ما يوازي (85) جراماً عيار (24) بذلك يتم النصاب. الشرط الثاني: أن يحول على هذا النصاب حولاً هجرياً كاملاً، يحول في شهر صفر، في ربيع، في جمادى، في شعبان، في رمضان، إذا مضى عليه الحول وجبت زكاته على الفور، ولا يجوز تأخير الزكاة، إنما يجوز تعجيل إخراجها إذا دعت الحاجة والضرورة إلى ذلك، ولذلك أخذ النبي عليه الصلاة والسلام من عمه العباس زكاة ماله قبل حلول العام بسنة أو سنتين لحاجة الجيش، فإذا دعت الحاجة والضرورة إلى تعجيل الزكاة لأعوام قادمة فلا بأس بذلك، أما التأخير فلا يحل ولا يجوز، ولذلك من وجب عليه أن يؤدي في رجب وهو يمتنع عن أداء زكاة المال حتى يدخل رمضان، ما الذي يدريه أنه سوف يدخل عليه رمضان وهو حي؟ فيجب عليه أن يؤدي الزكاة في رجب على الفور، وفي ذلك حكمة عظيمة جداً أن تدور دورة المال في يد الفقير على مدار العام، وإذا تكدس المال في يد الفقير في شهر رمضان وربما أنفقه كله في شهر أو شهرين وبقي بقية العام يتكفف الناس ويسألهم الصدقات العامة، وكلنا نعلم ذلك، هب أنك في عملك ووظيفتك قد منحوك أجر العام كاملاً، فإنه لن يبقى معك على مدى العام، وإنما تسارع وتبادر إلى شراء ما لذ وطاب، مما دعتك إلى شرائه شهوتك، وبالتالي تتحسر وتندم بعد ذلك، ثم إنك إما أن تتكفف الناس، وإما أنك تأخذ من الناس أموالهم على سبيل القرض والعارية والرد، وربما تعطلت في ذلك، فمن حكمة الله عز وجل، أن شرط لنا حولاً لا يجوز أن نتأخر عنه، بحيث نقوم بإخراج زكاة المال في أي وقت من أوقات السنة.

ضرورة الحرص على الطاعات في رمضان وغيره

ضرورة الحرص على الطاعات في رمضان وغيره هذه عبادات عظيمات جداً وكثيرة جدا يحرص عليها المرء في رمضان، ويغفل عنها في غير رمضان، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى لذلك مثلاً عظيماً جداً في القرآن الكريم فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92]، امرأة تغزل بمغزلها غزلاً ثم تصنع هذا الغزل ثوباً عظيماً قوياً يصلح للانتفاع به، يلبس، وتمشي به، وتتزين به، وتعمل به، لكنها مع هذا أتت إلى هذا النسيج وإلى هذا الثوب بغير حجة ولا برهان فنقضت هذا الثوب عروة عروة، حتى جعلته كومة عظيمة من الصوف، فأي انتفاع بهذه الكومة؟! بعد أن كانت الكومة ثوباً أصبحت قطناً متناثراً لا ينتفع به، {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92]، وضرب هذا المثل لمن كان على عبادة صحيحة وسليمة، وأعمال البر في رمضان، وترك ذلك في غير رمضان. فينبغي أن تتنبه يا عبد الله أن عين التوفيق أن توفق للعبادة التي كنت تعملها وتتعبد بها في رمضان في غير رمضان، أما أنك تتركها بالكلية فاعلم أن هذا نوع من التردي في الهاوية، واعلم أن شهر رمضان قد رحل، وأن الذي خلق رمضان خلق غير رمضان، وأمرك في بقية الشهور والأيام بما أمرك به في رمضان، فلا بد أن تعتقد ذلك؛ لتنطلق فتعمل لله عز وجل على أنه صاحب الأمر والنهي، ولا بد أن تداوم على العبادة، وأن تحرص على الطاعة؛ حتى يكون ذلك علامة وأمارة على قبول ما كنت تعمل في رمضان. وينبغي أن نسير كما سار السلف، وأن نتشبه بهم: تشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح أي: تشبهوا بالسلف رضي الله تعالى عنهم في أقوالهم وأفعالهم وطاعتهم، وهروبهم من المعاصي، كان الواحد منهم يهرب من المعصية كما نهرب نحن من الذئب والأسد. وجاء في الحديث: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) إنها فانية زائلة. وقال عبد الله بن عمر: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح. فما سميت الدنيا بهذا الاسم إلا لدنوها ودناءتها، فاحرصوا على الباقي واتركوا الزائل. أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان وفي الشيشان وفي فلسطين، اللهم أمدهم بمدد من عندك، وأنزل عليهم جنداً من جندك. اللهم يا منزل الحديد، وجاعلاً فيه البأس الشديد، وجاعلاً فيه منافع للناس اجعل بأسه على الكافرين، ومنافعه للموحدين. اللهم إنا نسألك أن تمد المجاهدين بمدد من عندك، اللهم ثبتهم يا رب العالمين، اللهم اجعل أفغانستان مقبرة للنصارى، اللهم اجعل أفغانستان مقبرة للأمريكان، ومقبرة للروس، واجعل أرض فلسطين أرض الشام مقبرة لليهود، اللهم أهلكهم على أيدي عبادك المخلصين الصالحين من المجاهدين في شرق الأرض وغربها. اللهم كن لعبادك المؤمنين ولا تكن عليهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم ثبتهم تثبيتاً عظيماً. اللهم قو الإيمان في قلوبنا أجمعين، اللهم قو الإيمان في قلوبنا أجمعين، اللهم قو الإيمان في قلوبنا أجمعين، وصلى الله على النبي الأمين، وأقم الصلاة.

§1/1