دروس الشيخ أحمد فريد

أحمد فريد

أبواب الخير

أبواب الخير فتح الله عز وجل لعباده أبواب الخير وضاعف أجورهم، ترغيباً لهم في دخولها، والتنافس فيها، ونوع عز وجل هذه الأبواب؛ حتى إذا تعذر على المرء أحدها وجد غيره أمامه مفتوحاً، فعلى المسلم أن يشمر عن ساعد الجد لاغتنام أعمال الخير والتزود منها لملاقاة ربه عز وجل.

فضل تفريج كربات المسلمين

فضل تفريج كربات المسلمين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). هذه أبواب عظيمة -عباد الله! - من أبواب الخير يعلمها لنا معلم الخير صلى الله عليه وآله وسلم، فأول هذه الأبواب: تنفيس كربات المؤمنين، (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فالجزاء من جنس العمل، كما قال عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)، فالجزاء من جنس العمل. فـ (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة). فإن قال قائل: لماذا قابل النبي صلى الله عليه وسلم كربة الدنيا بكربة يوم القيامة فقال: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، ثم قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الدنيا وكربة من كرب يوم القيامة؟ ف A أن الكربة هي: الشدة الشديدة، وأكثر الناس لا يصابون بذلك، وإنما قليل منهم من يصاب بهذه الكرب العظيمة في الدنيا، ثم إن تنفيس كربة يوم القيامة أضعاف مضاعفة من تنفيس كرب الدنيا، كما دلت على ذلك الأدلة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين في الشفاعة: (يترك الله عز وجل الناس بعضهم يموج في بعض. أي: لا يقضي بينهم بحساب، فيبلغون من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم؟ ألا تنظرون أحداً يشفع لكم عند ربكم؟ فيذهبون إلى آدم فيقول: لست لها، ويحيلهم على نوح عليه السلام، وهو أول أولي العزم من الرسل، فيقول: لست لها، فيحيلهم على إبراهيم، ثم يحيلهم إبراهيم على موسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم، ثم يذكر موسى القبطي الذي قتله فيحيلهم على عيسى، فيقول عيسى: لست لها، ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيدخل على ربه عز وجل، فإذا رأى ربه عز وجل خر ساجداً فيقال: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع في الخلائق كلهم). فالله عز وجل يترك الناس يموج بعضهم في بعض، كما قال تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99]. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (تدنو الشمس م

فضل ستر المسلمين والتحذير من تتبع عوراتهم

فضل ستر المسلمين والتحذير من تتبع عوراتهم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة). والناس أحد رجلين: إما أن يكون مشهوراً بالصلاح، أو مستور الحال على كل حال لا يعرف منه جرأة على الله عز وجل، ولا فسق عن شرع الله عز وجل، فمثل هذا إذا وقع في معصية فينبغي على المسلمين أن يجتهدوا في ستره، ولا يرفعوا أمره إلى السلطان لإقامة الحد عليه، ويؤمر بأن يستر على نفسه، وأن يتوب بينه وبين الله عز وجل. وكان أحد العلماء يأمر من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقول له: اجتهد في ستر عصاة المسلمين، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، والمعاصي إذا ظهرت وعرفت فإنها تضر الناس كلهم، وإذا كانت مستورة لم تضر إلا صاحبها، فينبغي للمسلم أن يسعى في ستر عصاة المسلمين. يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يبلغ الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم -أي: عيوبهم وذنوبهم- فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته). فإذا كان يجتهد في كشف الستر عن العصاة وفضح من يعصي الله عز وجل فإن الله عز وجل يتتبع عورته حتى يظهر للناس فضائحه ومعاصيه. فينبغي للمسلمين أن يجتهدوا في ستر عصاة المسلمين، والمجتمع المسلم مجتمع طاهر نظيف لا تظهر فيه المعاصي ولا الفواحش، ومن عصى الله عز وجل اجتهد الناس في ستره. والصنف الثاني من الناس: من يكون مجاهراً بمعصية الله عز وجل، ولا يبالي إذا ذكر بهذه المعاصي بل يتباهى بمعصيته لله عز وجل، فمثل هذا ينبغي للناس أن يأخذوا على يديه، وأن يرفعوا أمره إلى ولاة الأمر من أجل أن يقام الحد عليه؛ حتى ينزجر هو وأمثاله عن الجرأة على معصية الله عز وجل وعلى شرعه.

فضل إعانة المسلمين

فضل إعانة المسلمين قال صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) وهذا أيضاً لأن الجزاء من جنس العمل، فمن كان يساعد إخوانه ويسعى في قضاء حوائجهم فالله عز وجل يساعده ويقضي له حوائجه. وأرسل الحسن البصري جماعة من أصحابه في قضاء حاجة لأخ لهم، وقال لهم: مروا بـ ثابت البناني فخذوه معكم، فمروا بـ ثابت فاعتذر وقال: أنا معتكف، فلما بلغوا الحسن البصري قال لهم: قولوا له: يا أعمش! أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجة بعد حجة -والأعمش لقبه- فذهبوا إلى ثابت فأخبروه بقول الحسن فخرج معهم. وكان أبو بكر رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم؛ لأنه كان من العيب عند العرب أن تحلب النساء الغنم، فكان إذا غاب الرجال لا تجد النساء من يحلب الغنم، فكان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف، قالوا: الآن لا يحلبها، قال: إني لأرجو ألا يمنعني ما دخلت فيه عن عمل كنت أعمله. وكان عمر رضي الله عنه يتعاهد الأرامل ويقضي لهن حوائجهن، فرآه طلحة بن عبيد الله -أحد العشرة المبشرين بالجنة- يتردد على بيت امرأة في الليل، فدخل طلحة بالنهار فرأى عجوزاً عمياء مقعدة، فقال: ما يفعل هذا الرجل عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ويحك يا طلحة! أوعورات عمر تتبع؟ وكان أبو وائل يدور على عجائز الحي يقضي لهن حوائجهن من السوق. ويقول مجاهد أحد التابعين: صحبت ابن عمر في سفر لأخدمه فكان يخدمني. هذا هدي السلف رضي الله عنهم، وهذا حرصهم على طاعة الله عز وجل وعلى قضاء حوائج إخوانهم، (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

فضل تعلم العلم

فضل تعلم العلم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة) والطريق إلى تحصيل العلم إما أن يسعى إلى عالم يتعلم منه أو يسأله، أو يسعى إلى معهد أو مدرسة يتعلم منها العلوم الشريفة علوم الشرع، وإما أن يكون طريقاً معنوياً كأن ينوي دراسة علم معين، أو ينظم إلى معهد أو مدرسة أو دار تحفيظ؛ من أجل أن يدرس علماً من العلوم الشرعية. ف (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة). قالوا: وتسهيل الطريق إلى الجنة إما أن يسهل الله عز وجل له هذا العلم، والعلم يوصل إلى الله عز وجل وإلى الجنة من أقرب طريق، كما قال بعضهم: هل من طالب علم فيعان عليه؟ والعبد لا يعرف كيف يتقي الله عز وجل حتى يعلم ما يحبه الله عز وجل ويرضاه، إذ كيف يتقي من لا يدري كيف يتقي؟ فلا بد أن يتعلم العلم حتى يتقي الله عز وجل، بل إن الله عز وجل حصر الخشية منه في العلماء، فقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وإنما أداة حصر في اللغة. وقال عبد الله بن مسعود: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله عز وجل جهلاً. وقيل للإمام الشعبي: يا عالم! قال: إنما العالم من يخشى الله. فالعلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان. أما علم اللسان فلا ينتفع به العبد، وأما علم القلب فهو الذي ينتفع به العبد، وهو أول علم يرفع من الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). فنزع العلم من قلوب العلماء جائز في قدرة الله عز وجل؛ لأن الله على كل شيء قدير، ولكن هذا الحديث يبين أن ذلك لا يحدث، وأن الله عز وجل إذا أراد أن يرفع العلم فإنه يقبض العلماء، ولا ينزع العلم من صدورهم، ولكن يقبض علماء السنة، الذين هم علماء القلب والخشية، فيتخذ الناس رءوساً جهالاً فيسألون فيفتون بغير علم فيَضِلُّوا ويُضِلُّوا، فهذا أول علم يرفع كما قال بعضهم: ألا أخبركم بأول علم يرفع هو الخشوع. فينزع هذا العلم أولاً -عباد الله- ثم ينزع كذلك علم اللسان، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب -أي: نقش الثوب- فلا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الرجل الكبير والمرأة العجوز يقولون: لا إله إلا الله وجدنا آباءنا عليها فنحن عليها إلى أن يتوفانا الله). فقال صلة بن زفر لـ حذيفة: يا حذيفة! ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة حتى كررها ثلاثاً، فقال حذيفة: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار. فبعد أن يرفع علم القلب وهو الخشية يرفع كذلك العلم من السطور ومن الصدور، ونعوذ بالله من أن ندرك هذا الزمان. فالله عز وجل يرفع القرآن قبل قيام الساعة، فلا يبقى في الأرض منه آية. فاعرفوا عباد الله! نعمة العلم النافع ونعمة القرآن، وتصوروا هذا الزمان الذي يرفع فيه القرآن من السطور ومن الصدور فيعيش الناس بلا قرآن كأنهم البهائم، ويبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، وتأتي ريح من جهة الشمال فتأخذ المؤمنين من تحت آباطهم فتقبض كل روح مؤمنة، ولا يبقى إلا الكفرة والفجرة، فكيف تكون الأرض بعد ذلك؟ ثم تقوم القيامة بعد ذلك على شرار الخلق بعد أن يرفع القرآن، وبعد أن تهدم الكعبة على يد ذي السويقتين الحبشي حجراً حجراً، فتهدم الكعبة ويرفع القرآن. فينبغي أن نعرف نعمة وجود الكعبة وحج الناس وعمرتهم إليها، ونعمة وجود العلم النافع والعمل الصالح، ونعمة القرآن وهذا يرفع في آخر الزمان، فيرفع أولاً علم القلب وهو الخشوع، ثم يرفع كذلك علم اللسان، فيرتفع القرآن من الصدور ومن السطور، فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى ناس لا يعرفون من الإسلام إلا كلمة: لا إله إلا الله. فيقول صلة بن زفر أحد التابعين لـ حذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة؟ فقال: تنجيهم من النار. وهذا فيه دليل على الحكم بإسلام من نطق بالشهادتين إذا جهل كل شرائع الإسلام من الصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك، وهو من أدلة العذر بالجهل، فإن في آخر الزمان يبقى ناس لا يعرفون صلاة ولا صيام ولا صدقة ويجهلون ذلك، ولا سبيل لتحصيل علم ذلك؛ لأن ذلك قد رفع من الأرض وتعذر الوصول إليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

فضل الجلوس في حلقات العلم

فضل الجلوس في حلقات العلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً. قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم فيمن عنده). والصحابة لقوة يقينهم وشدة إيمانهم رأوا هذه الأمور الغيبية عياناً في عالم المشاهدة، كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين: (كان رجل يقرأ القرآن فغشيته مثل السحابة فجعلت تدور وتدنو، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه السكينة تنزلت بالقرآن). فرأى السكينة في صورة سحابة كلما قرأ تدنو وتقترب منه، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هذه السكينة تنزلت بالقرآن). وكذلك الرحمة رآها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سلمان الفارسي فقد روى الحاكم في مستدركه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على جماعة فقال: ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها) فكانوا في ذكر الله عز وجل وفي طاعته عز وجل، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة وهي تنزل على أصحابه فانضم إليهم حتى يأخذ نصيبه منها. وفي الصحيحين كذلك من حديث أسيد بن حضير: أنه كان يقرأ في مربده أي: في مربط فرسه، فكلما قرأ جالت فرسه -أي: تحركت فرسه- فإذا سكت سكنت الفرس، قال: فخشيت أن تطأ يحيى -أي: ولده- فنظرت في السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، أو أمثال السرج فعرجت في السماء حتى ما أراها، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: (هذه الملائكة نزلت تسمع القرآن، ولو قرأت لأصبحت ينظر إليها الناس ما تستر منهم)؛ لأن الملائكة والجن وعذاب القبر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وتلميذه ابن رجب: من الغيب الذي يكشفه الله عز وجل لمن شاء من خلقه. ولكن الله عز وجل قد يري بعض خلقه الملائكة كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورة دحية الكلبي، ورآه الصحابة رضي الله عنهم، ففي الحديث: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ولا يعرفه منا أحد، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم سأله عن علامات الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرف: علي بالرجل، فطلبوه فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) فالملائكة يريها الله عز وجل من يشاء من عباده، فـ أسيد بن حضير رأى الملائكة وهي تنزل في مثل الظلة، قالوا: وهذا الظلة هي السحابة في الحديث المذكور آنفاً؛ لأن هذه ملائكة الرحمة تنزل معها الرحمة والسكينة. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (إن لله ملائكة سيارة يطوفون في الطرقات يلتمسون أهل الذكر، فإذا رأوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف وجدتم عبادي؟ قال: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، قال: هل رأوني؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوني؟ قالوا: لو رأوك لكانوا أكثر لك تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً، قال: فماذا يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أشد لها طلباً، وأكثر لها سعياً، قال: ومما يتعوذون؟ قالوا: يتعوذون من النار، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أكثر منها استعاذة، وأشد منها فراراً، قال: أشهدكم يا عبادي! أني قد غفرت لهم، فيقال: فيهم فلان ليس منهم وإنما أتى لحاجة، فيقول عز وجل: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فهذه الملائكة تحب ما يحبه المؤمنون من ذكر الله عز وجل، فهي تبحث عن أهل الذكر، فإذا رأتهم تسابقت في رفع أعمالهم الصالحة إلى الله عز وجل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع أن رجلاً يصلي خلفه فلما قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم لك الحمد حمداً طيباً مباركاً فيه، كما تحب ربنا وترضى، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قائل هذه المقالة فأخبر فقال: (والله لقد ابتدرها كذا وكذا ملك أيهم يصعد بها إلى الله عز وجل من حبهم للمؤمنين). فهم يحبون أن يرفعوا الكلام الطيب إلى الله عز وجل، ويتسابقون في ذلك؛ لأنهم يعلمون أن الله عز وجل يحب أن يتفضل على عباده ويكرمهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (

التفاضل عند الله بالأعمال لا بالأنساب

التفاضل عند الله بالأعمال لا بالأنساب قال صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي: لا يساعده ولا يسرع به أن أباه أحد المشايخ أو الصالحين أو الأولياء، أو أنه من نسب النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، ولا ينفع نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل الإيمان والطاعة والعمل الصالح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل نسب مقطوعة يوم القيامة إلا نسبي وصهري)، تزوج عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب قال: والله ما بي حاجة إلى الزواج، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل نسب مقطوعة يوم القيامة إلا نسبي وصهري). فلا ينفع نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلا من كان من أهل الإيمان والعمل الصالح. فهم النبي صلى الله عليه وسلم وشقيق أبيه أبو لهب ينزل فيه في الدنيا: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5] فلم ينفعه نسب النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فلا ينفع نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل الإيمان وأهل العمل الصالح، وأما سائر الأنساب فلا تنفع بحال من الأحوال، بل إن الأنساب يوم القيامة تتقطع، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضرب الصراط على ظهري جهنم فأكون أول من يجيزها، ويمر الناس بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل، أي: إسراع الرجل في المشي، ومنهم من يتلبط على بطنه فتعلق يد فيجرها، وتعلق رجل فيجرها، فيقول: يا رب! لم أبطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطئ بك ولكن أبطأ بك عملك). فتكون قوة مشي العبد على الصراط بحسب قوة عمله، والصراط على متن جهنم، فمنهم من يكردس في جهنم، ومنهم الناجي، ومنهم الناجي المخدوش وغير ذلك، فمن أبطأ به عمله في المرور على الصراط لم يسرع به نسبه. فهذا الحديث النبوي الشريف يتضمن وصايا عظيمة، وأبواباً كبيرة من أبواب الخير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين. اللهم فرج كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، ورد غائبنا بخير وعافية يا رب العالمين! اللهم بلغنا رمضان، اللهم سلمنا إلى رمضان، وتسلمه منا متقبلاً. اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم إنا نسألك أن تذل اليهود والأمريكان، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من العلمانيين والمنافقين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أحوال القلوب

أحوال القلوب لقد جعل الله تعالى من قلوب عباده القلب السليم، وهو قلب المؤمن الذي سلم من الشرك والبدعة والشهوة المحرمة والشبهة، وجعل منها القلب الميت، وهو قلب الكافر، وجعل منها القلب المريض، وهو الذي تمده مادة فيها حياته؛ وهي محبة الله، ومادة فيها هلاكه؛ وهي محبة سوى الله والتلوث بأوضار الشهوات والشبهات، وعلاج هذا البلاء هو القرآن الكريم تلاوة وعملاً.

أقسام القلوب

أقسام القلوب الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين. ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]. فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. لما كانت القلوب -عباد الله- توصف بالحياة وضدها، قسم العلماء القلوب إلى ثلاثة أقسام هي: القلب الصحيح أو السليم، والقلب المريض أو السقيم والقلب الميت. وقالوا في تعريف القلب السليم: هو القلب الذي قد صارت السلامة صفة له، فقد سلم مما سوى الله عز وجل، فإذا أحب أحب في الله، وإذا كره كره في الله، وإذا أعطى أعطى في الله، وإذا منع منع في الله، ولا تتم سلامة هذا القلب، حتى يعقد صاحبه مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عقداً محكماً مبرماً على الائتمام به في جميع أقواله وأفعاله، فسلم من عبودية غير الله عز وجل، ومن اتباع غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يدخل الجنة إلا من أتى الله عز وجل بقلب سليم، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. القلب الميت: فهو الذي أخلص العبودية لهواه، فإذا أحب أحب لهواه، وإذا كره كره لهواه، وإذا أعطى أعطى لهواه، فهواه آثر عنده من رضا مولاه، والدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، ينادى إلى الله والدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب إلى الداعي، ويتبع كل شيطان مريد، فصاحب هذا القلب واقف مع حظوظه وشهواته، لا يبالي رضي الله عنه أم سخط، كما قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]. قال بعض السلف: هو الذي كلما هوى شيئاً ركبه. كلما زينت له نفسه فعل شيء فإنه يفعله، لا يحجزه شيء من تقوى الله عز وجل، ولا يدفعه شيء إلى حب الله عز وجل. وبين القلب السليم والقلب الميت القلب السقيم: وهو الذي تمده مادتان، ففيه من محبة الله عز وجل والدار الآخرة ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها ما هو مادة هلاكه وعطبه، فقد يدعوه الداعي إلى الله عز وجل فيستجيب له، وقد يدعوه إلى غير الله عز وجل فيستجيب له. فالقلب الأول: حي مخبت واعٍ، والثاني: يابس ميت، والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى الموت أدنى. يقول حذيفة رضي الله عنه: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان، مادة إيمان، ومادة نفاق فهو للغالب عليه منهما. ومعنى قلب أجرد، أي: متجرد مما سوى الله عز وجل، قد أخلص عبوديته ومحبته لله عز وجل. وفيه سراج يزهر: أي: فيه مصباح يضيء، وهو المؤمن الذي وصفه الله عز وجل بقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]. فالمؤمن في قلبه مصباح يضيء يميز به بين الشبهات والدلائل الواضحات، وبين البدعة والسنة، والهدى والضلال، ففي قلبه فرقان يفرق به بين الحق والباطل. وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وهو الذي قد دخل قلبه في غلاف فلا يخرج منه كفر ولا يدخله إيمان، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]. والقلب الثالث: قلب منكوس عر

آفات القلب إذا تشرب الفتن

آفات القلب إذا تشرب الفتن إن القلب الذي يشرب الفتن ينتكس حاله، ويصاب بآفتين عظيمتين متضامنتين إلى هلاكه وعطبه.

اختلاط الحق بالباطل على القلب

اختلاط الحق بالباطل على القلب الآفة الأولى: أنه يختلط عليه الحق بالباطل، والهدى بالضلال، والطاعة بالمعصية، فلا يفرق بين طاعة ومعصية، ولا بين بدعة وسنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً): أي: عليه ربدة، وهي: لون التراب. وقوله: (كالكوز مجخياً): كالكوز الذي قد علاه الصدى، المقلوب الذي لا ينتفع به وليس فيه خير وليس بحسن المنظر والمظهر. فانظروا -عباد الله- كيف تؤثر الذنوب والمعاصي في القلوب؟ والله! لو نظر العبد نظرة محرمة لوجد غبها وأثرها وشقاءها في قلبه، فكيف بمن يقارفون الزنا، وشرب الخمر، وقتل النفس التي حرم الله؟ أفلا يؤثر ذلك على القلوب؟! بلى والله إنها تؤثر، وينتكس القلب، ويشتد عطبه وهلاكه حتى لا يستطيع العبد أن يميز بين هدى وضلال، وبدعة وسنة، فيصير القلب قبيح المنظر والمخبر، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه.

اتباع صاحب القلب لهواه

اتباع صاحب القلب لهواه والآفة الأخرى: أن صاحب هذا القلب يتبع هواه، وإذا أعرض العبد عن شرع الله عز وجل وقع في اتباع الهوى. فإما أن تكون متبعاً لشرع الله عز وجل؛ معظماً له، تتقيد بشرع الله، وتتكلم بشرع الله، وتعمل بشرع الله عز وجل، وإما أن تكون متبعاً للهوى، كما قال الله عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26]. فاتباع الهوى يكون بعد الإعراض عن شرع الله عز وجل، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وأكثر الناس اليوم يتبعون أهواءهم، لا يقيدهم شرع الله عز وجل، ولا يقومون ولا يعملون به، سواء في ذلك الحكام أو المحكومين، الكل يتبع الهوى ويتخذ الهوى إلهاً من دون الله عز وجل، لا يعظمون الله عز وجل، ولا يعظمون شرع الله عز وجل، فخاض الناس في طريق الهوى، والهوى يهوي بصاحبه في الدنيا والآخرة؛ يهوي بصاحبة إلى قمة الرذائل والفواحش والمنكرات في الدنيا، ويهوي به في النار يوم القيامة. عباد الله: إن من اتبع الهوى ضاعت عليه مصالح الدنيا والآخرة، وخسر في الدنيا والآخرة: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، أي: ينفرط عليه أمره، وتذهب عليه مصالحه؛ فهذه آفة من الآفات التي تصيب القلب الذي يشرب الفتن، والذي يفتتن بالفتن يقع في اتباع الهوى إلا ما أشرب من هواه. أما القلب الذي لا يشرب الفتن والذي ينكر المنكر ولا يفتتن بالشبهات فإنه يزداد إشراقه وبياضه، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض. والقلوب -عباد الله- خلقت لمعرفة علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل، فلا حياة لها، ولا صلاح لها ولا سعادة لها إلا في ذلك، والصحابة أطباء للقلوب، أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، تربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علماء في أحوال القلوب وفي أقسام القلوب، يقول عبد الله بن مسعود لرجل: داو قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، أي: مراد الله عز وجل من العباد صلاح قلوبهم. والعمل الصالح يثمر صبغة وصلاحاً في القلوب، فقد تكون أعمال العبد كثيرة ولكن فيها رياء أو عجب، أو غير اتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالعمل الصالح هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ينتج عن الإخلاص والذي لا يفعله صاحبه عجباً ولا رياء، ولذلك قال الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، ما قال: من أتى كذا وكذا من الأعمال، ولكن جعل الدخول إلى الجنة بالقلب السليم، ومدح إبراهيم إمام الحنفاء وأبي الأنبياء، بقوله عز وجل: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام سليم القلب من الشرك، والولاء لغير الله عز وجل، شديد المحبة لله عز وجل، مخلص الدين لله عز وجل، ألزمه الله عز وجل بملته وبشريعته، فقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، وقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123].

بعد الصحابة عن اتباع الهوى وصلاح قلوبهم

بعد الصحابة عن اتباع الهوى وصلاح قلوبهم إن العبد إذا أصيب قلبه باتباع الهوى فإنه يضل عن مصالحه في الدنيا والآخرة، فالصحابة كانوا يعلمون أن المدار على القلوب، وأن النجاة ببر القلوب، وأن العبد يسبق بقلبه وبأحواله الإيمانية أكثر مما يسبق به أصحاب الاجتهاد في الأعمال الظاهرة، كما قال ابن مسعود للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم كانوا خيراً منكم؛ كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، فيخبر ابن مسعود رضي الله عنه التابعين أنهم أكثر اجتهاداً في العبادة؛ فهم أكثر صلاة وصياماً وقياماً، ولكن الصحابة سبقوا ببر القلوب، فقد تهيأت لهم أحوال، وصاحبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعاصروا التنزيل، فارتفعت أحوالهم الإيمانية، فلا يمكن أن يسبقهم من بعدهم، وإن اجتهد أكثر من اجتهادهم في الصلاة والقيام وتلاوة القرآن؛ لأن السبق سبق القلوب. من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول فآيات الصدق والبذل والتضحية في جيل الصحابة رضي الله عنهم كانت مجيدة؛ لأن قلوبهم وصلت إلى درجة عالية جداً من الأحوال الإيمانية من محبة الله، والإخلاص لدين الله عز وجل والرضا بالله عز وجل رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، فلما انتفعت قلوبهم، وحسنت أحوالهم الإيمانية، وجدت مواقف إيمانية في البذل والتضحية لله عز وجل، ووجدت الأعمال التي تصدق ما في القلوب من إيمان. فلم يمكن للتابعين أو من بعدهم أن يلحقوا بهم أو يجدوا أثراً من غبارهم في ذلك، فقد سبقوا سبقاً بعيداً رضي الله عنهم، وذلك لأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العابدين، قال بعض الصحابة: إن الله عز وجل نظر في قلوب الخلق فرأى قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أنقى قلوب الخلق فاصطفاه الله عز وجل برسالته، ثم نظر في قلوب الخلق فرأى قلوب الصحابة رضي الله عنهم أنقى قلوب الخلق بعد قلب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلهم وزراء نبيه، فارتضاهم الله عز وجل لصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إنهم ازدادوا صفاء، وإيماناً، ومحبة لله عز وجل وبذلاً لإعلاء دين الله عز وجل؛ لأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول أنس رضي الله عنه معبراً عن حال الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، أي: بمجرد أن دفنوا الجسد الشريف تغيرت قلوبهم؛ لأنهم فقدوا مصدراً عظيماً من مصادر الصفاء النفسي، والعلو الإيماني الذي كانوا يجدونه بمعاشرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما حساسيتهم من الذنوب: يقول أنس رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، وأنس رضي الله عنه لا يخاطب أمثالنا، ولكنه يخاطب الجيل المفضل الثاني بعد جيل الصحابة رضي الله عنهم، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقال أيضاً: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]. فالمدار على القلوب، فقد خلقت لمعرفة علام الغيوب، وغفار الذنوب عز وجل، فلا تسعد إلا بذلك؛ لا تسعد بالجاه ولا بشهوات ولا بدنيا ولا بأعراضها ولا شهرتها ولا زينتها، قال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فلا تسعد إلا بالله، ولا تصلح إلا بالله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، فالعبد الذي في قلبه غير الله لابد أن يشقى بذلك، فإن القلب مثل السماوات والأرض: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها آلهة إلا الله عز وجل لفسدت بذلك فساداً لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها عز وجل وتوحده عز وجل.

مرض القلوب بالشبهات والشهوات

مرض القلوب بالشبهات والشهوات والقلوب تمرض بنوعين من المرض، بأمراض الشبهات أو الشهوات، فأما أمراض الشهوات فكقول الله عز وجل لأمهات المؤمنين، وبالأولى جميع نساء الأمة: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، فإن المريض يضره ما لا يضره السليم، والسليم يدفع بصحته وسلامته كثيراً مما لا يتحمله المريض؛ فيأمر الله جل نساء بألا يخضعن بالقول؛ لأن هذا يؤثر في الذي في قلبه مرض الشهوة. وأمراض الشبهات، كقول الله عز وجل: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، قال مجاهد وغيره: في قلوبهم شك من لقاء الله، ومن وعد الله عز وجل، ومن صدق الله عز وجل. فالقلوب تمرض بالشبهات أو الشهوات، وعلاج ذلك كله في كتاب الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]. فعلاج الشبهات والشهوات في القرآن، فالقرآن فيه من الأدلة البصرية والبراهين الواضحة الساطعة، وفيه من الدلائل والبينات ما يزيل كل شبهة من قلب العبد، وفيه من التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن زينة الدنيا والاهتمام بالآخرة، ما يزهد العبد من الدنيا وشهواتها؛ فيزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة، فيعالج بذلك القرآن أمراض الشبهة والشهوة، وبذلك كان العلاج بالقرآن، وكانت تلاوة القرآن من أنفع العبادات للقلب، كما قال خباب بن الأرت: تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه. وكان ابن مسعود يقبل المصحف ويقول: كلام ربي كلام ربي. وقال عثمان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم. فلو سلمت القلوب لأحبت القرآن، ولانسجمت معه؛ لأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وسبب انصراف الناس عن سماع القرآن وتلاوته لما في قلوبهم من شبهات وشهوات، فلو سلمت قلوبهم لأحبت القرآن، وتوافقت معه، وصار العبد لا يستغني عن سماعه وتلاوته ليل نهار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

أهمية نعمة الوقت

أهمية نعمة الوقت إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستعديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. مع قدوم الإجازة الصيفية عباد الله لنا نصيحتان لإخواننا من الشباب ولعموم الناس. النصيحة الأولى: أن نحرص على الأوقات، وألا نضيعها في غير الطاعات، فإن عمر العبد رأس ماله، وإن من أعظم نعم الله عز وجل علينا نعمة العمر، ونعمة الوقت، ونعمة الليل والنهار، ونعمة الأنفاس، كما قال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:33 - 34]، وقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]. قال بعض السلف: من فاتته طاعة الله عز وجل في الليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن فاتته طاعة الله عز وجل بالنهار كان له من أول الليل مستعتب. فينبغي علينا -عباد الله- أن نعرف قيمة الوقت والنفَس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والمغبون الذي باع شيئاً بأقل من ثمنه، أو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه، ويوم التغابن هو يوم القيامة؛ لكثرة المغبونين فيه، فأكثر الناس لا يعرفون نعمة الوقت والزمن والأنفاس، فلا يعمروا ذلك بطاعة الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه). فينبغي علينا -عباد الله- أن نعرف شرف الوقت وشرف النفَس، فمن علامة المقت أضاعت الوقت، وعلامة التوفيق أن تكون أنفاس العبد في طاعة الله عز وجل، وأن تكون أوقاته معمورة بطاعة الله عز وجل، قال الشافعي: صحبت الصوفية فما استفدت منهم إلا حرفين: الحرف الأول: الوقت كالسيف فإن لم تقطعه قطعك، والحرف الثاني: النفس إن لم تشعلها بالحق شغلتك بالباطل. وهذا كلام يكتب بماء الذهب، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه بطاعة الله عز وجل قطعك أي: أنفقته في غير طاعة الله عز وجل، فكان هلاكك في ذلك، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فالذي لا يكون مشغولاً بالدعوة إلى الله عز وجل أو بطاعة الله عز وجل، فإن نفسه ستشغله بمعصية الله عز وجل، فتضيع عليه حياته في غير طاعة الله عز وجل فيهلك ولابد.

أهمية غض البصر

أهمية غض البصر النصيحة الثانية: وهي أننا وصلنا إلى موسم الصيف موسم البلايا، موسم التبرج والفجور والسفور، فننصح أنفسنا بغض البصر، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31]. فأمر الله عز وجل المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وبين الله عز وجل أن شأن المؤمنين الامتثال لأمر الله عز وجل، فقال: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ))، والتقدير: إن قلت للمؤمنين غضوا يغضوا؛ لأن شأن المؤمن أن يلتزم بأمر الله عز وجل، فهذا أزكى للعبد وأنفع له في الدنيا ولآخرة، فالعين رائد القلب؛ ولذلك قرن الله عز وجل بين الأمر بغض البصر وحفظ الفرج. كما قال بعضهم: وكنت متى ما أطلقت طرفك يوماً رائداً لقلبك أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر فالعين عباد الله! رائد القلب، فإذا ألفت العين ألف القلب. ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: اصرف بصرك)، أي: إذا وقع بصر العبد على محرم من غير قصد ونية، فالواجب على المسلم أن يصرف بصره لله عز وجل، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق البصر زنا تنفيراً من هذه المعصية، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم نفر من إطلاق البصر وسمى ذلك زنا. كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح وتظن ذاك دواء جرحك وهو في التحقيق تجريح على تجريح فقتلت قلبك باللحاظ وبالبكاء فالقلب منك ذبيح أي ذبيح الناظر يرمي بسهام غرضها قلبه، فكل نظرة كأنها سهم يوجه إلى قلبه، فينبغي على العبد عباد الله أن يغض بصره لله عز وجل، وأن يحفظ فرجه، وأن يشتغل بطاعة الله عز وجل، وأن يعرض عن أماكن الاختلاط والمجون، وأصحاب السوء وأهل الأسواق والملاهي، والأماكن التي هي مظنة كثرة التبرج والاختلاط بين الرجال والنساء. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا من مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم عليك بالطواغيت والجبابرة يا رب العالمين! اللهم عليك بالذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً. اللهم عليك بالعلمانيين والمنافقين، والذين ينفذون مخططات الغرب والشرق الكافرة في بلاد المسلمين. اللهم دمرهم تدميراً، والعنهم لعناً كبيراً، وطهر منهم البلاد، وخلص منهم العباد يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن ترزقنا توبة نصوحاً. اللهم اهد شباب المسلمين اللهم اهد أطفالنا وأطفال المسلمين اللهم اهد نساءنا ونساء المسلمين يا رب العالمين! وألزمهم بالعفة والحياء والحجاب يا رب العالمين! اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصل اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

اكنزوا هذه الكلمات

اكنزوا هذه الكلمات خلق الله عز وجل الثقلين لعبادته وتوحيده، وشرع لهم العبادات التي ترتفع بها درجاتهم في الدنيا والآخرة، فعلى العبد المسلم أن يكثر من فعل الأعمال الصالحة، وأن يجتنب الأعمال المحرمة، وألا ينافس أهل الدنيا في دنياهم؛ حتى ينجو في الدنيا والآخرة.

فضل الأعمال الصالحة

فضل الأعمال الصالحة الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي والأمر المرضي على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. روى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم؛ إنك أنت علام الغيوب). قوله: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات)، هذه الكلمات من الباقيات الصالحات، والباقيات الصالحات ينتفع بها العبد في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]. وقال عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]. فكل ما كان من الباقيات الصالحات ومن الأعمال الصالحة فهو أنفع مما يفنى ومما يذهب، فالمال والبنون من زينة الدنيا، ولكن الباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]. روي أن سليمان بن داود عليهما السلام مر ومعه الإنس والجن والطير على حراث -أي: يحرث الأرض- فقال الحراث: ما أعظم ما أوتي سليمان بن داود. فقال له سليمان: تسبيحة خير من ملك سليمان؛ التسبيحة تبقى وملك سليمان لا يبقى. فما عند الله عز وجل خير، فينبغي على العبد إذا تسابق الناس إلى الذهب والفضة أن يتسابق إلى طاعة الله عز وجل. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: نعم كنز المؤمن البقرة وآل عمران، يقوم بها من آخر الليل، وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، ولا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة. فإذا كنز الناس الذهب والفضة فينبغي على المؤمن أن يكنز طاعة الله عز وجل. وفي بعض الإسرائيليات: (نعم كنز المؤمن ربه). أي: أن المؤمن يكنز طاعة الله، ويكنز محبة الله عز وجل، ومن كان كنزه ربه عز وجل -أي: طاعة ربه وخشية ربه والتوكل على ربه- فإنه يأمن من العدم، ويأمن من الفاقة، ويأمن من المسكنة، ويأمن من الافتقار إلى أهل الدنيا، كما قال بعضهم: من كنز ربه عز وجل أمن من العدم، ومن لازم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر من ذكر الموت أكثر من الندم. فمن كنز ربه عز وجل أمن من العدم، أي: من الفاقة ومن الفقر؛ لأنه غني بالله عز وجل، مطمعه طاعة ربه عز وجل وطلب رضا ربه عز وجل. ومن لازم الباب أثبت في الخدم، أي: من داوم على طاعة الله عز وجل اصطفاه الله عز وجل فأثبت في الخدم. ومن أكثر ذكر الموت أكثر من الندم.

ذم الدنيا وعقوبة من لا يؤدي ما وجب عليه في ماله

ذم الدنيا وعقوبة من لا يؤدي ما وجب عليه في ماله قال بعض السلف: بئس الرفيقان: الذهب والفضة، لا ينفعانك حتى يفارقانك. أي: أن العبد لا ينتفع بالذهب والفضة إلا إذا أنفقهما، فبئس الرفيقان هما. وقال بعضهم: إنما سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض. ولما نزلت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35] قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تباً للذهب والفضة. فقال الصحابة رضي الله عنهم: فما يتخذ أحدنا يا رسول الله؟! قال: يتخذ قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة صالحة). فهذا ما ينبغي أن يحرص عليه المؤمن: أن يملك قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة صالحة؛ فإن ذلك خير من الذهب والفضة، فالذهب يذهب، الفضة تنفض، ولا يبقى إلا الإيمان والعمل الصالح. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات). أي: إذا رأيتم الناس يكنزون الذهب والفضة. وما أدي زكاته فليس بكنز، ولكن الكنز الذي لا تؤدى زكاته، فالذي يجمع مالاً ولا يؤدي زكاته متوعد بهذه الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} [التوبة:34 - 35]، قالوا: لأنه إذا سئل حق الفقير يقطب جبينه فيكوى جبينه، ثم ينحرف قليلاً فيكوى جنبه، ثم يولي الفقير ظهره فيكوى ظهره، {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35]. ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار، فيحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، فإذا بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى مكانه بعد ذلك إما إلى الجنة وإما إلى النار) أي: أن هذا من عذاب يوم القيامة، وله عذاب كذلك في الآخرة. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه، ثم يأخذ بلهزمتيه فيقول: أنا مالك، أنا كنزك، وتلا قوله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180]) أي: أنه يمثل له ماله شجاعاً أقرع، أي: حية قد سقط شعر رأسها من كبر سنها وكثرة سمها. قوله: (له زبيبتان يطوقه) أي: يطوق رقبته أو وسطه. وقوله: (ثم يأخذ بلهزمتيه) أي: بشقيه. وقوله: (فيقول له: أنا مالك، أنا كنزك) وهذا العقاب لمن أخذ المال من الوجوه الحلال، ومنع الحقوق الواجبة، منع الزكاة الواجبة، ولم يصل في هذا المال رحمه، ولم ينفق في أوجه البر والخير، فهذه عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة، فكيف بالذين تحصل لهم الأموال من الوجوه المحرمة، ويمنعون الحقوق الواجبة، لا شك أن عذابهم أشد من ذلك؛ لأنهم يعذبون على جمع المال من الوجوه المحرمة، ثم يعذبون كذلك على منع الحقوق الواجبة. (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة)، لا يعذب بها وهي بحجمها، وإنما تصفح له صفائح؛ حتى يكثر العذاب الذي يعذب به، ويحمى عليها في نار جهنم ويكوى بها جبينه وجنبه وظهره. وقيل: هذه الأماكن تكثر فيها مواضع الإحساس، ويغلظ فيها الجلد؛ حتى يشتد العذاب.

حاجة العبد إلى الثبات على الدين

حاجة العبد إلى الثبات على الدين فإذا كنز الناس الذهب والفضة فما هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما الواجب على المؤمن أن يكنزه؟ قال: (فليكنز أحدكم هذه الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد)، والثبات في الأمر أي: على الطاعة والتمسك بدين الله عز وجل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلبي على طاعتك) فينبغي على العبد أن يسأل الله عز وجل الثبات على الأمر، والأمر هو طاعة الله عز وجل، والتمسك بدين الله عز وجل. والعبد يحتاج إلى الثبات على الأمر في ثلاثة مواضع: وهو في الدنيا يحتاج أن يسأل ربه الثبات على الأمر حتى يداوم على طاعة الله عز وجل. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]. وقال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]. لم يدع الله عز وجل للمؤمن حداً دون الموت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فمن سار في طريق العبادة إلى الله عز وجل لا يقف، ولا يلتفت؛ لأنه لو فعل ذلك انقطع، فينبغي عليه أن يداوم على طاعة الله عز وجل، وكان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدومه وإن قل، أحب العمل إلى الله عز وجل أدومه وإن قل، وكان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديمة، أي: إذا عمل شيئاً من الخير يداوم عليه، فالله عز وجل يحب أن يديم فضله، وأن يوالي إحسانه، فيحب من العبد أن يداوم على طاعة الله عز وجل حتى يدوم عليه الفضل من الله عز وجل، وحتى لا ينقطع عنه الخير من الله عز وجل. فيحتاج العبد إلى الثبات على الأمر وهو في الدنيا، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال بعض السلف: الذين قالوا: (ربنا الله) كثير، والذين استقاموا قليل. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] يقول: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة. فالعبد يحتاج أن يتوكل على الله عز وجل، ويحتاج معونة الله عز وجل؛ حتى يستمر على الاستقامة، فكيف يأمن من أمره بيد غيره؟ {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17] كم هلك مثلك؟ قال أبو الدرداء: ما أهون العباد على الله عز وجل إذا عصوه. وكان الحسن يكثر البكاء ويقول: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي، أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي، أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17]. فينبغي على العبد أن يداوم على طاعة الله عز وجل، فهذا هو الثبات في الأمر، قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:66 - 70]. فالعبد إذا فعل ما أمر الله عز وجل به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو على خير، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]، فالعبد إذا أطاع الله عز وجل ثبته الله عز وجل على طاعته، ومن أدخل أسباب الفتنة على نفسه أولاً لم ينج آخراً وإن كان جاهلاً، فمن تهاون في تنفيذ أوامر الله ومن عصا الله عز وجل فقد أسباب الثبات. قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء:66] أي: في الدنيا والآخرة، {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] على طاعة الله عز وجل وعلى طريق الله عز وجل. وقال عز وجل: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]. فالله عز وجل يزيد أهل الإيمان إيماناً إذا اجتهدوا في طاعة الله عز و

العزيمة على الرشد

العزيمة على الرشد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، وأسألك لساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب). تكلمنا عن الثبات في الأمر، فما هي العزيمة على الرشد؟ العزيمة هي القصد الجازم والإرادة الجازمة على الرشد، والرشد هو طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى) فالرشد طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] وعكس الرشد عباد الله! هو الغي، فالرشد أن تعلم الحق وأن تقوم به، وأن تعمل به، وأن يكون عندك عزيمة على العمل بالرشد، والغي أن تعرف الحق الحق ولكنك لا تفعل الحق وتقصد غيره. أما الضلال فأنت لا تهتدي إلى الحق ولا تعرف الحق أصلاً. فالرشد هو أن تعرف الحق وتعمل به، والغي أن تعرف الحق ولا تعمل به، والضلال ألا تعرف الحق أصلاً. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا أن نسأل الله عز وجل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، أي: العزم الجازم على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. والعزيمة على الرشد عزيمتان: عزيمة في البدايات، وعزيمة في النهايات. أما عزيمة البداية فأن يعزم العبد على الرشد فيترك الكفر إلى الإيمان، أو يترك المعصية إلى التوبة والمداومة على طاعة الرحمن عز وجل. أما النوع الثاني من العزيمة على الرشد: أن يعزم أن يترقى من حال كامل إلى حال أكمل، فهو دائماً عازم على الرشد، عازم على أن يزداد طاعة لله عز وجل واستجابة لأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه عزيمة النهايات، وإذا عزم العبد على ترك المعاصي أتته الفتوح من الله عز وجل، وأتته الإمدادات من الله عز وجل، وأتاه العون من الله عز وجل على قدر عزيمته. على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم فينبغي على العبد أن يعزم على طاعة الله عز وجل، وأن يكون له منهجاً تربوياً يترقى به من تلاوة القرآن، ومن قيام الليل، ومن المحافظة على الأذكار وغير ذلك، يترقى من حال كامل إلى حال أكمل، يصطحب معه العزيمة على الرشد يترقى بها في طاعة الله عز وجل. ومن كنز ربه عز وجل أمن من العدم، ومن لازم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر ذكر الموت أكثر من الندم. فلابد من العزيمة على الرشد، وأفاضل رسل الله عز وجل جعلهم أولي العزم من الرسل؛ لأن عندهم عزيمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي القيام بطاعة الله عز وجل، وفي ترك معصية الله عز وجل.

صور من عزيمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله

صور من عزيمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله هذا عمر بن عبد العزيز ولي الخلافة سنتين وبضعة أشهر فغير وجه الأرض؛ لأنه عزم على الرشد منذ تولى الخلافة، فلما فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك قربت له مراكب الخلافة والموكب من أجل أن يرجع به، فقال: ما هذا؟ فقيل له: مراكب الخلافة، فقال لهم: نحوها عني، ائتوني ببغلتي. فركب بغلته. ولما أرادوا أن يمشوا من أمامه ومن خلفه قال: إنما أنا رجل من المسلمين، تنحوا عني، ثم أراد أن يقسم المظالم، وكان قد دخل في القائلة وكان قد سهر مع مرض سليمان وشغل بدفنه، فأراد أن يقسم المظالم فقال: أبقى إلى الظهر وأقسم المظالم بعد صلاة الظهر، فلما كان في وقت القائلة دخل عليه ولده عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وابنه هذا قيل فيه: لو عاش هذا الرجل لكان خيراً من أبيه، فقال له عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز: لماذا لا ترد المظالم؟ فقال: إذا صليت الظهر رددت المظالم. فقال: وكيف لك أن تعيش إلى صلاة الظهر؟ وقال له: وإن عشت إلى صلاة الظهر فكيف لك أن تبقى نيتك. أي: أن العبد إذا أراد خيراً فينبغي عليه أن يبادر بالخير؛ لأنه قد يحال بينه وبينه، أو يفقد العزيمة على الرشد ويفقد النية على الطاعة فيفقد الخير؛ فالتأني في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة، فينبغي على العبد أن يسارع ويبادر. فنادى: الصلاة جامعة، ورد المظالم في وقت القيلولة وقبل صلاة الظهر، فاستقام على طاعة الله عز وجل وزهد في الدنيا وأقبل على الآخرة، وكان قلبه يمتلئ بالخوف من الله عز وجل، لم يرغب في أموال الرعية، ولم يفتح الحسابات في البنوك، وفي مرض وفاته دخل عليه مسلمة بن عبد الملك ابن عمه فقال لأخته فاطمة بنت عبد الملك -وهي زوجة عمر -: غيروا قميص أمير المؤمنين. فقالت: نفعل إن شاء الله، ثم أتى مسلمة في اليوم التالي فقال: ألم آمركم أن تغيروا قميص أمير المؤمنين؟! فقالت: والله! ما له قميص غيره! ينطبق عليه قول القائل: قوم إذا غسلوا الثياب لبسوا البيوت وزرروا الأبواب طلب غلام لـ عمر بن عبد العزيز من مولاته فاطمة بنت عبد الملك أن تطعمه، فأطعمته عدساً، ثم في اليوم التالي طلب أن تطعمه فأطعمته عدساً، فقال: كل يوم عدس؟ فقالت له: هذا طعام مولاك أمير المؤمنين! بلغ عمر بن عبد العزيز أن أحد أولاده اشترى فصاً بألف درهم من أجل أن يجعله خاتماً، فأرسل إليه عمر يقول له: عزمت عليك لما بعت هذا الفص واشتريت فصاً بدرهم وكتبت عليه: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه. في السلف أسوة وقدوة في العزيمة على الرشد، والعزيمة على طاعة الله عز وجل والاستمرار على طاعة الله عز وجل، فمهما عزم العبد على الاستمرار على طاعة الله عز وجل أتته الأمداد من الله عز وجل، وأعانه الله عز وجل.

شكر الله عز وجل

شكر الله عز وجل قوله: (وأسألك شكر نعمتك) الشكر هو: الثناء على المنعم بما أولاكه من معروف. والشكر يدور على ثلاثة أركان: على القلب واللسان والجوارح. فالقلب لمعرفة النعمة ومعرفة المنعم عز وجل بهذه النعمة، واللسان للتحدث بالنعمة: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. والجوارح للقيام بطاعة الله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم ساقاه وحتى تتفطر قدماه، (فيقال له: أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟) فكان هذا العمل شكراً لله عز وجل. من الشكر كذلك أن تشكر من أتت النعمة على يديه، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل.

حسن العبادة

حسن العبادة قوله: (وحسن عبادتك) وحسن العبادة يكون نتيجة للوصول إلى درجة الإحسان، فالإحسان هو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ومن حسن إسلامه غفر الله عز وجل له ما مضى وما سلف من الذنوب، ومن لم يحسن إسلامه أخذ بما مضى وما بقى، يؤاخذ بالأول والآخر، ومن حسن إسلامه يكافأ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولا يكافأ بالسيئة إلا بمثلها. فالأعمال تتفاضل بحسب ما في قلوب أصحابها من تقوى لله عز وجل، فكم من قائم محروم! وكم من نائم مرحوم! هذا قام وقلبه كان فاجراً، وهذا نام وقلبه كان عامراً. يقول أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقاء وصومهم؟ والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترين، والرجلان يكونان في صف واحد يكبران خلف إمام واحد في وقت واحد ويسلمان في وقت واحد وما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. كم بين أن تضرب الصلاة في وجهه وتقول له: ضيعك الله كما ضيعتني، ومن يقبل الله عز وجل صلاته ويرفعه الله عز وجل بها درجات.

القلب السليم واللسان الصادق

القلب السليم واللسان الصادق وقوله: (وأسألك قلباً سليماً) كما مدح الله عز وجل إبراهيم عليه السلام فقال: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] أي: سليم من الشرك، سليم من البدع، سليم من الشهوات ومن الشبهات، سلم مما سوى الله عز وجل، وسلم من محبة غير الله عز وجل، فهو منقاد لما يحبه الله عز وجل ويرضاه، فلا يدخل أحد الجنة إلا من أتى الله بقلب سليم، كما قال عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. وقوله: (ولساناً صادقاً) كما نصح النبي صلى الله عليه وسلم بالصدق وقال: (فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار) وإذا ملك العبد قلباً سليماً ولساناً صادقاً فهذا هو المسلم الذي سلم المسلمون من لسانه ويده. والكذب أصل النفاق، ولذلك عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صفات المنافقين قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب) فبدأ بصفة الكذب؛ لأنه كاذب في ادعائه الإيمان، كاذب في إظهار أن في قلبه إيماناً، وكاذب في عمله وفي أقواله. فالكذب أصل النفاق. وقوله: (وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم) كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الدعاء الذي يجمع كثيراً من الخير، كما قال: (اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه) فكان يسأل الله عز وجل فواتح الخير وخواتمه، فيسأل الله عز وجل من خير ما يعلم، لأن ما يعلمه الله عز وجل أكبر مما يعلمه العبد، فأنت قد تعلم أشياء وتظن أنها من الخير، والله عز وجل يعلم أن الخير أكثر من ذلك. فهذه الوصية الجامعة من عمل بها واستقام عليها عاش حياة الرضا وحياة الإيمان، وعاش حياة طيبة ينقلب منها إلى سعادة أبدية سرمدية، بخلاف من يكنز الذهب والفضة، فمن كنز هذه الكلمات نجا في الدنيا والآخرة، وسعد في الدنيا والآخرة.

فضل الاستغفار

فضل الاستغفار قوله: (وأستغفرك لما أعلم) ختمها بالاستغفار، كما قال الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. وقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]. وقال صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) فالعبد المؤمن دائماً يختم دعاءه ويختم أعماله الصالحة بالاستغفار، فهو لا يمن على الله عز وجل وعلى عباد الله، فبعد أن يقضي عمله في طاعة الله عز وجل يجلس على بساط الذل والاستغفار. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده إلى نحره، واجعل تدبيره في تدميره. اللهم عجل بنصرك للمسلمين، اللهم أرنا في الكافرين عجائب قدرتك يا رب العالمين. اللهم عليك بالذين يصدون عن سبيلك، ولا يؤمنون برسلك، ويكذبون بوعدك، اللهم أنزل عليهم رجزك وغضبك وعذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم عليك بالمنافقين والعلمانيين، اللهم طهر منهم البلاد، وأرح منهم العباد. اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الأفغان والأحزاب

الأفغان والأحزاب وعد الله عز وجل بنصر من ينصرون دينه من المؤمنين وإن كانوا قلة، فبالإيمان والصدق مع الله والثبات على الدين تحوز الصفوة وعد الله بإعلاء كلمته، ولله جنود السماوات والأرض، وفي غزوة الأحزاب خير دليل على ذلك.

فوائد إيمانية من غزوة الأحزاب

فوائد إيمانية من غزوة الأحزاب الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركّب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قُضي وقُدّر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه ولا معقّب لحكمه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان. فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبّح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:10 - 23]. هذه الآيات الكريمات عباد الله! في سورة الأحزاب تحكي لنا كيف تألبت الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف اجتمعت القوى الكافرة من قريش ومشركي العرب ويهود بني قريظة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك في شوال من السنة الخامسة من الهجرة.

تجمع الأحزاب على النبي وأصحابه

تجمع الأحزاب على النبي وأصحابه ذهب سلام بن مشكم وكنانة بن الربيع وغيرهم من اليهود الذين هم سبب كل حرب وسبب كل شر وفساد، ذهبوا إلى قريش لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي سفيان، وكانا قد تواعدا على اللقاء في العام المقبل، وكانت غزوة أحد في شوال من السنة الثالثة، وخرج أبو سفيان لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة الرابعة، ولكنها كانت سنة مجدبة، فخطب الناس وقال: إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وقال: إني راجع فارجعوا، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج لميعاد أبي سفيان ثم عاد إلى المدينة مرة ثانية لما بلغه أن أبا سفيان عاد إلى مكة، فأراد اليهود أن يثيروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رغبة في أن يستأصلوا شوكة المسلمين، وأن يبيدوا خضراء المسلمين، فاستجابت لهم قريش، وخرج (4000) من قريش على رأسهم أبو سفيان بن حرب، ثم ذهبوا إلى قبائل العرب، فأجابتهم قبائل العرب الكافرة، وخرج (10000) مقاتل يقصدون مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ من أجل أن يقضوا على الإسلام وأهله، ومن أجل أن يستأصلوا شأفة المسلمين.

حفر الخندق وما صاحبه من بشارة الله لنبيه وأصحابه

حفر الخندق وما صاحبه من بشارة الله لنبيه وأصحابه لما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة الكرام، فأشاروا عليه أن يحفر خندقاً بين حرتي المدينة، والحرة: هي الأرض ذات الحجارة السوداء، والمدينة بين حرتين: حرة الواقم وحرة الوبرة، فاستجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الرأي وشرع في حفر الخندق، وشرع الصحابة الكرام يحفرون الخندق، فقيل: مكثوا أربعة عشر يوماً، وقيل: عشرين يوماً وقيل: شهراً يحفرون الخندق، وكانت سنة فيها مجاعة في المدينة، وفيها قر -أي: برد- وفيها ريح شديدة، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصحابة وهم يحفرون، فخرج إليهم فوجد ما فيهم من مشقة فقال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة) فأجابوه قائلين: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً. وكانوا يرتجزون ويقولون: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمد بها صوته: أبينا أبينا أبينا. وكان يربط على بطنه حجراً من شدة الجوع. وعرضت كدية عظيمة للصحابة وهم يحفرون الخندق، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الكدية بنفسه، فضربها ضربة أضاء ضوء تحت المعول، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء ضوء تحت ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب الضربة الثالثة فأضاء ضوء تحت المعول، وكلما أضاء ضوء يقول: (الله أكبر) ففي الأولى قال: (الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام، ثم ضرب ضربة فقال: الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس، وضرب الثالثة فقال: الله أكبر أُعطيت مفاتيح اليمن)، بشّره الله عز وجل بفتح هذه البلاد، والأحزاب الكافرة تتوجه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أن يستأصلوا شأفة المسلمين، فالله عز وجل يبشّر نبيه، ويثبّته وصحابته الكرام. فالأسباب الأرضية عباد الله! كلها توافق أن الأحزاب سوف تنتصر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (10000) مقاتل من قبائل العرب، ثم غدرت بنو قريظة وكان فيهم (700) مقاتل فصار العدد (10700) مقاتل، وكانوا من فوق الصحابة ومن أسفل منهم، أي: كان موقع اليهود الاستراتيجي يؤهلهم لأن يضربوا المسلمين ضربة من الخلف. ريح شديدة وحصار اقتصادي وبرد شديد ومجاعة بالمدينة، الأسباب الأرضية كلها تؤكد أن المشركين سوف ينتصرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة الكرام، ولكن الناس يغفلون أن فوق هذه الأسباب وفوق السماوات السبع رب قادر قاهر أبى إلا أن يُعز دينه، وأبى إلا أن ينصر جنده ويرفع رايته: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. فمهما اجتمعت قوى الأرض عباد الله! على المسلمين فإن المسلمين وليهم الله عز وجل وهو ناصرهم ومدّبر شئونهم، هو الذي يملك السماوات والأرض، والذي أمره بين الكاف والنون، ينصر أولياءه بكلمة (كن). فمهما تجمعت القوى الكافرة، ومهما اجتمعت الأسباب الأرضية الكثيرة، فإن الله عز وجل يُعطّل هذه الأسباب، ويمد المسلمين بجند من عنده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31]، فمهما اجتمعت أوروبا الكافرة مع أمريكا الغادرة، مع اليهود ومع النصارى ومع الشيوعيين ومع العلمانيين ومع المنافقين، ومهما كان الكفرة والفجرة والذين يعادون دين الله عز وجل، والذين لا يُحبون أن تكون الدولة للإسلام والجولة للإسلام، مهما اجتمعوا صفاً واحداً وحاربوا دين الله وحاربوا أولياء الله عز وجل؛ لا بد أن يهزمهم الله عز وجل، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]، وقال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح:22]، فكانت الأسباب الأرضية كلها عباد الله! تُشير إلى أن الأحزاب سوف تقضي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة الكرام.

بيان حال المؤمنين والمنافقين في غزوة الأحزاب

بيان حال المؤمنين والمنافقين في غزوة الأحزاب هذه الشدائد يظهر بها نفاق المنافقين، كما يظهر بها صدق المؤمنين، قال عز وجل: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]. فهذا نظر قاصر منهم، لا يرون إلا تحت أرجلهم، ولا ينظرون إلى السماء، ولا يُعلّقون قلوبهم برب الأرض والسماء، ولا يعلمون أن النصر من عند الله، ولا يثقون بوعد الله عز وجل للمؤمنين. قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12] كيف يعدنا محمد صلى الله عليه وسلم بكنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته، ولا يستطيع أن يذهب إلى الخلاء وحده لشدة الخوف والبرد والجوع. يروي لنا حذيفة كيف كان حال الصحابة رضي الله عنهم في غزوة الأحزاب. قال بعض التابعين: لو حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلنا معه وأبلينا. قال: (أنتم كنتم تفعلون ذلك، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الأحزاب في برد شديد وريح وقر وخوف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من رجل يذهب يأتينا بخبر القوم جعله الله عز وجل معي يوم القيامة؟) الجائزة عظيمة أن يكون رفيقاً للنبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، والصحابة كانوا أحرص الناس على الخير، كانوا يسابقون في الخيرات ويسارعون إليها، ولكن الفتنة شديدة، برد شديد وريح شديدة وخوف وجوع، قال: (فما قام منا أحد، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل. ثم قال: من رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله عز وجل معي في الجنة؟ قال: فما قام منا أحد، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هوياً من الليل، ثم قال: من رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله عز وجل معي في الجنة؟ قال: فما قام منا أحد. قال: قم يا حذيفة! فما كان لي بد من القيام حين دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تُذعرهم عليّ. قال: فخرجت كأني أمشي في حمام) لما كان في مهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذهب البرد وذهبت الريح الشديدة، وكأنه يمشي في حمام ساخن. قال: (فدخلت في القوم وإذا الريح وجنود الله عز وجل تفعل بهم ما تفعل، لا تُبقي لهم ناراً ولا قدراً ولا شيء، وإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار. قال: فوضعت السهم في كبد القوس ولو شئت أن أرميه لرميته، ولكني تذكّرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُذعرهم عليّ. قال: فعدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعاد القر-أي: البرد الشديد- وأخبرته بخبر القوم). أي: لما انتهى من مهمته عاد إليه البرد مرة ثانية، فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم في فضل عباءة عليه، فنام فلما كان الصباح قال: قم يا نومان!

المعجزات والتأييد الإلهي للمؤمنين في غزوة الأحزاب

المعجزات والتأييد الإلهي للمؤمنين في غزوة الأحزاب كان للصحابة رضي الله عنهم في هذه الغزوة أتم تأييد، أُيدوا بالمعجزات، وأيدوا بالكرامات، وأيدوا بريح من عند الله عز وجل، وأيدوا بملائكة من السماء، فإذا بذل المسلمون جهدهم -وإن كانت هذه الجهود قليلة بالنسبة إلى إمكانيات الكفار وأعدادهم وقوتهم وعتادهم- فإن الله عز وجل لا بد أن يؤيد جنده وينصر أولياءه. رأى جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق وهو يربط حجراً على بطنه، فذهب إلى امرأته فقال: (رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم أصبر عليه، فهل عندكِ شيء؟ قالت: عندنا عناق -أي: شاة- وشيء من شعير. فقال: جهزي طعاماً. ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: طعيم لك يا رسول الله! ولرجل أو رجلين من أصحابك، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن قدر هذا الطعام فأخبره، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم المهاجرين والأنصار، وأمر جابراً أن يبقي اللحم في البرمة، والخبز في التنور، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار، فذهب جابر يخبر امرأته بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالمهاجرين والأنصار، فقالت: أخبرته كم صنعت فأخبرها: أن نعم)، فعلمت أنها بركة ستحصل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ادخلوا ولا تضاغطوا) فأطعم أصحابه كلهم من هذه الشاة، ومن هذا الخبز، وبقي منه بقية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر: (كلي وأطعمي، فإن الناس قد أصابتهم مجاعة). من المعجزات في هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى قصور الشام وقصور صنعاء وقصور فارس وهو يحفر الخندق قبل أن تأتي الأحزاب الكافرة. وحذيفة رضي الله عنه يسير كأنه في حمام ساخن! تأييد إلهي ومعجزات وكرامات، فإذا بذل المسلمون وسعهم وجهدهم لا بد أن يعزهم الله عز وجل، ولا بد أن ينصرهم سبحانه.

وقفات مع غزوة الأحزاب

وقفات مع غزوة الأحزاب إن معركة الخندق -معركة الأحزاب- لم يحصل فيها التحام بين الجيشين، فقد فوجئت الأحزاب الكافرة، وكان عددهم عشرة آلاف، ونزلوا إلى جانب جبل أحد، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة آلاف من الصحابة الكرام، ونزلوا بظهر سلع، وهو جبل قريب من المدينة أصغر من أحد، فكان سلع في ظهرهم، وكان الآخرون بجوار جبل أحد، وبينهم الخندق بين حرة الواقم وحرة الوبرة، لم يحصل التحام بين الجيشين. وتذكر بعض الروايات أن بعض المشركين حاولوا عبور الخندق بخيولهم، وأن علياً رضي الله عنه قتل عمرو بن عبد ود فارس قريش، وأن الزبير قتل رجلاً آخر من الكفار، ولكن ذلك لم يرد بسند صحيح، أما التراشق بالنبال فقد كان يستمر أحياناً، وقد استمر مرة إلى الليل، ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يملأ الله عز وجل قبورهم ناراً؛ لأنهم شغلوه عن الصلاة الوسطى، فما صلى هو والصحابة العصر حتى غربت الشمس، ولم تكن صلاة الخوف قد شُرعت. هذه الغزوة لم يكن فيها تلاحم بين الجيشين، ولكن الظروف التي لابستها وعدد الكفار والبرد الشديد والجوع والحصار الاقتصادي جعلتها من أشد الغزوات التي زلزلت قلوب الناس، والتي ظهر فيها النفاق، وقال المنافقون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، وقال الله عز وجل حكاية عن حالهم: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13] وكذّبهم الله عز وجل في ذلك، فقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:13 - 17]. وكما ظهر النفاق ظهر صدق الصادقين، كما قال الله عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. فأهل الإيمان الصادق عباد الله! لا يتزلزل إيمانهم، ولا تذهب بهم الظنون الكاذبة كل مذهب، فهم يثقون بوعد الله ويثقون بنصره، ويعتقدون بأن العاقبة للتقوى، وبأن جند الله هم الغالبون، وبأن حزب الله عز وجل هم المنتصرون، مهما تكالب عليهم الشرق والغرب الكافر، ثقتهم بالله عز وجل واعتقادهم في نصر الله عز وجل مهما قلت معهم الأسباب.

تكالب أعداء الله على المسلمين بين غزوة الأحزاب وحرب الأفغان

تكالب أعداء الله على المسلمين بين غزوة الأحزاب وحرب الأفغان هاهو العالم بأسره في هذا الزمان يتعرض لدولة مسلمة تقيم شرع الله عز وجل وتعز دينه، فيها مجاعة وقحط وهم على مشارف الدخول في فصل الشتاء وعلى مشارف برد شديد وريح شديدة، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه هذه المعركة بما حدث يوم الأحزاب، ونحن نثق بأن قدرة الله عز وجل لا بد أن تتدخل، ولا بد أن يبتلي الله عز وجل الكافرين بما لم يكونوا يحتسبون، وهاهم اليوم يعانون من الطواعين ومن الجمرة الخبيثة، ولا ندري ما خبأ لهم القدر، وما يظهر لهم بعد ذلك من جند الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فإذا ثبت المؤمنون على دين الله وأعزوا دينه فلا بد أن يُعزّهم الله عز وجل وينصرهم، ولا بد أن تكون الدولة للمسلمين، والجولة لحزب الله عز وجل الموحدين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

بيان غزوة بني قريظة وما حصل للمسلمين من تأييد بعد غزوة الأحزاب

بيان غزوة بني قريظة وما حصل للمسلمين من تأييد بعد غزوة الأحزاب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:25 - 27]. هذه آيات من الله عز وجل، إذ سجّل الله عز وجل لنا ما حدث مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ من أجل أن يثبت المؤمنين في كل زمان ومكان، وكيف أن الكافرين رجعوا بصفقة المغبون، ورد الله عز وجل كيدهم إلى نحورهم، وأنزل الذين ظاهروهم -أي: من يهود بني قريظة- من صياصيهم -أي: من قلاعهم وحصونهم- {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26]، وذلك لما أرسل الله عز وجل على الأحزاب الكافرة ريحاً تخلع خيامهم وتكفأ قدورهم، ولا تدع لهم قدراً ولا شيئاً إلا أذهبته ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم منزل الكتاب مجري السحاب اللهم اهزمهم وزلزلهم) فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأحزاب الكافرة، وتذكر بعض روايات السير إسلام نعيم بن مسعود وكيف أنه سعى في الوقيعة بين اليهود والأحزاب الكافرة، ولكن ذلك لم يرد بسند صحيح، والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا ربه: (اللهم منزل الكتاب مجري السحاب اهزمهم وزلزلهم) فأرسل الله عز وجل ملائكة تزلزل قلوبهم وتلقي الرعب في نفوسهم، وأرسل ريحاً شديدة لا يستقر لها شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالصبا وأُهلكت عاد بالدبور) والصبا: هي الريح الشرقية. فالله عز وجل هو الذي أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، إذ أن قدرة المسلمين ضعيفة وإمكانياتهم ضعيفة، ولكن الله عز وجل من فوق سبع سماوات يمكر بالكافرين، فأرسل عليهم ريحاً شديدة تخلع خيامهم وتكفأ قدورهم وملائكة تزلزل قلوبهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].

انتشار جيوش وسرايا المسلمين في الجزيرة بعد غزوة الأحزاب

انتشار جيوش وسرايا المسلمين في الجزيرة بعد غزوة الأحزاب بعد أن أجلى الله عز وجل يهود بني قريظة عن مدينة رسوله إلى غير عود قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، وكانت هذه من علامات النبوة، فما قصد المشركون بعد ذلك مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانت الجيوش والسرايا تخرج من المدينة تفتح البلاد، وتفتح قلوب العباد بدعوة الإسلام، فكان بعد ذلك في السنة الثالثة صلح الحديبية، ثم كان الفتح الأعظم فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة، ثم كانت السنة التاسعة هي سنة انتشار الإسلام في جزيرة العرب، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش قوامه ثلاثون ألفاً -والعرب ليس لها طاقة بمحاربة جيش قوامه ثلاثون ألفاً- قاصداً شمال الجزيرة من أجل مقابلة الروم وحربهم، ففروا أمام جحافل الإسلام، وبعضهم صالح النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية، وكان هذا العام -التاسع- عام انتشار الإسلام في جزيرة العرب، وأتت الوفود إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرون بالإسلام، أو يُعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، ثم كان في نهاية العام العاشر وبداية العام الحادي عشر حجة الوداع، وفي الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة توفي النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجاً، وجاء نصر الله والفتح، وبعد أن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام دفعة قوية، أضاءوا بها الدنيا وكسروا بها كسرى، وقصموا بها قيصر، وتحركت شمس الإسلام تنير المعمورة من الأرض، حتى دق المسلمون أبواب فيينا في أوروبا، ووصلوا إلى حدود الصين، هذه هي الفتوحات الإسلامية الأولى.

بشرى النبي صلى الله عليه وسلم بالفتوحات في آخر الزمان

بشرى النبي صلى الله عليه وسلم بالفتوحات في آخر الزمان بشر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بأن الفتوحات الإسلامية الثانية سوف تكون أكثر من الفتوحات الأولى، وسوف تعم كل الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) رغم أنف أوروبا وأمريكا ورغم أنف روسيا ورغم أنف العلمانيين، والذين يسارعون في موالاة الكافرين نقول لهم: سوف تكون الفتوحات الإسلامية الأخيرة، وسوف ينتشر دين الإسلام، ولا يبقي الله عز وجل بيت مدر ولا وبر إلا دخل فيه هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، وينتصر المسلمون على اليهود والنصارى كما بشّرت بذلك الأحاديث الصحيحة، واللقاء حتمي معروف. وبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملاحم التي سوف تكون في آخر الزمان سوف تكون العاقبة فيها للمتقين، وسوف يرتفع دين الله عز وجل وترفرف راية الإسلام من جديد {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4 - 5] فلا بد أن يثبت المسلمون على دين الله عز وجل، فإن هذه الحروب المعاصرة حروب صليبية بمعنى الكلمة، كما صرّح بذلك رئيس الكفر وإمامه، وهي حروب صليبية لا تستهدف الإرهاب، وإلا فلماذا لا يُحاربون الإرهاب في فلسطين؟ لماذا لا يحاربون إرهاب شارون؟ أم أن هذا ليس بإرهاب؟ فهم لا يقصدون الإرهاب كما يقولون، ولكنهم يقصدون كل بقعة من الأرض ترتفع فيها راية الجهاد ويراد فيها أن تكون كلمة الله هي العليا، هم يقصدون هذه البقاع من الأرض من أجل أن يقضوا على شعيرة الجهاد، ومن أجل أن يقضوا على الذين يجاهدون لإعزاز دين الله عز وجل، ولا يمكنهم ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشّر ببقاء طائفة من الأمة ظاهرين يقاتلون من أجل أن تكون كلمة الله عز وجل هي العليا، فلا يمكن أن تخلو الأرض ممن يجاهدون لإعزاز دين الله عز وجل ورفع رايته فإن الجهاد هو سبب عزة الإسلام، وسبب روحه وانتصاره. فلن ينتصر المسلمون بدون بذل وتضحية، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) أي: يجاهدون لإعزاز دين الله. فالطائفة الظاهرة ليست طائفة من علماء يقيمون الحجة على سائر أهل زمانهم، وينشرون سمة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الطائفة فيها علماء ومجاهدون، وفيها آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، فالظهور عباد الله! في الجهاد والعلم والدعوة واتباع السنة، هذا الظهور الذي ذكره العلماء كما فسّر الإمام النووي بذلك هذا الحديث. فيجب أن يكونوا طائفة واحدة، بل أناس يقيمون الحجة العلمية، وأناس يجاهدون لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فهذه الطائفة ستبقى في الأرض، ولا يمكن لقوى الشر والشرك أن تقضي على هذه الطائفة التي بشّر بوجودها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولن يمكِّن الله عز وجل الكافرين في أي زمان أو مكان من أن يبيدوا خضراء المسلمين ويستأصلوا جذورهم، وإنما قد تحدث هزيمة عارضة كما حدث يوم أحد من أجل التمحيص والتربية، ومن أجل أن يتخذ الله عز وجل ما يشاء من الشهداء، ولكن الصولة والجولة في النهاية لا تكون إلا للإسلام وأهله. فنحن نبشر المسلمين في كل زمان ومكان أن الأحزاب الكافرة التي تجتمع على الإسلام اليوم لا يمكن أن يحققوا هدفهم، ولا يمكن أن يصلوا إلى مطلبهم، بل سوف يعودون بصفقة الخسران وسوف تكون الجولة والصولة في النهاية للإسلام وأهله. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده إلى نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين، اللهم عليك بالأمريكان والباطنيين وسائر أوروبا الكافرة يا رب العالمين! اللهم دمّرهم تدميراً والعنهم لعناً كبيراً، اللهم كف بأسهم عن إخواننا بأفغانستان، وبسائر بلاد المسلمين، اللهم كن مع المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم قو شوكتهم، وسدد رميتهم، وأجب دعوتهم، ووحد صفهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم عليك بـ شارون وبيريز وسائر اليهود، اللهم اجعلهم عبرة للأمم يا رب العالمين! اللهم جمّد الدماء في عروقهم، اللهم اجعلهم عبرة لخلقك يا رب العالمين! اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، وانصر إخواننا في الشيشان وفي سائر البلاد التي يرتفع فيها علم الجهاد لإعزاز دينك. اللهم اهد شباب المسلمين، واهد أطفالنا وأطفال المسلمين، واهد نساء المسلمين للعفّة والحجاب والحياء يا رب العالمين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وب

التخلص من الوهن

التخلص من الوهن إن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ لذلك جعلها الله عز وجل لقوم عجلت لهم طيباتهم فيها، وادخر الآخرة لعباده المؤمنين، فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، فأعز الله بهم الدين، وحقق بهم سعادة العالمين.

الوهن وأسبابه وكيفية التخلص منه

الوهن وأسبابه وكيفية التخلص منه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].

سبب ذل المسلمين وهوانهم

سبب ذل المسلمين وهوانهم ما الذي أصاب أمة الإسلام عباد الله! فتسلط عليهم اليهود في فلسطين، وتسلط عليهم الصرب في البلقان، وتسلط عليهم الهندوس في الهند الوثنية الكافرة، وتسلطت عليهم الحكومات العلمانية في سائر البلاد التي تنتسب إلى الإسلام وأهله؟ ما الذي أصاب أمة الإسلام عباد الله! فهز كيانها وأضعف قوتها، وكان سبب ذلتها وهوانها؟ لقد شخص النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي أصاب الأمة قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، فقال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وما كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون الوهن، بل كانوا يعرفون العزة والرفعة والكرامة، كانوا يعرفون طريق النصر وطريق الشهادة في سبيل الله عز وجل، ولكنهم سألوا عباد الله من أجل أن نستفيد نحن؛ لأنه قد أصابنا الوهن: (فقالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). وليس المقصود بالموت في الحديث: الموت الذي كتبه الله عز وجل على بني آدم؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكرهون هذا الموت أيضاً، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قالوا: كلنا يكره الموت. قال: ليس ذاك، إن المؤمن إذا فرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه). فالموت الذي كتبه الله عز وجل على بني آدم كل العباد يكرهونه؛ لأنه مصيبة، قال عز وجل: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106]. فلا يصاب أحد في الدنيا بمثل مصيبة الموت، ولكن الموت الذي هو الشهادة في سبيل الله عز وجل كان الصحابة يحبونه، كما قال خالد رضي الله عنه للروم: أتيتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة. فكانوا يتطلعون إلى الشهادة في سبيل الله عز وجل، ويحبون البذل والتضحية لإعلاء دين الله عز وجل، وهذا الوهن الذي أصاب الأمة عباد الله! هو حب الدنيا والتعلق بها، وكراهية البذل والإنفاق، وكراهية الموت في سبيل الله عز وجل، وقد حكى الله عز وجل عن الكفار أنهم يغترون بظاهر الدنيا وزينتها، فقال عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]. فالمؤمن عباد الله لا يغتر بالدنيا، ولا تذهله فيها الأضواء، ولا تفتنه فيها الشهوات؛ لأن همته أعلى من الدنيا، هو لا يرغب في الدون، ولا يبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون، آماله كلها في الآخرة، وأحلامه كلها في الآخرة، فهو يرغب في الشهادة في سبيل الله عز وجل، ويرغب في درجات الشهداء: (فإن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض)، فلما تعلق المسلمون بالدنيا، وأشرب حب الدنيا في قلوبهم، وكرهوا البذل في سبيل الله عز وجل؛ أصابهم ما أصابهم من الذل والهوان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). ووالله ما هذا الذل الذي أصاب المسلمين إلا لأن الناس رضوا بالدنيا واطمأنوا بها، وكانت هي مبلغ علمهم، وغاية آمالهم وأحلامهم، كيف يرتفع دين الله عز وجل، وكيف تعلو راية الله عز وجل، وكيف يرفرف علم الإسلام من جديد على المعمورة دون بذل من المسلمين، ودون إعلاء لكلمة رب العالمين؟ كيف ترتفع راية الإسلام وشجرة الإسلام لا تروى بالماء، ولكنها تروى بالدماء؟! أصاب المسلمين الوهن وهو حب الدنيا والتعلق بها، والرغبة في شهواتها، وزهدوا في الآخرة الباقية الدائمة، والله عز وجل قد أمرنا بالزهد في الدنيا، وقد رغبنا في الآخرة، فقال عز وجل: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، وقال عز وجل: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26]، وقال: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21]، وقال عز وجل: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، وقال عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْن

بيان حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة

بيان حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقارة الدنيا وزهدنا في شهواتها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). فلو كانت الدنيا تعدل جناح بعوضة عند الله عز وجل ما سقى كافراً منها شربة ماء، ولكنكم ترون الكفار والفجار أكثر حظاً ونصيباً من الدنيا؛ وذلك لحقارتها عند الله عز وجل، بل قال الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. أي: لولا أن تكون الفتنة شديدة على أهل الإيمان فيصيرون أمة واحدة -أي: على الكفر- لجعل الله عز وجل لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، أي: أبراجاً وسلالم عليها يظهرون. قال: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:34 - 35]. ثم جمع الله عز وجل الآخرة الباقية الدائمة، فجعلها كلها للمتقين، فقال عز وجل: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]. (مر النبي صلى الله عليه وسلم والناس كنفيه -أي: من حوله- بجدي أسك ميت -أي: مقطوع الأذن- فتناوله بأذنه وقال: أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟ فقالوا: والله ما نحب أنه لنا بشيء، والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)، أي: كما زهدتم في هذا الجدي الأسك الميت، فالدنيا أهون على الله من هذا عليكم. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً ومتعلماً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم راح وتركها).

ذكر الأسباب التي جعلت الدنيا رأس كل خطيئة

ذكر الأسباب التي جعلت الدنيا رأس كل خطيئة حب الدنيا رأس كل خطيئة، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بالخمر؛ لأن الذي يصيبه السكر بالخمر يفيق غالباً وهو في الحياة، أما من يسكر بحب الدنيا فلا يفيق غالباً إلا في عسكر الموتى نادماً بين الخاسرين.

حب الدنيا حب لما أبغضه الله ورسوله وتعظيمها تعظيم لما حقره الله ورسوله

حب الدنيا حب لما أبغضه الله ورسوله وتعظيمها تعظيم لما حقره الله ورسوله قالوا: وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا من وجوه: الوجه الأول: أن العبد إذا أحبها فقد أحب ما يبغضه الله عز وجل، وما يبغضه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. الوجه الثاني: أنه إذا أحبها عظمها وهي حقيرة عند الله عز وجل، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقع في تعظيم ما حقره الله عز وجل، وما حقره رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكفى بذلك فتنة.

حب الدنيا يمنع من سعي العبد للآخرة

حب الدنيا يمنع من سعي العبد للآخرة الوجه الثالث: أنه إذا أحبها صيرها غايته، فيكون سعيه كله للدنيا، وأمله كله في الدنيا، فلا يسعى للآخرة سعيها، ولا يرجوها، ولا يعمل لها العمل اللائق بها، وهذا شر منكوس وقلب معكوس من كل وجه، قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. فعمله كله في الدنيا من أجل الدنيا، حتى الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل من طلب العلم النافع، أو الصلاة أو الصدقة أو الجهاد أو غير ذلك، فإنما يتوسلون بذلك إلى الدنيا لما في قلوبهم من حبها. وفي حديث مسلم خبر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: الذي قرأ القرآن من أجل أن يقال: قارئ، والذي أنفق من أجل أن يقال: متصدق، والذي جاهد وقاتل من أجل أن يقال: شجاع أو جريء، فانظروا إلى حب الدنيا عباد الله كيف حرم هؤلاء من الأجر في الآخرة، وكانوا أول الداخلين إلى النار؛ لأن الله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك. والذي يعبد الله عز وجل بالرياء مثله كمثل رجل دخل السوق ومعه كيس مملوء بالحصى، فكلما رآه أحد قال: ما أملأ كيسه! فإذا وقف عند البائع وأخذ ما أراد، ثم أخرج ما في كيسه ضرب به وجهه ولم ينل به شيئاً، ولم يكن له إلا قول الناس: ما أملأ كيسه! قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا ليصيب به عرض الدنيا لن يجد عرف الجنة يوم القيامة) أي: لا يجد ريح الجنة يوم القيامة؛ لأنه طلب العلم للدنيا، وإنما ينشأ ذلك من حب الدنيا.

حب الدنيا يضر بصاحبه ويمنع من الإيمان جملة

حب الدنيا يضر بصاحبه ويمنع من الإيمان جملة الوجه الرابع: أن حب الدنيا يدخل على العبد الضرر ولابد، فمن الناس من يمنعه حب الدنيا عن الإيمان جملة، فلا يؤمن بالله عز وجل، فقد يكون له من الجاه ومن السلطان كالقسيسين والرهبان، والذين يتبوءون المناصب التي يصدون بها عن سبيل الله عز وجل، ويحاربون أولياء الله عز وجل، وهم يعتقدون أنهم مخطئون في ذلك، وأن الحق في دين الله عز وجل، وفي الدعوة إليه، وأن الدعاة إلى الله عز وجل على حق، ومع ذلك يحاربون أولياء الله عز وجل، والذي يمنعهم من أن يصرحوا بالحق أو يعملوا به هو حبهم للدنيا، فحب الدنيا قد يمنع العبد من الإيمان جملة، فيستمر على كفره وإعراضه وصده عن سبيل الله عز وجل. ومنهم من يمنعه حب الدنيا عن أداء الواجبات. ومنهم من يمنعه حب الدنيا عن أداء واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره، وأقل شيء عباد الله! أن حب الدنيا يحرم العبد من سعادة الدنيا والآخرة، وكمال سعادة العبد في الدنيا والآخرة: أن يكون ظاهره وباطنه لله عز وجل، وأن يكون بقلبه وقالبه مع الله عز وجل، فهذا إذا وقف في الصف عباد الله فهو يتفكر في شهواته، ويتفكر في أمواله ومقاولاته، ولا يتفكر فيما يتدبره من قرآن، أو ما يذكره من أذكار، وإنما قلبه يهيم في الدنيا، كما قال بعضهم: يخبرني البواب أنك نائم وأنت إذا استيقظت أيضاً فنائم أي: حتى في اللحظات التي يؤدي فيها العبادات والواجبات هو مشغول ومشغوف بالدنيا، فهو بالشام مقيم، وقلبه بمصر، يتفكر في شهواته وفي دنياه، فحب الدنيا يدخل على العبد الضرر ولابد.

حب الدنيا يؤدي إلى جعل الدنيا أكبر هم من يحبها

حب الدنيا يؤدي إلى جعل الدنيا أكبر هم من يحبها الوجه الخامس من أضرار حب الدنيا: أن العبد إذا أحبها كانت أكبر همه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت الدنيا نيته فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم ينل منها إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة). فليس معنى: أن العبد يحب الدنيا، ويحرص على شهواتها وأعراضها أنه سوف يصير أغنى الناس، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كره كاره، بل يعذب بالفقر فيها، ويطلبها فتفلت منه.

حب الدنيا سبب تعذيب العبد في الدنيا والآخرة

حب الدنيا سبب تعذيب العبد في الدنيا والآخرة الوجه السادس من ذلك: أن محب الدنيا يعذب بها في الدور الثلاث ولابد، كما قال الله عز وجل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]. فالله سبحانه يعذبهم في الدنيا بجمعها، والسعي وراءها وتحصيلها من الوجوه المباحة وغير المباحة، قال تعالى: ((فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) أي: يعذبهم في الدنيا بجمعها والحرص عليها، ومنع حق الله عز وجل فيها، ويعذبهم عند الموت كذلك بمفارقة الأموال التي جمعوها، والدنيا التي أحبوها، ((وَهُمْ كَافِرُونَ)) بمنع حق الله عز وجل فيها. وإن من أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل بذل عمره كله في جمع المال، فجمع الأموال من الوجوه المباحة وغير المباحة، ولم يخرج الزكاة الواجبة، ولم ينفق في أوجه الخير، ثم ورث هذا المال أناس صالحون فتصدقوا من هذا المال، وتقربوا به إلى الله عز وجل فكان لهم حلاوته، وعليه مرارته، فهو بذل عمره يجمع لهم، ولكنه بخل على نفسه، ولم يقدم لحياته، ثم ورث المال من أنفقه في وجوه الخير، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟)، لأن ما قدمه العبد هو ماله، وما تركه لورثته فهو مال وارثه، فالعبد الذي يحب الدنيا يجمعها ويحرص عليها، ولا يتقرب بها إلى الله عز وجل.

حب الدنيا سبب في سفه العقل وقلة الحلم

حب الدنيا سبب في سفه العقل وقلة الحلم الوجه السابع: أن محب الدنيا من أسفه الناس عقلاً، ومن أقلهم حلماً؛ لأنه قد تعلق بوهم زائل. يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها إن اغتراراً بظل زائل حمق فأشبه الأشياء بالدنيا عباد الله! ظل تحسب أن له حقيقة وهو في تخلص وإلى زوال، وأشبه الأشياء بالدنيا كما قال تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]. وأشبه الأشياء بالدنيا عباد الله! رجل نائم رأى في منامه ما يحب وما يكره، فبينما هو كذلك استيقظ. وأشبه الأشياء بالدنيا عجوز شمطاء شوهاء تزينت للخطاب بكل زينة، وسترت كل قبيح، فاغتر بها من لم يجاوز بصره ظاهرها، فطلب النكاح فقالت: لا مهر إلا فقد الآخرة، فإننا ضرتان، واجتماعنا غير مأذون به ولا مستباح، فقال: ما على من أراد وصال محبوبته من جناح، فطلق الآخرة رغبة في وصالها، فلما خلا بها وكشف قناعها وفك إزارها، إذا كل آفة وبلية، فمنهم من طلق واستراح، ومنهم من آثر المقام، فما استتمت ليلة عرسه إلا بالصراخ والعويل، تالله لقد أذن مؤذنها على رءوس الخلائق بحي على غير الفلاح، فقام المجتهدون والمصلون لها فواصلوا غدوهم بالرواح، فلم يحمد القوم السرى عند الصباح، ووقعوا في شبكتها فأسلمتهم للذباح، وخرجوا في طلبها فما رجع منهم أحد إلا وهو مكسور الجناح. يشبه العلماء الدنيا والآخرة -ولله المثل الأعلى- بملك بنى مدينة في أطيب مكان وأرفعه وأعلاه، وأطيبه هواء، ثم دعا الرعية إلى هذه المدينة وقال: من سبق إلى برج فهو له، ومن سبق إلى قصر فهو له، ومن سبق إلى غرفة فهي له، وشق إلى هذه المدينة طريقاً، وجعل في بداية الطريق ميداناً، وجعل في الميدان شجرة عجيبة عليها من أنواع الثمار والطيور والأزهار، فخرج الناس يطلبون مدينة الملك فمروا بهذا الميدان على هذه الشجرة، فجلسوا تحت الشجرة، وأعجبوا بالشجرة وما عليها من ثمار، وأزهار وأطيار وقالوا: كيف ننفر في الحر ونترك هذا الظل الظليل، والنقد خير من النسيئة، وذرة منقودة ولا برة موعودة، وجلسوا تحت الشجرة عباد الله! ثم قام من كل ألف رجل رجل، وقال: لا نترك مدينة الملك إلى هذه الشجرة، فعما قليل تسقط أوراقها، وتموت أطيارها وتنتهي ثمارها، ويحرقها قيمها، وخرجوا إلى السباق، ولم يشغلهم قلة الرفاق، يطلبون مدينة الملك، ويجتهدون في الوصول إلى بروجها وإلى نعيمها الدائم، ثم عما قليل حدث ما أخبروا به، فماتت الأطيار، وانتهت الثمار، وسقطت الأوراق، ثم أحرقها قيمها، فأحاطت النار بمن تحتهم، فقالوا: أين الذين تركونا وتسابقوا إلى مدينة الملك؟ فقيل لهم: انظروا فرأوهم يتمتعون في أبراجها، ويتفكهون في ظلالها، فتندموا على ما فاتهم من الخير، وزاد من حسرتهم أنه حيل بينهم وبينما يشتهون: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة

الزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد:

تعريف الزهد

تعريف الزهد الزهد هو: الإعراض عن الشيء لاستقلاله واستحقاره، والرغبة فيما هو خير منه، وإنما ينشأ الزهد في الدنيا عباد الله نتيجة لليقين بقول الله عز وجل: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]. فكلما ازداد يقين العبد بقول الله عز وجل: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، فإنه يزهد ولابد في الدنيا ويرغب في الآخرة، فإن الدنيا مثلها كمثل قطعة الثلج رخيصة الثمن سريعة الذوبان، والآخرة كالجوهرة غالية الثمن باقية لا تذوب، فينشأ الزهد نتيجة لليقين، بقول الله عز وجل: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].

درجات الناس في الزهد

درجات الناس في الزهد الناس في الزهد عباد الله! على درجات: من الناس من يزهد في الدنيا هو لها هو مشته وقلبه إليها مائل، ولكنه يجاهد نفسه، فهذا لا يستحق اسم الزاهد، وإنما يسمى متزهداً. الصنف الثاني عباد الله! من يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ولكنه يرى أنه قد ترك شيئاً، فيكون حاله كحال من ترك خزفه وأخذ جوهره، فهو يرى أنه قد ترك شيئاً. الصنف الثالث عباد الله! من زهد في الدنيا فأعرض عنها وأراد الآخرة، ولا يرى أنه قد ترك شيئاً، ويكون حاله كحال من أراد الدخول على الملك، فمنعه كلب على باب الملك، فألقى إليه لقمة شغله بها، ثم أخذ في الدخول على الملك ونال عز اللقاء، وأخذ من الملك ما أراد. فالدنيا عباد الله! هي كلقمة، والشيطان هو كلب على باب الملك، فمن ألقى إليه الدنيا فإنه يخلو بالملك، وينال عز الدنيا والآخرة.

دوافع الناس إلى الزهد

دوافع الناس إلى الزهد من الناس من يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة؛ لأن السعي في الدنيا يتعب القلب والبدن، والزهد يريح القلب والبدن، كما قال الحسن البصري: الزهد في الدنيا يريح القلب ويريح البدن، فهو لا يشغل قلبه بالدنيا والحرص عليها، ولا جوارحه بشدة السعي فيها. ومن الناس من يزهد في الدنيا خشية أن تنقص من حسناته، كما قال عمر رضي الله عنه: لولا أني أخاف أن تنقص من حسناتي لخالطتكم في طيب عيشكم، ولكني سمعت الله عير قوماً فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]. ومن الناس من يزهد في الدنيا؛ لما يرى من قلة وفائها، وكثرة جفائها وخسة شركائها، كما قيل لبعضهم: ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها وخسة شركائها؛ لأنه إما أن ينافس الكفار الذين اغتروا بالدنيا وزينتها، أو ينافس أهل الشهوات والترف والرغبة فيها، ولا ينافس أهل الرغبة في الآخرة. من الدوافع إلى الزهد كذلك عباد الله: أن العبد الذي يرغب في الدنيا قد يتكدر عليه عيشه مع الله عز وجل، ولا تخلص له حلاوة الإيمان، أي: لا يكون مشغولاً بقلبه وجوارحه بالله عز وجل.

المفهوم الصحيح للزهد

المفهوم الصحيح للزهد ليس الزهد عباد الله! نفض الدنيا من اليد، ولكن الزهد أن تخرج الدنيا من قلبك، فقد كان عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان والزبير بن العوام من أغنى الصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك كانوا أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة. لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيش العسرة أتى عثمان رضي الله عنه بألف دينار -أي: عملة ذهبية- وصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما ضر ابن عفان ما فعل بعد اليوم). فليس الزهد في الدنيا عباد الله أن تخرجها من يدك وهي في قلبك، فقد تكون فقيراً -يعني: من الدنيا- ولكنك من أرغب الناس فيها، وقد تكون مملوء اليد من الدنيا، ولكنك من أزهد الناس فيها، كما قيل لبعضهم: ما رأينا أزهد منك، فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا راغمة فزهد فيها. فهذا أويس القرني إمام من أئمة التابعين، بشر بوجوده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب من الصحابة أن يطلبوا من هذا التابعي أن يستغفر لهم؛ لمنزلته عند الله عز وجل، اختلف الناس هل هو أزهد أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال بعضهم: عمر بن عبد العزيز، وقال بعضهم: أويس القرني؛ لأنه لو ملك الدنيا لزهد فيها، فقال الذي يرجح عمر بن عبد العزيز: إن عمر بن عبد العزيز قد ملك الدنيا وزهد فيها، ولا تجعل من جرب كمن لم يجرب.

أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان في الدنيا وزهدهم فيها

أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان في الدنيا وزهدهم فيها الناظر في حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكرام يعلم قيمة الزهد في الدنيا ويعلم حقارتها، فقد كان من حاله صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه ما يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار) أي: لا يطبخ في بيت من بيوته الشهرين الكاملين. قال عروة: فما كان يعيشكم يا خالة؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، أي: أنهم كانوا يأكلون التمر والماء أكثر الأيام، إلا أنهم كانوا يشربون اللبن أحياناًً، تقول عائشة: (إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت عندهم منايح -جمع منيحة وهي: الناقة ذات اللبن- فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه). وذكر عمر بن الخطاب ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه)، والدقل: هو رديء التمر. وتقول عائشة رضي الله عنها: (ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض صلى الله عليه وسلم)، ليس من خبز القمح، ولكن من خبز الشعير! وأخرجت كساء غليظاً، وإزاراً ملبداً -أي: كثير الرقع- فقالت: (قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذين) بأبي هو وأمي وهو سيد ولد آدم، وسيد الأولين والآخرين. وقالت: (كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف). (دخل عليه عمر رضي الله عنه، فبكى لحاله صلى الله عليه وسلم، ينام على حصير مرمل قد أثر الحصير في جنبه -أي: جعل في جنبه خيوطاً- فبكى عمر رضي الله عنه فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب بكائه، فقال: ذكرت كسرى وقيصر وهم ينامون على الحرير والديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا). فلو كانت الدنيا لها قيمة عند الله عز وجل ما حرم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرج الصحابة الكرام على هذا الزهد فكانوا أزهد الناس؛ فكان عمر يخطب الناس وقد لبد بين كتفيه برقاع ثلاث في مكان واحد. ولما ذهب عمر رضي الله عنه إلى الشام من أجل أن يستلم مفاتيح بيت المقدس قال: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح. قالوا: يأتيك الآن، فأتى أبو عبيدة، فقبل يد عمر واعتنقه عمر رضي الله عنه، وذهب معه إلى داره، فنظر عمر في داره -وهو أمير الجيوش وأمير الشام- فما وجد في بيته إلا سيفه وترسه ورمحه، فقال: لماذا لم تتخذ ما اتخذ أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! هذا يبلغنا المقيل. عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (كان أناس يخرون من قامتهم في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفاقة -أي: من شدة الجوع والفقر، أو من الخصاصة- فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إليهم، وقال: لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة). يقول محمد بن سيرين: دخلنا على أبي هريرة رضي الله عنه وعليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في أحدهما، ثم قال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان! لقد رأيتني أصرع بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجيء الجائي فيجلس على صدري، يحسب أن بي الجنون -أي: الصرع- وما بي إلا الجوع. فكان من حال الصحابة -وهم أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل- من التقلل في الدنيا، ومن الفقر والحاجة، ومن الرغبة في الآخرة؛ ما يدل على شرفهم وفضلهم وعظيم مكانتهم. قال عبد الله بن مسعود للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا خيراً منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة. فهل ترون الزهد عباد الله! شيئاً عارضاً يتخلق به العبد، أو أن الزهد يكون سبباً لخيرات الدنيا والآخرة؟ فالعبد إذا زهد في الدنيا زهد في أعراضها وشهواتها وأموالها، وسعى للآخرة سعيها. والعبد إذا زهد في الدنيا عباد الله! بذل نفسه طلباً للآخرة، وهكذا كانت آيات الصدق عند الصحابة رضي الله عنهم لم تكن الدنيا عندهم بشيء. وقال أبو الدرداء: لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم. فالعبد إذا زهد في الدنيا كان سعيه للآخرة، وكان عمله لها، فلا يلتفت إلى الدنيا، ولا تشغل باله ولا جوارحه. اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك. اللهم اقسم لن

التقوى

التقوى التقوى منة من الله على عباده، وهي سمو في التدين يتضمن طاعة الله عز وجل ومراقبته سراً وجهراً، ولشرف التقوى وفضلها شرف الله أهلها في الدنيا والآخرة، وآتاهم ثمرة عملهم طيبة في الدارين، كرماً منه وجوداً على عباده جزاء ما قدموا.

أهمية التقوى والوصية بها

أهمية التقوى والوصية بها الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله، خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان؛ ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، واغتر الناس بظاهر الدنيا وزينتها، وغفلوا عن شرف التقوى ونعيمها في الدنيا والآخرة، وهذا من الجهل البليغ والغفلة الشنيعة، فإن أهل التقوى هم ملوك الدنيا، كما أنهم ملوك الآخرة. والتقوى: أن يأخذ العبد وقايته من سخط الله عز وجل ومن عذاب الله، وتضاف التقوى أحياناً إلى الله عز وجل ثم تضاف أحياناً إلى يوم القيامة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]. وتضاف التقوى أحياناً إلى عذاب النار، كما قال عز وجل: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131]. فإذا أمر الله عز وجل عباده بتقواه فإنه يأمرهم حينئذ بأن يأخذوا الوقاية من التعرض لسخطه وعذابه وشديد عقابه، وأمر الله عز وجل بتقواه يوم القيامة لأن يوم القيامة هو يوم العذاب، وهو الوقت الذي حدده الله عز وجل للحساب، وإذا أتت الآيات بالأمر بتقوى النار، فالنار هي مكان العذاب الأكبر، فنسأل الله عز وجل أن يقينا شر أعمالنا، وأن يقينا من عذاب النار.

التقوى هي وصية الله ورسله للأولين والآخرين

التقوى هي وصية الله ورسله للأولين والآخرين التقوى عباد الله! هي وصية الأولين والآخرين، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]. فلو كانت هناك خصلة هي أنفع للعباد في العاجل والآجل من تقوى الله عز وجل لأوصاهم الله عز وجل بها، فلما أوصى الله عز وجل الأولين والآخرين بتقوى الله عز وجل، كانت التقوى هي الغاية. والتقوى كذلك عباد الله! هي وصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وسلم؛ لما وعظ الناس موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا؛ لأن المودع يبلغ الغاية في الوصية، ويجتهد في إخلاصها، فلما أوصاهم وصية بليغة عظيمة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، قالوا: (يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنتس، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اتق المحارم تكن أعبد الناس). والتقوى عباد الله! وصية جميع الرسل الكرام لأقوامهم، كما قال عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:105 - 106]. {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123 - 124]. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:141 - 142]. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160 - 161]. {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176] * {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177]. والرسل هم أنصح الناس للناس، وهم أعلم الناس بما يصلح الناس، فكل الرسل قد وصوا أقوامهم بتقوى الله عز وجل. التقوى كذلك هي وصية السلف الصالح رضي الله عنهم، كما قال بعضهم: اتق الله الذي لا بد لك من لقاه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة.

ذكر ما قيل في التقوى

ذكر ما قيل في التقوى التقوى عباد الله! هي كما قال طلق بن حبيب: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله. وقوله: (على نور من الله): أي على علم وبصيرة. وقيل: التقوى هي: ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك. وقيل: التقوى هي: العمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. وقيل كذلك في تعريف التقوى: هي علم القلب بقرب الرب.

لباس التقوى خير لباس

لباس التقوى خير لباس التقوى عباد الله! هي أجمل عباءة يتزين بها العباد، فقد منَّ الله عز وجل على بني آدم بإنزال اللباس الذي يوارون به السوءات، والرياش الذي يتجملون به، منّ الله عز وجل عليهم بهذا اللباس الظاهر، وميز الله عز وجل بين بني آدم وبين الحيوانات، بأن جعل الحيوانات مكشوفة السوءات، أما بنو آدم فقد أنزل الله عز وجل لهم لباساً يواري سوءاتهم، كما قال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]. فاللباس ما يواري السوءات، والرياش ما يتجملون به، ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. فبعد أن منّ الله عز وجل على عباده باللباس الظاهر الذي يستر عورات البدن في الدنيا، منّ الله عز وجل عليهم بأجمل لباس وأحسنه، وهو الذي يواري عورات الظاهر والباطن، وهو الذي يستر العبد في الدنيا والآخرة، ويكون سبباً للنجاة في الدنيا والآخرة، هذا اللباس هو لباس التقوى، فقال عز وجل: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً وخير ثياب المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً فالله عز وجل يتمنن على عباده بهذه الملابس التي يوارون بها العورات والسوءات، والسوءة: ما يسوء ظهوره، فلا تظنوا عباد الله أن التبرج والعري مدنية وحضارة وتقدم، بل هو هبوط وسفول وحيوانية وشهوانية، فالله عز وجل جعل بني آدم مستوري العورات والسوءات، وتمنن عليهم بهذا اللباس الظاهر، وهذا العري والتبرج والسفور والفجور عباد الله! ليس حضارة ولا مدنية، بل هو عقوبة من الله عز وجل للعباد على ذنوب أخرى اقترفوها. ألم تروا إلى آدم وحواء كيف بعد أن عصوا الله عز وجل بدت لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، كما قال الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]. فالله عز وجل شرع للعباد ما يستر العورات والسوءات، وتمنن عليهم بذلك، ثم تمنن بأحسن لباس وهو لباس التقوى، فقال عز وجل: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].

خير الزاد التقوى

خير الزاد التقوى أمر الله عز وجل بالتزود لسفر الدنيا، فقال عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197]. ثم أخبر الله عز وجل أن خير الزاد هو التقوى، وأمر بالتزود من خير الزاد، فقال عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]. قيل: نزلت هذه الآية الكريمة في أهل اليمن، كانوا يذهبون إلى الحج ولا يتزودون للسفر، ويقولون: نحن أضياف الله، أفلا يطعمنا؟ ثم يصيرون كلاً على الناس ويسألون الناس بعد ذلك. فأمرهم الله عز وجل بالتزود لسفر الدنيا، ثم أمرهم الله عز وجل بالتزود لسفر الدنيا والآخرة وهو زاد التقوى، فقال عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].

ولاية التقوى وشرف الانتساب إليها والأمر بالتعاون عليها

ولاية التقوى وشرف الانتساب إليها والأمر بالتعاون عليها أهل التقوى عباد الله! هم أولياء الله عز وجل: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:34]،وهم كذلك أولياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]. فأولياء الله عز وجل هم المتقون، وهم أكرم الناس بحكم الله عز وجل وبحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ليس بالحسب ولا بالنسب، وليس بالشهرة ولا بالمال والجاه والسلطان، وإنما الشرف بتقوى الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. (وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكرم الناس؟ فقال: أتقاهم لله عز وجل). فليس هناك نسب عباد الله! أشرف من نسب التقوى. فهذا سلمان رضي الله عنه لم يكن عربياً فضلاً عن أن يكون قرشياً، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (سلمان منا أهل البيت). لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب فكيف رفع الإسلام سلمان فارس عباد الله حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (سلمان منا أهل البيت)؟ وكيف وضع الكفر عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا لهب، وقد بشره الله عز وجل بالنار وهو في الدنيا، فقال عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]؟ كان سلمان يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم من شرف التقوى عباد الله! أن الله عز وجل أمر العباد بالتعاون عليها، ونهاهم عن التعاون على ما يخالفها، فقال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

أعلى درجة في الدين درجة التقوى

أعلى درجة في الدين درجة التقوى إن شجرة التقوى عباد الله أطيب من شجرة الإيمان، وإن شئت قلت: شجرة التقوى عباد الله! هي أطيب شجرة من شجرات الإيمان؛ لأن التقوى منزلة أعلى من منزلة الإيمان، مع أن منزلة الإيمان منزلة عالية، فقد زعمت أعراب بني أسد الإيمان، ونفى الله عز وجل هذه المنزلة الشريفة والدرجة المنيفة عنهم، فقال عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. ولكن منزلة التقوى أشرف من درجة الإيمان، سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث جبريل عن الإسلام فقال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الإسلام هو استسلام الظاهر لله عز وجل، وهو شهادة الحق، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، ثم سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). فهذه الدرجة الثانية عباد الله، فمن عبد الله عز وجل بدرجة الإسلام، واستسلم ظاهره لله عز وجل، فهو آمن من الخلود في النار، ولكنه لا يأمن من دخول النار بالكلية. ومن عبد الله عز وجل بدرجة الإيمان فإنه آمن من عذاب النار، وإنه يدخل الجنة من أول وهلة؛ لأن الله عز وجل وعد المؤمنين أجراً عظيماً. وقال عز وجل: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146]. وبشر الله المؤمنين بالفضل الكبير، فقال عز وجل: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47]. أما الدرجة العالية فهي درجة الإحسان وهي درجة التقوى، (سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذه هي درجة التقوى: أن يحسن العبد إيمانه وعبادته لله عز وجل، فكأنه يرى الله عز وجل وهو يعبده، ولا شك أن العبد إذا كان يعتقد أنه يرى الله عز وجل ويحس بأنه يراه، لا شك أنه يأتي بالعبادة على وجهها. ولما كان هؤلاء يعبدون الله عز وجل على المشاهدة والحضور، كأنهم يرون الله عز وجل وهم يعبدونه، كان جزاؤهم في الآخرة الحسنى وزيادة، والحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل، فلهم أوفر نصيب من أعظم نعيم أهل الجنة، فلهم الجنة وزيادة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله عز وجل الكريم.

ثمرات التقوى في الدنيا

ثمرات التقوى في الدنيا فدرجة التقوى عباد الله! درجة عالية، وشجرتها من أطيب شجرات الإيمان، فهي لا تثمر ثمرات في الدنيا وحدها، ولكنها تثمر ثمرات طيبة يانعة في الدنيا والآخرة، فيجني العبد المتقي من ثمرات التقوى في الدنيا قبل الآخرة، ويتمتع بنعيم التقوى في الدنيا قبل الآخرة. فمن ثمرات شجرة التقوى في الدنيا: أن الله عز وجل يجعل للعبد من كل ضيق فرجاً، ويرزقه من حيث لا يدري ولا يحتسب، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. من ثمرات التقوى: أن الله يجعل للعبد من أمره يسراً، وييسر للعبد جميع أموره، فمهما قصد أمراً من الأمور أو مصلحة من المصالح يسرت له، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]. من ثمرات التقوى في الدنيا كذلك: أن التقوى هي التأمين الرباني الحلال الذي جعله الله عز وجل لعباده المتقين، ليس بالمتاجرة بعقول الناس وأموالهم، وبمص دماء الناس بدعوى التأمين على الحياة، فالتأمين ربا وقمار، أما التقوى فتأمين رباني شرعه الله عز وجل لمن أراد أن يحفظ الله عز وجل ذريته في الدنيا والآخرة، فقال عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]. فمن أراد أن يحفظ الله عز وجل ذريته، وأن يبارك له في ذريته فعليه بتقوى الله عز وجل. كان سعيد بن المسيب يقول لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، وتلا قوله عز وجل: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]. فانظروا إلى صلاح الآباء وتقواهم كيف يكون سبباً في حفظ الأبناء. التقوى كذلك عباد الله: سبب لبركات السماء والأرض. وانظروا عباد الله! كيف يعيش الناس حياة الضنك والضيق، والفقر والشقاء والنقص في كل شيء؛ لأنهم ضيعوا تقوى الله عز وجل، والله عز وجل يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]. وقال عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]. أهل التقوى عباد الله! لهم من الهيبة والشرف والوقار في قلوب الخلق ما يفوق شرف أهل السلطان، كما قال بعض الناس: قتلني حب الشرف -أي: حب الرفعة في الدنيا- فقال له أحد العلماء: لو اتقيت الله شرفت. وفي ذلك قيل: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبدٍ تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم وانظروا عباد الله! إلى العلماء الأعلام، والأئمة الكرام كيف كان لهم من الهيبة والوقار حتى كانت الملوك تهابهم، فهذا الإمام مالك كان تهابه الملوك، وكان الأمراء يجلسون في مجلسه أذلاء، لا يكلم أحد أحداً، وكان يسأل فيقول: نعم أو لا، ولا يقال له: من أين قلت هذا، وما دليلك على ذاك؟ بل مدحه أحدهم فقال: يدع الجواب ولا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقانِ نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطانِ التقوى عباد الله! سبب للحفظ من كيد الأعداء، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]. التقوى كذلك عباد الله! الذرة منها خير من أمثال الجبال عبادة من المغترين، كما قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين. فمن بلغ درجة التقوى عباد الله! فالذرة الواحدة من أعماله أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين، وهذا الكلام كما قال ابن القيم رحمه الله من جواهر الكلام الذي يكتب بالذهب والفضة؛ وذلك لأن الأعمال تتفاضل بمقدار ما في قلوب أصحابها من تقوى الله عز وجل، فالرجلان يكونان في صف واحد، وخلف إمام واحد، يكبران بتكبيره، ويسلمان بتسليمه، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؛ لأن الأعمال تتفاضل بمقدار ما في قلوب أصحابها من تقوى لله عز وجل. وقال بعضهم: كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، هذا قام وقلبه كان فاجراً، وهذا نام وقلبه كان عامراً. أي: أن العبد قد يقوم الليل وقلبه يفور بالشهوات، وهو معجب بنفسه، ويمن بعمله على الله عز وجل وعلى عباده، فمن أصبح نائماً وهو نادم خير ممن أصبح قائماً، ثم أصبح يمن على الله عز وجل، فكم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم. فالعبد المؤمن المتقي إذا نام فإنه ينام على ذكر الله، وينام على طهارة، وينام على جنبه الأيمن، ويستقبل بوجهه القبلة، ويذكر أذكار النوم، وينام على نية صالحة؛ كما قال معاذ

ثمرات التقوى في الآخرة

ثمرات التقوى في الآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: شجرة التقوى كما ذكرنا شجرة طيبة مباركة، تثمر للعبد في الدنيا وتثمر له في الآخرة، وذكرنا الثمرات العاجلة للتقوى، وما يجنيه العبد المتقي من ثمرات التقوى في الدنيا، فما هي ثمرات تقوى الله عز وجل في الآخرة؟ من ثمرات التقوى في الآخرة عباد الله! عز الفوقية على الخلائق يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]. فأهل التقوى عباد الله! يفوزون بعز الفوقية على الخلائق يوم القيامة، فإن أهل الإيمان يكونون فوق أهل الكفر والعصيان؛ لأن أهل الكفر في أسفل سافلين، والمتقون في أعلى عليين، والمتقون هم سادات المؤمنين، يفوزون بالفردوس الأعلى الذي سقفه عرش الرحمن. فالله عز وجل أخبر عن الكفار أنهم يغترون بالدنيا وزخرفها وزينتها، أما أهل التقوى عباد الله! فهم يعرفون حقارة الدنيا فلا يغترون بها، بل يسعون للآخرة وللتنافس في النعيم المقيم وفي درجات جنة رب العالمين: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]. من ثمرات التقوى في الآخرة عباد الله أن المتقين هم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]، وفي قراءة: (نُوَرِّثُ من عبادنا من كان تقياً). فأهل التقوى هم الورثة الشرعيون للجنة، وهم الذين جمع الله عز وجل لهم بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، كما قال عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. فلولا أن تكون الفتنة شديدة عباد الله! على أهل الإيمان، لجعل الله عز وجل لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة؛ لحقارة الدنيا عند الله عز وجل؛ فهي لا تساوي جناح بعوضة، ولو كانت تساوي جناح بعوضة عباد الله! ما سقى كافراً منها شربة ماء. فالله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، والذين يكفرون بالله عز وجل ويصدون عن سبيله ليل نهار، عندهم من زينة الدنيا وزخرفها أكثر مما عند المؤمنين، والله عز وجل يقول: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33]، أي: لحقارة الدنيا، {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:33 - 35]. ثم جمع الله عز وجل الآخرة كلها وجعلها للمتقين، فقال عز وجل: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]. التقوى عباد الله! تجمع بين أهلها حين تنقلب كل صداقة وكل محبة وخلة إلى عداوة ومشاقة، قال الله عز وجل: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. فالله عز وجل يجعل كل محبة في الدنيا، وكل محبة على معاصي الله عز وجل تنقلب إلى شقاوة، وتنقلب إلى عداوة. أما محبة المتقين فإنها تزداد رابطة وتزداد قوة في الآخرة، كما قال عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. قال بعض السلف: إن الأخوة في الدنيا قد يكون فيها شيء من الضغائن، أما في الآخرة فإن الله عز وجل يصفي قلوب المؤمنين من الضغائن، وينزع ما في قلوبهم من الضغائن، فتصفو عند ذلك المحبة والأخوة، ويصيرون إخواناً على سرر متقابلين، ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل. فكل محبة لا تكون لله، وكل تعاون لا يكون لله وفي الله عز وجل ينقلب إلى عداوة، إلا محبة المتقين فإنها تزداد يوم القيامة. أهل الجنة عباد الله يساقون إلى الجنة على الركائب، كما قال الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّ

التوبة

التوبة ندب الله عز وجل عباده إلى التوبة وحثهم عليها؛ لتخليص نفوسهم من رق الذنوب والآثام، وتحريرها بعبادة الله عز وجل والإقبال عليه، وقد كثرت آيات القرآن الداعية إليها والمرغبة فيها، ولا عجب في ذلك؛ إذ إنها من أحب العبادات إلى الله تعالى الذي كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم.

الحث على التوبة

الحث على التوبة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: قال بعضهم: أرقهم قلوباً أقلهم ذنوباً. وقال بعضهم: المعاصي سلسلة في عنق العاصي لا يفكه منها إلا الاستغفار والتوبة. وقال بعضهم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة. هذه الليلة نرجو أن تكون ليلة القدر التي أخبر الله عز وجل عنها أنها خير من ألف شهر، ولم يقل: إنها تساوي ألف شهر، ولكن قال: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، ولا ندري كم مقدار هذه الخيرية، فلا يعلم ذلك إلا الله عز وجل. وورد في موطأ الإمام مالك بلاغاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته -يعني: خشي ألا تصل أمته إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة لطول أعمارها- فأعطاها الله عز وجل ليلة القدر خيراً من ألف شهر). فهذه الليلة المباركة فرصة للتوبة وللقيام وللذكر وللعبادة وللطاعة وللدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). فهذه الليلة فرصة لنا جميعاً للتوبة إلى الله عز وجل والرجوع إليه عز وجل والعزم على ترك المعاصي. عباد الله! مصيبتنا في التفريط واحدة، وأهل الأحزان أهل. إنا ليجمعنا البكاء وكلنا يبكي على شجن من الأشجان قال بعض السلف: إذا عزم العبد على ترك الذنوب أتته الأمداد من الله عز وجل من كل جانب. هذا إذا نوى العبد أن يترك الذنوب لله عز وجل، وكل واحد منا أدرى بذنوبه وبعيوبه، فينبغي لنا جميعاً أن ننوي في هذه الليلة المباركة التوبة إلى الله عز وجل والاستقامة على طريقه عز وجل. فالله تعالى فتح هذا الباب العظيم -باب التوبة- وأمر كل الخلق بالدخول منه، وأمر اليهود والنصارى الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]، فقال بعد أن ذكر حالهم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، وأمر المشركين فقال عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. وأمر المنافقين بالدخول من هذا الباب فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146]. وأمر المسرفين على أنفسهم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن غيرهم فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. كما أمر الله عز وجل المؤمنين الصادقين بالدخول أيضاً من باب التوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وهذه الآية مدنية، أي: نزلت بعد الهجرة وبعد الإيمان والجهاد والصبر، فأمر الله عز وجل الصحابة الكرام بالتوبة وعلق صلاحهم بها فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. كما أخبر عز وجل عن توبته على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار فقال عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117].

شروط التوبة

شروط التوبة والتوبة لها شروط ستة: الشرط الأول: الإخلاص؛ لأن التوبة عبادة، بل هي من أحب العبادات إلى الله عز وجل، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، فتفتقر التوبة إلى ما تفتقر إليه سائر العبادات من نية الإخلاص، فلا يترك العبد الذنب مخافة ذم الناس أو رجاء مدحهم، بل لا بد أن تكون توبته خالصة لله عز وجل يرجو بها وجه الله عز وجل. الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنوب، فتستحيل التوبة مع مقارفة الذنوب. الشرط الثالث: الندم على فعلها، (الندم توبة)، فإذا لم يندم القلب على القبيح دل ذلك على رضاه به. الشرط الرابع: العزم على عدم العودة إلى الذنوب مرة ثانية. الشرط الخامس: رد المظالم، لما ورد في الحديث: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات). أي: قبل أن يكون التعامل بالحسنات والسيئات في وقت لا يستطيع الإنسان أن يزيد في حسناته حسنة ولا أن ينقص من سيئاته سيئة. الشرط السادس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه التوبة، والوقت الذي تقبل فيه التوبة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها)، وطلوع الشمس من مغربها علامة كبرى من العلامات الملازمة والقريبة للساعة، فإذا طلعت الشمس من مغربها بادر الناس بالتوبة، ولكن هيهات فعند ذلك يغلق باب التوبة، ولا ينفع نفساً إ يمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. ثم تخرج الدابة من الأرض تسم المؤمن أنه مؤمن والكافر أنه كافر، فلا يمكن لمن وسمته بأنه كافر أن يصير مؤمناً؛ لأن باب التوبة الذي ظل مفتوحاً قد أغلق في هذا الوقت. وكذلك يغلق باب التوبة أمام العبد عند الحشرجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يغفر للعبد ما لم يغرغر). وقال عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]. ولما أراد فرعون التوبة عندما عاين الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] لم يقبل منه ذلك، وقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92]. ولقد مات كثير من المصرين على المعاصي وهم متلبسون بمعاصيهم، فكان ذلك خزياً لهم في الدنيا مع ما ينتظرهم من خزي الآخرة وعذابها، وكثيراً ما يحدث ذلك لشاربي الخمر. أتأمن أيها السكران جهلاً بأن تفجأك في السكر المنية فتضحى عبرة للناس طراً وتلقى الله من شر البرية وللأسف أكثر الناس يسوفون بالتوبة، ولا يتوبون إلا في الوقت الذي يغلق فيه باب التوبة، فيظل العبد في غيه وفي إعراضه وفي بعده عن الله عز وجل، فإذا عاين الموت يطلب التوبة في الوقت الذي يغلق فيه بابها. قال جماعة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز في قول الله عز وجل: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: حيل بينهم وبين التوبة حين سألوها. وقال بعضهم: ابن آدم! لا يجتمع عليك خصلتان سكرة الموت وحسرة الفوت، أي: لا تجتمع مصيبتان سكرات الموت الشديدة التي تكاد تذهب العقول وحسرة فوت التوبة، فالبدار البدار إلى التوبة! قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه مجهود الأطباء واختبارهم، فلا ينفع بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين، فتحق الكلمة عليه أنه من أصحاب الجحيم، فالتوبة التوبة! قبل أن يأتيكم من الموت النوبة، فلا تحصلوا إلا على الخسران والخيبة، الإنابة الإنابة! قبل غلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة! فقد قرب وقت الفاقة.

علامات رد التوبة وعلامات صحتها

علامات رد التوبة وعلامات صحتها وهناك علامات لعدم صدق التوبة وعلامات لصحة التوبة. فمن علامات عدم صدقها: استمرار الغفلة، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة، وتذكر حلاوة مواقعته، والاطمئنان وكأنه أعطي منشوراً بالأمان، وألا يستحدث العبد أعمالاً صالحة بعد التوبة، فمثل هذه التوبة تحتاج إلى توبة. أما علامات صحة التوبة: فمن ذلك: أن يكون حال العبد بعد التوبة غير حاله قبلها، وأن يستحدث العبد أعمالاً صالحة بعد التوبة، كما قال عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، هذه هي التوبة الصادقة والحقة، وهي التي يعقبها العمل الصالح ويصدقها. ومن ذلك: أن يظل العبد على الخوف حتى تنزل عليه الملائكة عند الموت بقول الله عز وجل: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. ومن ذلك: أن يتقطع قلبه ويكون حاله كحال من أجرم جريمة عظيمة في حق ملك عظيم ثم أحيط به، فهو لا يدري هل يعاقبه الملك بجريمته أو أنه يعفو عنه. قال سفيان بن عيينة في قوله عز وجل: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:110] قال: تقطعها بالتوبة، والقلوب لا بد أن تتقطع إما بالتوبة في الدنيا أو في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين. ومن علامات الصحة كذلك كسرة تصيب قلب العبد فتطرحه ذليلاً على باب الله عز وجل، ويكون حاله كحال عبد أبق من سيده بعد نعمته عليه وأتى بالجنايات والمخالفات ثم أحيط به وأعيد إلى سيده، وهو يعلم أن منتهى سعادته في رضا سيده عنه، وأنه لا يستغني عن سيده طرفة عين، فلله فما أحلى قوله عند ذلك: أسألك بقوتك وضعفي إلا رحمتني! أسألك بغناك عني وفقري إليك! هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخائف الضرير، يا من ذل لك قلبه! وخشعت لك جوارحه! يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره

أقسام الناس في التوبة

أقسام الناس في التوبة الناس في التوبة على أقسام أربعة: القسم الأول: من لا يوفق لتوبة طوال عمره، ولا يوفق للحظة صدق واحدة مع الله عز وجل ومع نفسه، فهو لا يفكر لماذا خلق؟ وما هي الوظيفة المنوطة به؟ فهو يحيا حياته كلها لا يعرف ربه عز وجل، ولا يعبده بأمره ونهيه، وإنما يحيا في الدنيا حياة البهائم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]، فهو يعيش من أجل أن يأكل ويأكل من أجل أن يعيش، ولا يدري لماذا خلق، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره ونهيه، ولعله ما دخل في حياته كلها بيت الله عز وجل، ولعله لا يدخلها إلا مرة واحدة، ولا يدخلها على قدميه بل محمولاًَ على خشبته، ليصلي بل ليصلى عليه، ثم لا يعود إلى المسجد مرة ثانية. وكما كان في الدنيا لا يحيا الحياة التي يحبها الله عز وجل ويرضاها له، وليس هو جماداً لا يحس فالجزاء من جنس العمل، سيدخل ناراً لا يموت فيها ولا يحيا، فيحيا حياة لا يجد فيها راحة أو لذة، ولا يفقد الإحساس ولا الحياة بالكلية، {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. وحسب المنايا أن يصرن أمانيا وحسب العبد من البلايا والرزايا أن يصير الموت أمنيته ولا يجد الموت، كما قال بعض السلف: احذر الموت وأنت في هذه الدار قبل أن تصل إلى دار تتمنى فيه الموت فلا تجده. القسم الثاني: من يعرف ربه عز وجل برهة من عمره وزمان من دهره، ويعبد الله عز وجل فترة من عمره، ثم ينقلب لعلم الله عز وجل فيه، فيعمل بمعصية الله عز وجل ويموت على ذلك، ما أصعب العمى بعد البصيرة! وأصعب منه الضلالة بعد الهدى! والمعصية بعد التقى! كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها! {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]. كم من قارب مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرتقي لعب به موج فغرق! كل العباد تحت هذا الخطر، قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن الرجل ليعمل زماناً بعمل أهل الجنة وهو من أهل النار والعياذ بالله. القسم الثالث: من يعمل برهة من عمره في معصية الله عز وجل ثم يوفق لتوبة نصوح ويموت على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، وهؤلاء كثير، ورحمة الله عز وجل غلبت غضبه أو سبقت غضبه. فالغالب في أحوال الناس العمل بالمعصية ثم يتوبون قبل موتهم من رحمة الله عز وجل بهم، وقليل منهم من يعمل بالطاعة ثم ينقلب فيعمل بالمعصية ويموت على ذلك. وهؤلاء على طبقتين: فمنهم من يتوب قبل موته بمدة مديدة تؤهله للوصول إلى الدرجات العلى، ومنهم من يتوب قبل موته بمدة يسيرة فحسبه أن يدخل الجنات وأن ينجو من اللفحات. وبقي قسم هو أشرف الأقسام وحال هي أشرف الأحوال وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أن يعمل العبد بطاعة الله عز وجل عمره كله ثم يحس بقرب أجله فيجتهد في الطاعة والعمل الصالح حتى يموت على عمل يصلح للقاء. لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فعلى الحبيب أن يتجهز للقاء حبيبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد ما يكون اجتهاداً في أمر الآخرة، وكان لا يقوم ولا يقعد إلا قال: سبحان الله وبحمده، يتأول القرآن. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل سنة عشراً من رمضان، فاعتكف في السنة الأخيرة من عمره عشرين ليلة. (أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة الزهراء بحديث فبكت، ثم أسر إليها بحديث آخر فضحكت، فسألها أمهات المؤمنين عما أسر به النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم). ثم لما لحق بالرفيق الأعلى أخبرت أنه أسر إليها أولاً: (بأن جبريل كان يعارضه القرآن مرة وأنه في هذه السنة عارضه القرآن مرتين، قال: وما أرى ذلك إلا لقرب أجلي)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفهم هذه الإشارات من ربه عز وجل، فبكت فاطمة

الجنة

الجنة الجنة سلعة الله الغالية، أعدها لعباده، وحثهم على المسارعة والمسابقة إليها، فشمر لها من وفقه الله تعالى، فبذل من أجلها الغالي والنفيس لعلمه بعظيم قدرها، وتخاذل الكسالى والبطالون فما رفعوا لها رأساً ولا ساموها بثمن لفداحة خسارتهم، وإن المسابقة إليها تجارة مع الله عز وجل، لا يعرف قدرها إلا أصحاب القلوب الحية، والبصائر المستضيئة بنور الإيمان.

الجنة سلعة غالية

الجنة سلعة غالية الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، ألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة، بالله ما كسدت فيستامها المفلسون، ولا فسدت فيشتريها بالنسيئة المعسرون. لقد أقيمت للعرض في سوق لمن يريد، فلم يرض لها ربها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن تكون نفسه الثمن؟ فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وأفعاله، فقيل: لا تقبل هذه البينة إلا بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، فتأخر الخلق كلهم وثبت المجاهدون، فقيل: إن نفوس المجاهدين وأموالهم ليست لهم، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111]. لما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن وجلالة قدر من وقع التبايع على يديه علموا أن للسلعة قدراً وشأناً فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة، تذهب لذتها وتبقى تبعتها، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضاءً واختياراً من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيل ولا نستقيل، فقيل: إن نفوسكم وأموالكم قد صارت إلينا، والآن رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعاف أموالكم معها، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا لقد حرك الداعى إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، فحركه السماع إلى دار الأبرار، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار.

فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله

فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله أعلى تجارة وأغلاها بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل دفعة واحدة، لا يستبقي العبد من ذلك شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة دخل الجنة). وقوله: (فواق ناقة) هو الزمن بين الحلبتين. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفقة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه). (وقيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة). وقال: (والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد؛ لما يرى من شرف الشهادة وكرامة الشهادة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. والفضيل بن عياض الملقب بعابد الحرمين لملازمته للحرمين بالعبادة والطاعة والبكاء والخشية، أرسل له عبد الله بن المبارك وكان مرابطاً بطرسوس كتاباً يقول له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب فلما وصل الكتاب إلى الفضيل بن عياض بكى وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح، ثم قال للرسول: أتكتب الحديث؟ قال: نعم. قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، ثم أملاه بسنده رواية من حديث أبي هريرة: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجد. قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟) أي: إذا خرج المجاهد في سبيل الله عز وجل فمكث شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين هل تستطيع أن تدخل مسجدك فتقوم في الصلاة فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ (قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات)، أي: حركة الفرس تكتب للمجاهد في سبيل الله عز وجل. وقيل: يجمع بعره وروثه وغير ذلك ويوضع في ميزان المجاهد يوم القيامة، فليس هناك عمل -عباد الله- يعدل الجهاد في سبيل الله، فهو ذروة سنام الإسلام، فأعلى التجارة وأغلاها هي التجارة بالنفس والمال لله عز وجل، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111]. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11]. فأعلى تجارة وأغلاها هي التجارة ببذل النفس والمال لله عز وجل دفعة واحدة، وكل عمل مشروع وعبادة وطاعة لله عز وجل فهي تجارة مع الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29].

التجارة في الدنيا إذا لم تكن مع الله فهي مع سواه

التجارة في الدنيا إذا لم تكن مع الله فهي مع سواه وكل أحد -عباد الله- في الدنيا يتاجر، والتجارة إما أن تكون مع الله عز وجل، وربح هذه التجارة سعادة الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة الأبدية السرمدية في جنة الله عز وجل، وإما أن تكون تجارة مع الشيطان الرجيم، وربحها الضنك والهم والغم والحزن والشقاء في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة والذي يتاجر به الناس النفوس والأموال والأوقات والأولاد، فما يملكه العبد في الدنيا إنما يتاجر به في الدنيا. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الدنيا سوق)، وقال: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). فقوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) أي: لله عز وجل، (فمعتقها) أي: من النار، (أو موبقها) أي: يبيعها للشيطان، فيخسر نفسه في الدنيا والآخرة. أخي إنما الدنيا كسوق تزينت أقيم لنا وانفض أمر الفوانيا وكل امرئ لا بد يدخل سوقها سواء بهذا كارهاً أم راضيا ولا بد من بيع ولا بد من شرا ولا بد يمشي رائحاً أو غاديا وسلعته الكبرى التي سيبيعها هي النفس لكن من يكون الشاريا؟ فإن باعاها لله أعتقها إذن وكان له من جمرة النار واقيا وجنة ربي كانت الثمن الذي سيقبضه الإنسان فرحان راضيا وقد ربح البيع الذي تم أخذه ودل الإله المشتري دلّ ربّيا فالمؤمنون -عباد الله- يتاجرون بأوقاتهم وأنفاسهم وأموالهم مع الله عز وجل، فيربحون سعادة الدنيا والآخرة، والمعرضون والكافرون والفاسقون يتاجرون مع الشيطان، فلا يحصلون إلا على الصفقة الخاسرة، وهي الشقاء والنكد والهم والغم والحزن في الدنيا، ثم الشقاء الأبدي السرمدي في عذاب الله عز وجل يوم القيامة. قال بعض السلف: رأيت العبد ملقى بين الله عز وجل وبين الشيطان، فإن تولاه الله عز وجل لم يقدر عليه الشيطان، وإذا خذله الله عز وجل أخذه الشيطان. فمن تولى ربه بالطاعة والعبادة والإخلاص والإنابة تولاه الله عز وجل بالحفظ والكلاءة والنصر وقبول الدعوة، ومن خذل دين الله عز وجل فإن الله عز وجل يخذله، فيتولاه عند ذلك الشيطان، ويصير فريسة له. فينبغي للعبد أن يسأل نفسه: هل هو مع الله عز وجل أو مع الشيطان؟ فليس هناك طرف ثالث يساوم على نفس العبد وماله، فإما أن تكون مع الله عز وجل أو مع الشيطان. والتجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات وليست كسائر التجارات، فالمعاملة مع الله عز وجل معاملة بين العبد الضعيف المخلوق الفقير وبين الرب الغني القادر القاهر. أما معاملات الخلق فهي معاملة بين فقير وفقير، وبين محتاج ومحتاج، وبين ضعيف وضعيف. والله عز وجل يريد من العباد أن يعاملوه حتى يربحوا على الله عز وجل أعظم الربح، وهو عز وجل غني عنهم وعن عباداتهم، كما قال الله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. فالناس يذبحون وينحرون الهدي والأضاحي، وهم الذين يأكلون اللحوم، والله عز وجل لا يدخر شيئاً من اللحوم ولا من الدماء، ولكنه يريد من العباد أن يستجيبوا لله عز وجل، حتى يسعدوا في الدنيا والآخرة، وحتى يربحوا على الله عز وجل أعظم الربح. فلو أن العباد كلهم على أتقى قلب رجل واحد منهم -وهو قلب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم- ما زاد ذلك في ملك الله عز وجل شيئاً، ولو أنهم كلهم على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً، كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني). فالله عز وجل لا يستفيد شيئاً من طاعة العباد، بل هم أنفسهم يستفيدون من الطاعة في الدنيا والآخرة، ولا يتضرر الله عز وجل بشيء من معاصي العباد، بل هم أنفسهم يتضررون من معاصيهم في الدنيا والآخرة، فالله عز وجل يريدك لك، من أجل أن تستفيد وتنتفع أنت. وأما تجارات الخلق فكل من أن يعاملك إنما يريد أن يستفيد منك، وأن ينتفع منك منفعة، فهو إنما يريدك لنفسه، والله عز وجل يريدك لك. فالتجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات.

الفرق بين التجارة مع الله وتجارات الدنيا

الفرق بين التجارة مع الله وتجارات الدنيا من الفروق بين التجارة مع الله عز وجل وتجارات الدنيا: أن التجارة مع الله عز وجل لا يمكن أن تخسر بحال من الأحوال، قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، فلا يمكن أن تبور التجارة مع الله عز وجل. وأما تجارات الدنيا -عباد الله- فقد تربح مرة وتخسر أخرى، وقد تربح مرات وتخسر مرات، فهي عرضة للمكسب والخسارة. وأما التجارة مع الله عز وجل فهي رابحة دائماً، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم في الدنيا، فإن لم يصيبوا الغنيمة تم لهم أجرهم). فالمجاهد -عباد الله- ينتظر ثلاثة أمور: ينتظر الربح في الآخرة، وينتظر الغنائم، وينتظر فرحة النصر، فإذا انتصر الجيش المسلم أصاب ثلثي الأجر؛ لأنه ينال فرحة النصر والغنيمة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا الغنيمة تم لهم أجرهم في الآخرة، فهم الرابحون على كل حال، وهذا شأن التجارة مع الله عز وجل في الربح دائماً، أما تجارات الدنيا فهي عرضة للمكسب والخسارة. ومن الفروق كذلك بين التجارة مع الله عز وجل وتجارات الدنيا: أن أرباح التجارة مع الله عز وجل عالية جداً، أما تجارات الدنيا فالربح فيها -إن حصل ربح- محدود، ففي السلعة تربح (10%) أو (20%) أو (100%) أو (200%)، فغاية الأمر أن يربح الدرهم درهماً أو درهمين. وأما التجارة مع الله عز وجل فيقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]، هكذا ربح التجارة مع الله عزوجل في الدنيا، الدرهم فيها يربح (700) درهم، ولا يمكن أن توجد مثل هذه التجارة مع غير الله عز وجل. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ: ((قل هو الله أحد)) حتى يختمها عشر مرات بني له قصر في الجنة). وقال: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة). قال بعض السلف: بلغنا أن نخل الجنة سوقها من ذهب، وسعفها من حلل، وثمارها أبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من العسل والشهد. فهذه النخلة عجيبة غريبة في دار القرار فهي تغرس للعبد عندما يحرك لسانه بقوله: سبحان الله العظيم وبحمده. فانظر إلى مضيع الساعات كم يفوته من النخيل؟! ومن الفروق بين تجارات الدنيا والتجارة مع الله عز وجل كذلك: أن تجارات الدنيا قد يدخلها الغش، فقد تكون عندك سلعة معينة وتدلسها وتروجها فتروج. أما التجارة مع الله عز وجل فلا يمكن أن يدخلها الغش بحال من الأحوال؛ لأن الله عز وجل خبير بصير، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، فلا يمكن أن يدخل الغش في التجارة مع الله عز وجل، والتجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات، وأكثر الناس يعرفون كيف يتاجرون في الدنيا، وكيف يحصلون الأموال من الحلال أو من الحرام، ولكن القليل منهم من يعرف كيف يتاجر مع الله عز وجل، وكيف يربح مع الله عز وجل أعظم الربح. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

فقه التجارة مع الله

فقه التجارة مع الله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: عباد الله! من فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يتوخى العبد الإخلاص في كل قول وعمل؛ لقول الله عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، ولقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه). فكل عمل -عباد الله- كان مشوباً مغموراً بإرادة غير الله يجعله الله عز وجل يوم القيامة هباءً منثوراً، ويوم القيامة -عباد الله- يأتي أناس بحسنات أمثال الجبال، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً، كما قال عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. ومن فقه التجارة مع الله عز وجل عباد الله! ألا يعمل العبد عملاً إلا بنية، فالعبد ينبغي له أن يكون فقيهاً في تجارته، فيتاجر بمباحاته مع الله عز وجل؛ لأن النية الصالحة ترفع العمل المباح فتجعله من الطاعات، فالأكل والشرب والسعي على المعاش والمذاكرة للطلاب والنوم وغير ذلك من الأمور المباحة إذا نوى العبد فيها نية صالحة ترتفع إلى درجة الطاعات، كما قال معاذ رضي الله عنه: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. أي: كما يقوم الليل ويحتسب الأجر عند الله عز وجل فإنه ينام كذلك ويحتسب الأجر عند الله عز وجل؛ لأنه ينام بنية صالحة، من أجل أن يجم نفسه للعبادات والطاعات، ومن أجل أن يقوم في آخر الليل، أو يقوم لصلاة الفجر وأذكار الصباح، أو للواجبات الشرعية في اليوم التالي، فإذا نوى العبد النية الصالحة في العمل المباح صار من الطاعات والقربات، فيتاجر العبد به مع رب الأرض والسماوات. ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن ينوي العبد في كل عمل نيات كثيرة صالحة؛ لأن ثواب العامل على عمله يكون بمقدار عدد النيات التي يجمعها في عمله؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى) بعد قوله: (إنما الأعمال بالنيات)، فقوله: (إنما الأعمال بالنيات) أي: أصل قبول العمل وشرطه النية. ثم قال: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، وليس هذا تكراراً للقاعدة الأولى؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد، فهو هنا يؤسس قاعدة جديدة، فالجزء الأول من الحديث يدل على أن أصل قبول العمل توفر النية الصالحة، ثم قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) أي: ثواب العامل على عمله بالنيات الصالحة التي يجمعها في العمل الواحد، فإن من أتى المسجد للصلاة وحدها ليس كمن أتى المسجد من أجل الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولقاء أخ يحبه في الله عز وجل وتفقد مصالح المسلمين وقضاء حاجاتهم، أو كمن أتى للصلاة ونظافة المسجد، أو غير ذلك من النيات الصالحات التي يمكن أن يجمعها العبد في هذا العمل الصالح، فثواب العامل على عمله يزيد بزيادة النيات الصالحات التي يجمعها في العمل الواحد. ولذلك نقول: إن تجارة النيات تجارة العلماء، فالعلماء هم الذين يعرفون كيف يتاجرون، وكيف يربحون على الله عز وجل أعظم الأرباح. قال الإمام الشافعي: كم من عمل صغير تعظمه النية، وكم من عمل كبير تصغره النية، فالعمل قد يكون صغيراً في ذاته، ولكن العامل يجمع فيه نيات كثيرة فيعظم العمل بذلك، ويزداد ثواب العامل على ذلك. ومن فقه التجارة مع الله عز وجل: أن يتأكد العبد أن أحواله وأعماله مطابقة لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، أي: مردود على عامله وغير مقبول، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). فكل عمل لا ينظوي تحت الشريعة، ولا تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم حاكمة عليه بالصحة فهو مردود على عامله وغير مقبول. فلا بد أن يتأكد العبد أن العمل مطابق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. قال الحسن البصري: فالسنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن

الخوف من الله

الخوف من الله الخوف من الله أحد جناحي العبادة، ولا تستقيم العبادة بدونه، فهو السلاح الذي تسلح به العباد والزهاد في سيرهم إلى الله، فأظمأ نهارهم وأطار النوم من عيونهم فأسهر ليلهم؛ حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وسطرت نماذج عبوديتهم وعبادتهم بعبارات الثناء وأقلام المديح.

الأدلة على فضل الخوف من الله تعالى

الأدلة على فضل الخوف من الله تعالى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. أمر الله عز وجل بالخوف منه، وجعله شرطاً في الإيمان، فقال عز وجل: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. وأوجب الله عز وجل أن يكون خوف العبد من ربه عز وجل وحده، فقال عز وجل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]. ودلت الأدلة من الكتاب والسنة على فضيلة الخوف من الله سبحانه وتعالى، فمن ذلك: قوله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]. وقال الله عز وجل: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:154]. وقال عز وجل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:58 - 61]. فالقلب -عباد الله! - في سيره إلى الرب عز وجل لا بد أن يطير بجناحي الخوف والرجاء، فمثال القلب مثال الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان كان الطائر قوياً على الطيران، وإذا قطع الرأس مات الطائر، وإذا كسر الجناحان أو أحدهما صار عرضة لكل صائد وكاسر. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). والإدلاج: هو السير من آخر الليل. أي: من أراد أن يصل إلى الموطن الذي يقصده فإنه يشمر ويجتهد ويبكر بالخروج، (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل لم يفعل خيراً قط، فلما قربت وفاته جمع أولاده وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. قال: ففعلوا ذلك به، فقال الله للأرض: أد ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب! أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك). فهذه الأدلة كلها -عباد الله! - تدل على فضيلة الخوف، وأنه مقام من مقامات الصالحين، ومن مقامات العابدين.

ذكر بعض الآيات والأحاديث والآثار التي تحث على الخوف من الله

ذكر بعض الآيات والأحاديث والآثار التي تحث على الخوف من الله وأما الأخبار التي تحث على الخوف، فمن ذلك: قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:103 - 106]. وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. وقال عز وجل: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجوههم ولهم خنين). والقليل هنا المقصود به: القليل جداً، أي: الذي يئول إلى العدم. والمعنى: لما ضحكتم أصلاً ولأكثرتم من البكاء، (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم من الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). وكذلك كان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومما يحض على الخوف من الله عز وجل ويدفع إلى خشيته عز وجل: (أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام في الصلاة سمع لقلبه أزيز كأزيز المرجل). (وكان إذا سمع ريحاً عاصفة يتردد في الحجرة ويدخل ويخرج)، وكل ذلك خوفاً من عذاب الله عز وجل. والملائكة الذين لا يعصون الله عز وجل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وصف الله خوفهم فقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]. ويقول عز وجل: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]. وقال أبو الدرداء: لو تعلمون ما أنتم ملاقون بعد الموت لما أكلتم طعاماً على شهوة، ولا شربتم شراباً على شهوة، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لبكى حتى ينقطع صوته، ولصلى حتى ينكسر صلبه.

نماذج من خوف الصحابة من الله عز وجل

نماذج من خوف الصحابة من الله عز وجل كان السلف رضي الله عنهم دائمي الخوف من الله عز وجل، فكانوا مع اجتهادهم في طاعة الله عز وجل في غاية الخوف منه عز وجل. فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان رجلاً أسيفاً، تقول عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا صلى لم يسمع الناس من البكاء. أي: أنها أشارت بأن لا يصلي أبو بكر بالناس لكثرة بكائه وتأسفه إذا صلى، مع أنه سبق الصحابة رضي الله عنهم إلى طاعة الله عز وجل، فهو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]. من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجيء الأول فكان رضي الله عنه إذا صلى لا يكاد يسمع الناس من البكاء، وكان يقول: والذي نفسي بيده لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن. وهذا عمر رضي الله عنه يسمع قوله عز وجل: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8]. فيعود مريضاً إلى بيته ويعاد شهراً رضي الله عنه. وكان رضي الله عنه في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء. ولما طعن رضي الله عنه وهو الخليفة الثاني كان ولده عبد الله يرفع خده من الأرض ويضعه على حجره فيقول: ضع خدي على التراب عساه يرحمني، ويل أمي إن لم يغفر لي! ودخل عليه ابن عباس رضي الله عنه وقال: بشرى يا أمير المؤمنين! صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحسنت صحبته، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم حكمت فعدلت، ثم شهادة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيقول: أعد ما قلته، فيعيد ما قال، فيقول عمر رضي الله عنه: المغرور من غررتموه، المغرور من غررتموه، وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر. فكيف بنا -عباد الله! - إذا كان عمر رضي الله عنه يقول: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر؟ وهذا عثمان رضي الله عنه يقف عند القبر ويبكي ويشتد بكاؤه ويقول: لو أنني بين الجنة والنار، ولا أدري إلى أيتهما أصير لأحببت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير. وهذا علي رضي الله عنه يروي ما رآه من الصحابة رضي الله عنهم فيقول: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم أر اليوم شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم، فوالله لكأني بالقوم باتوا غافلين، فما رئي رضي الله عنه ضاحكاً حتى ضربه ابن ملجم. وهذا الحسن البصري يقول: رأيت أقواماً وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت في أعينهم أهون من التراب، ولقد كان الواحد منهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يطو له ثوب، ولم يوضع بينه وبين الأرض شيء، ولا أمر من في بيته بصنعة طعام قط، فإذا كان الليل فقيام على أقدامهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، ينادون ربهم في فكاك رقابهم، فإذا فعلوا حسنة تعبوا في شكرها، ورجوا الله أن يقبلها منهم، وإذا فعلوا سيئة أحزنتهم، ورجوا الله أن يغفرها لهم، فوالله ما سلموا من الذنوب، ولولا مغفرة الله ما نجوا، فرحمة الله عليهم ورضوانه. وصلى ابن أبي أوفى قاضي البصرة بالناس الفجر بسورة المدثر، فلما بلغ قوله عز وجل: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10]، أخذته شهقة فمات. فهم سمعوا القرآن بقلوب واعية، وآذان مصغية، فأحدث فيهم الخوف من الله عز وجل، فمنهم من مات من سماع آية، ومنهم من كان يعوده الناس كأنه مريض، ومنهم من كان يشتد بكاؤه. ونحن غلبت علينا الغفلة، فجمعنا بين معصية الله عز وجل وبين الأمن من مكره عز وجل، وهذا والله علامة الشقاء، أن يجمع العبد بين معصية الله عز وجل وبين الأمن من مكره، فقد كان السلف رضي الله عنهم يجمعون بين الخوف من الله عز وجل وبين الاجتهاد في طاعته، فإذا عرف العبد ربه عز وجل وعرف أسماءه وصفاته وتعرف على ربوبيته عز وجل وإلهيته، وعلم خطر الآخرة وأهوالها وعلم سيئات أعماله وضعفه وعجزه وذنوبه وعيوبه فإنه يخاف من الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، وهذا لما بلغه: أن ثلاثة من الصحابة الكرام ذهبوا إلى بيوته صلى الله عليه وآله وسلم وسألوا عن عبادته،

نماذج من خوف السلف من الله عز وجل

نماذج من خوف السلف من الله عز وجل الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: عباد الله! كان السلف في غاية الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، ومع ذلك كانوا في غاية الخوف من الله عز وجل. دخلوا على الجنيد وكان في النزع وكان يصلي فقالوا له: الآن؟! قال: الآن تطوى صحيفتي. ودخلوا على أبي بكر النهشلي وكان صائماً وكان في النزع، فقالوا له: اشرب قليلاً من الماء، فقال: حتى تغرب الشمس. وكان ثابت البناني يقول: يا رب! إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي. وكان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد! من يبكي بعدك لك؟ من يترضى ربك عنك؟ وبكى أحد السلف فسئل عن سبب بكائه فقال: سمعت الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. وبكى أحد السلف عند موته فسئل ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم. أي: أنه يشفق لترك هذه العبادات بعد الموت. فأين وصفك من هذه الأوصاف؟ وأين شجرة سالزيتون من شجر الصفصاف؟ لقد قام القوم وقعدت، وجدوا في الجد وهزلت، وما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم. لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد يا ديار الأحباب! أين السكان؟ ويا منازل العارفين! أين القطان؟ ويا أطلال الوجد! أين البنيان؟ أماكن تعبدهم باكية، ومواطن خلواتهم لفقدهم شاكية، زال التعب وبقي الأجر، ذهب ليل النصب وطلع الفجر. إن كنت تنوح يا حمام البان للبين فأين شاهد الأحزان؟ أجفانك للدمع أم أجفاني لا يقبل مدع بلا برهان ونحن ينطبق علينا -عباد الله- قول القائل: يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد! وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد! يا من يسمع ما يلين الجوامد! وتركه جانباً، وقلبه أقسى من الجلامد! إلى متى تدفع التقوى عن قلبك؟ وهل ينفع الطرق في حديد بارد؟ يقول من رأى سفيان الثوري: كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه. ويقول من رأى الحسن البصري: كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بقطع رقبته، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له. وقيل له: نراك شديد البكاء؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي. وكان يقول: إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في قلوبهم شيء طلبوا به الجنة، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة في غير مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه. وقد كان كلامه يشبه كلام الأنبياء. وكانوا يقولون عنه: كأنه عاين الآخرة وأتى يخبر عنها. وقد كان الناس قبل ظهور الحسن البصري معجبين بـ مسلم بن يسار، فقد كان يقوم في الصلاة كأنه عود من الخشوع، فلما ظهر الحسن البصري فكأنه رجل عاين الآخرة ثم أتى يخبر عنها. ولما نزل الموت بـ محمد بن المنكدر رحمه الله بكى بكاءً شديداً، فأحضروا له أبا حازم الزاهد من أجل أن يخفف عنه، فسأله أبو حازم عن سبب بكائه؟ فقال له: سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فأخاف أن يبدو لي من الله عز وجل ما لم أكن أحتسب. قال: فأخذ أبو حازم يبكي معه، فقالوا: أتينا بك من أجل أن تخفف عنه فزدت في بكائه.

كلام السلف في المعني بقوله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)

كلام السلف في المعني بقوله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) وللسلف رحمهم الله في هذه الآية أقوال: قيل: هذه الآية الكريمة نزلت في أهل الرياء، كما قال بعضهم: ويل لأهل الرياء من هذه الآية: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]. وقال بعضهم: عملوا أعمالاً فظنوا أنها حسنات فكانت سيئات، فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة في أهل الغرور والأماني الباطلة، الذين تكاسلوا عن طاعة الله عز وجل، وتجرءوا على حرمات الله عز وجل، وأملوا أن يدخلوا الجنة ويصلوا إلى الدرجات العلى، أو لا تمسهم النار إلا أياماً معدودات. وكما قال الحسن البصري: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. وقيل: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أهل الغرور والأماني الباطلة الذين أوقعهم الشيطان في الكبائر والمعاصي، ومد لهم حبال الأماني والغرور، والله عز وجل رد على هذا الفكر الخاطئ، فقال عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123]. وقال عز وجل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أهل البدع الذين يتقربون بالبدع، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله عز وجل، وهم إنما يزدادون بعداً عن الله عز وجل. وقال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. فما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله عز وجل بعداً. وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أناس عملوا ذنوباً فظنوا أن هذه الذنوب من الصغائر، فكانت من الكبائر، فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. قال أنس رضي الله عنه: إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات، فعلى العبد أن يعظم ربه عز وجل، فإذا ازدادت خشية العبد لله عز وجل وعظم تقواه له عز وجل فإنه يعظم حرمات الله عز وجل، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، في أناس أتوا بحسنات كثيرة عظيمة ولكنهم أثقلوا ظهورهم بمظالم العباد، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس من أمتي من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقدف هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته طرحوا عليه من سيئاتهم ثم طرح في النار)، فهو يحسن الظن بحسناته، وهو غافل عن المظالم التي أثقل ظهره بها، فإذا استوفى أصحاب المظالم حقوقهم حتى فنيت حسناته طرحوا عليه من سيئاتهم فيبدو له من الله عز وجل ما لم يكن يحتسب. وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] في أناس شاء الله عز وجل أن يناقشوا الحساب. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من نوقش الحساب عذب). وفي رواية: (من نوقش الحساب هلك). فإن الله عز وجل إذا حساب العباد على نعمه عليهم لم تف جميع أعمالهم الصالحة في وفاء شكر بعض نعم الله عز وجل عليهم، فتبقى بقية النعم بلا وفاء، بالإضافة إلى المظالم والذنوب، فلا بد أن يهلك العبد: (فمن نوقش الحساب عذب أو هلك). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن الله عز وجل عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم). وقيل أيضاً: نزلت هذه الآية الكريمة

من صفات المؤمنين الإشفاق من الله وعدم الركون إلى أعمالهم الصالحة

من صفات المؤمنين الإشفاق من الله وعدم الركون إلى أعمالهم الصالحة قال عز وجل واصفاً أهل الجنة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:25 - 27]. فبين عز وجل أن من صفات أهل الجنة أنهم كانوا في الدنيا مشفقين، أي: خائفين وجلين من الله عز وجل، فالخوف: هو الذي يكف الجوارح عن معصية الله عز وجل ويقيدها بطاعته عز وجل، والذي يقود العباد إلى طاعة الله عز وجل، والدابة لا بد لها من سوط يكفها عن موارد الهلكة، ومن زمام يقودها إلى ما يريده العبد منها، وهما الخوف والرجاء -عباد الله! -. وقال عز وجل واصفاً عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:63 - 66]. وقال عز وجل واصفاً المؤمن: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده إلى نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واشغله بنفسه، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين، اللهم كن مع المستضعفين من المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم إنهم جوعى فأطعمهم، وعراة فاكسهم، وضعفاء فقوهم يا رب العالمين! اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا متين! اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم عليك بالصرب الغاصبين المعتدين، اللهم أنزل عليهم رجزك وغضبك وعذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنهم لا يعجزونك يا رب العالمين! اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم عليك باليهود الغاصبين يا رب العالمين! اللهم دمرهم تدميراً والعنهم لعناً كبيراً. اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شيوخ المسلمين، اللهم أصلح شيوخ المسلمين.

العلم النافع

العلم النافع رفع الله شأن العلم وعظم قدره، ورفع شأن حملته وأعلى مقامهم، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته على وحدانيته جل جلاله وعز ثناؤه؛ ذلك أن العلماء هم الذين يبينون للناس أحكام شريعة الله عز وجل، وهم الداعون إليه سبحانه وتعالى، وهم وراث هدي النبوة، فبذلك استحقوا تلك المكانة العالية.

أقسام الناس عند علي بن أبي طالب

أقسام الناس عند علي بن أبي طالب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. وهذا التفصيل في غاية الحسن، فقد قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: عالم رباني، وهو: الذي وصل إلى الذروة في العلم والعمل والتعليم، قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة:63]. وقال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]. فالربانيون هم خواص العلماء، وهم الذين تعلموا وعملوا وعلَّموا. وقيل رباني: نسبة إلى الرب عز وجل، كما تقول لحياني وجبهاني. وقيل: نسبة إلى التربية؛ لأنهم يربون الناس بصغار العلم قبل كباره. فعالم رباني يعني: وصل إلى ذروة العلم والعمل والتعليم. القسم الثاني: متعلم على سبيل نجاة، وحتى يكون المتعلم على سبيل نجاة ينبغي له ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يتعلم العلم النافع، والعلم النافع هو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم، فلا يتعلم علم الكلام والفلسفة وغير ذلك من العلوم غير النافعة التي تضله عن طريق الله عز وجل، وتبعده عن رحمته عز وجل، فينبغي للعبد إذا أراد أن يكون متعلماً على سبيل نجاة أن يتأكد أنه يتعلم العلم النافع: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين فينبغي للعبد أن يتعلم العلم النافع علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم. الأمر الثاني حتى يكون على سبيل نجاة وليس على سبيل هلكة: أن يعمل بما يتعلمه. وقد خرج بعض السلف على طلاب العلم، فقالوا له: حدثنا. فقال: هل تؤدون زكاة هذا الحديث؟ فقالوا: وما زكاته؟ فقال لهم: ما وجدتم فيه شيئاً من العمل والاستغفار فتعملون به. وفي رواية أخرى مسندة أنه قال لهم: هل تؤدون زكاة هذا العلم؟ قالوا: وما زكاته؟ فقال: تعملون من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث. أي: أن هذا القدر -ربع العشر- زكاة العلم الذي يتعلمونه، بل لا يتعلم العبد ولا يوفق للعلم النافع حتى يعمل بهذا العلم، كما قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به. وقال بعضهم: يهتف العلم بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل. فالشرط الثاني حتى يكون المتعلم على سبيل نجاة: أن يعمل بعلمه. والأمر الثالث: أن يُعَلِّم هذا العلم، وهذا يدخل في العمل بالعلم، وهذا من شكر نعمة الله عز وجل، فعلى العبد إذا تعلم علماً نافعاً أن يسعى في تعليم هذا العلم، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لحامل حديثه ومبلغه فقال: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). وقال سفيان بن عيينة: لا تجد أحداً من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضره لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فمن حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وبلّغه أصابته دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. القسم الثالث: همج رعاع أتباع كل ناعق. ولما كان هؤلاء الهمج لا عقول لهم ولا فهوم فقد شبّه من يدعوهم بالناعق الذي ينعق في البهائم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يفرقوا بين الدعوات ولا أن يميّزوا بين البدعة والسنة، ولا بين الهدى والضلال، ولا بين الخير والشر، بل كلما دعاهم داع إلى شيء استجابوا له. فهم أتباع كل ناعق، وحطب كل فتنة، وليس عندهم من البصيرة ومن العلم النافع ما يهديهم إلى الطريق إلى الله عز وجل، ثم هم كذلك لم يتبعوا عالماً يدلهم على طريق الله عز وجل. فقال: وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح. فشبه قلوبهم الضعيفة الخالية من العلم النافع بالغصن الرطيب الأخضر الذي إذا أتته ريح من أي جهة مال معها، وشبه الشهوات والشبهات بالرياح التي تعصف بهذه القلوب الضعيفة، فقال: يميلون مع كل ريح. ثم بيّن سبب هذا الوصف، فقال: لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. فليس عندهم علم نافع يميزون به ويهتدون به إلى طريق الله عز وجل، وهم كذلك لم يهتدوا ولم يسيروا خلف عالم بصير بالكتاب والسنة يهديهم إلى سواء السبيل، والإنسان إما أن يكون مبصراً بنفسه، يبصر الطريق ويعلم ما فيها من عقبات وتعرجات، وإما أن يمسك بيد بصير، فإذا كان ليس بصيراً ولم يمسك بيد بصير فيا عزة السلامة. فيقول رضي الله عنه: وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.

المفاضلة بين العلم والمال في كلام علي بن أبي طالب

المفاضلة بين العلم والمال في كلام علي بن أبي طالب ثم شرع رضي الله عنه في بيان شرف العلم وفضله على المال، فقال: يا كميل! العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها. وذكر ابن القيم في شرح هذا الحديث في كتاب (مفتاح دار السعادة) أربعين وجهاً من أوجه فضل العلم على المال. ومن ذلك: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء، والنفس تزكو بتحصيل العلم والحرص عليه، فالحرص على العلم والتعلم عين كمال العبد، والحرص على المال وطلبه هو عين نقصه، وهو يهلك الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، أي: أن الدين يفسد بحرص العبد على المال وعلى الشرف وشدة محبتهما والمبالغة في طلبهما. والحرص على الشرف المقصود به في هذا الحديث: الرفعة في الدنيا والجاه والشهرة وغير ذلك، فدين المرء يفسد بحرصه على المال وعلى الشرف، مثل: فساد الغنم التي غاب عنها راعيها وأرسل فيها ذئبان جائعان، فالنفس تزكو بطلب العلم والحرص عليه، فحرصه على العلم عين كمالها، وحرصه على المال عين نقصها. ومن ذلك: أن لذة المال لذة وهمية أو بهيمية، ولذة العلم لذة ملائكية، فلذة المال لذة وهمية، فهو يفرح بتكثير المال وهذه شهوة من الشهوات، كما قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:14]، فهذه شهوة مثل شهوة النساء والبنين. وربما يسعى المرء إلى تكثير المال الذي قد لا ينتفع به ولا ينفقه، ولكنه يفرح بزيادته حتى يصل مقادير لا يمكن أن ينفقها مهما طال عمره، كما قال تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:14]، هذه لذة وهمية، أو لذة بهيمية، فهو يحصل بهذا المال على الشهوات التي يشترك فيها الإنسان مع البهائم. أما لذة العلم فهي لذة ملائكية، يشبه فيها ملائكة الله عز وجل. ومن أوجه فضل العلم على المال أيضاً: أن التمتع بالمال ينقطع بمفارقة بالدنيا، يعني: الإنسان يتمتع بماله في الدنيا، أما لذة العلم فمتصلة، حتى إنهم يقولون: إن من نعيم العلماء في الآخرة أنهم تنكشف لهم المسائل التي اختلفوا فيها في الدنيا، فتنكشف لهم حقائق هذه المسائل ووجه الصواب فيها، فتكون فيها متعة زائدة للعلماء زيادة عن متعة غيرهم من أهل الجنة، لا شك أنه العالم عندما يهتدي في الدنيا للصواب في المسألة، أو يوفّق في تحقيق مسألة لا شك أنه يجد فرحة وحلاوة في قلبه. ومن أوجه فضل العلم على المال أيضاً: ما ذكره علي بن أبي طالب في هذا الأثر: العلم خير من المال، العلم يحرسك، فالعلم يحرس الإنسان من الوقوع في الشهوات والشبهات، وأما المال فيحتاج إلى حارس. والعلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، فإذا أنفق العبد من علمه فإنه يثبت في قلبه، ويفتح الله عز وجل عليه بعلم جديد، كما ورد في تفسير قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. وقد قيل: من عمل بما علم أورثه الله عز وجل علماً جديداً، والإنسان عندما يتعلم مسألة من مسائل الشرع فيعمل بها ويعلمها غيره فإن الله عز وجل يكافئه عليها بتعليمه علماً جديداً ومسألة جديدة من مسائل العلم. فالعلم يزكو على الإنفاق، فزكاة العلم بالعمل به وبالإنفاق، فالعلم يزكو بالعمل به وبالإنفاق، والمال تنقصه النفقة. والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، فالعلم يحكم على الملوك فمن دونهم، وأما المال فمحكوم عليه. ومحبة العلم دين يدان بها؛ لأن محبة العلم تدعو إلى تعلمه وإلى العمل به، وهذا دين يدان الله عز وجل به. ومن فضل العلم على المال: أن الإنسان يمدح بتخليه عن المال وبإنفاقه، ويمدح بتحليه بالعلم، فالإنسان عندما ينفق المال يمدح ويقال: هذا جواد وكريم، ويمدح بتحليه بالعلم. والعلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته، يعني: الثناء الحسن والذكر الطيب بعد وفاته، وهذه حياة ثانية، وصنيعة المال تزول بزواله. فالعلم يكسب العالم الطاعة في حياته لحاجة الناس إلى العلم ومحبتهم له. دخل رجل إلى البصرة فقال: من سيد هذه القرية؟ فقالوا: الحسن البصري، فقال: بم سادهم؟ فقالوا: احتاجوا إلى علمه واستغنى عن دنياهم. وأما الصنائع التي تجعل لصاحب المال من الاحترام والتحية والإكرام والخدمة وغير ذلك فكل ذلك يزول بزوال هذا المال، كما قال بعضهم: وكان بنو عمي يقولون مرحباً فلما رأوني معسراً مات مرحب فالصنائع التي تصنع لصاحب المال من أجل ماله تذهب بذهاب هذا المال، وأما العلم فيبقي الثناء الحسن والمحبة في قلوب الخلق حتى بعد وفاة العالم. فقد مات خزان الأموال وهم أح

المواطن التي يجوز فيها التقليد

المواطن التي يجوز فيها التقليد والتقليد يجوز في مواطن، ومن هذه المواطن: الجاهل جهلاً محضاً الذي لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب، وإذا تلوت عليه آية أو أخبرته بحديث فلا يفهم ما ترشد إليه الآية، ولا يفهم ما يدل عليه الحديث، فمثل هذا أجاز له العلماء التقليد، وهو أن يأخذ بقول عالم من العلماء الذين يثق في علمهم وفي تقواهم لله عز وجل؛ لأن {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. وأيضاً: المسائل التي ليس فيها نص شرعي أو فيها نص غير واضح في الدلالة، بحيث تختلف أنظار العلماء في فهم هذا النص، مثل: تحديد النسل أو تنظيمه، فهذه المسائل فيها نصوص، ولكن بعض الناس يفهمون أن فيها تحريماً للتنظيم مثلاً، وبعضهم يقول: ليس فيه شيء. فالحاصل: أن المسألة إذا لم يكن فيها نص وكانت مسألة اجتهادية محضة غير منصوص عليها فالعلماء يقيسونها على مسألة منصوص عليها للتشابه الذي بينهما، وهنا يجوز أن تقلد عالماً من العلماء المجتهدين. أيضاً: إذا ضاق الوقت عن النظر في أقوال العلماء فيجوز تقليد المجتهد. هذه المواطن التي يجوز فيها التقليد. والإنسان إما أن يكون عنده أدوات الاجتهاد مثل أن يحفظ القرآن ويعرف مواضع الأحاديث في كتب السنة، ولا يشترط أن يحفظ كل كتب السنة ولكن يكون بحيث يستطيع أن يصل إلى مواضع الحديث فيها، وأن يكون عنده علم بالناسخ والمنسوخ، وعلم بالعربية وعلوم القرآن، وغير ذلك من العلوم الشرعية بحيث أنه يحصل أدوات النظر المباشر، ويستطيع أن يجمع النصوص في المسألة وينظر فيها؛ لأنك قد خبراً أو حديثاً أو نصاً في المسألة ويخفى عليك غيرها لعدم إطلاعك على الشريعة، ولكن المجتهد الذي أحاط بالشريعة أو بأكثرها يستطيع أن يجمع النصوص في المسألة ثم يستنبط الحكم. وهناك رتبة ثالثة بين المجتهد والمقلد وهي درجة الاتباع، وهي درجة طلاب العلم، وهي: أن يكون الإنسان ليس عنده أدوات الاجتهاد، وهو كذلك ليس جاهلاً جهلاً محضاً بل يستطيع أن ينظر في أقوال العلماء ويعرف أيهما وافق الدليل، فمثل هذا يجب عليه أن ينظر في المسائل المختلف فيها، وأن يعرف أيهم وافق الدليل، فيتبع الحق بدليله، ويتبع العالم المجتهد الذي يعرف أنه دله على طريق الله عز وجل، أو أن الحجة معه في المسألة. فيقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ثم قال: لا ذا ولا ذاك، يعني: لا هذا يصلح لحمل العلم ولا ذاك.

لا يحصل العلم باللذة والرائحة

لا يحصل العلم باللذة والرائحة ثم ذكر النوع الثالث فقال: أو منهوماً للذات سلس الانقياد للشهوات، يعني: الإنسان الذي همه أن يحصل على شهوته، والشهوات هي التي تحركه، وهو شديد الارتباط بالأرض وشهواتها، فهذا لا يستطيع تحصيل العلم النافع، ولا يصلح لوراثة الأنبياء؛ لأن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وكان الرجل إذا اشتغل بالحديث يحتسبه أهله، يعني: بمجرد ما يسلك طريق الحديث ويتعلم يحتسبونه عند الله عز وجل، ويعلمون أنهم لن يستفيدوا منه شيئاً في أمور الدنيا، فيحتسبونه عند الله عز وجل، فلا ينال العلم براحة الجسم، بل لا بد من البذل ومن مواصلة الليل بالنهار. والحاصل: أن المنشغل باللذات لا يصلح لحمل العلم النافع، ولا لوراثة النبوة، ويصح أن يقال له: فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد النوع الرابع: يقول: أو مغرم بجمع الأموال والادخار، أي: همه أن يجمع المال، فهو يعمل بالليل وبالنهار ليكثر ماله، فمثل هذا أيضاً لا يصلح لجمع العلم النافع وحمله، فالمغرمون بجمع الأموال والادخار ليسوا من دعاة الدين، وأقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة. ثم يقول: كذلك يموت العلم بموت حامليه، كما في البخاري وغيره: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء). والله عز وجل على كل شيء قدير، فهو قادر على نزع العلم من صدور الرجال، ولكنه عز وجل لا يقبض العلم بهذه الطريقة، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، ولذلك يقولون: من علامات الساعة: موت علماء السنة، وذهاب العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، (فإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم -وفي رواية لم يبق عالماً- اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

لا يخلو الزمان من قائم لله بحجة

لا يخلو الزمان من قائم لله بحجة ثم قال رضي الله عنه: اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكي لا تبطل حجج الله، أولئك الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً، يدفع الله بهم عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى. فبعد أن وصف علماء السوء وصف الدعاة الربانيين الذين هيأهم الله لحمل هذه الدعوة وجعلهم أمناء على دينه وعلى شرعه يقيمون الحجة على عباد الله، فقال: اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه. وقد تمسك الشيعة بهذا الخبر فقالوا: لابد أن يكون هناك إمام سواء كان ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، وقالوا: إن من هؤلاء العلماء إمامهم الذي دخل في السرداب، فكيف يكون هذا الإمام المعدوم الذي ليس له وجود حجة، فهم يقولون: إنه من الذين يقيمون الحجة على العباد، مع أنهم يعتقدون بأنه دخل في السرداب منذ أكثر من ألف سنة وهم ينتظرون خروجه، وكلما دعوا يقولون: عجل الله مخرجه أو فرجه. فالحاصل: أن هذا الحديث يدل على أنه لا بد أن يكون هناك أناس يقيمون الحجة على عباد الله، ولا يمكن أن يأتي على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما أتى على اليهود والنصارى من تبديل الشرائع، بل من رحمة الله عز وجل بأمة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل حفظ الكتاب، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فتكفل سبحانه بحفظ الكتاب، وقال عن الكتب السابقة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44]، فوكل حفظ هذه الكتب إلى الناس فضاعت، أما القرآن فقد تكفل الله عز وجل بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أمته صلى الله عليه وسلم لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، ففي البخاري وغيره: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). وأمر الله: الريح التي تأتي من جهة الشمال فتأخذ المؤمنين من تحت آباطهم، فتقبض كل روح مؤمنة، ثم تقوم الساعة على شرار الخلق. فهذا الخبر يدلنا على أن هذه الأمة لا بد أن يبقى فيها من يقيم الحجة. قال رضي الله عنه: أولئك الأقلون عدداً، يعني: لا يشترط أن يكون عددهم كثيراً، ولا أن يكونوا السواد الأعظم من الناس، بل إنهم -كما قال رضي الله عنه- الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، فهؤلاء لا يفارقون الساحة ولا الدنيا حتى يعلموا من يشبههم في الخير، ومن قلبه يصلح للخير، ومن همته تصلح لحمل راية سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم يقول رضي الله عنه: هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فرأوا الدنيا وزوالها وفناءها وعلموا أنها ظل زائل، وعرض حائل، وأن الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون، فسعوا للآخرة وكانت الآخرة هي أكبر همهم. فهجم بهم العلم على حقيقة الأمر، واستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون. فهؤلاء استلانوا هذه الطريق التي استوعرها المترفون؛ لأنه طريق الدعوة، وطريق البذل والتضحية والجهاد لرفع راية الله عز وجل، فالإنسان عندما يسلك طريق الله عز وجل لا يظن بأنه سوف يسلك طريقاً مفروشاً بالورود، وأنه سيجد الأمور مسهلة حتى يصل إلى جنة الله عز وجل، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). فمهما وجد الإنسان في الطريق ما تكرهه النفوس ويشق على القلوب فليتأكد أنه في طريق الجنة، ومهما وجد الأمور توافق الهوى والشهوات فليعلم أنه في منزلق خطير، وأن آخر ذلك حفرة النار -والعياذ بالله-. فأهل طريق الإيمان استلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلين؛ لأن الجاهلين يرون أن المتعة هي الشهوات والمال والجاه والشهرة، وهؤلاء متعتهم في قلوبهم وجنتهم في صدورهم، فمتعتهم في البذل في طريق الله عز وجل وفي قيام الليل وصيام النهار مهما شق ذلك على النفوس، ولا شك أن سيدهم وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم حتى تتورم ساقاه، وتتفطر قدماه، فيقال: (أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً). وكان صلى الله عليه وسلم يربط الحجر على بطنه من الجوع كما في قصة الحفر في الخندق. وكان يعمل مع الصحابة ويحمل التراب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

العلم طريقك إلى الجنة

العلم طريقك إلى الجنة فضل العلم عظيم، فهو الطريق الموصل إلى رضوان الله عز وجل وجنته، وفضل أهله تبع لفضله، فما ارتفع شأن العلماء إلا به، فهم به أحياء بعد موتهم، وبه خلد ذكرهم بين الأنام، في حين أن أصحاب المال والجاه والسلطان إذا ماتوا يموت ذكرهم معهم. فينبغي للمؤمن أن يجتهد في طلب العلم النافع، الذي به نجاته وفوزه وفلاحه في الدنيا والآخرة.

الحض على حفظ العلم وفهمه

الحض على حفظ العلم وفهمه الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: ليهلك من هلك عن بينه ويحيا من حي عن بينه وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. روى أبو نعيم في الحلية عن كميل بن زياد قال: أخذ علي رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر جعل يتنفس، ثم قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، ومحبة العلم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، آه آه، إن هاهنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة، بل أصبته لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذات، سلس القياد للشهوات، أو مغري بجمع الأموال والادخار، ليس من دعاة الدين، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه -لكي لا تبطل حجج الله وبيناته- أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته، حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك هم خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقاً إلى أولئك، وأستغفر الله لي ولك، إن شئت فقم. هذا الحديث الموقوف على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما قال الخطيب البغدادي من أحسن الأحاديث معنى، وهو من كلام علي رضي الله عنه، وهو أول من أسلم من الفتيان، أسلم وله ثماني سنين، وتربى في بيت النبوة، وزوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء الأمة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، كان العلم يتفجر من جوانبه، وكان عمر على جلالته في العلم يسأله، وكان يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن. فهذا من كلامه رضي الله عنه. يقول كميل بن زياد: أخذ علي رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر. أي: صار في الصحراء. ثم قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية فخيرها أوعاها. أي: أن الأوعية إذا أودعتها شيئاً حفظته، فهناك أوعية تملأ بالخير، وهناك أوعية تملأ بالشر: وكل إناء بالذي فيه ينضح. فيقول: القلوب أوعية فخيرها أوعاها. أي: أنصحها وأعقلها وأحفظها للحق. ثم قال: احفظ عني ما أقول لك. وهذا يدل على أهمية الحفظ لطالب العلم، ما قال: ادرس، ولا قال: افهم، ولكن قال: احفظ عني ما أقول لك.

تقسيم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للناس

تقسيم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للناس قال رضي الله عنه: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. فهو قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: هو الكامل الذي قد تعلم العلم وعمل به وعلمه، فهذا العالم الرباني نسبة إلى الرب عز وجل، كما تقول: لحياني وجبهاني عظيم اللحية أو عظيم الجبهة. وقيل: نسبة إلى التربية، فالعلماء الربانيون هم الذين يعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره، والعلماء الربانيون هم خواص العلماء، وهم الذين وصلوا إلى الذروة في العلم والعمل والتعليم، كما قال عز وجل: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة:63]، فالأحبار هم العلماء، والربانيون هم خواص العلماء. القسم الثاني: متعلم على سبيل نجاة. حتى يكون المتعلم على سبيل نجاة وليس على سبيل هلكة فينبغي له ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يتعلم العلم النافع، وهو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين لا يتعلم علم الكلام أو المنطق أو الفلسفة ويظن أنه على سبيل نجاة، بل ينبغي أن يتعلم العلم النافع، علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم. الأمر الثاني: أن يبتغي بتعلمه وجه الله عز وجل؛ لما ورد في الحديث: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لن يجد عرف الجنة يوم القيامة). فمن تعلم العلم النافع علم الكتاب والسنة ولم يرد بذلك الآخرة، ولم يرد بذلك وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا، يريد الوجاهة في الدنيا أو يريد منصباً أو مالاً لن يجد رائحة الجنة يوم القيامة. الأمر الثالث حتى يكون المتعلم على سبيل نجاة وليس على سبيل هلكة: أن يعمل بعلمه، كما قال بعض السلف: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وقال بعضهم: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. وقال بعض السلف: من عمل بما علم أورثه الله عز وجل علماً جديداً. إذاً: فالعبد إذا تعلم مسألة من مسائل الدين وعمل بها؛ فإن الله عز وجل يعلمه مسألة أخرى. القسم الثالث: وهمج رعاع، والهمج: جمع همجة وهو الذباب الذي يقف على وجوه الماشية. قوله: رعاع. أي: كثير منتشر، وهؤلاء هم الغافلون عن العلم وطلبه، ليسوا من العلماء، وليسوا من طلاب العلم، رضوا بالدرجة الخسيسة، ورضوا بالحضيض، ورضوا بالجهل فهؤلاء هم حطب كل فتنة، وهم كثير لا كثرهم الله عز وجل. فقوله: وهمج رعاع أتباع كل ناعق. شبههم بالأنعام السائمة؛ لأنه وصف الذي يدعوهم بالناعق لا يفرقون بين الدعوات؛ ليس عندهم نور العلم الذي يفرقون به بين الدعوات؛ فإن دعاهم أحد إلى سنة أجابوا، وإن دعاهم أحد إلى بدعة أجابوا، ولذلك كانوا حطب كل فتنة؛ لأنهم ليس عندهم علم يميزون به بين الدعوات، ويفرقون به بين الهدى والضلال، وبين البدعة والسنة، وبين الحق والباطل. ثم قال: يميلون مع كل ريح. شبه قلوبهم الضعيفة الخالية من العلم النافع بالغصن الأخضر، الذي إذا أتته ريح من جهة الشمال مال معها، وإذا أتته ريح من جهة الشرق مال معها، فليس في قلوبهم علم نافع، والذي يثبت هو الذي يقف على الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]، فهؤلاء ليسوا على بصيرة، وليسوا على علم نافع، ولذلك يميلون مع كل ريح. ثم بين سبب ذلك فقال: لم يستضيئوا بنور العلم. أي: ليس في قلوبهم نور العلم، قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فالمؤمن العالم على نور وعلى بصيرة. وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. فالعلم النافع نور يفرق به العبد بين الهدى والضلال، وبين البدعة والسنة. فهؤلاء ليسوا من أهل العلم، وليس نور العلم في قلوبهم، وكذلك لم يلجئوا إلى عالم مجتهد أو حتى متبع يسيرون بأوامره، ويهتدون بهديه على بصيرة. فالعبد إما أن يكون مبصراً بنفسه يرى الطريق ويرى العقبات ويرى المنحنيات، أو يكون فاقداً للبصر فيمسك بيد بصير، أما

فضل العلم على المال

فضل العلم على المال ثم شرع علي رضي الله عنه في بيان فضل العلم على المال، فقال: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم، والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها. أي: العلم خير من المال؛ لأن العلم يحرسك من البدع ومن الشبهات ومن الشهوات، أما المال فيحتاج إلى حارس. وقال: العلم يزكو على الإنفاق. أي: إذا علم العالم العلم ثبت في قلبه وتفجرت ينابيعه في قلبه، وأورثه الله عز وجل علماً جديداً؛ لأن زكاة العلم العمل به وتعليمه. ثم قال: العلم حاكم والمال محكوم عليه. أي: العلم يحكم على الملوك فمن دونهم، والمال محكوم عليه. ثم قال: ومحبة العلم. وفي رواية: ومحبة العلماء دين يدان بها. أي: من الدين أن تحب العلم وأن تحب أهل العلم، لأن محبة العلم تدعو إلى تعلمه، وتدعو إلى العمل به، ومحبة العلماء تدعو إلى العمل بعلمهم والاقتداء بهديهم. دخل رجل البصرة فقال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري. قال: فبم سادهم؟ قالوا: احتاجوا إلى علمه، واستغنى عن دنياهم. وذكر الإمام العلامة ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة) أربعين وجهاً من فضل العلم على المال، من ذلك: أن حرص العبد على العلم عين كماله، وأن حرص العبد على المال عين نقصه. من ذلك: أن لذة العلم لذة حقيقية يتنعم العبد بعلمه في الدنيا وفي الآخرة. أما لذة المال فلذة بهيمية أو وهمية، إما أنه يشترك مع البهائم فيها كالأكل والشرب، أو لذة وهمية فهو يفرح بأن يزداد رصيده أو يزداد ماله، كما قال عز وجل: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:14] فهذه شهوة من شهوات النفوس، ولا يمكن لأحد مهما عاش في الدنيا أن ينفق قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، ولكنها لذة وهمية. من محبة المال أن يفرح صاحبه أن يزداد، وإن كان لا ينفقه ولا ينتفع به ويتركه لورثته. من ذلك: أن المال ينتفع به في الدنيا، أما العلم فيدخل به قبره. من ذلك: أن التمتع والتزين بالمال تزين بشيء خارج عن نفسه، أما التزين بالعلم فشيء في صلب نفسه. ثم قال رضي الله عنه: مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر. كم في بلادنا -عباد الله! - من يملك المليارات ولا يعرفهم أحد ولا يحبهم أحد ولا ينتفع بهم أحد، وهم مغموسون في الشهوات واللذات عباد الله، فهم أموات بالنسبة إلى الناس لا ينتفع بهم، وليس لهم محبة في قلوب الخلق. وكم مات من علماء الأمة الأعلام كالسفيانين والحمادين والأئمة الأربعة أئمة الفقه، وأئمة الحديث، وأئمة الجرح والتعديل، وعلماء الأمة الأعلام كـ شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وابن رجب وابن كثير وغيرهم، مات هؤلاء منذ أزمنة طويلة ولا يكاد يمر يوم حتى يذكرهم الناس ويثنوا عليهم، وحتى ينتفع الناس ببركة علمهم وفضلهم. قال هارون الرشيد لأحد تلامذته: من أنبل الناس؟ قال: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، فقال: بلى، رجل جالس في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا اسمه مرتبط باسم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حلقة في سلسلة أعلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: نحن نموت -أي: الملوك يموتون- أما هؤلاء العلماء فلا يموتون. ثم قال رضي الله عنه: أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. أي: ما يفقد الناس إلا أجسامهم وأعيانهم، وإلا فأمثالهم ومحبتهم وعلمهم والثناء عليهم موجود في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

افتقار العلم إلى من يحمله حق الحمل وأصناف الناس في ذلك

افتقار العلم إلى من يحمله حق الحمل وأصناف الناس في ذلك ثم اشتكى علي رضي الله عنه من قلة طلبة العلم الذين يحملون عنه هذا العلم الجم الغزير، فقال: إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة. يجوز للعالم أن يخبر عما عنده من العلم، ليس على سبيل التفاخر والتعاظم، بل من أجل أن ينتفع به، ومن أجل أن يتعلم منه الناس، ومن أجل أن يسأله من يحتاج أن يسأل، ولذلك قال بعضهم: لا يجوز للعالم أن يضيع نفسه، بأن يكون في مكان لا يعرف فلا ينتفع به ولا يحمل عنه العلم، فقال رضي الله عنه: إن هاهنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة. أي: يقومون بحمل هذا العلم ويقومون بحقه وبالواجب نحوه. ثم ذكر أربعة أصناف من طلاب العلم الذين لا يستحقون أن يكونوا من حملة هذا العلم، فقال: بل أصبت لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده. وهذا هو الصنف الأول: من عنده ذكاء وليس عنده زكاء، أي: ليس عنده طهارة في قلبه، فهو يمكن أن يحفظ شيئاً من العلم، ولكنه لا يؤثر فيه ولا ينتفع به، وإنما يتكبر به على عباد الله عز وجل، لا يتواضع لله عز وجل، كما قال أيوب السختياني: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله عز وجل. فهؤلاء يتكبرون بما علموا على عباد الله، وقد يردوا الحجج الشرعية بالجدال والمخاصمة. وقوله: وبنعمه على عباده. أي: يتعالى بنعم الله عز وجل عليه على عباد الله. ثم ذكر الصنف الثاني فقال: أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة. أي: المقلد تقليداً محضاً. والتقليد: هو أن تأخذ كلام غيرك من غير أن تعرف دليله من الكتاب والسنة، وأجمعوا على أن المقلد ليس من أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين مقلد وبين بهيمة تقاد. فقال: أو منقاداً لأهل العلم لا بصيرة له في أحنائه، أي: لا علم له بأدلة هذا الحق، فمثل هذا -عباد الله- ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة؛ لأنه ليس على بصيرة، وليس على علم، والعلم هو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وهؤلاء ليس عندهم إلا قال فلان وقال فلان، والسند منقطع بينهم وبين القرآن، وبينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم. ثم ذكر الصنف الثالث فقال: أو منهوماً باللذات، سلس القياد للشهوات. أي: ليس له هم إلا أن يحصل على شهواته، فهو واقف مع حظوظه وشهواته، لا يلتفت في رضا الله عز وجل أم في غضب الله؟! ما لهؤلاء ووراثة النبوة؟ وهذه الأمة -عباد الله- جعل الله عز وجل لها في كل فترة منها بقايا من أهل العلم، كما كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي بعث الله عز وجل لهم نبياً، فهذه الأمة تسوسها العلماء، والعلماء هم ورثة الأنبياء. فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد ثم قال: أو مغرىً بجمع الأموال والادخار. أي: ليس له هم إلا أن يجمع المال، فهو يسعى ليله ونهاره في جمع الأموال. ثم قال: كذلك يموت العلم بموت حامليه استناداً إلى الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). فقبض العلم من صدور العلماء جائز في القدرة، فالله عز وجل قادر على أن يقبض العلم من صدور العلماء، ولكن الذي يحصل إذا أراد الله عز وجل أن يرفع العلم فإنه لا يقبضه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بقبض علماء السنة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

عدم خلو الأرض من قائم لله بحجة

عدم خلو الأرض من قائم لله بحجة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول علي رضي الله عنه: اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه، لكي لا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك هم خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه. من رحمة الله عز وجل بأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ألا تضل، كما ضلت اليهود وكما ضلت النصارى، حرفت الكتب وبدلت الكتب، وضل الناس عن الحق، وضاع الحق في هذه الأمم السابقة. أما أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وأمته خير الأمم، وهي نصف الجنة ببركة سفارة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حفظ الله عز وجل كتابها وحفظ سنة نبيها، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والذكر في الآية هو الكتاب والسنة، لأن السنة من الذكر. وقال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] فما نزل إليهم هو القرآن بلا مرية، والذكر في هذه الآية هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن كمال حفظ القرآن حفظ السنة، فحفظ الله عز وجل كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظ الله عز وجل إجماع أمته، فلا يمكن أن تجتمع أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة. كما حفظ الله عز وجل -وله الحمد والمنة على كل نعمة- حفظ طائفة من هذه الأمة، فهي لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم كذلك، كما ورد في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). وهذا الظهور قد يكون ظهوراً كاملاً، ظهور سيف وسنان، وظهور حكم وسلطان، وأدنى هذا الظهور أن يكون ظهور حجة وبيان، فلا بد أن يوجد في الأمة من يقيم الحجة على سائر أهل زمانهم، ومن ينصر دين الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه الطائفة الظاهرة بالحق عباد الله، وهذه الطائفة المنصورة مهما كادها أعداء الإسلام ومهما مكروا بها ليل نهار، فلا بد أن يبقى هذا الظهور، ولا بد أن تبقى هذه الطائفة ظاهرة تقيم الحجة على سائر عباد الله، وعلى سائر أهل زمانهم. ثم قال: أولئك الأقلون عدداً أي: قد يقلون في الأعصار والأمصار، ولكن لا بد أن يبقى منهم طائفة، كما كانوا في زمن الإمام أحمد لما اقتنع الخليفة بما قالت المعتزلة الرديئة وأقنع كثيراً من الناس، وخضع له كثير من العلماء تقية وخوفاً، فقالوا بهذه المقالة، وثبت الإمام أحمد وطائفة يسيرة على عقيدة أهل السنة والجماعة. وقيل للخليفة: أتكون أنت وولاتك وقضاتك والعلماء وعوام الناس على الباطل وأحمد وحده على الحق؟ ولم يتسع صدر الخليفة لتهدئة القضية، فأخذ الإمام أحمد بالضرب الشديد بعد الحبس الطويل، ثم ظهر الحق وبطل ما كانوا يدعون، وحفظ الإمام أحمد لهذه الأمة عقيدة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم. فبثبات هذه الطائفة اليسيرة يبقى دين الله عز وجل، وتبقى حجج الله عز وجل، فلا بد أن يوجد بقايا من أهل العلم ومن أهل السنة والجماعة كما جاء في الحديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) لا بد أن يبقى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقايا من أهل العلم؛ لقيام الحجة على سائر أهل زمانهم. فهؤلاء صنف فريد من الناس عباد الله، بل لو ذهب هذا الصنف لقامت القيامة، لا يذهبون حتى تأتي ريح من جهة الشمال فتقبض كل روح مؤمنة، ثم تقوم الساعة على شرار الخلق، فلو لم يوجد هذا الصنف في الأرض عباد الله! لوقعت الواقعة وقامت القيامة، فلا بد أن يبقى طائفة على الحق. فقوله: أولئك الأقلون عدداً، وقد يكون الواحد منهم بألف أو بآلاف، فلا نغتر بالعدد، ولا نغتر بالكثرة، فقد يكون داعية واحد وعالم واحد في الأمة بالأمة بأسرها. ويقول: أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته. وهم الذين يتصدون لأهل البدع ولأهل الشبهات، ولأهل الشهوات ولأعداء دين رب الأرض والسماوات. أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم. أي: لا بد أن يوفق الله عز وجل لهم من يكون مثلهم؛ ليحمل هم الدين وهم الدعو

المشهد الأخير

المشهد الأخير من عدل الله عز وجل أن جعل بعد الموت بعثاً للخلائق، ليجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظن الظالمون المتكبرون أنهم سيفوتون الله عز وجل، بل سيبعثهم سبحانه ويجازيهم على ظلمهم وكبرهم وكفرهم، كما أنه عز وجل لا يضيع أجر المحسنين، فلذلك تجدهم مستمسكين بدينهم، صابرين على الأذى من أجله.

حقيقة الإيمان بالبعث والنشور والحساب والجزاء

حقيقة الإيمان بالبعث والنشور والحساب والجزاء الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنّة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحّد الله عز وجل وعرّفنا به ودعا إليه وسلّم تسليماً. أما بعد عباد الله: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين. عباد الله! هل يمكن أن يكون الموت هو المشهد الأخير للخلائق؟ أن يموت الجميع ويلفّون في قماش، ويوضعون تحت التراب، ممن سفك الدماء من المجرمين والسفّاحين أمثال بوش وشارون وغيرهم من الجبابرة الذين عاثوا في الأرض فأكثروا فيها الفساد، هل يمكن أن تكون نهاية هؤلاء الموت؟! أن يموتوا فلا يُبعثون، وألا يكون هناك عاقبة للثواب والعقاب؟! هل يستوي هؤلاء ومن قضوا عمرهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وإعزاز دين الله عز وجل، ورفع راية الله عز وجل، أمثال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم من العلماء العاملين الذين ملئوا الدنيا علماً وعبادة وجهاداً لإعزاز دين الله عز وجل؟ هل يمكن أن يكون الموت هو نهاية الجميع ولا حشر ولا نشر ولا عاقبة للثواب والعقاب: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، ليس هذا -عباد الله- هو المشهد الأخير، ولكن المشهد الأخير تصوره خواتيم سورة الزمر، كيف يبعث الله عز وجل الخلائق جميعاً، وكيف تكون النهاية زمراً إلى النار، أي: جماعات تساق إلى النار وإلى سخط العزيز الجبار، وجماعات تساق إلى رحمة الله عز وجل وإلى جنة الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَب

عظمة الخالق سبحانه وقدرته على كل شيء

عظمة الخالق سبحانه وقدرته على كل شيء تبدأ هذه الآيات الكريمات بقول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن حبراً من أحبار اليهود قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نجد أن الله عز وجل يحمل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والأشجار على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ويقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). وروى الإمام مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (إن الله عز وجل يقبض الأرضين على إصبع، ويطوي السماوات بيمينه، ويقول: أنا الملك، أنا الملك). وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فأخذ بيده- أي: رفع يده- يقبل بها ويدبر، ويقول: يمجد الرب نفسه، يقول: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العليم، أنا الكريم)، فهذه الآية عباد الله تبين أن الخلق ما قدروا الله حق قدره. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُذن لي أن أتحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام)، هذا ملك من ملائكة الله من حملة العرش وهم ثمانية، وهم من أشرف الملائكة وأقواها، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام، فكيف يمكنك يا عبد الله أن تتصور مخلوقاً بهذه العظمة، ما بين شحمة أذنه إلى كتفه تطير الطير خمسمائة عام، لا تستطيع أن تتصور عظمة المخلوق، فكيف بالخالق عز وجل؟ قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28 - 29]. أي: لما قتل مؤمن آل ياسين ما كان يستأهل الأمر أن تنزل ملائكة من السماء، أو ينزل جند من السماء، إنما صاح فيهم جبريل صيحة شديد القوى، فماتوا عن آخرهم، كما أرسل الله عز وجل إلى قوم ثمود الذين كذّبوا صالحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أرسل عليهم جبريل فصاح فيهم صيحة قطعت قلوبهم في أجوافهم، وأرسل الله عز وجل جبريل عليه السلام على القرى اللوطية فحمل قرى اللوطية إلى السماء على طرف جناحه وقلبها، فجعل عاليها سافلها.

النفخ في الصور وأنواعه

النفخ في الصور وأنواعه قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]. قيل: الذين استثناهم الله عز وجل هم الشهداء. وقيل: الملائكة، وقيل: الحور العين، وقيل: الولدان المخلدون. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68]، فهذه النفخة الأولى نفخ الصعق، يصعق ويموت من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخة البعث والنشور: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، أي: لم يقوموا ينفضون التراب عن أنفسهم، ويفركون أعينهم بأيديهم، بل يقومون قومة حياة كاملة عباد الله. (أبصر بهم وأسمع)، أي: ما أبصرهم وما أسمعهم عندما يقومون: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13 - 14]. و {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]. يقول أبو هريرة فيما رواه صاحب الصحيح: (ما بين النفختين أربعون، قيل: يا أبا هريرة أربعون سنة؟ قال: أبيت)، أي: أبيت أن أُجيب، إما لأنه لم يعلم ذلك، أو أنه نسي ذلك: (قال: أبيت، قيل: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قيل: أربعون يوماً؟ قال: أبيت، وكل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب -أي: هو عظمة في أسفل العمود الفقري- ومنه يركّب ابن آدم). قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69] أي: جاء الرب جل وعلا للفصل بين العباد، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر:69] أي: الكتاب الذي أُحصي فيه أعمال العباد وأقوال العباد {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:69] قيل في الشهداء: هم الذين قُتلوا لإعزاز دين الله عز وجل، وقيل: هم الذين يشهدون على الخلائق بأعمالهم {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:69 - 70] أي: كل عبد أخذ حقه من مثاقيل الذر، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] فالله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.

صورة سوق الكافرين إلى جهنم

صورة سوق الكافرين إلى جهنم قال عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71] أي: جماعات {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] يساق المكذّبون والمعرضون عن شرع الله عز وجل، ويساق العلمانيون والذين يصدون عن سبيل الله عز وجل، وتساق كل جماعة مع ما يشاكلها، وكل فريق من الكافرين ومن المكذبين مع ما يشاكله {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر:71] أي: حتى إذا اقتربوا من النار {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71] أي: فتحت أبوابها فجأة، حتى يفاجئوا بما فيها من العذاب، ثم هي تسحب أهلها إليها، {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:7 - 9]. فالله عز وجل أقام الحجة على العباد جميعاً، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وقال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] فما حكم الله عز وجل عليهم بالعذاب حتى أقام عليهم الحجة، وحتى أرسل الرسل، وحتى أنزل الكتب من السماء، فلا يدخل أحد النار -عباد الله- إلا وقد قامت عليه الحجة، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر:71] أي: تعرفون صدقهم وأمانتهم وشرف نسبهم وأخلاقهم الفاضلة، أتوكم بالمعجزات التي تدل على صدقهم، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] اعترفوا بأنهم قامت عليهم الحجة، وبأن الله عز وجل أرسل إليهم الرسل، وأقام عز وجل عليهم الحجة، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72] لم يقل: قال الله عز وجل: ادخلوا أبواب جهنم؛ لأن الشر ليس إليه، كما قال إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، وكما في قصة الخضر وموسى، قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] فنسب قتل الغلام إلى نفسه، لم ينسبه إلى الله عز وجل أدباً مع الله عز وجل، مع أن الله عز وجل هو الذي أمر بالجميع، وهو الذي قضى بالجميع، ولكن الشر لا يُنسب إليه، وقال في الغلامين: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] وهنا قال: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [الزمر:72]. فالجميع شهد بأنهم يستحقون العذاب، حتى هم أنفسهم الذين يدخلون النار لا يقولون: بأن الله عز وجل ظلمهم ولو مثقال ذرة، بل يعترفون أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، وهم الذين أضاعوا حظهم، وباعوا نفوسهم بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيها من الزاهدين. فالحياة الدائمة -عباد الله- هي الحياة الآخرة، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] لو كانت الدنيا هي الحياة ما حرم الله عز وجل منها رسوله صلى الله عليه وسلم، وما حرم الله عز وجل منها الأتقياء، والذين يحبون الله عز وجل، فالله عز وجل إذا منع أحبابه ما لا يساوي جناح بعوضة، فلا يكون قد حرمهم شيئاً؛ ولذلك يقول العبد إذا أقبل على الله عز وجل، وإذا عاين أمور الآخرة: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] مع أنه فارق الدنيا التي يظن الناس أنها هي الحياة، وأن من سعد فيها فهو السعيد، وأن من شقي فيها فهو الشقي، فالدنيا -عباد الله- لا تساوي جناح بعوضة، (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع؟) أي: ما يعلق بإصب

صورة سوق المتقين إلى الجنة

صورة سوق المتقين إلى الجنة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:73 - 75]. عباد الله من المشهد الأخير: مشهد المتقين، ودائماً يأتي الثواب للمتقين، أو الذين آمنوا واتقوا، أو الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، حتى يبقى المخلطون من أمثالنا، الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ولم يبلغوا بعد درجة التقوى، يبقون على خوف وحذر؛ لأنهم لا يعرفون أنهم وصلوا بعد إلى درجة التقوى، فحتى يكون المؤمن -عباد الله- يسير إلى الله عز وجل كالطائر بجناحي الخوف والرجاء، فمثل القلب كمثل الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، وإذا قُطع الرأس مات الطائر، وإذا كُسر الجناحان أو أحدهما صار عرضة لكل صائد. إذاً: فالقلب -عباد الله- مثله كمثل الطائر كلما كان الطائر جيد الطيران وكلما كان صحيح البنية قوي الجناحين فإنه يحلّق في أجواء السماء العليا بعيداً عن الآفات، ولكنه إذا كان قريباً من الأرض يكون قريباً من الشهوات، قريباً من العطب والهلاك، يقول عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]. قال المفسّرون: الأنبياء مع الأنبياء، والعلماء مع العلماء، والأولياء مع الأولياء، والشهداء مع الشهداء. وقيل كذلك: كل جماعة كانت متعاونة على طاعة الله عز وجل فإنها ينادى عليها يوم القيامة، وتكون زمرة من الزمر التي تساق إلى رحمة الله وإلى جنة الله عز وجل. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من هذه الزمر المباركة التي تُساق إلى الجنة وإلى الرحمة، ولا يجعلنا من الزمر التي تساق إلى النار والعذاب، قال عز وجل عندما ذكر النار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71] فإنها تفتح فجأة، يفاجئون بما فيها من عذاب، ثم تسحبهم إليها سحباً. ولكن الجنة دار النعيم تكون مغلّقة الأبواب، (يأتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيطرق باب الجنة، فيقول خادم الجنة: من؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: بك أُمرت ألا أفتح لأحد قبلك)، فلا تُفتح الجنة لأحد قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته ببركة رسالته هي أول الأمم يدخلون الجنة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم، فنحن الآخرون السابقون، فهي آخر الأمم؛ لأن نبيها هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ولكنها خير الأمم والسابقة بالخير والفضل، وهي أول الأمم وفوداً الجنة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل من هذه الأمة فقراء المهاجرين، ويدخل السبعون ألفاً الذين بشّر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، يمسك بعضهم بيد بعض فيدخل أولهم وآخرهم، إشارة إلى اتساع أبواب الجنة. وللجنة ثمانية أبواب كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كل باب لسهم من أسهم الإسلام: باب للصلاة، وباب للصيام، وباب للحج والعمرة، وباب للجهاد وغير ذلك. وأبواب النار سبعة كما أخبر الله عز وجل في كتابه: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44]. فالجنة -عباد الله- تكون مغلقة الأبواب، فإذا اقترب منها أهلها وشفع الشافعون وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تفتح الجنة، ويدخل أهل الجنة الجنة، يستقبلون بالتحية والتكبير، وبالسلام من رب العالمين: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر:73] أي: طابت قلوبكم وطابت جوارحكم بالعبادات والطاعات، وبمحبة رب الأرض والسماوات، {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] فالجنة -عباد الله- دار الطيبين، لا يدخلها إلا الطيبون، فمن طاب في الدنيا وطابت نفسه وطاب قلبه وطابت جوارحه من الشرك ومن معصية الله عز وجل دخل الجنة من أول وهلة، أما الذين لم يطب في الدنيا بل بقي فيه من الحقد والحسد والبغضاء للمسلمين، وعدم محبة شرع الله عز وجل محبة واهبة، فلا بد أن يطيب قبل أن يؤذن له بدخول الجنة. فأبواب الجنة تكون مغل

أهوال يوم القيامة

أهوال يوم القيامة يوم القيامة يوم شديد الأهوال عظيم الأحوال، ففيه الحشر والميزان والصراط والحساب والعرض، فعلى المرء المسلم أن يستعد لذلك اليوم بالأعمال الصالحة، لينجو من كربه، فإن كربه عظيمة، والسعيد من وقاه الله شر ذلك اليوم ولقاه نضرة وسروراً.

استحضار السلف أمور الآخرة واجتهادهم في عبادة الله عز وجل

استحضار السلف أمور الآخرة واجتهادهم في عبادة الله عز وجل إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فما زلنا -عباد الله- في هذه الرحلة العلوية السماوية، الرحلة إلى اليوم الآخر، وقد تكلمنا في الخطبة قبل السابقة عن الموت، وفي السابقة عن حياة البرزخ، ونحن نتكلم في هذه الخطبة -إن شاء الله تعالى- عن يوم القيامة. لقد طغى عالم الشهادة على قلوبنا وعلى حواسنا، وعلى جوارحنا، وغابت عنا -كثيراً- أمور الآخرة؛ وكما غابت عن أعيننا وعن حواسنا غابت كذلك عن قلوبنا، ولكن السلف رضي الله عنهم كانوا يستحضرون دائماً أمر الآخرة. صلى ابن أبي أوفى بالناس الفجر بسورة المدثر، فلما بلغ قوله عز وجل: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10] أخذته شهقة فمات. فلعله استحضر أمور الآخرة، واستحضر القيامة في هذه اللحظات، فكانوا يقرءون القرآن بقلوب حاضرة، وكانوا عندما يذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآخرة كأنهم يرون ويشاهدون أمور الآخرة. كان مسروق رضي الله عنه يكثر من العبادة، وكانت عائشة تقول له: إنك من أولادي، وإنك من أحب أولادي إلي، وسمى ابنته عائشة، وكان لا يعصي لها أمراً؛ تعظيماً لأمه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فعاتبته ابنته عائشة يوماً على أنه يشدد على نفسه في العبادة، فقال لها: ما أردت به؟ قالت: الرفق، قال: إنما أردت الرفق بنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. فكان السلف يستحضرون أمور الآخرة، وكان يجتهدون في عبادة الله عز وجل، وكان في التابعين ثلاثون تابعياً لو قيل لأحدهم: القيامة غداً، ما استطاع أن يزيد شيئاً، فكانوا يبذلون غاية جهدهم في الطاعة والعبادة؛ لأنهم كانوا يستحضرون أمور الآخرة، لا تغيب عن قلوبهم، ولا تغيب عن حواسهم.

التفكر في أهوال يوم القيامة

التفكر في أهوال يوم القيامة تعالوا -عباد الله- نعيش هذه الساعة كأننا في يوم القيامة. تعالوا نعيش يوم القيامة في هذه الساعة؛ لعلنا نتذكر أمور الآخرة، ولعل النفوس تقلع عن غيها، وتثوب إلى رشدها، وتعود إلى طاعة ربها عز وجل، فكما أن للموت شدة في أحواله وسكراته، وخطراً في خوف العاقبة، كذلك الخطر في مقاساة ظلمة القبر وديدانه، ثم فتنة منكر ونكير وسؤالهما، ثم عظمة القبر وخطره إن كان مغضوباً عليه، وأعظم من ذلك كله: الأهوال التي بين يديه من نفخ الصور، والبعث يوم النشور، والسؤال على القليل والكثير، ونصب الميزان لمعرفة المقادير. فهذه أحوال وأهوال لابد لك من معرفتها، ثم الإيمان بها على سبيل الجزم والتصديق، ثم تطويل الفكر في ذلك؛ لتنبعث من قلبك دواعي الاستعداد لها. وأكثر الناس لم يدخل الإيمان باليوم الآخر صميم قلوبهم، ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم، ويدل على ذلك شدة تشميرهم لحر الصيف وبرد الشتاء، وتهاونهم بحر جهنم وزمهريرها مع ما فيها من المصاعب والأهوال، بل إذا سئلوا عن اليوم الآخر نطقت به ألسنتهم ثم غفلت عنه قلوبهم. ومن أخبر بأن ما لديه من الطعام مسموم فقال لصاحبه الذي أخبره: صدقت، ثم مد يده لتناوله كان مصدقاً بلسانه مكذباً بعمله، وتكذيب العمل أبلغ من تكذيب اللسان. فمثل نفسك وقد بعثت من قبرك مبهوتاً من شدة الصاعقة، شاخص البصر نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي كان فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الرعب مضافاً إلى ما كان عندهم من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر، قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. وتفكر في الخلائق وذلهم، وانكسارهم واستكانتهم؛ انتظاراً لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة، وأنت فيما بينهم منكسر كانكسارهم، متحير كتحيرهم، فكيف حالك وحال قلبك هنالك وقد بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، واشتبك الناس وهم حفاة عراة مشاة، وازدحموا في الموقف شاخصة أبصارهم، منكسرة قلوبهم؟ فكيف ترى حياءك _يا عبد الله- وهو يعد عليك إنعامه ومعاصيك، وأياديه ومساويك؟! وتفكر في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه، والخجل والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار تعالى، وأنت عار مكشوف متحير ذليل مذعور، منتظر ما يجري عليك القضاء بالسعادة أو الشقاوة، فما أعظم هذه الحال! فإنها عظيمة، واستعد لهذا اليوم العظيم شأنه، القاهر سلطانه، القريب عذابه، يوم ترى السماء فيه قد انفطرت، والنجوم الزواهر من هوله قد انكدرت، والجبال قد سيرت، والعشار قد عطلت، والوحوش قد حشرت، والنفوس إلى الأبدان قد زوجت.

أسماء يوم القيامة وغفلة الناس عنه

أسماء يوم القيامة وغفلة الناس عنه وقد ذكر الله عز وجل في كتابه يوم القيامة، وأكثر من أساميه؛ لتقف بكثرة أساميه على كثرة معانيه، فسماه: يوم القيامة، وسماه: الواقعة، وسماه: القارعة، وسماه: الزلزلة، وسماه: الحاقة، وسماه: الطامة، وسماه: الصاخة، وسماه: يوم التلاق، وسماه: يوم التناد، وسماه: يوم الحشر، وسماه: يوم النشور، وسماه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. فالويل كل الويل للغافلين، يرسل الله عز وجل إلينا سيد المرسلين، وينزل عليه الكتاب المبين، ويعرفنا بالنعوت من صفات يوم الدين، ثم يعرفنا غفلتنا فيقول: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:1 - 2]. ثم يعرفنا قرب القيامة فيقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، ويقول: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6 - 7]، ويقول: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].

الحشر

الحشر تعالوا نلقي نظرة على أرض المحشر، ثم تعالوا لنرى كيف يحشر الناس إلى ربهم عز وجل يوم القيامة، ثم تعالوا نرى صفوف الحساب، وتعالوا نرى تطاير الصحف؛ فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، تعالوا نرى هذا الميزان العجيب، ميزان الحق الذي توزن فيه أعمال العباد، بل يوزن فيه العباد أنفسهم يوم القيامة، ثم تعالوا نلقي نظرة على الصراط الذي يضرب على ظهر جهنم بعد أن عانوا وكابدوا أمور الآخرة وأهوالها، وكيف يمرون على هذا الصراط؟ وكيف ينجو من ينجو بطاعة الله عز وجل، وكيف يكردس المجرم والفاسق والكافر في نار جهنم؟! تعالوا إلى أحوال الآخرة وأهوالها، لعلنا نغيب عن شهوات الدنيا وعن زينتها وعن زخرفها، ولعلنا نعيش بقلوبنا في الآخرة، ونستحضر أمور الآخرة؛ لعلنا نسعى للقاء الله عز وجل، ونستعد للقاء الله عز وجل.

أرض المحشر

أرض المحشر أرض المحشر أرض بسيطة مبسوطة ليس فيها مرتفع ولا منخفض، قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]. وقال عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. قال ابن عباس: يزاد فيها وينقص، وتذهب جبالها وأشجارها وأوديتها وما فيها، وتمد مد الأديم العكاظي، أرض بيضاء مثل الفضة، لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة. قال النبي صلى الله وعليه وآله وسلم: (يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرص نقي -أي: نقي عن النخالة والقشرة- ليس فيها معلم لأحد)، ليس فيها برج ولا مرتفع ولا منخفض، بل الكل فيها ظاهر مكشوف الرجال والنساء، قالت عائشة رضي الله عنها: (الرجال مع النساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك). إنه يوم عظيم عباد الله!

كيفية حشر الناس إلى أرض المحشر

كيفية حشر الناس إلى أرض المحشر كيف يحشر الناس إلى هذه الأرض أرض المحشر؟ يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا). نار تخرج من قعر عدن، تسوق الناس إلى أرض المحشر. وأرض المحشر قيل: هي فلسطين، هذه النار تسوق الناس تقيم معهم وتبيت معهم وتصبح معهم، تسوقهم إلى أرض المحشر. عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!). قال قتادة: بلى وعزة ربنا؛ وذلك قول الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]. فالكافر يسير على وجهه، ويحشر على وجهه، ويعاني بوجهه ما على أرض المحشر. ويقول عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85 - 86]. قال ابن عباس: (وفداً) أي: ركباناً. أي: أن أهل التقوى لا يحشرون على أقدامهم؛ لأن العرب تطلق الوفد على الذين يأتون على الرواحل. ويقول علي رضي الله عنه: لا يحشرون والله! على أقدامهم، ولكن على نوق رحالها الذهب، ونجائب سرجها يواقيت إن هموا بها سارت، وإن هموا بها طارت. قال عز وجل: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] أي: عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش، ولكنهم لا يردون إلى ماء، بل إلى جهنم وحميمها ومهلها وجحيمها، كما ورد في حديث الشفاعة الطويل: (يقال لهم: ما تشتهون؟ فيقولون: عطشنا، فيشار لهم إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيقال لهم: ألا تردون؟) فسبحان الله وبحمد الله أكبر، كانوا في الدنيا على السواء يأكلون ويشربون، ويذهبون ويجيئون فلما جاءهم الموت عرف كل منهم سبيله، واتضح له مقيله، فلما صاروا في البرزخ خلا كل منهم بعمله، وأفضى إلى ما قدم قبل أجله، فبينما هم كذلك إذ صرخ فيهم الصارخ، وصاح فيهم الصائح، فخرجوا من الأجداث مسرعين، وإلى الداعي مهطعين، هذا على النجائب، وهذا على الركائب، وهذا على قدميه، وهذا على وجهه، هؤلاء في النور ينظرون، وأولئك في ظلمات لا يبصرون، هؤلاء حلو أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً، وأولئك غلتهم الزبانية بالسلاسل، وعلتهم بالمقامع، يضربون بطوناً منهم وظهوراً، هؤلاء عليهم حلل السندس والإستبرق وسائر الألوان، وأولئك مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران، هؤلاء يقول لهم ربهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، وأولئك يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، ويقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]. لقد ظهر الفرقان، وامتاز الفريقان، لقد صار الغيب شهادة، والمستور مكشوفاً، والمخبأ ظاهراً: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. كم صائم في الدنيا عظم يومئذ جوعه! كم كاسٍ في الدنيا طال يومئذ عريه! كم شارب في الدنيا اشتد يومئذ ظمؤه! كم ناعم في الدنيا حق يومئذ بؤسه! {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:83 - 84].

أهوال الآخرة وأحوالها

أهوال الآخرة وأحوالها تعالوا نستعرض أهوال الآخرة وأحوالها، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. الناس يترنحون من أهوال الآخرة كأنهم سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وقال عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:13 - 32]. ثم يذكر الله عز وجل حيثيات وسبب هذا الحكم، فقال عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:33 - 37]. ويقول عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42 - 43]، فالله عز وجل يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فالله عز وجل يمهل ولا يهمل، قال عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] أي: تتشتت فيه الأبصار، {مُهْطِعِينَ} [إبراهيم:43] أي: مسرعين، {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم:43] قال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء؛ من شدة ما نزل بهم، ومن عظم هذا اليوم لا تتحرك رءوسهم، فقد تسمرت في اتجاه السماء، {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم:43] لا تطرف أعينهم؛ لأنهم منتظرون في كل لحظة مصيبة، وفي كل دقيقة داهية، {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43]، قال قتادة: خرجت قلوبهم من أجوافهم فتعلقت في حناجرهم؛ كما قال عز وجل: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18]. ((وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ))؛ أي: لا شيء فيها. وقال سعيد بن جبير: أرواحهم تمور وتتردد في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه. وقال عز وجل: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} [فاطر:18]، قال عكرمة: إن الرجل ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول: أي والد كنت لك؟ فيثني خيراً. فيقول: إني قد احتجت إلى حسنة واحدة من حسناتك؛ لعلي أنجو بها مما ترى، فيقول: يا أبت! ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، ثم يتعلق بزوجته يقول: أي فلانة! أي زوج كنت لك؟ فتثني خيراً، فيقول: إني قد احتجت إلى حسنة واحدة من حسناتك؛ لعلي أنجو بها مما ترين، فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف. فهذا الرجل احتاج إلى حسنة واحدة؛ حتى يثقل ميزان الحسنات على ميزان السيئات، وحتى يدخل جنة الله عز وجل وينجو من الن

صفة الحساب يوم القيامة

صفة الحساب يوم القيامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أهوال القيامة وأحوالها كثيرة عظيمة تشيب لها الولدان. فهذه صفة الحساب: عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقلنا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟! قال: من مخاصمة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول الله عز وجل: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم الله عز وجل على فيه -أي: على فمه- ثم يقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل). يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24]. وقال عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. فالعبد تشهد عليه جوارحه كما تشهد الأرض التي عمل عليها بطاعة الله عز وجل أو بمعصية الله، تشهد عليه؛ يستنطقها الله عز وجل يوم القيامة فتنطق، فمن عمل عليها بطاعة الله عز وجل تشهد له بالخير، كما أنها تنطق على من عمل عليها بمعصية الله عز وجل فتشهد عليه بالمعصية. فينبغي على العبد أن يحذر من جوارحه، فإنها تستنطق يوم القيامة، وتشهد عليه، ويحذر من كل شيء وإن كان جماداً فإنه سيشهد عليه بأعماله يوم القيامة.

الميزان

الميزان أحوال القيامة كثيرة وعظيمة، فتعالوا إلى ميزان الحق، يقول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وقال عز وجل: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8 - 9]. فهذا الميزان ميزان عجيب له كفتان، هذا الميزان توزن فيه الأعمال، وتوزن فيه صحائف الأعمال، ويوزن فيه ثواب الأعمال، بل العمال أنفسهم يوزنون في هذا الميزان، يوضع العبد منهم في هذا الميزان يوم القيامة، وتوزن في ميزان الحق يوم القيامة الأعمال أنفسها، كما قال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. فالأعمال الصالحة تجسد، ويكون لها وزن ومقدار بحسب قيمتها عند الله عز وجل، كما أن المعاصي كذلك تجسد، وتكون أعياناً، ويكون لها وزن يوم القيامة، قال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. وهكذا ما في قلوب العباد من حب وبغض، فمن يحب أهل الإيمان وأهل الالتزام ومن يحب الأنبياء والعلماء والدعاة والملتزمين بشرع الله عز وجل فإن هذا يجسد ويوضع في ميزان الحق يوم القيامة، ومن يبغض أهل الإيمان ويحب أهل الكفر والفسوق والعصيان فإن ذلك يجسد كذلك، ويوضع في كفة السيئات في ميزان الحق يوم القيامة. ويوضع في ميزان الحق كذلك صحائف الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله سيستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيقال: احضر وزنك، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فتوضع هذه السجلات في كفه، ويقال له: ألك حسنة؟ فيقول: لا، فتخرج له بطاقة عليها لا إله إلا الله، فتوضع هذه البطاقة في كفه والسجلات في كفه، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة). هذا رجل حقق التوحيد، ولكنه وقع في ذنوب دون الشرك، فنجاه الله عز وجل بالتوحيد. ويوضع كذلك في ميزان الحق يوم القيامة ثواب الأعمال، كما روى الترمذي عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو كأنهما ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما). يقول الترمذي: أي: يجيء ثواب عمله، أي: أن هذه الأمثال الثلاثة معناها مجيء ثواب عمله. ويوضع في ميزان الحق يوم القيامة العباد أنفسهم، كما قال عز وجل: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة). فانظروا -عباد الله- إلى هذا الميزان العجيب!

الصراط

الصراط وبعد هذه الأحوال والأهوال من نجا من كل ذلك فإن أمامه عقبة الصراط. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يضرب الصراط على متن جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ: اللهم سلم سلم). الرسل الذين اصطفاهم الله عز وجل، والذين رباهم على عينه واصطنعهم لنفسه، والذين قاموا بما أرسلهم الله عز وجل به حق القيام، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل من هول هذا الموقف ومن خطر هذا الموقف، ومع هذا الرسل أنفسهم يقولون: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، قال صلى الله عليه وسلم: (هل رأيتم السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، تخطف الناس بأعمالهم)، أي: هذه خطاطيف تخرج من النار، وتتخطف الناس من ظهر الصراط بأعمالهم. فالذي يقع في ذنب من الذنوب ألا يخشى أن يخطف بهذا الذنب من على الصراط فيكردس في نار جهنم؟ والعياذ بالله! فهذه الكلاليب تختطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق، ومنهم المكردس، ومنهم الناجي. وفي الصحيح كذلك من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يؤتى بالجسر فيوضع على ظهر جهنم، قالوا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة عليه خطاطيف وكلاليب تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان، تخطف الناس بأعمالهم، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس في نار جهنم، ويكون آخرهم يتلبط على بطنه، وتعلق يد فيجرها، وتعلق رجل فيجرها، فإذا نجا من الصراط قال: رب لم أبطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطئ بك، ولكن أبطأ بك عملك). ويقول أبو سعيد رضي الله عنه: بلغنا أن الصراط أدق من الشعر، وأحد من السيف. فهذا صحابي يقول: بلغنا، والذي بلغه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والمسلم يمر على الصراط بحسب الطاقة التي اكتسبها في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل، أي: إسراع الرجل في المشي، ومنهم من يتلبط على بطنه بحسب إيمانه، وبحسب عمله الصالح. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى عن الناس. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم إنا نسألك أن تقضي ديون المسلمين اللهم فك أسرى المسلمين اللهم اشف مرضى المسلمين اللهم رد غائب المسلمين اللهم ارحم موتى المسلمين. اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الكفر والكافرين اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده إلى نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

ترجمة الإمام مسلم

ترجمة الإمام مسلم يعتبر الإمام مسلم رحمه الله تعالى من أئمة الإسلام في الحديث، وصحيحه من أصح الكتب المصنفة بعد صحيح الإمام البخاري، وقد أثنى العلماء على الإمام مسلم وعلى كتابه الصحيح ثناءً حسناً يدل على المكانة السامية التي احتلها رحمه الله تعالى.

فضل إنظار المعسر وتنفيس كربة المكروب

فضل إنظار المعسر وتنفيس كربة المكروب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قبل أن أتكلم عن الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري وصحيحه الجامع أسوة بشيخنا الفاضل الشيخ: محمد بن إسماعيل نذكر اليوم حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تزداد به بركة الكلام وبركة المجلس، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). فهذا الحديث الشريف قد جمع كثيراً من أبواب الخير، وما أحوجنا إلى أبواب الخير، وما أزهد الناس في هذه الأزمنة المتأخرة في الخير، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدل الأمة على ما فيه خيرها وصلاحها ونجاتها ونجاحها، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة). فإن قال قائل: هذا الجزء من الحديث يوهم تنفيس كربة بكربة، وقد ورد في القرآن أن الحسنة بعشر أمثالها، فلماذا جعل هنا كربة مقابل كربة فقط؟ و A أن كربة الدنيا إلى كربة يوم القيامة كلا شيء. فقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تذكر عظم كرب الآخرة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تدنو الشمس من رءوس العباد يوم القيامة قدر ميل أو ميلين -فتصهرهم الشمس- فمنهم من يصل عرقه إلى عقبيه، ومنهم من يصل عرقه إلى حقويه -أي: عظام الحوض- ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يلجمه إلجاماً)؛ أي: يصل العرق إلى فمه فيكون له كاللجام. فيصاب الناس يوم القيامة بما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم؟ ألا تنظرون أحداً يشفع لكم عند ربكم، فيذهبون إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى عيسى، ثم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود الذي قال الله عز وجل فيه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. فتنفيس كربات المسلمين في الدنيا يكون سبباً لتنفيس الكربات العظيمة يوم القيامة. ومعنى التنفيس: تخفيف الكربة، مأخوذ من فك الخناق حتى يأخذ المخنوق نفساً، فجزاء التفريج تفريج، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عز وجل عنه كربة من كرب يوم القيامة)، (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة). التيسير على المعسر من جهة المال يكون بإنظاره إلى ميسرة، وهذا واجب لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فهذه أدنى الدرجات، والإنسان يؤجل الغريم الذي عليه دين حتى يتيسر حاله إلى وقت سداد الدين، فيجب على صاحب الحق أن يؤجل الغريم حتى يتيسر حاله. فأعلى درجة من ذلك أن يسامحه في هذا المال؛ مساعدة منه في تيسير حاله، ودرجة أعلى من ذلك: أن يمده بمال جديد حتى يتيسر حاله. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يداين الناس فإذا رأى معسراً قال لصبيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني يوم القيامة، فتجاوز الله عنه). وفي الصحيحين: (مات رجل فقيل: بم غفر لك؟ فقال: كنت أبايع الناس فأتجاوز عن المعسر وأخفف عن الموسر. فقال الله عز وجل:

فضل العلم

فضل العلم ثم قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). وهذا الطريق إما أن يكون طريقاً حسياً كالسير إلى مجالس أهل العلم أو الذهاب إلى عالم من أجل أن يسأله، أو إلى مدرسة مثلاً أو معهد يتعلم فيهما العلوم الشرعية، فهذا هو الطريق الحسي الذي يكون سبباً لتسهيل الطريق إلى الجنة. وإما أن يكون طريقاً معنوياً كأن يتعاهد برنامجاً معيناً، أو يلتزم بمدارسة معينة يحصل فيها العلوم الشرعية، فمن سلك طريقاً معنوياً أو حسياً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة. والطريق إلى الجنة يوم القيامة كذلك إما أن يكون طريقاً حسياً وهو الصراط وما قبله وما بعده، وإما أن يكون طريقاً معنوياً؛ بأن ييسر الله عز وجل هذا العلم الذي طلبه، والعلم طريق إلى الجنة، فكيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟ قال بعض السلف: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده). فهذا من بركات دروس العلم، فإنك قد تحصل شيئاً من العلوم الشرعية من شريط أو كتاب، ولكن كيف تحصل السكينة والرحمة، وتحفك ملائكة الله عز وجل، ويذكرك الله عز وجل فيمن عنده؟ فما أحوجنا إلى هذه البركات، وما أحوجنا إلى مجالس العلم التي تحيا فيها القلوب، ويتجدد فيها الإيمان، وتحصّل فيها الحكمة، ويتعرف فيها الحلال من الحرام، خاصة ونحن في أزمنة كثرت فيها الفتن والمحن، واختلط فيها الحابل بالنابل، فاستنشق الناس هذه الفتن فدخلت إلى قلوبهم من أعينهم ومن آذانهم، ومن كل حواسهم، فما أحوجنا إلى هذه المجالس الطيبة التي يحل فيها الإيمان، والتي هي أجواء الإيمان! كان أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرأ القرآن فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعلت فرسه تنفر منها فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تلك السكينة نزلت بالقرآن). كان رضي الله عنه كلما قرأ القرآن نفرت فرسه، فإذا سكت سكنت الفرس فنظر فرأى مثل الظلة -أي: السحابة- فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تلك الملائكة)، فالمصابيح هي الملائكة وقد رآها أسيد بن حضير بعيني رأسه. والظلة هي السكينة، فالملائكة تنزل معها الرحمات، وتنزل معها السكينة، فالصحابة رأوا هذه الغيبيات بقوة يقينهم، وهذا من الغيب الذي يمكن أن يكشفه الله عز وجل لمن شاء من عباده، وهو من قبيل الكرامة، ولا تكون هذه لمن ضعف يقينه، بل لمن عظم يقينه، كما شم بعض الصحابة رائحة الجنة، وهو أنس بن النضر فلقد وجد ريح الجنة من دون أحد، فهذا من الغيب الذي يمكن أن يطلع عليه الله عز وجل من شاء من عباده على سبيل الكرامات. فالحاصل: أن من فضائل مجالس العلم أنها تنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة، وجاء في حديث آخر أن الملائكة السيارة يبحثون عن مجالس الذكر. ومن فضائل مجالس العلم أن يذكر الله أهلها فيمن عنده، فإن من ذكر الله عز وجل في نفسه ذكره الله عز وجل في نفسه، ومن ذكره في ملأ -أي: في جماعة- ذكره الله عز وجل في الملأ الأعلى وهم الملائكة المقربون.

النسب لا يوصل العبد إن قصر به العمل

النسب لا يوصل العبد إن قصر به العمل ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). قيل: بطأ به في المرور على الصراط؛ لأن الإنسان يبذل قوة وطاقة في المرور على الصراط بحسب إيمانه وبحسب عمله الصالح، وبحسب ما حصل من أسباب الخير في الدنيا. فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل أي: إسراع الرجل في المشي، ومنهم من يحبو على بطنه فيقول: يا رب لم أبطأتني؟ فيقول: إني لم أبطئ بك، ولكن أبطأ بك عملك. فمن كان بطيئاً في أعمال الخير بطيئاً في تحصيل الطاعات والحسنات، فهو كذلك يسير ببطء على الصراط حتى تتخطفه الكلاليب التي هي على الصراط فيقول: رب لم أبطأتني فيقول: إني لم أبطئ بك ولكن أبطأ بك عملك في المرور على الصراط. وقيل: من أبطأ به عمله في الوصول إلى الدرجات: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132] فلم يسرع به نسبه لأن كل نسب مقطوع يوم القيامة إلا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينتفع بهذا النسب الشريف إلا من كان من أهل الإيمان والتقوى. هذا بعض ما ذكر في هذا الحديث النبوي الشريف.

الإمام مسلم نسبه ومولده وصفته

الإمام مسلم نسبه ومولده وصفته أما ترجمة إمام الأئمة والأعلام: الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب كتاب الصحيح وهو أصح كتب السنة بعد صحيح الإمام البخاري، وقد جعل الله عز وجل لهما من القبول في قلوب الخلق ما الله عز وجل به عليم. فلا يجهل أحد من المسلمين مكانة البخاري ومسلم، وكما قال شيخنا الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم: إن هؤلاء الأعلام ما ارتفعوا في الأمة بكثرة علمهم، وإنما ببركة إخلاصهم وتقواهم لله عز وجل. فلقد كان في الأمة الكثير من الأعلام، وكان الكثير من الحفاظ يتواجدون في خراسان أو نيسابور، وكانوا أئمة في الفقه أو الحديث أو التفسير ولكن لم يرتفع شأنهم كما ارتفع شأن البخاري ومسلم. بل إن الكثير من علماء نيسابور أرادوا أن يحذوا حذو الإمام مسلم، وألفوا المسانيد أو الجوامع على غرار تأليف الإمام مسلم، ولكن لم يكتب لها من القبول ما كتب لصحيح الإمام مسلم. فهذا من بركة الإخلاص، وبركة التقوى والخشية، فلاشك أن هؤلاء العلماء كانوا على درجة من الإخلاص والتقوى وخشية الله عز وجل ومحبته جعلت لكتبهم هذا القبول، وجعلت لهؤلاء العلماء الأعلام المنزلة الرفيعة والذكر الحسن في الأمة. فالإمام مسلم هو مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري. وكنيته: أبو الحسين، الإمام الكبير، الحافظ المجود، الحجة الصادق. مولده: قال الذهبي: ولد سنة أربع ومائتين. والإمام البخاري أكبر من الإمام مسلم، فلقد ولد سنة أربعة وتسعين ومائة. قال الذهبي عن الإمام مسلم: وما أظنه إلا ولد قبل ذلك. صفته: قال الحاكم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: رأيت شيخاً حسن الوجه والثياب، وعليه رداء حسن، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه، فتقدم أصحاب السلطان فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين، فقدموه في الجامع فكبر وصلى بالناس. وقال الحاكم أيضاً: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج يحدث في خان محمس فكان تام القامة، أبيض الرأس واللحية، يرخي طرف عمامته بين كتفيه. والعلماء عند ترجمتهم للأعلام يركزون على العلم، وعلى الضبط والإتقان، وعلى الشيوخ والتلاميذ، أما معرفة صفاته الخلقية فيكون فيه نوع من الأنس عندما نعرف صفة الشيخ، أو عالم من العلماء فنستحضر صفته وكأننا في صحبته.

مكانة الإمام مسلم وثناء العلماء عليه

مكانة الإمام مسلم وثناء العلماء عليه عن أحمد بن مسلمة قال: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. فعصر الإمام مسلم والبخاري هو العصر الذهبي لتدوين السنة؛ لأن الأئمة البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبا داود، وابن ماجه، والدارمي كانوا في عصر واحد، وقد دونوا لنا كتب السنة المعروفة المشهورة المتداولة، وهذه الطبقة كانت بعد طبقة الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن يحيى النيسابوري. وقبل هذه الطبقة طبقة: عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان. وقبلها طبقة كبار أتباع التابعين كالإمام مالك والسفيانين: سفيان الثوري بالكوفة، وسفيان بن عيينة بمكة والحجاز، وشعبة بن الحجاج، والأوزاعي، والليث بن سعد. وطبقة صغار التابعين وفيها الإمام الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وقد أخذوا عن كبار التابعين مثل: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وخارجة وهؤلاء من أئمة التابعين، ثم هؤلاء أخذوا عن الصحابة كـ أنس بن مالك وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهما. فهذه طبقات تروى حتى نستحضر طبقة الشيخ نعلم من فوقه ومن تحته من تلامذته ومن شيوخه. يقول: عن الحسين بن منصور قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ويعرف ويشتهر بـ إسحاق بن راهويه. فقد ذكر مسلم بن الحجاج فقال: مربى كاب مبول، وهذا الكلام فيما يبدو بالفارسية ومعناه: أي رجل كان هذا. وقال أبو عمرو أحمد بن المبارك: سمعت إسحاق بن منصور يقول لـ مسلم بن الحجاج: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كان ثقة من الحفاظ، كتبت عمن روى عنه، وسئل عنه أبي فقال: صدوق، فـ أبو حاتم الرازي من طبقة مسلم والبخاري، وأبي زرعة ولابنه عبد الرحمن كتاب مشهور وهو الجرح والتعديل، فـ عبد الرحمن بن أبي حاتم إمام حافظ ينقل عن أبي حاتم الرازي. وقال أبو قريش الحافظ: سمعت محمد بن بشار يقول: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وأبو عبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى. وقال أبو عمرو بن حبان: سألت ابن عقدة الحافظ عن البخاري ومسلم أيهما أعلم؟ فقال: كان محمد عالماً ومسلم عالماً، فكررت عليه مراراً ثم قال: يا أبا عمرو قد يقع لـ محمد بن إسماعيل الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها، فربما ذكر الواحد منهم بكنيته، ثم ذكره في موضع آخر باسمه، ويتوهم أنهما اثنان. أما مسلم فقل ما يقع له من الغلط؛ لأنه كتب المسانيد ولم يكتب المقاطيع والمراسيل، فهذا سر الترجيح على صحيح البخاري؛ لأن مسلماً أرجح وأعلى درجة وأتقن لهذه الصنعة. وقوله: (المسانيد) أي: الأحاديث المسندة، وذلك لأن البخاري رحمه الله أكثر في صحيحه من المقاطيع والموقوفات والأحاديث المعلقة؛ لأن البخاري رحمه الله قصد مع تجريد الصحيح استنباط الأحكام الفقهية والنكت الحكمية. والناظر في كتاب البخاري يجد فيه الفقه، فيقول مثلاً: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، فيترجم للأبواب، ويقطع الأحاديث، ويذكر الأحاديث بأكثر من رواية وفي أكثر من موضع، ويستأنس بأقوال الصحابة وبالمقاطيع والأحاديث المعلقة؛ يستأنس بذلك للتراجم التي يترجم لها. أما الإمام مسلم فقد قسم صحيحه إلى كتب، مثل كتاب الإيمان، وكتاب الصلاة، وكتاب الجنائز، ولم يبوب أبواباً، وكان في الكتاب الواحد يسرد الأحاديث الكثيرة، وربما ذكر الحديث الواحد مروياً بخمس روايات أو أكثر، يسرد هذه الروايات المتتابعة في موطن واحد. أما التراجم الموجودة الآن في كتاب صحيح مسلم فالمشهور والمتداول أنها من صنع الإمام النووي فقد وضع هذه التراجم للأبواب، أما الإ

أهمية دراسة تراجم العلماء

أهمية دراسة تراجم العلماء ودراسة هذه التراجم لها بركات كثيرة منها: أن نعرف هذه القمم الشامخة. ومنها: أن نتقرب إلى الله عز وجل بحبهم. ومنها: أن ننظر إلى الجهد الذي بذلوه؛ لحفظ سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها: أن نتأسى بهم، وأن نستفيد من علمهم، وأن نقتدي بهم. ومنها: نزول الرحمات، فإذا ذكر الصالحون نزلت الرحمات، فهذه بعض بركات من دراسة هذه التراجم.

أهمية صحيح مسلم

أهمية صحيح مسلم أما أهمية صحيح الجامع، فقد قال الإمام النووي رحمه الله: ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله، واطلع على ما أودعه في إسناده وترتيبه وحسن سياقه، وبديع طريقه من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق، وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الروايات وتلخيص الطرق واختصارها، وضبط متفرقها وانتشارها، وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات، واللطائف الظاهرات والخفيات، علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه بل يدانيه من أهل دهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقال الحافظ: حصل لـ مسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، حيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل البخاري وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من نيسابور اليوم فلم يبلغوا شأوه، فسبحان المعطي الوهاب! فهؤلاء الأئمة لم يكونوا أعلم أهل عصرهم، فإن الإمام مسلماً عرض كتابه الصحيح على أبي زرعة الرازي فما أشار إليه بحذفه كان يحذفه، فدل على علو رتبة أبي زرعة. ولكن هؤلاء الأئمة رزقوا هذا العلم لحسن النية، كما قال الحافظ: سبحان المعطي الوهاب. وقال ابن كثير رحمه الله في ترجمة الإمام مسلم صاحب الصحيح الذي هو صنو صحيح البخاري عند أكثر العلماء. وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري. يقول: فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل، فإن صحيح مسلم لم ترد فيه إلا ثلاثة من الأحاديث المحذوفة والمعلقة في بداية السند. أما صحيح البخاري ففيه الكثير بالمئات، وإنما ذلك استعانة يستعين بها وليست على شرطه، أي: ولكن يستأنس ويستعين بها فيما يرجحه من آراء فقهية. فصحيح الإمام مسلم ليس فيه من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر ينازع قوة أسانيد البخاري في الصحيح. أما صحيح البخاري فيتميز بقوة الأسانيد كما قال بعضهم: أسانيد مثل نجوم السماء أمام متون كمثل الشهب أي: أن الأسانيد قوية جداً، والمتون مثل الشهب في قوتها كما سترى في ترجيح البخاري على مسلم، ولكن الإمام مسلماً جمع الرواة في مكان واحد، وكان عنده حسن ترتيب وتنسيق واختصار كما سنرى. فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واشتراطه في الصحيح لها ما أورده في جامعه من معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه. فهذا فرق بين البخاري ومسلم، فالإمام البخاري كان يشترط السماع؛ فالشيخ إذا روى عن الشيخ بالعنعنة لا يقبل منه، حتى يثبت أن فلاناً سمع من فلان ولا يكفي فيهما المعاصرة، كأن يكون هذا في قطر وذاك في قطر آخر، فلم تحصل مشافهة، فـ البخاري لابد أن يتأكد من السماع. أما الإمام مسلم فيحمل المعاصرة على السماع، يعني: يكتفي بالمعاصرة وإن لم يثبت السماع. قال الذهبي: ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل. فالإمام الذهبي يعرف كل كتب السنة، فكلامه يكتب بماء الذهب لمن يعرف قيمة هذا الكلام. ومعنى العوالي: أن يقل عدد الرواة بين المصنف أو بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما قل عدد الرواة كان الحديث أبعد من العلل حتى لو كان الرواة كلهم عدولاً ضابطين فإن العدل الضابط قد يهم، لأنه ليس معصوماً من الخطأ. فنعيب على الإمام مسلم بأن أحاديثه لم تكن من العوالي، وإنما أكثر أسانيده فيها عدد كبير من الرواة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن كثيراً ممن عاصره استحسن متون الأحاديث، ولكنه اعتبر هذه الأسانيد نازلة فأورد هذه المتون بأسانيد أخرى أكثر علواً، وسيأتي ذكر جماعة من هؤلاء. فيقول الإمام الذهبي: ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل كـ القعنبي عن أفلح بن حميد. واسم القعنبي هو: عبد الله بن مسلمة يروي عن الإمام مالك. ثم حديث حماد بن سلمة، وهمام، ومالك، والليث وليس في الكتاب حديث عالٍ لـ شعبة، ولا للثوري، ولا لـ إسرائيل وهو كتاب نفيس كامل في معناه، ف

صفة الرواة الذين أخرج لهم الإمام مسلم في الصحيح

صفة الرواة الذين أخرج لهم الإمام مسلم في الصحيح وقال الحاكم: وأراد مسلم أن يخرج الصحيح على ثلاثة أقسام وعلى ثلاث طبقات: منها: الرواة، وقد ذكر هذا في صدر خطبته، فلم يقدر إلا على الطبقة الأولى ثم مات. ثم ذكر الحاكم مقالة هي مجرد دعوى فقال: إنه لا يذكر من الأحاديث إلا ما رواه صحابي مشهور له راويان ثقتان فأكثر، ثم يرويه عنه أيضاً راويان ثقتان فأكثر، ثم كذلك من بعدهم. فقال أبو علي الجياني: المراد بهذا إن هذا الصحابي أو هذا التابعي قد روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة. وقال القاضي عياض: والذي تأوله الحاكم على مسلم من اقتران المنية له قبل استيفاء غرضه إلا في الطبقة الأولى، فأنا أقول: إنك إن نظرت في تفصيل مسلم في كتابه الصحيح الحديث على ثلاث طبقات من الناس على غير تكرار. فذكر أن القسم الأول حديث الحفاظ، ثم قال: إذا انقضى هذا أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان، وذكر أنهم لاحقون بالطبقة الأولى، أي: أنهم استدلوا بأحاديثهم حتى لا ينفرطوا، فهؤلاء مذكورون في كتابه لمن تدبر الأبواب. فأهل الحفظ والإتقان لا خلاف في وجودهم في صحيح الإمام مسلم، ثم تكلم في الطبقة الثانية من أهل الستر والصدق فقال: والطبقة الثانية: قوم تكلم فيهم قوم وزكاهم آخرون، فخرج حديثه عمن ضعف أو اتهم ببدعة، وكذلك فعل البخاري في صحيحه في تخريج أحاديث عن بعض الشيعة غير الغلاة، والخوارج المعروفين بالحفظ والإتقان، ولم يكونوا من دعاة أهل البدع، وكذلك عن المعتزلة وغيرهم كثير، ولكن بشرط أن يكونوا معروفين بالصدق والأمانة والصيانة. ثم قال القاضي عياض: فعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه وطرح الطبقة الرابعة. فالطبقة الأولى: طبقة الحفاظ، والثانية: طبقة أهل الستر والصدق، والثالثة: تكلم فيهم قوم وزكاهم آخرون، وليس كل من تكلم فيه ضعيفاً بمجرد هذا الكلام، بل لابد أن يكون الجرح مفسراً، بحيث يخرجه عن العدالة، فليس كل من تكلم فيه بالضعف يخرج بذلك من عداد أهل العدالة. قال الذهبي: بل خرج أحاديث الطبقة الأولى، والطبقة الثانية إلا النزر القليل مما يستنكره في الطبقة الثانية، ثم خرج لأهل الطبقة الثالثة أحاديث ليست بالكثيرة، وذلك في الشواهد والاعتبارات والمتابعات. أما ترتيب الإمام مسلم للأحاديث، فيذكر الروايات التي ليس فيها مطعن والتي رواها أئمة حفاظ، ثم يروي عن رواة أقل منهم في الإتقان والحفظ، ثم يروي عمن تكلم فيهم بالضعف، وإن لم يكن هذا الكلام قادحاً، وسوف نجيب عن الإمام مسلم في إخراجه حديث جماعة ممن تكلم فيهم. ثم قال الذهبي: وقل أن خرج لهم في الأصول شيئاً، والمراد بالأصول الأحاديث الأولى في بداية الأبواب والتي رواها الأئمة الحفاظ، ثم هناك شيء مهم هنا وهو قوة هذه المتون، وأنها أحاديث صحيحة؛ لقوة الأسانيد، فلا يضر الحديث أن يأتي من طرق أخرى فيها بعض من تكلم فيه بالضعف، بل هذا مما يزيدها قوة عند التعارض بكثرة الطرق. فالذين تكلم فيهم بالضعف كان يذكرهم في الشواهد والمتابعات بعد أن يورد الأسانيد النظيفة أولاً. ثم قال الذهبي: وقلّ أن خرج لهم في الأصول شيئاً، ولو استوعبت أحاديث أهل هذه الطبقة في الصحيح لجاء الكتاب في حجم ما هو مرة أخرى، ولنزل كتابه بذلك الاستيعاب عن رتبة الصحة، وهم: عطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم، ويزيد بن أبي زياد، وأبان بن صمعة، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عمرو بن علقمة وطائفة أمثالهم فلم يخرج لهم إلا الحديث بعد الحديث، وهي أحاديث قليلة، فإذا كان لها أصل ساق أحاديث هؤلاء. فالذين يكثرون من هذه الأحاديث التي فيها من تكلم فيهم هم: الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، والدارمي وغيرهم من أصحاب السنن الذين لم يشترطوا الصحة. يقول الذهبي: فإذا انحطوا إلى إخراج أحاديث الضعفاء الذين هم أهل الطبقة الرابعة. وأما أهل الطبقة الخامسة ممن أجمع على اطراحه وتركه لعدم فهمه وضبطه، أو لكونه متهماً فينظر أن يخرج لهم أحمد، والنسائي، ويورد لهم أبو عيسى الترمذي فيبينه بحسب اجتهاده، فيقول: هذا مجمع على تركه، هذا ضعيف، هذا لم يوثقه أهل العلم، فهذه ميزة في كتاب جامع الإمام أبي عيسى الترمذي. يقول: ويورد لهم أبو عيسى فيبينه بحسب اجتهاده، لكنه قليل، ويورد لهم ابن ماجه أحاديث قليلة ولا يبين والله أعلم، وقلما يورد منها أبو داود فإن أورد بينه في غالب الأوقات. يقول: وأما

دقة الإمام مسلم وشدة تحريه في الجامع الصحيح

دقة الإمام مسلم وشدة تحريه في الجامع الصحيح قال الإمام النووي ما ملخصه: سلك مسلم رحمه الله في صحيحه طرقاً بالغة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة؛ وذلك مصرح بكمال ورعه، وتمام معرفته، وغزارة علومه، وشدة تحقيقه بحفظه، وتقعده في هذا الشأن، وتمكنه من أنواع معارفه، وتبريزه في صناعته، وعلو محله في التمييز بين دقائق علومه، لا يهتدي إليها إلا أفراد في الأعصار، فرحمه الله ورضي عنه، وأنا أذكر أحرفاً من أمثلة ذلك. قوله: (رضي عنه) هي على سبيل الدعاء، فيجوز أن تقول لإنسان: رضي الله عنك على سبيل الدعاء، أما على سبيل الخبر فلا يجوز أن تقول إلا للصحابة، فإنهم يختصون بذلك؛ لأنهم هم الذين رضي الله عنهم وأرضاهم. يقول رحمه الله: وأنا أذكر أحرفاً من أمثلة ذلك تنبيهاً بها على ما سواها، إذ لا يعرف حقيقة حاله إلا من أحسن النظر في كتابه مع كمال أهليته ومعرفته بأنواع العلوم التي يفتقر إليها صاحب هذه الصناعة، كالفقه والأصولين -يعني: المصطلح وأصول الفقه- والعربية، وأسماء الرجال ودقائق علم الأسانيد والتاريخ، ومعاشرة أهل هذه الصنعة، ومباحثتهم مع حسن الفقه ونباهة الذهن، ومداومة الاشتغال بالذهن وغير ذلك من الأدوات التي يفتقر إليها. فمن تحري مسلم رحمه الله: اعتناؤه بالتمييز بين حدثنا وأخبرنا. والفرق بين (حدثنا) و (أخبرنا) أن من يسمع مع جماعة من لفظ الشيخ يقول (حدثنا)، ومن سمع لوحده يقول (حدثني). أما من قرأ على الشيخ وهو جالس فإنه يقول: (أخبرنا) إذا كان معه جماعة من طلبة العلم، فلو كان لوحده يقول: (أخبرني). وكثير من العلماء لا يفرقون بين (حدثنا) و (أخبرنا) فيقولون: هما درجة واحدة، وبعض العلماء يرجح (أخبرنا) على (حدثنا)، لأن الشيخ قد يسهو في القراءة عندما يقرأ فلا يستطيع أحد أن يرد عليه، ولكن لو قرئ على الشيخ والشيخ جالس متيقظ فإذا أخطأ القارئ فإن الشيخ يرد عليه، فقد كان الطلبة يقرءون على الإمام مالك الموطأ، ولهذا كان بعض العلماء يرجح القراءة على الشيخ على نفس قراءة الشيخ. فالحاصل: أن الإمام مسلماً كان من الذين يفرقون بين (حدثنا) و (أخبرنا)، فـ (حدثنا) لابد فيها أن يسمع الطالب لفظة الشيخ وكلام الشيخ، أما (أخبرنا) فإن الطالب يقرأ على الشيخ. يقول النووي رحمه الله: وتقييده ذلك على مشايخه وفي روايته. فإذا قال له شيخه: حدثنا فلان فإنه يثبت هذه الكلمة وكذلك إذا قال له: أخبرني. يقول: وكان من مذهبه رحمه الله الفرق بينهما، وأن (حدثنا) لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، و (خبرنا) لما قرئ على الشيخ. وهذا الفرق هو مذهب الشافعي وأصحابه وجمهور أهل العلم بالمشرق. ومن ذلك اعتناؤه بضبط اختلاف لفظ الرواة كقوله: حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان، يعني: أن الحديث له راويان، ولكن لفظ المتن مختلف فيميز فيقول: حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان، وهذا من شدة دقة الإمام مسلم وتحريه. يقول رحمه الله: قال أو قالا: حدثنا فلان، وكما إذا كان بينهما اختلاف في حرف من متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبه أو نحو ذلك فإنه يبينه، وربما كان بعضه لا يتغير به معنى، وربما كان في بعضه اختلاف في المعنى، ولكن كان خفياً لا يتفطن له إلا ماهر في العلوم التي ذكرتها في أول الفصل مع اطلاع على دقائق الفقه ومذاهب الفقهاء. ومن ذلك تحريه في رواية صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة كقوله: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي: أن صحيفة همام بن منبه هي مجموعة أحاديث فيها مائة أو مائتا حديث، فهو يذكر أحاديث من هذه الصحيفة لا يذكرها بالسند؛ لأنه روى بسند واحد جملة أحاديث. فمن تحري الإمام مسلم عندما يروي حديثاً من هذه الصحيفة يقول مثلاً: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: يقول رحمه الله تعالى: فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق)، الحديث. ومن ذلك: تحريه في مثل قوله: حدثنا عبد الله بن مسلمة -ولقبه القعنبي - حدثنا سليمان -يعني: ابن بلال - فلو قال الإمام مسلم: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان بن بلال لكان في ذلك شبهة كذب على شيخه، فهو يريد أن يبين في الرواة أنه سليمان بن بلال، لأنه قد يكون أكثر من سليمان في نفس الطبقة. يقول

الجواب على من عاب على مسلم إخراجه عن بعض الضعفاء

الجواب على من عاب على مسلم إخراجه عن بعض الضعفاء الجواب على من عاب على مسلم إخراجه عن جماعة ممن تكلم فيهم بالضعف: قال الإمام النووي: عاب عائبون مسلماً بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح. ولا عيب عليه في ذلك، بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده. وذلك أن التضعيف والتوثيق مسألة اجتهادية، فقد يكون الراوي هذا ثقة عند الإمام مسلم، وهذه مسألة اجتهادية فلكل اجتهاده. فالجواب الأول: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتاً مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذلك. وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب، يعني: الراجح أنها أوهام ولم يثبت عليهم هذا الطعن. الثاني: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول، فيذكر الأسانيد السليمة برواية الحفاظ المتقنين أولاً ثم أهل الستر والصدق، ثم من تكلم فيهم بالضعف. فيكون مطمئناً للمتون بالأسانيد الأولى، ثم يذكر بعد ذلك أسانيد فيها شيء من الكلام. يقول: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولاً بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلاً، ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه. الجواب الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته. أي: أن الإمام مسلماً روى عن راو ثم اختلط هذا الراوي بعد رواية الإمام مسلم عنه. يقول: كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر -أي أن الإمام مسلماً روى عنه قبل أن يختلط- فهو في ذلك كـ سعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق وغيرهما ممن اختلط آخراً، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك. الجواب الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن في ذلك؛ لأن الحديث قد يكون ثابتاً من رواية الثقات، ولكنه حديث نازل يعني: أن عدد الرواة كثير في السند. فقد يرويه الإمام مسلم بسند عال، ولكن فيه بعض الرواة ممن تكلم فيهم، وهو مطمئن أن أهل عصره يعرفون أن هذا الحديث ثابت برواية الحفاظ، فلا يضر أن يكون بعض رواة السند ممن تكلم فيهم إذا كان السند عالياً، وذلك في الشواهد والمتابعات.

المقارنة بين صحيح البخاري وصحيح مسلم

المقارنة بين صحيح البخاري وصحيح مسلم قال الإمام النووي: اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان: البخاري، ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري. والقصة معروفة أن الإمام مسلماً كان يتعلم من الإمام البخاري، وكان يتعلم من محمد بن يحيى الذهلي ثم لما وقع الكلام بين محمد بن يحيى الذهلي والإمام البخاري ونسب للإمام البخاري القول بخلق القرآن، فقال الإمام محمد بن يحيى الذهلي: من كان يجالس محمد بن إسماعيل فلا يجلس إلينا، أو من قال باللفظ فلا يجلس إلينا، كان مسلم يقول بما يقوله الإمام البخاري، وهما بريئان من هذه التهمة، وهما من أئمة أهل السنة، فترك الإمام مسلم مجلس محمد بن يحيى الذهلي وأرسل إليه كل الأحاديث التي سمعها منه. ومن باب الإنصاف: لم يرو الإمام مسلم في صحيحه حديثاً واحداً عن الإمام البخاري مع أن البخاري شيخه، وهو أكبر منه وأعلم منه. أما الإمام البخاري فروى أحاديث عن محمد بن يحيى، واعتبر أن ما وقع بينه وبين محمد بن يحيى ليس قادحاً في عدالته، فكان يقول: حدثنا محمد ويسكت.

تزكية النفوس

تزكية النفوس لقد شرع الله لعباده طاعات وعبادات بها تزكو نفوسهم، فمنها فرائض وواجبات، وأولها التوحيد، ومنها نوافل، وإنما يزكو بها العبد، ويرتقي إلى منازل الأولياء والصالحين بالعبادات المشروعة فحسب، وأما العبادات المبتدعة فلا ترقى بصاحبها إلى منازل الأولياء، وإنما تهوي به إلى الحضيض، ولا تزيده من الله إلا بعداً.

معنى التزكية

معنى التزكية الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]. فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. إن من مهمات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: تزكية نفوس العباد، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]، فمن مهمات النبي صلى الله عليه وسلم: تزكية النفوس. والتزكية هي التعلية، وهي التطهير كما سميت صدقة المال الواجبة زكاة؛ لأن بها يطهر المال عندما يخرج العبد حق الله عز وجل فيه، وكذلك يصفو قلب المزكي ويتخلص من عادة الشح والبخل والتعلق بالمال، وتطهر نفس الفقير من حسد الغني، ويطهر المجتمع من الحوادث التي تكون نتيجة لتفاوت الطبقات وعدم حصول الفقير على شيء من مال الغني، فهي زكاة للمال، وزكاة للمزكي وزكاة للمزكى عليه، وزكاة للمجتمع. فالتزكية: هي التنمية، وهي التطهير، وهي التعلية، يقال: زكا الزرع إذا بلغ كماله. كذلك النفس تزكو عندما تستجيب لأمر الله عز وجل، ولأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد من الله عز وجل على عباده بهذه التزكية، فقال عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21]، وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل بهذه الزكاة فكان من دعائه: (اللهم أعط نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، فكان يسأل الله عز وجل أن يزكي نفسه. أقسم الله عز وجل في كتابه أحد عشر قسماً متوالياً -وليس في القرآن كله من أوله إلى آخره أقسام متوالية على هذا النسق وبهذا العدد- على أن فلاح العباد في تزكية نفوسهم، وعلى أن خيبتهم في تدسية نفوسهم، فقال عز وجل: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:1 - 10]. فالله عز وجل يريد أن يلفت أنظار العباد إلى خطر هذه الحقيقة، وهي أن فلاح العباد وفوزهم ونجاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة في تزكية نفوسهم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]. والتدسية عكس التزكية، فالتزكية: التنمية والتطهير والإعلاء. والتدسية: التصغير والتحقير حتى تصير النفس حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها، كما قال عز وجل: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، أي: يخفيه في التراب، فلا فلاح للعباد في الدنيا والآخرة إلا في تزكية نفوسهم، والنفس بطبيعتها -وهذه عجيبة من عجائب النفس البشرية- فيها استعداد للتعلية والترقية حتى يكون العبد أفضل من ملائكة الله عز وجل، وفيها استعداد كذلك للتدسية والتصغير حتى يصير العبد أخبث من إبليس، كما قال بعضهم: وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من ج

الغاية من تزكية النفس

الغاية من تزكية النفس التزكية درجات، والعبد يزكي نفسه حتى يصير أفضل من ملائكة الله عز وجل، وحتى يدخل جنة الله عز وجل، فإذا دخل جنة الله عز وجل دخلت عليه الملائكة من كل باب: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، فالنفس فيها استعداد للتزكية -أي: للتعلية- وفيها استعداد كذلك للتدسية، قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. وقال عز وجل: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1 - 6]. فدواب الأرض أحسن حالاً من الكفار الذين لا يعبدون الله عز وجل ولا يعرفون الله عز وجل، كما قال عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:55]، فهؤلاء شر من يدب على الأرض، فهم أشر وأخبث وأقل درجة من الحشرات التي تدب على الأرض، والكلب والخنزير أفضل منهم؛ لأنهم بنص الآية شر من يدب على الأرض، قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، فالله عز وجل ذكر أنهم كالأنعام، ثم نزل بدرجتهم عن الأنعام فقال: ((بَلْ هُمْ أَضَلُّ))، فانظروا إلى طبيعة النفس البشرية وكيف استعدادها للترقية والتزكية والتعلية، وكيف أنها مستعدة كذلك للتدسية والتصغير والتحقير، فلا يمكن للعبد أن يسعد في الدنيا والآخرة ولا يمكن أن يحيا حياة طيبة ينتقل بها إلى سعادة أبدية سرمدية إلا بتزكية نفسه، فلا يفلح العبد إلا بتزكية نفسه. قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا، فينبغي علينا أن نكرهها. النفس جاهلة ظالمة، كما قال عز وجل: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، والجاهل والظالم لا يعرف مصلحته ولا يعرف ما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، فصلاح النفس في توحيد الله، وصلاح النفس في الاستجابة لأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن النفس الجاهلة لا تأتي معك على ذلك، فينبغي عليك أن تكرهها كما يكره الصبي، وكما يكره المجنون على ما فيه فلاحه، وعلى ما فيه نجاحه. كذلك فلاح العبد في طاعة الله والطاعات تثقل على النفوس الجاهلة، كما قال عز وجل: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، فيثقل على الجاهلين وعلى الظالمين أن يدخلوا بيت الله، ويثقل على الجاهلين والظالمين أن يقفوا بين يدي الله عز وجل دقائق معدودة في الصلوات الخمس، مع أنهم قد يقفون ساعات طويلة طلباً لربح دنيوي أو شهوة دنيوية، وهذا من جهلهم بمواقع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فالنفس جاهلة ينبغي على العبد أن يجبرها في بداية الأمر على طاعة الله، وعلى الاستجابة لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]. فالشرع حياة للقلوب وحياة للأبدان، والذين لا يهتدون بشرع الله، ولا يؤمنون بدين الله عز وجل أموات غير أحياء، وما يشعرون أيان يبعثون، قبور تتحرك على الأرض: وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور. فالحياة الحقيقية في طاعة الله عز وجل، والسعادة في طاعة الله عز وجل فينبغي للعبد أن يكره نفسه أولاً على طاعة الله قال بعض السلف: سقت نفسي إلى الله عز وجل وهي تبكي، ثم سقتها بعد ذلك وهي تضحك. وقال بعضهم: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة، أي: أنه في السنة الأولى كان يجبر نفسه على قيام الليل ويشق عليه القيام وهو يعالج نفسه ويجبر نفسه على قيام الليل، فلما تعلمت النفس الجاهلة وذاقت حلاوة الطاعات وحلاوة العبادات صار يتمتع بقيام الليل، كما قال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وقال بعضهم: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة. وقال بعضهم: منذ أربعين سنة ما أزعجني إلا طلوع الفجر، ونحن في وقت الشتاء والشتاء كما ورد في بعض ا

وسائل تزكية النفوس

وسائل تزكية النفوس كيف تكون التزكية وما هي وسائل أهل السنة والجماعة في التزكية؟

تزكية النفس بإخلاص التوحيد

تزكية النفس بإخلاص التوحيد التزكية عند أهل السنة والجماعة تزكية بالتوحيد أولاً؛ لأن أكبر نجاسة هي الشرك بالله عز وجل، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، قلوبهم نجسة؛ لأنها مشركة وهذه النجاسة يقول الفقهاء: بأنها نجاسة معنوية، والدليل على ذلك أن ثمامة بن أثال شاعر بني حنيفة ربط في المسجد قبل أن يسلم من أجل أن يرى الصحابة وهم يصلون ويدعون الله عز وجل، ويمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن ترد المال فسل ما شئت، فيطلقه النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني أو الثالث فأسلم ثمامة بن أثال). فلو كان الكافر نجساً نجاسة عينية؛ لنزه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه النجاسة، كذلك يجوز للمسلم أن يتزوج بالكتابية ولا يسلم من عرقها، والواجب عليه الغسل والطهارة كما هو الواجب على من تزوج بالمسلمة فهذه نجاسة معنوية كنجاسة الخمر، وطهارة هذه النجاسة ليست طهارة بالماء ولكنها طهارة بالتوحيد كما أرسل الله عز وجل موسى إلى فرعون يقول له: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19] أي: تتزكى بالتوحيد ونبذ الشرك، {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19]. وقال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]، استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على كفر مانع الزكاة، ولكن الصحيح والراجح أن الزكاة هنا هي التزكية بالتوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:18] أي: تتزكى بالتوحيد ونبذ الشرك، فأكبر نجاسة هي نجاسة الشرك بالله عز وجل فتكون بداية التزكية عند أهل السنة والجماعة أن يبدأ العبد بالتعرف على الله عز وجل، والتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فهذه التزكية الأولى، تزكية بالتوحيد فلا يدعو غير الله لا يذبح لغير الله لا ينذر لغير الله لا يحلف بغير الله عز وجل لا يستغيث بغير الله عز وجل لا يعلق قلبه رجاءً أو خوفاً أو محبة أو توكلاً على غير الله عز وجل؛ لأن العبادة هي: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فلا إله إلا الله كلمة تخلع بها كل الأصنام وكل الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله عز وجل، فإن معنى لا إله إلا الله، أي: لا إله بحق أي: لا معبود بحق إلا الله عز وجل؛ لأن الإله من عبد بحق أو بباطل، فكل الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل كالشمس والقمر، والبقر والنجوم والطواغيت والهوى والشياطين وغير ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل كل هذه آلهة باطلة، والعرب يفهمون هذه الكلمة. ولذلك ما أعطوها للنبي صلى الله عليه وسلم حتى علموا أنهم يقومون بحق هذه الكلمة فلا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله، وتوحيد الربوبية أن تعتقد أنه لا رب إلا الله والرب هو الخالق وهو الرزاق، وهو الذي يربي الناس بالنعم، وهو الذي يجمع الناس ليوم لا ريب فيه، وهو المشرع فلا يجوز أن تتحاكم إلى غير شرع الله عز وجل. أو أن تعتقد أن غير الله عز وجل له حق التشريع فهذا توحيد الربوبية فلا رب إلا الله. وتوحيد الأسماء والصفات أن تثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تشبيه، وأن تنزه الله عز وجل عن مشابهة المخلوقين تنزيهاً بلا أباطيل فهذا توحيد الأسماء والصفات أن تثبت لله عز وجل كلما أثبته لنفسه وكلما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس أحد أعلم بالله عز وجل بعد الله عز وجل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تنفي الصفات بدعوى تنزيه الله عز وجل ولكن يجب عليك أن تثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، كما قال عز وجل: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]، وقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، رد على المشبهة الذين شبهوا الله عز وجل بخلقه، وقوله عز وجل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، رد على المعطلة الذين عطلوا الله عز وجل عن صفات كماله فالله عز وجل سميع بصير، ولكن سمعه ليس كسمع المخلوق فإن سمع المخلوق محدود وبذبذبات معينة وعلى مسافة معينة، وليس بصره محدوداً كبصر المخلوقين في ظروف معينة كتوفر الضوء وتكون الأجسام على حجم معين فإذا كانت دقيقة جداً لا يراها، أو على مسافة معينة فإذا كانت بعيدة جداً لا يراها وإذا كان بينه وبين هذه الأشياء جدار ف

تزكية النفوس بأداء الفرائض

تزكية النفوس بأداء الفرائض إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. بعد توحيد الله عز وجل ينبغي على من أراد أن يزكي نفسه ينبغي عليه أن يجتهد في أداء ما افترض الله عز وجل كما ورد في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فينبغي على العبد أن يبدأ بالفرائض فيستكملها أولاً؛ لأنها رأس المال، فينظر في صلاته هل يصلي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي ويخشع في الصلاة، ويتم الركوع والسجود، فيصلي في أول الوقت وفي الجماعة ويأتي بشرائط الصلاة وسنن الصلاة، هل يصوم شهر رمضان كما أمر الله عز وجل، هل عنده مال تجب فيه الزكاة، هل يستطيع حج بيت الله الحرام فهكذا ينبغي على العبد أن يبدأ طريق التزكية بأداء الفرائض، وأفضل الأعمال أداء ما افترض الله عز وجل والورع عما حرم الله وحسن النية فيما عند الله عز وجل.

تزكية النفس بالاستزادة من النوافل

تزكية النفس بالاستزادة من النوافل فبعد ذلك يبدأ العبد بفتح أبواب النوافل لما ورد أيضاً في هذا الحديث القدسي عن أبي هريرة: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، وفي رواية: (ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)، فبعد أن يزكي العبد نفسه بالتوحيد وأداء فرائض الله عز وجل يزكي نفسه بكثرة النوافل فيفتح على نفسه أبواب النوافل نوافل الصلاة ونوافل الصيام ونوافل الحج والعمرة ونوافل الصدقات بعد أداء الزكاة الواجبة ونوافل الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال العلماء: ما بال النوافل كانت هي السبب الموصل إلى محبة الله عز وجل دون الفرائض؟ قيل: لأن العبد يفعل الفريضة مخافة العقوبة ورجاء الأجر، أما النافلة فإنه يفعلها بإخلاص نية التحبب إلى الله عز وجل فهو إذا لم يؤد الفرض متعرض للعقوبة، ولكن النافلة ليست هناك عقوبة في تركها، فلما خلصت النية في النوافل كانت النوافل هي السبب الموصل إلى محبة الله عز وجل دون الفرائض، فطريق التزكية بالتوحيد ثم بأداء الفرائض ثم بالتحبب والتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل المشروعة لتزكية النفس.

التزكية عند الصوفية

التزكية عند الصوفية أغنانا الله عز وجل بالشرع المتين عن أن نبتدع طرقاً للتزكية كما فعلت الصوفية فإنهم يبتدعون طرقاً يزعمون أنها تزكي نفوسهم وأنها تقربهم إلى الله عز وجل، من ذلك أنهم يحرمون على أنفسهم ما أحل الله عز وجل كالزواج وأكل الطيبات. وهذا لم يتعبدنا الله عز وجل به بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فمن ترك الزواج بدعوى أنه يزكي نفسه، أو يقول: هو يأنس بالله عز وجل ولا يأنس بالزوجة فهذا مردود؛ لأن سيد العابدين صلى الله عليه وسلم تزوج ثلاث عشرة امرأة وقيل: خمس عشرة امرأة ومات عن تسع وما شغله ذلك عن كمال عبوديته لله عز وجل وقال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) ومع ذلك كان سيد العابدين وكان سيد الشاكرين وسيد الصابرين، فالأنس بالزوجة أنس طبيعي لا يعارض الأنس بالله عز وجل. كذلك من طرقهم في التزكية أنهم يزكون أنفسهم -زعموا- بذكر اسم الله عز وجل المفرد، مظهراً أو مضمراً فيظل أحدهم يصيح طوال الليل ويقول: الله الله ولو قال العبد: الله ألف مرة لا يصير بذلك مسلماً حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فكلمة الله لا تتضمن كفراً ولا إيماناً بل ينبغي أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فهذا الذكر بالاسم المفرد مظهراً، وأما المضمر فيقول: هو هو ويظل طوال الليل يقول: هو هو، ويقول بعضهم: لا هو إلا هو ويقولون: الذكر بالاسم المفرد مظهراً هو ذكر العوام ومضمراً هو ذكر الخواص ولا هو إلا هو هو ذكر خواص الخواص وهذا ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة، فهذه وسائل مبتدعة ذمها الشرع المتين. فلا يجوز للعبد أن يتقرب بالذكر إلا أن يتضمن الذكر معنى كاملاً صحيحاً يقول: الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله، يقرأ القرآن ولكن لا يستمر على الذكر بالاسم المفرد مظهراً أو مضمراً، وهذه الطرق المشئومة عند الصوفية أوصلتهم إلى النهايات المشئومة من القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد. فلو ظل طوال الليل يقول: هو هو، يأتي له الشيطان يقول: الله هذا المصباح أو هذا الجدار فيقتنع الجاهل بذلك ويلتبس عليه الأمر، كما قال أبو يزيد البسطامي: ما في الجب إلا الله، وقال بعضهم -والعياذ بالله-: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا. فهم يعتقدون بأن الله يحل في الأشياء وأن فرعون عندما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، لم يخطئ في ذلك يعتذرون لفرعون بأن الله عز وجل حل فيه، وهذا القول كفر مصادم لآيات الله عز وجل ولكتاب الله عز وجل، فمن سلك هذا الطريق أوصله إلى نهايات مشئومة. فكمال العبودية وكمال التزكية عند أهل السنة والجماعة أن تعتقد بأنك عبد لله عز وجل، فهم يزكون أنفسهم من أجل الوصول إلى تحقيق كمال العبودية لله عز وجل. وقد وصف الله عز وجل أكابر الخلق بالعبودية فقال: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]. ووصف الله عز وجل نبينه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أسمى مواقفه وفي أحسن أحواله فقال سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]، وهذا في مقام الدعوة إلى الله عز وجل، وقال في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وقال في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، قال الإمام الطحاوي في تشريفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال: وأن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى وأنه إمام الأتقياء وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء، فهذا كمال التزكية عند أهل السنة والجماعة أن يحقق العبد كمال العبودية لله عز وجل وهي تشريف وتكريم كما قال القاضي عياض: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا بخلاف الصوفية الذين يزعمون الفناء والحلول والاتحاد ويقولون: عبدي أطعني أجعلك عبداً ربانياً تقول للشيء كن فيكون، وهذا الحديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، فمهما ترقى العبد لا يكون أفضل من حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يقول للشيء كن فيكون، بل كان عبداً أنعم الله عز وجل عليه بكمال العبودية وشرفه الله بها وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة)، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و

تلك الدار الآخرة

تلك الدار الآخرة الدنيا دار ابتلاء ودار عبور إلى الدار الآخرة، والناس يردون الدنيا وعنها يصدرون، فمنهم من يصدر عنها بتجارة رابحة مع الله عز وجل، وهم المتقون الذين لم يغتروا بزخرفها وزينتها، وعلموا أنها ليست دار قرار وإنما هي متاع قليل، وأن الآخرة خير وأبقى، ومنهم من يصدر عنها بتجارة خاسرة، وهم الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وجعلوها نصب أعينهم، فمن أجلها يعملون ويكدحون، فأعمى حب الدنيا بصائرهم، وجاءهم الموت فنقلهم إلى الدار الآخرة بلا زاد ولا عدة، ولم تنفعهم أموالهم التي جمعوا في الدنيا، بل كانت عليهم وبالاً.

فوائد وعبر من قصة قارون

فوائد وعبر من قصة قارون الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمةً ومنةً وفضلاً، فهذا عدله وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42] فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً. أما بعد فأصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. قال الله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:76 - 83].

قصة قارون تمثل قصة كل من اغتر بالدنيا وتعلق بزخرفها

قصة قارون تمثل قصة كل من اغتر بالدنيا وتعلق بزخرفها هذه القصة هي قصة المال الذي يطغي صاحبه، والذي لا يعترف صاحبه بأن الله عز وجل أنعم عليه به، فلا يؤدي زكاة ماله، ولا يشكر ربه عز وجل، ولا يستعمله في طاعة الله عز وجل، بل يتكبر به على عباد الله، ويبغي به على عباد الله عز وجل، ويحسن الظن بنفسه، يظن أنه بمهارته وأنه بذكائه وأنه بسعيه حصل هذا المال، فيقول: أنا رجل عصامي، ما ورثت هذا المال بل اكتسبته بجهدي ومهارتي، لا يعترف بأنه نعمة من عند الله عز وجل، فكلما ازداد ماله يزداد كبراً ويزداد بغياً ويزداد عجباً بنفسه. ثم هي قصة الدنيا التي تزهو وتعجب الناظرين، فيتمنى الناس ما في هذه الدنيا من زينة ثم عاقبة هذه الدنيا الزائفة إلى الفناء وإلى الزوال كما قال عز وجل عن قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]. ولكن أهل العلم لا يغترون بزينة الدنيا، ويعلمون أن الآخرة هي الحيوان، وأن الدنيا عرض زائل. قصة قارون التي قصها الله عز وجل علينا في كتابه في خاتمة سورة القصص بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76]، قيل: كان ابن عم موسى، وقيل: كان عمه لأبيه وأمه، وهناك قول: بأنه كان من قومه الذين أرسل بالدعوة إليهم؛ أي: كان من قبط مصر، فآتاه الله عز وجل {مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]؛ أي: أن مفاتيح الكنوز تثقل على الجماعة الكبيرة ذات القوة أن يحملوها، وقيل: خزائنه تنوء بالعصبة أولي القوة.

اغترار قارون وإمعانه في الضلالة رغم كل ما قدم إليه من نصح

اغترار قارون وإمعانه في الضلالة رغم كل ما قدم إليه من نصح قال الله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]. قيل: الذي نصحه هو موسى. وقيل: الذي نصحه المؤمنون من أتباع موسى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:76] نصحوه بخمس نصائح: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:76 - 77]. فنصحوه بهذه النصائح الخمس: النصيحة الأولى: قالوا: لا تفرح، أي: فرح بطر وأشر، فرح إعجاب بالنعمة وغرور بها، ولكن من فرح بها لأنها نعمة من عند الله عز وجل واستوجب منه هذا الفرح شكر نعمة الله عز وجل عليه، فهذا الفرح يكون ملازماً لشكر الله عز وجل كما قال عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. فنعمة الله عز وجل إذا اعترف العبد بها وفرح بها واعترف أنها نعمة من عند الله وقام بواجب شكرها، فهذا الفرح محمود، ولكن الفرح الذي ذمه المؤمن على قارون هو فرح البطر الذي يطغي صاحبه، ويغتر صاحبه بنعمة الله عز وجل عليه، ويظن أن له منزلة عند الله عز وجل، أو أنه يستحق التكريم والتشريف، كما أخبر الله عز وجل عن الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، والذي قاله صاحب الجنتين: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]. مع أنه كفر بالله عز وجل عندما قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36] فهو يكفر بالآخرة، ومع ذلك يعتقد أنه لو كان ثم آخرة لكان له جنة أفضل من جنة الدنيا؛ لأنه اعتاد في الدنيا أن يكون مميزاً وأن يكون مكرماً، وأن يكون أكثر من الناس، فهو يظن أن الآخرة كذلك. وأن من كان أكثر مالاً وأولاداً وجاهاً وسلطاناً في الدنيا فهو في الآخرة كذلك، وما درى أن الآخرة خافضة رافعة، ترفع أهل الإيمان وتخفض أهل الكفر والنفاق والعصيان، يرتفع في الآخرة أهل التقوى كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو ينفق ماله يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل عند الله. ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته وهما في الأجر سواء. ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأسوأ المنازل عند الله، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء). وأكثر الناس ليس عندهم زينة من الدنيا ولا أعراض من أعراض الدنيا، ومع ذلك يتمنون لو أن عندهم مالاً يعصون به الكبير المتعال ويبغون به في الأرض، ويفسدون به في الأرض، وإنما ينفع المال إذا كان لصاحبه علم، فهو بأحسن المنازل عند الله عز وجل: (رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو ينفق ماله يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً). كذلك يلحق هذا بالنية من عنده علم وليس عنده مال، فعاد الشرف بجملته على العلم وأهله، والله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا لمن أحبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، ومفهوم الحديث: من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين وإن كان رئيساً وإن كان وزيراً وإن كان أميراً، فإذا لم يفقه في دين الله عز وجل فمهما أعطي من زينة الدنيا، فإن الله لم يرد به خيراً، قال الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35] أي: لولا أن تكون الفتنة شديدة على أهل الإيمان لجعل الله عز وجل {لِمَنْ يَكْفُرُ

استعمال النعم في مرضاة الله وطاعته علامة شكرها ودليل دوامها

استعمال النعم في مرضاة الله وطاعته علامة شكرها ودليل دوامها قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:76 - 77]، فكل عبد أنعم الله عز وجل عليه بنعمة فمن شكر هذه النعمة أن يستعملها في طاعة الله عز وجل ولا يستعملها في معصية الله عز وجل، كما قال موسى عندما قتل القبطي: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] أي: بما أنعمت علي من قوة البدن ومن السلطان ومن الوجاهة فلن أكون ظهيراً للمجرمين. فمن أعطاه الله عز وجل علماً عليه أن يسعى في تعليم هذا العلم، ومن أعطاه الله عز وجل مالاً فعليه أن ينفق من هذا المال في طاعة الكبير المتعال، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)، ومن أعطاه الله عز وجل جاهاً ومنزلة في قلوب الناس فزكاة ذلك الشفاعات الحسنة كما قال عز وجل: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85]. فعلى العبد أن يشكر نعمة الله عز وجل عليه مهما كانت هذه النعمة.

العمل للآخرة لا يعني الإعراض عن الدنيا بالكلية

العمل للآخرة لا يعني الإعراض عن الدنيا بالكلية قال سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. قال بعضهم: لا تنس نصيبك من الدنيا، أي: من طاعة الله عز وجل، وهذا غاية الوعظ والنصح؛ لأن هذا النصيب الحقيقي من الدنيا، وقال بعضهم: هو من باب الترفق به {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أي: أنك لا تترك زينة الدنيا بالكلية، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] أي: الرزق الحلال والتمتع بالطيبات والمباحات في الدنيا يشترك فيه المؤمنون والكافرون، ولكنه وقف في الآخرة على أهل الإيمان. وقيل: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أي: لا تنس أنك لا تنال من الدنيا إلا الزاد والكفن: فانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الزاد والكفن أي: أن هذا نصيب العبد من الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإن الذي ينفقه من ماله وإن الذي يمسكه مال وارثه)، فالعبد قد يجمع الأموال في الدنيا ولا يخرج حق الله عز وجل منها ثم يترك هذا المال بأجمعه لورثته، وورثته إما أن يكونوا من الصالحين فينفقون هذا المال في طاعة رب العالمين، فيجد المال الذي اكتسبه والذي بخل بزكاته والذي بخل بإنفاقه حتى على نفسه يجده في ميزان غيره يوم القيامة، أو يستعين به الورثة على معصية الله عز وجل فيكون قد جمع لهم المال وتركه لهم يعصون به الكبير المتعال. فهو على كلا الحالتين نادم، ولكن من أنفق ماله في طاعة الله عز وجل فإنه يجد هذا المال موفوراً مدخراً يوم القيامة. كان بعض السلف إذا أتاه سائل يقول: مرحباً بمن جاء يحمل حسناتي إلى يوم القيامة. وقال بعضهم: نعم السائلون ينقلون حسناتنا إلى الآخرة بغير أجرة أي: يبدلون هذه العملة إلى حسنات يوم القيامة ولا يأخذون أجراً على ذلك. وقال عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، لما نصحه المؤمنون بأن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة وأن يحسن في ماله، ونصحوه بعموم الإحسان في كل شيء {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، ثم نهوه عن البغي والفساد في الأرض: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. فكانت نصيحة جامعة مانعة، فـ قارون الذي أعماه ماله {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: أنه ينسب النعمة إلى نفسه، أو يقول: الله عز وجل أعطاني هذه النعمة لعلمه بشرفي وكرامتي ولأني أستحق هذه النعمة، أي: أنه لابد أن يكون كريماً عند الله فيعطيه الله هذه النعمة. ولذلك قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78] أي: أن الله عز وجل أهلك من هو أشد قوة منه وأكثر مالاً منه، فلو كان إعطاء المال والنعمة وإعطاء الجاه والسلطان علامة على رضا الله عز وجل، فكيف أهلك الله عز وجل {مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الحث على المسارعة في أعمال الآخرة

الحث على المسارعة في أعمال الآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. قوله عز وجل: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: بمهارتي وذكائي وبجدي واجتهادي، {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:78 - 79]. خرج في تجمله وفي زينته وفي موكبه فأعجب هذا المنظر أهل الدنيا الذين لا يعرفون الله عز وجل والذين لا يعرفون الدار الآخرة، الذين يغترون بظاهر الدنيا وزينتها ولا يدرون كيف وصل أهل المال إلى هذا المال، فقد يصلون إليه بالبغي والعدوان، وقد يكون هذا المال من أموال الناس بالظلم أو السرقة، فهم لا يعرفون كيف وصل إلى هذا الحد، وإن كان المال حلالاً فكيف يغتر المؤمن بالدنيا والدنيا في الآخرة كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع. كم يعيش العبد في الدنيا يقول عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]. وقال عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114]، وقالوا: هي عشية أو ضحاها فالدنيا ساعة، بل لا تساوي ساعة من ساعات يوم القيامة، فكيف بالآخرة خلود في النعيم المقيم أو العذاب الأليم. فالمؤمنون لا يغترون بزينة الدنيا ولا يغترون بزخرفها، وإنما يغتر بذلك من بخس حظه من العلم النافع والعمل الصالح {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، فالعبد لا يحسد أهل الدنيا على دنياهم؛ لأن الدنيا تزول عن قليل، فمن أراد أن يحسد فعليه أن يحسد أهل العلم النافع، وعليه أن يحسد أهل العمل الصالح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)، وقال بعضهم: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الدين، وقال بعضهم: إذا استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله عز وجل فافعل. قال عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فإذا ذكر الله عز وجل الآخرة شرع لنا التنافس والتسابق. قال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، وإذا ذكر الله عز وجل الدنيا والسعي على المعاش، قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]. فالناس يتسابقون ويتسارعون إلى الدنيا ولكنهم لا يتسابقون ويتسارعون إلى الآخرة، ولكن أهل العلم النافع الذين يعلمون خبث الدنيا وزوالها، وأنها كقطعة الثلج رخيصة الثمن سريعة الذوبان، والآخرة جوهرة غالية الثمن، فهؤلاء يتسابقون على الآخرة ويتسارعون إلى درجات الآخرة، {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:79 - 80] أي: لا يلقى الآخرة ولا يلقى ثواب الله عز وجل إلا الصابرون، وقالوا: لا يعلم هذا العلم ولا يفهم هذا الفهم ولا يلقى ذلك إلا الصابرون الذين صبروا على طاعة الله عز وجل وصبروا عن معصية الله عز وجل، وصبروا على الأقدار التي تخالف هوى نفوسهم فهم لا يغترون بالدون ولا يبيعون الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون، لا ينافسون على زينة الدنيا وزخرفها، ولكنهم ينافسون على النعيم المقيم ومجاورة رب العالمين فلا يغترون بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطان.

الاعتبار بسرعة زوال الدنيا وتبدد زينتها وزخرفها

الاعتبار بسرعة زوال الدنيا وتبدد زينتها وزخرفها قال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:80 - 81]، والفاء للتعقيب، وهي إشارة إلى سرعة زوال الدنيا كما قال عز وجل: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، وقال عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]. وهذه عاقبة كل جبار وكل متكبر وكل باغ: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81] أي: به وبماله وخزائنه وقصره، فصار عبرة للمعتبرين ومن لم يعتبر بغيره صار عبرة لغيره، والسعيد من اعتبر بغيره والشقي من اعتبر بنفسه، قال عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]. فإذا جاء عذاب الله عز وجل، وإذا جاءت نقمة الله عز وجل لا يستطيع من على وجه الأرض أن يردوا عذاب الله أو يحمي الطاغي الباغي من عذاب الله عز وجل أو من انتقام الله عز وجل، قال الله عز وجل عنه {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:81 - 82]، فهنا علموا والعبرة أن تعلم وأن تعتبر قبل أن ينزل عذاب الله عز وجل، فالفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل، فهؤلاء ما عرفوا ذلك إلا بعد وقوع عذاب الله عز وجل بـ قارون، قال عز وجل: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82]، فقوله: (ويكأن) (وي) أداة للتعجب والندم، وكأنهم ندموا على مجرد هذا الظن، وعلى مجرد هذا التمني وقالوا: بأنهم كان يمكن أن يخسف بهم؛ لأنهم تمنوا ما فيه قارون مع أنه كان من البغاة وكان من الكافرين وكان من المتكبرين فتمنوا ما هو فيه. فعند ذلك قالوا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] أي: لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة والعاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة. فهذه عبرة كيف تزول الدنيا سريعاً عن أصحابها الذين يغترون بها ولا يعملون للآخرة ولا يبذلون في طاعة الله عز وجل ولا يستعملون نعم الله عز وجل عليهم في التقرب إلى الله عز وجل، {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82] أي: ليس بسط الرزق علامة على رضا الله، وليس تأخير الرزق علامة على سخط الله عز وجل، فليس الأغنياء هم الذين رضي الله عز وجل عنهم والفقراء هم الذين سخط الله عز وجل عليهم كما يظن أهل الكبر وأهل الغرور من الدنيا، {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]. ثم عقب الله عز وجل هذه القصة بآية كأنها قانون وكأنها سمة ربانية فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. فالمتقون عباد الله وأهل الإيمان لا يريدون الدنيا ولكنهم يريدون الآخرة، وما قدر لهم من رزق في الدنيا فلابد أن يأتيهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرزق ليطلب ابن آدم كما يطلبه أجله)، وفي بعض الآثار كذلك: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه ثم يدركه الموت)، فما قدر له في الدنيا لابد أن يأتيه، ولكنه يطلب الآخرة فهمته أعلى من الدنيا لا يرغب في الحطام ولكنه يرغب في النعيم المقيم ومجاورة رب العالمين، لا يرضى بالدون ولا يبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون. {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعط

حب الشهوة

حب الشهوة شهوات الدنيا كثيرة، ومنها المال، وقد انقسم الناس في التعامل معه إلى فريقين؛ فريق جعل كل همه جمع المال من حله ومن غير حله، فهو يخبط فيه خبط عشواء، فهذا بأخبث المنازل، وفريق يأخذ بالأسباب الشرعية ويجمعه من حله، ويقوم فيه بما يرضي ربه عز وجل، فهذا بأحسن المنازل، وإن مما ذكره الله تعالى في كتابه بشأن النظرة الإنسانية الممقوتة إلى المال قصة قارون ففيها العظة والعبرة.

الأثر السلبي المترتب على حب المال

الأثر السلبي المترتب على حب المال الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين, وحجة على العباد أجمعين. وقد ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينه، وإن الله لسميع عليم. فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً. أما بعد عباد الله: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين. قوله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:76 - 83]. هذه القصة -عباد الله- هي قصة المال الذي يطغي صاحبه، والذي لا يعترف صاحبه بأن الله عز وجل أنعم عليه بهذه النعمة، فلا يؤدي زكاة ماله، ولا يشكر ربه عز وجل، ولا يستعمل النعمة في طاعة الله عز وجل، بل يتكبر على عباد الله، ويبغي على عباد الله عز وجل، ويحسن الظن بنفسه، يظن أنه بمهارته وبذكائه وبسعيه حصَّل هذا المال، فيقول: أنا رجل عصامي ما ورثت هذا المال: بل اكتسبته بجهدي ومهارتي. لا يعترف بأنه نعمة من عند الله عز وجل، فيقول: {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. فكلما ازداد ماله يزداد كبراً ويزداد بغياً ويزداد عجباً بنفسه، ثم هي قصة الدنيا التي تزهو وتعجب الناظرين، فيتمنى الناس ما عنده من زينة الدنيا، ثم عاقبة هذه الزينة الزائفة إلى الفناء وإلى الزوال: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]. ولكن أهل العلم -عباد الله- لا يغترون بزينة الدنيا، ويعلمون أن الآخرة هي الحيوان، وأن الدنيا عرض زائل. فقصة قارون -عباد الله- التي قصها الله عز وجل علينا في كتابه، في خاتمة سورة القصص: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76]، قيل: كان ابن عم موسى، وقيل: كان عمه لأبيه وأمه، وهناك قول بأنه كان من قومه الذين أرسل بالدعوة إليهم، أي: كان من قبط مصر، فآتاه الله عز وجل: {

الحث على إنفاق المال في وجوه الخير

الحث على إنفاق المال في وجوه الخير قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. فكل عبد أنعم الله عز وجل عليه بنعمة، فإن من شكر هذه النعمة أن يستعملها في طاعة الله عز وجل، ولا يستعملها في معصية الله عز وجل، كما قال موسى عندما قتل القبطي: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]. أي: بما أنعمت علي من قوة البدن، ومن السلطان ومن الوجاهة فلن أكون ظهيراً للمجرمين، فمن أعطاه الله عز وجل علماً فعليه أن يسعى في تعليم هذا العلم، ومن أعطاه الله عز وجل مالاً فلينفق من هذا المال في طاعة الكبير المتعال، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجلاً آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها). فمن أعطاه الله عز وجل جاهاً ومنزلة في قلوب الناس، فزكاة ذلك الشفاعات الحسنة: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85]. فعلى العبد أن يشكر نعمة الله عز وجل عليه، مهما كانت هذه النعمة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. قال بعضهم: لا تنس نصيبك من طاعة الله عز وجل، وهذا غاية الوعظ والنصح عباد الله؛ لأن هذا هو النصيب الحقيقي من الدنيا، وقال بعضهم: هو من باب الترفق به: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. أي: أنك لا تترك زينة الدنيا بالكلية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]. أي: الرزق الحلال والتمتع بالطيبات والمباحات، يشارك المؤمنون الكافرين في الدنيا، ولكنه وقف في الآخرة على المتقين، وعلى أهل الدين والإيمان. وقيل: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. أي: لا تنس أنك لا تنال من الدنيا إلا الزاد والكفن. فانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الزاد والكفن أي: أن هذا نصيب العبد من الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر). فالعبد قد يجمع الدنيا ويكنزها ولا يخرج حق الله عز وجل منها، ثم يترك هذا المال بأجمعه لورثته، فورثته إما أن يكونوا من الصالحين، فينفقون هذا المال في طاعة رب العالمين، فيجد المال الذي اكتسبه والذي بخل بزكاته وبإنفاقه حتى على نفسه، يجده في ميزان غيره يوم القيامة، أو يستعين به الورثة على معصية الله عز وجل، فيكون قد جمع لهم المال، وتركه لهم يعصون به الكبير المتعال، فهو على كلا الحالتين نادم عباد الله، ولكن من أنفق ماله في طاعة الله عز وجل، فإنه يجد هذا المال موفوراً مدخراً يوم القيامة. كان بعض السلف إذا أتاه سائل، يقول: مرحباً بمن جاء يحمل حسناتي إلى يوم القيامة. وقال بعضهم: نعم السائلون، ينقلون حسناتنا إلى الآخرة بغير أجرة، أي: يبدلون هذه العملة إلى حسنات يوم القيامة، ولا يأخذون أجراً على ذلك.

نصيحة المؤمنين لقارون بإنفاق المال في مرضاة الله وعدم الفساد في الأرض

نصيحة المؤمنين لقارون بإنفاق المال في مرضاة الله وعدم الفساد في الأرض قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]. لما نصح المؤمنون قارون بأن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، وأن يحسن في ماله، نصحوه بعموم الإحسان في كل شيء، الإحسان في عبادته لله عز وجل، والإحسان إلى والديه، والإحسان إلى جيرانه، والإحسان إلى جميع الخلق: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]. ثم نهوه عن البغي والفساد في الأرض: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. فكانت نصيحة جامعة مانعة عباد الله، فما كان رد قارون الذي أعماه ماله، قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. أي: أنه نسب النعمة إلى نفسه، أو لعله قال: إن الله عز وجل أعطاني هذه النعمة. لعلمه بشرفي وكرامتي، ولأني أستحق هذه النعمة؛ ولذلك قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78]. أي: أن الله عز وجل أهلك من هو أشد قوة منه وأكثر مالاً منه، فلو كان إعطاء المال والنعمة، وإعطاء الجاه والسلطان علامة على رضا الله عز وجل، فكيف أهلك الله عز وجل من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

رد قارون على من نصحه من المؤمنين وموقف أهل الآخرة وأهل الدنيا منه

رد قارون على من نصحه من المؤمنين وموقف أهل الآخرة وأهل الدنيا منه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. قال عز وجل مخبراً عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]: أي بمهارتي وذكائي وبجدي واجتهادي: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:78 - 79]. خرج في تجمله وفي زينته وفي موكبه، فأعجب هذا المنظر أهل الدنيا الذين لا يعرفون الله عز وجل، والذين لا يعرفون الدار الآخرة، الذين يغترون بظاهر الدنيا وزينتها، ولا يدرون كيف وصل هذا المال إلى هذا الشخص، فقد يصل إليه بالبغي والعدوان، وقد يكون هذا المال من ظلم الناس وسرقة أموالهم، فكيف يغتر المؤمن بالدنيا عباد الله، (ما الدنيا في الآخرة كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)، كم يعيش العبد في الدنيا؟ يقول عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]. وقال عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114]. وقالوا: هي عشية أو ضحاها، فالدنيا ساعة، بل لا تساوي ساعة من ساعات يوم القيامة، فكيف بالآخرة؟! خلود في النعيم المقيم، أو العذاب الأليم. فالمؤمنون -عباد الله- لا يغترون بزينة الدنيا، ولا يغترون بزخرفها، وإنما يغتر بذلك من بخس حظه من العلم النافع، والعمل الصالح: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]. مقاييس مختلة عباد الله، فالعبد المؤمن لا يحسد أهل الدنيا على دنياهم؛ لأن الدنيا تزول عن قليل عباد الله، فمن أراد أن يحسد فعليه أن يحسد أهل العلم النافع، وعليه أن يحسد أهل العمل الصالح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها). وقال بعضهم: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا، فنافسه في الدين. وقال بعضهم: إذا استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله عز وجل فافعل، قال عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. فإذا ذكر الله عز وجل الآخرة، شرع لنا التنافس والتسابق، فيها، قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]. وإذا ذكر الله عز وجل الدنيا والسعي على المعاش قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]. فالناس يتسابقون ويتسارعون إلى الدنيا، ولكنهم لا يتسابقون ويتسارعون إلى الآخرة، ولكن أهل العلم النافع -عباد الله- هم الذين يعلمون صفة الدنيا وزوالها، وأنها كقطعة الثلج رخيصة الثمن، سريعة الذوبان، والآخرة جوهرة غالية الثمن ومع ذلك لا تزول، فهم يتسابقون إلى الآخرة، ويتسارعون في نيل درجاتها. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]. أي: لا يلقى الآخرة ولا يلقى ثواب الله عز وجل إلا الصابرون، أو لا يعلم هذا العلم ولا يفهم هذا الفهم ولا يلقى ذلك إلا الصابرون الذين صبروا على طاعة الله عز وجل، وصبروا عن معصية الله عز وجل، وصبروا على الأقدار التي تخالف هوى نفوسهم، فهم لا يغترون بالدون، ولا يبيعون الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون. فالمؤمنون لا ينافسون على زينة الدنيا وزخرفها، ولكنهم ينافسون على النعيم المقيم، ومجاورة رب العالمين، فلا يغترون بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطان: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِه

حياة البرزخ

حياة البرزخ الموت حق كتبه الله على كل مخلوق، فإذا مات المرء انتقل إلى القبر أول منازل الآخرة، وفيه يلاقي أول الجزاء على عمله، فهو إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، وبهذا نطقت الأدلة، وعليه تظافرت النصوص، ولا يتم الإيمان إلا بالإيمان به.

الإيمان بحياة البرزخ من أركان الإيمان

الإيمان بحياة البرزخ من أركان الإيمان إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: فنتكلم اليوم إن شاء الله تعالى عن حياة البرزخ وعن حياة القبور، ونحن في زمان كثر فيه الكلام عن عذاب القبر وعن حياة القبر، والذين من شأنهم التكذيب ويكادون ينطقون بكلمة الكفر ينتظرون فرصة من أجل أن يطعنوا في أي عقيدة من عقائد الإسلام. والإيمان بالبرزخ وبحياة القبر -عباد الله- يدخل في الإيمان باليوم الآخر. والإيمان باليوم الآخر هو الركن السادس من أركان الإيمان، كما في حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان؟ فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره). واليوم الآخر يتضمن ما قبل يوم القيامة من الموت، ومن حياة البرزخ، ومن علامات قيام الساعة، وما يتضمنه اليوم الآخر - أي يوم القيامة - من البعث والنشور والموازين والجسر أو الصراط، وما سوى ذلك مما ثبت في كتاب الله عز وجل أو صحّت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يدخل في أمور الإيمان الستة التي يجب على المؤمن أن يؤمن بها، والتي لا ينجو العبد ولا يسعد في الدنيا والآخرة حتى يؤمن بها.

شبه المكذبين بحياة البرزخ والرد عليها

شبه المكذبين بحياة البرزخ والرد عليها والمكذبون بحياة البرزخ وحياة القبور يقولون -جهلاً منهم-: إن القرآن لم يشر إلى عذاب القبر ولا إلى حياة القبر. والجواب على هؤلاء -عباد الله-: إن الله عز وجل ما تعبّدنا بالكتاب وحده، بل تعبّدنا بالكتاب المنزّل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المرسل، كما قال عز وجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] فآيات الله هي: القرآن، والحكمة هي: سنة النبي عليه الصلاة والسلام. وقال عز وجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. وقال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. فالذكر في هذه الآيات يقصد به السنة. أي أنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وحيين: وحي متلو متعبّد بلفظه ومعناه، متعبّد بتلاوته، ووحي أوحى الله عز وجل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم معناه، وعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه وبكلامه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه)، أي: السنة. فالله عز وجل تعبّدنا بكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فلو لم يرد في القرآن آية واحدة تشير إلى حياة القبر وإلى عذابه لكان الواجب على كل مسلم أن يؤمن بحياة القبور؛ لأن السنة النبوية قد تواترت بذلك كما سنرى إن شاء الله تعالى.

الرد من القرآن على شبه المنكرين لعذاب القبر

الرد من القرآن على شبه المنكرين لعذاب القبر والجواب المفصّل على هؤلاء: إن القرآن وردت فيه آيات كريمات تشير إلى حياة القبر وعذابه، ولكنهم من جهلهم بالقرآن وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام يطعنون في الإسلام. ومن هذه الآيات القرآنية التي تشير إلى حياة القبر قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] فهذا تهديد من الله عز وجل بعذاب القبر وبحياة البرزخ. كما قال عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]، أي: وأمامه عذاب غليظ. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور! تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم، حية عند رأسه وحية عند قدميه، يقرصانه حتى يلتقيا في منتصفه، فذلك قول الله عز وجل: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. وهذا تهديد من الله عز وجل بعذاب البرزخ. ويقول الله عز وجل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47]، أي: دون عذاب الآخرة، وكثير من الظالمين يموتون في الدنيا ولا يُعذّبون، وهذه الآية تشير إلى أنهم لا بد أن يعذّبوا عذاباً دون عذاب الآخرة، فلا بد أن هذا العذاب في القبور. ومن ذلك: قوله عز وجل: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]. استدل حبر الأمة البحر ابن عباس بهذه الآية على عذاب القبر، فقال: إن الله عز وجل قال: {مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [السجدة:21]، ولم: يقل العذاب الأدنى، فدل على أنهم قد يعذبون من العذاب الأدنى في الدنيا وتبقى لهم بقية من العذاب الأدنى يعذبون بها في القبور، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]. ويقول الله عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. ففرعون وأهله يُعذّبون في النار عباد الله. وأشارت الآية إلى أنهم يعذبون في الغدو والعشي -أي: طرفي النهار- إشارة إلى أنهم يعذّبون طوال النهار، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. وقال الله عز وجل في سورة الواقعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:83 - 95]. فقد ذكر الله عز وجل في بداية السورة القيامة الكبرى فقال: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:1 - 11] فقسّم الناس إلى ثلاثة أقسام، وذكر في نهاية السورة القيامة الصغرى، فمن مات فقد قامت قيامته، وقسّم الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة، فدل على أنهم ينقسمون إلى هذه الأقسام الثلاثة بعد الموت وبعد قيامتهم الصغرى، كما أنهم ينقسمون هذه الأقسام كذلك بعد القيامة الكبرى، وقدّم القيامة الكبرى على القيامة الصغرى للعناية بها، فدّلت هذه السورة على

الرد من السنة على شبه المنكرين لعذاب القبر

الرد من السنة على شبه المنكرين لعذاب القبر وكما دلّت الآيات القرآنية الكريمة -عباد الله- على حياة القبر وعلى عذابه دلّت كذلك السنة النبوية المطهّرة، بل تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إثبات حياة القبر. ومن ذلك أحاديث تبيّن أنه لا بد أن يُفتن الناس في قبورهم، ولا بد أن يسألوا في قبورهم، وأحاديث يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من عذاب القبر، وأحاديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع بعض المعذّبين يُعذّبون في قبورهم، وأحاديث تبيّن صوراً من صور هذا العذاب وأسبابه. ومن هذه الأحاديث -عباد الله- التي تُثبت عذاب القبر: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: إنهما يُعذّبان وما يُعذّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول)، وفي رواية: (لا يستتر من البول) وفي رواية: (لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يسعى بالنميمة، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجريدة فشقها نصفين وقال: لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا). ومنها كذلك: ما ورد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار إذ حادت به بغلته، فكادت أن تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة -أي: أن الدابة فزعت فزعاً شديداً عندما سمعت الصراخ أو أحسّت بعذاب من يُعذّب في هذه القبور، فكادت أن تلقي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة الكرام: أيكم يعرف أصحاب هذه القبور؟ فقال رجل: أنا، فقال النبي صلى الله عليه، وآله وسلم: متى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها، ولولا ألا تدافنوا -أي: لا يدفن بعضكم بعضاً؛ خوفاً من أن يمس الذي يدفن شيئاً من عذاب القبر- لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع، ثم قال صلى الله عليه وسلم: استعيذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، قال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: استعيذوا بالله من فتنة المسيح الدجال، قالوا: نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال، قال: استعيذوا بالله من شر فتنة المحيا والممات). وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر إذا فرغ العبد من التشهد الأخير أن يستعيذ بالله عز وجل من أربع: من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال). ووردت كذلك أحاديث نبوية شريفة تدل على السؤال في القبر، وما يسأل عنه العبد في قبره، وقد ورد في حديث البراء بن عازب أن المؤمن يأتيه ملكان فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ويسأل عن دينه فيقول: ديني الإسلام، ويسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال له: كيف عرفت رسالته؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدّقت، والكافر يقول: هاه هاه لا أدري، فقد فاته أن يعرف ربه عز وجل، كان مشغولاً بمعرفة من يلعب الكرة، وبمعرفة الممثلين والممثلات والفاسقين والفاسقات، ففاته أن يعرف ربه عز وجل، وفاته أن يتعرف على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يدرس سيرته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم، فيقول الكافر والمفرّط: هاه هاه لا أدري، فتقول الملائكة: لا دريت ولا تليت. وفي حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم حين يولون عنه مدبرين، ثم يأتيه ملكان فيقولان: من ربك؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله). قال قتادة: وبلغنا أنه يُفتح له في قبره سبعون ذراعاً ويملأ عليه خضراً إلى يوم يُبعثون. ومن الأحاديث التي تثبت عذاب القبر: ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحد يقف عليه ملك إلا هيل -أي: مهما كان يعرف الإجابة، ومهما كان قد درس التوحيد، ولكنه وحيد فريد في قبره ضعيف لا حيلة له ولا وسيلة، يأتيه ملكان أسودان أزرقان فيجلسانه ومعهم المطراق- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]) فلا يثبت عند ذلك إلا المؤمنون. وأنت ترى الناس في الدنيا في كامل صحتهم وعافيتهم وعقلهم ومع ذلك يتمكن منهم الشيطان ويسوقهم حيث أراد، فكيف بهم إذا تخاذلت قواهم وضعفت قوتهم؟ وكيف بهم إذا بلغ الكرب منهم مبلغه وقت معاناة السكرات، وهم في غاية الضعف واليأس من الدنيا والألم، والشيطان أشد ما يكون عليهم عند خروج الروح؟ فهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] فلا يثبّت

اختلاف أحوال حياة البرزخ عن حياة الدنيا

اختلاف أحوال حياة البرزخ عن حياة الدنيا إن الحمد نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد. فقد يقول قائل: إننا نكشف القبور فلا نرى نيراناً تؤجج ولا نرى حيات سود أو دهم، ولا نرى القبر يضيق على صاحبه، ولا يملأ عليه خضراً، ولا يتسع عليه قبره بل القبر كما هو، والجواب -عباد الله-: إن الله جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، وجعل الله عز وجل لكل دار أحكاماً تختص بها. وأول ما تختص به دار البرزخ أن ملائكة الله عز وجل تنزل على العبد عند موته ولا يشهدهم الحاضرون، كما قال الله عز وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] فإن كان مؤمناً أتاه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، ويجلسون منه مد البصر ويقولون: أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى رضاً من الله ورضوان، وإن كان كافراً أتته ملائكة العذاب وتجلس ومعها المسوح، وتأمر روحه بالخروج، ومع ذلك فالحاضرون لا يشهدون ذلك ولا يسمعون شيئاً من ذلك، والميت يشاهد ذلك ويسمع شيئاً من ذلك، كما ورد عن بعض السلف أنه كان يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ومد أحدهم يده وقال: أهلاً صاحبي أهلاً حبيبي، وقال بعضهم: هذا يوم أسود، عندما رأى السواد أمام عينيه مد البصر. والميت -عباد الله- الذي يموت على الإيمان وعلى طاعة الرحمن تبدو عليه السكينة وكأنه نائم، والذي يموت على غضب الله عز وجل وعلى معصيته ويُحال بينه وبين كلمة التوحيد تبدو عليه علامات الفزع والجزع والخوف، وقد يسود وجهه ويصير مثل القرص المحترق. وهذه العلامات تظهر -عباد الله- عند خروج الروح وعند الغسل وعند الدفن وبعد الدفن. والحاصل: أن كل ما هو من أمر الآخرة فقد غيّبه الله عز وجل عن حسّ المكلّفين حتى يتميز المؤمن من الكافر، فالملائكة تخاطب الروح، والعباد في الدنيا لا يرون ذلك ولا يسمعون، ثم تخرج روح المؤمن ولها رائحة أطيب من رائحة المسك، ولها شعاع أضوأ من شعاع الشمس، والحاضرون لا يشهدون ذلك ولا يشمونه، ثم تأتي الروح فتشاهد تغسيل البدن، ثم تسير روح المؤمن فوق الجنازة وتقول: قدّموني قدّموني، والحاضرون لا يسمعون ذلك ولا يشاهدونه، ثم لا يمنع التراب من أن الروح تتصل بالجسد اتصالاً يعلمه الله عز وجل حتى يُسأل العبد في قبره. فكل ما كان من أمور الآخرة فقد غيّبه الله عز وجل عن حسّ المكلّفين، والمسيح الدجال يأتي قبل القيامة بماء ونار، فماؤه نار تلظى، وناره ماء بارد، وقدرة الله عز وجل عجيبة، ولكن الناس يكذّبون. والعبد المؤمن إذا قبر يصير قبره روضة من رياض الجنة، ولو قُبر بجواره رجل كافر أو فاجر يكون قبره حفرة من حفر النار، وليس عند الأول خبر عن الثاني ولا عند الثاني خبر عن الأول. والإنسان قد يرى في النوم أنه في جنة الله عز وجل أو يرى أنه في حج أو عمرة، أو يزور أحبابه أو ما فيه فرح النفوس وبجواره شخص نائم يرى عكس ذلك، فقد يرى أنه يُعذّب أو يرى أنه في مصيبة من المصائب وليس عند أحدهما خبر عن الآخر. فالله عز وجل جعل الدور ثلاثة، وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها، وحجب ما كان من أمور الآخرة عن حس المكلّفين، ولذلك يُعذّب أصحاب القبور عذاباً تسمعه البهائم، وفي بعض القرى إذا أُصيبت البهائم بالإمساك يذهبون بها إلى القبور فتخرج ما في بطونها لما تسمع من الهلع ومن الصراخ ومن الفزع، فهذا عذاب تُحس به البهائم وتسمعه؛ لأنها غير مكلفة، أما الإنس والجن فقد حجب الله عز وجل ذلك عن حسهم.

عذاب القبر أو نعيمه يعم كل شخص ولو لم يدفن أو تفرقت أجزاؤه

عذاب القبر أو نعيمه يعم كل شخص ولو لم يدفن أو تفرقت أجزاؤه وقد يقول قائل: هل العبد الذي لم يقبر كأن تتفرق أجزاؤه بحريق أو غرق أو يأكله السبع أو يُعلّق في مهاب الريح ينال من عذاب القبر؟ A إن عذاب القبر -عباد الله- يلحق كل من استحق هذا العذاب سواء قُبر أو لم يُقبر، والله عز وجل قادر على أن يوصّل روح الكافر بذرات الجسد وإن تباعدت أجزاؤه، وأن ينال الجسد ما ينال الروح من العذاب، فالله عز وجل يجعل لروح المؤمن أو لروح الكافر اتصالاً بالذرات وإن تفرقت، وكان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام بين أيديهم، وسمع الصحابة رضي الله عنهم حنين الجذع اليابس للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] وكان حجر يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يُبعث، وكلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: السلام عليك يا رسول الله! فإذا كانت الجمادات فيها إدراك وتسبح بحمد الله عز وجل وقد سمع حنين الجذع وتسبيح الطائر فكيف بالجسد الذي كان يوماً شيئاً مذكوراً حياً متحركاً مريداً؟ كيف لا يذوق في القبر نعيماً أو عذاباً؟ وكيف لا يتنعم المؤمن في قبره؟ ولا يتعذب الكافر والفاجر في قبره؟

أسباب عذاب القبر

أسباب عذاب القبر أما أسباب عذاب القبر فهي إجمالاً: سخط الله عز وجل على العبد، فمن أسخط الله عز وجل في الدنيا وتمرد على شرعه عز وجل وانتهك حرماته استحق عذاب الله وسخطه عز وجل، وسينال قسطه ونصيبه من عذاب القبر، كما أن من أرضى الله عز وجل وسارع في رضاه عز وجل ومحابه فإنه ينال من نعيم القبر قبل أن ينال نعيم الآخرة، ويصير قبره روضة من رياض الجنة. وهناك أسباب وردت بها الأحاديث، فمن ذلك: عدم الاستبراء أو الاستنزاه من البول، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه). ومن ذلك: السعي بالنميمة، والنميمة هي: نقل الكلام على سبيل الإفساد. ومن ذلك: الجهل بالله عز وجل وبدينه، كما يقول المفرّط: لا أدري، فالجاهل يُعذّب على جهله؛ لأنه ما تعلم التوحيد وما عرف طاعة الحميد المجيد، فيُعذّب على جهله بدين الله عز وجل، وعلى جهله برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك ما ورد في حديث سمرة: الرجل الذي يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، والرجل الذي ينام عن الصلاة المكتوبة أو يتعلم القرآن فلا يقوم به في الليل ولا يعمل به في النهار. ومن ذلك: الزناة والزواني. ومن ذلك: آكل الربا. ومن ذلك: الغلول، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه في قبره ناراً)، ومن الغلول استحلال المال العام؛ لأن الغلول سرقة من الغنيمة قبل أن تقسّم، واستحلال المال العام غصباً من أموال الناس كلهم، لأن هذا المال ليس ملكاً للحكومة ولا لرئيس الجمهورية، بل هو ملك لجميع المسلمين. فسرقة المال العام والأخذ منه هو من الغلول ومن أسباب عذاب القبور.

الأسباب المنجية من عذاب القبر

الأسباب المنجية من عذاب القبر وأما الأسباب التي تنجي من عذاب القبر فمنها: أن يتوب العبد إلى الله عز وجل صباح مساء أن يصبح على توبة وأن يمسي على توبة، وأن يستحضر الآخرة بين عينيه، وأن يستحضر اللحظات التي تخرج فيها روحه، والتي يكون فيها على هضبة يهبط منها إلى روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وهو لا يدري أين يُسلك به، فيبتعد عن أسباب سوء الخاتمة ويأخذ بأسباب حسن الخاتمة. ومن ذلك: المرابطة في سبيل الله عز وجل. ومن ذلك: الشهادة في سبيل الله عز وجل. ومن ذلك: تعلم سورة تبارك، قال صلى الله عليه وسلم: (إن سورة ثلاثون آية شفعت في صاحبها حتى نجاه الله عز وجل من العذاب). اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم إنا نسألك أن تهدي شباب المسلمين، وأن تهدي نساء المسلمين، وأن تهدي شيوخ المسلمين، وأن تهدي أطفال المسلمين. اللهم إنا نسألك أن ترفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، ورد المسلمين إليك رداً جميلاً. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين. اللهم اقض الدين عن المدينين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم ارحم موتى المسلمين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وسلم تسليماً.

شرح بعض الأدعية

شرح بعض الأدعية لقد أوتي النبي صلوات الله وسلامه عليه جوامع الكلم وملك ناصية البلاغة، فكان يجمع المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة، ومما ظهرت فيه بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم الدعاء، فقد كان يدعو ربه بأوجز عبارة وأوضح بيان متقيداً في ذلك بآداب الدعاء، ومعلماً أمته من بعده كيفية طلب الخير من الله ودفع البلاء.

شرح حديث: (اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق)

شرح حديث: (اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق) الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين). هذه الكلمات الطيبات من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من الدعاء أجمعه، أي: أجمعه لكل خير، مثل قوله: (اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا وما لم نعلم).

شرح قوله في الحديث (اللهم بعلمك الغيب ما كانت الوفاة خيرا لي)

شرح قوله في الحديث (اللهم بعلمك الغيب ما كانت الوفاة خيراً لي) ما يسأله العبد من ربه عز وجل إما أن يكون مقطوعاً بأنه من الخير، كأن يسأل الله عز وجل الجنة والنجاة من النار، أو يسأله إيماناً، أو توكلاً، أو حباً لله عز وجل، فهذا يقطع بأنه من الخير، فيلزم العبد أن يسأل الله عز وجل إياه، وإما أن يكون لا يدري هل هو من الخير أو من الشر، فينبغي عليه أن يعلق ذلك بعلم الله عز وجل أنه من الخير له، كأن يقول: اللهم وفقني إلى هذا السفر إن كان خيراً لي، اللهم قدر لي هذا الزواج إن كان خيراً لي، كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة، وكان هذا بدلاً من الاستقسام بالأزلام ومن التطير، فقد كان العرب في الجاهلية إذا أراد العبد أن يعمل شيئاً ولا يدري هل هو من الخير أو من الشر -كأن يريد سفراً- فإنه يضرب طيراً بحجر، فإذا طار ناحية اليمين تيمن واستبشر وسافر، وإن طار ناحية الشمال تشاءم وترك السفر. أما الاستقسام بالأزلام فكان يأخذ ثلاثة أقداح ويكتب على أحدها افعل، وعلى الثاني لا تفعل، ويترك الثالث لا يكتب عليه شيئاً، ويأخذ منها قدحاً، فإذا خرج له القدح افعل يفعل، وإذا خرج له لا تفعل لا يفعل، وإذا خرج الذي ليس عليه شيء أعاد الاستقسام بالأزلام. فأبدلنا النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من ذلك دعاء الاستخارة، أن يصلي العبد ركعتين من غير الفريضة، ويدعو الله عز وجل: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه). ولما كان سؤال العبد للموت أو للمزيد من الحياة لا يدري هل هو من الخير له أو من الشر له علق ذلك بعلم الله عز وجل، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله سلم يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)؛ لأن العبد لا يعلم ما يحدث في بقية عمره، هل يزداد قرباً لله عز وجل، وحباً له عز وجل؟ أو يبعد عن الله عز وجل وينقلب على عقبيه، نسأل الله العافية، فلذلك علق هذا الدعاء بعلم الله عز وجل، (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي). وإلا فالأصل ألا يسأل العبد الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسناً فلعله يزداد، وإن كان مسيئاً فلعله يستعتب)، فالعبد لا يتمنى الموت؛ لأن الدنيا مزرعة للآخرة يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل لا دار للمرء قبل الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها فلا يتمنين أحد الموت، لأن كل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة؛ لأنه يزداد خيراً وقرباً إلى الله عز وجل، بل كل لحظة من لحظات عمره جوهرة ثمينة يستطيع أن يشتري بها كنزاً لا يفنى أبد الآباد. وفي الحديث الآخر: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، فالعبد لا يسأل الموت لضر نزل به من فقر أو مرض أو غير ذلك من أنواع البلاء؛ لأنه قد يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، أي: كالذي يحتمي من حر الرمضاء -أي: شدة الحر- بالدخول إلى النار؛ لأنه لا يدري ما له في الآخرة، ولا يثق بعمله، بل ينبغي له أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، ويسأل الله عز وجل أن يبارك في عمره، وأن يزيده ثباته على دين الله عز وجل وطاعة لله عز وجل، ولكنه إذا خاف على دينه أو أشفق على يقينه أو خشي أن يموت على غير ملة الإسلام أو على غير طاعة الملك العلام فعند ذلك يجوز له أن يتمنى الموت كما في حديث اختصام الملأ الأعلى، (وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون) فإذا خشي العبد على دينه وأشفق على يقينه فعند ذلك يجوز له أن يتمنى الموت كما تمنى بعض السلف الموت من كثرة الفتن، ومن خشيتهم على إيمانهم.

شرح قوله في الحديث (اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)

شرح قوله في الحديث (اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة) ثم قال: (اللهم إني سألك خشيتك في الغيب والشهادة)، وهذا من المقطوع به أنه من الخير، فلذلك لم يعلقه بعلم الله عز وجل بالغيب وقدرته على الخلق، بل قال: (اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة). ومحك الخشية الحقيقية لله عز وجل في الغيب، وإن كانت الخشية ممدوحة في كل وقت، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]؛ لأن خشية الله عز وجل هي التي تدفع العبد لكل خير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، فكلما ازدادت خشية العبد لله عز وجل ازداد له طاعة وابتعد عن معصيته عز وجل. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله عز وجل جهلاً. وقيل للشعبي: من العالم؟ قال: إنما العالم من يخشى الله، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. والمحك الحقيقي -عباد الله- أن تخشى الله عز وجل بالغيب، {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، لأن العبد قد يترك الذنب أمام الناس، وقد يجتهد في الطاعة أمام الناس، رجاء مدحهم أو هرباً من ذمهم، فالخشية الحقيقية هي الخشية في الغيب.

شرح قوله في الحديث (وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى)

شرح قوله في الحديث (وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى) ثم قال: (وكلمة الحق في الغضب والرضا)، لأن العبد إذا غضب قد لا يحكم بالحق، أو إذا كان الحكم على أحد من أعدائه فقد لا يحكم بالعدل والحق، والله تعالى يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، ولذلك نهي القاضي أن يحكم وهو غضبان؛ لأن هذا قد يحمله على الحكم بغير الحق، وقاسوا على ذلك شدة الجوع، وشدة الخوف، والحاجة إلى النوم؛ لأنه يخرج عن حال الاعتدال، فيخرجه ذلك عن الحكم بالعدل. ثم قال: (والقصد في الفقر والغنى)، والمحك الحقيقي -عباد الله- في الإنفاق أن يكون مقتصداً في الغنى، فيقتصد إذا بسط الله عز وجل عليه، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، فينبغي للعبد أن يكون مقتصداً في الفقر والغنى.

شرح قوله في الحديث (وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع)

شرح قوله في الحديث (وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع) وقوله: (وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع)، والنعيم الذي لا ينفد قيل: هو نعيم الجنة، كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه)، فما عند الله عز وجل لا ينقص بالعطاء، لو أعطى الله عز وجل للأولين والآخرين جميع ما يؤملونه ويطلبونه منه عز وجل فإنه لا ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، فما عند الله عز وجل باق، وفاكهة الجنة، {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:33]، أي: إنها إذا أخذ العبد منها شيئاً خرج مكانها مثلها، فهي لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولا تختفي في فصل وتظهر في آخر، بل هي على الدوام موجودة في جنة الله عز وجل، فقيل: هذا هو النعيم الذين لا ينفد، ولما أنشد لبيد بن ربيعة العامري قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل قال له عثمان بن مظعون: صدقت. فقال: وكل نعيم لا محالة زائل قال: كذبت؛ فإن نعيم الجنة لا يزول. (وأسألك نعيماً لا ينفد)، قيل: النعيم الذي لا ينفد هو نعيم القلب بالله عز وجل وبطاعته عز وجل. قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل. فالنعيم بطاعة الله عز وجل لا ينفد؛ لأن الطاعة ينشرح بها الصدر، ويفرح بها القلب، ويأنس بها العبد بالرب عز وجل، بخلاف الشهوات الدنيوية المحرمة، فإنها كطعام لذيذ مسموم من أكله تمتع به لحظات، ثم تكون عاقبته إما الموت وإما العطب وإما المرض، أما النعيم بطاعة الله عز وجل فهو النعيم الذي لا ينفد. قال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف. وقال بعضهم: والله إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كما نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب. وقال شيخ الإسلام: ما يصنع بي أعدائي وأنا جنتي وبستاني في صدري؟! إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله. وكان يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. فقيل: هذا هو النعيم الذي لا ينفد؛ لأنه نعيم متصل، يتصل فيه نعيم الدنيا بنعيم الآخرة، فللمؤمنين حياة طيبة في الدنيا ينقلبون منها إلى سعادة أبدية سرمدية في جنة الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]، فهم في سعادة بطاعته عز وجل في الدنيا، ثم ينقلبون بعد ذلك إلى قبورهم وهي روضة من رياض الجنة، ثم إلى النعيم الأكبر في الآخرة. وأما الفجار فهم في ضنك المعاصي، وفي الهم والغم والحزن وضيق الصدر، ثم ينتقلون من ذلك إلى ضيق اللحود، وإلى حفرة من حفر النار، ثم يحشرون بعد ذلك في العذاب الأكبر والعياذ بالله. وقوله: (وقرة عين لا تنقطع) وهي قرة العين بالله عز وجل وبطاعته عز وجل، فمن قرت عينه بالله عز وجل قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله عز وجل تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فقرة العين بالله عز وجل هي قرة العين بطاعته عز وجل وهي قرة العين التي لا تنقطع، وهي السعادة التي لا منتهى لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، أي: من أمور الدنيا الدنية حبب إليه النساء والطيب، وما كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم -أي: منتهى راحته وسعادته- في شيء من الدنيا، بل كانت في أم العبادات وفي سيدة الطاعات، (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة، عملاً بقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وكان يقول: (أرحنا بها يا بلال!)، وكان يصلي حتى تتورم ساقاه، وتتفطر قدماه، فيقال له: (أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، فقد كان سيد الشاكرين والصابرين. وكان يواصل وينهى عن الوصال، أي: يصوم اليومين والثلاثة أو أكثر دون إفطار. وكان للصحابة همة عالية في طاعة الله عز وجل، فقد كانوا يتابعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكان ينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال نهي شفقة عليهم، فيقولون: (إنك تواصل، فيقول: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني). لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد فحبه لله عز وجل وشغله به عز وجل يغنيه عن كثير من الطعام والشراب، وكلما ازداد إيمان العبد وحبه لله عز وجل فإنه يستغني عن الأسباب الأرضية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معيّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فالمؤمن يكفيه القليل من الطعام،

شرح قوله في الحديث (وأسألك لذة النظر إل وجهك ولا فتنة مضلة)

شرح قوله في الحديث (وأسألك لذة النظر إل وجهك ولا فتنة مضلة) الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن كثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين). هذه الكلمات التي كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفجر بالخير. وقوله: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) يسأل الله عز وجل لذة النظر إلى وجهه الكريم، وهذا أعلى نعيم أهل الجنة، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20]. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فالحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله عز وجل. ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يرى القمران هذا تواتر عن رسول الله لم ينكره إلا فاسد الإيمان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا -وأشار إلى القمر ليلة البدر- لا تضامون في رؤيته)، وفي رواية: (لا تضارون في رؤيته)، أي: لا يزحم بعضكم بعضاً، كما أنكم لا تتزاحمون عند رؤية القمر، فمن بالإسكندرية ينظر إلى القمر، ومن بالقاهرة ينظر إلى القمر، ولا يحدث تضام ولا تضار عند رؤية القمر، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي؛ فإن الله عز وجل أجمل من كل شيء، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]، وأحاديث الرؤية هي أدلة على الفوقية؛ لأننا عندما ننظر إلى القمر ننظر إلى الأعلى، لا ننظر يميناً ولا شمالاً ولا أسفل منا، بل ننظر إلى أعلى، فنسأل الله عز وجل لذة النظر إلى وجهه الكريم، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فالنظر -عباد الله- إلى وجه الله عز وجل أعلى نعيم أهل الجنة، تتنضر الوجوه بالنظر إلى الله عز وجل، فنسأل الله تعالى أن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم. وقوله: (والشوق إلى لقائك)، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، فمن صام في الدنيا عن شهواته أدركها غداً بعد وفاته، ومن تعجل ما حرم عليه من لذاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، فتأهب واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك، واجعل الفطر عند الله يوم وفاتك. وقوله: (في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) الضراء المضرة هي شدة الفقر أو طول السجن أو شدة المرض، فهذا قد يفتن العبد عن دينه، هذه الضراء المضرة. (ولا فتنة مضلة)، الفتنة هنا المراد بها البدعة، أن يبتعد العبد عن طريق الله عز وجل، أو عن طاعة الله عز وجل بفتنة من فتن الشبهات.

شرح قوله في الحديث (اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين)

شرح قوله في الحديث (اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) ثم ختم هذا الكلام الطيب بقوله: (اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، وهذا يدل على أن العبد إذا تزين بزينة الإيمان فإن هذا يكون أدعى إلى أن يكون هادياً مهدياً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا وخير صيام المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا فـ (الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)، فينبغي للعبد -عباد الله- أن يتزين بزينة الإيمان، وهذه الزينة تكون نتيجة لامتلاء قلبه بالإيمان، حتى أشرقت جوارحه ووجهه كما يقولون، والأولياء هم: الذين إذا رأوا ذكر الله عز وجل؛ لأنهم أقبلوا على الله عز وجل فأقبل الله عز وجل عليهم، ومن أقبل الله عز وجل عليه أضاءت ساحاته، واستنارت جوانبه. وكان أيوب السختياني سيد شباب أهل البصرة في زمن التابعين إذا خرج ورآه أهل السوق سبحوا وهللوا وكبروا؛ لما يرون عليه من آثار العبادة والإقبال على الله عز وجل. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. ولا شك أن صلاح الظاهر يكون نتيجة لصلاح الباطن، وهو يعكس صلاح الباطن، قال عمر رضي الله عنه: من أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه. فينبغي على العبد أن يتزين بزينة الإيمان. ومن زينة الإيمان كذلك: أن يلتزم بالهدي والسمت النبوي، وأن يلتزم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا أيضاً من زينة الإيمان، فينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يتزينوا بزينة الإيمان؛ حتى ينفع الله عز وجل بدعوتهم، فلا يكون الداعية خارجاً بمظهره وبأقواله وبأعماله عن شرع الله عز وجل ثم يرجو أن يهدي الله عز وجل به، وأن يفتح به قلوب العباد، فهذه الكلمات المباركات من النبي صلى الله عليه وسلم تجمع خير الدنيا والآخرة. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم اهدنا واهد بنا، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من العلمانيين والمنافقين، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين. اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية. اللهم اهد شباب المسلمين، واهد شيوخ المسلمين، واهد أطفال المسلمين، واهد نساء المسلمين بالعفة والحجاب والحياء يا رب العالمين! اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، ورد المسلمين إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

شهر رمضان

شهر رمضان من حفظ الله عز وجل في حياته حفظه الله في دنياه وآخرته، وحفظ له إيمانه؛ إذ بيده كل شيء، وبيده النفع والضر سبحانه، وهو الكاتب لمقادير الخلائق قبل أن يخلقوا، ومن ثم لا يجوز للعبد أن يسأل أحداً من البشر ما ليس في مقدوره، ولا أن يستعين به في ذلك، بل يسأل ربه ويستعين به جل جلاله في كل أمره.

بيان إرشادات الحديث: (احفظ الله يحفظك)

بيان إرشادات الحديث: (احفظ الله يحفظك) الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. روى الترمذي وغيره عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). هذا الحديث عباد الله! وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ومن خلاله ينصح الأمة كلها. قال أحد العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني حتى كدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه: (احفظ الله يحفظك) فالجزاء دائماً من جنس العمل، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وكما قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) فمن حفظ حدود الله عز وجل وحفظ حقوقه، وحفظ أوامره ونواهيه حفظه الله عز وجل، ومن ضيع تقوى الله عز وجل ولم يحفظ حدوده فقد ضيع نفسه.

حفظ الله للعبد يشمل دينه ودنياه وجوارحه

حفظ الله للعبد يشمل دينه ودنياه وجوارحه قوله: (احفظ الله) أي: احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، والحفظ نوعان: أما النوع الأول: أن يحفظ الله عز وجل على العبد دنياه، وأن يحفظ الله عز وجل على العبد جوارحه، وأن يمتعه بسمعه وبصره وقوته، ويحفظ أولاده. وثب أحد العلماء وثبة شديدة وكان قد تجاوز المائة فعوتب على ذلك فقال: جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله عز وجل علينا في الكبر. وقال سعيد بن جبير لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك، متأولاً قول الله عز وجل: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، فصلاح الآباء يكون سبباً في حفظ الأبناء، وقد يكون حفظ الله عز وجل بشيء تكرهه النفوس لفقر أو لسجن أو لمرض، نسأل الله تعالى العافية، فيتضرر العبد بذلك وما هو إلا حفظ الله عز وجل كما ورد في بعض الآثار: (إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، وإني إن أسقمته أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم وإني إن أصححته أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى وإني إن أفقرته أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإني إن أغنيته أفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم إني عليم خبير). فالله عز وجل قد يبتلي العبد ببلاء ويكون هذا البلاء هو عين النعمة وعين الحفظ للعبد، وإن العبد ليتهيأ للإمارة ويتهيأ للأمر من أمر الدنيا فالله تعالى يقول لملائكته: (اصرفوه عنه فإني إن يسرته له أدخلته النار) ويظل العبد يتبرم وما هو إلا حفظ الله عز وجل، فهذا النوع الأول من الحفظ عباد الله، أن يحفظ الله عز وجل على العابد جوارحه، وأن يمتعه بسمعه وبصره وقوته، وأن يجعل ذلك الوارث منه. النوع الثاني من الحفظ عباد الله: أن يحفظ الله عز وجل للعبد إيمانه؛ كما قال الله عز وجل في حق يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، وكما قيل في قول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] قالوا: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار. فهذا حفظ الله عز وجل للعبد جوارحه، ويحفظ له قوته وأولاده، ويحفظ له دينه حتى يموت وهو متمسك بالإسلام: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) أي: تجده معك.

معية الله عز وجل لمن حفظه

معية الله عز وجل لمن حفظه من حفظ حدود الله عز وجل وحفظ أوامره ونواهيه كان الله عز وجل معه، وهذه هي معية التأييد والنصرة والتسديد وإجابة الدعاء، وهي المعية الخاصة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو بكر: (لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما). قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. وكما قال عز وجل لهارون وموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، أي: بتأييدي ونصري وبسماع دعائكما. وهذه المعية الخاصة عباد الله! بخلاف المعية العامة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، هذه هي المعية العامة عباد الله! فالجميع تحت سمع الله عز وجل وتحت بصره، وهذه المعية العامة عباد الله! تستوجب من العبد الحذر من الله عز وجل والخوف منه ومراقبته. أما معية التأييد والنصرة والتسديد فتستوجب من العبد أن يستغني بالله عز وجل، وأن يتقوى ويستأنس بالله عز وجل. يذكر أن أحد العلماء كان يجلس وحده ويكثر من الخلوة، فقيل له: ألا تستوحش وحدك؟ قال: كيف ذلك وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟ فهذه هي المعية الخاصة معية الأنس ومعية التأييد ومعية النصرة.

سؤال الله والاستعانة به

سؤال الله والاستعانة به (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) فالعبد لا يجوز له أن يسأل غير الله عز وجل؛ لأنه ليس هناك أحد قادر على جلب جميع المصالح ودفع جميع المضار إلا الله عز وجل. قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، فالله تعالى مالك خزائن السملوات والأرض، وهو وحده القادر على جلب النفع ودفع الضر، ومن دون الله عز وجل من الآلهة الباطلة لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ضراً فضلاً عن أن يدفعوا عن غيرهم ضراً، أو يجلبوا لأنفسهم أو لغيرهم نفعاً، فهم عاجزون: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. فإذا سألت فاسأل الله، والسؤال عباد الله! إظهار نقص وفقر وذل وحاجة، والله عز وجل يريد من عبده المؤمن ألا يظهر نقصه وفقره وحاجته إلى غير الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]). والله عز وجل غني كريم يحب من العباد أن يسألوه، وأن يطلبوا قضاء الحوائج منه سبحانه؛ لأنهم فقراء محاويج، ولأنهم مجبولون على الشح وعلى حب المال وحب الخير، فإذا سألت ابن آدم فإنه يغضب من ذلك، وإذا لم تسأل الله عز وجل يغضب، كما في الحديث: (من لم يسأل الله يغضب عليه). كان أحد الناس يتردد على بعض الملوك فنصحه أحد العلماء وقال: يا هذا! تذهب إلى من يسد دونك بابه ويخفي عنك غناه، ويظهر لك فقره، وتدع من يفتح لك بابه ويظهر لك غناه، ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب قال: (وإذا استعنت فاستعن بالله)، خلق الله العبد ضعيفاً، ومن طبيعته أن يستعين بغيره؛ فإذا استعان بالمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق فهذا لا ينافي التوحيد، ولكن أن يستعين بمخلوق في أن يشفي له مريضه أو يرد له غائبه، أو يهدي له ضاله، فهذه استعانة شركية، فالاستعانة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل استعانة شركية.

النفع والضر بيد الله عز وجل

النفع والضر بيد الله عز وجل (واعلم أن الأمة لو اجتمعت أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). وهذا مدار الوصية عباد الله! فلو علم العبد أن الأمر كله لله عز وجل، وأن نواصي العباد بيده سبحانه: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، وعلم أن خزائن السماوات والأرض بيد الله عز وجل، وعلم أن مقادير الخلائق بيد الله عز وجل؛ فعند ذلك لا يسأل إلا الله، ولا يستعين إلا بالله عز وجل، وعند ذلك يحفظ حدود الله عز وجل وحقوقه وأوامره ونواهيه، فإذا اقتنع العبد وأيقن أن الأمر كله بيد الله، وأن الخلق ملك لله عز وجل، وأن الله عز وجل له الأمر وله النهي وله الحكم؛ فعند ذلك لا يسأل إلا الله، ولا يستعين إلا بالله عز وجل، ولن يطلب الرزق إلا من الله عز وجل، ولا يطلب مغفرة الذنوب إلا منه سبحانه، كذلك لا يطلب الهداية إلا منه سبحانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)، هذا فيه إشارة إلى أن المقادير قد كتبت منذ أزمنة متطاولة؛ ولطول هذه المدة جفت الصحف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، وكما ورد في الحديث: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة). فالله عز وجل يعلم قبل أن يخلقنا متى يولد الواحد منا ومتى يرزق ومتى يموت، وهل هو من أهل الجنة أو هو من أهل النار والعياذ بالله، وكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال صلى الله عليه وسلم: (رفعت الأقلام وجفت الصحف). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

شهر رمضان أيام معدودات آخره أفضل من أوله

شهر رمضان أيام معدودات آخره أفضل من أوله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! كنا بالأمس القريب ندعو ونبتهل ونقول: اللهم بلغنا رمضان! ونحن عباد الله الآن نستعد لتوديع هذا الشهر الكريم، فهو كما قال الله عز وجل: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، مع أن الشهر عباد الله! تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون يوماً، إلا أن الأزمنة الشريفة والأوقات الطيبة تمر سريعاً، فهذا الشهر هو شهر البركة وشهر الرحمة، ولا ندري هل نعمّر حتى ندرك موسماً آخر من مواسم المغفرة والرحمة. أتترك من تحب وأنت جار وتطلبهم وقد بعد المزار تركت سؤالهم وهمو حضور وترجو أن تخبرك الديار فنفسك لم ولا تلم المطايا ومت كمداً فليس لك اعتذار يا شهر رمضان! ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى ساعة للوداع تطفي من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام كل ما تخرق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق. عسى وعسى من قبل وقت التفرق إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي فيجبر مكسور ويقبل تائب ويعتق خطاء ويسعد من شقي عباد الله! كل زمان شريف فآخره أشرف من أوله، فالليل أشرف من النهار، وآخر الليل أشرف من أول الليل، فإذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا جل وعز إلى سماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله فيقول: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟).

الحث على تحري العشر الأواخر من رمضان

الحث على تحري العشر الأواخر من رمضان كذلك هذا الشهر الكريم عباد الله! كله بركة وخير ورحمة، ولكن آخره أشرف من أوله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر من رمضان بأنواع من العبادات كما تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله) وشد المئزر قيل: علامة على الجد والاجتهاد في العبادة. والصحيح: أن شد المئزر علامة على اعتزال النساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، والمعتكف ممنوع من مباشرة النساء، كما قال الله عز وجل: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فالمباشرة تفسد الاعتكاف، فكان يشد المئزر، وما ذلك إلا لأن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليل رمضان وقال: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187]، أباح لهم أن يستمتعوا بالنساء في ليالي العشرين الأولى من رمضان، ثم ندبهم إلى الاجتهاد في تحري ليلة القدر وطلبها، وأن لا يظلوا في اللهو المباح، فيضيع عليهم ثواب هذه الليلة التي تساوي عمر الإنسان، والتي لو قامها العبد إيماناً واحتساباً لغفر الله عز وجل له ما تقدم من ذنبه. قال الإمام مالك رحمه الله في موطئه: (بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته) أي: خشي ألا يبلغوا من الدرجة ومن الفضل ما بلغته الأمم السابقة، قال: (فأعطاه الله عز وجل ليلة القدر خير من ألف شهر)، أي: خير من أكثر من ثمانين سنة، فمن حرم خيرها فقد حرم. فينبغي على العبد أن يتحرى العشر الأواخر من رمضان، فإنه قد مضى منها شطرها، فعلينا أن نجتهد فيما بقي. والسبع الأواخر من رمضان كذلك أشرف من أول هذه العشر، فينبغي أن يجتهد العبد في طلب ليلة القدر، فمن العبادات التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم هذه العشر اعتزال النساء، ومن ذلك أنه كان يحيي ليله، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل طوال السنة، كما أمره الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:1 - 5]. فكان يقوم كل يوم في السنة ثلث الليل أو نصف الليل، يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً، فقوله: (أحيا ليله)، قيل: أحيا معظم الليل، أي: كان يحيي معظم الليل في رمضان ويطيل قيامه. قوله: (وأيقظ أهله) أي: للقيام، فهذه عبادات خص بها النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان.

مشروعية الاعتكاف وزكاة الفطر

مشروعية الاعتكاف وزكاة الفطر الاعتكاف: هو قطع العلائق عن الخلائق، والاشتغال بخدمة الملك الخالق عز وجل، أن يلزم العبد المسجد للصلاة والذكر والدعاء والبكاء، ولا يخرج إلا لحاجة، أي: للبول والغائط، واختلفوا فيما سوى ذلك، فإذا خرج لغير حاجة بطل اعتكافه بإجماع العلماء، فينبغي لمن أراد أن يعتكف وأن ينال ثواب هذه العبادة ألا يخرج من المسجد إلا لحاجة شديدة. كذلك في العشر الأواخر من رمضان شرعت زكاة الفطر طهرة للصائم، وهي صاع من طعام، أي: من بر، أو من قمح أو من شعير أو من أقط -وهو اللبن المجفف- أو من تمر أو من زبيب، فهذه هي المنصوص عليها، وقاس العلماء عليها غيرها مما يقتات ويدخر، كالأرز والعدس وغير ذلك. وجمهور العلماء على عدم جواز إخراج القيمة، فإما أن يشتري العبد لنفسه هذه الأصناف أو صنفاً من هذه الأصناف، ويوزعها على من يقبلها، أو يوكل من يشتري له ذلك، أما أن يخرجها نقوداً، فإن الناس -خاصة في هذه الأزمان المتأخرة- لا يحسنون إنفاق هذه النقود، فقد ينفقونها في معصية الله عز وجل فضلاً عن أن العبادات على التوقيف، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زكاة الفطر صاع من طعام أو من شعير أو من أقط أو من تمر أو من زبيب)، فتكون هذه هي الزكاة المطلوبة. وتخرج الزكاة في المكان الذي فيه الإنسان ببدنه، ويمر عليه عيد الفطر وهو فيه، فمن كان بمصر تخرج في مصره، ومن كان في بلد آخر يمر عليه عيد الفطر وهو فيه تخرج في هذا المكان؛ لأن زكاة الفطر وقتها قبل صلاة العيد، ولكن رخص بعض السلف توسعة على الناس أن تخرج قبل العيد بيوم أو يومين، فإذا خرج الإمام لصلاة العيد فإن وقت زكاة الفطر يكون قد انتهى بذلك. هذه عبادات شرعت في نهاية هذا الشهر الكريم، فيا أصحاب الذنوب العظيمة! الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض ولا لها قيمة، من يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة والمنحة الجسيمة، يا من أعتقه مولاه من النار! إياك أن تعود بعد أن صرت حراً من رق الأوزار، أيبعدك مولاك عن النار وأنت تقترب منها؟! أينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها؟! اللهم أحسن خاتمتنا، واختم لنا هذا الشهر الكريم بخير يا رب العالمين! اللهم اجعل خير أيامنا في هذا الشهر خواتمه، اللهم اقبل منا ومن المسلمين الصيام والقيام وتلاوة القرآن. اللهم اجبر كسر المسلمين بفراق هذا الشهر، اللهم اجبر كسرنا بفراق هذا الشهر، اللهم إنا نسألك أن توفقنا لرمضان سنين عديدة وأزمنة مديدة، وأن تمتعنا بالطاعة والعافية، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم من كادنا فكده يا رب العالمين! ومن مكر بنا فامكر به يا رب العالمين! اللهم إنا ندرأ بك في نحور أعدائك، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم لا ينسلخ هذا الشهر الكريم إلا وأمة الإسلام ترفل في أثواب العز والكرامة، اللهم ارفع راية الإسلام في كل مكان يا رب العالمين! فوق كل أرض وتحت كل سماء يا رب العالمين! اللهم اقبل عمرة إخواننا المعتمرين، واجبر من لم يتمكن من الخروج يا رب العالمين! وافتح عليه في الطاعة والعبادة ما يعوضه أحسن العوض. اللهم فك أسر إخواننا المأسورين، وسائر المأسورين في سجون العالم يا رب العالمين! من المسلمين، اللهم فك أسر إخواننا وسائر المسلمين يا رب العالمين! اللهم فك أسر المأسورين، وفرج كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم اهد شباب المسلمين، واهد أطفال المسلمين، واهد نساء المسلمين، اللهم زينهم بالعفة والحجاب والحياء يا رب العالمين! اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

طريق التوبة

طريق التوبة إن العبد في هذه الحياة بحاجة إلى التوبة في كل وقت، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوب في اليوم مائة مرة، والتوبة قد أمر الله بها جميع الناس، وحثهم عليها وهو سبحانه يفرح بتوبة عبده ورجوعه إليه، والمسلم يستعد للقاء الله سبحانه بالتوبة النصوح التي يكون فيها صادقاً مع الله حتى يقبل عند ربه سبحانه.

الحث على المبادرة بالتوبة

الحث على المبادرة بالتوبة الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الأخلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه. ثم أما بعد: عباد الله! قال بعضهم: المعاصي سلسلة في عنق العاصي لا يفكه منها إلا الاستغفار والتوبة. وقال بعضهم: أرقهم قلوباً أقلهم ذنوباً. وقال بعضهم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة. عباد الله! مصيبتنا في التفريط واحدة: إنا ليجمعنا البكاء وكلنا يبكي على شجن من الأشجان نحن في شهر ليس شهر الصيام والقيام والقرآن فحسب، ولكنه شهر التوبة وشهر الرجوع إلى الله عز وجل؛ لأنه شهر تفتح فيه أبواب السماء، وتفتح فيه أبواب الرحمة، وتفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران، وتسلسل فيه الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر. ثم إن النفس تنكسر بالصيام، ويطوع الصيام النفس الأمارة بالسوء للنفس المطمئنة، فمن لم يستطع قهر نفسه في رمضان، ومن لم يستطع أن يلزم نفسه تقوى الله عز وجل وطاعة الله عز وجل في رمضان فمتى يستطيع أن يقهر نفسه؟! ومتى يستطيع أن ينتصر على نفسه؟! ومتى يستطيع أن يطوع نفسه لله عز وجل؟! والتوبة باب مفتوح بين العبد وبين ربه، فتح الله عز وجل هذا الباب العظيم، ودعا كل الناس للولوج من هذا الباب، فدعا الله للولوج من هذا الباب كل طوائف البشر، دعا الله عز وجل المنافقين، ودعا الله عز وجل المشركين، ودعا الله عز وجل اليهود والنصارى، ودعا الله عز وجل المسرفين على أنفسهم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما دعا الله عز وجل المؤمنين الصالحين، دعا الله عز وجل كل العباد للدخول من باب التوبة، فدعا إلى ذلك المنافقين فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146]. ودعا المشركين فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. كما دعا الله عز وجل اليهود والنصارى فقال: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]. والذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]، فقال عز وجل بعد أن ذكر حالهم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]. كما دعا الله عز وجل إلى التوبة المسرفين على أنفسهم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. كما دعا الله عز وجل المؤمنين الصادقين، فنزل قول الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فهذه آية مدنية -أي: نزلت بعد الهجرة- أمر الله عز وجل فيها الصحابة الكرام بالتوبة بعد الإيمان والهجرة والجهاد والصبر، وعلق فلاحهم بالتوبة، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَي

شروط التوبة

شروط التوبة والتوبة لها شروط ستة: الشرط الأول: أن تكون خالصة لله عز وجل؛ فإن التوبة عبادة، بل هي من أحب العبادات إلى الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته، فأيس منها، فأتى شجرة فجلس في ظلها، وقال: أجلس هنا حتى أموت). والدابة والراحلة عليها طعامه وشرابه عليها أسباب الحياة: (وهو في أرض صحراء مهلكة، فبينما هو كذلك إذا هو بها أمامه فأمسك بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح). فالتوبة عبادة تفتقر إلى ما تفتقر إليه سائر العبادات من الإخلاص لله عز وجل. الشرط الثاني: أن يقلع العبد عن الذنوب، فتستحيل التوبة مع المداومة على مقارفة الذنوب. الشرط الثالث: أن يندم على فعلها، والندم توبة، والذنب إما أن يحرق بنار الندم في الدنيا، أو يحرق بنار الآخرة. الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود. وقال بعض العلماء: إن عاد إلى الذنب مرة ثانية تبين بأن توبته ليست صادقة. والصحيح أن العزم على عدم العودة هو شرط التوبة وليس الشرط عدم العودة؛ لأنه كم من محب للصحة يأكل ما يضره. وقيل للحسن: الرجل يعمل الذنب فيستغفر ثم يعود؟ فقال الحسن: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملوا من الاستغفار. أي: أن العبد لو عزم على عدم العودة إلى الذنب ثم عاد إليه مرة ثانية، ثم علم أن الله لن يقبل توبته؛ لأنه عاد إلى الذنب لكان هذا يأساً من رحمة الله عز وجل، ولم يكن للعبد عند ذلك إلا سبيل الشيطان وسبيل المعاصي، فينبغي أن يعزم العبد عزماً أكيداً على عدم العودة. الشرط الخامس: رد المظالم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات)، لا يكون التعامل بالعملة الصعبة، لا بالريال السعودي، ولا بالدولار، ولكن بالحسنات والسيئات في وقت لا يستطيع العبد أن يزيد في حسناته حسنة، ولا أن ينقص من سيئاته سيئة، فينبغي أن يرد العبد المظالم إلى أهلها، (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات). الشرط السادس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه التوبة، قبل إغلاق باب التوبة، ويغلق باب التوبة على الخلق كلهم إذا طلعت الشمس من مغربها، فإذا جاء: {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها). وهي علامة كبرى من علامات الساعة، فإذا طلعت الشمس من مغربها أراد الناس كلهم التوبة، إذا رأوا الشمس تشرق من جهة المغرب فهذه علامة على اختلال النظام الكوني، وعلى قرب قيام الساعة، ولكن يغلق عند ذلك باب التوبة، ثم تخرج دابة من الأرض تكلم الناس، وتسم المؤمن على جبهته بأنه مؤمن، وتسم الكافر بأنه كافر، فمن لم يدخل في الإيمان قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل خروج دابة الأرض لا ينفعه الإيمان؛ لأن باب التوبة قد أغلق، باب التوبة الذي يظل مفتوحاً للخلق كلهم طوال الحياة الدنيا يغلق، وعند ذلك، {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. كذلك يغلق باب التوبة أمام كل عبد إذا بلغت روحه الحلقوم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، ما لم يصل إلى الغرغرة وإلى الحشرجة، فيظل العبد في غيه وفي إعراضه وفي معاصيه، ويسوف بالتوبة ويؤجل التوبة، وأكثر الناس يطلبون التوبة في الوقت الذي يغلق فيه باب التوبة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، فسوى الله عز وجل بين من لم يتب عند موته وبين من يموت على غير توبة، فقال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18]. وهذا فرعون أراد التوبة عندما عاين الغرق فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، فرد الله عز وجل عليه فقال: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ ا

علامات فساد التوبة وعلامات صحتها

علامات فساد التوبة وعلامات صحتها هناك علامات للتهمة في التوبة، وعلامات لصحة التوبة، فمن علامات التهمة: - استمرار الغفلة وانتكاس القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة، وتذكر حلاوة مواقعته. - ومن ذلك: ألا يستحدث العبد أعمالاً صالحة بعد التوبة، فإذا وجد العبد في توبته هذه العلامات؛ فإنه يشك في توبته، وينبغي أن يعلم أن توبته تحتاج إلى توبة. - ومن ذلك: طمأنينة النفس، فكأنه قد علم بأن توبته قد قبلت، وأن حوبته قد محيت، ولم يبق إلا أن تقوم القيامة حتى يعطى منشوراً بالأمان، فهذه علامات التهمة. وأما علامات صحة التوبة فمنها: أن يستحدث العبد أعمالاً صالحة بعد التوبة، فهي التي تصدق التوبة وتشير إلى أن التوبة كانت توبة صادقة، قال عز وجل {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، أي: توبة صادقة وتوبة صحيحة. ومن ذلك: أن يظل العبد على الخوف حتى تنزل عليه الرسل بقول الله عز وجل: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. فهناك يزول خوفه، فإنما يقال ذلك لمن طال خوفه في الدنيا، وعظم حزنه على ما فرط منه، أما من لم يخف الله عز وجل، ومن لم يحزن على ما فرط منه فلا يقال له شيء من ذلك. من علامات الصحة كذلك: أن يتقطع قلب العبد خوفاً من الله عز وجل، قال الله عز وجل: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:110]. قال سفيان بن عيينة تقطعها بالتوبة، ومن لم يتقطع قلبه بالتوبة في الدنيا تقطع قلبه إذا عاين الحقائق، وإذا عاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين. ومن علامات الصحة كذلك: كسرة تصيب قلب العبد فتتطرحه على باب الله عز وجل ذليلاً، ويكون حاله كحال عبدا أبق وهرب من سيده بعد كثرة جناياته ومخالفاته، فأحيط به وأعيد إلى سيده وهو يعلم أنه لا حياة له، ولا سعادة له إلا في طاعة سيده، وهو لا يستغني عن سيده طرفة عين، فلله ما أحلى قوله عند ذلك: أسألك بقوتك وضعفي إلا رحمتني، أسألك بغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخائف الضرير، يا من ذل لك قلبه، وخشعت لك جوارحه: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

أقسام الناس في التوبة

أقسام الناس في التوبة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. الناس في التوبة على أقسام: فمن الناس من لا يوفق لتوبة، فيحيا حياته كلها لا يوفق للحظة صدق واحدة مع الله عز وجل ومع نفسه فيتذكر ذنوبه، ويتوب إلى الله عز وجل، ويرجع إلى الله عز وجل ويستقيم على طاعة الله عز وجل. فهو لا يعرف لماذا خلق؟! وما هي الوظيفة التي أنيطت به؟ ولا يعرف إلا المعاصي والشهوات، فهو يأكل من أجل أن يعيش، ويعيش من أجل أن يأكل، لا هدف له في حياته، لا يعبد الله عز وجل بأمره ونهيه، ولا يسعى لإعزاز دين الله عز وجل ورفع راية الله عز وجل، فيحيا في الدنيا حياة البهائم، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]. لعله ما دخل في حياته كلها بيت الله عز وجل، بل لعله لا يدخل إلا مرة واحدة، ولا يدخل على قدميه ولكن محمولاً على خشبته، ولا يدخل من أجل أن يصلي، بل من أجل أن يصلى عليه، فهذا الدخول لا ينفعه؛ لأنه ما دخل بإرادته، كما إذا وجهوه بعد موته إلى القبلة لا ينفعه كذلك؛ لأنه كان في حياته إلى غير القبلة، كان لا يتوجه للقبلة في حياته، فكيف ينفعه إذا مات أن يوجه إلى القبلة وهو بغير إرادة؟! وهو ما توجه إلى قبلة الله عز وجل بإرادته، فكيف ينفعه أن يوجه إلى القبلة بعد موته؟! فهؤلاء لا يحيون الحياة التي يحبها الله عز وجل، والتي يريدها الله عز وجل لهم، بل يعيشون حياة البهائم، لم يكونوا في الدنيا جمادات لا تحس، فكذلك في الآخرة، قال عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]، يأتيه الهلاك والعطب والبوار والدمار من كل مكان وما هو بميت. وأين يذهب وهو في دار القرار؟ ولمن يترك هذا العذاب الذي قد تسبب فيه؟ فالذين يصدون عن سبيل الله عز وجل، والذين يحاربون أولياء الله عز وجل، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين، والذين يعرضون عن طاعة رب العالمين يقولون يوم القيامة كما أخبر الله عز وجل عنهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66]، يندمون حين لا ينفع الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]. فالعبد يندم حين لا تنفع الندامة، ويطلب الرجوع إلى الدنيا وقد فنيت الدنيا، ولم يبق إلا ما بعد يوم القيامة، فينبغي للعاقل أن ينتبه لنفسه، وأن يفكر في أحواله، وأن يقف مع نفسه لحظة صدق هل هو مؤمن بالله عز وجل مؤمن بالآخرة؟ لحظة واحدة قد تكون سبباً للسعادة الأبدية في جنة الله عز وجل، لحظة صدق واحدة يجلس فيها العبد مع نفسه ويتفكر في ذنوبه السالفة وجناياته الماضية، فيصلح الماضي كله بتوبة يتوب فيها إلى الله عز وجل، ويصلح الحاضر بعمل صالح ويصلح مستقبلة بالعزيمة على الاستمرار على طاعة الله عز وجل. ومن لم يعتبر بغيره صار عبرة لغيره، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه وصار عبرة لغيره. هذه حالة الأشقياء، وهي حالة أكثر الخلق، فأكثر الخلق معرضون عن طاعة الله، معرضون عن شريعة الله عز وجل، مستمرون على معصية الله عز وجل، يقولون سوف نتوب، وهذا التسويف يطول بهم، فلا يفيقون عباد الله إلا وهم في عسكر الموتى، نادمين بين الخاسرين، فينبغي على العبد أن يستدرك ما فات، وأن يرجع إلى رب الأرض والسماوات. كثيراً ما يموت أهل المعاصي وهم متلبسون بمعاصيهم، فيكون ذلك خزياً لهم في الدنيا مع خزي الآخرة وعذاب الآخرة، وكثيراً ما يحدث ذلك لشارب الخمر. أتأمن أيها السكران جهلاً بأن تفجأك في السكر المنيه فتضحي عبرة للناس طراً وتلقى الله من شر البريه هذه حالة الأشقياء عباد الله! أن يستمر العبد على المعاصي والذنوب حتى يرجع إلى الله عز وجل ولا يكون له حيلة ولا وسيلة، إن الذي يخسر شيئاً من ماله يتحسر عليه، والذي يخسر بعض أولاده يحزن على ذلك ويتحسر، والذي يفقد بعض أعضائه يتحسر على ذلك، فيكف إذا خسر العبد نفسه؟ وكيف إذا كان نصيبه النار؟ خسروا أنفسهم فصاروا في النار خالدين فيها، لا ينفعهم جاههم، ولا ينفعهم مالهم ولا تنفعهم عشيرتهم، ولا ينفعهم شيء من الدنيا، ولو ملك ملء الأرض ذهباً وأرد أن يفدي نفسه بذلك ما قبل منه، لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً ولو أفتدى به، وكان يسهل عليه في الدنيا أن يسلك طريق الله عز وجل، وأن يستقيم على شرع الله

عمر بن عبد العزيز

عمر بن عبد العزيز إن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا عبثاً ولم يتركنا سدى، بل جعل لنا موعداً يجمعنا فيه للفصل والحكم بيننا، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وطوبى لعبد خاف الله واتقى وآثر الآخرة على الدنيا.

وصية الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز لرعيته

وصية الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز لرعيته الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أيها الناس! إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السماوات والأرض، وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى وأتقى وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفه بعدكم الباقون؟ ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟ هذه كلمات لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، والإمام العادل الذي أقبلت عليه الدنيا بخيلها ورجلها فأعرض عنها رغبة في النعيم المقيم، ومجاورة رب العالمين، كان من أحسن الناس سيرة، وأطيبهم سريرة!

زهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وورعه

زهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وورعه إنه المجدد الأول لشباب الإسلام على رأس المائة الأولى، كما قال الإمام أحمد: إن الله عز وجل يقيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، فنظرنا في المائة الأولى فوجدنا عمر بن عبد العزيز، ونظرنا في المائة الثانية فوجدنا الإمام الشافعي. وتقول فاطمة بنت عبد الملك زوجة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: قد يكون في الناس من هو أكثر صلاة وصياماً من عمر بن عبد العزيز، ولكن لم أر في الناس أحداً أخوف لله عز وجل من عمر بن عبد العزيز. قال مالك بن دينار: تقولون مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أقبلت عليه الدنيا فأعرض عنها. ويقول مسلمة بن عبد الملك: دخلت على فاطمة فقلت لها: غيري قميص أمير المؤمنين - أي: عمر بن عبد العزيز وكان في مرض الوفاة - فقالت: نفعل إن شاء الله، ثم دخل في اليوم الثاني فقال: ألم آمركم أن تغيروا قميص عمر بن عبد العزيز؟! فقالت فاطمة: والله ما له قميص غيره. ويقول غلام لـ عمر بن عبد العزيز: دخلت على مولاتي - أي فاطمة بنت عبد الملك - فغدتني عدساً، فقلت لها: كل يوم عدس؟ فقالت: هذا طعام مولاك أمير المؤمنين. إنه خليفة المسلمين عباد الله! ولي الخلافة سنتان وخمسة أشهر غيَّر فيها منار الأرض، وملأ الأرض عدلاً بعد أن كانت قد ملئت ظلماً وجوراً.

الغاية من خلق الإنسان

الغاية من خلق الإنسان يقول رحمه الله: أيها الناس! إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى. قال الله عز وجل: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]، أيحسب الناس أن يتركوا سدى بلا حساب ولا عقاب؟ أو يتركهم الله عز وجل دون أن يأمرهم بأوامر وينهاهم عز وجل عن نواهي؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115 - 116]! إن الله عز وجل لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم، عرض الأمانة على السماوات والأرض فأبين وأشفقن منه إشفاقاً ووجلاً وقلن: ربنا إن أمرتنا فسمعاً وطاعة، وإن خيرتنا فعافيتك نريد لا نبغي بها بدلاً، وحملها الإنسان على ضعفه وعجزه عن حملها، وباء بها على ظلمه وجهله، فألقى أكثر الناس الحمل عن ظهورهم لشدة مئونته عليهم وثقله، وصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة، لا ينظرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم، ولا في قلة مقامهم في هذه الدنيا الفانية، وسرعة رحيلهم إلى الآخرة الباقية، فقد ملكهم باعث الحس، وغاب عنهم داعي العقل، وشملتهم الغفلة وغرتهم الأماني الباطلة والخدع الكاذبة، فخدعهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، فهم في شهوات الدنيا ولذات النفوس كيفما حُصِّلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، إذا بدا لهم حظ من الدنيا بآخرتهم صاروا إليه زرافات ووحداناً، ولم يؤثروا عليه فضلاً من الله ولا رضواناً: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]. عباد الله! إن الله عز وجل خلقنا من أجل أن نعرفه عز وجل بأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته، ومن أجل أن نعبد الله عز وجل وحده لا شريك له، قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

الحث على الاستعداد ليوم القيامة

الحث على الاستعداد ليوم القيامة قال رحمه الله: أيها الناس! إنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه. عباد الله! غفل الناس عن وظيفة حياتهم، وعن السبب الذي خلقهم الله عز وجل له، كما غفلوا عن المعاد الذي سيجمعهم الله عز وجل فيه، مع أن الله عز وجل ذكر لنا قربه فقال عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال عز وجل: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6 - 7]، وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] فقرَّب لنا يوم القيامة حتى جعله كغد، وأخبر عز وجل أن طول هذا اليوم خمسين ألف سنة، فقال عز وجل: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:4 - 7]. وقال عز وجل: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. وقال سبحانه: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. وقال: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة)؛ أي: لو أن العبد يجر على وجهه في طاعة الله، يؤذى في الله عز وجل ويعذب في الله عز وجل. الواحد منا لو تعرض لشيء قليل من البلاء يظن أنه قد استوجب الجنة، وأنه سوف يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب، ويشعر أنه ما بينه وبين الجنة إلا نزول ملك الموت. وهذا الظن -عباد الله- ظن فاسد: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة).

بيان عظم رحمة الله

بيان عظم رحمة الله قال رحمه الله: وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السماوات والأرض. خاب وشقي عبد لم تنله رحمة الله عز وجل التي وسعت كل شيء، كتب الله عز وجل في كتاب فهو عنده فوق العرش: (إن رحمتي سبقت غضبي)، وفي رواية: (تغلب غضبي)، وفي رواية: (غلبت غضبي). وورد أيضاً: (إن الله عز وجل خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، وأرسل في الخلق رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، واحتجز الله عز وجل ليوم القيامة تسعة وتسعين رحمة، فلو يعلم الكافر ما عند الله عز وجل من الرحمة ما قنط من رحمته أحد، ولو يعلم المؤمن ما عند الله عز وجل من العقوبة ما طمع بجنته أحد).

الخوف من الله سبب في النجاة يوم القيامة

الخوف من الله سبب في النجاة يوم القيامة قال رحمه الله: وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى. قال رجل للحسن البصري: ما نفعل بأقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا أن تطير؟ فقال له الحسن البصري: لأن تخوف حتى تدركك المآمن خير لك من أن تأمن حتى تدركك المخاوف. قال الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]. فمن خاف الله عز وجل في الدنيا أمنه الله عز وجل يوم القيامة، ومن أمن مكر الله عز وجل في الدنيا أخافه الله عز وجل يوم القيامة، وأدركته المخاوف يوم القيامة. وإنما يكون الخوف عباد الله! نتيجة لعلم العبد بالله عز وجل وبدين الله عز وجل، وبعلم العبد بعيوب نفسه وسيئات عمله، فكلما ازداد علم العبد بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته ازداد خوفاً من الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، وكما قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. قال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً، وكفى باغترار بالله عز وجل جهلاً. وقيل للإمام الشعبي: يا عالم، قال: إنما العالم من يخشى الله. فكل من علم عن الله عز وجل وأسمائه وصفاته ودينه يزداد خوفاً من الله عز وجل، فمن ثم غلب الخوف على الأنبياء والأولياء والعلماء، وغلب الأمن على الفراعنة الأطغياء، والكفرة والعوام والرعاع والطغام حتى كأنهم قد حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا سطوة العقاب، ولا نار العذاب، ولا بعد الحجاب: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].

من طلب الدنيا ترك الآخرة

من طلب الدنيا ترك الآخرة قال رحمه الله: وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى، وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة. من طلب الآخرة يترك الدنيا عباد الله، ومن طلب الدنيا ترك الآخرة، والله عز وجل جعل العباد مهيئين بفطرتهم للخير والشر، كما قال عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10]. وبين الله عز وجل للناس طريق الهداية وطريق الضلال، كما قال عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وهذه هداية البيان عباد الله. وكما قال عز وجل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17]، فالعبد مهيأ بفطرته للخير والشر، والله عز وجل أنزل الكتب وبعث الرسل فصار العباد كأنهم يختارون أحد شيئين: إما أن يشتروا الضلالة بالهدى، أو يشتروا الهدى ويبيعون الضلالة، لأن الهدى والضلال لا يجتمعان، قال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] فلما كان الإنسان ميسر إلى الأمرين بطبيعة الخلقة وبتيسير الله عز وجل وتبيين الله عز وجل للناس الخير من الشر، صار من يختار الهدى كأنه يبيع الضلالة، ومن يختار الضلالة كأنه يبيع الهدى، كما قال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16]؛ أي: فازوا بالتجارة الخاسرة والبائرة. {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] أي: إلى أساليب التجارة الناجحة. فطوبى لمن خاف لله تعالى وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة. الدنيا كلها عباد الله! لا تعدل عند الله عز وجل جناح بعوضة، ولو كانت تساوي جناح بعوضة ما سقى الله عز وجل منها كافراً شربة ماء. من تدبر حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وكيف أنهم كان يمر عليهم الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، وكان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثر الحصير في جنبه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها). وانظروا إلى أهل الكفر والعصيان والتمرد على دين الله عز وجل، كم عندهم من زينة الدنيا وزخرفها! قال عز وجل: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، وقال عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. فالمؤمن عباد الله! لا يطلب الدنيا ولا يسعى إلى الدنيا، قال عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. المؤمن عباد الله! همته أعلى من حطام الدنيا، فهو لا ينافس على حطامها ولا يسعى لشهواتها، بل هو يسعى إلى النعيم المقيم ومجاورة رب العالمين، هو يريد أن يزاحم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فباع قليلاً بكثير؛ لأن الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلاً، فالدنيا مثلها -عباد الله- كمثل قطعة الثلج، رخيصة الثمن، سريعة الذوبان، والآخرة كالجوهرة، غالية الثمن ومع ذلك فهي باقية، فالدنيا عباد الله! نسبتها إلى الآخرة لا شيء، قال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207]. لو أن العبد عاش في الدنيا في أعظم النعيم -عباد الله- ثم كانت نهايته وعاقبته النار -والعياذ بالله- لا يغني عنه ما وجده من نعيم الدنيا شيئاً: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة واحدة، ثم ي

كفى بالموت واعظا

كفى بالموت واعظاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: قوله رحمه الله: ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفه بعدكم الباقون، ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى، قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب؟! لا شك أن الموت عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين! كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة وقف وقال: موعظة بليغة وغفلة شنيعة، يذهب الأول والآخر لا يعتبر. وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا شهد جنازة يقول: اغدوا فإنا رائحون. وكان السلف رضي الله عنهم لا يعرفون أهل الميت من غيرهم لبكاء الجميع، فكل يبكي على جنازة نفسه لا على الميت: كل ابن آدم وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول ألا للموت كأس أي كأس وأنت لكأسه لا بد حاسي إلى كم والممات إلى قريب تُذَكَّر بالممات وأنت ناسي قال الحسن البصري رحمه الله: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فيها فرحاً، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت في عينه الدنيا وهان عليه كل ما فيها. ونظر ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى وقال: والله لولا الموت لكنت به مسروراً، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا. تذكروا -عباد الله- إخواننا الذين كانوا معنا ثم رحلوا، تذكروا -عباد الله- من عرفناهم ومن عايشناهم ثم رحلوا عنا! أين ذهبوا؟ سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أناخ القوم أياماً وقد رحلوا فقلت فأين أطلبهم وأي منازلٍ نزلوا فقالت بالقبور وقد لقوا والله ما فعلوا أناس غرهم أمل فبادرهم به الأجل فنوا وبقي على الأيام ما قالوا وما عملوا وأُثبت في صحائفهم قبيح الفعل والزلل ندامى في قبورهم وما يغني وقد حصلوا أين من كانت الألسن تهذي بهم لتهذيبهم، وصار خلق الاختبار يجري بهم لتجريبهم، أقام قيامتهم منادي الرحيل فصاروا في القبور وحداناً لا أنيس لغريبهم؟ أين أهل الوداد الصافي في التصافي؟ أين الفصيح الذي إذا شاء أنشأ في القول الصافي؟ أين قصورهم التي تضمنتها مدائح الشعراء؟ صار ذكر القوي في القوافي، لقد نادى الموت أصحاب العوالي، والقصور العوالي الطوافي. نعى الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى نفسه وهو في الدنيا، فقال عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. أرسل عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أخيه يعزيه في وفاة ابنه فقال: أما بعد: فإنَّا أناس من أهل الآخرة أُخرجنا إلى الدنيا، والعجب من ميت يبعث إلى ميت يعزيه في ميت. والسلام. ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى، قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب. اللهم أيقظنا من غفلتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تهدي الضالين، وأن ترد الغائبين إلى بيوتهم يا رب العالمين! اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا! اللهم أعز من أعز الدين، وأذل من خذل الدين! اللهم إنا نسألك أن تعزنا بالإسلام قائمين، وأن تعزنا بالإسلام قاعدين، وألا تشمت بنا الأعداء والحاسدين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

فضل الصبر والشكر

فضل الصبر والشكر الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، فهما الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن إلى الجنة، فلا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا إيمان لمن لا شكر له، وقد أثنى الله عز وجل على الصابرين والشاكرين في كتابه، وبين فضلهما في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

مفهوم الصبر وفضله

مفهوم الصبر وفضله الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عهده وحكمته وهو العزيز الحكيم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. عباد الله! لما كان الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، كان جديراً بمن أحب نجاة نفسه وآثر سعادتها ألا يهمل هذين الأصلين العظيمين، وأن يطير إلى الله عز وجل بهذين الجناحين الصبر والشكر، والصبر آخية المؤمن الذي يجول ثم يرجع إليها، وساق إيمانه التي لا اعتماد له إلا عليها، ولا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان في غاية الضعف وصاحبه ممن {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11].

تعريف الصبر لغة وشرعا

تعريف الصبر لغة وشرعاً قيل في تعريف الصبر لغة: هو الحد. وشرعاً: هو حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب، ونحو ذلك. وقيل: الصبر: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقيل: الصبر تجرع المرارة من غير تعبث. وقيل: هو الوقوف مع البلوى بلا شكوى. والشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر، فقد قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، وقال الله عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، وقال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]. مع قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]،فالشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر، أما الشكوى إلى المخلوق فإنها تنافي الصبر. رأى أحد العلماء رجلاً يشكو إلى أخيه فقال له: والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك. وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم.

الأدلة على فضل الصبر من الكتاب

الأدلة على فضل الصبر من الكتاب الصبر عباد الله! جعله الله عز وجل جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً غالباً لا يهزم، وحصناً حصيناً لا يهدم، فهو والنصر أخوان شقيقان، وقد مدح الله عز وجل الصابرين في كتابه، وأخبر عز وجل أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب، فقال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وأخبر الله عز وجل أن معيته للصابرين، وفي ذلك أفضل ترغيب للراغبين، فقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]. وجعل الله عز وجل الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، فقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، وجزم الله عز وجل بأن الصبر خير لأهله مؤكداً ذلك باليمين، فقال عز وجل: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]، وأخبر الله عز وجل أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو، وإن كان ذا تسليط، فقال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]. وعلق الله عز وجل الفلاح بالصبر والتقوى، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. وبشر الله عز وجل الصابرين بثلاث، كل واحدة منها خير مما عليه أهل الدنيا يتنازعون، فقال عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. وأخبر الله عز وجل أن الصابرين هم الفائزون بجنته والناجون من عذابه، فقال عز وجل: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]. وقال عز وجل في أربع آيات من كتابه مشيراً إلى أن أهل الانتفاع بآياته هم أهل الصبر وأهل الشكر، فقال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5].

الأدلة على فضل الصبر من السنة

الأدلة على فضل الصبر من السنة أهل الصبر وأهل الشكر هم الذين ينتفعون بآيات الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوفى من الصبر). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال البلاء في العبد المؤمن في نفسه وماله وأهله حتى يلقى الله عز وجل وليس عليه خطيئة). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لتكون له عند الله منزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال عز وجل يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها). وقال صلى الله عليه وسلم: (يوم القيامة يتمنى أهل العافية أن لو كانت جلودهم قرضت بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء). عن عطاء بن رباح رحمه الله قال: (أخذ ابن عباس رضي الله عنهما بيدي فقال: ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني لأصرع وأتكشف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت ولك الجنة). أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن جزاء صبرها على هذا المرض هو جنة الله عز وجل، وخيرها بين أن يدعو لها فتشفى من هذا المرض أو تستمر عليه وتدخل جنة الله عز وجل، فقال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله عز وجل لك، فقالت: أصبر يا رسول الله! ولكني أتكشف، فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم ألا تتكشف، فكانت بعد ذلك تصرع ولا تتكشف). عن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها. قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ثم إني قلتها فأخلف الله عز وجل لي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم).

أحوال السلف مع الصبر

أحوال السلف مع الصبر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعم العدلان ونعمت العلاوة. إشارة إلى قول الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]، فالعدلان ما يوضع على جانبي سنام البعير: الصلوات والرحمة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]. لما أرادوا قطع رجل عروة بن الزبير قالوا له: لو سقيناك شيئاً كي لا تشعر قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، أفأعارض أمره، ثم وضعوا المنشار في ساقه فوقعت ساقه دون أن يأخذ شيئاً يذهب عقله حتى لا يعرف ربه في هذا الوقت، وحتى لا يشعر بألم هذه الجراحة، فانظروا إلى صبر السلف رضي الله عنهم. قال سفيان رحمه الله: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوساً؛ إشارة إلى قول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فلابد أن يبتلي الله عز وجل العبد، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. فالله عز وجل يبتلي العباد ويمتحنهم، فإذا أيقنوا أيقنوا بعالمية الله عز وجل وبرحمة الله عز وجل، وإذا صبروا على عذاب الله عز وجل يجعلهم الله عز وجل أئمة يهدون بأمر الله عز وجل.

ما قيل في الصبر وأنواعه

ما قيل في الصبر وأنواعه والصبر قيل: هو شجاعة النفس. وفي ذلك قيل: الشجاعة صبر ساعة والنفس لها قوة إقدام وقوة إحجام، فالصبر أن يجعل قوة إقدامها إلى ما يرضي الله عز وجل، وقوة إحجامها عما يسخط الله عز وجل، والعبد مطالب بالصبر عباد الله! في البلاء وفي النعمة، وفي قضاء الله عز وجل، مطالب بالصبر على بلاء الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل يبتلي الناس من أجل أن ينظر هل يصبروا أو يجزعوا، كما قال الله عز وجل حكاية عن أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم:21]، فعكس الصبر هو الجزع. فالله عز وجل يبتلي الناس من أجل أن يظهر فقرهم إليه سبحانه، ومن أجل أن يصبروا على قضائه ويرضوا بقدره، فهذا هو الصبر عند القضاء. وكذلك الصبر على طاعة الله عز وجل، كالصبر على الصيام وعلى الجهاد في سبيل الله، وعلى الصدقة والإنفاق والحج والعمرة، وكل ذلك. كذلك الصبر عن معصية الله عز وجل، فمن الناس من عنده صبر على طاعة الله عز وجل، ولكن لا يصبر عن بعض المحرمات، ومن الناس من يصبر عن المعاصي ولكنه لا يجتهد في طاعة الله عز وجل، فينبغي على العبد أن يوطن نفسه على الصبر وعلى الشكر لله عز وجل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

مفهوم الشكر وفضله وطرائفه

مفهوم الشكر وفضله وطرائفه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. النصف الثاني من الإيمان عباد الله! هو الشكر، والشكر تعريفه قيل: هو الثناء على المنعم بما أولاكه من معروف، وهو يكون على القلب واللسان والجوارح. فالقلب لمعرفة النعمة، تعرف أن هذه نعمة من عند الله عز وجل لا تنسبها إلى نفسك، ولا ترى أنك تستحق هذه النعمة، كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، كمن ينعم الله عز وجل عليه بنعمة المال فيقول: هو باجتهادي وهو بذكائي، وما رأى أن الله عز وجل يكتب الرزق لمن يشاء ويقدر، وأن من العباد من يكون أغبى الخلق وتراه كذلك أكثر الناس مالاً، ومنهم من يكون أذكى الناس، ولكن الله عز وجل يقدر له رزقه، كما قال بعضهم: تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب فينبغي للعبد أن يعرف النعمة، وأن يعترف بأنها نعمة، وأنها من عند الله عز وجل، فالقلب لمعرفة النعمة ولمعرفة المنعم بهذه النعمة. واللسان لحمد الله عز وجل، والثناء عليه والتحدث بنعمه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. قال بعضهم: تحدثوا بنعم الله عز وجل فإن التحدث بها شكر، قال عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، فالعبد قد يكون ميسور الحال، ولكنه يظهر للناس أنه فقير ومحتاج، وكي تظهر للناس نعمة الله عز وجل عليه ينبغي أن تظهر نعمة الله عز وجل على لسانه وعلى حاله، حتى يعرف الفقراء من الأغنياء فيطلبون حقهم منهم، فاللسان عباد الله! للتحدث بالنعمة ولحمد الله عز وجل وللثناء على الله عز وجل، والجوارح لاستعمال النعمة في طاعة الله عز وجل، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]. قالوا: ما كانت تمر على آل داود ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم عبد مصل لله عز وجل أو ذاكر لله عز وجل (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل حتى تتورم ساقاه وحتى تتفطر قدماه فيقال له: أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، بل هو بأبي وأمي سيد الشاكرين وسيد الصابرين صلى الله عليه وآله وسلم. فينبغي للعبد أن يستعمل النعمة في طاعة الله عز وجل، كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] أي: أن العبد الذي ينعم الله عز وجل عليه بالقوة أو بالمكانة أو بالشفاعة أو بالمال، ينبغي أن يستعمل النعمة في طاعة الله عز وجل ولا يستعملها في معصيته. هناك بند رابع للشكر قل من تنبه له: وهو أن تشكر من أتت النعمة على يديه، فهذا من شكر نعمة الله عز وجل عليك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، فالنعمة من الله عز وجل، ولكن الله تعالى يسوقها إليك عن طريق بعض خلقه، وغالباً يكون محباً أو يكون لبيباً عاقلاً مؤمناً، فينبغي أن تشكر كذلك من أتت النعمة على يديه! فهذه بنود أربعة للشكر عباد الله.

ثناء الله عز وجل على الشاكرين وهدايته لهم

ثناء الله عز وجل على الشاكرين وهدايته لهم خص الله عز وجل الشاكرين من بين عباده بهدايته، فقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، فهدى الله عز وجل الفقراء والموالي والعبيد، فقال الأغنياء: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: لو كان هذا الدين خيراً لكنا نحن أحق به، كما قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. فمقياس العظمة عندهم المال والأولاد والجاه والمنصب فقالوا: لو كان هذا القرآن حقاً ولو كانت هذه الرسالة حقاً لنزلت على الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي، ولكنها نزلت على خير البشر وخير الأولين والآخرين وسيد الأنبياء والمرسلين. فالله عز وجل جعل هداية الفقراء فتنةً للأغنياء، فقال الأغنياء: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]، فقال الله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، فالله عز وجل يعلم من يقدر النعمة، ومن يقوم بشكرها. كذلك أخبر الله عز وجل عن أبي البشرية الثاني وهو نوح عليه السلام بأنه عبد شكور، وأثنى عليه بالشكر إشعاراً للعباد بأن يقتدوا بأبيهم نوح الذي هو أبو البشرية الثاني بعد آدم؛ لأن الله عز وجل جعل ذريته هم الباقين، فنحن جميعاً من ذرية نوح، كما أننا نحن جميعاً من ذرية آدم، فكل من كان معه في السفينة من المؤمنين لم يعقبوا ولم ينجبوا إلا أولاد نوح، فلم يكن لآدم عليه السلام ذرية إلا من ذرية نوح، فأثنى الله عز وجل عليه بالشكر، فقال عز وجل: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، كذلك أثنى على أبي الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام بالشكر، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120 - 121]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا أكون عبداً شكوراً).

جزم الله عز وجل بالجزاء لمن شكر

جزم الله عز وجل بالجزاء لمن شكر علق الله عز وجل كثيراً من العطاء والجزاء على المشيئة، فقال: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:15]، وقال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28]، وجزم بجزاء الشكر حيث قال عز وجل: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145]، وقال عز وجل: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، وجعل الله عز وجل الشكر سبباً للمزيد من نعم الله عز وجل، فقال الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. فعكس الشكر هو الكفر، والعباد قسمهم الله عز وجل إلى شاكر وكافر، فقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وقال سليمان عليه السلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، فالله عز وجل قسم الناس إلى شاكر وكافر، وهو سبحانه يستدرج الناس فيعطيهم النعم ويمنعهم الشكر، كما قال عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]. قال بعض السلف: كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة، فهم يظنون أن الله عز وجل راض عنهم، وقال بعضهم: يعطيهم الله عز وجل بنعمه ويمنعهم الشكر، وما أنعم الله عز وجل على عبد بنعمة فألهمه أن يقول: الحمد لله إلا كانت هذه النعمة -إلهام الحمد- خيراً من النعمة ذاتها. قيل لأحد العلماء: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أشكر: ذنوب سترها الله عز وجل علي فلا يعيرني بها أحد، ومحبة قذفها الله عز وجل في قلوب العباد. فينبغي على العبد أن يكون من الصابرين والشاكرين، حتى يصل إلى جنة الله عز وجل. فالإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الصابرين الشاكرين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا نشكر نعمتك علينا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده في نحره واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

قصة صالح عليه السلام

قصة صالح عليه السلام أخبر سبحانه في كتابه عن قصص الأنبياء مع أقوامهم، ومن تلك القصص قصة قوم صالح الذين طلبوا الآيات ليؤمنوا بها، فلما جاءهم بالآيات كفروا وعقروا الناقة، ولم يكتفوا بذلك، بل أرادوا قتله، فكان عاقبة مكرهم أن أهلكهم الله تعالى بالصيحة، وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار.

فوائد دراسة قصص الأنبياء

فوائد دراسة قصص الأنبياء الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، فألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وأنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111] دراسة قصص الأنبياء عباد الله فيها فوائد: من ذلك: أن من أمور الإيمان الستة: الإيمان بالرسل الكرام، فهذا تعميق لهذا الإيمان وزيادة لهذا الإيمان. ومن ذلك عباد الله: أن نعرف أن دعوة الأنبياء جميعاً واحدة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات، أبوهم واحد) فإذا كان الأب واحداً، والأمهات مختلفة، فكذلك الأنبياء عباد الله دينهم واحد، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13]. فدين الأنبياء هو توحيد الله عز وجل، وعبادة الله عز وجل وحده، أما الشرائع فمختلفة، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] فالله عز وجل يحل لهؤلاء ما يحرم على هؤلاء، ويحرم على هؤلاء، ما يحل لهؤلاء، كل بحسب طبيعة القوم الذين شرعت لهم الشريعة، وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي الشريعة المهيمنة، وكتابه هو المهيمن على الكتب السابقة. ومن الفوائد كذلك عباد الله: أن نتعلم كيف تكون الدعوة إلى الله عز وجل، وكيف صبر الأنبياء على الدعوة إلى الله عز وجل. ومن ذلك: أن نعلم سنن الله عز وجل في عباده، فمن سنن الله عز وجل في عباده أنه لابد أن ينصر المتقين، ولابد أن تكون العاقبة للمتقين، قال عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. ففي نهاية كل قصة من قصص الأنبياء تجد أن النجاة تكون للرسل، ومن تبعهم من المؤمنين، وأن الهلاك يكون للكافرين والمكذبين. ومن ذلك كذلك عباد الله: أن القوم إذا سألوا الله عز وجل آية وأجابهم الله عز وجل إلى هذا السؤال ثم كفروا، لابد أن يستأصلهم بالعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسألوا الآيات، فقد سأل قوم صالح الآيات، وكانت الناقة تصدر من هذا الفج، وترد من هذا الفج، فعقروها، فأخذتهم صيحة أخمدت من منهم تحت أديم السماء، إلا رجلاً كان في حرم الله وهو أبو رغال، فلما خرج من حرم الله أخذه ما أخذهم). فهذه سنة من سنن الله عز وجل تظهر في هذه القصص: أن الناس إذا سألوا الأنبياء آية وأجابهم الله عز وجل إلى ذلك، ورأوا هذه المعجزة التي سألوها، ثم استمروا على كفرهم وتكذيبهم لابد أن يأتيهم عذاب الاستئصال، كما في هذه القصة التي نحن بصددها وهي قصة صالح مع قومه ثمود.

قصة صالح مع قومه ثمود

قصة صالح مع قومه ثمود قال الله عز وجل: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:73] أي: معجزة من عند الله عز وجل، وهي الناقة التي أخرجها الله عز وجل لهم من الصخرة. ذكر المفسرون أن صالحاً عليه السلام كان يجادل قومه ويناظرهم، وهؤلاء القوم هم قوم ثمود، وكانوا يسكنون بالحجر، وهو في شمال جزيرة العرب بين الحجاز وبين تبوك. وذكرنا أن عاداً وهي الأمة التي كانت قبلهم كانوا في الأحقاف بين عدن وحضرموت، فقوم ثمود أتوا بعدهم بمدة، وكانوا يسكنون في الحجر، وقد مر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ذاهب إلى تبوك، فاستقى الناس من أبيار ثمود، وعجنوا العجين، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يريقوا الماء، وأن يرموا العجين، وقال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين؛ لئلا يصيبكم ما أصابهم). فانظروا كيف يحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدخول إلى ديار المعذبين الذين عذبوا قبل ذلك. ولما مر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بديارهم قنع رأسه، وأسرع المسير، فينبغي للمؤمن أن يعتبر عندما يمر على هؤلاء المعذبين. كذلك لما مر بوادي محسر الذي نزلت فيه الحجارة على الفيل قبل الميلاد النبوي، أو في العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمرهم أن يسرعوا الخطى. فهذه الأماكن عباد الله التي عذب فيها الكفرة والفجرة لم تكن للتنزه ولا للفرجة ولا للفسحة، بل هي أماكن للعبرة والعظة، فإذا مر بها المؤمن ينبغي أن يكون معتبراً متعظاً، وينبغي أن يكون باكياً لا غافلاً، قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]. يحذرنا الشرع من أن نتشبه بالكافرين وأن نسلك مسالكهم، ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أن ندخل عليهم في مساكنهم، إلا أن نكون باكين معتبرين. لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك بديار ثمود أمر أصحابه أن يريقوا الماء الذي حملوه معهم من ديار ثمود، ثم أوردهم البئر التي كانت تشرب منه الناقة، فملئوا منه أوعيتهم. قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف:74]. يبدو أنه كان فيهم شبه من قوم عاد، أي: في طول الأجساد وطول الأعمار؛ بأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، وكانوا أهل زرع وأهل ماشية وأهل حرث، فذكرهم نبيهم بنعم الله عز وجل عليهم، وحذرهم من نقمة الله عز وجل، وحذرهم مما حدث للقوم الذين خلوا قبلهم من المكذبين وهم عاد قوم هود، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف:74] قال العلماء: كانوا بعدهم بمدة طويلة؛ لأنه لم يقل: بعد عاد، بل قال: من بعد عاد، أي: بمدة طويلة، كما مكث نوح في قومه يدعوهم إلى الله عز وجل ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيبدو أن المدة كانت طويلة، وأن أجسامهم كانت كذلك فارهة عظيمة، كما كان آدم عليه السلام طوله ستون ذراعاً. ذكرهم نبيهم بنعم الله عز وجل عليهم، وأن الله عز وجل مكنهم في الأرض يبنون في الأماكن السهلة المنبسطة قصوراً يسكنون فيها في الصيف، وينحتون من الجبال بيوتاً يسكنونها في الشتاء، قال {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف:74]. ذكر المفسرون أن صالحاً عليه السلام كان يناظر قومه ويجادلهم، وقالوا له: لن نؤمن لك حتى تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة من صفتها كذا وكذا، وتعنتوا في وصفها، أن يكون طولها كذا، وغير ذلك، فكأن صالحاً عليه السلام وجد ذلك فرصة وأن يدخلوا في الإيمان، فقال لهم: أرأيتكم إن أجبتكم إلى ما سألتم أتؤمنون بما جئت به؟ فقالوا: نعم، فأخذ عليهم عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا الله عز وجل، فأجابه الله عز وجل، فتمخضت الصخرة عن ناقة، وهي أنثى الجمل على الصفة التي وصفوها، فآمن منهم أناس وأعرض أكثرهم عن الإيمان. فالآية أتت على ما طلبوا وسألوا، ولكنهم استمروا على كفرهم وتكذيبهم، وكانوا في غاية الكفر والغباوة. وحذرهم نبيهم من أن يتعرضوا لهذه الناقة، فقال لهم: هذه ناقة الله لكم آية فلا تمسوها بسوء، أي: لا تتعرضوا لها في شربها ولا في أكلها، فأمرهم أن يشربوا من البئر يوماً، وأن يدعوا الناقة تشرب اليوم الآخر، وفي اليوم الذي تشرب فيه الناقة من البئر هم يشربون من لبنها، لقد أضاف الله عز وجل الناقة إلى نفسه إضافة تشريف؛ لأنها آية من آيات الله عز وجل، ومعجزة من معجزات أنبياء الله عز وجل، ولم يخلقها بالطريقة التي خلق بها سائر النوق والجمال، {هَذِهِ نَاقَةُ الل

موقف المؤمنين والكافرين من صالح عليه السلام ودعوته

موقف المؤمنين والكافرين من صالح عليه السلام ودعوته يبين الله عز وجل كيف كان كفر الكافرين، وكيف كان إيمان المؤمنين، فيقول عز وجل: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:75 - 76]. فكان جواب أهل الإيمان في غاية الإيمان، وكان جواب أهل الكفر في غاية الكفر، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف:75] فهم يسألونهم: أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ كان بالإمكان أن يقولوا: نعم ويقتصروا على ذلك، وإنما كان جواب أهل الإيمان أنهم مؤمنون به، فهم أرادوا أن يكون الجواب في غاية الإيمان، فقالوا: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف:75] هذا تقرير للإيمان، وبيان لعقيدتهم الواضحة الصريحة، وإثبات له بالرسالة. أما الكفار فقال عنهم: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:76]. ما قالوا: إنا بما أرسل به كما قال أهل الإيمان، ولكن قالوا: (إنا بما آمنتم به كافرون) حتى لا يثبتوا له رسالة، ولو في معرض الكلام، فلهم أن يقولوا ذلك على سبيل التهكم، كما قال فرعون: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]. ولكن المقام ليس هنا مقام استهزاء، ولكنه مقام تقرير، وبيان عقيدة، فكان جواب أهل الإيمان في غاية الإيمان، وكان جواب أهل الكفر في غاية الكفر. وبعد أن عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم أخذتهم الرجفة، وأهلكهم الله عز وجل. وصالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة أمهلهم ثلاثة أيام يتمتعون فيها، وبعدها يأتيهم عذاب الله عز وجل، فجاءهم العذاب بعد ثلاثة أيام. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

مكر قوم صالح عليه السلام وعاقبة ذلك

مكر قوم صالح عليه السلام وعاقبة ذلك إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:48 - 53]. لقد أنذرهم نبيهم صالح عذاب الله عز وجل فقال لهم: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65]، وكان هناك تسعة نفر من هؤلاء الكفرة الفجرة هموا بأمر هو أفظع من قتل الناقة، وأكبر جرماً من قتل الناقة، لقد هموا أن يقتلوا نبي الله صالحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كأنهم ظنوا بأن الله عز وجل غافل، كما يفعل أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، فهم يمكرون بالدعاة وبأولياء الله عز وجل، ويكيدون لدين الله عز وجل ويحاربونه، وكأنه ليس في الكون إله، وكأن الله عز وجل لا يرى مكرهم، وكأنه لا يحيط بهم وغير مطلع على ما في قلوبهم، فهذا من غبائهم وكفرهم وإعراضهم. فقوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]. معلوم أن الكفرة كلهم مفسدون، ولكن بعض الشر أهون من بعض، فهؤلاء التسعة كانوا أعتى القوم، وأكثر القوم كفراً وفساداً، {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} [النمل:49] أي: حلفوا بالله عز وجل وتعاهدوا فيما بينهم، {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49] والتبييت هو القتل ليلاً، فقالوا: قبل أن ينزل بنا العذاب بعد ثلاثة أيام نقتل صالحاً خلال هذه الأيام فيموت قبلنا، فنكون نحن وهو في الهلاك سواء، فأردوا أن يقتلوا نبي الله صالحاً، وتعاهدوا وتعاقدوا وحلفوا على ذلك. {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49] كما يفعل أعداء الإسلام المعروفون بالنفاق، فهم يكيدون للإسلام، ويحاربون الالتزام بدين الله عز وجل، فهم يحاربون الإسلام وأهله باسم التطرف، ويملي لهم الشيطان ويسوغ لهم الحجج على أنهم ليسوا أعداء للإسلام، وإنما هم يعملون في مصلحة الإسلام. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50]. فهم يمكرون على الأرض وهم من الأرض خلقوا، والله عز وجل يمكر بهم من فوق سبع سماوات، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل:48 - 51]. فهؤلاء المفسدون بينما هم جالسون في أصل الجبل يتهيئون ويتحينون الفرصة ليفتكوا بصالح عليه السلام وأهل بيته، إذ ألقى الله عز وجل عليهم صخرة من فوق الجبل فأهلكتهم، فكانوا سلفاً ومثلاً لإخوانهم الكافرين، فماتوا قبل قومهم الذين أنذرهم نبيهم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب. {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل:50] أفما يخشى الذين يمكرون بدين الله ويمكرون بأولياء الله أما يخشون مكر الله عز وجل، (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]). فكان عاقبة مكر قوم صالح كما أخبر الله عز وجل عنهم: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:51 - 53]. نهاية كل قصة من قصص أهل الإيمان، وكل قصة من قصص أنبياء الرحمن لابد أن تكون النجاة للمتقين، فلهم العاقبة في الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين. طعن البعض في التنزيل وقال: بأن الآيات تختلف من مكان إلى مكان، فأحياناً يذكر الله عز و

قصة قارون

قصة قارون يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم قصص الأمم السابقة أفراداً وجماعات، لأخذ العبرة مما حل بهم من عذاب الله حين أعرضوا وكذبوا وكفروا بالنعم التي أعطاهم الله إياها، ومن أفراد هذه الأمم السابقة قارون الذي كان من قوم موسى عليه السلام فبغى عليهم، فقد ذكر الله ما أنعم به عليه من النعم، وما وهبه من الخزائن، ثم ذكر أخذه له بعد الإمهال، وعقابه له بالخسف والوبال.

فتنة المال على صاحبه وفائدة العلم والتقوى

فتنة المال على صاحبه وفائدة العلم والتقوى الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فما زلنا في القصص القرآني، وقد أتممنا بحمد الله في الدرس السابق قصة ذي القرنين، ونتكلم اليوم إن شاء الله عن قصة قارون. قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:76 - 83]. هذه القصة التي سجلها الله عز وجل لنا في كتابه عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتقين، فهي قصة فتنة المال الذي ينشغل الناس بجمعه، ويدعو صاحبه إلى البغي والعجب والكبر، فينسى حق الله عز وجل، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]. والعبد لا يستغني عن ربه عز وجل طرفة عين، ولكنه بجاهه وماله يظن أنه استغنى، فيطغى عند ذلك على عباد الله. والقصة تتكرر في كل عصر ومصر، فأكثر أصحاب الأموال همهم أن يكثر المال، فيحملهم ذلك على أن يبخلوا بزكاته، وشدة الحرص على المال وحبهم له يجعلهم يجمعونه من الوجوه المباحة وغير المباحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). فطالب المال كشارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، ثم هذا الحرص -وهو الحب الشديد والمبالغة في الطلب- يفسد على العبد دينه الذي هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وأكثر أصحاب الأموال لا يقولون بألسنتهم ما نطق به قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، ولكن بعضهم يعتقد ذلك بقلبه، فيظن أنه بمهارته وذكائه حصل هذا المال الذي عجز عن تحصيله الآخرون، أو يظن أن له منزلة ومكانة عند الله عز وجل؛ ولذلك أعطاه الله عز وجل هذا المال، وكما أن له منزلة في الدنيا سوف تكون له منزلة أيضاً في الآخرة، فهذا ظنه. والناس ينخدعون بالمظاهر الكاذبة والزيف الظاهر، ويتحاسدون غالباً على الأعراض والزخارف، فليتهم يتحاسدون على العلم النافع والعمل الصالح، فأكثرهم يرى أهل الدنيا يتقلبون في زينتها وزخارفها، فيلبسون الثياب الفاخرة، ويركبون السيارات الفاخرة، وإن لم يقولوا بألسنتهم كما قال قوم قارون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، ولكنهم يتمنون ذلك بقلوبهم. أما أهل العلم والإيمان أصحاب الموازين الصحيحة يعلمون أن الدنيا ظل زائل وعرض حائل، وأن الآخرة هي الحيوان، وأن ما عند الله خير، وإنما ينفع المال إذا رزق العبد معه علماً وتقوى لله عز وجل، والعلم والتقوى كذلك ينفعان بغير مال، فيعود الشرف على العلم والتقوى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي في ماله ربه، ويصل فيه ر

قصة قارون في ظلال القرآن

قصة قارون في ظلال القرآن لنشرع في شرح الآيات الكريمات، فإنها أقوى تأثيراً، وأقوم قيلاً، يقول تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76]، قال القرطبي: إن قارون كان من قوم موسى، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} [القصص:60] فبين أن قارون أوتيها، واغتر بها، ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون. يقول: ولستم أيها المشركون! بأكثر عدداً ومالا ًمن قارون وفرعون، فإنه لم ينفع فرعون جنوده وأمواله كما لم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه. قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى. وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم، وقيل: كان ابن خالته. ونحن نقف مع التنزيل حيث أوقفنا، فليس هناك دليل على ذلك، فنقول: إنه كان من قوم موسى، ولا نجزم بشيء لم يأت في القرآن، ولا صحت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر وصايا ونصائح قوم قارون لقارون

ذكر وصايا ونصائح قوم قارون لقارون قال القاسمي: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان، وقوم موسى: هم جماعته الذين أرسل إليهم وإلى طاغيتهم فرعون. {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] أي: بالكبر والاستطالة عليهم؛ لما غلب عليه من الحرص ومحبة الدنيا، ولغروره وتعززه برؤية زينة نفسه، {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} [القصص:76] أي: من الأموال المدخرة، {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} [القصص:76] أي: مفاتيح صناديقه على حذف المضاف، ولا ملابسة في ذلك، وقيل: خزائنه. {لَتَنُوءُ} [القصص:76] أي: تثقل، {بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] أي: الجماعة الكثيرة من الرجال والبغال، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:76] أي: بزخارف الدنيا فرحاً يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] لما فيه من إيثار الدنيا على الآخرة والرضا بها عنها والإخلاد إليها، وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد. قال الزمخشري: وذلك أنه لا يصلح للدنيا إلا من رضي بها واطمأن، وأما من قلبه معلق بالآخرة فإنه يحن ويعلم أنه مفارق ما هو فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح، وما أحسن ما قيل: أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالاً أي: يعيش في نعيم، ومع ذلك فإنه يوقن بأنه سيفارق هذا النعيم، وهذا يورثه شيء من الغم، فإن الإنسان في زينة في الدنيا وفي راحة، فإذا أيقن بأنه سوف ينتقل من هذه الزينة والراحة، حصل له شيء من الغم، أما في الآخرة يبشر أهل الجنة بدخول الجنة والخلود فيها، فلا يتكدر عيشهم، ولا يخرجون من هذا النعيم. قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. قال الرازي ما ملخصه: ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور: أحدها: قوله تعالى: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] والمراد: ألا يضحك ولا يبطر، ولا يلهيه تمسكه بالدنيا عن أمر الآخرة. وثانيها: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] والظاهر: أنه كان مقراً بالآخرة، والمراد: أن يصرف المال في السبل التي تؤدي به إلى الجنة، وأن يسلك طريق التواضع. ومعلوم أنه ليس كل من يقر بالآخرة يكون من أهل النجاة؛ لأن الإنسان قد يقر بالآخرة ولكنه لا يعمل لها، فهذا لا ينفعه الإقرار. ثالثها: قوله تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] فيه عدة أوجه: الوجه الأول: لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا، فلم يتفرغ للتنعم والالتذاذ، فنهاه الواعظ عن ذلك وقال: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]؛ لأن كثيراً من الناس يجمعون المال، وتجده فعلاً لا يتمتع بالدنيا، مثل كثير من الأطباء الذين يعملون في المستشفيات، فإن الواحد منهم يمتلك عدة عبادات وينشغل بعدة عمليات جراحية، فتجده يشتغل في الدنيا وفي جمع المال، فيومه كله جمع للمال، فمتى يستفيد بهذا المال ويتمتع به؟ فلعل قارون أيضاً كان مستغرق الهم في جمع المال، فلم يجد فرصة للتمتع بهذا المال؛ ولذلك قال له الناصح: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] يعني: تمتع بهذا المال قبل أن تتركه. الوجه الثاني: لما أمره الواعظ بصرف المال في سبيل الآخرة بين له أنه لا بأس بالتمتع به في الوجوه المباحة، فالإنسان يعمل للآخرة ولكنه لا يحرم نفسه زينة الدنيا، بل يجوز له أن يتمتع بهذه الدنيا في حدود ما أباح الله عز وجل وشرع. الوجه الثالث: المراد من قول الواعظ: الإنفاق في طاعة الله عز وجل، فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب. رابعها: قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] أمره بالإحسان بالمال، وأمره بالإحسان مطلقاً، فقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] يعني: من المال، ثم أمره بالإحسان مطلقاً في كل أمر من أموره، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر، فإن الله سبحانه يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] يعني: إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، فإن هذا الشكر يستوجب المزيد من الخير والنعمة. خامسها: قوله: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77] والمراد: ما كان عليه من الظلم والبغي، وقيل: إن

أقوال المفسرين في قوله تعالى (إنما أوتيته على علم عندي)

أقوال المفسرين في قوله تعالى (إنما أوتيته على علم عندي) قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: أنا لا أفتقر إلى ما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي، والتقدير: إنما أعطيته لعلم الله في أني أهل له، وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49]. فالإنسان إذا أعطاه الله نعمة اعتقد أن الله عز وجل أعطاه لأنه يعلم حاله، فأعطاه هذا من باب التكريم. فقوله: {عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: على علم من الله بي، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50] أي: أستحقه. وقد روي عن بعض المفسرين في قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أنه كان عنده علم الكيمياء، وهذا القول ضعيف؛ لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل؛ وقلب الأعيان لا يقدر أحد عليه إلا الله عز وجل. وقال بعض المفسرين: قارون كان يعرف الاسم الأعظم، فدعا الله به فتمول بسببه، أي: حصل له هذا المال العظيم، وهذا القول ضعيف أيضاًَ. والقول الصحيح هو المعنى الأول: على علم عندي؛ ولهذا قال الله تعالى رداً عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78]. فكل من عنده مال ليس معناه: أن الله عز وجل يحبه، وأنه أعطاه هذا المال على علم منه بأنه يستحق هذا المال؛ لأن الله تعالى يقول: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78]؛ أي: قد كان من هو أكثر منه مالاً، وما كان ذلك من محبة منا له، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم؛ ولهذا قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] أي: لكثرة ذنوبهم. وقال القاسمي: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]؛ أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال يعتذر عنه، بل متى حق عليهم القول لفسقهم أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر.

إعجاب قوم قارون بزينة قارون وإهلاك الله له

إعجاب قوم قارون بزينة قارون وإهلاك الله له ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، فقال سبحانه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:79 - 80]. قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين: أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه لما عنده، فلما سمع مقالتهم العلماء وذوو الفهم الصحيح من الزهاد قالوا لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80] أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى. وهذه الهمة إلى الدار الآخرة عند النظر إلى زهرة الدنيا لا يلقاها إلا من استنار قلبه، وثبت فؤاده؛ لذلك قال تعالى: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] يعني: لا يعطى هذا العلم وهذا الفهم، وهذا النظر الثاقب والمعرفة بحقارة الدنيا وقيمة الآخرة إلا الصابرون الذين هداهم الله عز وجل ووفقهم، وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات. قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]. قال الشوكاني: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81] يقال: خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض حتفاً أي: غاب فيها، والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وداره وماله في الأرض، {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [القصص:81] أي: ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه، وما كان هو في نفسه من المنتصرين، أي: من الممتنعين مما نزل به من الخسف. قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] قال الزمخشري: قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي مضى، وإنما يراد به: الماضي، فقوله: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص:82] أي: في الوقت الماضي وهذه الجملة تحتمل الاستعارة، يعني: كأنه قال: في الماضي القريب كانوا يقولون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79] فعند ذلك حمدوا الله عز وجل، وعرفوا أن الدنيا يبسطها الله عز وجل لمن يشاء من عباده، ولولا أن الله رفق بهم لخسف بهم؛ لأنهم تمنوا ما هو فيه. وقوله: {مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص:82] أي: منزلته في الدنيا، قوله: {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ} [القصص:82] (وي) مفصولة عن كأن، وهي كلمة تشير إلى الخطأ والتندم، والمعنى: أن القوم قد تنبهوا لخطئهم في تمنيهم وقولهم: {لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79] فندموا على هذا التمني، ثم قالوا: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] أي: ما أشبه الحال بحال الكافرين الذين لا ينالون الفلاح وهو مذهب الخليل وسيبويه فقال كقول القائل: ويكأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر وحكى الفراء أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت. وعند الكوفيين: ويك بمعنى: ويلك، والمعنى: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون، فعلى قولهم تصير الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي، كقول عنترة بن شداد: ويك عنتر أقدم وقال القاسمي: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [القصص:82] أي: من شقي وسعيد، ويقدر أي: يقبض، فلا دلالة في البسط على السعادة، ولا في القبض على الشقاوة، بل يفعل سبحانه كلاً من البسط والقدر بمحض مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يقتضي القبض، فالمال لا يدل على الرضا ولا على غضب. فقد يكون الإنسان تقياً وعنده مال كثير، وقد يكون تقياً فقيراً جداً، وقد يكون فاجراً وليس عنده مال، وقد يكون فاجراً وعنده مال كثير، فالله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولا علاقة في ذل

اختلاف أقوال المفسرين في قوله تعالى (وابتغ فيما آتاك الله)

اختلاف أقوال المفسرين في قوله تعالى (وابتغ فيما آتاك الله) قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أي: اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإنه من الواجب على المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي. ولذلك يقول بعض السلف: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك لأنه عمل فيها قليلاً وأخذ منها زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا كانت للكافر والمنافق؛ وذلك لأنه أضاع فيها لياليه وأخذ منها زاده إلى النار. وقوله تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] اختلف تفسيرها، فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملاً صالحاً في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح. فالكلام على هذا التأويل فيه شدة في الموعظة. وقال الحسن وقتادة: معناه: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك في عاقبة دنياك. فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به، وإصلاح الأمر الذي يشتهيه. وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة، قاله ابن عطية. فهو إن كان من أهل الدنيا والرغبة فيها يبين له الناصح أنه لا يطلب منه أن يترك كل ما في الدنيا، وألا يتمتع بشيء من طيباتها. قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: أحرز لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وهذا القول يرويه بعض الناس مرفوعاً، أي: منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الواقع: هو من كلام ابن عمر رضي الله عنهما، وأحياناً يضع أناس في الأسانيد، أو يظنون أن شيئاً من كلام السلف وحكمهم هي أحاديث مرفوعة، فينسبونها ظلماًً وزوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه، هذا من كلام بكر بن عبد الله المزني، والناس ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن قال: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ، يسألونك ماذا ينفقون، فالإنسان ينفق الفضل من ماله، وينفق ما يبلغه قدر الكفاية. وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف. وقيل: أراد بنصيبه الكفن، وهذا فيه موعظة، كأن المعنى: لا تنس أنك ستترك جميع مالك إلا نصيبك من هذه الدنيا وهو الكفن، ونحو هذا قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط فالحنوط: الطيب الذي يوضع للميت، وكأنه يقال للإنسان: لن تأخذ من الدنيا إلا الكفن والحنوط. وقال آخر: هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن والأفضل أن يقول: بغير الزاد والكفن. قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي: قول قتادة: ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا.

ذكر قارون في القرآن الكريم والسنة وذم الله له

ذكر قارون في القرآن الكريم والسنة وذم الله له قال ابن كثير: وقد ذكر الله تعالى فذم قارون في غير ما آية من القرآن، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:23 - 24]. فقارون كذب بموسى وكذب بالآخرة فهو كافر، كذلك النصارى يكذبون بالآخرة فهم كفار، فليس كل إنسان يقر بالآخرة يكون بذلك محسناً. وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:39 - 40]. فالذي خسف الله به الأرض قارون -كما تقدم- والذين أغرقهم الله فرعون وهامان وجنودهما إنهم كانوا خاطئين. كذلك روى الإمام أحمد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)، انفرد به الإمام أحمد. ولذلك يقولون: من شغله المال كان مع قارون، ومن شغله الحكم أو السلطان كان مع فرعون، ومن شغلته الوزارة كان مع هامان، ومن شغلته التجارة كان مع أبي بن خلف. قال الدكتور أحمد جمال العمري: تمثل قصة قارون في القرآن الكريم جانب الطغيان بالمال، والغرور بالعلم، وكيف مآلهما إلى الفناء إذا تطوقت الأهواء، وسيطرت الأطماع، وتحول الإنسان من مجرد مخلوق من مخلوقات الله إلى متجبر متكبر يعلو بنفسه فوق الناس، ويزهو ويتعالى عليهم، وينظر إليهم بمنظار الاستعلاء والاستكبار. وقد وردت هذه القصة في القرآن على سبيل العظة والعبرة في إثبات أن كل شيء مآله إلى الزوال، وأن الباقي هو وجه الله ذو الجلال والإكرام. ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: في كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، ويظهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها، فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته، ولا بأي وسيلة نال ما نال من عرض الحياة من مال أو منصب أو جاه، ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها. إن الكثير من أصحاب الأموال يصلون إلى الملك بطرق محرمة، فهم يستبيحون لأنفسهم أشياء حرمها الله عز وجل، إما بتجارات محرمة، أو بالظلم والبغي أو بالنفاق. قال: فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم حياتهم، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفساً وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد، وهؤلاء هم الذين أوتوا العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]. يقول: ثواب الله خير من هذه الدنيا، وما عند الله خير مما عند قارون، والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلا الصابرون الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون، وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضا وثقة واطمئنان. نكتفي بهذا القدر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.

قصة هود عليه السلام

قصة هود عليه السلام أرسل الله تعالى هوداً عليه السلام إلى قوم عاد يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته، فكذبه قومه وسفهوه واستهزءوا به، فذكرهم نبيهم بنعم الله عليهم الظاهرة والباطنة، ولكن ذلك لم ينفعهم ولم يزدهم إلا عتواً ونفوراً، فأنزل الله عذابه عليهم ونجّى هوداً والذين آمنوا معه.

الفرق بين القصة القرآنية وغيرها

الفرق بين القصة القرآنية وغيرها الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. فالقصص القرآني عباد الله! قصص حق؛ لأنه وقع في تاريخ البشرية، سجله الله عز وجل لنا في كتابه المعجز من أجل أن يرتقي بأحوالنا الإيمانية، ومن أجل أن يغرس في نفوسنا الصفات الجميلة والأخلاق النبيلة، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود:120]، أي: في سورة هود، والله عز وجل يقص علينا القصص من أجل أن يرتفع مستوى الأمة الإيماني، ومن أجل أن تشهد هذه الأمة لجميع الأمم يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح يوم القيامة فيقول الله عز وجل له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقول لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول الله عز وجل لنوح عليه السلام: من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد، ثم تلا قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]). وقال عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] بخلاف القصص الدنيوي التي هي من نسج الخيال، وليس من بحر الحقيقة، والتي غالباً ما يخالطها الكذب، وغالباً ما يأتي بها الذين قد غلب عليهم التبرج والأفكار الإباحية وهم يريدون -عباد الله- أن يغرسوا في نفوس الناس التعلق بالدنيا والأخلاق المذمومة الباطلة، فمن الناس من يؤهل للسعادة وللحسنى وزيادة فهو يتمتع بسماع القصص القرآني والسيرة النبوية وغير ذلك مما يقربه إلى الله عز وجل، ومما يزيده حباً لله عز وجل ولطاعة الله عز وجل، ومن الناس من يقضي الساعات الطوال أمام الأفلام الساقطة والتمثيليات الهابطة التي لا تخلو من متبرجة متهتكة، أو اختلاط ماجن أو رؤية من يشربون الخمور أو غير ذلك مما يغرس في الناس الجرأة على معصية الله عز وجل، وكل ميسر لما خلق له، وكل نفس لها ما يناسبها وما يشاكلها، وقد بدأنا في قصص الأنبياء الكرام الذين اصطفاهم الله عز وجل واختارهم على علم، وجعلهم قدوة للبشرية وأسوة حسنة لمن أراد الحياة الأخروية. ذكرنا قصة آدم أبي الأنبياء ثم ذكرنا بعد ذلك قصة نوح وهو أبو البشرية الثاني بعد أبيهم آدم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، وهو أول الرسل إلى أهل الأرض.

دعوة هود عليه السلام

دعوة هود عليه السلام ودرسنا مع نبي كريم ورسول من رسل الله عز وجل وهو هود عليه السلام، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف:65 - 72]. هذه الآيات الكريمات -عباد الله! - تبين لنا كيف كانت دعوة هود عليه السلام، وكيف أنها دعوة جميع الأنبياء؟ فوظيفة كل الأنبياء تعبيد الناس لرب الأرض والسماء، فإن الناس يقعون في عبادة الأحجار والأشجار والشمس والقمر والبقر والطواغيت والهوى والشيطان، والرسل والدعاة بدعوة الرسل يحررون الناس من هذه العبادات الباطلة، ويجعلونهم عبيداً لله عز وجل، كما قال ربعي بن عامر: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عباد الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65]، قال بعض العلماء: إن الناس جميعاً إخوة في النسب؛ لأنهم جميعاً من آدم وحواء. وقيل: لأن الله عز وجل نسبهم إلى أبيهم وإلى كبير هذه القبيلة وهو عاد. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73]، فلما نسبهم الله عز وجل إلى قبيلتهم وإلى جدهم الأعلى ناسب أن يقول: أخاهم، ولكن لما نسب قوماً إلى الصنم الذي يعبدونه قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:176 - 177]، ما قال أخوهم شعيب؛ لأن الله عز وجل نسبهم إلى الأيكة وهو الصنم الذي يعبدونه، والذي ينبغي -عباد الله! - أن نعلم أن هذه الأخوة إنسانية يعني: في النسب، فلا يترتب عليها حب ولا بغض، فإن لم يكونوا معه على الإيمان فلا يجوز أن يحبهم. قال عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، فالله عز وجل لا يرتب على هذه الأخوة حب ولا بغض ولا توارث، ولما قال نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:45 - 46]، فلا يرث الابن الكافر من أبيه المسلم، ولا الابن المسلم من أبيه الكافر، فإذا اختلفت العقيدة فلا يتوارث أهل ملتين شتى، فـ فرعون وأبو جهل وأبو لهب إخوة لنا في الإنسانية فلا نحبهم؛ فـ أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ينزل الله في حقه وهو يتحرك على الأرض {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]. لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وكان سلمان يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فهذه الأخوة -عباد الله! - لا يترتب عليها حب ولا بغض ولا ولاء إذا لم يكونوا على نفس العقيدة والإيمان والدين. قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا

موقف قوم عاد من نبيهم هود

موقف قوم عاد من نبيهم هود قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف:66]، فهذا من سوء أدبهم مع أنبياء الله عز وجل مع أنهم يعرفون شرف نسبه، ومع أنه دعاهم في النسب فكان ينبغي عليهم أن يتأدبوا معه، ولكنه الكفر فإنه يطمس على القلوب والعقول، هو يدعوهم إلى الله عز وجل، وهم يدعونه إلى عبادة الأصنام! وقد قال ابن كثير رحمه الله بأنهم أول من عبد الأصنام بعد قوم نوح عليه السلام، فإنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد، فابتدأت البشرية بالتوحيد، ثم لما عبدت الأصنام أهلك الله عز وجل أهل الأرض، وبقي نوح عليه السلام وذريته ومن كان معه في السفينة، فلم يكن لآدم ذرية إلا من جهة نوح عليه السلام، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، ثم جاء بعد ذلك قوم عاد فكانوا أول من عبد الأصنام بعد قوم نوح عليه السلام، وكانوا يسكنون بالأحقاف في جنوب الجزيرة العربية بين عدن وحضرموت. قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8]، ميزهم الله عز وجل ببسطة في أجسامهم، وقوة في أبدانهم، وكانت البشرية -عباد الله- تتفاوت تفاوتاً ليس بالقليل في الأعمال وفي الأجسام. فهذا نوح عليه السلام يمكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل، وهي عمر الدعوة وليس عمر نوح عليه السلام، وهذا آدم كما ورد في الحديث الصحيح: (بأن أهل الجنة يدخلون الجنة على طول أبيهم آدم ستون ذرعاً) أي: ما يقرب من خمسين متراً، أي: ارتفاع عمارة ثلاثين دوراً أو أكثر من ذلك، فهكذا كانت البشرية، ولكن يبدو أن عاد كانوا أطول من الأقوام الذين قبلهم، كما قال تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف:69]. فهم يستهزئون بنبي الله هود عليه السلام ويقولون: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف:66]، وهذا الظن ظن كاذب فهم يعتقدون الصدق ولكنه الكفر الذي طمس على قلوبهم، وكذا الكبر وبطر الحق ورد الحق. والرسل هدفهم هداية البشرية، وأن يبلغوا البلاغ المبين، فيصبرون على أذى قومهم صبراً طويلاً، كما قال عز وجل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، والله عز وجل يعلم الدعاة إلى الله عز وجل كيف يكون صبرهم على الدعوة وعلى جفاء الناس وعلى إعراض الناس فهم يقولون للرسول الكريم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف:66]، فلم يقل لهم: أنتم السفهاء وأنتم الكذابون بل قال: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:67 - 68]، يبلغهم رسالات الله عز وجل وهو لهم ناصح أمين. فهؤلاء الرسل هم أولى الناس بكل صفة للإحسان فهم يدرءون بالحسنة السيئة، الناس يسيئون إليهم وهم يحسنون إلى الناس، والناصح الأمين لا يكذب، ولا يغش قومه بل ينصح لهم ويحرص على هدايتهم. ثم قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} [الأعراف:69]، أتعجبون أن جاءكم تيسير من الله عز وجل ورسالة من الله عز وجل على رجل منكم؟ فهذا ليس بعجيب ولكن الكفر الذي يطمس على القلوب يجعلهم يتعجبون من الأشياء التي ليس فيها عجب، ويظنون أن ما هم عليه من الباطل هو الحق الواضح وأن غيره ليس بعزيز، فهم يتعجبون أن الله عز وجل يرسل إليهم بشراً كما أخبر الله عز وجل أن المكذبين في كل زمان ومكان يتعجبون من ذلك ويقولون: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6]، أي: فكيف يهدينا بشر؟ ولو يشاء الله عز وجل لأنزل ملائكة، وإنما الحكمة من كون الرسول من البشر أنه يحس بإحساسهم، ويتحرك في وسطهم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110]، فالناس يقتدون ويتأسون به، فالرسل بشر من البشر، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109]، والله عز وجل لو أرسل ملكاً لجعل هذا الملك في صورة رجل كذلك، والتبس الأمر على الناس، فيقولون: هل هذا ملك أو هذا من البشر؟ قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَا

وجود إله واحد للكون تثبته الفطرة السليمة كما يثبته العقل الصحيح

وجود إله واحد للكون تثبته الفطرة السليمة كما يثبته العقل الصحيح قال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70]. فالكفر يطمس على وجوههم مع أنه لا يمكن أن يكون في الكون إلا إله واحد قابض قاهر، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فلو كان في السماوات والأرض آلهة مع الله عز وجل لفسدتا بدليل التمانع كما يقولون، فلو كان للكون إلهان خالقان مدبران وأراد أحدهما تسكين جسم والآخر تحريكه فإما أن يحدث مرادهما: أن يتحرك الجسم ويسكن في آن واحد، وإما ألا يكون مراد أحدهما فيخلو الجسم من الحركة والسكون، وهذان ممتنعان ومستحيلان، وإما أن يتحقق مراد أحدهما: أن يتحرك أو يسكن، فمن يتحقق مراده فهو الإله الحق الذي يعبد؛ لأن الإله لابد أن يكون قادراً على جلب المصالح ودفع المضار، ولابد أن ينفع عابديه فلا يمكن أن يكون في الوجود إلا إله واحد. قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] أي: أنه لا يمكن أن يكون للكون إلهان مدبران فإما أن يذهب كل إله بما خلق فيكون هذا له ملكه وسلطانه والآخر له ملكه وسلطانه، وإما أن يغلب أحدهما الآخر فيكون لا وجود له ولا سلطان له، وأما أن يكون هناك إلهان مدبران قادران قاهران في وقت واحد فهذا لا يمكن أن يكون، فهؤلاء يقولون: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70]، كما قال كفار قريش: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، أي: كيف تصير الآلهة إلهاً واحداً؟! مع أن الفطرة تشير إلى أن الإله واحد، ومع أن الأدلة كلها تدل على أنه لا يمكن أن يكون هناك إلا إله واحد قاهر، إلا أنه استولى على هؤلاء الكفار إعراض وتكذيب وإصرار على الكفر. قال تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:71]، أي: كيف أنكم تجعلون ما صنعتموه بأيديكم وسميتموه هذه الأسماء بأنه آلهة؟ فالذي يحتاج إلى من يسميه لا يستحق أن يكون إلهاً ولا يستحق أن يعبد؛ لأنه فقير إلى غيره، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23]. فالله عز وجل سمى نفسه بأسمائه الحسنى واختار أحسن الأسماء لنفسه عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، وقال أيضاً: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك). فهذه الآلهة التي تحتاج إلى من يسميها، والخلق الضعفاء هم الذين اختاروا لها هذه الأسماء، لا تستحق أن تعبد من دون الله عز وجل، فقال لهم هود عليه السلام: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:71] أي: انتظروا عقوبة الله عز وجل، وانتظروا عذاب الله عز وجل، وأجمل ما في هذه الآيات من سورة الأعراف هو كيف نجى الله عز وجل هوداً والذين معه، وبين الله عز وجل في مواضع أخرى في كتابه كيف نجى المؤمنين، وكيف أهلك الله عز وجل الكافرين؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

عقوبة المكذبين وهلاكهم

عقوبة المكذبين وهلاكهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. بين الله عز وجل كيف أهلك الكافرين المكذبين، وكيف نجى رسوله والمؤمنين، قال عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:4 - 5]، قيل: بالصيحة أو الزلزلة التي يصحبها صوت شديد هائل، {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8]. ودائماً تأتي العقوبة -عباد الله- بما يتناسب مع كفر الكافرين ومع إعراضهم، فقوم عاد كانوا عتاة جبارين وقد بسط الله عز وجل لهم في أجسامهم وفي قوتهم ولكنهم كفروا بهذه النعمة فقالوا كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15]، ما تفكروا أن الله عز وجل الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وهو قادر على إهلاكهم، فسلط الله عز وجل عليهم ريحاً، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8]. أهلكهم الله عز وجل بهواء أشد منهم قوة، ومن أضعف الأشياء الهواء الذي لا نحس به ونتحرك من خلاله سلطه الله عز وجل عليهم ريحاً شديدة. ومعنى قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة:6]: قيل: شديدة البروة وشديدة الهبوب، فكانت هذه الريح العظيمة تحملهم إلى السماء وتقذف بهم على الأرض فتنكسر رءوسهم، ثم تدخل الريح في أجوافهم فصاروا {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8] أي: ما بقي منهم من أحد. وقال بعض المفسرين بأن هذه الريح عندما أهلكتهم حملتهم وألقت بهم في البحر فلا تجد حتى أجسامهم على وجه الأرض فلا يرى إلا مساكنهم وصارت خاوية، وزاد هؤلاء الجبارون المتكبرون الذين كفروا نعمة الله عز وجل عليهم، وجحدوا قدرة الله عز وجل أن قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، أرسل الله عز وجل إليهم الرسل، ولكنهم كذبوا دعوة الرسل. عباد الله! قصص الأنبياء واحدة وإنما تختلف الأسماء والمدد الزمانية والصفات وفي نهاية القصة لابد أن يجازى الله عز وجل المؤمنين وأن يهلك الكافرين والمكذبين، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، فألحق هؤلاء بالغابرين وبالذين أغرقهم الله عز وجل من قوم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم. سنن الله عز وجل تجري في عباده، ولابد أن يقيم الله عز وجل على العباد الحجة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، فالله عز وجل يعذب المكذبين في الآخرة، قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:8 - 10]. فالله عز وجل يقيم الحجة على العباد بدعوة الرسل، فإذا كذبوا رسل الله عز وجل واستعجلوا عذاب الله عز وجل أنزل عليهم عذابه، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص:16] أي: نصيبنا من العذاب، فهم يستعجلون عذاب الله عز وجل، وكما قالوا لهود عليه السلام {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70]، وكما قال كفار قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]. فهؤلاء

من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي

من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي إن أضرار المعاصي ظاهرة في الدنيا والآخرة، فهي تعود على صاحبها بالوبال والخسران، وقسوة القلب وغفلته، وللمعاصي أسباب، أهمها: ضعف الإيمان، والجهل بالله وبرسوله ودينه، فحري بالمؤمن أن يبحث عما يقوي إيمانه ويدفع به جهله ليكون من الفائزين.

ضعف الإيمان بالله من أسباب المعاصي

ضعف الإيمان بالله من أسباب المعاصي الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد عباد الله! فأصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. عباد الله! مصيبتنا في التفريط واحدة، وأهل الأحزان أهل: إنا ليجمعنا البكاء وكلنا يبكي على شجن من الأشجانِ. مجلس الذكر مأتم الأحزان، هذا يبكي لذنوبه، وهذا يبكي على عيوبه، وهذا يبكي لفوات مطلوبه، وهذا يبكي لإعراض محبوبه. عباد الله! كثرت المعاصي في الأرض: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. قال بعض السلف: أرقهم قلوباً أقلهم ذنوباً. وقال بعضهم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة. وقال بعضهم: المعاصي سلسلة في عنق العاصي لا يفكه منها إلا الإيمان والتوبة. وقال بعضهم: المعاصي بريد الكفر -أي: رسول الكفر. فمهما أكثر العبد من معصية الله عز وجل فإنه يتخذ الشيطان ولياً من دون الله، فيعده ويمنيه، ويضله ويغويه، ولا يرضى منه دون الكفر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فكيف علاج المعاصي عباد الله؟ ما هي أسباب كثرة المعاصي في الأرض؟ وكيف يكون علاج ذلك؟ وكيف يحصن العبد نفسه؟ ومن يلوذ به من هذا الشر الواضح، وهذا الإفك الفاضح؟ أسباب المعاصي عباد الله! السبب الأول: ضعف الإيمان بالله عز وجل. السبب الثاني: هو الجهل بالله عز وجل، والجهل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. السبب الثالث: ضعف العزيمة على الرشد، فالعبد يضعف عندما يأخذ قراراً بأن يستقيم على طاعة الله عز وجل، وأن يترك معصية الله عز وجل، ومن جمع عزمه على ترك المعاصي أتته الأمداد من الله عز وجل من كل جانب. من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: الغرور والأماني، أي: يعول العبد على رحمة الله عز وجل، ويوقعه الشيطان في المعاصي، ويمد له حبال الغرور والأماني. من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي كذلك: كثرة الشهوات والشبهات. من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: مخالطة الفاسقين والنظر إلى أفعالهم، ونحن نتكلم اليوم إن شاء الله تعالى، عن السبب الأول والثاني من هذه الأسباب. فالسبب الأول: هو ضعف الإيمان بالله عز وجل، فكلما قوي إيمان العبد بالله عز وجل فإنه يرضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً. يرضى بقضاء الله عز وجل وقدره، ويرضى بشرعه، ويحب ما يحب الله عز وجل، ويبغض ما يبغضه الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]. فكلما اكتمل إيمان العبد وكمل حبه لله عز وجل، وحبه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ تجد قلب العبد وجوارحه مطمئنة بطاعة الله، ومطمئنة لما يحبه الله عز وجل ويرضاه، ومبغضة لما يكرهه الله عز وجل ويأباه؛ لأن العبد يفعل المعصية؛ ويحب شيئاً يبغضه الله عز وجل، أو يبغض شيئاً يحبه الله عز وجل، فكلما كمل إيمانه أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن). قال العلماء: ولا يكون بذلك كافراً؛ لأن هذه مقالة الخوارج، أي أنه يخرج من الإسلام بالكلية، ويفقد الإيمان بالكلية. قالوا: يبقى في قلبه أصل الإيمان، وقالوا: عنده إيمان ضعيف، ولكن هذا الإيمان لا يدفعه إلى طاعة الله عز وجل، ولا يحجزه عن معصية الله عز وجل. وقالوا: في وقت المعصية ينزع الإيمان من قلبه، ويكون فوق رأسه، فإن تاب عاد إليه مرة ثانية، وإن ل

علاج ضعف الإيمان بالتعرف على الله عز وجل

علاج ضعف الإيمان بالتعرف على الله عز وجل إن ضعفاء الإيمان ليس لديهم إيمان يبعدهم عن المعصية، ولا يوجد لديهم إيمان يدفعهم إلى المحافظة على الواجبات، فالإيمان في قلوبهم ضعيف، وقلوبهم ضعيفة متهالكة، تكاد تموت من كثرة مرضها وشدة بلائها، فكيف يعالج ضعف الإيمان بالله عز وجل؟ أول ذلك عباد الله! أن يتعرف العبد على الرب الجليل عز وجل، فكلما عرف العبد ربه عز وجل أحب الله عز وجل، وخاف منه وتوكل عليه، وكلما ازداد الإيمان زادت الخشية، وكلما ازداد الإيمان ازداد الحب لله عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية). فينبغي للعبد أن يدرس التوحيد، وأن يتعرف على الرب العزيز الحميد المجيد، حتى يحب الله عز وجل ويطيعه. تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فينبغي أن يتعرف العبد على ربه الجليل عز وجل.

علاج ضعف الإيمان بالتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم

علاج ضعف الإيمان بالتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب زيادة الإيمان كذلك: أن يتعرف العبد على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46]. وقال عز وجل منكراً على الكافرين: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69]. فكلما عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا سيرته وشمائله ومعجزاته، أحبوه وآمنوا به، فكل شيء في النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى محبته وتصديقه، كشرف نسبه وموطنه، وكمال أخلاقه وشمائله، وسيرته ومعجزاته صلى الله عليه وآله وسلم. فهؤلاء سبب كفرهم أنهم ما تعرفوا على النبي الكريم، ولو عرفوه لأحبوه، ولفدوه بآبائهم وأمهاتهم، بل فدوه بأنفسهم، وكان حبهم له أكثر من حبهم للآباء والأمهات بل للأنفس، ولا يذوق طعم الإيمان إلا من كان حبه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من كل شيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار). فلا بد أن يزداد الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحب ينشأ عن معرفته ودراسة سيرته ومعرفة معجزاته، وينشأ عن معرفة حب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

علاج ضعف الإيمان بتدبر القرآن والتفكر فيه

علاج ضعف الإيمان بتدبر القرآن والتفكر فيه من أسباب زيادة الإيمان: أن يتدبر العبد القرآن: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فكلما تدبر العبد كتاب الله عز وجل ازداد إيماناً بالله عز وجل، وازداد إيماناً بأن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، فكلما تدبر المسلم القرآن علم أنه كلام الله وأنه قصصه وأنه وحيه وتنزيله، وأنه أمره ونهيه عز وجل، بل إن علامة الإيمان الصادق أنك إذا سمعت كلام الله عز وجل يزداد إيمانك، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، وقال عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]. فكيف حالك أيها العبد! مع القرآن، هل تسمع القرآن فتزداد إيماناً وحباً وتسليماً؟ فالذين آمنوا يزدادون إيماناً، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. فحال العبد مع القرآن يميز هل هو من المؤمنين الصادقين، الذين امتلأت قلوبهم بحب الله عز وجل، أو من المنافقين الذين في قلوبهم مرض فلا يزدادون إلا شكاً وارتياباً؟ فأهل الإيمان يزدادون إيماناً، وأهل الشقاق والنفاق يزدادون شكاًً واضطراباً؛ لأنه ليس في قلوبهم حب الله عز وجل وحب كلامه.

علاج ضعف الإيمان بالمحافظة على النوافل بعد استكمال الفرائض

علاج ضعف الإيمان بالمحافظة على النوافل بعد استكمال الفرائض من وسائل معالجة ضعف الإيمان: أن يتعهد العبد نفسه بكثرة النوافل بعد استكمال الفرائض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). فمن أراد زيادة إيمانه والابتعاد عن معصية الله عز وجل والانشغال بطاعته؛ عليه أن يتعاهد نفسه باستكمال الفرائض أولاً، ثم يفتح على نفسه أبواب النوافل.

علاج ضعف الإيمان بالتفكر في مخلوقات الله عز وجل

علاج ضعف الإيمان بالتفكر في مخلوقات الله عز وجل من أسباب زيادة الإيمان كذلك: التفكر في مخلوقات الله عز وجل، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]. وقال عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]. فكلما تفكر العبد في مخلوقات الله عز وجل فإن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، وانظروا إلى هذه الأرضية التي نعيش عليها، يقول العلماء، علماء الفلك: إن الكون فيه المجرة، والمجرة فيها المجموعة الشمسية التي نحن فيها، والمجموعة الشمسية فيها بلايين الأجرام مثل الكرة الأرضية، ومنها ما هو أكبر من الأرض بآلاف المرات. ولذلك قالوا: إن الكرة الأرضية ما هي إلا رملة في صحراء موحشة. وكل هذه الأجرام هي مصابيح في السماء الدنيا، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]. فكيف تكون عظمة السماء الدنيا والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ثم العرش وهو سقف المخلوقات؟! و {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وهو أكرم من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأجمل من كل شيء، والسماوات لا تقله ولا تظله، فكلما تفكر العبد في مخلوقات الله فإنها توصله إلى الإحساس بعظمة الله وقدرته وكماله، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. وكان السلف يفضلون تفكر ساعة على قيام ليلة، أي: أن العبد لو تفكر في مخلوقات الله عز وجل ساعة، فقد يثمر هذا من الإيمان ومن الحب للملك الديان أكثر مما يثمره قيام ليلة بكاملها. وسئلت أم الدرداء عن أكثر عبادة أبي الدرداء، فقالت: كان أكثر عبادته التفكر. فإنه يوصل إلى زيادة الإيمان.

علاج ضعف الإيمان بتدبر محاسن الإسلام

علاج ضعف الإيمان بتدبر محاسن الإسلام مما يزيد الإيمان كذلك عباد الله! أن نتدبر محاسن الإسلام، فنعلم بأن دين الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل للبشرية عندما اكتملت، وهو أكبر نعمة أنعم الله عز وجل بها على العباد، فقد أنزل الله على نبيه يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فرضي الله عز وجل الإسلام ديناً للبشرية إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، ونسخ بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كل الشرائع السابقة. فهذا الإسلام هو دين الله عز وجل، الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد ديناً غيره يوم القيامة، ليس كما يظن بعضهم، ويخرج من ملة الإسلام، ويصرح بالتصريحات الخائرة التي يخرج بها من ملة الإسلام، ويموه على الناس ويضللهم ويقول: إن الأخوة الإنسانية أعمق وأشمل من الأخوة في الدين. هذا جهل بدين الله عز وجل، أو تجاهل به، فالذي يفعل ذلك يبيع دينه بعرض من أعراض الدنيا حرصاً على المناصب، فهؤلاء يسارعون في الكفر، وفي الكلمات التي تخرجهم من دين الله عز وجل. فأبو جهل كان أخاً في الإنسانية، فهل هو أحب إلينا من الصحابة رضي الله عنهم؟! وفرعون كان أخاً في الإنسانية وهو أكفر إنسان في الوجود، فكيف يقول ذلك أحد ينسب إلى جهة المفروض أنها تعلم الناس دين الله عز وجل، وتقوم على شرائع الله عز وجل؟ ولكن القلوب المريضة لا تبالي بما أصاب دينها إذا سلمت لها دنياها، وإذا سلمت لها المناصب والكراسي التي يجلسون عليها، فينبغي للعبد ألا يبيع دينه بعرض من أعراض الدنيا، وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا تكتموه؛ لأن كتمان العلم فيه تلبيس للحقائق وفيه إضلال للناس، وإبعاد لهم عن ربهم وملكهم وإلههم، فينبغي للعبد أن يكون حريصاً على دينه، ويقينه، فأي شيء يبقى للعبد إذا ضحى بعقيدته، وإيمانه ودينه؟ هل المنصب يبقي له شيئاً؟ هل ينجيه من عذاب الله عز وجل؟ هل ينجيه من سخط الله عز وجل؟ ولكنه ضعف الإيمان، ولكنه القلوب المريضة، بالشبهات والشهوات. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

علاج ضعف الإيمان بحضور مجالس الذكر والإيمان

علاج ضعف الإيمان بحضور مجالس الذكر والإيمان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. من أسباب زيادة الإيمان كذلك: أن يجلس العبد في أجواء إيمانية، وأن يتنفس هواء الإيمان، فيجلس في مجالس الذكر وفي اجتماعات الخير، وفي صلاة الجماعة وتشييع الجنائز، ويتردد على الأماكن المقدسة للحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي، فتنفس هواء الإيمان مما تترعرع به شجرة الإيمان، فتقوى على مواجهة عواصف الشهوات والشبهات.

علاج ضعف الإيمان بتنقية القلب من الأخلاق المذمومة

علاج ضعف الإيمان بتنقية القلب من الأخلاق المذمومة من أسباب زيادة الإيمان كذلك: أن ينقي العبد قلبه من الأخلاق المذمومة، ومن الحسد والبعض للمسلمين، فكلما نقى العبد شجرة الإيمان، وأزال ما بجوارها من الشجر الخبيث، فإن هذا يعود على شجرة الإيمان بالصحة. فهذا هو السبب الأول من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي، وهو ضعف الإيمان، وذكرنا كيف يعالج ضعف الإيمان، وذلك بمحبة الله عز وجل ومعرفته، ومعرفة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وتدبر القرآن، وأن يتعهد العبد نفسه بكثرة النوافل بعد استكمال الفرائض، وعبادة التفكر، وأن يعيش العبد في أجواء إيمانية، وأن يعرف العبد شرف الإسلام، ويدرس محاسنه، وأن يعلم أنه الدين الذي ارتضاه الله عز وجل للبشرية، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والسبب الأخير من ذلك عباد الله! هو تنقية شجرة الإيمان من النبت الخبيث الذي قد يخالطها، فيعود عليها بالضعف.

الجهل بالله ورسوله ودينه من أسباب المعاصي

الجهل بالله ورسوله ودينه من أسباب المعاصي أما السبب الثاني من أسباب كثرة الذنوب والمعاصي: هو الجهل بالله عز وجل والجهل برسوله صلى الله عليه وسلم وبدينه. أين من كان في سرور وغبطة؟ أين من بسط اليد في بسيط البسطة؟ جسروا على المعاصي فانقلبت على الجيم النقطة. بينما هم في الخطأ خطا إليهم صاحب الشرطة. هذا دأب الزمان إذا صفا فلحظة. كم تخون الموت منا إخواناً، وكم قرن في الأجداث أقراناً، وهذا أمر إلينا قد تبانا.

ذم الجهل وذكر بعض ما قيل فيه

ذم الجهل وذكر بعض ما قيل فيه الجهل هو أكبر داء كما قال بعض السلف: ما عصي الله بذنب أقبح من الجهل. وقيل للإمام سهل: يا أبا محمد! أي شيء أقبح من الجهل؟ قال: الجهل بالجهل، قيل: صدقت؛ لأنه يسد باب العلم بالكلية. وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور. وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور. والجهل داء قاتل وشفاءه أمران في التركيب متفقان. نص من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني. فالجهل داء وكفى بالعلم حسناً أن يفرح به من ينسب إليه وإن لم يكن من أهله، وكفى بالجهل قبحاً أن يتبرأ منه من هو فيه، فإذا قلت لأحد ليس بعالم: إنك عالم، فإنه يفرح بذلك، وإذا قلت للجاهل: إنك جاهل فإنه يحزن من ذلك مع أنه جاهل. فكفى بالعلم شرفاً أن يفرح به من ينسب إليه ويتشرف به وإن لم يكن من أهله، وكفى بالجهل قبحاً أن يتبرأ منه من فيه، ويحزن إذا نسب إليه. دائماً أهل المعاصي يوسمون بالجهل بالله عز وجل، كما قال إبراهيم الخليل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]. وكما قال يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. وقال عز وجل: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]. فالله عز وجل يصف دائماً أهل الطاعة بأنهم يتنزهون عن معصية الله عز وجل قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. وقال عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17].

آفة الجهل وضرره في الدنيا والآخرة

آفة الجهل وضرره في الدنيا والآخرة أجمع السلف على أن كل من عصى الله عز وجل فهو جاهل، وأن كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومن تاب بعد الغرغرة، فقد تاب من بعيد لا تقبل توبته. فكل من عصى الله عز وجل فهو جاهل، غلب الخوف على الأنبياء والعلماء والأولياء، وغلب أمن المكر على الفراعنة الأغبياء والكفرة والعوام والرعاع والطغام، حتى كأنهم قد حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا سطوة العقاب، ولا نار العذاب، ولا بعد الحجاب، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]. كثير من الناس يظن أن تعلم العلم نافلة من النوافل، فلا يتعلمون حتى القدر الواجب، ولا يتعلمون علم العقيدة، أو فقه العبادات، وكأن العلم نوع من التسلية، وكأن طلب العلم الشرعي هواية من الهوايات. من الناس من عنده هذه الهواية، ومن الناس من يفقد هذه الهواية، وهذا أيضاً من الجهل، بل أهل القبور يعذبون على جهلهم بالله عز وجل وبدينه. فإن العبد إذا كان في قبره يسأل عن ربه عز وجل، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن دينه، فإن كان ممن درسوا العلم الواجب وتعرفوا على ربهم عز وجل وعلى دينهم، وعلى رسولهم صلى الله عليه وسلم في الدنيا، فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ويثبتون الرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول الملكان: كيف عرفت ذلك؟ فيقول قرأت كتاب الله عز وجل فآمنت به وصدقت. فالذين لم يعرفوا ربهم عز وجل، ولم يعرفوا رسوله صلى الله عليه وسلم، تعرفوا على كل شيء إلا دين الله عز وجل. فإن سألتهم عن السيارات، أجابوا بالأنواع المختلفة، وبميزة كل نوع من الأنواع. وإن سألتهم عن الكاميرات أو (التلفون المحمول)، أو غير ذلك، فإنهم يجيبون إجابات وافية. وإن سألتهم عن الله عز وجل الذي خلقهم فإنهم لا يعرفون، وإذا سألتهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم أشرف من وطئت قدماه الأرض فإن الواحد منهم يقول: لا أدري، وإذا سئلوا عن دين الله عز وجل لا يدرون، فعند ذلك تضربهم الملائكة بمطراق لو سقط على جبل لصار تراباً، وتقول له: لا دريت ولا تليت، أي: لا تكلمت ولا علمت، فتعاقبه الملائكة. فهؤلاء يعاقبون على جهلهم بالله عز وجل، وعلى جهلهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى جهلهم بدين الله عز وجل، لأن أول واجب على العبد أن يتعرف على الله وعلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وعلى دينه فجهل الناس بالله عز وجل وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وجهلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ووجوب محبته واتباع سنته، من أسباب عذابهم في القبور، ويوم البعث والنشور. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، وعليك بالأمريكان الحاقدين، وعليك بمن والاهم من المنافقين والعلمانيين، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء، والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

نذير عذاب

نذير عذاب الذنوب والمعاصي بلاء عظيم وشر مستطير، إذا ما أحاطت بالعبد أوردته موارد المنون، وألقت به في مهاوي الردى، وهذه الذنوب والمعاصي لها آثار دنيوية وأخروية، فعلى العبد اجتنابها والحذر منها حتى لا تحيق به آثارها فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة.

آثار الذنوب والمعاصي

آثار الذنوب والمعاصي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمر محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. قال بعض السلف: أرقهم قلوباً أقلهم ذنوباً. وقال بعضهم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة. وقال بعضهم: للمعاصي سلسلة في عنق العاصي لا يفكه منها إلا الاستغفار والتوبة. أين من كان في سرور وغبطة؟ أين من بسط اليد في بسيط البسطة؟ جسروا على المعاصي فانقلبت على الجيم النقطة، بينما هم في الخطأ خطا إليهم صاحب الشرطة، هذا دأب الزمان إن صفا فلحظة، كم تخون الموت منا إخوانا، وكم قرن في الأجداث أقرانا، وهذا أمر إلينا قد تدانى. كثرت المعاصي عباد الله، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. إنهم يشكون الفقر، ويشكون عدم تيسير الأمور عليهم، ويشكون صعوبة تحصيل العلم، ويشكون ما بين الناس من الشحناء والبغضاء، ويشكون هوان الأمة على الله عز وجل وهوانها على خلق الله، وكل ذلك بسبب الذنوب والمعاصي، فليس في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة -دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور- إلى الدنيا دار الشرور والآلام والمصائب؟ وما الذي طرد إبليس ومقته ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه، وجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبدل بالقرب بعداً وبالرحمة لعنة، وبالجنة ناراً تلظى، فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وصار قواداً لكل فاسق وظالم ومجرم، رضي لنفسه بتلك القيادة بعد تلك العبادة والسيادة؟ فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك، ورشدك يا جميل اللطف! وما الذي أغرق الأرض كلها عباد الله، ولم ينج إلا أصحاب السفينة؟ وما الذي أرسل على عاد الريح العقيم: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]. وكانت عاد عمالقة، كانوا يتخذون المصانع، واغتروا بقوتهم وقالوا: من أشد منا قوة، فأرسل الله عز وجل عليهم ريحاً هي أشد منهم قوة، فكانت تحمل الواحد منهم إلى السماء ثم تقذف به على موطئ ينكسر رأسه، ويبقى بدنه كأنه عجز نخلة خاوية؟ وما الذي أرسل على ثمود الصيحة فقطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب فـ {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] فلما صار السحاب فوق رءوسهم أمطرهم ناراً تلظى؟ وما الذي رفع القرى اللوطية إلى السماء، حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، ثم أمطرهم بحجارة من سجين منضود، مسومة عند ربك للمشركين، ولإخوانهم أمثالها وما هي من الظالمين ببعيد؟ وما الذي أغرق فرعون وجنوده، ثم أرسلت أرواحهم إلى النار، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بـ قارون وداره وماله؟ وما الذي أرسل على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وقتلوا النساء والذرية؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح ودمرها تدميراً؟ كل ذلك بسبب الذنوب والمعاصي عباد الله، فليس في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي، والأرض تعج وتثج الآن بالرذائل، تثج بالمعاصي عباد الله، وهذا -والله- نذير شر ونذير عذاب، نذير شر أن نجد سوق المعاصي رائجاًً في بلاد المسلمين، وأن نجد الدعاة إلى الله عز وجل ملجمين خلف الأسوار، وأن مساجد الله عز وجل التي يذكر فيها اسمه ويدعى فيها إلى الله عز وجل تخرب، وتسند إلى من لا يتقي الله عز وجل فيها: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خ

حرمان نور العلم

حرمان نور العلم نذكر شيئاً من هذه الآثار ومن هذه العقوبات كمقدمة للكلام على بعض المعاصي الظاهرة، وكيف ينبغي على العبد أن يعالجها، وكيف يسلك سبيل علاجها. فمن عقوبات الذنوب والمعاصي: حرمان نور العلم. شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأعلمني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي لما قابل الإمام مالك الإمام الشافعي هاله ما على وجه الإمام الشافعي من النور، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية.

حرمان الرزق وضعف العقل والبدن

حرمان الرزق وضعف العقل والبدن من عقوبات الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: حرمان الرزق؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليحرم الزرق بالذنب يصيبه)، وإن تقوى الله عز وجل مجلبة للرزق، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وتضييع التقوى ومعصية الله عز وجل سبب لحرمان الرزق. ومن عقوبات الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: ضعف العقل، كما قال بعض السلف: ما عصى أحد ربه حتى يغيب عقله. وأدل دليل على ضعف العقل بالمعاصي أن صاحب المعاصي يجد اللذة لحظات، ويشقى بذلك في القبر ويوم يقوم الناس لرب العالمين. فكل ذلك يدل على ضعف العقل عباد الله، ولو حضره عقله لما رضي بهذه المساومة وبهذه المقابلة، ولما آثر لذة لحظة من اللحظات على نعيم الدنيا ونعيم القبر ونعيم الآخرة، فالمعاصي تؤثر في ضعف العقل. ومن آثار الذنوب والمعاصي: ضعف البدن، معلوم أن قوة المؤمن في بدنه، وكلما كان بدنه أقوى كان جسده أقوى، وهؤلاء العلماء الذين يشهد لهم بالتقوى كالإمام ابن المبارك وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما كم كان بذلهم وكم كانت قوتهم في الجهاد وفي البر، فقوة المؤمن في قلبه، فكلما قوى قلبه قوى بدنه، كما أن قلب المنافق ضعيف، فكذلك بدنه ضعيف، فهو لا يستطيع أن يواجه عدواً، بل هو من أسرع الناس فراراً.

ذهاب الغيرة من القلب وذهاب الحياء

ذهاب الغيرة من القلب وذهاب الحياء من عقوبات الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: أنها تذهب من القلب الغيرة، وإلا فكيف يوافق الزوج أن تسير زوجته معه وهي متبرجة متهتكة، كاسية عارية، كل ذلك بسبب الذنوب والمعاصي، ذهبت الغيرة من الرجال عباد الله، وقوة الغيرة تدل على قوة الإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) فالرجل الذي يرضى لزوجته أو لابنته أو لاخته أن تخرج متبرجة متهتكة لا إيمان له؛ لذهاب الغيرة من قلبه، مسخت الشخصية الإسلامية عباد الله، صار الناس -عباد الله- لا يتعززون، قد يكون العبد ليس عنده دين، ولكن عنده شهامة ورجولة ومروءة، ولكن أن يكون المسلم لا دين له ولا شهامة ولا مروءة له ولا غيرة عنده، فكل ذلك من مكر الليل والنهار، من أجهزة استقبال البث المباشر، من التفرج على الأزياء الغربية العاتمة التي ضاعت فيها هذه المعاني، فلا معنى للعبرات ولا معنى للحرمات، وليس هناك شيء عند الغرب يسمى الحياء، وليس هناك شيء يسمى الغيرة، وللأسف كل ذلك -عباد الله- يبث في بلاد المسلمين، ويروج له ويعلمه الناس على شاشات التلفاز، وعلى أجهزة استقبال البث المباشر، وعلى شبكة الإنترنت، وغير ذلك من الأجهزة الحديثة التي توجه كلها لهدم الإسلام، والله غالب على أمره. ومن ذلك عباد الله: ذهاب الحياء، (والحياء خير كله) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقال (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت). ذهب حياء النساء وذهبت غيرة الرجال بسبب الذنوب والمعاصي، فاختلط الأمر عباد الله، واختلط الحابل بالنابل، فلا غيرة عند الرجال، ولا حياء عند النساء، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ضعف القلب ووهنه

ضعف القلب ووهنه من عقوبات الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: أنها تضعف القلب وتوهنه، فإذا نزل بالعبد بلاء لا ينجذب قلبه للتوكل على الله، ولا يدعو الله عز وجل لكشف البلاء، فهو يقع في الذنوب وفي المصائب وفي المعايب، ولا يعرف طريق الخلاص، ولا يوفق للتوبة، ولا ينجذب للتوكل على الله عز وجل، ولا يوفق للدعاء. وأعظم من ذلك كله ما يحدث له عند الموت، حيث يخونه قلبه، ويخونه لسانه، فلا يوفق لكلمة (لا إله إلا الله) التي من قالها وختم له بها دخل الجنة، فمنهم من يقول: هو في سقر والعياذ بالله، ومنهم من يقول: لا أستطيع أن أقولها، فلسانه أثقل من جبل أحد، لا يتحرك بكلمة التوحيد عند الموت، ويخونه قلبه ويخونه لسانه أحوج ما يكون إلى ذلك. قال الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، بماذا يثبت العاصي؟ بماذا يثبت الفاجر، والمعرض عن شرع الله، والذي يحارب دين الله، والذي يوالي أعداء الله عز وجل؟ لا يكون الثبات عند الموت إلا لأهل الإيمان والعمل الصالح.

إخراج العبد العاصي من صحبة المؤمنين

إخراج العبد العاصي من صحبة المؤمنين من ذلك عباد الله: أن المعصية تخرج العبد من صحبة المؤمنين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فيحرم من صحبة المؤمنين، وإذا حرم من صحبة المؤمنين حرم مما جعله الله عز وجل للمؤمنين، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. وقال عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]. وقال عز وجل: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]. وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]. فإذا حرم العبد من لذة الإيمان، وحرم من صحبة المؤمنين فإنه يحرم مما جعله الله عز وجل للمؤمنين.

سبب نسيان الله عز وجل للعبد ونسيان العبد لنفسه

سبب نسيان الله عز وجل للعبد ونسيان العبد لنفسه من عقوبات الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: أنها تكون سبباً لنسيان الله عز وجل للعبد، ونسيان الله عز وجل للعبد على سبيل المشاكلة والمقابلة، قال عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، فنسيان الله عز وجل للعبد يحمل على أنه لا يحصل له من توفيقه ولا من هدايته، ولا يوفق إلى طاعته، وفي الآخرة لا يقسم له من رحمته، ولا يدخله في جنته، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، ولكن أطلق ذلك على سبيل المقابلة والمشاكلة. كذلك: ينسى العبد نفسه، كما قال عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، أي: ينسى العبد أن يقدم لنفسه، وينسى أن يصلح نفسه، والله عز وجل يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] فهو ينسى أن يزكي نفسه بتوحيد الله وبطاعة الله عز وجل، ويكون حاله كحال من عنده أرض أو ماشية، ولا تصلح له إلا بالتعهد والمتابعة، فينسى ذلك فيهلك ولا بد. فإذا نسي العبد نفسه فإنه ينسى أن يطيع ربه ويعبد ربه، وينسى أن يتقرب إلى الله، وينسى أن يقدم لحياته، {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].

مشقة ترك المعصية مع عدم التلذذ بها

مشقة ترك المعصية مع عدم التلذذ بها من ذلك عباد الله: أن العاصي يفعل المعاصي ولا يجد لذة للمعاصي، بل يجد مشقة في ترك المعاصي فهو يقارف المعاصي لا للذة يجدها في المعصية، بل من أجل العنت والمشقة والشقاء الذي يجده إذا ترك المعصية، كما قال بعضهم: وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها وقال بعضهم: فكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر فالعبد الذي يكثر من معصية الله عز وجل تكون المعاصي هيئات راسخة، فإذا تكاسل عن معصية الله عز وجل نفثت عليه الشياطين تؤزه إليها أزاً، وتزعجه إليها إزعاجاً، كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً، وتدفعهم إليها دفعاً. فمن يكثر من طاعة الله عز وجل يجد حلاوة الطاعة، وإذا وجد في فترة من الفترات تكاسلاً عن طاعة الله عز وجل، فإن الملائكة تثبته وتعينه وتلهمه الصواب، كما قال الله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]. وإن كان سبب نزول الآية في غزوة بدر، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:66 - 69]، رفقة طيبة تأتي لطاعة الله عز وجل، وتأتي للإيمان بالله عز وجل، ومن يتولى هذا الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم، هو معهم في الدنيا بالحب والموالاة وبالطاعة والانقياد، وهو معهم بالشوق إلى لقائهم في الآخرة، وهو معهم كذلك في الآخرة، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70]، أي: هذا هو الفضل من الله عز وجل، ليس المال وليس الشهوات وليس الشهرة وليس سراب الدنيا: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:70]، كفى بالله الذي يعلم ما هو الخير لبني آدم، فالإيمان والعمل الصالح وصحبة أهل الخير والإيمان والدخول في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:70]. الطاعة -عباد الله- تقرب للعبد وليه من الملائكة، فيقترب منه الملك حتى كأنه ينطق على لسانه، كما أن المصروع ينطق الجني على لسانه، فالرجل الصالح يقول الكلمة من الخير فيقال: كأن ملكاًً تكلم بها على لسانه. فإذا أطاع العبد ربه عز وجل قرب منه وليه من الملائكة ليوفقه ويسدده ويلهمه ويعينه على طاعة الله عز وجل، ويؤنس وحدته، ويذهب وحشته. وإذا عصى العبد ربه عز وجل ابتعد عنه الملك وقرب منه الشيطان قرينه من الجن ومن الشياطين، ويوحون إليه بالمعاصي عباد الله، ويدفعونه إلى المعاصي دفعاً، ولا يدري أنه يجره إلى النار وإلى العناء وإلى البوار، فإذا كان يوم القيامة يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]. فينبغي للعبد -عباد الله- أن يعمل الأعمال التي تقربه من الله، وتقرب منه ملائكة رب الأرض والسماء، حتى يوفق إلى الطاعة، وحتى يعان على الثبات على دين الله عز وجل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

زوال البركة

زوال البركة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله فإن من عقوبات الذنوب والمعاصي: أنها سبب لزوال البركة، فلا تجدون البركة اليوم في الرزق، ولا تجدونها في الوقت، ذهبت البركة لكثرة المعاصي في الأرض، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، فلو أن العباد كانوا على بساط التقوى يتقون الله عز وجل لوجدوا البركة في الزروع وفي الثمار وفي الأبدان وفي الماشية وفي الأولاد وفي الزوجات وفي الأوقات. فكثرة المعاصي -عباد الله- تكون سبباً لزوال البركة، وجد في خزائن بني أمية حبة حنطة مثل نواة التمرة في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل. وفي آخر الزمان عباد الله عندما يوفق الله عز وجل رجلاً من آل النبي صلى الله عليه وسلم اسمه كاسمه واسم أبيه كاسم أبيه، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فتخرج الأرض بركتها عباد الله، وتكفي الرمانة الفئام من الناس، ويستظلون بقحفتها، وتكفي اللقحة -أي: الناقة ذات اللبن- المجموعة الكبيرة من الناس، ويكون عنقود العنب وقر بعير عباد الله، فإذا طهرت الأرض من الفساد ودخل الناس في طاعة رب العباد تظهر البركات عباد الله، وتنزل عليهم من السماء، وتخرج لهم من الأرض.

حرمان الاسم الحسن وانتكاس القلب وعدم الانتفاع بالمواعظ

حرمان الاسم الحسن وانتكاس القلب وعدم الانتفاع بالمواعظ من عقوبات الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: أن العبد يحرم الاسم الحسن، فبدلاً من أن يقال: مؤمن متق محسن متصدق صوام قوام، يقال له: ساقط، زان، سارق، مجرم، {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11]. ومن عقوبات الذنوب والمعاصي كذلك عباد الله: أنها تضعف القلب في سيره إلى الله عز وجل، وقد تعطفه وقد تنكسه فينتكس وتكون سبباً في الرين الذي يكون على القلوب كما قال الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. قال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب. فكلما أكثر العبد من معصية الله عز وجل يكون على قلبه من هذا الرين الذي يمنع انتفاعه بالموعظة، فيقولون: من علامة من غرق في الذنوب: ألا يجد للطاعة موقعاً، ولا للذنوب مشبعاً، ولا للموعظة منزعا. أي: أن الإنسان لا يتأثر بالوعظ، فالله عز وجل جعل القرآن هدىً ورحمة للمؤمنين، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44] فالقرآن رحمة للمؤمنين. فكثرة الذنوب -عباد الله- تجعل العبد لا ينتفع بالقرآن، بل يكون عليه عمى، ويزداد شكاً واضطراباً، ويزداد عباد الله رجساً إلى رجسه، كما قال الله عز وجل {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. فالإنسان عندما يستمع القرآن إما أن يخرج بزيادة أو نقصان، فالمؤمن سليم القلب عباد الله يزداد إيماناً وتصديقاً وحباً لله عز وجل ولطاعته، والكافر والفاجر والمنافق والذي في قلبه مرض يزداد شكاً واضطراباً.

حرمان الطاعة ووجود الوحشة بين العبد وربه وبينه وبين الناس

حرمان الطاعة ووجود الوحشة بين العبد وربه وبينه وبين الناس من عقوبات الذنوب والمعاصي: أن يحرم العبد طاعة الله عز وجل، فكم من نظرة منعت قيام ليلة، وكم من نظرة حرمت قراءة سورة، فالعبد عندما يذنب ذنباً قد يحرم من طاعة كان يعملها، وقد يضعف قلبه عن هذه الطاعات التي يعملها. ومن عقوبات الذنوب والمعاصي عباد الله: وحشة تكون بين العبد وبين ربه عز وجل وبينه وبين المؤمنين، والله إن من ينظر نظرة محرمة يجد أثرها في قلبه ويجد شقاءها في قلبه، ويجد الوحشة في قلبه، فكيف بالذي يقارف الزنا، والذي يأكل أموال الناس بالباطل! والذي ينتهك حرمات المسلمين! والذي يصد عن سبيل رب العالمين؟! والله إنهم لفي غاية الشقاء وإن كانوا لا يصرحون بذلك فهم أشقى الناس، وأن الله عز وجل هو الذي أخبرنا بذلك، وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] فصبره ضيق، وحياته ضيقة، ورزقه ضيق، والقبر عليه ضيق، ثم يحبس في جهنم يوم القيامة في ضيق. أما المؤمن عباد الله فقلبه متسع {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]، فقلبه متسع، والله عز وجل يوسع رزقه، ويفسح له قبره مد البصر عباد الله، وفي الآخرة أدنى أهل الجنة منزلة له مثل الدنيا وعشر أمثالها، ولكن الناس لا يعون ذلك أيضاً. وأهل والمعاصي لا يفقهون، بخلاف المتقين أولي الألباب فهم الذين يتذكرون، وهم الذين يتعظون، وهم الذين ينتفعون.

سواد في القلب وظلمة في الوجه

سواد في القلب وظلمة في الوجه من عقوبات الذنوب والمعاصي: سواد في القلب وظلمة في الوجه، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة لنوراً في الوجه، وضياء في القلب، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية لسواداً في الوجه، وظلمة في القلب، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق. حسنات معجلة للطائعين، وعقوبات معجلة للعاصين، وما ينتظره من عقاب الآخرة أكبر، فينبغي علينا أن ننتبه من غفلتنا، وأن نتذكر وأن نتوب وأن نرعوي. التوبة التوبة قبل أن يأتيكم من الموت النوبة، ولا تحصلوا إلا على الخسران والخيبة. الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة. الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة. أيها العاصي! لا يقطع من صلاحك الطمع، ما نصبنا اليوم سرج المواعظ إلا لتقع، فإذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة فقال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا، فقل لهم: كلا، ذلك خمر الهوى الذي قد عهدتموه، قد استحال خلاً. يا من سود كتابه بالسيئات، أما آن لك بالتوبة أن تمحو. يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصفو. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا ربه العالمين، ورد كيده إلى نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم من كادنا فكده يا رب العالمين، اللهم من مكر بنا فامكر به يا رب العالمين، اللهم من قصدنا لسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم عليك بالذين يصدون عن سبيلك ويبغونها عوجاً. اللهم عليك بالذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين، اللهم دمرهم تدميراً، والعنهم لعناً كبيراً. اللهم نصرك الذي وعدت للمؤمنين، حيث قلت وأنت أصدق القائلين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين. اللهم أصلح شيوخ المسلمين، اللهم أصلح أطفالنا وأطفال المسلمين، ورد عنهم كيد الكائدين يا رب العالمين. اللهم اهد نساء المسلمين للحجاب والعفة والحياء والصيانة والديانة يا رب العالمين، اللهم صنهن بالحجاب يا رب العالمين. اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وصية للأمة

وصية للأمة بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم لينقذ البشرية ويخرجها من الظلمات إلى النور، ويدلها على خيري الدنيا والآخرة، وقد قام بذلك صلى الله عليه وسلم خير قيام، فأرشد أمته إلى كل خير وحذرها من كل شر، ومن جملة ما أرشد به وصيته لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهي الوصية المشهورة الجامعة النافعة.

أهمية حفظ العبد لدين ربه عز وجل

أهمية حفظ العبد لدين ربه عز وجل الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]. فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وأن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف). وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في صيد الخاطر: تدبرت هذا الحديث فأدهشني حتى كدت أن أطيش، فوا أسفاً من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه! فهذا الحديث الذي يرويه حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فيه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس، ومن خلاله يوصي الأمة كلها. يقول: (يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) وحفظ الله عز وجل: أن تحفظ حدود الله عز وجل، وأن تحفظ حقوقه، وأن تحفظ أوامره ونواهيه. فالواجب على العبد أن يحفظ الله عز وجل، ومن حفظ الله عز وجل أن تحافظ على الصلاة كما قال عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، وكما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة). ومن ذلك: حفظ الطهارة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). ومن ذلك: أن يحفظ الرأس وما وعى، وأن يحفظ البطن وما حوى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطن وما حوى). فمن حفظ الرأس: أن يحفظ سمعه، وأن يحفظ بصره، فلا يقع بصره على محرم، وأن يحفظ لسانه فلا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يقع في الغيبة والنميمة وغير ذلك، وأن يحفظ فمه فلا يدخل منه طعام حرام، ويحافظ على سمعه وبصره ولسانه وجميع جوارحه. ومن ذلك: قول الله عز وجل: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] أي: لا يحلف العبد كثيراً، وإذا حلف وحنث في حلفه فعليه أن يكفر عن يمينه. من ذلك: حفظ الفرج، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يحفظ ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة). وفي رواية الصحيح: (من يضمن لي ما بين لحييه -أي: لسانه- وما بين رجليه -أي: فرجه- أضمن له الجنة).

حفظ الله عز وجل للعبد

حفظ الله عز وجل للعبد فمن حفظ الله عز وجل في سمعه وبصره ولسانه وفرجه وحافظ على حدود الله عز وجل، وحافظ على حقوق الله عز وجل، وحافظ على أوامر الله عز وجل بأن يؤديها، وحافظ على مناهي الله عز وجل فلا يقع فيها كان جزاؤه من الله عز وجل الحفظ، كما قال عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]. وكما قال عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]. فالجزاء من جنس العمل، فالحفظ من الله عز وجل للعبد يكون على نوعين: النوع الأول: أن يحفظ سمعه وبصره ولسانه، وأن يحفظ عليه جوارحه، وأن يؤيده بقوته، وأن يحفظ ماله، وأن يحفظ أولاده، هذا حفظ في الدنيا. النوع الثاني: حفظ الإيمان، وذلك أن يحفظ على العبد إيمانه، فلا يقع في الشهوات ولا في الشبهات، وأن يحول بينه وبين المعصية التي توجب غضب رب الأرض والسماوات. أما النوع الأول من الحفظ فهو أن يحفظ الله عز وجل على العبد قوته، كما حفظ ذلك لـ أبي الطيب الطبري وكان قد جاوز المائة سنة، فقد جاء أنه وثب وثبة شديدة من مركب إلى الأرض فعوتب على هذه الوثبة فقال: جوارح حفظناها في الصبا فحفظها الله عز وجل علينا في الكبر. فمن حافظ على جوارحه من معصية الله عز وجل فالله عز وجل يمتعه بسمعه وبصره وقوته. والعكس بالعكس، رأى الجنيد شيخاً كبيراً يسأل الناس فقال: هذا ضيع الله عز وجل في الصبا فضيعه الله عز وجل في الكبر. من فارق سدة سيده لم يبق لقدمه قرار، والله! ما جئتكم زائراً إلا وجدت الأرض تطوى لي، ولا ثنيت العزم عن بابكم إلا تعثرت بأذيالي. فالعبد إذا حفظ الله عز وجل حفظه الله عز وجل، حفظ صحته، وحفظ ماله، وحفظ أولاده، كما كان سعيد بن المسيب -وقيل: سعيد بن جبير - يقول لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك، ويتأول قول الله عز وجل: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]. فصلاح الآباء يكون سبباً في حفظ الأبناء، قال عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]. فمن حفظ تقوى الله عز وجل فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقوى الله عز وجل فقد ضيع نفسه، والله عز وجل غني عنه، قال عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)، وفي الرواية الأخرى: (تجده معك) والمعية من الله عز وجل على نوعين: معية عامة لجميع الخلائق: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، فالله عز وجل مع جميع الخلق بسمعه وبصره وقدرته وإحاطته، فهذه معية عامة لجميع الخلق تستوجب من العبد الحذر والخوف من الله عز وجل، وتقوى الله عز وجل ومراقبة الله عز وجل. المعية الثانية: معية النصرة والتأييد والتوفيق والتسديد، كما قال عز وجل حاكياً عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ أبي بكر رضي الله عنه في رحلة الإسراء: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، أي: معنا بسمعه وتوفيقه وتسديده. وكما قال عز وجل لهارون وموسى عليهما السلام: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: أسمع ما يراد بكما، وأرى ما يحاك بكما، وأسمع دعاءكما، وأعلم ما تحتاجان إليه. وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فمن كان مع الله عز وجل بطاعته وتقواه ومع دين الله عز وجل يعز دين الله ويرفع دين الله عز وجل ويرفع راية الله عز وجل مع الله عز وجل بالحب والنصرة والتأييد لدينه ورسوله وكتابه فالله عز وجل معه. قال قتادة: من كان مع الله عز وجل كان الله معه، ومن كان الله عز وجل معه كان معه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل. فإذا كنت مع الله عز وجل كان الله عز وجل معك، معيته لأنبيائه وأوليائه معية التأييد ومعية النصرة ومعية التسديد. إذا كنت بالله مستعصماً فماذا يضيرك كيد العميل فمن كان مع الله عز وجل كان الله عز وجل معه.

أهمية صرف السؤال لله عز وجل وذم سؤال الخلق

أهمية صرف السؤال لله عز وجل وذم سؤال الخلق قال عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله). السؤال بذل للوجه، كان بعضهم يقول: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن مسألة غيرك. وكان أحدهم إذا عرضت له مسألة للخلق يهتف به هاتف من داخله: الوجه الذي يسجد لله عز وجل لا تبذله لغير الله، لا تبذله لغير الله. وفي الحديث: (من سأل الناس تكثراً -أي: وعنده ما يكفيه- فإنه يأتي يوم القيامة وقد سقط لحم وجهه) لأنه أراق وجهه في الدنيا. فالسؤال لا يكون إلا لله؛ لأن العبد لا يذل نفسه إلا لله عز وجل، وقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ العهد عن بعض الصحابة ألا يسألوا أحداً إلا الله عز وجل، منهم أبو بكر رضي الله عنه، فكان يقع منه السوط وهو على البعير فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه، بل ينزل بنفسه فيأخذه، لا يسأل إلا الله عز وجل. فالسؤال ذل، والسؤال يكون لمن يقدر على جلب جميع المصالح، ودفع جميع المضار، وليس هناك أحد يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا سألت فاسأل الله). وقال عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]. وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. كان بعض الناس يتردد على بعض الملوك، فقال له أحد العلماء: يا هذا! تذهب إلى من يسد دونك بابه ويظهر لك فقره، ويخفي عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه، ويظهر لك غناه، ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]! لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب فالعبد لا يسأل إلا الله عز وجل، ومن لم يسأل الله يغضب عليه، لأنه عز وجل غني كريم ولأنه عز وجل يحب أن يتفضل على عباده: (يد الله ملأى لا تغيضها نفقة -أي: لا تنقصها نفقة- سحاء الليل والنهار) أي: ينفق على عباده بالليل والنهار. (أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه) أي: لم ينقص ما في يمينه. وفي بعض الروايات: (ذلك بأني جواد واجد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون). فالله عز وجل غني كريم ويخلق بكلمة (كن)، إذا أراد شيئاً يقول له: كن، فيكون، فهو وحده الغني: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:16 - 17]. فالعبد يسأل من يقدر على كشف الضر، ومن يقدر على جلب المنافع كلها، ولا أحد يقدر على ذلك إلا الله عز وجل. قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) والاستعانة: هي طلب العون والمساعدة، ولا تجوز الاستعانة في الأمور كلها إلا بالله عز وجل، يجوز أن تستعين بمخلوق في قضاء حاجة من حوائج الدنيا يقدر عليها ذلك المخلوق، ولكن لا يجوز أن تستعين بمخلوق في أن يخبرك بمغيب، وفي أن يشفي لك مريضاً أو يرد لك غائباً. فالاستعانة لا تكون إلا بالله عز وجل. والاستعانة بالمخلوق قسمان: استعانة شركية، واستعانة غير شركية. الاستعانة الشركية: أن تستعين بمخلوق في أن يشفي لك مريضاً أو يرد لك غائباً، كمن يستعين بالمقبورين في أن يردوا لهم غائباً، أو يشفوا لهم مريضاً، فهذه استعانة شركية. أما الاستعانة بالمخلوق في قضاء أمر من أمور الدنيا أو شراء شيء أو بيع شيء له أو إجارته فهذه استعانة غير شركية. أرسل أحد السلف إلى أخيه يقول له: أما بعد: لا تستعن بغير الله فيكلك إليه. أي: فلا يجلب لك نفعاً، ولا يدفع عنك ضراً. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، وهذا مدار الوصية، فمدار الوصية: أن تعلم أن الأمر بيد الله، وأن الملك بيد الله، وأن خزائن السماوات والأرض بيد الله عز وجل، فإذا علمت ذلك عرفت الله عز وجل، كما قال أبو عاصم الأنطاكي: إني أريد ألا أموت حتى أعرف مولاي. فلا يريد المعرفة العامة التي يعرفها كل الناس أن الله عز وجل هو رب الناس ملك الناس إله الناس، ولكن يريد أن يعرف الله عز وجل معرفة ينقطع عن الخلق إلى الله عز وجل، فلا يستعين إلا بالله، ولا يسأل إلا الله عز وجل. وهذه المعرفة تدعوه إلى أن يحفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، تدعوه إلى أنه لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا

مدار وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس

مدار وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فهذا مدار الوصية: أن تعلم أن الله عز وجل هو رب الناس، وهو المتصرف في شئون الناس كيف يشاء، وأنه مالك الملك عز وجل، وأن مقادير الخلائق بيد الله عز وجل، قال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]. لو اجتمع الخلق كلهم على أن يجلبوا لك نفعاً لم يقدره الله عز وجل لك لا يقدرون على ذلك، وإن اجتمع الخلق كلهم على أن يمنعوا عنك نفعاً أراده الله عز وجل بك لا يقدرون على ذلك. قال عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] فالأمر كله بيد الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي: أن نفساً لن تموت حتى تستوفي أجلها ورزقها). ويقول صلى الله عليه وسلم: (اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير) أي: إذا كان لك مصلحة عند أحد من الخلق فاطلب ذلك بعزة النفس، لأن الأمر ليس بيد هذا المخلوق، بل الأمر بيد خالق الملك ومالك الملك عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم: (اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير) فإذا وثق العبد بذلك كان أعز الناس، وكان أغنى الناس بالله عز وجل، وكان أقوى الناس بالله عز وجل، ومع ذلك يحافظ على حدود الله عز وجل وحقوقه وأوامره ونواهيه، من كان كذلك أتاه النفع من حيث يخاف أن يحصل للعبد الضر، كما روي أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسرت به مركب فوقع في جزيرة ولم يعرف الطريق، فرأى أسداً فقال: يا أبا الحارث! أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دلني على الطريق. قالوا: فأخذ الأسد يهمهم ويشير أمامه حتى دله على الطريق، ثم همهم له وانصرف كأنه يودعه. فآتاه النفع والخير ممن يخاف منه الضر. كذلك من ضيع تقوى الله عز وجل فإنه يأتيه الضر ويأتيه المشقة والعنت ممن يرجو منه النفع، كما قال بعضهم: إني لأعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وامرأتي. أي: أن الدابة التي تحمله، والزوجة التي تخدمه وتقضي له شئونه يأتيه النكد وتأتيه المشقة ممن يرجو منه النفع وممن يرجو منه أن يخدمه ويسهل له أموره. فمن عرف أن الأمر بيد الله انقطع عن الخلق إلى الحق وتعلق قلبه بالله عز وجل لا يرجو إلا إياه ولا يخاف إلا من الله، ويحافظ على حدود الله، ويسأل الله عز وجل، ويستعين بالله عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) وهذه كناية من أعظم الكنايات تدل على تقدم المقادير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة). كتب الله عز وجل المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فكتب متى تولد، وكم تعيش في الدنيا، وكم ترزق في الدنيا، وعملك في الدنيا وسعيك في الدنيا، وكم توفق إلى طاعة الله، وكم تهمل فتعمل بمعصية الله عز وجل، كل ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة) لأن علم الله عز وجل أحاط بالماضي وأحاط بالحاضر وأحاط بالمستقبل، فعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالله عز وجل علم كل شيء، وقدر كل شيء، وكتب كل شيء من أزمنة متطاولة، فرفعت الأقلام أي: كتبت بها مقادير الخلائق، ومن طول المدة جفت الصحف، فكيف يرجو العبد غير الله؟ وكيف يؤمل في غير الله؟ وكيف يخاف من غير الله عز وجل؟ من علم ذلك انقطع إلى الله عز وجل وعمل بطاعة الله عز وجل وكان مع الله عز وجل. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أهمية تعرف العبد على ربه عز وجل في الشدة والرخاء

أهمية تعرف العبد على ربه عز وجل في الشدة والرخاء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: قال صلى الله عليه وسلم -كما في الرواية الأخرى-: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). فقوله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله تجده أمامك) أي: تجده تجاهك، وتجده معك. وقد فسر ذلك في الرواية الأخرى: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) أي: أن العبد إذا كان في وقت النعمة والرخاء يصعد منه كلم طيب وعمل صالح إلى الله عز وجل فإنه إذا وقع في الشدة دعا الله عز وجل فقبل دعوته وفرج كربته. قال بعض السلف: تعرفوا إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفكم في الشدة، فإن يونس عليه السلام كان ذاكراً لله عز وجل عارفاً بالله عز وجل في الرخاء، فلما وقع في بطن الحوت نجاه الله، قال الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]. ولما كان فرعون كافراً جاحداً ناسياً لذكر الله عز وجل لما وقع في البحر: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] قال عز وجل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92] فكلاهما ذكرا الله عز وجل في الشدة وأعلن إيمانه في الشدة، ولكن يونس عليه السلام كان من أنبياء الله عز وجل فكان من المدحضين، ولما وصل إلى ظلمة بطن الحوت دعا الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144] أي: لصار بطن الحوت قبراً له. أما فرعون فكان جاحداً ناسياً ذكر الله عز وجل مستكبراً على طاعة الله عز وجل، أعلن إيمانه وهو يعاني الغرق فلم يقبل الله عز وجل منه، بل جعله الله عز وجل عبرة للمعتبرين، فقال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. فينبغي على العبد أن يجتهد في طاعة الله عز وجل في الرخاء حتى إذا وقع في الشدة عرفه الله عز وجل بقبول الإجابة، كما حدث للثلاثة الذين دخلوا غاراً فوقعت صخرة عظيمة على باب الغار، فتوسلوا إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة التي عملوها في وقت الرخاء، فأما أحدهم فتوسل إلى الله عز وجل ببره بوالديه، وأما الثاني فتوسل إلى الله عز وجل بأمانته وبأنه دفع للأجير أجره بعد تثميره له مع ما ثمره له، وأما الثالث فتوسل إلى الله عز وجل بعفته عن ابنة عمه، وأنه ترك لها ما طلبته منه، فعند ذلك تحركت الصخرة وخرجوا من الغار؛ لأنهم توسلوا إلى الله عز وجل بأعمال صالحة عملوها في وقت الرخاء. قال صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك). الله عز وجل يحرس الناس بالليل والنهار، كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] من يحفظكم من دون الله عز وجل؟ وكل الله عز وجل الملائكة يحفظون العبد من بين يديه ومن خلفه، كما قال عز وجل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] قيل: المعقبات ملائكة تحفظ العبد، فإذا جاء القدر تخلوا عنه. وكل أحد منا مر في عمره بأشياء كان يمكن أن يهلك فيها كحوادث السيارات وغير ذلك، والله عز وجل ينجيه، فالله عز وجل وكل ملائكة يحفظون العبد من بين يديه ومن خلفه، ويدفعون عنه الشرور والمهالك، ولكن إذا قدر الله عز وجل شيئاً فإن الملائكة الحفظة يتركون العبد من أجل أن ينفذ فيه قدر الله عز وجل وقضاؤه. قال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] أي: لا يحدث شيء في الأرض إلا بإذن الله عز وجل. وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال بعض السلف: هي المصيبة تصيب العبد فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

اقتران النصر بالصبر

اقتران النصر بالصبر قال صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) فالنصر مع الصبر، لذلك يقول الله عز وجل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] فاشترط الصبر، ثم نسخ ذلك بقوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66]. وقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46] فالصبر من أعظم أسباب النصر. قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب) كما قال بعضهم: إذا اشتد الكرب هان. وفي ذلك لطيفة وهي: أن العبد إذا أصيب ببلاء فإنه قد يعلق قلبه بغير الله ويرجو من فلان أن يدفع عنه هذا الضر، وأن يكشف عنه هذا الكرب فيزداد عليه الكرب، فيعلق قلبه بمخلوق آخر يرجو من جهته أن يرفع الضر، وأن يكشف الكرب، فيزداد الكرب، حتى إذا ازداد الكرب جداً عند ذلك ييأس العبد من الخلق ويعلق قلبه بالخالق عز وجل، فعند ذلك يكشف الله عز وجل الكرب. فإذا كان المشركون إذا ركبوا البحر وأتت ريح عاصفة وكادوا يهلكون يخلصون الدعاء لله عز وجل والعبادة لله عز وجل فينجيهم الله عز وجل، فكيف لا يحدث ذلك للمؤمن؟ فالعبد إذا اشتد به الكرب وأيقن الهلاك لا شك أنه ييأس من المخلوقين ويعلق قلبه بالله عز وجل، فإذا علق قلبه بالله عز وجل أتى الفرج، وكشف الله عز وجل الكرب.

اقتران اليسر بالعسر

اقتران اليسر بالعسر قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). قال عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7] أي: أن اليسر يأتي سريعاً بعد العسر، فكأن اليسر من سرعته مع العسر. وقال بعضهم: إذا دخل العسر جحراً دخل اليسر وراءه. قال عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. ويقولون: إن النكرة إذا كررت أفادت إضافة، وأن المعرفة إذا كررت لم تفد إضافة، ولذلك قال بعضهم: لا يغلب عسر يسرين، أي: أن مع كل عسر يسرين، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. فهذا الحديث النبوي وصية جامعة تشتمل على قواعد كلية وأصول عظيمة من أصول هذا الدين، وهو ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من المنافقين والعلمانيين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية، اللهم أنزل عليهم رجزك وغضبك وعذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم إنا نسألك أن تقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعله ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم اهد أطفالنا وأطفال المسلمين يا رب العالمين، اللهم اهد شيوخ المسلمين، اللهم اهد نساء المسلمين للعفة والحجاب والحياء يا رب العالمين، ورد عنهن كيد الكائدين، وجملهن بالحياء والحجاب يا رب العالمين. اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

وظيفة المسلم الحقيقية

وظيفة المسلم الحقيقية وظيفة المسلم الحقيقية التي خلق من أجلها هي عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، فعلى المسلم أن يتفرغ لهذه الوظيفة التي خلق من أجلها، وألا ينصرف إلى سواها؛ حتى يفوز بسعادة الدارين.

الحكمة من خلق الخلق

الحكمة من خلق الخلق الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. عباد الله! إن الله لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم، عرضه على السماوات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه إشفاقاً ووجلاً، وقلن: ربنا إن أمرتنا فسمعاً وطاعة، وإن خيرتنا فعافيتك نريد لا نبغي بها بدلاً، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه عن حمله، وباء به بظلمه وجهله، فألقى أكثر الناس الحمل عن ظهورهم لشدة مئونته عليهم وثقله، وصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة، لا ينظرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم، ولا يتفكرون في قلة بقائهم في الدنيا الفانية، وسرعة مصيرهم إلى الآخرة الباقية، فقد ملكهم باعث الحس، وغاب عنهم داعي العقل، وشملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني الباطلة والخدع الكاذبة، إذا بلغهم حظ من الدنيا بآخرتهم طاروا إليه زرافات ووحداناً، ولم يؤثروا عليه فضلاً من الله ولا رضواناً، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون. خلق الله عز وجل الخلق من أجل وظيفة معينة ومن أجل مهمة معينة، فمن عمل بهذه الوظيفة ومن قام بهذه الوظيفة حق القيام أفلح وأنجح وسعد في الدنيا والآخرة، ومن تغاضى عن هذه الوظيفة ولم يهتد إلى معرفتها أو عرفها ولكنه لم يقم بها خاب وخسر وكان حظه في الدنيا الضنك والشقاء والهم والغم والحزن، وينتقل من ذلك إلى ضيق الآخرة وإلى عذاب الآخرة، والآخرة أدهى وأمر. ما خلقنا الله عز وجل لأجل أن ننشغل بالكرة، وننظر أي فريق من فرق الكرة ينتصر، وما خلقنا الله عز وجل للجلوس على المقاهي، وما خلقنا الله عز وجل للهو والعبث، وما خلقنا الله عز وجل من أجل أن نتسمر أمام شاشة الفيديو أو التلفاز أو استقبال البث المباشر. لقد بين الله عز وجل الوظيفة التي خلق الله عز وجل من أجلها الخلق، والتي من أجلها أرسل الله عز وجل الرسل، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فالله عز وجل خلق العباد من أجل أن يعبدوه وحده عز وجل، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: إلا ليعرفون. أي: ليعرفوا الله عز وجل ويوحدوا الله عز وجل، ليعرفوا الله عز وجل بأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته. وهذه المعرفة تدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وحده، فالله عز وجل خلق العباد من أجل الطاعة والعبادة، وأرسل الله عز وجل الرسل من أجل أن يدعوا الناس إلى عبادة الله عز وجل، ومن أجل أن ينبهوا الناس إلى الوظيفة التي خلقهم الله عز وجل من أجلها، فقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال عز وجل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]. وأول أمر في كتاب الله عز وجل أمر بالعبادة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. فالله عز وجل خلق الخلق من أجل أن يعبدوه عز وجل، ومن أجل أن يفردوه عز وجل بالعبادة، فمن عرف هذه الوظيفة وقام بها أفلح وأنجح وسعد في الدنيا والآخرة. هذه الوظيفة فهمها تلامذة النبي صلى الله عليه وسلم والدعاة إلى الله عز وجل في كل زمان ومكان، فينبغي عليهم أن يجعلوا هذه الوظيفة نصب أعينهم، وأن يعلموا أن مهمتهم هي مهمة الرسل، لأنهم أتباع الرسل، والرسل

لذة الطاعة وشؤم المعصية

لذة الطاعة وشؤم المعصية فالعبد ينبغي أن يكون كله لله عز وجل، وقته لله عز وجل، وزهده لله عز وجل، وماله لله عز وجل، وزوجته وأولاده لله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فالعبد لا يجوز له أن يعمل ويؤدي إلى غير سيده، بل يجب عليه أن يؤدي إلى سيده، فلا يجوز له أن يختلس من وقته شيء ولا من جهده شيء ولا من ماله شيء، فكل عمله لله عز وجل، فهو يصلي لله ويصوم لله ويحج إلى بيت الله الحرام ويسعى إلى معاشه لله عز وجل ليقوم بالواجبات عليه، بل ينام لله عز وجل، كما قال معاذ: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. فعمله كله لله عز وجل، وليله ونهاره لله عز وجل، يظن الناس أن من كان كذلك فإنه يعيش مكدر الخاطر، منغص الضمير؛ لأنه لا يفعل ما تهواه نفسه، ولا ما يزينه إليه شيطانه؛ لأنهم يتوهمون أن العبد لا يمكن أن يسعد حتى يفسق عن أمر الله عز وجل ونهيه، وحتى يتبع الهوى، وحتى يفعل ما تأمره به الشياطين. وهذا من الظن الفاسد، بل لا سعادة له إلا في طاعة الله عز وجل، وفي عبوديته لله عز وجل، وأن يكون كله لله عز وجل، فمن الناس من ليس منه شيء لله عز وجل، فهو بباطنه ليس مشغولاً بالله، وليس ممن يحب الله عز وجل وينشغل بطاعته، وأعماله خارجة عن طاعة الله عز وجل. ومن الناس من يكون ظاهره لله عز وجل، فهو يقف في الصف مع المصلين، ويقف بعرفات مع الواقفين، ويخرج مع الحجاج والمعتمرين، ولكن قلبه في الشهوات يهيم. وهذا ينطبق عليه قول القائل: يخبرني البواب أنك نائم وأنت إذا استيقظت أيضاً فنائم فمثل هذا لا يجد طعم الإيمان، ولا يجد حلاوة الإيمان، ولا يجد سعادة الإيمان، لأنه لا يجد ذلك إلا من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، لا يجد العبد طعم الإيمان وحلاوة الإيمان حتى يكون كله لله عز وجل، فهو بظاهره مشغول بطاعة الله وباطنه مع الله عز وجل، وقلبه مملوء بحب الله عز وجل، وسعادته في أن يخلو بالله وفي أن يذكر الله عز وجل، وفي أن يجلس في مجالس ذكر الله عز وجل، وفي تحقيق العبودية لله عز وجل، فكلما حقق العبد كمال العبودية لله عز وجل فإنه يسعد في الدنيا والآخرة، وتجري في قلبه أنهار الجنة، ويفتح لقلبه باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها، كما قال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف. وقال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وقال بعضهم: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة. وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات يرقص فيها القلب طرباً. وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كما نحن فيه والله! إنهم لفي عيش طيب. لماذا لم نجد هذه المعاني الإيمانية ولم نصل إلى هذه الأحوال الشريفة الرضية؟ لأننا لسنا جميعاً لله عز وجل، وفي قلوبنا من حب الدنيا ومن الشهوات ومن المعاصي الظاهرة والباطنة ما حرمنا بسببه من وجود لذة الطاعة والعبادة كما وجد السلف رضي الله عنهم. وقال شيخ الإسلام: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة. وكان يقول: ما يفعل بي أعدائي؟ أنا جنتي معي، بستاني في صدري، إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله. ولما سجن في القلعة نظر من خلف الباب وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. وكان تلميذه العلامة شيخ الإسلام ابن القيم يقول: كنا إذا ضاقت بنا الأمور واشتدت بنا الأحوال نلقاه فما أن نراه إلا يذهب كل ذلك عنا وينقلب انشراحاً وفرحاً، ولقد كان من أطيب الناس عيشاً مع ما كان فيه من شدة العيش وخلاف الرفاهية، كانت نضرة النعيم تلوح على وجهه. فالحمد لله الذي فتح لعباده باباً إلى جنته فأتاهم من ريحها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، وهم ما يزالون في دار العمل. وشيخ الإسلام تجاوز الستين سنة وما وجد حياة الراحة والاستقرار حتى يتزوج، بل كان من سجن إلى سجن ومن معركة إلى معركة ومن مناظرة إلى مناظرة، لم يفرغ يوماً حتى يتزوج زوجة حسناء، أو يملك سرية حسناء، ولا سعى خلف دينار ولا درهم ولا سعى لمنصب، فكانت حياته كلها بذل لله عز وجل وعبودية لله عز وجل، فكيف وجد سعادة الإيمان وحلاوة طاعة الله الرحمن؟ بل كيف يجد من رآه حلاوة الإيمان؟ وكيف ينشرح صدر من رآه من أتباعه من المؤمنين والأولياء الذين رؤوا ذكر الله؟ ورد عن أيوب السختياني سيد شباب أهل البصرة من التابعين: أنه كان إذا دخل السوق ورأوه هللوا وسبحوا وكبروا، أي: لما يرون عليه من آثار الطاعة والعبادة. فالم

حاجة البشر إلى الإسلام

حاجة البشر إلى الإسلام الإسلام حاجتنا إليه أكثر من حاجتنا إلى هذا الهواء الذي نتنفسه، فقد تمكث يوماً أو أياماً بغير طعام ولا شراب ولكن هل تستطيع أن تبقى دقائق معدودة بغير أن تتنفس الهواء؟ فالإسلام كهذا الهواء الذي ينشرح به الصدر، والذي تكون به الحياة، كما قال عز وجل: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] فالمؤمن منشرح الصدر بالإسلام، كما ينشرح الصدر بالهواء بل أعظم وأجل. وقال الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] والذي يصعد في السماء يختنق؛ لأن ضغط الجو في طبقات الجو العليا يخف وتقل نسبة الأوكسيجين فيختنق من يصعد في السماء، فكذلك من حرم من الإسلام ومن دين الملك الديان فإنه يختنق، لا أقول: يختنق جسده، بل يختنق قلبه ويخسر الدنيا والآخرة، وتضيع عليه مصالحه في الدنيا والآخرة. نسأل الله عز وجل أن يمتعنا بنعمة الإيمان، وأن يرزقنا حلاوة الإيمان، وأن يختم لنا بخير وعافية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

سبب فلاح العبد وسبب شقائه

سبب فلاح العبد وسبب شقائه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: عباد الله! لما خلقت القلوب لمعرفة علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل صارت سعادتها في طاعة الله عز وجل وفي عبادة الله عز وجل وفي توحيد الله عز وجل، فإذا تعلق القلب بغير الله فالتعاسة والشقاء: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). والقلب لو كان فيه غير الله عز وجل يشقى بذلك شقاءً لا يرجى له فلاح، حتى يعرف الله عز وجل، وحتى يتعلق بالله عز وجل تعلق المحب المضطر، فكما خلقت العين للإبصار والأذن للسماع واللسان للتحدث والذوق خلق القلب لمحبة الله عز وجل ومعرفة الله عز وجل، فإذا خلا من حب الله عز وجل وطاعته فهو كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء والجسد الميت، فلا سعادة للعباد إلا في طاعة الله عز وجل وفي تحقيق كمال العبودية لله عز وجل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب عبد قط هم ولا غم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء همي وحزني؛ إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً). لما خلقت القلوب لمعرفة علام الغيوب وتوحيد علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل صار علاج القلوب كذلك في التوحيد، فالقلوب لا تصلح إلا بالتوحيد، فمن أصيب بهم أو غم أو حزن والهم: ما يصيب القلب عند انتظار مكروه في المستقبل، والغم: ما يصيب القلب عند المصيبة الحاضرة، والحزن: هو الأثر الباقي في القلب نتيجة لمصيبة سالفة. والقلوب تصاب بضعف التوحيد، وإلا فلو كانت دائماً مقبلة على الله عز وجل موحدة لله عز وجل فلن تجد شيئاً من ذلك، بل تجد السعادة باستمرار وتجد حلاوة الأنس بالله عز وجل، ونحن في أنفسنا شاهد على ذلك، فليس منا أحد فعل الطاعة ولم يفعل المعصية، وليس منا أحد لم يذق طعم الطاعة، فنحن جميعاً جررنا الطاعة والمعصية، فكم أطعت الله عز وجل فوجدت أنساً في قلبك وحلاوة في قلبك، وإقبالاً على الله عز وجل وفرحاً بالله عز وجل! وكم خذلت ووقعت في المعصية أو الغفلة فوجدت الوحشة والضنك والشقاء! فالقلوب أسعد ما تكون إذا أقبلت على الله عز وجل، فالقلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة. ونكتة المسألة: إذا سلم القلب قربه الله عز وجل وأدناه، فيسعد بالله عز وجل، ويأنس بالله عز وجل، ويستغني بالله عز وجل، وإذا فعل العبد المعصية طرده الله عز وجل عن حضرته وأبعده بقدر جريمته، فيجد الوحشة بينه وبين الله عز وجل وبينه وبين عباد الله المؤمنين. فسعادة القلوب في قربها من الله عز وجل، وفي إقبالها على الله عز وجل، فإذا أصيب القلب بشيء من الهم أو الغم أو الحزن فعلاجه أن يعود إلى التوحيد، وأن يجدد توحيده للرب العزيز الحميد المجيد، وأن يقف العبد ذليلاً على ذات ربه العزيز عز وجل، ويقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك. فهو ليس عبد ابن سيد، ولكنه عبد وابن عبد وابن أمة، فالعبودية متأصلة فيه. وقوله: (ناصيتي بيدك) فيه إقرار منه بتمام الخضوع لربوبية الله عز وجل، فمن كمال ربوبية الله عز وجل أن الله تعالى أذل جميع الخلق وقهر جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، كما قال عز وجل: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير، يملك نواصي العباد ويملك قلوب العباد، يصرف قلوب العباد كيف يشاء، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] فالله عز وجل لو شاء أن يهدي كل الخلق لهداهم بكلمة واحدة، ولكن كيف تكون الدعوة إلى الله عز وجل؟ وكيف يوجد الدعاة إلى الله عز وجل؟ فالله عز وجل قادر على هداية جميع الخلق دون خطب ودون دروس ودون كتب وأشرطة، ولكن الله عز وجل يريد أن يبذل الدعاة إلى الله عز وجل، كما أن الله عز وجل قادر على أن يهلك روسيا وأمريكا وسائر الملل الكافرة، وأن يدمر اليهود تدميراً بصيحة واحدة من جبرائيل تهلكهم عن آخرهم، ولكن كيف يكون البذل؟ وكيف تكون التضحية؟ وكيف تظهر آيات الجهاد والبذل لإعلان دين الله عز وجل؟ وكيف يتخذ الله عز وجل من يشاء من الشهداء؟. فالله عز وجل هو رب الناس، أي: يربيهم ويملك أمورهم، وهو الذي قهرهم ودبرهم كيف أراد: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْت

التوسل بأسماء الله عز وجل

التوسل بأسماء الله عز وجل وقوله: (ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك) هذا فيه توسل مشروع بأسماء الله عز وجل الحسنى، والله عز وجل هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء الحسنى؛ لأن من علامة النقص والفقر والحاجة أن يحتاج العبد إلى من يسميه، والله عز وجل غني ومن سواه فقير إليه، وقد عاب الله عز وجل الآلهة الباطلة فقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23] فهم فقراء يحتاجون إلى من يسميهم، والله عز وجل هو الذي سمى نفسه بالأسماء الحسنى، فأنزل بعضها في بعض كتبه، وعلم بعضها بعض خلقه، واستأثر الله عز وجل بعلم بعضها. وهذا يدل على أن لله عز وجل أسماء لا نعرفها ولم يعرفها أحد من خلق الله عز وجل. وقوله: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك) هذا لا ينافي قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر) أي: من جملة أسماء الله عز وجل تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة. وهذا يدل على أن هذه الأسماء من الأسماء التي علمها الله عز وجل لبعض خلقه، أو نزلت في كتاب الله عز وجل، أو جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى ذلك أن الله عز وجل ليس له إلا هذه الأسماء، وهذا -كما قال شيخ الإسلام - شبيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض) أي: من جملة درجات الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله. وهذا الفهم كذلك موافق لقول الله عز وجل: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] فالله عز وجل يعلم ولا يحاط به علماً، فنحن لا نعرف كل أسماء الله عز وجل؛ لأن هذا إحاطة بعلم الله عز وجل أو إحاطة علم بالله عز وجل. فالله عز وجل يعلم ولا يحاط به علماً؛ لعظمة الله عز وجل، كما أنه عز وجل يرى في الآخرة ولا يدرك، يرى كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث ولكنه لا يدرك، كما قال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لعظمة الله عز وجل، والإدراك فوق الرؤية، كما قال عز وجل: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62] فحصلت الرؤية ولم يحصل الإدراك؛ لأن الإدراك هو: الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه. سئل ابن عباس عن قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وعن قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]؟ فقال للسائل: سوف أضرب لك مثلاً من خلقه، قال: أفترى السماء؟ قال: نعم. قال: أفتدركها؟ قال: لا، قال: الله أعظم وأجل. فالسماء خلق من خلق الله عز وجل، كم فيها من المجرات ومن النجوم ومن الكواكب؟ وما هي أحجامها وأبعادها؟ وما هي مساراتها؟ كل ذلك لا يستطيع العبد عندما ينظر إلى السماء أن يحيط علماً بها، وهي خلق من خلق الله عز وجل، فكيف بالله عز وجل وهو فوق كل شيء وأكبر من كل شيء؟ فهو يعلم ولا يحاط به علماً، كما أنه يرى في الآخرة ولا يدرك. قال صلى الله عليه وسلم: (أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء همي وحزني) فالقرآن مثله كمثل الربيع - أي: المطر - والمطر ينزل نزولاً واحداً على الأرض، والأرض تختلف، فهناك أرض طيبة إذا نزل عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فتثمر الثمار اليانعة، كذلك القلوب الطيبة التي ينزل عليها القرآن تثمر الأحوال الحسنة والمعاني الطيبة والأعمال الصالحة، وهناك قلوب لا تزداد إلا شكاً واضطراباً. قال عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا وهمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم إنا نسألك أن تقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا

الإخلاص والمتابعة شرطان لقبول العمل

الإخلاص والمتابعة شرطان لقبول العمل رضا الله تعالى عن العبد هو المقصود الأول من العبادة والعمل، ولا يبلغ العبد درجة الرضا عنه إلا بما كان خالصاً له تعالى من الأعمال موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أتى بما ينقضه هذان الأمران أو أحدهما فعمله مردود وجهده هباء منثور.

شرطا قبول العمل

شرطا قبول العمل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً. ثم أما بعد. قال بعض السلف: ما من فعلة وإن صغرت إلا ونشر لها ديوانان: لم وكيف؟ أي لم فعلت هذا الفعل؟ وهل أردت به وجه الله عز وجل وحده أم أشركت معه غيره؟ وكيف فعلت هذا الفعل؟ وهل هو مطابق لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم هو من البدع المحدثات؟ وكل بدعة ضلالة. فيشترط لقبول العمل شرطان: الشرط الأول: الإخلاص. الشرط الثاني: متابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم. دل على هذين الشرطين قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. فالعمل الصالح هو الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] أي: يكون هذا العمل صادراً عن إخلاص. وقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125]، فإسلام الوجه هو إخلاص القصد والنية، والإحسان هو متابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]. لم يقل الله عز وجل: أكثر عملاً، بل قال: ((أحسن عملاً)). فالامتحان في حسن العمل وليس في كثرته. قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل. فهذان شرطان لقبول أي عمل، فينبغي للعبد أن يوفر هذين الشرطين: الإخلاص، والمتابعة.

الإخلاص

الإخلاص قيل في تعريف الإخلاص: هو إفراد الله عز وجل بالقصد في العبادة، أي: أن يعمل العبد العمل لا يريد به إلا وجه الله عز وجل. وقيل: هو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل من جميع الشوائب. وقيل: هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق. هذه معاني الإخلاص. وقد يظن ظان بأن الإخلاص أمر يسير يتيسر لكل عبد في كل حال، في حين أن العلماء يقولون: تخليص النيات على العمال أشق عليهم من جميع الأعمال. وقال بعضهم: إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز. وقيل للإمام سهل: يا أبا محمد! أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص؛ إذ ليس لها فيه نصيب. فالنفس تحب الظهور والمدح والرياسة، وزينت لها الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فحتى يتيسر للعبد الإخلاص وتختم به أعماله ينبغي عليه أن يقطع حب الدنيا من قلبه، وأن يملأه بحب الله عز وجل، فيكون المحرك له من داخله محبة الله عز وجل وإرادة الدار الآخرة، فعند ذلك يتيسر عليه الإخلاص، وأما غيره فباب الإخلاص مسدود عليه إلا في النادر. قال ابن عمر رضي الله عنهما: لو أعلم أن الله عز وجل يقبل مني سجدة بالليل وسجدة بالنهار لطرت شوقاً إلى الموت، إن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. فالإخلاص من أشد الأشياء على النفس. وقال عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فكل عمل كان بإرادة غير الله مشوباً مغموراً يجعله الله عز وجل يوم القيامة هباءً منثوراً. وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. وقال عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، أي: لا يقبل الله عز وجل إلا الدين الخالص. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر - أي المدح - فما له؟ قال: لا شيء له، فأعادها السائل عليه ثلاث مرات، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له. ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه). وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) أي أن العمل مهما كان موافقاً للسنة فإنه لا يُقبل إلا بتوفر النية الصالحة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) يخص الطاعات والمباحات دون المعاصي، فإن المعصية لا تصير طاعة بالقصد الصالح والنية الصالحة، ولكن العمل المباح تقوى النية الصالحة على رفعه إلى درجة الطاعات، فيمكن للعبد أن يتاجر بمباحاته مع الله عز وجل، فالنية الصالحة ترفع رتبة المباح فتجعله من القربات والطاعات، ولكن لا تقوى النية الصالحة على أن تقلب البدعة سنة أو تقلب المعصية طاعة. هذا الشرط الأول من شرطي قبول العمل، وهو الإخلاص.

المتابعة

المتابعة الشرط الثاني: وهو متابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، دل على هذا الشرط قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فكل عمل لا يندرج تحت الشريعة ولا تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم حاكمة عليه بالصحة فهو مردود على فاعله وغير مقبول مهما كانت نية صاحبه؟ فمن عمل عملاً لا يندرج تحت الشريعة ولم تكن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم حاكمة عليه بالصحة فهو رد، بمعنى مردود. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). وقال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). فخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم. وقال الإمام مالك: الاعتصام بالسنة نجاة؛ لأن السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك. قال الحسن البصري: ادعى ناس محبة الله عز وجل فابتلاهم الله عز وجل بهذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. وقال بعضهم: قال بعض الصحابة: نحن نحب ربنا حباً شديداً، فأحب الله عز وجل أن يجعل لحبه علامة، فأنزل قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. قال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوفقه الله إلى صاحب سنة يحمله عليها. فمن فضل الله عز وجل على الشاب إذا سلك طريق العبادة أن يوفق إلى صاحب سنة يحمله على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العبد في طريق تعبده يكون فارغ القلب ليس عنده علم يكشف له حقائق الأمور، ويميز به بين الحق والباطل، وبين البدعة والسنة، فإذا وفِّق لصاحب سنة حمله على السنة، وقد يوفق لغير ذلك، فيُحمل على غير ذلك، كما قال بعضهم: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا ودخل المعتمر بن سليمان على أبيه وهو منكسر فقال: ما لك؟ قال: مات أخ لي، قال: مات على السنة؟ قال: نعم، قال: وتحزن عليه؟! وقال سفيان الثوري رحمه الله: لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بمتابعة السنة. وقال الحسن البصري: السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا. وقد بشّر النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء طائفة ظاهرة على الحق ترفع راية السنة وتقيم الحجة على سائر الخلق، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) فلا يأتي على أمة النبي صلى الله عليه وسلم زمان تُحرّف فيه الكتب ويضل الناس ويضيع الحق في الأمة كما أتى على اليهود والنصارى، بل لا بد أن تبقى طائفة مستمسكة بالسنة، ترفع رايتها وتُقيم الحجة على سائر أهل زمانها، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الكتاب والسنة، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

فضل العلم والعلماء

فضل العلم والعلماء دل الكتاب والسنة والإجماع على فضل العلم وأهله، ومن ذلك أن الله سبحانه يرفع الذين أوتوا العلم درجات، وأن الله تعالى يسهل الطريق إلى الجنة لطالب العلم، وأن العلماء ورثة الأنبياء، والشهداء لله بتوحيده، فنسأل الله أن يسلك بنا سبيل العلماء العاملين.

بيان فضل العلماء وشرفهم

بيان فضل العلماء وشرفهم

أدلة فضل العلم والعلماء من الكتاب

أدلة فضل العلم والعلماء من الكتاب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: دلت الأدلة كلها من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على فضل العلم والعلماء، فمن ذلك قوله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، فدلت هذه الآية على فضل العلم والعلماء من أوجه: الوجه الأول: أن الله عز وجل استشهد العلماء دون سائر الخلق. والوجه الثاني: أن الله عز وجل قرن شهادة العلماء بشهادته عز وجل وشهادة ملائكته. الوجه الثالث: أن هذا تضمن تعديل العلماء كما ورد في الأثر، وروي موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، فتضمن استشهاد الله عز وجل بالعلماء تعديلهم. الوجه الرابع: أن الله عز وجل استشهدهم على أجل مشهود عليه، وأعظم مشهود عليه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله. ومما يدل على فضل العلم كذلك: أن الله عز وجل أمر نبيه بأن يطلب مزيداً من العلم فقال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. من الأدلة كذلك: قوله عزوجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، فالله عز وجل يرفع أهل الإيمان وأهل العلم درجات، وهذه الدرجات ليست في الآخرة وحدها، بل هي درجات في الدنيا والآخرة، كما أرسل وهب إلى مكحول يقول له: أما بعد: فقد بلغت بظاهر علمك عند الناس منزلة وشرفاً فابتغ بباطن علمك عند الله منزلة وزلفاً. أي: أن العبد بظاهر العلم من المحاضرات والدروس والخطب والكتب وغير ذلك يرتفع في قلوب الناس؛ لمحبة الناس لدين الله عز وجل، ولمحبتهم لله عز وجل، ولكن المنزلة عند الله عز وجل لا تكون إلا بالخشية والإخلاص ومحبته عز وجل. قال سفيان الثوري: إن هذا الحديث عز، فمن أراد به الدنيا وجدها، ومن أراد به الآخرة وجدها. فطالب علم الحديث لابد أن يرتفع، فمن أراد بذلك الدنيا وجد الرفعة في الدنيا، ومن أراد الآخرة وجد الرفعة في الدنيا والآخرة. وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء. فأشرف الناس وأرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، الذين يعرفون الناس بربهم عز وجل وبدين الله عز وجل، ويحببون الناس في الله عز وجل وفي دين الله، فهؤلاء أرفع الناس منزلة، وهم الأنبياء والعلماء. وقال الله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، فما كان الناس لينفروا كافة -أي: يخرج الناس كلهم للجهاد بالسيف والسنان، بل تخرج طائفة تقاتل بالسيف والسنان، وطائفة تتعلم العلم حتى تقيم الحجة بالقلم واللسان، فإذا عادت الطائفة التي نفرت للجهاد علمتها الطائفة القاعدة التي تفقهت وعلمت دين الله عز وجل. كذلك مما يدل على فضل العلم: أن الله عز وجل أحل صيد الكلب المدرب أو المعلم، ولم يحل صيد الكلب الجاهل؛ وذلك لشرف العلم: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4]. فلشرف العلم جعل الله عز وجل صيد الكلب المعلم والمدرب حلالاً؛ لأنه يمسك لصاحبه، أما الكلب الجاهل فصيده لا يجوز أكله؛ لأنه ميتة؛ ولأنه يمسك لنفسه لا لصاحبه.

أدلة فضل العلم والعلماء من السنة

أدلة فضل العلم والعلماء من السنة من أدلة السنة على شرف العلم وفضله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها). فالحسد هنا يراد به الحسد الشرعي وهو الغبطة، أما كون المسلم يتمنى زوال النعمة عن أخيه المسلم فهذا حسد مذموم وهو من المعاصي، بل من الكبائر، أما أن يتمنى المسلم ما عند أخيه المسلم دون تمني زوال ما عند أخيه فهذا من الغبطة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد)، من أراد أن يحسد إنساناً يحصل له به خير فليحسد أحد هذين الرجلين: من عنده مال وسلط على إنفاقه في سبيل الله عز وجل، ومن عنده علم فهو يقضي به ويعمل به ويعلمه؛ لأن هذين الصنفين أجورهما متزايدة، ونفعهما متعد إلى غيرهما، فلا يحسد الصوام القوام؛ لأن نفعه لا يتعدى إلى غيره، ولكن يحسد من ينفع الناس، إما بعلمه وإما بماله. كذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فالحديث بمنطوقه من أراد الله عز وجل به خيراً فقهه في دينه، فإذا وجدنا إنساناً فقه دين الله فنحن نجزم بأن الله عز وجل أراد به خيراً. والحديث يفهم منه العكس، من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، فالذي ملك الدنيا أو الشهرة لم يرد الله عز وجل به خيراً؛ لأنه لم يفقهه في الدين، فالله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين ولا العلم النافع إلا من أحبه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]. فنحن نجد عند الكفار والعلمانيين والذين يصدون عن سبيل رب العالمين من زينة الدنيا ومن زهرتها أكثر مما عند أهل الإيمان؛ لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذلك. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو ينفق ماله يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل عند الله، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته وهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي فيه رباً ولا يصل فيه رحماً ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوأ المنازل عند الله، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته وهما في الوزر سواء). وأكثر الناس من الصنف الأخير، ليس عنده علم ولا مال، ولكنه يتمنى أنه لو كان عنده مال لعصى بهذا المال، كما يفعل من عنده مال وليس عنده علم. إذاً: الشرف بجملته للعلم وأهله، وهذا مما يدل على شرف العلم وفضله. جاء في السنة: (أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان -مكان بين مكة والمدينة وهو أقرب إلى مكة- وكان عمر قد استخلفه على مكة فقال له: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا) والمولى يطلق على من كان عبداً وأعتق، ويطلق على المعتق أحياناً. قال: (من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا، قال: استخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض. قال: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله ليرفع بهذا العلم أقواماً ويضع به آخرين). فالعلم يرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك، كما ذكر ذلك إبراهيم الحربي قال: ذهب سليمان بن عبد الملك وابناه إلى عطاء بن أبي رباح، وكان عبداً أسود لامرأة في مكة، وكانت أنفه باقلاء، وذهبوا يسألونه عن مناسك الحج، وكان يصلي، فلما انفتل -أي: انتهى من صلاته- ظل يرد عليهم من خلف قفاه -أي: لا يقبل على الخليفة وابنيه- فقال سليمان بن عبد الملك لابنيه: قوما ولا تنيا في طلب العلم، فلا أنسى ذلنا بين يدي ذلك العبد الأسود. وروى الحربي كذلك، قال: كان عنق محمد بن عبد الرحمن الأوقص داخلاً في بدنه، وكان منكباه -أي: كتفاه- خارجين كأنهما زجان، فقالت له أمه: إنك لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منهم والمستهزأ به، فعليك بالعلم فإنه يرفعك، قال: فولي قضاء مكة عشرين سنة، أي: أنه طلب العلم حتى صار قاضي مكة عشرين سنة. قال: وكان الخصم إذا جلس أمامه بين يديه يظل يرعد حتى يقوم؛ لما ألقى الله عز وجل عليه من مهابة العلم. ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أذلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء فف

حديث كميل بن زياد

حديث كميل بن زياد إن خير الناس هم القرن الذين بعث فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، وذو المناقب والفضائل العظيمة، الذي فجر الله على لسانه ينابيع الحكمة بكلمات الصدق والعلم، ومن جملة تلك الكلمات ما أوصى به كميل بن زياد، فقد جمع له في وصيته ما يحتاج إليه في دينه ودنياه، وحثه على طلب العلم وأوصاه بالعمل به، فرضي الله عنه وأرضاه.

وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لكميل بن زياد

وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لكميل بن زياد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: روى أبو نعيم في الحلية عن كميل بن زياد قال: أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر جعل يتنفس ثم قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة، بلى أصبته لقناً، غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذات، سلس القياد للشهوات، أو مغرى بجمع الأموال والادخار، وليس من دعاة الدين، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته، حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه، آه آه شوقاًَ إلى أولئك، وأستغفر الله لي ولك، إذا شئت فقم. فهذا الأثر موقوف على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو من أحسن الآثار معنى، فيقول كميل بن زياد -وهو أحد التابعين-: أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي، فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر -أي: صار بالصحراء- قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية، فخيرها أوعاها -يعني: أحفظها وأنصحها- احفظ عني ما أقول لك. وهذا يدل طالب العلم على أن الحفظ هو رأس مال طالب العلم، اجتهد في حفظ القرآن وما شاء الله عز وجل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأشعار المستحسنة في الزهد والترغيب في الآخرة، والتزهيد في الدنيا، ومن أقوال السلف ومن الكلمات الطيبة، والآثار الطيبة. (أحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني)، قيل: نسبة إلى الرب عز وجل، وقيل: نسبة إلى التربية، وقالوا: العالم الرباني هو الذي بلغ الذروة في العلم والعمل والتعليم، كما قال عز وجل: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة:63]. فالأحبار هم العلماء، والربانيون خواص العلماء، الذين وصلوا إلى الذروة في العلم والعمل والتعليم: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79].

الأمور التي تلزم المتعلم ليكون على سبيل النجاة

الأمور التي تلزم المتعلم ليكون على سبيل النجاة قال: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة. والمتعلم على سبيل النجاة ينبغي له أمران: الأمر الأول: أن يبتغي بتعلمه وجه الله عز وجل؛ لما ورد في الحديث: (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يطلبه إلا ليصيب به عرض الدنيا، لم يجد عرف الجنة -أي: ريح الجنة- يوم القيامة). فينبغي له أن يبتغي بتعلمه وجه الله عز وجل. والأمر الثاني: ينبغي له أن يتعلم العلم النافع، وهو علم الكتاب والسنة، ولا يتعلم علم الكلام أو الفلسفة أو المنطق أو الكيمياء أو غير ذلك من العلوم المذمومة، ولكن يتعلم العلم النافع كما قال بعضهم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه وقال بعضهم: كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك فوسواس الشياطين فيتعلم علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم، وحتى يكون على سبيل النجاة عليه أن يتعلم العلم النافع، ويبتغي بتعلمه وجه الله عز وجل. ثم قال: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. ليس عندهم بصيرة، وليس عندهم علم، فكلما صاح بهم صائح فإنهم يتبعونه؛ لأنه ليس عندهم من العلم الذي يكشف لهم عن عوار الدعوات، وعن الأهواء والبدع. قال بعضهم: كن عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتهلك. فالعبد إما أن يكون عالماً أو متعلماً، ولا يكون الثالث فيهلك.

خطر الجهل وعدم العمل بالعلم

خطر الجهل وعدم العمل بالعلم ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح. شبه قلوبهم الضعيفة الخالية من العلم النافع بالغصن الرطيب الأخضر، الذي كل ما أتت ريح مال معها، إذا أتت ريح من الشمال مال معها، أو من الشرق مال معها، يميلون مع كل ريح، ثم بين سبب حالهم هذا، فقال: لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. فالجاهل مثل الأعمى، والإنسان إما أن يكون له بصر يبصر به الطريق وما فيه من عقبات، وإما أن يكون أعمى فيمسك بيد بصير. أما إذا كان هو فاقداً للبصر، ولا يمسك بيد بصير فالسلامة نادرة. وقوله: لم يستضيئوا بنور العلم، ليس عندهم بصيرة العلم النافع، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، أي: إلى عالم يهتدون بعلمه. ثم قال: العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة. فالعلم إذا أنفق العبد منه وإذا علمه فإنه يزداد ويثبت في قلب معلمه، فزكاة العلم أمران: العمل به كما قال بعضهم: يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. ورد في تفسير هذه الآية الكريمة، أنه من عمل بما علم أورثه الله عز وجل علم جليلاً، الإنسان إذا تعلم مسألة فعمل بها، فالله تعالى يفتح عليه بمسألة جديدة، فالعلم يزكو بالعمل به، ويزكو كذلك بتعليمه.

فضل العلم ومنزلة العلماء

فضل العلم ومنزلة العلماء قال: العلم يزكو على الإنفاق، والمال نتقصه النفقة، العلم حاكم -يحكم على الملوك فمن دونهم-، والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها؛ لأن محبة العلم تدعو إلى التعلم، وحب العلماء وحب أهل العلم دين يدان الله عز وجل به. قال: ومحبة العلم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته. دخل رجل البصرة، فقال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري فقال بم سادهم؟ قالوا: احتاجوا إلى علمه، واستغنى عن دنياهم. فالعلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة -أي: الذكر الحسن والثناء الطيب- بعد وفاته. قال: وصنيعة المال تزول بزواله. أي: من يتصنع لك من أجل مالك، ومن يحترمك من أجل مالك، ومن يخدمك من أجل مالك، إذا ذهب هذا المال، تذهب الصنائع، ويذهب الاحترام، وتذهب الخدمة كما قال بعضهم: وكان بنو عمي يقولون مرحباً فلما رأوني معسراً مات مرحب ثم قال: العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء. فكم في الدنيا من يملك المليارات، ولا يحس به أحد، ولا يعرفه أحد؛ لأنه يعيش لنفسه، لا ينتفع الناس به، ولم ينفع الناس بعلم نافع ولا بعمل صالح، فكثير من أصحاب الأموال أموات وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، هؤلاء العلماء الذين ملئوا الدنيا علماً، علماء الحديث والفقه والتفسير والعقيدة وغيرهم من علماء الأمة الأعلام، ما فقدنا إلا أعيانهم وأجسامهم، ولكن ذكرهم ومحبتهم، وعلمهم باق يتوارثه الناس، ولا يكاد يمر يوم حتى يذكر الناس الشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك، وشيخ الإسلام ابن تيمية كأنهم أحياء بين ظهرانينا. قال: مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه إن هاهنا علماً. قالوا: يجوز للعالم أن يخبر أن عنده من العلم، لا من أجل التفاخر والتكبر على عباد الله، ولكن من أجل أن يسأله من يحتاج أن يسأل العلماء، ومن أجل أن يستفاد منه ويُتعلم منه، وحتى لا يضيع نفسه، فـ علي بن أبي طالب كان يعين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان عمر يقول: نعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن. أي: لا يستطيع أن يحل إشكالها أبو حسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فيقول: آه آه إن هاهنا علماً، لو أصبت له حملة. يشتكي وهو في الأزمنة المتقدمة -أزمنة الجيل الأول والثاني- من فقدان طلبة العلم الذين يقومون بحقه. قال: لو أصبت له حملة، بلى أصبته لقناً، غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، أي: يصل إلى أغراضه الدنيوية بالدين، وبإظهار الزهد والورع والعلم. قال: يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده. يتعالى على شرع الله عز وجل وعلى عباد الله بما حصله من العلم ومن الحجج الشرعية. قال: لا ذا ولا ذاك. فهذان الصنفان الأولان: من يصل إلى أغراضه الدنية الدنيوية بالعلوم الشرعية، والثاني وهو الذي يتعالى ويتكبر على دين الله، وعلى عباد الله. يقول: لا ذا ولا ذاك، أو منهوم باللذات، سلس القياد للشهوات، الذي يلهث خلف الشهوات الدنيوية، فمثل هذا لا يؤهل لوراثة النبوة، ولا يؤهل لطلب العلم، والدعوة إلى الله عز وجل، ويقال له: فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد قال: أو منهوم باللذات، سلس القيادة للشهوات، أو مغرم بجمع الأموال والادخار، ليس له هم إلا جمع المال. يقول: ليسوا من دعاة الدين. هؤلاء الأصناف الأربعة: ليسوا من دعاة الدين. قال: كذلك يموت العلم بموت حامليه، وفيه إشارة إلى الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

صفات العلماء الربانيين

صفات العلماء الربانيين ثم شرع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في بيان صفات العلماء الربانيين الذين يقومون بحق هذا الدين وبالدعوة إلى هذا الدين، فيقول: اللهم بك لن تخلوا الأرض من قائم لله بحججه لئلا تبطل حجج الله وبيناته. وفيه إشارة إلى الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). فلا بد أن تكون هناك طائفة من الأمة ترفع راية السنة، وتقيم الحجة على عباد الله، وهؤلاء لا يتركون الساحة خالية، بل الله عز وجل يوفق لهم من هو مثلهم، ومن يسير على دربهم، ومن يأخذ علمهم، ومن يتناول الراية منهم، فيقول علي رضي الله عنه: اللهم بك لن تخلوا الأرض من قائم لله بحججه لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدراً. فهم قليل، ولكنهم هم الأعظم عند الله قدراً: بهم يدفع الله عن حججه وبيناته، حتى يودعوها نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر. أي: علموا الدنيا وحقارتها وزوالها وعلموا الآخرة وبقائها: فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، فصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى. فهم مع الناس ينظرون إليهم ولا يرونهم، يسمعون كلامهم ولا يعونه، ولكنهم بقلوبهم يسبحون مع الأرواح العلوية حول العرش. فاستلانوا ما استوعر منه المترفون من طريق الدعوة إلى الله عز وجل لأن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، فسلكوا طريق الدعوة وتحملوا الصعاب، وبذلوا لإعلاء دين الله عز وجل. ثم قال: استلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك هم خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه، آه آه شوقاً إلى أولئك، وأستغفر الله لي ولك، إن شئت فقم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أقسام القلوب وعلامات مرض القلب

أقسام القلوب وعلامات مرض القلب الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، ولا تكون حياة القلوب حياة سعيدة إلا بامتثال أمر الله عز وجل واجتناب نهيه، فعلى المسلم أن يسعى إلى صلاح قلبه قبل صلاح جسده؛ فإنه لا ينفع المرء يوم القيامة إلا قلب سليم.

أولوية الاهتمام بحياة القلب على حياة الجسد

أولوية الاهتمام بحياة القلب على حياة الجسد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)، فالله عز وجل جعل القلب مع الجوارح كالملك مع الرعية، فإذا صلح الراعي صلحت الراعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية. وحياة القلب أولى بالاهتمام من حياة الجسد؛ لأن حياة القلب تؤهل العبد لسعادة وحياة طيبة في الدنيا ينقلب منها إلى سعادة أبدية سرمدية في جنة الله عز وجل. أما حياة الجسد فهي تؤهله لحياة في الدنيا غير منغصة بالمرض. كذلك موت الجسد يقطع عن الدنيا، أما موت القلب فيقطع عن الدنيا والآخرة، ويشقى العبد بذلك أبد الآباد، كما قال بعض السلف: يا عجباً من الناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد!

أقسام القلوب

أقسام القلوب لما كانت القلوب توصف بالحياة وضدها قسم العلماء القلوب إلى ثلاثة أقسام بحسب الصحة والمرض، فقالوا: القلوب ثلاثة: - قلب سليم أو قلب صحيح. - وقلب ميت. - وقلب سقيم أو قلب مريض. وقالوا في تعريف القلب السليم: هو القلب الذي قد صارت السلامة صفة له، فهو سلم من عبودية غير الله عز وجل، وأخلص العبودية لله عز وجل، فإذا أحب أحب في الله، وإذا كره كره في الله، وإذا أعطى أعطى في الله، وإذا منع منع في الله، ولا تتم سلامة هذا القلب حتى يعقد صاحبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم عقداً محكماً مبرماً على الائتمام به في جميع أقواله وأفعاله، فهو سلم من عبودية غير الله عز وجل، وسلم من اتباع غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من جاء الله عز وجل به: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. في مقابل هذا القلب السليم هناك القلب الميت: وهو الذي قد أخلص العبودية لهواه، فإذا أحب أحب لهواه، وإذا كره كره لهواه، وإذا أعطى أعطى لهواه، وإذا منع منع لهواه، فهواه آثر عنده من رضا مولاه، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، ينادى إلى الله والدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب إلى الداعي ويتبع كل شيطان مريد. فصاحب هذا القلب واقف مع حظوظه وشهواته، لا يلتفت هل هو في رضا الله عز وجل أم في غضب الله، فهو لا يبالي إذا فاز بحظه وشهوته رضي ربه أم سخط، فهذا هو القلب الميت. وبين القلب السليم -أو القلب الصحيح- والقلب الميت: القلب السقيم أو القلب المريض، وهذا القلب فيه من محبة الله عز وجل وإيثار الدار الآخرة ما هو مادة حياته، وفيه من إيثار الشهوات ومحبة الدنيا ما هو مادة هلاكه وعطبه، فهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى الله عز وجل والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى الدنيا وعاجلها، وهو إنما يجيب أقربهما منه باباً، وأدناهما إليه جواراً، فقد تدعوه إلى الله عز وجل فيستجيب لك، وقد يدعوه غيرك إلى غير الله عز وجل فيستجيب له. فالقلب الأول حي لين مخبت واعٍ، والثاني يابس ميت، والثالث مريض، فإما إلى السلامة أدنى وإما إلى العطب أدنى. ودرجات المريض تختلف، فهناك مريض قريب من السلامة، وهناك مريض مرض الموت المخوف. وهناك تقسيم آخر للقلوب كما روى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر؛ فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي، وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق فهو للغالب عليه منهما. فقسم حذيفة رضي الله عنه القلوب إلى أربعة أقسام، قال: قلب أجرد. أي: متجرد مما سوى الله عز وجل، خالٍ مما سوى الله عز وجل، فيه سراج يزهر، يعني: مصباح يضيء، كما قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28]. قالوا: نور في قلب المؤمن يفرق به بين الحق والباطل، وبين البدعة والسنة، وبين الهدى والضلال، فهذا القلب الأجرد الذي فيه سراج يزهر هو فذلك قلب المؤمن. وقلب أغلف فذلك قلب الكافر: داخل في غلافه لا يخرج منه كفر ولا يدخله إيمان، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وقال عز وجل: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، يدخل القلب في الغلاف ويختم عليه فلا يخرج منه كفر ولا يدخل فيه إيمان، فذلك قلب الكافر. وقلب منكوس فذلك قلب المنافق، كما قال عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء:88] أي: قلب قلوبهم. فالمنافق يشبه قلبه بالإناء المنكوس؛ لأن الإناء المنكوس لا يستقر فيه شيء، ولا تستطيع أن تضع فيه شيئاً، والمنافق يعرف الحق بعقله وقلبه ولكنه لا ينقاد لهذا الحق ولا يرضى بهذا الحق، ولا يستقر هذا الحق في قلبه، فقلبه كأنه مقلوب يقع منه الحق ولا يستقر الحق فيه، قال عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء:88] عرف -أي: بعقله وقلبه- ثم أنكر، أنكر أن يحب الحق، وأنكر أن ينقاد للحق، وأنكر أن يتبع الحق. وقلب منكوس: فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي. وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، وهو للغالب عليه منهما، وهذا هو القلب المريض الذي ذكرنا، ففيه ما يدعوه إلى الله عز و

علامات مرض القلب

علامات مرض القلب ينبغي للعبد أن يعرف علامات مرض القلب وعلامات صحة القلب، والمجال لا يتسع لذكر علامات مرض القلب وعلامات صحة القلب، فنقتصر على ذكر علامات مرض القلب، ونؤجل علامات صحة القلب إلى الموعظة المقبلة إن شاء الله تعالى. فمن علامات مرض القلب: أن العبد يتعذر عليه محبة الله عز وجل وإيثاره ومحبة الدار الآخرة، فيحيا في هذه الدنيا حياة البهائم كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]. فهو لا يعرف ربه عز وجل، ولا يعبده بأمره ونهيه، لا يعرف الأنس بالله عز وجل، ولا يعرف محبة الله عز وجل، ولا يعمل للدار الآخرة، بل يعيش ليأكل ويأكل ليعيش، فهو كالبهائم التي ليس لها هدف وليس لها غاية، فهو لا يدري لماذا خلقه الله عز وجل؟ وما هي الوظيفة التي يجب عليه أن يقوم بها، فيتعذر عليه ما خلق له، فلا يحيا الحياة التي يحبها الله عز وجل ويرضاها له حياة العبودية، وكذلك ليس جماداً لا يحس؛ فالجزاء من جنس العمل، فهو أيضاً في الآخرة يدخل النار لا يموت فيها ولا يحيا، لا يحيا حياة يجد فيها راحة، ولا يموت فيفقد الإحساس بالألم: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] أي: وأمامه عذاب غليظ. {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. وحسب المنايا أن يصرن أمانيا أي: حسب العبد من الرزايا والبلايا أن يصير الموت أمنيته، كما قال بعض السلف: احذر الموت وأنت في هذه الدار قبل أن تصل إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده. العلامة الثانية من علامات مرض القلب: أنه لا تؤلمه جراحات المعاصي، فالجسد الحي يتألم بالجراحة إذا جرح، أما الميت فلا يتألم، وما لجرح بميت إيلام، فهو لا يتألم بالمعاصي. وهذا الألم الذي يحس به المؤمن عندما يقع في المعصية يدعوه إلى التوبة وإلى الرجوع وإلى الاستقامة على طريق الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] أي: تذكروا عظمة الله، وتذكروا توعد الله عز وجل. {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] للطريق والتوبة والإنابة والرجوع. وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] فهذا الألم لازم لحياة القلب. هناك بعض الأمراض تفقد الجلد الإحساس، وفقده أخطر شيء على هذا المريض؛ لأن أعضاءه تهلك في مدة يسيرة؛ لأن الإحساس لازم لسلامة الأعضاء، فالإنسان إذا أحس بحرارة النار يسحب يده، إذا أحس بحد السكين يرفع يده سريعاً، ولكن إذا فقدت اليد الإحساس مثلاً فإنها تهلك في مدة يسيرة، كذلك القلب إذا فقد الإحساس فإن العبد يقع في الكبائر والفواحش والمعاصي ويهلك في مدة يسيرة؛ لأنه لا يحس بالمعاصي والكبائر التي يقع فيها. العلامة الثلاثة من علامات مرض القلب: لا يوجعه جهله بالحق، والجهل مصيبة من أكبر المصائب، كما قيل للإمام سهل: أي شيء أقبح من الجهل؟ قال: الجهل بالجهل. وصدق؛ لأن هذا يسد باب العلم بالكلية، فإنسان يكون جاهلاً ويجهل أنه جاهل فمثل هذا لا يقبل التعلم ولا يطلب العلم فيظل في ظلمات الجهل. وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور فالحاصل: أن من علامات مرض القلب أنه لا يتألم بجهله ولا يتألم بما يرد على قلبه من عقائد باطلة ومن فكر خاطئ. العلامة الرابعة من علامات مرض القلب: عدول صاحب هذا القلب عن الأغذية النافعة إلى السموم الضارة، فبدلاً من أن يسمع القرآن الذي وصفه الله عز وجل بقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] يستمع إلى الغناء والموسيقى والتمثيليات الهابطة والأفلام الساقطة التي تقتل الغيرة عند الرجال وتضيع حياء النساء، وفيها من الاستهزاء بشرع الله عز وجل وبعباد الله، وتنبت النفاق، وتجعل الإنسان مستهتراً بالآخرة لا يصلح للخوف ولا يصلح للرجاء ولا يصلح للتوكل، ولا يصلح أصلاً لمحبة الله عز وجل وعبادة الله عز وجل. والإنسان مهما سلم قلبه أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله عز وجل، كما قال بعض السلف: أحبه إليه أحبه إلي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كان السند فيه ضعف-: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ولكن المعنى صحيح، ويشهد له قوله عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَ

علامات صحة القلوب

علامات صحة القلوب القلب يمرض ولمرضه علامات، كما أنه يصح ولصحته علامات، وصحة القلوب لا تكون إلا في تربيتها على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومتى كان ذلك فإن المؤمن يرى علامات هذه الصحة ظاهرة في حياته كلها.

علامات صحة القلب ومحبة الله عز وجل

علامات صحة القلب ومحبة الله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً. أما بعد: فقد تكلمنا بحمد لله تعالى فيما سبق عن علامات مرض القلب، ونتكلم اليوم إن شاء الله تعالى عن علامات صحة القلب. وعلامات صحة القلب هي كذلك علامات محبة الرب عز وجل، كما قال ابن مسعود لرجل: داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم. أي: مطلوبه منهم صلاح قلوبهم. وصلاح القلوب بأن تمتلئ بحب علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل، فلا تصلح القلوب إلا بذلك، كما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها آلهة إلا الله عز وجل لفسدت بذلك فساداً لا يرجى له صلاح حتى تعرف ربها عز وجل وتوحده. فالقلب لا يصلح إلا بحب الله وعبادة الله عز وجل. فما هي علامات صحة القلب ومحبة الرب عز وجل؟

كثرة ذكر الله عز وجل

كثرة ذكر الله عز وجل من علامات صحة القلب: كثرة ذكر الله عز وجل؛ لأن القلوب -كما قيل- كالقدور وألسنتها مغارفها، فالقلب كالقِدر واللسان كالمغرفة، فإذا امتلأ القلب بحب الله عز وجل تحرك اللسان بالذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس وغير ذلك. وإذا امتلأ القلب بغير ذلك تحرك اللسان بما يناسبه، فالقلوب كالقدور وألسنتها مغارفها. قال بعض السلف: المحب طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى الله عز وجل بكل سبيل من الوسائل والنوافل دأباً وشوقاً. وقالوا: المحب لا يجد لدنيا لذة، ولا يفتر لسانه عن ذكر الله عز وجل. فالله تعالى لم يرخص في ترك الذكر في حال من الأحوال حتى عند لقاء العدو، فقد رخص الله الإفطار في رمضان، والقصر الصلاة، ولكنه لم يرخص الله عز وجل في ترك الذكر، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]؛ لأن الذكر عند الشدة علامة المحبة. قال عنترة: ولقد ذكرتك والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم فهو يشير إلى شدة حبه بأنه ذكر محبوبته والرماح في صدر الأدهم -أي: في صدر- فرسه، كالحبال التي تتدلى في البئر.

تعلق القلب بالله تعلق المحب المضطر

تعلق القلب بالله تعلق المحب المضطر من علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب -يعني على صاحبه- حتى يتعلق القلب بالله عز وجل تعلق المحب المضطر؛ فيأنس بالله ويسعد به، ويستغني بحبه عن حب ما سواه، وذكره عن ذكر ما سواه، وخدمته عن خدمة ما سواه.

إتعاب الجسد في عبادة الله وعدم الملل

إتعاب الجسد في عبادة الله وعدم الملل من علامات صحة القلب: أن يتعب الجسد في الخدمة ولا يمل القلب من ذلك، كما قال بعضهم: وكن لربك ذا حب لتخدمه إن المحبين للأحباب خدام وقال بعضهم: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، أي: تشقق قدماه، فيقال له: أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: (أفلا أكون عبداً شكورا؟!). بل هو -بأبي وأمي- سيد الشاكرين والصابرين. فمن علامات صحة القلب: أن يتضرر البدن ولا يمل القلب من ذلك، كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام وينهى عن الوصال، وكان الصحابة أصحاب همة عالية في الطاعة والعبادة، فكانوا يسابقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويواصلون صيامهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم نهي شفقة، فقالوا له: (إنك تواصل، فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني). أي: أن ارتفاع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم الإيمانية، وما يفيض على قلبه من المعارف والأحوال والبركات يجعله يستغني عن كثير من الطعام والشراب. كما قال بعضهم: لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد

حنين العبد إلى خدمة الله أكثر من حنين الجائع إلى الطعام والشراب

حنين العبد إلى خدمة الله أكثر من حنين الجائع إلى الطعام والشراب من علامات صحة القلب: أن يحن العبد إلى الخدمة أكثر من حنين الجائع إلى الطعام والشراب، فمن تعامل مع الله عز وجل، ومن سر بخدمة الله عز وجل وأكثر من طاعته استوحش من ترك الطاعة والخدمة، فهو يود أنه بالليل والنهار في طاعة العزيز الغفار عز وجل، فهو لا يستوحش من المعصية وحدها، بل يستوحش من المعصية ومن المباح. نصحت إحدى الصالحات من السلف بنيها، فقالت لهم: تعودوا حب الله وطاعته، فإن المتقين ألفت جوارحهم الطاعة؛ فاستوحشت من غيرها -أي: من المعصية ومن المباح- فإذا أمرهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة، فهم لها منكرون.

بخل العبد بأوقاته وأنفاسه أن تنفق في غير طاعة الله

بخل العبد بأوقاته وأنفاسه أن تنفق في غير طاعة الله من علامات صحة القلب: أن يبخل العبد بأوقاته وأنفاسه أن تنفق في غير طاعة الله عز وجل، وأن يكون بخله بذلك كأشد الناس بخلاً بماله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له بها نخلة بالجنة). وقال صلى الله عليه وسلم (اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). ويقول: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] حتى يختمها عشر مرات بني له قصر في الجنة). فصاحب القلب السليم الذي يستقبل هذا الكلام استقبالاً سليماً لا يسعه إلا أن يملأ أوقات حياته بذلك، وأن ينفق جميع أنفاسه في طاعة الله عز وجل، وأن يبخل بالوقت والنفس في غير طاعة الله، وأن يكون بخله بذلك كأشد الناس بخلاً بماله.

تحسر العبد على فوات الطاعة وتندمه عليها

تحسر العبد على فوات الطاعة وتندمه عليها من علامات صحة القلب كذلك: إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات يجد لذلك حسرة أكثر مما يجد الحريص إذا فقد أهله وماله؛ لأن فقدان الأهل والمال خسارة في الدنيا، أما خسارة الآخرة فلا شك أنها أعظم من خسارة الدنيا، فنسبة خسارة الدنيا إلى الآخرة لا شيء، فمن كانت مهنته البيع والشراء وفاتته تجارة الدرهم تجده يعض أصابعه ندماً وحسرة على ما فاته من الربح، فكيف بمن تفوته الجماعة ولا يتألم قلبه، وهو يعلم أن صلاة الرجل في الجماعة تفضل صلاته في بيته وفي سوقه سبعاً وعشرين درجة. فمن علامات صحة القلب: إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات يجد لذلك حسرة أكثر مما يجد الحريص إذا فقد أهله وماله.

جعل العبد همه كله في الله عز وجل

جعل العبد همه كله في الله عز وجل من علامات صحة القلب: أن يجعل العبد همه واحداً، وأن يجعله في الله عز وجل، فيكون لا هم له إلا رضا الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21]. فالمؤمن لا هم له إلا أن يرضي الله عز وجل، بخلاف غير المؤمن الذي يرجو الدنيا ووجوه الناس، ويريد أن يرتفع بمستواه المادي وغير ذلك من الهموم، كما ورد عن ابن مسعود مرفوعاً -أي منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم- وموقوفاً -أي من قول ابن مسعود -: (من جعل همومه هماً واحداً كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم دون أحوال الدنيا، لم يبال الله عز وجل في أي أوديتها هلك)، فمن جعل همومه هماً واحداً -أي: رضا الله عز وجل وطاعته- كفاه الله سائر همومه، ويسر له أموره وساق له الرزق. ومن تشعبت به الهموم دون أحوال الدنيا لم يبال الله عز وجل في أي أوديتها هلك، كما ورد عن بعض السلف أنه قال: من أحسن سريرته أحسن الله علانيته، ومن أحسن ما بينه وبين الله أحسن الله ما بينه وبين الناس، ومن شغله أمر دينه كفاه الله أمر دنياه. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري). وقال عمر رضي الله عنه: ما بعثنا زراعين، ولكن بعثنا لنقتل أهل الزرع ونأكل زرعهم.

محبة العبد الخلوة بالله والوحشة من غيره

محبة العبد الخلوة بالله والوحشة من غيره من علامات صحة القلب كذلك: أن يستوحش العبد من الناس إلا ممن يدله على الله عز وجل ويذكره به، فالإنسان يحب الخلوة؛ لأنه يخلو بالله عز وجل، وإذا أحب أحد أحداً أحب أن يخلو به. قيل لأحد العباد: ألا تستوحش وحدك؟ قال كيف ذلك وهو يقول: أنا جليس من ذكرني. ويقولون: الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس، فمن علامات صحة القلب: أن يستوحش من الناس إلا ممن يدله على الله عز وجل ويذكره به، فيكون كلام الله عز وجل والكلام عنه سبحانه أحب شيء إلى قلبه.

راحة العبد في صلاته

راحة العبد في صلاته من علامات صحة القلب: أن العبد إذا دخل في الصلاة وجد راحته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة). قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب)، أي: من أمور الدنيا، ولم تكن عين النبي صلى الله عليه وسلم تقر بأمر من أمور الدنيا؛ بل كانت تقر بالصلاة، وهي أم العبادات وسيدة الطاعات، فقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، أي: منتهى راحتي. وكان يقول: (أرحنا بها يا بلال!)، (وكان إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة)، فمن علامات صحة القلب: أن يجد العبد راحته في الصلاة، وأن تصير الصلاة هي قرة عينه.

مقت العبد الناس في الله ويخص من ذلك مقته لنفسه

مقت العبد الناس في الله ويخص من ذلك مقته لنفسه من علامات صحة القلب كذلك: أن يمقت الناس في جنب الله، وأن يعود إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً، كما قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يعود إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً. أي: يرى الناس جميعهم مقصرين في حق الله عز وجل، ثم يرى نفسه أشدهم تقصيراً، فيمقت الناس في جنب الله، ثم يعود إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً.

اهتمام العبد بصحة العمل أكثر من اهتمامه بكثرته

اهتمام العبد بصحة العمل أكثر من اهتمامه بكثرته من علامات صحة القلب كذلك: أن يكون اهتمام العبد بصحة العمل أكثر من اهتمامه بكثرة العمل، فإن الامتحان ليس في كثرة العمل، ولكن في صحة العمل، كما قال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، ولم يقل: أكثر عملاً، فالاختبار يكون في حسن العمل، ومعناه: توافر شرطي الإخلاص والمتابعة في كل عمل.

محافظة العبد على أعماله الصالحة وعدم إحباطها

محافظة العبد على أعماله الصالحة وعدم إحباطها من علامات صحة القلب: أن يحافظ العبد على أعماله الصالحة، فلا يحبطها بعجب أو رياء أو بمن، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا قلوباً سليمة، وفطراً مستقيمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

فضول الكلام وفضول النظر

فضول الكلام وفضول النظر نهى الشارع الحكيم عن فضول الكلام وفضول النظر وحذر منهما، فعلى المؤمن أن يتجنبهما؛ لما في تجنبهما من آثار حميدة على الفرد والمجتمع، فبترك فضول الكلام تسود المودة والألفة والمحبة، وبترك فضول النظر تحفظ الأعراض وتصان.

آثار فضول الكلام

آثار فضول الكلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فقد تكلمنا بحمد الله تعالى في الموعظة السابقة عن علامات صحة القلب، ونحن نحذر في هذه الموعظة من آفتين خطيرتين وهما: فضول الكلام، وفضول النظر. أما فضول الكلام فقد قال الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. وقال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم). وحصائد الألسنة: أن من زرع بلسانه الحسنات حصد الكرامة، ومن زرع السيئات حصد الندامة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده)، وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). وهذا كلام جامع من النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، فإن الكلام إذا كان خيراً يكون مأموراً بالنطق به، وإذا كان غير ذلك يكون مأموراً بالصمت عنه. وقال عقبة بن عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك)، فينبغي للعبد أن يضبط لسانه، كما قال بعضهم: يقولون: إن قلب المؤمن أمام لسانه، فإذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بكلام تكلم به ولم يتدبره بقلبه. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله إلا هو ليس شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة). (ما بين لحييه) أي: لسانه، (وما بين رجليه) أي: فرجه. وهذا يدل على أن أعظم فتنة افتتن بها العباد فتنة اللسان وفتنة الفرج. كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، فالعبد يتكلم بكلمة لا يتدبرها ولا يدري هل هي من الخير أم من الشر، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب. قال العز بن عبد السلام: هي الكلمة عند السلطان الجائر، أي: التي يقر بها سلطاناً جائراً على جوره وظلمه. فإن قلت: ما هذا التحذير من آفات اللسان؟ ف A بأن الكلام أربعة أقسام: منه ما هو خير محض، ومنه ما هو شر محض، ومنه ما هو فيه خير وفيه شر، ومنه ما ليس فيه خير ولا شر. فإذا كان الكلام شراً محضاً فيجب الصمت عنه، وإذا كان فيه خير وفيه شر فيجب أيضاً الصمت عنه؛ لأن درء المفاسد أولى من جلب المنافع. وإذا كان الكلام ليس فيه خير وليس فيه شر فالذي يتعين أيضاً الصمت عنه؛ لأن التكلم به نوع فضول وهذا من آفات اللسان. فيبقى ربع الكلام -فقد سقط ثلاثة أرباعه- وهو ما فيه خير محض، والعبد كذلك في خطر من الرياء ومن تزكية النفس ومن العجب وغير ذلك. فإذا كان ثلاثة أرباع الكلام ينبغي على العبد أن يصمت عنه، والربع الرابع فيه خطر، فهذا يدل على خطر اللسان. وأخف آفات اللسان: الكلام فيما لا يعني وفضول الكلام هو: الزيادة على قدر الحاجة، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، أي: من حسن إسلامه ترك ما لا يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة، فلا يحسن إسلام المرء حتى يترك ما لا يعنيه بحكم الشرع لا بحكم الهوى، مع أن ذلك من أخف آفات اللسان. ولذلك قال بعض السلف: إن من علامة إعراض الله عن العبد وخذلانه له أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، يعني: تجده مشغولاً بالحكايات والقصص، ورواية أخبار الناس وأصحاب المال وأصحاب الجاه، وكلام لا يعود عليه بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة. فهذه أخف آفات اللسان وهي الكلام فيما لا يعني، ومع ذلك من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه. وقالوا: من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق. قال عطاء بن أبي رباح: كان من كان قبلكم يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أن تتكلم في حاجتك بقدر الحاجة، ألا تعلمون أن عليكم كراماً كاتبين: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]، أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه. فينبغي للعبد أن يملي ملائكة الله عز وجل ما يبيض به وجهه يوم القيامة، فحين يصبح يقول أذكار الصب

آثار فضول النظر

آثار فضول النظر الآفة الثانية: فضول النظر. فقد قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31]. فالله عز وجل أمر بغض البصر وحفظ الفرج؛ لأن غض البصر وسيلة إلى حفظ الفرج، كما قال بعضهم: ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف القلب يرسل العينين رسولاً، فما ألفت العينان ألفه القلب. (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فقال: اصرف بصرك)، ونظر الفجأة أن يقع نظر المسلم على ما يحرم النظر إليه، وهذه النظرة لا يحاسب عليها؛ لأنه لا نية له فيها، ولكن الواجب عليه أن يصرف بصره، وألا يتبع النظرة النظرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة: فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واللسان يزني وزناه الكلام، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه). فسمى النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق البصر زنا العينين؛ تنفيراً من هذه المعصية. لإطلاق البصر آفات كثيرة من هذه الآفات: أنها مخالفة لأمر الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وما استجلب العبد نفعاً في الدنيا والآخرة بمثل امتثال أوامر الله عز وجل، ولا استجلب ضرراً ولا خطراً بمثل مخالفة أوامر الله عز وجل، فغض البصر استجابة لأمر الله عز وجل. من آفات إطلاق البصر كذلك: أن العبد إذا أطلق بصره انطفأت بصيرته، وفقد نور البصيرة؛ ولذلك قال الله عز وجل بعد آيات غض البصر: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، فالإنسان إذا أطلق بصره أظلم قلبه، وإذا أظلم القلب أقبلت عليه سحائب الشر والبلاء من كل جانب، فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى. أيضاً من آفات فضول النظر: أن العبد إذا أطلق بصره فإنه يسمح للسهم المسموم أن يدخل إلى قلبه، كما ورد في المسند: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه)، وإذا دخل هذا السهم المسموم فإن الشيطان يدخل خلف السهم أسرع من دخول الهواء إلى المكان الخالي؛ من أجل أن يزين صورة المنظور إليه، ومن أجل أن يجعله صنماً يعكف عليه القلب، ثم يوقد نار الشهوة، ثم يحرك الجوارح بعد ذلك إلى المعصية: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على خطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر كذلك الناظر يرمي بسهام غرضها قلبه: يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقّه إنه يأتيك بالعطب وإطلاق البصر يورث الحسرات والزفرات، فيرى ما لا يقدر عليه ولا يصبر عليه، كما قال بعضهم: وكنت متى أطلقت طرفك يوماً رائداً لقلبك أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر والنظرة تجرح القلب جرحاً، وتستلزم أن يعيد النظرة، ولا يمنع هذا الجرح القلب من أن يعيد النظرة مرة ثانية فيزداد القلب جرحاً على جرح، كما قال بعضهم: ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح وتظن ذاك دواء جرحك وهو في التحقيق تجريح على تجريح فقتلت قلبك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح وغض البصر يورث الفراسة وإطلاق نور البصيرة، وإطلاق البصر يفقد الفراسة كما قال شاه بن شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره، واجتنب الحرام، لا تخطئ له فراسة، وكان شاه بن شجاع هذا لا تخطئ له فراسة. فإطلاق البصر يفقد العبد الفراسة، وغض البصر يجعل للعبد الفراسة. أيضاً: إطلاق البصر يوقع العبد في الداء الذي هو بلا عوض، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: العشق داء بلا عوض. فهو الكأس الذي من شرب منه أصيب بهذا الداء الذي لا يؤجر في الصبر عليه، ويعيش أشقى الناس، كما قال بعضهم: وما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذا

صفات عباد الرحمن

صفات عباد الرحمن لقد خلق الله الخلق واصطفى منهم بحكمته من يشاء، وفاوت بين أعمالهم في الدنيا كما فاوت بين درجاتهم في الجنة، وشرف بعضهم فأضاف عبوديتهم إليه، وذكر طرفاً من صفاتهم العظيمة في سور من كتابه الكريم.

عباد الرحمن يمشون بسكينة ووقار ويعرضون عن الجاهلين

عباد الرحمن يمشون بسكينة ووقار ويعرضون عن الجاهلين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: قال عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:64 - 77]. هذه الآيات الكريمات من خواتيم سورة الفرقان، يبين الله عز وجل فيها صفات عباد الرحمن الذين شرفهم بنسبتهم إليه فيقول: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا))، أي: بسكينة ووقار، وبغير تجبر ولا استكبار. وليس معنى ذلك: أن يسير المسلم بضعف وتمارض، فقد كان سيد عباد الرحمن يسير بقوة وكأنما الأرض تطوى له، وكأنما ينحط من صبب. ورأى عمر رضي الله عنه شاباً يسير متضاعفاً فقال له: أأنت مريض؟ قال: لا. فعلاه بدرته وأمره بأن يسير بقوة. ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا))، فهم لا يجهلون على الجاهل بمثل جهله، كما قال إبراهيم لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] بعد أن قال له: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]، فعباد الرحمن لا يجهلون على الجهال، ولا يسفهون على السفهاء: ((وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)).

صفة ليل عباد الرحمن ونهارهم وخوفهم من الله

صفة ليل عباد الرحمن ونهارهم وخوفهم من الله ثم وصف ليلهم فقال: ((وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)). وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]. إذا ما الليل أقبل كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع وبعد أن وصف ليلهم ونهارهم، وأن ليلهم خير ليل، ونهارهم خير نهار، قال عز وجل: ((وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا))، فهم على الخوف من الله عز وجل، فيدعون الله عز وجل بأن يصرف عنهم عذاب جهنم، فهم في النهار في سكينة ووقار وبغير جبرية ولا استكبار، كما قال الحسن البصري: إن المؤمنين قومٌ ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في قلوبهم شيء طلبوا به الجنة، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة في غير مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه. والحسن البصري رحمه الله قيل: كان كلامه يشبه كلام الأنبياء. فعباد الرحمن ليلهم خير ليل، ونهارهم خير نهار، ومع ذلك هم على الخوف يقولون: ((رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا)) أي: ملازماً. ((إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)) أي: بئس المقام منظراً، وبئس المقيل مقيلاً.

عباد الرحمن يقتصدون في الإنفاق ويجتنبون الموبقات

عباد الرحمن يقتصدون في الإنفاق ويجتنبون الموبقات ((وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)): وصف حالهم في الإنفاق، وكيف أنهم وسط، فهم لا يبخلون على أهليهم، وكذلك لا يبسطون أيديهم كل البسط، فهم وسط في باب النفقة. ثم بين بأن عباد الرحمن ليسوا معصومين من الذنوب، ولكنهم لشرفهم لا يقارفون الكبائر، كما أنهم كذلك لا يصرون على الصغائر، فقال: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ))، لا يتدنسون بالشرك بالله عز وجل؛ لأنه أعظم الذنوب، أن تجعل لله نداً وهو خلقك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ))، وقتل النفس التي حرم الله أكبر الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل لذلك ذكرها بعد قوله: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) ويلي ذلك الزنا ((وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)) قيل: أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. ((يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)) * ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)) أي: من تدنس بشيء من هذه الكبائر ثم تاب وأناب واستقام على طاعة الله عز وجل؛ فإنه بذلك يدخل في جملة عباد الرحمن، ولا تمنعه هذه الكبائر التي تاب منها وأناب واستقام على طريق الله عز وجل من أن يدخل في جملة عباد الرحمن: ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)). ((وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا))؛ أي: توبة حقة والتي يعقبها العمل لصالح. ثم بين أن من صفات عباد الرحمن: أنهم لا يشهدون الزور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قالوا: ليته سكت). وقيل: الزور هو الباطل. وقيل: أعياد المشركين. وقيل: الغناء. وقيل: اللغو. ((وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) * ((وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا))، كما قال بعض السلف: كم ممن يسمع هذه الآية فيخر عليها أصم أعمى. أما المؤمن فيتدبر ويزداد إيماناً، ويتفكر في كلام الله عز وجل.

حرص عباد الرحمن على أهلهم وولدهم أن يكونوا على الطاعة

حرص عباد الرحمن على أهلهم وولدهم أن يكونوا على الطاعة ((وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا))؛ أي: أن من صفات عباد الرحمن أنهم يحبون أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أبنائهم، ويحبون أن يروا أقرب الناس إليهم في طاعة الله عز وجل؛ لأن المرء يحب الخير لأقرب الناس إليه، فيقول الحسن البصري: هو أن يري الله العبد المؤمن الطاعة في زوجته وفي ولده وفي حميمه، والله ما من شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجة صالحة، أو ولداً صالحاً، أو حميماً أو صديقاً صالحاً، فهذا أقر شيء لعين المؤمن، أن يرى طاعة الله عزوجل في زوجته وفي أولاده. ((وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا))؛ أي: أئمة يقتدى بنا في الخير، حتى يتضاعف الثواب ويعظم الأجر. ((أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ)) فهذا خبر لقوله: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ)) الذين وصفوا بهذه الأوصاف السالفة: ((أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ))؛ أي: الدرجة العالية في الجنة بما صبروا. ((وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا)) * ((خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)) * ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ)) يعني: لولا عبادتكم ((فَقَدْ كَذَّبْتُمْ)) يعني: مشركي مكة، ((فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)) أي: ما وعد الله عز وجل به من نصر الإسلام وأهله، وقد صدق الله وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده. نسأل الله تعالى أن يشرفنا بأن يجعلنا في جملة عباد الرحمن. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

شرف التقوى

شرف التقوى التقوى مرتبة في الإيمان عظيمة، وهي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، فينبغي للمؤمن أن يسعى إلى تحقيقها والتجمل بها حتى يكون من أهلها الذين استحقوا مغفرة الله عز وجل.

حقيقة التقوى وفضلها وأهلها

حقيقة التقوى وفضلها وأهلها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فالتقوى مثل كنز عزيز لئن ظفرت به فكم تجد فيه من خير عميم ورزق كريم، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت في خصلة واحدة، وهذه الخصلة هي تقوى الله عز وجل. اختلف الناس في تعريف التقوى: فقال بعضهم: التقوى: هي العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل، والرضا بالقليل. وقال بعضهم: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. وقال بعضهم: التقوى: هي علم القلب بقرب الرب. وأحسن من ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للإحسان في حديث جبريل قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). أي: أن التقوى هي الإحسان وهي المراقبة، وهي أن تعبد الله عز وجل كأنك تنظر إليه. وكان السلف يعبدون الله عز وجل على المشاهدة، كما روي أن عروة بن الزبير خطب من ابن عمر ابنته في الطواف، فلم يرد عليه ابن عمر، فلما انتهى من الطواف اعتذر إليه وقال: كنا في الطواف نتخيل الله بين أعيننا. قال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فالذين عبدوا الله عز وجل بالإحسان وبدرجة التقوى لهم الحسنى، وهي الجنة، ولهم الزيادة، وهي النظر إلى وجه الله عز وجل. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أي: فإن لم تصل إلى درجة أنك تعبد الله عز وجل كأنك تراه فهناك درجة هي أدنى من هذه الدرجة توصل إليها، وهي أيضاً من الإحسان، وهي أن تعبد الله عز وجل وأنت تعتقد أنه يراك، فأنت كذلك تحسن العبادة لله عز وجل. لقد دلت الأدلة كلها على شرف التقوى، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، فلو أن هناك خصلة أجمع للخير العاجل والآجل من تقوى الله عز وجل لأوصى الله عز وجل بها الأولين والآخرين، فالتقوى هي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، والتقوى هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم عندما نصح الأمة ووعظها موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون: (فقالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل)، فلما أحس الصحابة بخطر الموعظة وحلاوتها قالوا: (كأنها موعظة مودع) يعني: المودع يبذل جهده ويستفرغ وسعه في النصيحة فقالوا: (كأنها موعظة مودع يا رسول الله! فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله). وقال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن). فالتقوى هي وصية السلف الصالح من هذه الأمة، كما روي أن عمر بن عبد العزيز أوصى رجلاً فقال: عليك بتقوى الله، فإنه لن يقبل غيرها، ولن يرحم إلا أهلها، وإن العاملين بها قليل، والناصحين بها كثير، فكل واعظ وكل خطيب وكل ناصح ينصح بتقوى الله عز وجل ولكن العاملين بتقوى الله عز وجل قليل. وقال بعضهم: عليك بالتقوى، فإنها من أزين ما أظهرت، وأحسن ما أسررت. والتقوى هي وصية الأنبياء الكرام لأقوامهم، كما قال عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123 - 124]. وقال عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123 - 124]. وقال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177]. وقال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:105 - 106]. فكل الأنبياء الكرام أوصوا أقوامهم بتقوى الله عز وجل، ولا شك في أن الأنبياء هم أعلم الناس بما يصلح الناس، وهم أنصح الناس للناس، فأجمعوا على النصح بتقوى الله عز وجل. والتقوى هي أجمل لباس يتزين به العبد كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. لما تمنن الله عز وجل على بني آدم بما جعل لهم من اللباس الذي يواري السوءات، ومن الرياش الذي يتجملون به، دلهم على أجمل لباس وأحسن لباس وهو الذي يستر عورات الظاهر والباطن، ويستر الع

ثمرات التقوى

ثمرات التقوى التقوى هي أعلى درجات الإيمان، وهي الشجرة الطيبة التي تثمر الثمرات اليانعة؛ العاجلة في الحياة الدنيا والآجلة في الدار الآخرة، فبها ييسر الله للعبد كل أموره، ويحفظه من عدوه، ويبارك له في ذريته، وبها يرث العبد الجنان، وينال رضوان الملك الديان.

الثمرات العاجلة للتقوى

الثمرات العاجلة للتقوى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فشجرة التقوى شجرة طيبة، بل أطيب من الشجرة الطيبة، وهي شجرة الإيمان؛ لأن التقوى أعلى درجات الإيمان، فهذه الشجرة شجرة التقوى تثمر الثمرات اليانعة العاجلة والآجلة، فلها ثمرات في الدنيا وثمرات طيبة مباركة في الآخرة، فما هي الثمرات العاجلة والآجلة لهذه الشجرة المباركة؟ فمن الثمرات العاجلة لشجرة التقوى في الدنيا: أنها سبب لوجود المخرج للمؤمن من كل ضيق، والرزق من حيث لا يحتسب، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. ومن ثمرات التقوى العاجلة: اليسر في كل أمور العبد، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]. ومن ثمرات التقوى العاجلة كذلك: الحفظ من كيد الأعداء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]. ومن ذلك: النجاة من عذاب الدنيا، كما قال عز وجل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:17 - 18]. ومن ثمرات التقوى العاجلة كذلك: أن يحفظ الله عز وجل الذرية الضعاف، كما قال عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]. فهذا التأمين الرباني بسبب تقوى الله عز وجل، يحفظ الله عز وجل بها الذرية الضعاف. ومن ثمرات تقوى الله عز وجل في الدنيا: معية الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194]. ومن ثمرات التقوى العاجلة كذلك: البشرى في الدنيا والآخرة: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]. أهل التقوى لهم من الهيبة والشرف والكرامة والمحبة في نفوس الخلق، قال بعض الناس: قتلني حب الشرف، فقال له أحد العلماء، لو اتقيت الله شرفت. وفي ذلك قيل: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم. وقال من رأى الإمام مالك: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقانِ نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهاب وليس ذا سلطانِ يقول أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين. فكم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، هذا قام وقلبه كان فاجراً، وهذا نام وقلبه كان عامراً. فالذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين، والرجلان يكونان في صف واحد، وخلف إمام واحد، يكبران بتكبيره، ويسلمان بتسليمه، وما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؛ لأن الأعمال تتفاضل بحسب ما في قلوب أصحابها من تقوى لله عز وجل.

الثمرات الآجلة للتقوى

الثمرات الآجلة للتقوى أما الثمرات الآجلة لتقوى الله عز وجل: فأهل التقوى هم الورثة الحقيقيون لجنة الله عز وجل، والآخرة: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]. وقال عز وجل: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]. وقرأ: {نُوَرِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]. فأهل التقوى هم الورثة الحقيقيون لجنة الله عز وجل، وهم يتمتعون بعز الفوقية على الخلائق يوم القيامة، كما قال عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]. فهم ينالون عز الفوقية على الخلائق يوم القيامة. والتقوى عباد الله: تجمع بين أهلها يوم القيامة، حين تنقلب كل خلة وكل مودة وكل محبة وكل صداقة إلى عداوة ومشاقة، كما قال عز وجل: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل. فالمتقون كانت محبتهم وخلتهم وأخوتهم في الله عز وجل، فدامت صحبتهم في الدنيا والآخرة. أما غير المتقين فإن محبتهم تنقلب إلى عداوة ومشاقة في الدنيا قبل الآخرة. ومن ثمرات التقوى الآجلة كذلك: أنهم ينالون أعلى درجات الجنة، كما قال عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31]، فأجمل المفاز، ثم فصل فقال: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ:33 - 36]. وقال: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:49]، فأجمل المآب الحسن وهو المرجع الحسن، ثم فصل فقال عز وجل: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:50 - 54]. وأخبر عن قربهم من الحضرة واللقاء، والرؤية والبهاء، فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. والمتقون يساقون إلى جنة الله عز وجل زمراً زمراً، أي: جماعات جماعات، قيل: الأنبياء مع الأنبياء، والعلماء مع العلماء، والشهداء مع الشهداء، وقيل: كل جماعة وكل مجموعة كانت متعاونة على تقوى الله عز وجل، فإنها ينادى عليها يوم القيامة، وتكون زمرة من الزمر الطيبة التي تساق إلى جنة الله عز وجل، وإلى رحمة الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]. فالله عز وجل يقرب لهم الجنة، لا يقول لهم: اذهبوا فادخلوا الجنة، بل يقول عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]. يقرب الله عز وجل لهم الجنة لتحيتهم واستقبالهم، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتقين، وأن يحشرنا مع زمرتهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

قصر الأمل

قصر الأمل قصر الأمل هو عنوان حياة المؤمن الحق، يحتذي في ذلك بنبيه صلى الله عليه وسلم الحاث على ارتقاب الآخرة بقوله وفعله، وإنما يطيل الأمل من أتي من حبه للدنيا وظنه بأن الموت قدر لا يرد إلا على الشيوخ دون الشباب، ومن غفل عن الاتعاظ بالجنائز المحمولة أمام ناظريه، فأشبه بذلك فعل الكفرة الذين ألهاهم طول الأمل وبلوغ الوطر عن الاستعداد للآخرة والزهد في الدنيا.

معنى قصر الأمل

معنى قصر الأمل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: قصر الأمل: هو العلم بقرب الرحيل، قال الله عز وجل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، أي: ذرهم لا يهتمون إلا بالطعام والشراب ويلههم طول الأمل وبلوغ الوطر واستقامة الحال عن الاستعداد للآخرة، قال عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:55 - 57].

ترك متاع الدنيا والاستعداد للآخرة

ترك متاع الدنيا والاستعداد للآخرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر رضي الله عنهما: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك، في بعض الروايات: فإنك يا عبد الله! لا تدري ما اسمك غداً. فقوله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، الغريب -كما قال الحسن - لا ينافس في عزها، ولا يجزع من ذلها، له شأن وللناس شأن، فالمؤمن غريب في الدنيا؛ لأن المؤمنين من الجنة وإلى الجنة: كم منزل للمرء يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل يقول ابن القيم رحمه الله: فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم فأهل الإيمان غرباء في الدنيا؛ لأنهم من أهل الجنة وليسوا من أهل الدنيا الذين صارت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم. قال الحسن بن آدم: إنك على مطيتين راحلتين تحملانك: يحملك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى الآخرة، فالعبد إما أن يكون غريباً في الدنيا أو يحس أنه عابر سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها). قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، قال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: أتعلم تفسيرها؟ يعني: أنت لله عبد وإليه راجع، وما دمت راجعاً فأنت موقوف، وما دمت موقوفاً فأنت مسئول، وما دمت مسئولاً فأعد للسؤال جواباً، قال: ما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، وإن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي. أقام معروف الصلاة ثم قال لرجل: صل بنا، قال: أنا إن صليت بكم هذه الصلاة لا أصلي بكم غيرها، قال: وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة غيرها؟ نعوذ بالله من طول الأمل؛ فإنه يمنع من خير العمل. اجتمع ثلاثة من العلماء فقال اثنان للثالث: ما أملك؟ قال: ما أتى علي شهر إلا وظننت أني سأموت فيه، فقالا: هذا هو الأمل، ثم قال لأحدهما: ما أملك؟ قال: ما أتى علي أسبوع أو جمعة إلا وظننت أني سأموت فيها، قال: فقال الآخران: هذا هو الأمل، فقالوا للثالث: ما أملك؟ قال: وما أمل من نفسه بيد غيره؟ فإن الموت كما قيل: كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك. قال بعض الحكماء: كيف يأمن من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره؟ وفي الحديث: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً وخط إلى جواره خطاً آخر، ثم خط خطاً آخر أبعد منه، ثم قال للخط الأول: هذا هو الإنسان، وللذي يليه: وهذا هو أجله، وأشار إلى الخط الأبعد فقال: وهذا هو أمله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب).

أسباب طول الأمل

أسباب طول الأمل فالعبد يؤمل أنه يعيش خمسين سنة أو ستين سنة ولعله ما بقي من عمره إلا سنة أو أقل من سنة، قال العلماء: السبب في طول الأمل أمران: الأمر الأول: حب الدنيا، والأمر الثاني: الجهل. أما حب الدنيا فإنه من حبه للدنيا يقدر أنه يعيش فيها مدة طويلة؛ فإنه يجهز ما يحتاجه في هذه المدة الطويلة من أموال ويحاول أن يصل إلى جاه أو إلى سلطان أو إلى شهرة، فهو يقدر أنه يعيش طويلاً في الدنيا؛ لأنه يكره الموت، فيعمل ما يوافق هواه، ويظن أنه يعيش مدة مديدة في الدنيا. أما الجهل فإنه يجعله على شبابه ويظن أن الموت لا يأتيه وهو في سن الشباب، ولو عد الأشياخ في ناحيته أو في قريته لوجد أنهم يعدون على أصابع اليد الواحدة، وهذا يدل على أنه إلى أن يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب، وأن أكثر الناس يموتون في فترة الصبا والشباب، وقليل منهم من يصل إلى أرذل العمر. أما علاج حب الدنيا فأن يعلق العبد قلبه بالآخرة، وأن يتذكر الآخرة، وأن يسعى للآخرة سعيها، فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير، فلا يمكن أن يزهد في الدنيا وأن يقدر قرب خروجه من الدنيا إلا وهو يوقن بالآخرة ويؤمن بالآخرة. أما الجهل فينبغي للعبد أن ينظر إلى جوارحه وأن ينظر إلى لحمه وشحمه ويعلم أنه ما من شيء من ذلك إلا وهو طعمة للدود، وما من شيء من عظامه إلا سيبلى إلا عجب الذنب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (منه يركب ابن آدم). فينظر إلى عينيه اللتين ينظر بهما إلى ما يحل وما يحرم، ويعلم أنهما طعمة للدود، وأن عظامه سوف تتناثر في قبره، وأن مفاصله سوف تنفك أربطتها، لا نتحدث عن غيب، وإنما نتحدث عن شهادة. والعبد ألف دائماً أنه يشيع الجنائز، وأنه يسير بجوار الخشبة، وما ألف أنه المحمول على الخشبة، فعلاجه أن يستحضر أنه لابد أن يكون له مثل هذا المشهد، ولابد يوماً أن يكون محمولاً على الخشبة. كل ابن آدم وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول فيقيس نفسه بغيره، وأن كل إنسان له أجل محدود، قال عز وجل: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وينبغي عليه أن يستعد لنزول الموت قال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فيها فرحاً. وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت في عينه الدنيا وهان عليه كل ما فيها. ونظر ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى وقال: والله! لولا الموت لكنت بك مسروراً، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا. وقال عمر بن عبد العزيز: ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب؟ فينبغي للعبد أن يكثر من ذكر الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) أي: نغصوا بذكر الموت لذات الدنيا وشهوات النفوس؛ حتى ينقطع ركونكم إلى هذه الدنيا الفانية الزائفة الزائلة، وحتى تسعون للآخرة سعيها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

احفظ الله يحفظك

احفظ الله يحفظك لقد أمر الله تعالى عباده بحفظ حدوده ليحفظهم في أنفسهم، وأرشدهم إلى الالتجاء إليه في السؤال والاستعانة دون سواه؛ إذ الضر والنفع بيده سبحانه، فهو الذي قدر المقادير، وعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن إذا كان كيف يكون.

حفظ الله عز وجل لعباده

حفظ الله عز وجل لعباده إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني حتى كدت أطيش، فوا أسفاً من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه. فالنبي صلى الله عليه وسلم ينصح الأمة من خلال حبر الأمة عبد الله بن عباس يقول: (إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك)، والجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، (الراحمون يرحمهم الرحمن)، (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا).

جزاء حفظ العبد ربه

جزاء حفظ العبد ربه وحفظ الله عز وجل: أن تحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، وجزاء هذا الحفظ الحفظ من الله عز وجل وهو على نوعين: أن يحفظ الله عز وجل جوارحه، وأن يحفظ ماله وأولاده، ونوع آخر وهو أعظم من هذا الحفظ وهو أن يحفظ الله عز وجل على العبد دينه، ويحول بينه وبين المعصية التي تجره إلى النار، فحفظ الله عز وجل للعبد نوعان: النوع الأول: أن يحفظ بدنه، كما وثب أحد العلماء وثبةً شديدة، فأنكر عليه لكبر سنه، فقال: هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله عز وجل علينا في الكبر. فالعبد إذا حفظ جوارحه من معصية الله عز وجل؛ فإن الله عز وجل يبارك له في صحته وفي جوارحه، ويمتعه بسمعه وبصره وقوته، ويحفظ أولاده، كما قال عز وجل: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]. وكان أحد العلماء يقول لابنه: لأزيدن في صلاتي رجاء أن أُحفظ فيك، ويتلو قوله عز وجل: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]. أما الحفظ الثاني: فهو أن يحفظ الله عز وجل دينه، كما قال عز وجل في حق يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، فالله عز وجل يصرف عن عبده السوء والفحشاء، ويحول بينه وبين المعصية التي تجره إلى النار، كما في بعض الآثار بأن العبد يتهيأ للإمارة أو للوزارة أو للتجارة، والله عز وجل ينظر إليه فيقول لملائكته: اصرفوه عنها، فإني إن يسرتها له أدخلته النار، فيظل العبد يتبرم، وما هو إلا فضل الله عز وجل، فالله تعالى أدرى بما يصلح للعباد، كما في الحديث القدسي: (إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، وإني إن أسقمته أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا المرض، وإني إن أصححته أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، وإني إن أفقرته أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإني إن بسطت له أفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير).

معية الله عز وجل لعباده

معية الله عز وجل لعباده (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) أو (تجده معك)، وهذه المعية هي المعية الخاصة؛ لأن المعية معيتان: معية عامة، قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7]، وقوله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، فهذه هي المعية العامة، وهي أن الله عز وجل مع الناس بسمعه وبصره وعلمه وقدرته وإحاطته، وهذه المعية تستوجب الحذر والمراقبة والخوف من الله عز وجل. أما المعية الخاصة: فهي معيته للأنبياء والأولياء والمتقين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقال تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقال سبحانه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فهذه تستلزم من العبد الأنس بالله عز وجل، والاستغناء والتقوّي به. كما أرسل أحد السلف إلى أخيه يقول له: أما بعد: إذا كان الله معك فمن تخاف؟ وإذا كان عليك فمن ترجو؟ فمن كان الله معه كانت معه الفئة الغالبة.

سؤال الله عز وجل والاستعانة به

سؤال الله عز وجل والاستعانة به (احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله)؛ لأن السؤال إظهار فقر ونقص وحاجة واضطرار من العبد، ولا يجوز للعبد أن يتذلل وأن يظهر فقره ونقصه وحاجته إلى غير الله. كذلك ليس هناك لأحد قدرة على جلب جميع المنافع ودفع جميع المضار إلا الله عز وجل، فالعبد ينبغي له أن يسأل الله عز وجل. (وإذا استعنت فاستعن بالله)، يجوز الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق من قضاء بعض الحوائج أو المساعدة في أمور الدنيا، ولكن لا يجوز الاستعانة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فإذا استعان العبد بغير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وكله الله عز وجل إليه، فلا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107].

النفع والضر بيد الله عز وجل

النفع والضر بيد الله عز وجل ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف). فمضمون التوحيد وهو اعتقاد أن الأمر كله بيد الله عز وجل وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير)، فالعبد لا يذل نفسه في الطلب، ولا يطلب الرزق بمعصية الله، بل ينبغي له أن يطلب الحوائج بعزة الأنفس؛ لأن الأمر بيد الله عز وجل، والأمور تجري بالمقادير والخلق ليس لهم من الأمر شيء، والأمر والخلق لله عز وجل، (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) إشارة إلى أن القلم جرى بما قدر الله عز وجل. وثبت في صحيح مسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سن)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة)، فالله عز وجل خلق القلم، والله عز وجل يستوي في علمه الماضي والحاضر والمستقبل، فخلق القلم وقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة، فعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فهذه كناية على كتابة المقادير من أمد بعيد، قال صلى الله عليه وسلم: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) أي: من طول المدة. فنسأل الله تعالى أن يحفظنا بحفظه، وأن ينفعنا بآياته، وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الكلام على معجزة القرآن

الكلام على معجزة القرآن القرآن الكريم هو المعجزة العظمى التي أعطيت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ضمنه الله عز وجل وجوهاً من الإعجاز، فهو المعجزة الخالدة، المعجز ببلاغته وفصاحته، والمعجز بحقائقه العلمية الدقيقة، والمعجز بإخباره عما سيقع من الأمور الغيبية المستقبلية، ولذلك تحدى الله الإنس والجن في أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لعبض ظهيراً.

ذكر أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده عموما وعلى أمة محمد خصوصا

ذكر أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده عموماً وعلى أمة محمد خصوصاً إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله سلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. إن أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على العباد أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وقد تمنن الله عز وجل بهذه النعمة العظيمة في سورة النحل، وهي السورة التي تسمى بسورة النعم، كانت أول نعمة تمنن الله عز وجل بها على العباد أن أرسل الله إلى العباد الرسل، وأنزل عليهم الكتب، كما قال عز وجل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:1 - 2]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة). وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. فنعمة الله عز وجل على العباد بأن أنزل عليهم الكتب عموماً، وأرسل إليهم الرسل عموماً، وأنزل القرآن خصوصاً، وأرسل خاتم الأنبياء والمرسلين خصوصاً، فهذه أعظم نعمة تمنن الله عز وجل بها على العباد. كذلك تمنن الله عز وجل على المسلمين بنعمة إكمال التشريع على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] نزلت هذه الآية الكريمة على النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم عرفة في العام العاشر من الهجرة، وبنزول هذه الآية الكريمة تم التشريع على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتمت نعمة الله عز وجل على العباد. فهذه أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على العباد، وكان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب)، يقول شيخ الإسلام: وإنما مقتهم الله عز وجل لخلوهم من آثار الرسل ومن هداية الرسل، إلا بعض المتحنثين وبعض المتحمسين الذين كانوا يتعبدون ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، كـ زيد بن عمرو بن نفيل. فمقت الله عز وجل الناس كلهم قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عربهم وعجمهم؛ لأنهم فقدوا هداية الرسل، والناس بدون هداية الرسل -عباد الله- أضل من الأنعام السائمة، وشر من كل الدواب التي تمشي على الأرض، لأن الله عز وجل جعل الشرع والدين هو الروح وهو النور، كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. فكيف يكون حال الجسد إذا فقد الروح؟ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21] قبور تتحرك على الأرض عباد الله: وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور وقال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]. فالعبد إذا كان بعيداً عن شرع الله وبعيداً عن هداية الرسل فهو ميت يتحرك على الأرض. والناس بدون هداية الرسل أشر من كل الدواب التي تسير على الأرض: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأ

دلائل اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن

دلائل اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن المعجزة العظمى التي أعطى الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إنما هي القرآن المبين، وقيل: إنما خص بهذه المعجزة مع أن له من المعجزات ما فاق به جميع الأنبياء؛ لأن معجزة القرآن هي المناسبة لناس عصره ومعاصري دهره صلى الله عليه وآله وسلم. فلما كان زمن موسى عليه السلام زمن السحر أرسل الله عز وجل إليهم موسى ففلق بعصاه البحر، وألقى عصاه فإذا هي حية تسعى، وأتى بالمعجزات التي فاقت سحر كل ساحر وقهرت كل ساحر وأذلت كل كافر. ولما كان زمن عيسى عليه السلام زمن الطب أرسل الله عز وجل عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وجاء بما حير كل طبيب وأذهل كل لبيب. ولما كان زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم زمن الفصاحة وزمن البلاغة، أرسل الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن المبين، بما أذل به البلغاء وتحير فيه العلماء، ودهش فيه الشعراء، أرسله بالقرآن المبين يتحدى الناس بفصاحته وببلاغته، فألجم به كل الفصحاء، فكانت معجزة كل نبي تناسب ناس عصره ودهره؛ فلهذا كان القرآن هو المعجزة التي تخص نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. مما يدل على ذلك كذلك: أن أصحاب موسى وأصحاب عيسى كان عندهم غباء وتبلد، لم يكن لهم من الفصاحة والبلاغة وحدة الأذهان ما كان عند العرب، ويدل على ذلك قولهم لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]. ولما مر بهم موسى من البحر وفلق الله عز وجل له البحر ونجوا وأهلك الله عز وجل عدوهم، ومر على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] فهذا يدل على غباوتهم وبلادتهم. أما أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالله عز وجل جعل لهم القرآن الذي يجولون فيه بخواطرهم، والذي يتفكرون فيه بعقولهم، حتى أذعن الكفار بفصاحته وبلاغته. الأمر الثالث -عباد الله- مما يدل على أن القرآن هو المعجزة الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أن هذه المعجزة هي المعجزة الدائمة الباقية، فإن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم من حنين الجذع، ونبع الماء بين أصابعه، وانقياد الشجر له، وتسليم الحجر عليه، كل هذه المعجزات ذهبت كما ذهبت معجزات جميع الأنبياء السابقين، وإنما شاهدها من عاصر هؤلاء الأنبياء الكرام. وبقيت معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على مر الأعصار، بقيت هذه المعجزة يتحدى الله عز وجل بها الإنس والجن، يتحدى الله عز وجل بها الأولين والآخرين، فكانت هذه المعجزة هي المعجزة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي نوه بها عندما قال: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة). فمعجزة القرآن عباد الله هي أبلغ المعجزات، وهي أبقى المعجزات، وناسب ذلك أن تكون أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي الباقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فليس بعد نبينا نبي، فتبقى هذه المعجزة شامخة على مر الأيام؛ لأنه لا يأتي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسول ينسخ نبوته، وشريعة تنسخ شريعته، فناسب ذلك أن تكون معجزته باقية مع بقاء الأيام.

وجوه إعجاز القرآن الكريم

وجوه إعجاز القرآن الكريم

جزالة ألفاظه وفصاحتها

جزالة ألفاظه وفصاحتها نتكلم عن إعجاز القرآن من أربعة وجوه: الوجه الأول: جزالته الفائقة وفصاحته الموفقة، فكل من يسمع آيات القرآن إذا كان عنده من الفهم بلغة العرب، فإنها تبهره هذه الآيات الكريمة، كما قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] لما سمع أبو جهل هذه الآية الكريمة -وكان أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم- قال: إن رب محمد لفصيح. فظهرت فصاحة القرآن وأذعن لها الكفار. وأعجب الأصمعي ببلاغة امرأة، حين قالت له المرأة: وأي بلاغة بعد قول الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] قالت: في هذه الآية الكريمة أمران ونهيان وخبران وبشارتان، في آية واحدة من كتاب الله عز وجل. فانظروا إلى إعجازه وإلى إيجازه، فكيف يستطيع أحد من البشر أن يأتي ولو بآية من آيات القرآن؟ وقال عز وجل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95] سمع أعرابي هذه الآية فسجد، فسئل عن سبب سجوده؟ قال: سجدت من فصاحتها. وقال عز وجل: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44] كم في هذه الآية الكريمة من الطباق ومن الجناس ومن البديع ومن حلاوة اللفظ عباد الله؟! {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود:44] أي: نقص الماء. {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] أي: رست سفينة نوح على جبل الجودي، {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]. كذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80] يفهم هذه الكلمات ويفهم هذا الإعجاز من كان عنده فهم في لغة العرب، وعنده علم بالمحسنات وبدائع الكلمات، فهذا أول إعجاز في القرآن حلاوة نظمه، فصاحته الموفقة وبلاغته الرائدة عباد الله!

إخبار القرآن بأمور غيبية مستقبلية ووقوعها على نحو ما أخبر به

إخبار القرآن بأمور غيبية مستقبلية ووقوعها على نحو ما أخبر به الوجه الثاني من الإعجاز عباد الله: هو أن القرآن أخبر بأمور غيبية فوقعت كما أخبر القرآن سواء بسواء، قال عز وجل: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5]. حدث في الفترة المكية في بداية البعثة أن الفرس انتصروا على الروم، والروم أهل كتاب والفرس يعبدون النار، فكان الروم هم أقرب إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن أهل الكتاب كفرهم أخف من كفر عابدي الصنم وعابدي النار، والمشركون أقرب إلى الفرس فحزن المسلمون لذلك، فبشرهم الله عز وجل بأن الروم سوف ينتصرون على الفرس في بضع سنين، والبضع في لغة العرب من ثلاثة إلى تسعة، وبعد سبع سنين من نزول هذه الآية الكريمة انتصرت الروم على الفرس كما أخبر القرآن سواء بسواء. ثم قال عز وجل: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] أي: أن المسلمين سوف ينتصرون على الفرس والروم، وإذا ذهب كسرى فلا كسرى بعده، وإذا ذهب قيصر فلا قيصر بعده، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وتحقق هذا الوعد الصادق للمسلمين. وقال عز وجل والمسلمون يعذبون في ربوع مكة: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] في سورة القمر وهي سورة مكية، وتحقق هذا الوعد الصادق في أول لقاء بين الكفر والإيمان، في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، انتصر المسلمون على الكفار نصراً مؤزراً قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]. فهذا الإعجاز من إعجاز القرآن، وهو أنه أخبر بالمغيبات، ووقع الأمر كما أخبر القرآن سواء بسواء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

التحدي من أن يأتوا بمثله أو بعضه

التحدي من أن يأتوا بمثله أو بعضه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ذكرنا من أوجه إعجاز القرآن عباد الله: إعجاز القرآن برشاقة اللفظ وجزالة المعنى. والوجه الثاني: أن القرآن أخبر بالمغيبات، وحدث كما أخبر القرآن سواء بسواء. الوجه الثالث عباد الله: الإعجاز بالتحدي، فقد تحدى الله عز وجل الخلق على أن يأتوا بمثل القرآن، فعجزوا عن ذلك، فتحداهم الله عز وجل على أن يأتوا بعشر سور من سور القرآن، فعجزوا عن ذلك، فتحداهم الله عز وجل على أن يأتوا بسورة واحدة من سور القرآن، فعجزوا عن ذلك، وأخبر الله عز وجل عن عجزهم حيث قال عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] أي: لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ومعيناً. فهذا تحد بالقرآن كله. وتحداهم الله عز وجل أن يأتوا بسورة واحدة، فقال: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:23 - 24]. وقال في العشر السور: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] فعجزوا عن القرآن كله، وعجزوا عن عشر سور، وعجزوا كذلك على أن يأتوا بسورة واحدة ولو كأقصر سورة في القرآن. وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] أي: لن تقدروا على ذلك. وحدث الأمر كما أخبر الله عز وجل، ما استطاع أحد أن يأتي بمثل سورة من القرآن. فإن قال قائل: لعله قد عورض ولم ينقل إلينا؟ ف A بل عورض فعلاً ونقل إلينا، فظهرت ركاكة لفظه، وسماجة نظمه، وسخافة معناه، أي: أن الذين حاولوا أن يعارضوا القرآن أتوا بالألفاظ الركيكة، والمعاني السخيفة، فلم يستطع أحد أن يأتي بمثل القرآن أو بمثل عشر سور، أو بمثل سورة واحدة من القرآن، وأعداء الإسلام يكيدون للإسلام ليل نهار، وما استطاع أحد أن يأتي بسورة من مثل القرآن، فهذا يدل على أنه كلام الملك المنان عز وجل، وأنه كلام خالق البشر وليس ككلام البشر، فهذا الوجه الثالث عباد الله! من الإعجاز وهو الإعجاز بالتحدي. فإن قال قائل: لعل الله عز وجل يصرف همم الناس على أن يأتوا بمثل القرآن؟ ف A أن هذا أيضاً من الإعجاز، وهذا يدل على قدرة الله عز وجل، أنه يصرف همم الناس وعقول الناس على أن يأتوا بمثل القرآن.

إخباره عن حقائق علمية عرفت بعد نزوله بمئات السنين

إخباره عن حقائق علمية عرفت بعد نزوله بمئات السنين الوجه الرابع عباد الله: أن القرآن أخبر بأشياء قد ثبتت الحقائق العلمية أنها كذلك، قال عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. أجمع علماء الفلك: أن المجرة التي فيها المجموعة الشمسية تشتمل على بلايين من النجوم والكواكب والأجرام السماوية، وأن بينها كمية عظيمة من الدخان والغبار، وأن الدخان والغبار هو المادة الأولية لهذه الكواكب والنجوم، فكيف عرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. ومن ذلك: قوله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، من أين عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يصعد في السماء يختنق لقلة ضغط الهواء في طبقات الجو العليا، ولقلة نسبة الأوكسجين، حتى إن رواد الفضاء لا بد أن يحملوا على ظهورهم أنبوبة أوكسجين؟! فهذا يدل على أن القرآن كلام الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً. ومن ذلك: قوله عز وجل: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]؛ فإن الناظر إلى الجبل الذي بجواره لا يعتقد إلا أنه ساكن، فهو ساكن أمام نظره ولكن الذي ينظر إلى الكرة الأرضية من علٍ، من الفضاء الخارجي يرى الكرة الأرضية وهي تدور. فمن الحقائق التي قد ثبتت عند علماء الفلك: أن الكرة الأرضية تدور حول نفسها كل أربعة وعشرين ساعة، وتدور كذلك حول الشمس، فدورانها حول نفسها تجعل الذي ينظر إليها من الفضاء الخارجي يرى هذه الجبال وهي تمر مر السحاب، فكيف عرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟ فهذا يدل على أن القرآن كلام الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً، إيجازه وإعجازه، وبلاغته الرائقة، وجزالته الموفقة. كذلك: ما في القرآن من إخبار بالمغيبات، وما تحدى الله عز وجل به الخلق جميعاً الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله. كذلك إخبار القرآن بأشياء من الحقائق العلمية التي ثبتت بعد ذلك، ولم تكن معروفة في العهد الأول، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يأخذ شيئاً من أهل الكتاب، وإنما علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى، أي: أخذ علمه من عند الله عز وجل، لم يتتلمذ على أحد من أهل الكتاب، ولم يتتلمذ على أحد من البشر، بل أدبه الله عز وجل وعلمه، فكانت معجزة القرآن هي المعجزة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس معنى ذلك: أنه ليست له معجزات حسية، ولكنه بالإضافة إلى هذه المعجزة العظمى له من المعجزات الحسية الكثيرة التي فاق بها جميع الأنبياء. وقد أشرنا إلى ذلك إجمالاً في خطب سابقة، ولكننا سوف نشير إلى ذلك بمزيد من التفصيل، وكيف أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء من الغيب في حياته وحدثت كما أخبر بعد أن لحق بالرفيق الأعلى. وهذا الموضوع من الأهمية بمكان، لأنه كلما ازداد علمنا بعلامات النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم نزداد إيماناً به، ونزداد حباً له، ونزداد نصراً لشريعته، وتمسكاً بسنته. اللهم ثبتنا على الإسلام قائمين، وثبتنا على الإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم اهدنا واهد بنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

إنهم فتية آمنوا بربهم

إنهم فتية آمنوا بربهم ذكر سبحانه وتعالى في سورة الكهف قصة الفتية الذين آمنوا بربهم، وفروا من قومهم بدينهم، وفي قصتهم عظة وعبرة، وبيان لأن طريق الدعوة محفوف بالمكاره والمخاوف، لذا كان على الدعاة إلى الله عز وجل أن يوطنوا أنفسهم على تحمل التبعات والمشاق، وأن يوقنوا بأن العاقبة لهم، وأن الله سيجعل لهم فرجاً ومخرجاً، فهو غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

بين يدي قصة الفتية أصحاب الكهف

بين يدي قصة الفتية أصحاب الكهف الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنّة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز في الجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم. فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحّد الله عز وجل وعرّفنا به ودعا إليه وسلّم تسليماً. أما بعد عباد الله: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:9 - 13]. أصحاب الكهف -عباد الله- هم فتية في ريعان الشباب وفي سن الشهوة والقوة والفتوة، اعترضوا على قومهم فقالوا: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ ر

فرار الفتية إلى الكهف بدينهم

فرار الفتية إلى الكهف بدينهم قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10] والرشد هو أن تعرف الحق وتتبعه، {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] وهو بخلاف الغي، {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف:10] (من لدنك) أي: من عندك رحمة عظيمة تشملنا بها، {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:11 - 12] ففي القصة المختصرة لم يذكر عدد السنين التي مكثوا فيها في الكهف، وبيّن عز وجل أنه ضرب على آذانهم إشارة إلى حجب حسّهم؛ لأن النائم غالباً يستيقظ من حاسة السمع، وقوله: {فَضَرَبْنَا} [الكهف:11] أي: جعلنا على آذانهم حجاباً شديداً، كما قال عز وجل: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة:61] أي: كتب الله عز وجل عليهم الذلة. إذاً: حجب الله عز وجل عنهم حاسة السمع؛ حتى لا يستيقظوا، كما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً ينام إلى الصبح ولا يستيقظ لصلاة الفجر، فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه)؛ لأن العبد يستيقظ غالباً من حاسة السمع، {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:11 - 12] فاختلفوا في الحزبين، فقيل: الذين قالوا من أهل الكهف: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، وهم الذين قالوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] وكأنهم أحسوا أنهم مكثوا مدة طويلة، ولكنهم لا يستطيعون حصرها، وقيل: أحد الحزبين أهل المدينة عندما اطلعوا على أمرهم، والحزب الثاني هم أصحاب الكهف، وقيل: الحزبان من أهل المدينة. وعلى كل حال فالراجح تفسير القرآن بالقرآن، فالراجح هما حزبان من أهل الكهف كما سيأتي في تفصيل القصة.

إيمان الفتية أصحاب الكهف ورعاية الله لهم وتثبيتهم

إيمان الفتية أصحاب الكهف ورعاية الله لهم وتثبيتهم قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] أي: أن الله عز وجل عالم الغيب والشهادة، علم ما كان وما سيكون لو كان كيف يكون، فما يقصه الله عز وجل علينا هو الحق، وما في كتب أهل الكتاب منه الصحيح ومنه المحرف المبدّل. {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] أي: أن الله عز وجل يكافئ على الهدى بالهدى، كما يكافئ الله عز وجل على الحسنة بالحسنة، وكما يعاقب على السيئة بالسيئة، وهذا دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في أن الإيمان يزيد وينقص، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] أي: زاد الله عز وجل في إيمانهم، فمن قصد الخير -عباد الله- وعزم على الخير وعزم على الهدى تأتيه المنح الربانية من الله عز وجل، فمن هذه المنح: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]. {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]. ثم المنحة الثانية: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] كأنهم في حالهم وبحولهم وقوتهم وبإيمانهم وبالفتن الشديدة التي من حولهم؛ لأن قومهم كانوا في غاية الكفر والغباوة، بل كانوا يجبرون الناس على الشرك بالله عز وجل، كما قال عز وجل عنهم: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] فهؤلاء زادهم الله عز وجل هدى حتى يقوموا هذا المقام الشريف، {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14]، كما قال عز وجل: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]، وكما أخبر عز وجل عن أهل بدر فقال عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11] فهذه منح ربانية لأهل الإيمان، ما عليك إلا العزيمة الصادقة وأن تقوم لله عز وجل ناوياً إعزاز دين الله عز وجل ورفع راية الله عز وجل، حينها تأتيك المنح الربانية والتثبيت الإلهي، فهذه امرأة فرعون وكل فرعون بتعذيبها رجالاً ربطوها في أربعة أوتاد وأخذوا يعذّبونها، فقالت عند ذلك: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فأراها الله عز وجل بيتها في الجنة، فآثرت ما عند الله عز وجل مما عند فرعون من ملك وقصور، وطلبت بيتاً في الجنة. كذلك قصة المرأة من أصحاب الأخدود لما همّت أن تتقاعس شفقة على وليدها وعلى رضيعها، أنطق الله الرضيع فقال: يا أمي اصبري فإنك على الحق، فالله عز وجل يثبت أهل الإيمان ويربط على قلوبهم؛ حتى يُعزوا دين الله وحتى يرفعوا راية الله عز وجل، {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]. والشطط: هو القول البعيد عن الصواب، كما قالوا: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:22] (ولا تشطط) أي: لا تبعد عن الحق، فالشطط هو القول البعيد عن الصواب، وأن يعبد العبد مع الله عز وجل غيره، فهذا قول شطط وهذا فعل شطط بعيد عن الصواب؛ لأن الله عز وجل وحده هو الخالق وهو الرزاق وهو المحيي وهو المميت. ثم قال تعالى: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15] أي: بحجة واضحة على أنهم يستحقون العبادة مع الله عز وجل، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] كيف يكون في الكهف الرحمة وهو فجوة في الجبل؟ كيف ينتظرون المخرج من داخل الكهف؟ وكم يبقون في الكهف ثم يعودون إلى قومهم؟ إنهم لا يعرفون بلداً إسلامياً على وجه الأرض يذهبون إليه، ولكنهم فعلوا ما في مقدورهم وكانت ثقتهم بالله عز وجل قوية، وهكذا المؤمن يتقي الله عز وجل وينتظر المخرج من الله عز وجل، قد لا يرى المخرج بعينيه، ولا يستطيع

سبب إطلاع الله عز وجل على أصحاب الكهف وخبرهم

سبب إطلاع الله عز وجل على أصحاب الكهف وخبرهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد. فيقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:21]، فكان في قدر الله عز وجل أن أطلع أهل البلاد عليهم. {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21]، أي: وقفوا عليهم. {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف:21] أي: وعده لأهل الإيمان ونجاته لهم، وكيف يفعل الله عز وجل بهم الأعاجيب؟! {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]، ويبدو كما قال بعض المفسّرين: إن هؤلاء الفتية كانوا أمراء أو كانوا أثرياء، ولذلك حفظ الناس أنهم خرجوا في زمان غابر، وأتت اليهود ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خبرهم، فكان لأمرهم شأن، وكأن هؤلاء كانوا يحفظون أن فتية خرجوا منذ أزمنة متطاولة، ولم يدروا كيف فعل الله عز وجل بهم: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]؛ فالله عز وجل أنامهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ثم بعثهم، فهذا من أدلة البعث عباد الله؛ لأن النوم نوع من الموت، كما قال عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، فالله عز وجل يقبض الأرواح عند الموت وكذلك عند النوم، فمن شاء الله عز وجل له أن يعيش يوماً جديداً يرد الله عز وجل إليه روحه؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام وضع كفه الأيمن تحت خده الأيمن، وقال: (باسمك اللهم ربي وضعت جنبي وبك أرفعه؛ فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وكان يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور). وفي هذه القصة يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:19]؛ لأن هذا النوم يشبه الموت، والبعث بعد الموت، لعل الناس يعتبرون بذلك ويتذكرون الموت كل يوم.

الرد على من استدل بقصة البناء على الفتية بجواز بناء المساجد على القبور

الرد على من استدل بقصة البناء على الفتية بجواز بناء المساجد على القبور قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} [الكهف:21]، قال بعضهم: اجعلوا بنياناً على هذا المكان، كأن هذا المكان سيكون من الآثار أو من الأشياء التي تُحترم وتزار. وقال بعضهم: ابنوا عليهم مسجداً، {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]. واستدل بعض من ليس عنده حظ من العلم والهدى بهذه الآية على جواز إقامة المساجد على القبور، ورد ذلك العلامة الألباني بثلاثة أدلة: الأول: أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا على الراجح، فهذا إن جاز في شرعهم فلا يجوز في شرعنا، إن جاز في شرعهم أن يبنوا عليهم مسجداً، وأن يتخذوا على قبور الصالحين مسجداً، فهذا لا يجوز في شرعنا؛ لأن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. الثاني: لو فرضنا على قول من يقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا، فاشترطوا ألا يأتي في شرعنا ما يخالفه، وقد أتى في شرعنا ما يخالفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وكان هذا من آخر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، في مرض موته: (كان يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم بها كشفها، وقال وهو كذلك: لعن الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، تقول السيدة عائشة: يحذّر ما صنعوا. فإن قال قائل: هذا خاص باليهود والنصارى، نقول: لماذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن؟ من أجل ألا يتشبه المسلمون بهم، ومن أجل ألا يتعرضوا للعنة بما لُعن به اليهود والنصارى، فأتى في شرعنا ما يخالفه، فإن كان هذا شرع من قبلنا ففي شرعنا ما يخالفه. الثالث: أن هذا لم يكن شريعة عندهم؛ لأن الله عز وجل ما قال هذا في شريعتهم، بل قال: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، وهؤلاء الغالب عليهم الجهل، أهل الجاه وأهل السلطان وأهل الأموال قالوا: لنتخذن عليهم مسجداً، على عادة الناس إذا أرادوا أن يكرموا أحداً يقولون: نتخذ عليهم مسجداً، مع أن هذا مخالف لشرعنا، ولما ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبشة فيها من التصاوير، قال: (أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، واتخذوا فيه تلك التصاوير، أولئك هم شرار الخلق عند الله)؛ أي: من أجل الأمرين: الأمر الأول: اتخاذ التصاوير، والأمر الثاني: أنهم يتخذون على قبره مسجداً.

الأقوال في عدد أصحاب أهل الكهف

الأقوال في عدد أصحاب أهل الكهف قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22]. قال ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: أنا من هذا القليل، هم سبعة وثامنهم كلبهم. وعلل ذلك بأن الله عز وجل ذكر ثلاثة أقوال، فهذا يدل على أن الأقوال ثلاثة وليس هناك قول رابع، ثم أشار إلى بطلان القولين الأولين فقال: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22] فالذي يقذف شيئاً في مكان لا يعرفه فغالباً لا يصيب الهدف. ثم قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] ولم يكذّب هذا القول، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] إشارة إلى أن العبرة حاصلة سواء كانوا ثلاثة ورابعهم كلبهم، أو خمسة وسادسهم كلبهم، أو سبعة وثامنهم كلبهم، {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:22 - 25]. فكانت هذه قصة هؤلاء الفتية وكيف فعل الله عز وجل بهم، وكيف نجاهم الله عز وجل من المكر الكافر، وكيف نجاهم من الشرك، فهم قصدوا الإيمان، واعتزلوا قومهم للكفر وللشرك، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] وقالوا: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16] فهم أخذوا بالأسباب واعتزلوا قومهم، فعند ذلك جعل الله عز وجل لهم الفرج والمخرج كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:48 - 49] فإذا اعتزل العبد أهل المعاصي وأهل الشرك فإن الله عز وجل يؤنس وحشته ويجعل لهم فرجاً ومخرجاً. اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم انصرنا بالإسلام قائمين، وانصرنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين. اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم رد بأسهم عن إخواننا في فلسطين، وأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً. اللهم عليك بالأمريكان الحاقدين، ورد بأسهم عن إخواننا في العراق وفي أفغانستان، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية. اللهم اهدنا واهد بنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر. اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً.

رسالة السعادة

رسالة السعادة يظن كثير من الناس أن السعادة في المال، أو الجاه والسلطان، أو الشهرة، أو الفن والتمثيل والرقص ونحو ذلك من متاع الدنيا، ولذا تراهم يلهثون وراء هذه الأشياء ظناً منهم أنهم سيجنون السعادة منها، غافلين أو متغافلين عن كون واجدي هذه الأشياء يعيشون في هم وغم ونكد وشقاء، فأموالهم ومناصبهم وشهرتهم لم تمنحهم السعادة التي لهثوا وراءها، وما دروا أن السعادة الحقيقية في الإيمان بالله وحده وعبادته، فبذلك يحصل العبد على الطمأنينة والسكينة والراحة في الدنيا والآخرة.

مقدمة بين يدي الحديث عن السعادة الحقيقية

مقدمة بين يدي الحديث عن السعادة الحقيقية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً. أما بعد: فقد جعل الله عز وجل السعادة وصفاً على أهل الإيمان والعمل الصالح، فقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، فإذا حصل العبد أسباب الإيمان فزكى نفسه وطهر قلبه فإنه يجد السعادة المنشودة والدرة المفقودة، وكلما اكتمل إيمانه وأشغل قلبه وجوارحه بطاعة الله عز وجل وجد السعادة في الدنيا قبل الآخرة. سأنقل لكم كلاماً من رسالة (السعادة بين الوهم والحقيقة) للدكتور ناصر بن سليمان العمر، وهي في الواقع من أحسن وأروع ما كتب عموماً، وفي هذا الموضوع خصوصاً؛ لذلك سأنقل عبارات منها بالنص. تكلم الدكتور ناصر العمر عن شقاء أصحاب النار وأصحاب الشقوة وأصحاب الجهل، وبين طريق السعادة في أمور الإيمان، والتسليم لقضاء الله عز وجل وقدره، ولكن كان ينقص الرسالة أن يحكي أيضاً عن أهل الإيمان والعمل الصالح، كيف وجدوا السعادة! فهذا جزء مفقود في هذه الرسالة، ولو اكتملت لكان فيها خير كثير، فإن شاء الله ننقل كلمات من الرسالة، ثم نكمل ما شاء الله عز وجل من بيان حال أهل الإيمان في الوصول إلى السعادة الحقيقية، فقد بين المؤلف هنا كيف أن أهل الدنيا توهموا السعادة في أشياء وساروا خلفها، فما حصلوا إلا الشقاء حتى ماتوا بحسرتهم، ولم يجدوا السعادة ولم يجدوا طريقها. ثم بين أسباب السعادة الحقيقية، ولكن كان الأكمل أن يحكي عن أهل الإيمان وعن العلماء وعن العباد وعن أهل الخير والصلاح كيف وجدوا السعادة! وكيف حكوا عن هذه السعادة التي يجدونها في الدنيا قبل الآخرة، والله عز وجل جعل قلب الإنسان منشرحاً بالقرآن وبالإسلام، فقال عز وجل: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22]. وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]. يعني: أن صدر الإنسان المريد للهداية ينشرح وينفتح بالإسلام، بينما المريد للضلالة فهو كالذي يتصعّد في السماء فيختنق؛ لأن نسبة الأكسجين تقل في طبقات الجو العليا، فكلما انخفض خف الاختناق. إذاً: من يرد الله عز وجل أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، فلا يتسع للإسلام ولا ينشرح بالإسلام، بل تُحبس عنه أسباب الحياة؛ لأن الإسلام هو الروح وهو النور، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. وقال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، فكل من وجد طعم الإيمان ووجد طريق السعادة الحقيقية يحس أنه كان في وهم وفي خيال، وأنه كان ميتاً قبل أن يشرح الله عز وجل صدره للإسلام، فما أضيق وأحرج هذه الحياة التي يعيشها أهل الدنيا، والتي يسيرون فيها خلف الشهوات الزائفة، وخلف السعادة الموهومة.

أقسام السعادة وأصناف الناس فيها

أقسام السعادة وأصناف الناس فيها يبين الكاتب حفظه الله كيف أن الناس يسعون إلى السعادة، فيقول: (أما بعد: فمعاً أيها القارئ الكريم نلتقي في طريق من طرق الخير، ودرب من دروب المحبة، ومسلك من مسالك السعادة، أسأل الله أن يجعل هذا في موازين أعمالنا يوم القيامة. أيها الأخ الكريم! هل السعادة وهم أم حقيقة؟ ربما عجبت من هذا السؤال! نعم. إن هناك سعادة وهمية، وسعادة حقيقية. ولكن ما الداعي لتقليب صفحات هذا الموضوع، والخوض فيه؟) يبين صاحب الرسالة الأسباب التي دعته إلى طرح هذا الموضوع فيذكر منها: أن كل إنسان على هذه البسيطة يسعى إلى السعادة، قد يختلف الناس في مذاهبهم ويختلفون في أعرافهم ويختلفون في مشاربهم، بل قد يختلفون في مبادئهم وغاياتهم ومقاصدهم، إلا غاية واحدة ربما اتفقوا عليها من أولهم إلى آخرهم، إنها طلب السعادة. فالمؤمن يطلب رضا الله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20]، ومع ذلك أيضاً يسعى للسعادة، يسعى للنجاة من النار والفوز بالجنة، ويسعى للحياة الطيبة في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح. والكافر يشترك مع المؤمن في طلب السعادة، لكن لا يطلب رضا الله عز وجل، بل يعبد هواه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]. قال الحسن: هو الذي كلما هوى شيئاً ركبه. يعني: كلما زينت له نفسه فعل شيء فعل هذا الشيء، فليس له غاية إلا السعادة، مع أنه أخطأ طريقها فلم يجد شمها ولم يذق طعمها الحقيقي. ثم يقول: (المؤمن والكافر، البر والفاجر، كل واحد منهم يريد السعادة، لو سألته: لم تعمل هذا؟ ولأي شيء تفعل ذاك؟ لقال: أريد السعادة! سواء أقالها بحروفها أم بمعناها، بمدلولها أو بحقيقتها. ثم ذكر السبب الثاني وهو أن كثيراً من الناس يخطئ طريق السعادة، كل الناس يريدون السعادة، ولكن كثيراً منهم يخطئ هذا الطريق، بل إن القلة القليلة هي التي تسلك سبيل السعادة الحقيقية. وعند السبب الثالث بين أنه سبب هام جداً فقال: السبب الثالث: وهو سبب جوهري -أرجو أن ينال عنايتكم وانتباهكم- وهو أن كثيراً من المسلمين -وأخص الدعاة منهم- عندما يرون أصحاب السعادات الوهمية، يكون هذا الأمر عائقاً لهم عن الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، فالداعية إلى الله سبحانه وتعالى يصاب في طريقه بعقبات، وهذا شأن طريق الدعوة، وهو بحاجة إلى من يثبته على هذا الطريق، ولكنه يرى كثيراً ممن يتصور خاطئاً أنهم أصحاب سعادات، يراهم يعيشون في قمة السعادة، وهنا يحدث له الضعف والوهن في طريقه إلى الله سبحانه وتعالى، فيقول له الشيطان: ألا تكون مثل هؤلاء، ألا تعيش السعادة الحقيقية مثل هؤلاء؟ فيضعف عن الطريق. وكم من مستقيم ضل وانحرف عن الطريق قبل وفاته! كم من رجل كان يعيش السعادة الحقيقية، ثم انتقل منها إلى السعادة الوهمية، فلم يحقق السعادة في الدنيا، ولن يحققها في الآخرة! ومن هنا -أيها الإخوة- كتبت لكم عن السعادة، لنقف وقفات متأنية علنا نتبين حقيقتها، وهم هي أم حقيقة؟).

تعريف السعادة وأوهامها

تعريف السعادة وأوهامها يعرف الكاتب حفظه الله السعادة فيقول: (السعادة عند أهل اللغة: هي ضد الشقاوة، فلان سعيد، أي: ضد الشقي. وأهل التربية وعلماء النفس يقولون بعبارة موجزة جميلة: هي ذلك الشعور المستمر بالغبطة والطمأنينة، والأريحية والبهجة، وهذا الشعور السعيد يأتي نتيجة للإحساس الدائم بخيرية الذات، وخيرية الحياة، وخيرية المصير). ثم يقول: (أوهام السعادة! سأقف طويلاً أيها الأخ الكريم عند هذه القضية؛ وما ذاك إلا لأنها قضية حاسمة، ومهمة في تحديد مسيرة حياتنا، بل وتحديد مفاهيمنا الخاطئة عن السعادة، والتي منها: السعادة في المال). فهو أولاً ذكر السعادة في المال وأتى بأمثلة على ذلك، كذلك أتى بأمثلة على سعادة الشهرة، ثم سعادة الشهادات، فيقول: (نتساءل كثيراً عن السعادة: هل السعادة في تكديس المال وفي جمع الثروات، وبناء العقارات والقصور؟ هل هذه هي السعادة؟ كثير من الناس يتوهم ذلك، فهذا سعيد؛ لأنه يملك الأرصدة في البنوك! وفلان سعيد، لأنه يملك كذا من الأراضي، وكذا من العمارات. فلان سعيد؛ لأنه يملك كذا وكذا! كثير من الناس يطلق هذا الوهم بلسانه، وكثير منهم يعتقده بقلبه، فيتصرف من هذا المنطلق الخاطئ. أقول: ليست السعادة في جمع المال، على حد قول الشاعر: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد أخي المسلم! أقف معك حول هذه القضية، أعني: قضية أن السعادة في المال؛ لأنها من أهم القضايا في أوهام السعادة، وجملة القول: ليس كل صاحب مال سعيداً، فكثير من أرباب المال وأصحاب الثروات يعيشون في شقاء وتعاسة دائمة في حياتهم الدنيا قبل الآخرة). ويمكن أن تسألوا أصحاب المال: هل وجدتم السعادة المنشودة؟ يقول: (إنهم يتعبون في جمع المال، وفي حفظه واستثماره)، وقد يكون مشغولاً كيف يستثمر هذا المال؟ وكيف ينمّي هذا المال؟ ثم يقول: (والقلق والخوف من فوات هذا المال وزواله). كم من إنسان يملك المليارات ولكنه خائف قلق، لماذا كل هذا الخوف؟ ولم كل هذا القلق؟ إنه يخاف على هذا المال، يخاف أن تأتي هزة سياسية، أو يأتي لصوص فيسرقون هذا المال. إذاً: فهو يعيش في شقاء، خوف، قلق، هم، غم، بل إنه لا ينام الليل، وهذا أمر مجرب مشاهد ترونه بأعينكم، بل قد يكون المال سبب هلاكه ومماته. كم من غني خُطف أو قُتل بسبب تجارته؟ بل كم من غني حرم من لذاته بسبب أمواله، تجده لا يمشي طليقاً، ولا يمشي حراً، لا يسافر كما يريد، لا ينام كما يريد، كل هذا بسبب أمواله؟ ثم كم من إنسان صاحب مال زال ماله، وزالت ثرواته بسبب أو بآخر، فعاش بقية حياته في تعاسة وشقاء؟

طلب السعادة في المال

طلب السعادة في المال إليكم هذه النماذج الناطقة: بدأ الكاتب حفظه الله بقصة قارون مختصرة، فقال: (تلك القصة التي أوردها القرآن الكريم عن قارون، حيث قال سبحانه وتعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]، في قمة سعادته، حتى إن قائلهم يقول: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] خرج في زينته فهو ذو حظ عظيم، كل هذا من أوهام السعادة، والنتيجة لكفره بأنعم الله كما يقول الله سبحانه وتعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81] أي: سعادة هذه وأي نهاية هذه؟). وعلى هذا فقول أمية بن خلف وأمثاله يوم القيامة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] لم يأت من فراغ، فبئس المال الذي لا يغني عن صاحبه شيئاً. والقصة الثانية: قصة كرستينا أوناسيس، لعل بعض الإخوة يكون قد سمع قصة أوناسيس الملياردير فهو من أغنى أغنياء العالم، وتزوج من زوجة الرئيس الأمريكي السابق جون كنيدي من فترة طويلة، يمكن من أكثر من (20) سنة أو (25) سنة، وحكي لنا عن ثرواته الكثيرة حيث إن له أسطولاً بحرياً وعنده أشياء عديدة، فالكاتب حفظه الله يحكي عن قصة كرستينا ابنة أوناسيس هذا الكافر. يقول: (قصة عجيبة تابعت فصولها على مدى (15) عاماً أو تزيد، وانتهى آخر فصل منها منذ أشهر فقط، إنها قصة: كرستينا أوناسيس). والله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا أمثالاً من الكفار في القرآن، فلا غرو ولا عجب أن نضرب لكم مثلاً باسم هذه المرأة. إليكم قصة هذه المرأة كرستينا أوناسيس: تلك الفتاة اليونانية، ابنة المليونير المالي المشهور أوناسيس، ذلك الذي يملك المليارات، يملك الجزر، يملك الأساطيل. هذه الفتاة مات أبوها، وقبل ذلك ماتت أمها، وبينهما مات أخوها، وبقيت هي الوريثة الوحيدة مع زوجة أبيها لهذه الثروات الطائلة). يقول: (أتدري أيها القارئ الكريم كم ورثت؟ لقد ورثت من أبيها ما يزيد عن خمسة آلاف مليون ريال! فتاة تملك أسطولاً بحرياً ضخماً! تملك جزراً كاملة! تملك شركات طيران! أخي الكريم! امرأة تملك أكثر من خمسة آلاف مليون ريال، بقصورها وسفنها وطائراتها، أليست في مقاييس كثير من الناس أسعد امرأة في العالم؟! كم من إنسان يتمنى أن يكون مثل هذه المرأة! ألست تعلم أنه لو وزعت ثرواتها على مائة فرد لأصبحوا من كبار الأثرياء، بحيث يصل كل واحد منهم خمسون مليون ريال، فهو إذاً من كبار الأثرياء، فما بالك بامرأة تملك هذه الثروة؟ السؤال هو: هل هذه المرأة سعيدة؟ إليكم فصول قصتها العجيبة، وسيتبين لكم من خلالها A أما أمها فقد ماتت بعد حياة مأساوية، كان آخر فصولها الطلاق. وأما أخوها: فقد هلك بعدما سقطت به طائرته التي كان يلعب بها. وأما أبوها فقد اختلف مع زوجته الجديدة التي هي جاكلين كنيدي زوجة الرئيس الأمريكي السابق كنيدي، تلك الزوجة التي تزوجها بملايين الدولارات، يبحث عن الشهرة فقط، ليقال: إنه تزوج بزوجة الرئيس الأمريكي جون كنيدي من أشهر رؤساء أمريكا، ومات مقتولاً، ومع ذلك فقد عاش معها في شقاء دائم. تصور أن من بنود عقد الزواج ألا تنام معه في فراش، وألا يسيطر عليها، وأن ينفق عليها الملايين حسب رغبتها، ومع ذلك فقد اختلفت معه، وعندما مات اختلفت مع ابنته. يقول: (وخلاصة القول أن هذه الفتاة كانت قد تزوجت في حياة أبيها برجل أمريكي، وعاش معها شهوراً، ثم طلقها أو طلقته، وبعد وفاة أبيها تزوجت برجل آخر يوناني، وعاش معها شهوراً ثم طلقها أو طلقته، ثم انتظرت طويلاً تبحث عن السعادة، أتعلمون من تزوجت للمرة الثالثة أغنى امرأة في العالم على الإطلاق؟ أتعلمون من تزوجت؟ لقد تزوجت شيوعياً روسياً، يا للعجب! قمة الرأسمالية تلتقي مع قمة الشيوعية! وعندما سألها الناس والصحفيون بشكل خاص، عندما سألوها: أنت تمثلين الرأسمالية فكيف تتزوجين بشيوعي؟ عندها قالت: أبحث عن السعادة! نعم، لقد قالت: أبحث عن السعادة، وبعد الزواج ذهبت معه إلى روسيا، وبما أن النظام هناك لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمة، فقد جلست تخدم في بيتها، بل في غرفتيها، فجاءها الصحفيون وهم يتابعونها في كل مكان، فسألوها: كيف يكون هذا؟ قالت: أبحث عن السعادة، وعاشت معه سنة، ثم طلقها بل طلقته، ثم بعد ذلك أُقيمت حفلة في فرنسا، وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم، أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة! وآخر فصل من فصول المسرحية الحقيقية تزوجت برجل فرنسي، لاحظوا أنها تزوجت من أربع دول وليس من دولة واحدة لعلها تجرب حظها، تزوجت بغني فرنسي أحد رجال الصناعة، وبعد فترة يسيرة أنجبت بنتاً، ثم

طلب السعادة في الرياضة

طلب السعادة في الرياضة يقول: (هل السعادة في الشهرة، كالرياضة والفن؟ أقول: لا؛ لأن الشهرة شقاء لا سعادة، ولأن الشهرة لا حقيقة لها إن لم ترتبط بتقوى الله سبحانه وتعالى). يعني: الذي يتقي الله يهرب من الشهرة ويرفضها؛ لأنه يتقي الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، فلا يلتقي أبداً طلب رضا الله عز وجل وطلب جنة الله عز وجل وطلب الآخرة مع طلب الرفعة والشهرة والمنصب والجاه في الدنيا، فأهل الإيمان لا يعملون للشهرة. يقول: (والذي يتقي الله سبحانه وتعالى لا يريد الشهرة؛ لأن الشهرة إذا ارتبطت بغير سبب أصيل فإنها تزول سريعاً، وإذا زالت عن صاحبها عاش في شقاء وتعاسة، قد يتوهم كثير من الناس أن السعادة موجودة عند صنفين من الناس: هم أهل الرياضة، وأهل الفن). يعني: هؤلاء هم أصحاب الشهرة في هذه المجتمعات الهابطة والساقطة التي تمدح أهل الفن وأهل الرقص وأهل الموسيقى، وأهل الفسق وأهل المعاصي والإباحية، بينما يلاقي أهل الدين من الاضطهاد ومن الحرب ومن التضييق عليهم وغير ذلك، قرأت في إحدى الجرائد عن فريد شوقي أو غيره ممن ملأ الدنيا شراً وفساداً، أن الدولة تتكفّل بعلاجه في الخارج، مع أنه صاحب شركات وصاحب أموال، بينما لو كان هذا المريض من الدعاة إلى الله عز وجل أو من عامة المسلمين فإنه أهون عليهم من الهوان، ولكن القيامة خافضة رافعة، تخفض أقواماً وترفع آخرين، ترفع أهل الدين وأهل الصلاح، وتخفض أهل الفسق وأهل الفجور وأهل المعاصي: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212] فالعبرة بما سبق، من أن الله عز وجل يرفع أهل الإيمان وأهل التقوى، ويخفض أهل الفجور وأهل المعاصي. فيقول: (قد يتوهم كثير من الناس أن السعادة موجودة عند صنفين من الناس: هم أهل الرياضة، وأهل الفن. فأقول: أهل الرياضة: معظمهم يعيش الشقاء في أيامه ولياليه، فمن معسكر إلى معسكر، ومن سفر إلى سفر، فلا يكاد يستقر مع أهله إلا قليلاً، ويضطر أغلبهم إلى التفريط بمستقبلهم الدراسي وعدم مواصلته؛ بسبب انشغاله الكامل بالرياضة، أضف إلى ذلك اضطرابهم عند كل مباراة، وكآبتهم عند كل هزيمة، ثم إن الإصابات تتقاذفهم من كل جانب، كما أن الخوف من رأي الجماهير ونظرتها). يعني: أي إنسان يعلق قلبه بغير الله يحس بالشقاء، فهو قد يكسب الشهرة ثم يفقدها، وقد لا يجد الشهرة ويفقد مدح الناس وقد يذمونه فيظل في شقاء، أما المؤمن فإنه يطلب وجه ربه تعالى ولا يلتفت إلى الناس سواء مدحوه أو ذموه، سواء رضوا عنه أم غضبوا. يقول: (كما أن الخوف من رأي الجماهير ونظرتها عند أي هبوط في المستوى يجعلهم يعيشون شقاء متواصلاً، ثم ماذا بعد ذلك؟ إن الناس سرعان ما ينسونهم بعد الاعتزال فيزدادون ألماً وحزناً). إذاً: فليست السعادة عند أهل الرياضة، وإن ظن الكثيرون أنها عندهم.

طلب السعادة في الفن

طلب السعادة في الفن يقول: (أهل الفن: إن حياتهم أسوأ حياة يعيشها البشر؛ فشل أسري، مخدرات، انحلال، انعدام حياء، موت فضيلة، وأقصد بأهل الفن أهل الغناء والطرب، والتمثيل، ولا أقول هذا من عندي، بل هو من مذكراتهم التي تعج بها الصحف صباح مساء، خذوا على ما أقول ثلاث وقائع). يعني: قد يكونون معذورين، لأن أكثرهم ما وجدوا طريق السعادة الحقيقية وما ذاقوا طعم الإيمان. يحكي أحد من إخواننا في القاهرة، بينما كنا في درس في المسجد، فأرسلت لنا بورقة من خارج المسجد، وكانت الورقة من امرأة تشتغل بالرقص، فتقول: أنا أعمل راقصة، وأنا واقفة خارج المسجد بزي الرقص متبرجة، وأنا قلبي يتقطع من هذا الكلام الذي أسمعه، فمدوا إلي أيديكم، فالمهم أن بعض الأخوات أخذنها وأدخلنها المسجد وألبسنها الحجاب، ثم إن هذه المرأة أتت بستين راقصة وأدخلتهن في دائرة الإسلام وتحجبن، فهن كن في ضياع ولم يذقن حلاوة الإيمان، وكن يظنين أن في المال والشهرة والعبث واللعب توجد السعادة الحقيقية، فلما وجدت هذه المرأة حلاوة الإيمان أتت بالراقصات من الأرياف والقرى، فكان بفضل الله عز وجل أن من عليهن بإيمان عظيم. فهذا يدل على أنهن محرومات، وأنهن في شقاء في القلب؛ بسبب المعاصي، فالإنسان لو أطلق بصره مثلاً في امرأة متبرجة مثلاً يجد شقاء في قلبه، فكيف بالزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وهذه الأشياء؟ فإذا كانت نظرة أو كلمة قاتلة تنبت شقاء وظلمة في القلب، والمؤمن يحس بهذه المعصية إذا فعلها، فكيف بالكبائر؟! وكيف بالذي حياته كلها معاص، وهو بعيد جداً عن شرع الله وبعيد عن طريق الإيمان؟ فلا شك أن هؤلاء عندما يجدون السعادة الحقيقية يحسون أنهم كانوا في وهم وخيال، وأن الذي كانوا فيه لم يكن هو السعادة ولا الحياة الطيبة، فمن فيه خير منهم رجع إلى حظيرة الإيمان. يقول: (لا أقول هذا من عندي -يعني: أن أهل الفن أكثر الناس شقاء- بل هو من مذكراتهم التي تعج بها الصحف صباح مساء، خذوا على ما أقول ثلاث وقائع: الواقعة الأولى: أنور وجدي زوج الممثلة اليهودية ليلى مراد). يعني: نذكر هذه الأسماء وإن كان الأولى أن ننزه هذه الأماكن منها، ولكن ذكر في القرآن مثل قارون وهامان وأبي بن خلف وفرعون للعبرة والعظة. يقول: (هذه الزوجة قالت في مذكراتها عن زوجها أنور وجدي: إن زوجي كان ممثلاً بسيطاً، فقال: أتمنى أن أملك مليون جنيه حتى ولو أصبت بمرض، فقلت له: ما ينفعك المال إذا جاءك المرض؟ فقال: أنفق جزءاً من المال في علاج المرض، وأعيش ببقيته سعيداً، تقول: فملك أكثر من مليون جنيه، وابتلاه الله بسرطان في الكبد، فأنفق المليون جنيه وزيادة ولم يجد السعادة، حتى إنه كان لا يأكل إلا شيئاً يسيراً من الطعام). يعني: قد يكون عنده مال كثير جداً، ولكنه عنده من الأمراض ما لا يجد طعم الطعام. يقول: (فهو ممنوع من أكل كثير من الأطعمة، وأخيراً مات بهذا المرض حسيراً نادماً). لم يجد سعاة لا في الدنيا ولا في الآخرة، إن كان مات على عمل سيئ. يقول: (الواقعة الثانية: نيازي مصطفى، هو من كبار المخرجين، لكنه عاش حياته في شقاء وتعاسة، وعندما بلغ السبعين من عمره، وجدوه قد قتل في منزله، ووجدوا أنه في تلك الليلة التي مات فيها، قد أقام حفلة صاخبة، شاركه فيها أكثر من عشر فتيات، وفي الصباح وجدوه أثراً بعد عين، فقد وجدوه قتيلاً!). وكثير من هؤلاء يموت من كثرة شرب الخمر، فيحصل له تسمم من الخمر يموت بسوء خاتمه بسببه والعياذ بالله. يقول: (انظر إلى هذه الحياة، ذعر، وسكر، وخيانة، مات على هذه الحالة المأساوية، نعوذ بالله من سوء الخاتمة. الواقعة الثالثة: عبد الحليم حافظ الرجل الذي عاش حياته مريضاً وحيداً). وأنا كنت أتصور أن عبد الحليم حافظ هذا كان عمره بين العشرين والثلاثين سنة، ولكنه كان قد تجاوز الخمسين سنة، وما تزوج، وعاش حياة كما يعيش غيره من أهل الفن. يقول: (عبد الحليم حافظ الرجل الذي عاش حياته مريضاً وحيداً من غير زوجة ولا ولد، إلى أن اختطفه الموت، وأنهكه المرض بعد الخمسين بقليل في قمة الشقاء. فالسعادة إذاً ليست إلا بريقاً زائفاً تشع به أعينهم؛ لتوهم الآخرين بذلك، مع أنهم يعيشون في الواقع قمة الشقاء والتعاسة). إذاً: فليست السعادة لا في المال ولا في الشهرة.

طلب السعادة في الشهادات والمناصب

طلب السعادة في الشهادات والمناصب هل السعادة في الشهادات، وأنه يصبح للإنسان شهادة ودرجة عالية؟ يقول: (إذاً: أين السعادة؟ ربما كانت في نيل أعلى الشهادات، في أن يصبح الإنسان دكتوراً!). يعني: عندما كنا في الجامعة كان كثير من الطلاب غاية أمله أن يكون دكتوراً في الجامعة، هذا غاية ما يصبو إليه، ويواصل الليل بالنهار في المذاكرة والعمل من أجل هذه الغاية؛ لأنه يتصور أنه إذا صار دكتوراً في الجامعة سيكون من أعلى الناس منزلة ومن أسعد الناس. يقول: (ربما كانت في نيل أعلى الشهادات، في أن يصبح الإنسان دكتوراً، لكني أقول لكم بكل ثقة: لا، ولنقف قليلاً مع ما يبرهن على هذا بجلاء ووضوح، إليكم هذه القصة الحديثة التي نشرتها مجلة اليمامة: طبيبة تصرخ تقول: خذوا شهاداتي وأعطوني زوجاً! انظروا كيف تقول هذه الطبيبة، تصوروا دكتورة في الطب، وربما كانت في نظر كثير من الناس سعيدة جداً). ثم يقول: (إذاً: لعل أصحاب السعادة هم أصحاب المناصب العالية المرموقة من قادة ووزراء وغيرهم؟ غير أني أقول لكم: لا، أتدرون لماذا؟ لأن المسئولية هم في الدنيا، وإن لم يقم صاحبها بحقها فهي حسرة وندامة يوم القيامة. صاحب المنصب والسلطان لا يفارقه الهم خوفاً من زواله، تجده يشقى للمحافظة عليه، وإذا زال منصبه ولابد أن يزول عاش بقية عمره تعيساً، والمنصب قد يكون سبباً في هلاك صاحبه، ولذلك يعيش في خوف وقلق دائمين. وكفانا على ذلك قصة فرعون وهامان صاحبي المناصب العالية المرموقة اللذان خلد القرآن قصتيهما. أما في العصر الحاضر، فأسرد لكم أمثلة سريعة: المثال الأول: شاه إيران الرجل الذي أقام حفلاً ليعيد فيه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على قيام الدولة الفارسية، وأراد أن يبسط نفوذه على الخليج، ثم على العالم العربي بعد ذلك، ليلتقي مع اليهود، ذلك الرجل الذي كان يتغنى ويتقلب كالطاوس، كيف كانت نهايته؟ لقد تشرد، طرد، ولم يجد بلداً يأويه، حتى أمريكا التي كان أذل عميل لها). يعني: حتى أمريكا رفضت أن تستقبل هذا الشاه المجرم، واستقبلته مصر، وكانت تفتخر بأنها استقبلت شاه إيران المخلوع. يقول: (وظل على هذه الحال حتى مات شريداً طريداً في مصر، بعد أن أنهكه الهم، وفتك به السرطان. أما أولاده وأهله وحاشيته فقد أصبحوا أشتاتاً متفرقين في عدة قارات! المثال الثاني: رئيس الفلبين. هذا الرجل الطاغية ماذا حدث له؟ لقد قلبت نظري كثيراً في قصته، فوجدتها جديرة بأخذ العبرة منها، هذا الزعيم أذاقه الله غصص التعاسة والشقاء في الدنيا قبل الآخرة، فإذا به بين عشية وضحاها يتحول إلى شريد طريد يتنكر له أسياده وأصدقاؤه، ولا يملك الرجوع إلى بلد كان يرتع فيه كما يشاء، حتى إذا جاءت وفاته لم يستطع أن يحصل على أشبار قليلة في بلده يواري فيها سوأته، فسبحان مالك الملك! المثال الثالث: بوكاسا، وما أدراك ما بوكاسا! الذي صدر نفسه إمبراطوراً، وما زلنا نذكر صورته وأفعاله في أفريقيا الوسطى. يقول: (عندما زار فرنسا، قام عليه انقلاب، فتشرد في فرنسا حتى ضاقت به الأرض، فجاء إلى بلده باسم مستعار). يعني: أراد أن يدخل بلده فزيف جوازه ودخل باسم مستعار فكشف. قال: (فقبضوا عليه، وحوكم في بلده. ولا أعلم الآن أقتل أم لم يقتل؟ لكن المعلوم أنه أصيب بعدة أمراض: أهونها أمراض التعاسة والهم والغم، في البلد الذي نصب نفسه إمبراطوراً له. هذه بعض الأمثال السريعة، وما أكثر أمثال هؤلاء الذين ذكرت من السابقين واللاحقين، تجري فيهم سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير. إذاً: هذه السعادة الوهمية التي يتصور الناس أنها حقيقة السعادة، كثير من الناس يبدو لأول وهلة أنهم سعداء، وهم في الواقع يتجرعون غصص الشقاء والبؤس والحسرة. يصور هذا المعنى الشاعر حمد الحجي رحمه الله في قصيدة له فيقول: وما لقيت الأنام إلا رأوا مني ابتساماً ولا يدرون ما بي أظهر الانشراح للناس حتى يتمنوا أنهم في ثيابي ثم يقول: ولو دروا أنني شقي حزين ضاق في عينه فسيح الرحاب لتناءوا عني ولم ينظروني ثم زادوا نفورهم في اغتيابي فكأني آتي بأعظم جرم لو تبدت تعاستي للصحاب هكذا الناس يطلبون المنايا للذي بينهم جليل المصاب ومن أوضح الأمثلة على السعادة الوهمية ما تعيشه أوروبا، وبخاصة الدول الإسكندنافية، فهي أغنى الدول)، مثل السويد وغيرها من الدول. يقول: (فهي أغنى الدول، سواء على مستوى الدولة، أو على مستوى دخل الفرد، ومع ذلك فهي تمثل أعلى نسب انتحار. فدولة السويد مثلاً هي أغنى دولة من حيث دخل الفرد، ولكنها أعلى دولة في نسب الانتحار، بينما نجد الدول الإسلامية -مع أن أكثرها فقيرة- تسجل أقل نسبة من نسب الانتحار في العالم). يعني: يشكل الانتحار أعلى قمة الشقاء والعياذ بالله؛ لأنها ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يجد شيئاً من السعادة، فهو يظن أنه قد يجد شيئاً منها بالموت.

موانع السعادة

موانع السعادة يقول: (وهكذا نرى من خلال الواقع أن السعادة الحقيقية ليست في المال ولا في الشهرة، ولا في الشهادات، ولا في المناصب، وما أشبه ذلك من حطام الدنيا. إذاً: أين تكمن أسباب السعادة، وما صفات السعداء سعادة واقعية حقيقية؟ قبل الإجابة على هذا التساؤل، نمهد لذلك بذكر بعض موانع السعادة على وجه الاختصار). فيذكر من موانع السعادة: الكفر. يقول: كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] لا يمكن للكافر أن يصبح سعيداً، لا يمكن أن تجد كافراً سعيداً. ومن موانع السعادة أيضاً: المعاصي والآثام والجرائم). ومع أن الأدلة كثيرة على ذلك من الواقع ولكنه أورد أدلة هنا من كلام الكفار أنفسهم، من باب: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف:26]. يقول: (ولن أستشهد على هذا الأمر فهو واضح جلي، لكن أذكر قولاً من أقوال الكفار، لبيان هذه القضية. يقول ألكس كاريل: إن الإنسان لم يدرك بعد فداحة النتائج التي تترتب على الخطيئة، ونتائجها لا يمكن علاجها على وجه العموم). يعني: إذا عمل الإنسان خطيئة يجد نتيجة هذه الخطيئة. (ويقول سقراط -وهو كافر-: إن المجرم دائماً أشقى من ضحيته، وإن من يكون مجرماً ولم يعاقب على جرمه يكون من أشقى الناس). يعني: يصف من قتل أو فعل شيئاً من هذه الفواحش والمعاصي ولم يعاقب أنه يعيش شقياً بجريمته، فهذا شقاء في الدنيا ونكد معجل لهؤلاء: {ولَنُذِيقَنَهُم مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21]. يقول: (فهكذا يقول هذان الكافران، بينما نجد أن صحابياً أذنب، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله طهرني، وكررها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام عليه الحد)). ثم يذكر من موانع السعادة: الحسد والغيرة، والحقد والغل. ثم يقول: (فإن الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة إلى أبعد الحدود، يقول: فلنقف على مثالين معاصرين يصوران عقبى الظلم ومآل الظلمة، يقول: هما حمزة البسيوني وصلاح نصر، فقد كانا من جنود زعيمهما الهالك جمال عبد الناصر -لعنة الله على الظالمين-، يقول: صبا على الدعاة إلى الله من الظلم والعذاب ما تقشعر له الأبدان، ولكن: كيف كانت حياتهما؟ شر حياة. أما حمزة البسيوني فقد بلغ به التجبر والطغيان إلى حد أنه كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم حينما يستغيثون بالله يقول: أين إلهكم لأضعه في الحديد؟ وأما صلاح نصر فقد كان يعقد على زوجات الناس عقوداً وهمية، وهن في عصمة رجال آخرين ويتزوجهن، لكن كيف كانت نهاية أولئك الطغاة؟ يقول: حمزة البسيوني اصطدمت سيارته وهو خارج من القاهرة إلى الإسكندرية بشاحنة تحمل حديداً، فدخل الحديد في جسمه من أعلى رأسه إلى أحشائه، وعجز المنقذون أن يخرجوه إلا قطعاً. هكذا أهلكه الله بالحديد، وهو الذي كان يقول: إنه سيضع الله في الحديد، تعالى الله عما يقول الظالمون). وضع الله في جسمه الحديد وأهلكه بالحديد. يقول: (وأما صلاح نصر فقد أصيب بأكثر من عشرة أمراض مؤلمة مزمنة، عاش عدة سنوات من عمره في تعاسة، ولم يجد له الطب علاجاً، حتى مات سجيناً مزجوجاً به في زنزانات زعمائه الذين كان يخدمهم: (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته). ثم يذكر أيضاً من موانع السعادة: الخوف من غير الله عز وجل، والتشاؤم، وسوء الظن، والكبر، وتعلق القلب بغير الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة))، يعني: كل من علق قلبه بغير الله فهو في تعاسة وشقاء، سواء كان مالاً أو دنيا أو امرأة لابد من التعاسة والشقاء. ثم يذكر المخدرات في موانع السعادة فيقول: (إن كثيراً من الناس يتوهم أن السعادة تجتلب في معاقرة المخدرات والمسكرات، فيقبلون عليها قاصدين الهروب من هموم الدنيا ومشاغلها وأتراحها، وإذا بهم يجدون أنفسهم كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأن المخدرات في الحقيقة من الحوائل دون السعادة، وأنها تجلب الشقاء واليأس والانحلال والدمار؛ دمار الفرد والمجتمع والأمة، وإن لنا في الواقع الحاضر لخير شاهد على ذلك، فليعتبر أولو الألباب). ثم يختم الرسالة بذكر أسباب السعادة، فيبين أن أعظم سبب في السعادة هو الإيمان بالله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] أي: سعادة حقيقية في الدنيا، ثم ينتقل إلى سعادة الأبد في الآخرة، يقول تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَ

شرف الإيمان وثمرة شجرة الإيمان

شرف الإيمان وثمرة شجرة الإيمان أهل الإيمان هم أهل السعادة الحقيقية، وأهل الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة، ولشرف الإيمان عند الله عز وجل جعله شرطاً لانتفاع العبد بعمله الصالح، فمن فقد الإيمان لم ينتفع بعمل وإن قطع نهاره بالصيام وليله بالقيام.

فضل الإيمان وشرفه

فضل الإيمان وشرفه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، فاغتر الناس بظاهر الدنيا وزينتها، وظنوا أن السعيد من فاز في الدنيا بشهواتها، ومن وصل إلى جاهها وسلطانها، وهذا لا شك من الغفلة البليغة، ومن الجهل الشنيع بما أعده الله عز وجل للمؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين. فأهل الإيمان هم أهل السعادة الحقيقية، وأهل الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة، فقد شرف الله عز وجل الإيمان وأهله، فعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله). ومدح الله عز وجل المؤمنين بإيمانهم، فقال عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]. ومدح الله عز وجل الأبرار الذين توسلوا بالإيمان؛ لأنهم عرفوا شرف الإيمان، فقال عز وجل في خواتيم سورة آل عمران على لسانهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]. ولشرف الإيمان جعله الله عز وجل شرطاً لانتفاع العبد بعمله الصالح في الآخرة، فقال عز وجل: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، فاشترط الإيمان، فالعبد قد يصل رحمه، وقد يبر والديه، وقد يتصدق بصدقة، فإذا كان فاقداً لشرط الإيمان فإنه لا ينتفع بذلك في الآخرة، ولكن لو أسلم لعاد إليه ثواب هذه الأعمال بفضل الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير). ولو قام العبد قيام السارية في عبادة الله عز وجل ثم أشرك مع الله عز وجل غيره ثم مات وهو فاقد شرط الإيمان لحبط جميع عمله، ولو كان عمله هو خير الأعمال، ولو كان عمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وهذا من تقدير المحال، وهو جائز في لغة العرب، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، فهو من تقدير المحال، وإلا فالأنبياء معصومون من المعاصي فضلاً عن الشرك بالله عز وجل. ولشرف الإيمان لم يجعل الله عز وجل للشيطان سلطاناً على عباده المؤمنين، فقال عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100]. ولشرف الإيمان وعد الله عز وجل المؤمنين أجراً عظيماً، وبشرهم بالفضل الكبير، فقال عز وجل: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146]. وقال: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47]. ولشرف الإيمان -عباد الله- وعد الله عز وجل المؤمنين بالحياة الطيبة، فقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. ولشرف الإيمان مثَّل الله عز وجل لكلمة الإيمان -وهي كلمة لا إله إلا الله- بالشجرة الطيبة، فقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25]. فالشجرة الطيبة شجرة الإيمان، فلا يزال المؤمن يجني من ثمراتها اليانعة ويتمتع بحلاوة ثمرتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً). وقال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الم

ثمار الإيمان

ثمار الإيمان من ثمرات الشجرة الطيبة أن الله عز وجل يدافع عن أهلها كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. وكما في الحديث القدسي الشريف: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). ومن ثمرات الإيمان محبة الرحمن عز وجل للمؤمن، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، أي مودة ومحبة، فيحبهم الله عز وجل ويحببهم إلى عباده، كما قال هرم بن حيان: إذا أقبل العبد بقلبه على الله عز وجل أقبل الله عز وجل عليه بقلوب أوليائه حتى يرزقهم مودته، حتى إن الرجل يمر بالقوم فيقولون: إنا لنحب هذا، فيقال لهم: هل رأيتم منه شيئاً؟ فيقولون: لا، إلا أننا نحبه، والرجل يمر بالقوم فيقولون: إنا لنبغض هذا، فيقال لهم: هل رأيتم منه شيئاً؟ فيقولون: لا، إلا أننا نبغضه. فالذي يحبونه هو الذي بينه وبين الله عز وجل معاملة حتى وصل إلى محبته عز وجل، كما ورد في الحديث: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض). فالله عز وجل إذا أحب عبداً رزق الناس مودته ومحبته. ولذلك كان الإمام أحمد يقول: بيننا وبينهم -أي: أهل البدع- أيام الجنائز، فيظهر في أيام الجنائز من الذي رزق محبة الناس. وقيل لـ أبي بكر بن عياش: إن أناساً يجلسون في المسجد ويجلس إليهم، فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم. فالله عز وجل يرفع أهل السنة، وأهل الإيمان والعمل الصالح في قلوب الناس، ويرزق الناس مودتهم، كما ورد في صحيح مسلم: (قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل يريد به وجه الله فيحبه الناس - وفي رواية: فيثني عليه الناس - فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن). فالمؤمن يرجو وجه ربه الأعلى، ولكن الله تعالى يرزق الناس مودته، ويجري الثناء عليه على ألسنتهم. ومن ثمرات الشجرة الطيبة كذلك: استغفار الملائكة، كما قال عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]. ومن ثمرات الإيمان كذلك: أن أهل الإيمان يلجئون إلى الإيمان إذا خوفوا بغير الله، وإذا وفقوا لطاعة الله، وإذا وقعوا في معصية الله، فإنهم دائماً يعتصمون بالإيمان، ويلجئون إليه، كما قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. وقال عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. فإذا خوفوا بغير الله لجئوا إلى الله عز وجل، وازدادوا إيماناً بالله عز وجل وتسليماً لله عز وجل. وإذا وقعوا في معصية لجئوا إلى الإيمان، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. وكذلك إذا وفقوا إلى طاعة الله عز وجل فإنهم يرون أن الله عز وجل هو الذي وفقهم لهذه الطاعة، فهم فيشكرون الله عز وجل. ومن ثمرات شجرة الإيمان كذلك: (أن أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، فالمؤمن دائماً في ربح وزيادة، وفي فضل ونعمة من الله عز وجل، فهو إذا كان في سراء فهو يشكر الله عز وجل فيزداد أجره وترتفع درجته، وإذا كان في بلاء فهو صابر محتسب راض بقضاء الله عز وجل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). ومن ثمرات الإيمان كذلك البشرى في الدنيا والآخرة، كما قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62 - 64]، فالله عز وجل بشر المؤمنين

شكر نعمة الله

شكر نعمة الله نعم الله عز وجل على عباده عظيمة وكثيرة، فمن شكرها أدامها الله عليه، ومن جحدها ولم يشكرها حرمها، والقرآن الكريم مليء بقصص أولئك الذين أنعم الله عليهم فلم يؤدوا حق النعم، فسلبهم الله عز وجل إياها، بل وأهلكهم. فحري بالمؤمن أن يشكر الله عز وجل على كل نعمة أنعم بها عليه، وأعظم نعمة هي نعمة الإيمان وكفى بها نعمة.

قصة صاحب الجنتين وعدم شكره نعمة الله عز وجل عليه

قصة صاحب الجنتين وعدم شكره نعمة الله عز وجل عليه الحمد لله الذي رضي من من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، لقد ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. عباد الله إن القصص القرآني قصص حق وقع في تاريخ البشرية، وسجله الله عز وجل لنا بأسلوب القرآن المعجز، من أجل أن يرتفع بأحوالنا الإيمانية، ومن أجل أن يغرس المعاني الصحيحة في قلوبنا، ومن أجل أن تتهيأ هذه الأمة لمكانة الصدارة بين الأمم. فهذه قصة من كتاب الله تعالى تبين لنا القيم الباقية، والقيم الزائفة، وتبين لنا أن الناس صنفان: صنف يعلم بأنه عبد لله عز وجل، فمهما أمره الله عز وجل امتثل لأمره، ومهما نهاه الله عز وجل انتهى عما نهى الله عز وجل عنه، وإذا أعطاه الله عز وجل نعمة فإنه يشكر هذه النعمة ويعترف بها لله عز وجل، وإذا ابتلاه الله عز وجل يصبر. والصنف الثاني: لا يعرف أنه عبد لله، بل هو عبد هواه، فإذا أمره الله عز وجل لا يأتمر، وإذا نهاه الله عز وجل لا ينزجر، وإذا أعطاه الله عز وجل نعمة فإنه يفرح بها ويستعملها في غير طاعة الله عز وجل، ويطغى أن رأى نفسه استغنى، وإذا ابتلاه الله عز وجل فإنه يجزع ويكفر ولا يصبر. قال عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:32 - 44]. فهذه قصة الذي أعطاه الله عز وجل من النعم فأطغته هذه النعم، كما قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، والإنسان كما قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، فطبيعة الإنسان -إلا من ر

مكانة أهل الأموال والجاه والسلطان المغرورين عند الله عز وجل

مكانة أهل الأموال والجاه والسلطان المغرورين عند الله عز وجل قال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]. {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]. يخبر الله عز وجل الذين يملكون من أعراض الدنيا وسلطانها وأموالها واغتروا بذلك، وظنوا أن الله عز وجل يسارع لهم في الخيرات، يخبرهم أن هذا ظن فاسد منهم، وأنهم أصحاب بصائر مطموسة، فهم يظنون أن لهم كرامة وأن لهم شرفاً، مع أنهم يكفرون بالآخرة، ومع أنهم لا يسعون للآخرة سعيها، {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37]، فكيف يكون كريماً على الله وهو يكفر بالله عز وجل؟ وكيف يكرمه الله عز وجل وهو كافر بالله عز وجل؟ قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، أي: جعل الله عز وجل الفقراء فتنة للأغنياء كما جعل الأغنيا فتنة للفقراء، فلما رأى الأغنياء الفقراء يسارعون إلى الإيمان بالله عز وجل وإلى طاعة الله عز وجل قالوا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، أي: لو كان هذا الدين خيراً لكنا نحن أولى به؛ لأننا أولى بكل خير. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، كيف تنزل الرسالة على رجل فقير يتيم وهو نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي نزل عليه القرآن وكان يتيماً في الصغر، وكان فقيراً، فلو كان هذا الدين خيراً لنزل على الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف، فقال عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، فالله عز وجل أعلم بمن يشكر نعمته ويقدرها، والدنيا يعطيها الله عز وجل من يحب ومن لا يحب، كما قال عز وجل: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، فالله عز وجل لحقارة الدنيا عنده يعطيها من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين والإيمان إلا لمن أحبه، (فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). وقال الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35] أي: لولا أن تكون الفتنة شديدة على أهل الإيمان لجعل الله عز وجل لمن يكفر به أبراجاً وسلالم عليها يتكئون؛ لحقارة الدنيا عند الله عز وجل، (فلو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35] أي: كل ذلك من المتاع الزائف الزائل. ثم جعل الله عز وجل الآخرة للمتقين فقال: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]. فهذا الرجل يعلن كفره بالله وبالآخرة وبالقيامة، ويستبعد أن تزول جنة الدنيا، ثم يعتقد أنه لو كانت هناك قيامة فإنه سوف يكون أيضاً له مال وله جاه وشرف وله أتباع، وهذا يظنه كثير من الأغنياء وإن لم يصرحوا بألسنتهم، ولكنهم يعتقدون بقلوبهم أن لهم شرفاً ورفعة في الآخرة. وهذا عكس الواقع عباد الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم، يقال له: بلس، تعلوه نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار -طينة الخبال-، يطؤهم الناس بأقدامهم)، فالرؤساء والأمراء والوزراء والذين كانت لهم صولة وجولة في الدنيا إذا كانوا من أهل الكبر تجدهم يوم القيامة يخلقهم الله عز وجل في حجم الذر -وهي صغار النمل- في صور الرجال؛ عقوبة لهم على تكبرهم وعلى تعاليهم على عباد الله عز وجل، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بلس، تعلوه نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار -طينة الخبال-، يطؤهم الناس بأقدامهم. فالقيامة -عباد الله- خافضة رافعة، تخفض أهل الكفر والعصيان، وترفع أهل الإيمان، {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ

موقف المؤمن ومحاورته لصاحب الجنتين الكافر

موقف المؤمن ومحاورته لصاحب الجنتين الكافر قال الرجل الكافر: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:36 - 37]، رده إلى أصله، وكيف أن أصل آدم من تراب، وأن أصل الإنسان التراب، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الكهف:37] ثم نسبه إلى أصله القريب، وأنه كان نطفة كان ماءً مهيناً تستقذره النفوس وتأنف منه، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:1 - 2]. فلو تفكر الإنسان في أصله لما تكبر على الله عز وجل ولما تعالى على عباد الله عز وجل، فرده الرجل المؤمن إلى أصله، فقال: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:37 - 38] أي: أنا لا أقول بمثل مقالتك، بل أعلن إيماني بالله عز وجل، {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:38]. ثم نبهه على الواجب عليه فقال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، هذا هو الواجب على العبد إذا أعجبه شيء، وكما ورد في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأى العبد المسلم شيئاً يعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره)؛ لأن العبد قد يحسد نفسه وقد يحسد ماله وقد يحسد أولاده، فلولا إذ دخل جنته أو دخل مصنعه أو دخل بيته قال: ما شاء الله، وكان بعض السلف يكتب على بيته ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما ورد عن وهب بن منبه أنه كان يكتب على بيته: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، يذكر نفسه بالشكر لله عز وجل على نعمه، فلولا إذ كتب على مصنعه أو كتب على مزرعته: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فنبهه هذا العابد المؤمن إلى ذلك فقال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]. فينبغي للعبد أن ينظر إلى من دونه في الدنيا فيعرف نعمة الله عز وجل عليه، ويشكر نعمة الله عز وجل عليه، وينظر إلى من هو أعلى منه في الدين وهو أكثر منه علماً وإيماناً وطاعة لله عز وجل، فيجتهد في طاعة الله عز وجل، ولا يستكثر عمله على الله عز وجل ولا يعجب بعمله، فقال: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39] قال: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:40 - 41]. والمؤمن عنده بصيرة فكأنه ينظر فيرى الآخرة، قال: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف:40] فلولا تفكر الذي رزقه الله عز وجل مالاً وبخل بهذا المال وحرم منه الفقراء، لو تفكر أن هذا المال هو مال الله عز وجل، وأنه مستخلف في هذا المال، وأن الواجب عليه أن ينفقه في أوجه الخير، وأن يخرج صدقته الواجبة كما في قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأقرع، والأبرص، والأعمى الذين أرسل الله عز وجل إليهم ملكاً (فأتى الأعمى فقال له: أي شيء تريد؟ فقال: أن يرد الله إلي بصري، فمسح عينيه فرد الله عز وجل إليه بصره، فقال: أي المال أحب إليك قال: البقر، فأعطي بقرة ولوداً فصار عنده واد من البقر. ثم أتى كذلك الأقرع فقال: أي شيء تريد؟ فقال: أن يرزقني الله عز وجل شعراً جميلاً ويذهب هذا الذي قذرني به الناس، فمسح على رأسه ورزقه الله عز وجل شعراً جميلاً، ثم قال: أي المال أحب إليك قال: الإبل، فأعطاه ناقة ولوداً فصار عنده واد من الإبل. ثم أتى الأبرص فقال: أي شيء تريد؟ فقال: أن يذهب عني هذا المرض، فمسح على جلده فأذهب الله عز وجل عنه المرض، وقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة ولوداً فصار عنده واد من الغنم. ثم أتى الأعمى في صورة رجل أعمى فقير يطلب منه أن يعينه بشيء، وأن يعطيه بقرة يتبلغ بها في سيره، فأخبره أن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني بك رجل أعمى قد رد الله عز وجل إليك بصرك، وكأني بك رجل فقير قد أغناك الله عز وجل، فقال: لقد ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، فعاد رجلاً فقيراً أعمى كما كان في المرة الأولى. ثم ذهب إلى الأقرع الذي عنده واد من الإبل فطلب

مصير من يجحد نعمة الله عليه ولا يشكرها

مصير من يجحد نعمة الله عليه ولا يشكرها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. قال الله عز وجل: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:39 - 42]، فمن لم يعتبر بغيره -عباد الله- صار عبرة لغيره، وهذا ما حدث من قارون الذي كان له من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، واغتر بثروته وماله وركن إليه، فأهلكه الله عز وجل هو وماله وخزائنه وقصره، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]. كذلك الذين تمالئوا واجتمعوا على أن يخرجوا في الصباح الباكر من أجل أن يجمعوا ثمار حديقتهم قبل أن يستيقظ الفقراء من نومهم؛ حتى لا يأخذ الفقراء حقهم، {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19 - 20]، فصارت فحمة، {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:21 - 22]، فخرجوا في الصباح الباكر، فإذا هي فحم محترق عباد الله، فحرموا من جنة الدنيا؛ لأنهم لم يشكروا نعمة الله عز وجل عليهم، فكل من كفر بنعمة الله عز وجل عليه ولم يؤد واجب الله عز وجل عليه فهو مهدد بزوال ماله في الدنيا، بالإضافة إلى عقوبة الآخرة. فأخبر عز وجل في قصة صاحب الجنتين أنه قد تحقق ما توقعه الرجل المؤمن عندما قال: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:40 - 42]، عند ذلك تذكر نصيحة المؤمن له، وكيف أنه قابل نعمة الله عز وجل بالكفر، بدلاً من أن يشكر الله عز وجل، فندم على أنه كفر بالله عز وجل وأشرك مع الله عز وجل غيره. {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] أي: أحيط بجميع ثمره فلم يبق منه شيء، وأصبح يقلب كفيه كما يفعل المتندم والمتحسر إذا فاته شيء، {عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الكهف:42 - 43]، أي: ما كان معه من الأتباع والأنصار الذين يساعدونه على تمرده وكفره وعتوه واستكباره لم يستطيعوا نصرته، فإذا أتى بأس الله عز وجل وعذابه فلا يستطيع أحد من البشر أن يرده؛ لأنهم أقل من ذلك حيلة، فليس للبشر حيلة ولا وسيلة إذا نزل بأس الله عز وجل وعذاب الله عز وجل، فما كان لهذا الرجل فئة تنصره وتدفع عنه عذاب الله ونقمته، وما كان في نفسه منتصراً. جاء تفسير هذه الآية على أحد تفسيرين: الأول: أن جميع الناس عند نزول العقوبة يتولى الله عز وجل، فالمؤمن يتولى الله عز وجل في الرخاء وفي البأس وفي الشدة، أما الكافر والفاجر فإنه يتولى الله عز وجل إذا نزل به بأس الله، فكيف تنفعه هذه الموالاة، كما قال فرعون عندما عاين الغرق: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92]. فالجميع يؤمن بالله عز وجل ويتولى الله عز وجل بعد نزول العقوبة، ولكن العبرة أن تعرف الله عز وجل وأنت في الرخاء والنعمة، قبل أن ينزل بك بأس الله عز وجل، فهذا التفسير الأول وهو بفتح الواو في قول الله عز وجل: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44]: أي: الكل يتولى الله عز وجل بعد نزول البأس والعقوبة. وال

غض البصر ونعمة الوقت

غض البصر ونعمة الوقت الوقت نعمة من الله عز وجل على عباده، مغبون فيه كثير من الناس، أقسم الله به في كتابه لعظيم خطره، فمن فاتته طاعة الله عز وجل في وقت من أوقاته تحسر على الوقت الذي ضيعه يوم القيامة، فيا فوز من قضى أوقاته في طاعة الله، ويا خسران من أضاع أوقاته في معصية الله.

أهمية الانتفاع بالوقت وخطر تضييعه

أهمية الانتفاع بالوقت وخطر تضييعه الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قُضي وقُدِّر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان. فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. إني أريد أن أنبه لأمرين: الأمر الأول: نعمة الوقت والعمر، كيف تنفق الأوقات وعلى المقاهي؟ وكيف تنفق الأوقات على نواصي السكك؟ يتمتعون برؤية الغاديات والرائحات، بل كيف تنفق الأوقات أمام العجل الفضي، وأمام الشاشة الفضية شاشة التلفاز والفيديو واستقبال البث المباشر؟ والأمر الثاني: خاص بفصل الصيف كذلك وهي نصيحة بغض البصر، فكم تكشف في الصيف من عورات وكم تنتهك من حرمات. أما الوصية الأولى عباد الله! التي أنصح نفسي وإياكم بها: أن نعلم خطر الوقت وخطر العمر، وأن نعلم أن عمر العبد خطاه إلى قبره. يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل

تفضل الله عز وجل علينا بالعمر والوقت

تفضل الله عز وجل علينا بالعمر والوقت يعرف الناس نعمة الطعام والشراب والملابس والزينة والمراكب والمنازل، فهل علموا أن نعمة الوقت أعظم من هذه النعم بأسرها؟ فقد من الله عز وجل علينا بنعمة العمر، وبنعمة الأوقات واللحظات، وبنعمة الليل والنهار، فقال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:33 - 34]، فكما سخر لنا الدواب سخر لنا الليل والنهار، من أجل أن نسابق في الأوقات بالطاعات، ومن أجل أن نعمر ساعات الليل والنهار بطاعة العزيز الغفار. وقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]. قال بعض السلف: من فاته طاعة الله عز وجل بالليل كان له من النهار مستعتب، ومن فاته طاعة الله عز وجل بالنهار كان له من الليل مستعتب.

الأدلة من الكتاب على أهمية الوقت

الأدلة من الكتاب على أهمية الوقت أقسم الله عز وجل بالفجر وليال عشر والشفع والوتر، وأقسم الله عز وجل بالضحى والليل إذا سجى، وأقسم الله عز وجل بالعصر، وأقسم الله عز وجل بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، وكل هذا قسم بالزمن، والله عز وجل رب كل شيء وخالقه، يقسم بما يشاء من خلقه؛ من أجل أن يلفت أنظارنا إلى خطر المقسوم به، أما العبد فإذا أراد أن يقسم فلا يجوز له أن يقسم إلا بالله عز وجل: (ومن حلف بغير الله فقد أشرك) فمن كان حالفاً فليحلف بالله عز وجل. أقسم الله عز وجل بالفجر، فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:1 - 4] وقالوا: الفجر هنا: هو فجر يوم النحر، أعظم فجر في السنة إشراقاً. والليالي العشر هي الأيام العشر الأول من ذي الحجة، والشفع قيل: هو يوم النحر. أي: العاشر من ذي الحجة، والوتر هو يوم عرفة، وأقسم بالليل فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4]. كما أقسم الله عز وجل بالضحى والليل إذا سجى، فقال عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]. كما أقسم الله عز وجل بالعصر، فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. وقال عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:1 - 3].

الأدلة من السنة المطهرة على أهمية الوقت

الأدلة من السنة المطهرة على أهمية الوقت دلت السنة المشرفة على ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات من خطر العمر وخطر الوقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به). فيسأل العبد سؤالين: سؤال عن العمر عامة، وسؤال عن وقت القوة والفتوة والحركة والنشاط وهو وقت الشباب، فيسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) فأكثر الناس لا يعرف قدر هاتين النعمتين، بل إن أكثر الناس يضيع صحته في غير طاعة الله عز وجل، وفي غير ما يقربه إليه سبحانه، كما أن أكثر الناس يضيع وقت الفراغ في غير طاعة الله عز وجل، فكم من أوقات تنفق في المباحات، بل كم من أوقات تنفق في المعاصي، ويبارز بها رب الأرض والسماوات. وكما يقولون: إضاعة الوقت من علامة المقت، أي: من علامة مقت الله عز وجل للعبد أن يضيع العبد أوقاته. يقولون: لنقتل الوقت. هل الوقت عدو حتى تقتله؟! الوقت نعمة من أعظم نعم الله عز وجل علينا، فمن عرف هذه النعمة واستعملها في طاعة الله عز وجل أدرك جنة الله عز وجل، ونال رحمته. قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) والمغبون: من باع شيئاً بأقل من ثمنه، أو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه، فهو مغبون؛ لأنه أضاع حظه، وأكثر الناس مغبون في شيئين: في الصحة والفراغ، ومن أسماء يوم القيامة يوم التغابن؛ لكثرة المغبونين فيه، ولم يكن هذا الغبن يوم القيامة، وإنما كان الغبن في الدنيا.

تضييع كثير من الناس لأوقاتهم وقلة من يوفق للانتفاع بها

تضييع كثير من الناس لأوقاتهم وقلة من يوفق للانتفاع بها أكثر الناس يضيعون أعمارهم في غير طاعة الله عز وجل، وفي غير ما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة، ومن علامة خذلان الله عز وجل للعبد: أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، ومن حسن إسلام المرء شغله فيما يعنيه، أي: فيما يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة. فأكثر الناس يبيعون أعمارهم وأوقاتهم وأنفسهم بثمن بخس دراهم معدودة وهم فيها من الزاهدين، إما في تحصيل العرض الزائل وهو عرض الدنيا، وإما في إنفاق الأنفاس في طلب المال، ولا يأتيه إلا ما قدر له منه، أو ينفق عمره في المعاصي، أو في المباحات، ولا يتقرب بذلك إلى رب الأرض والسماوات. وقليل من الناس الموفق الذي يعرف قيمة الوقت وقيمة العمر، وينفق ذلك في طاعة الله عز وجل، ومن بذل عمره في غير طاعة الله عز وجل تقول له الملائكة يوم القيامة: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر:75 - 76]. والذي ينفق وقته في طاعة الله عز وجل تقول له الملائكة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]. {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]. {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. من يضيع عمره في غير طاعة الله عز وجل يندم حين لا ينفع الندم، فإن من عجائب الأمور إفاقة المحتضر، فإنه يفيق عند احتضاره إفاقة عجيبة، ويتذكر كل ما مضى من جناياته ومخالفاته، ويكاد أن يموت حسرة على نفسه قبل أن تخرج روحه؛ لأنه لم يغتنم وقته في طاعة الله، وإنما ضيع وقته في معصية الله عز وجل، يفيق إفاقة عجيبة عند احتضاره، ويتمنى لو أنه أجل ساعة واحدة، فيقول لملك الموت: يا ملك الموت! أخرني شهراً، فيقول: فنيت الشهور فلا شهر. فيقول: يا ملك الموت! أخرني يوماً، فيقول: فنيت الأيام فلا يوم. فيقول: يا ملك الموت! أخرني ساعة، فيقول: فنيت الساعات فلا ساعة، ثم تخرج روحه، قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]. فيطلبون الكرة -أي: الرجعة- عند معاينة ملك الموت، وعند معاينة أمور الآخرة، كما يطلبون الرجعة إلى الدنيا إذا وقفوا على النار وعرضوا عليها، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]. ويطلبون الرجعة كذلك إذا عرضوا على الملك الجبار، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]. ويطلبون الرجعة وهم بين طبقات النيران، قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]. يذكرهم الله عز وجل عند ذلك بنعمة العمر وهم يصرخون بين طبقات النيران، فهم لم يعرفوا قدر عمرهم، ولم يعرفوا قدر زمانهم، ولم يعرفوا قدر اللحظات والساعات والأيام التي عاشوها في الدنيا، عاش خمسين سنة أو مائة سنة ولكنه لم يقف مع نفسه وقفة صادقة، ولم يحاسب نفسه لله عز وجل، ولم يستقم على طريق الله عز وجل ولم يصدق ربه عز وجل، ولم يبذل عمره في طاعته فهم يصرخون بين طبقات النيران، ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]. أين الأوقات التي كانت أمام الشبكة العنكبوتية في المواقع الإباحية؟ أين الأوقات التي أنفقت أمام استقبال البث المباشر؟ أين الأوقات التي بذلت أمام لوحة النرد أو الشطرنج؟ أين الأوقات التي بذلت في معصية الله عز وجل؟ بل أين الأوقات التي أنفقت في الصد عن سبيل الله وفي تزيين الشهوات والشبهات؟ قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] والنذير: قيل: هو الشيب، وقيل: هو الموت، وقيل: هو من يذكر بالله عز وجل ومن يدعو بدعوة الرسل، قال تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}

الأمور التي يتبين بها خطورة الوقت وأهميته

الأمور التي يتبين بها خطورة الوقت وأهميته وإنما تكمن قيمة الزمن وقيمة العمر في ثلاثة أشياء عباد الله: الأمر الأول: أن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة ثمينة، تستطيع أن تشتري بها كنزاً لا يفنى أبد الآباد، فكل يوم تعيشه هو غنيمة، بل كل لحظة من لحظات عمرك هي غنيمة؛ لأنك لو تاجرت بها مع الله عز وجل لربحت أعظم الأرباح. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بني له قصر في الجنة). وقال: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب). وقال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة) فانظر إلى مضيعي الساعات كم يفوتهم من النخيل. الأمر الثاني: أن الأوقات التي قدرها الله عز وجل لنا مغيبة عنا، وأن عدد الأنفاس التي قدرها الله عز وجل لنا مغيبةٌ عنا، فالعبد قد يملك مالاً بالمليارات، فإذا أنفق بالآلاف أو بالملايين فهو يعلم أن هذا لا يؤثر كثيراً في رأس المال، فإذا كان العبد لا يعلم رأس المال فكل وقت ينفقه في غير طاعة الكبير المتعال نوع من المخاطرة. قال الحسن البصري: المبادرة المبادرة -أي: بادروا بطاعة الله عز وجل وبالأعمال الصالحة- فإنما هي أنفاس، لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل، رحم الله امرأً نظر في نفسه ثم بكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] يعني: الأنفاس، فإن آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراقك أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك، أي: أن الله عز وجل قدر لنا عدداً وحدد لنا أنفاساً، فمهما تنفس العبد نفساً سجل عليه حتى يصل إلى آخر العدد، فلكل عبد منا عد تنازلي، ولا يدري متى يكون آخر العدد، ولا يدري متى ينتقل العبد من دار العمل ولا حساب إلا دار الحساب ولا عمل، فبعد أن كان يتحرك على ظهر الأرض بطاعة الله عز وجل أو بمعصية الله صار محبوساً في باطن الأرض في برزخ إلى يوم يبعثون. الأمر الثالث: أن آخر نفس تتنفسه وآخر عمل تعمله تتعلق به العاقبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) أي: مهما كانت الأعمال موافقة لشرع النبي عليه الصلاة والسلام فإنها لا تكون مقبولة، ولن ينتفع العبد بها في الآخرة حتى تتوفر النيات الصالحة. كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) أي: مهما كان عمل العبد، فمن ختم له بعمل من أعمال أهل الجنة دخل الجنة، ومن ختم له بعمل من أعمال أهل النار دخل النار، ألا تخشى أن النفس الذي تتنفسه في غير طاعة الله عز وجل يكون آخر الأنفاس وتتعلق به العاقبة؟ ما أصعب العمى بعد البصيرة، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى، كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها: عاملة ناصبة، كم من قارب مركبه ساحل النجاة، فلما هم أن يرتقي لعب به موج فغرق، فكل العباد تحت هذا الخطر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) فالأعمال بالخواتيم. وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن الرجل ليعمل زماناً بعمل أهل الجنة وهو من أهل النار.

أحوال السلف الصالح وانتفاعهم بأوقاتهم

أحوال السلف الصالح وانتفاعهم بأوقاتهم كان السلف رضي الله عنهم أحرص الناس على أوقاتهم، وكانوا يبخلون بالوقت والنفس أن ينفق في غير طاعة الله عز وجل أكثر مما يبخل البخيل في إنفاق ماله. قيل لأحدهم: قف أكلمك. قال: أوقف الشمس. وكان أحد العلماء إذا ذهب عنده أناس وجلسوا وأطالوا الجلوس يقول: أما تريدون أن تقوموا؟ إن ملك الشمس يجرها لا يفتر، فقد كانوا يعدون خصال الخير ويبكون على أنفسهم إن فاتهم شيء منها. دخلوا على عابد مريض فنظر إلى قدميه وبكى وقال: ما اغبرتا فيّ سبيل الله. وقال بعضهم: أعد ثلاثين خصلة من خصال الخير ليس فيّ شيء منها. ملئوا الحياة طاعة وعبادة لله عز وجل، وتمنوا لو أنهم استمروا على العبادة بعد الموت، فكان ثابت البناني يقول: يا رب! إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي. ودخلوا على الجنيد وهو في النزع وكان يصلي، فقالوا له: الآن؟ قال: الآن تطوى صحيفتي. ودخلوا على أبي بكر النهشلي وهو في النزع وكان صائماً، فقالوا له: اشرب قليلاً من الماء، قال: حتى تغرب الشمس. وبكى أحد السلف عند موته فسئل عن سبب بكائه؟ فقال: أبكي لأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم، فهو يبكي لأنه يفارق الدنيا فيصوم الصائمون وليس هو فيهم، ويصلي المصلون وليس هو فيهم، ونحن في الدنيا يا عباد الله! يصوم الصائمون ولسنا فيهم، ويصلي المصلون ولسنا فيهم، ولا نبكي على أنفسنا! كان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد! من يبكي بعدك لك؟ من يترضى ربك عنك؟ بكى أحد السلف عند موته، فسئل عن سبب بكائه؟ فقال: إنما يتقبل الله من المتقين. ولما نزل الموت بـ محمد بن المنكدر بكى بكاءً شديداً، فأحضروا له أبا حازم من أجل أن يخفف عنه، فسأله أبو حازم عن سبب بكائه؟ فقال: سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فأخاف أن يبدو لي من الله عز وجل ما لم أكن أحتسب، فأخذ أبو حازم يبكي معه، فقالوا: أتينا بك من أجل أن تخفف عنه فزدت في بكائه. قرئ على الإمام أحمد وهو في مرض الوفاة: أن طاوساً كان يكره الأنين، فما أنَّ حتى مات. أين وصفك من هذه الأوصاف؟ أين شجرة الزيتون من شجر الصفصاف لقد قام القوم وقعدنا، وجدوا في العمل وهزلنا، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم. لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد يا ديار الأحباب! أين السكان؟ يا منازل العارفين! أين القطان؟ يا أطلال على الوجد أين البنيان؟ أماكن تعبدهم باكية، ومواطن خلواتهم لفقدهم شاكية، زال التعب وبقي الأجر، ذهب ليل النصب وطلع الفجر. إن كنت تنوح يا حمام باني للبين فأين شاهد الأحزان أجفانك للدموع أم أجفاني لا يغبن مدع بلا برهان وإنما ينطبق علينا عباد الله! قول القائل: يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد! يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد! إلى متى تدفع التقوى عن قلبك؟ وهل ينفع الطرق في حديد بارد؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

غض البصر ومنافعه في الدنيا والآخرة

غض البصر ومنافعه في الدنيا والآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! النصيحة الثانية هي غض البصر؛ لكثرة العورات المكشوفات في هذا الوقت، فالواجب على المسلم أن يلجأ إلى الله عز وجل، وأن يستعين به، كما استعان يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالله على النساء لما كثر عليه الكيد منهن، وقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33 - 34]. فعلى المؤمن عباد الله! أن يلجأ إلى العبادات التي شرعها الله عز وجل من أجل أن تزكو نفسه في الدنيا، ومن أجل أن يسعد بمجاورة الله عز وجل في الآخرة.

الأمر للمؤمنين بغض البصر

الأمر للمؤمنين بغض البصر قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]. وقوله عز وجل: {يَغُضُّوا} [النور:30] فعل مضارع لم يسبقه ناصب ولا جازم، ولكن حذفت النون بسبب أداة شرط مقدرة، وهي: إن قلت للمؤمنين: غضوا يغضوا؛ لأن هذا مقتضى الإيمان أن المؤمن يمتثل أمر الله عز وجل. أما غير المؤمنين فإنهم يستمرون في إطلاق البصر؛ لأنه ليس في قلوبهم من الإيمان ما يدفعهم إلى طاعة الرحمن، وإن وجد إيمان فإيمان ضعيف لا يحجب صاحبه عن معصية الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) أي: عنده إيمان ضعيف لا يحجزه عن معصية الله عز وجل. فأمر الله عز وجل بغض البصر، وقرن الله عز وجل غض البصر بحفظ الفرج؛ لأن غض البصر وسيلة إلى حفظ الفرج. ألم تر أن العين في القلب رائد فما تألف العينان فالقلب آنف فالعين رائد القلب، فإذا ألفت العين ألف القلب. ونفر النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق البصر؛ وسمى إطلاق البصر زناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) فهو زنا وإن كان دون زنا الفرج ولكن نفر النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق البصر فسماه زنا العينين. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، أي: عندما يقع نظر العبد على عورة مكشوفة أو على شيء يحرم النظر إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصرف بصرك).

فوائد غض البصر ومضار إطلاقه

فوائد غض البصر ومضار إطلاقه وقالوا في فوائد غض البصر: إن غض البصر استجابة لأمر الله عز وجل وتنفيذ لأمر الله عز وجل، وما استجلب العبد خيراً في الدنيا والآخرة بمثل امتثال أمر الله عز وجل. قالوا كذلك: إطلاق البصر يضعف القلب ويحزنه، وغض البصر لله عز وجل يقوي القلب ويفرحه. قالوا كذلك: إطلاق البصر يشتت القلب ويجلب له الحزن، وهذا مشاهد معروف؛ لأن القلب يكون مشغولاً بما يرد عليه من صور محرمة، فلا يتفرغ لطاعة الله عز وجل محبته وعبادته، إذ يصير القلب كالمزبلة فكيف يصلح لمحبة الله عز وجل؟ قالوا كذلك: إطلاق البصر يقسي القلب ويسد عليه أبواب العلم، فيصعب على العبد مع إطلاق البصر أن يحفظ من القرآن أو من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قالوا كذلك: إطلاق البصر ظلمة على القلب، وإذا أظلم القلب أقبلت عليه سحائب الشر والبلاء من كل جانب، فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى، فإذا أظلم القلب صار موئلاً لكل شر ولكل ما يغضب الله عز وجل، وإذا غض العبد بصره لله عز وجل استنار قلبه؛ ولذلك ذكر الله عز وجل آيتي غض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31]، ثم ذكر بعد آيتي غض البصر عدة آيات: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]. قالوا: سبب نوره في قلب عبده المؤمن امتثال أوامره واجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، الناظر عباد الله! يرمي بسهام غرضها قلبه، فإذا نظر نظرة محرمة فكأنما رمى قلب نفسه بسهمه. يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وباعث الطرف ترتاد الشفاء له توقه إنه يأتيك بالعطب وكل نظرة هي جرح لقلب العبد، والنظرة تستدعي غيرها. ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح وتظن ذاك دواء جرحك وهو في الـ تحقيق تجريح على تجريح فقتلت قلبك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح النظرة عباد الله! سم للقلب وشرارة في العشب اليابس، إما أن تحرقه كله أو تحرق بعضه. كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الناس موقوف على خطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر فالنظر المحرم عباد الله! يورث الحسرات والزفرات، فيرى العبد ما لا يقدر عليه ولا يصبر عليه. وكنت متى أطلقت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر النظرة عباد الله! توقع في أسر الهوى والشهوة، والعبد إذا وقع أسيراً للهوى والشهوة صار كعصفورة في كف طفل يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب. غض البصر يورث العبد فراسة ويطلق نور بصيرته، كما قال شاه بن شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة واكتفى بالحلال واجتنب الحرمات وغض بصره لا تخطئ له صلاته، وكان شاه هذا لا تخطئ له صلاته. إطلاق البصر كذلك يجعل العبد يقع في اتباع الهوى، وفي الغفلة والإعراض عن شرع الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. والنظرة يا عباد الله! كأس من الخمر من شرب منه وقع في سكر الهوى، وقد يصاب الناظر بداء بلا عوض وهو داء العشق، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الشاعر: وما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكياً في كل حال مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق فتسخن عينه عند التنائي وتسخن عينه عند التلاقي فنسأل الله عز وجل أن يستر عورات المؤمنين، ونسأله تعالى أن يرزقنا غض البصر له عز وجل، ونسأله تعالى أن يبارك في أوقاتنا وأعمارنا. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسل

فضل العلم وشرفه

فضل العلم وشرفه لقد رفع الله شأن العلم وأهله، فأهل العلم هم أحب الخلق إليه سبحانه، وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل، فهم أخشى الناس لله وأتقاهم له، وبالعلم والإيمان يشرف المرء عند ربه ويرتفع قدره، فكم من وضيع رفعه الله بالعلم، وكم من نسيب وضع بالجهل.

ما جاء في فضل العلم وأهله

ما جاء في فضل العلم وأهله الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. عباد الله! تضافرت الأدلة كلها على شرف العلم وأهله. قال الإمام أحمد رحمه الله: حاجة الناس إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب. لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس؛ لأن العبد في كل وقت وفي كل لحظة له حال، وقد يكون له قول أو عمل يحتاج أن ينظر إلى ذلك بالعلم. ومما يدل على شرف العلم قول الله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. دلت هذه الآية عباد الله على شرف العلم من وجوه: الوجه الأول: أن الله عز وجل استشهد العلماء دون سائر الناس، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]. الوجه الثاني: أن في ذلك تعديلاً لأهل العلم؛ لأن العدل هو الذي تقبل شهادته، كما ورد في الأثر (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلي)، ففي ذلك تعديل من الله عز وجل لأهل العلم؛ لأن الله عز وجل قبل شهادتهم، ولأن الله عز وجل ذكر شهادتهم. الوجه الثالث: عباد الله! أن الله عز وجل قرن شهادة العلماء بشهادته عز وجل وبشهادة ملائكته، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ} [آل عمران:18]، أي: الملائكة وأولو العلم شهدوا، فقرن الله عز وجل شهادة أهل العلم بشهادته عز وجل وبشهادة ملائكته. الوجه الرابع: أن الله عز وجل استشهدهم على أجل مشهود عليه، وهو شهادة أنه لا إله إلا الله. وقال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، فالله عز وجل يرفع أهل الإيمان وأهل العلم درجات، وهذه الدرجات لا يقصد بها درجات الآخرة وحدها، بل أهل العلم لهم من المنزلة ومن الشرف في الدنيا ما ليس للملوك ولا لأبناء الملوك. أرسل وهب إلى مكحول يقول له: لقد بلغت بظاهر علمك عند الناس منزلة وزلفى، فابتغ بباطن علمك عند الله منزلة وشرفاً. أي: أن العبد بظاهر العلم من الخطب والفتاوى والتصنيف وغير ذلك يصل إلى منزلة رفيعة في قلوب الناس، ولكن المنزلة عند الله عز وجل لا تكون إلا بباطن العلم، أي: بخشية الله عز وجل وبمحبة الله عز وجل، وبالإخلاص لله عز وجل. فالعبد يرتفع في الدنيا قبل الآخرة بالعلم النافع، كما قال سفيان الثوري: إن هذا الحديث عز، فمن أراد به الدنيا وجدها، ومن أراد به الآخرة وجدها. أي: أن العبد الذي يتعلم علم الحديث لابد أن يشرف؛ فإن أراد الآخرة شرف في الدنيا والآخرة، وإن أراد الدنيا فقد يرتفع في الدنيا وقد لا يرتفع. وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء. يعني: الأنبياء الذين يبلغون الناس دين الله عز وجل، والعلماء والدعاة الذين يعرفون الناس بربهم عز وجل، فهؤلاء هم أشرف الناس. ومما يدل على شرف العلم وفضله كذلك: قول الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فأمر الله عز وجل نبيه بالزهد في الدنيا والتقلل منها، وأمره بطلب المزيد من العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. ووصف ال

نموذج من طلب السلف للعلم ورفعتهم به

نموذج من طلب السلف للعلم ورفعتهم به جاء في حديث صفوان بن عسال: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: جئت أطلب العلم؟ قال: مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم لتحف به الملائكة، وتضع له أجنحتها رضاء بما يصنع)، فالملائكة تضع أجنحتها رضاءً وحباً واحتفاء بطالب العلم، فالملائكة تحف طالب العلم بأجنحتها وتحفظه وترعاه وتحميه. ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء فخذ بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء وقال إبراهيم الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من مكة، وذهب إليه سليمان بن عبد الملك وابناه يسألونه عن مناسك الحج وكان يصلي، فلما انتهى من صلاته جعلوا يسألونه ويرد عليهم وهم خلفه ولم يلتفت إليهم، فقال سليمان بن عبد الملك لابنيه: قوما ولا تنيا في طلب العلم؛ فلا أنسى ذلنا بين يدي ذلك العبد الأسود. وروى الحربي أيضاً قال: كان عنق محمد بن عبد الرحمن الأوقص داخلاً في بدنه، وكان منكباه خارجين كأنهما زجان، فقالت له أمه: إنك لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منه والمستهزأ به، فعليك بالعلم فإنه يرفعك، قال: فطلب العلم وبرز فيه حتى صار قاضياً على مكة أم القرى عشرين سنة، قال: وكان الخصم إذا جلس بين يديه يظل يرعد حتى يقوم؛ لما ألقى الله عز وجل عليه من المهابة والجلالة. أهل الحديث قصيرة أعمارهم ووجوههم بدعا النبي منضّره وسمعت من بعض المشايخ أنهم أموالهم أيضاً به متكثره يعني: أهل الحديث استجيبت فيهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). قال سفيان بن عيينة: لا تجد أحداً من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة؛ بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تخليد العلم لأهله وذكرهم ما بقي الدهر

تخليد العلم لأهله وذكرهم ما بقي الدهر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! فمما يدل على شرف الحديث وشرف العلم وأهله (أن عمر رضي الله عنه لقى نافع بن الحارث بعسفان -وهو مكان بين مكة والمدينة أقرب إلى مكة- وكان قد استخلفه على أهل مكة، فقال له: ما استخلفت على أهل الوادي أي: مكة؟ قال: ابن أبزى قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا -والمولى يطلق على العبيد ويطلق على من كان عبداً ثم أعتق- قال: استخلفت عليها مولى؟! -أي: رجلاً كان عبداً ثم أعتق- قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). فالعلم يرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك، فحاجة الناس إلى العلم -عباد الله- تجعلهم يرفعون أهل العلم. دخل رجل البصرة فقال: من سيد هذه القرية؟ فقالوا: الحسن البصري فقال: فبم سادهم؟ قال: احتاجوا إلى علمه، واستغنى عن دنياهم. روى أبو نعيم في الحلية قال: قال كميل بن زياد: أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر -أي: صار في الصحراء- جعل يتنفس، ثم قال: يا كميل بن زياد القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك، الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم عليه، العلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة ومحبة العلم -وفي رواية: ومحبة العلماء- دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء. كم من أناس يملكون المليارات في بلدنا وفي قطرنا ولا أحد يحس بهم؛ لأنهم مغموسون في الشهوات أو مطموسون بالشبهات، غارقون في اللذات لا يعرفهم الناس ولا يحبونهم، قال: العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله. أي: هناك من يتصنع لك لأجل مالك، فإذا ذهب المال ذهب عنك، كما قال بعضهم: وكان بنو عمي يقولون مرحباً فلما رأوني معدماً مات مرحب ثم قال: مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، فحسبك أن قوماً موتى تحيا بذكرهم النفوس، وأن قوماً أحياء تقسو برؤيتهم القلوب. فمثلاً: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن رجب وأئمة الفقه: الشافعي وأحمد ومالك وأبو حنيفة وأئمة الحديث كـ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه وأئمة الجرح والتعديل كـ أبي زرعة وابن معين ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم من العلماء كأنهم أحياء بيننا، ما فقدنا إلا أجسامهم، وإلا فعلمهم ومحبة الخلق لهم باقية في الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. ثم قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي كان العلم يتفجر من جوانبه، والذي تربى في بيت النبوة، والذي كان أول من آمن من الغلمان قال: هاه هاه، إن هاهنا علماً. أي: يشتكي من قلة من يحمل العلم ومن يقوم بحقه في نهاية القرن المفضل الأول. قال: إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة، بل أصبته لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض للشبهة، لا ذا ولا ذاك. أي: لا هذا الذي يستعمل الدين للوصول إلى مآربه الشخصية وطموحاته الدنيوية، لا هذا يصلح لحمل العلم، ولا المقلد تقليداً أعمى، فلا فرق بين مقلد وبين بهيمة تقاد. قال: لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً للذات، سلس القياد للشهوات، أو مغري بجمع الأموال والادخار، ليسوا من دعاة الدين -أي: هؤلاء الأربعة ليسوا من دعاة الدين- أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة، ثم قال: اللهم بلى لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً. إشارة إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاه

ق والقرآن المجيد

ق والقرآن المجيد سورة (ق) من السور العظيمة التي تناولت موضوعات شتى في آيات قليلة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بها في الجمعة، ويقرأ بها في الجمعة والعيدين، فقد تحدثت عن تكذيب الكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعن خلق الله للسماوات والأرض وبعض نعمه على خلقه، وعن خلق الإنسان، وبعض مشاهد القيامة وغير ذلك.

الموضوعات التي اشتملت عليها سورة ق

الموضوعات التي اشتملت عليها سورة ق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. ثم أما بعد: يقول الله عز وجل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ *

تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)

تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد) تبدأ هذه السورة بقول الله عز وجل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، قيل: هذا قسم وجواب القسم مفهوم من السياق. وقيل: ق من الحروف المقطعة في أوائل السور، فهي تشير إلى تحدي الله عز وجل بالقرآن، كما قال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، وقال: {الم} [البقرة:1]، ودائماً يأتي بعد هذه الحروف ذكر القرآن؛ تقوية للقول بأن هذه الحروف أتت على سبيل التحدي، فالله عز وجل يتحدى البشر بل يتحدى الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، مع أن القرآن من هذه الحروف العربية المعروفة. {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:2]. كما يتعجب المجنون من العاقل، فهؤلاء يتعجبون من أمر ليس فيه عجب، بل لا بد أن يكون الرسول بشراً حتى يحس بإحساسهم، ويكون له من صفاتهم وملكاتهم حتى يقبل قوله ويعمل به، ولا بد أن يتكلم بلغتهم، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109]. فهم يتعجبون من أن الله عز وجل أرسل إليهم رسولاً منهم، مع أنهم يعرفون صدقه وأمانته، ويعرفون شرف نسبه وكرم أخلاقه، ومع ذلك يتعجبون؛ لأن قلوبهم منكوسة، وفطرهم مطموسة. {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3]. فهم يتعجبون كيف يعيد الله عز وجل الخلائق مرة ثانية بعد أن تصير تراباً. والأدلة على البعث في القرآن ثلاثة، وهي مذكورة في هذه السورة العظيمة: الدليل الأول: أن الله عز وجل يذكر العباد بالنشأة الأولى، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، فالذي خلق في المرة الأولى لا شك أنه يقدر على أن يخلق في المرة الثانية، بل في المرة الثانية يكون الأمر أهون عليه، وكل شيء هين على الله عز وجل، {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]. الدليل الثاني: أن الله عز وجل يذكر الناس كيف تكون الأرض ميتة فينزل عليها المطر من السماء فتهتز وتنبت الكلأ والعشب، وتصير حية بالنبات، قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11]، أي: كذلك يحيي الله عز وجل الموتى، فقبل يوم القيامة ينزل من السماء مطراً مثل مني الرجال، فينبت الناس من الأرض من عجب الذنب وكأنها بذور في الأرض، وكل عظم يبلى من ابن آدم ويبقى عجب الذنب، وهو آخر العمود الفقري، ومنه يركب ابن آدم يوم القيامة. الدليل الثالث: أن الله عز وجل يذكر الناس بخلق السماوات والأرض، ويقول: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، والذي يستطيع أن يبني قصراً لا تستطيع أن تتهمه بأنه لا يستطيع أن يبني حجرة، أو أن يبني شقة. {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4]، أي: أن الله عز وجل يجمع كل ذرة من ذرات الإنسان، {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4]، أي: مسجل فيه كل شيء. {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5]، أي: مختلط تختلط عليهم الأمور.

تفسير قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم)

تفسير قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم) ثم نبههم الله عز وجل إلى التفكر في عظمة السماوات التي رفعها الله عز وجل بغير عمد، والتي زينها الله عز وجل بالأجرام والكواكب والنجوم فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، أي: ما لها من تشققات ولا تصدعات. {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} [ق:7]، أي: جعلها الله عز وجل منبسطة تصلح لمعيشة الإنسان وحياته؛ حتى يبني عليها حياة مستقرة ويتحرك على ظهرها، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق:7]، وهي الجبال؛ لئلا تميد بهم، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7]. {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} [ق:8 - 9]، أي: بساتين من فواكه وخضروات وغيرها، ((وَحَبَّ الْحَصِيدِ))، أي: الحب الذي يحصد ويدخر كالقمح وغيره. {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:10]، أي: مرتفعات في السماء، {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10]. {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11]، وهنا يذكر دليلاً على البعث فيقول: ((كذلك الخروج)).

تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح)

تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح) ثم يذكر الله عز وجل الأمم المكذبة بالنبوات والرسالات قبل ذلك فيقول عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:12 - 14]. فلم يقل: كذب رسوله، بل قال: ((كل كذب الرسل))؛ لأن التكذيب برسول واحد تكذيب بكل الرسل، كما قال الله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، وما أرسل إليهم إلا نوح وحده، ولكن دعوة الرسل واحدة. وعلى مر الزمان وكر الأيام أناس يؤمنون بدعوة الرسل، ويعتقدون اعتقادهم ويسيرون على دربهم، وأناس يحاربون شرع الله عز وجل ودينه ويريدون أن يفسدوا على الناس حياتهم، فيتجرءون على الآذان وعلى صلاة التراويح، ثم بعد قليل قد يقول قائل منهم بعد ذلك: الصلوات الخمس متعبة للناس فيكفي أربع صلوات، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12]. فأين يذهبون من الله عز وجل وهو يحصي عليهم عدد الذرات من الأقوال والأعمال؟ وهم يحاربون دينه الله عز وجل، ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجاً. فهؤلاء يسيرون في درب قوم نوح وأصحاب الأيكة وقوم تبع وقوم فرعون، الذين خالفوا دين الله عز وجل ودعوة الرسل، وحاربوا دين الله عز جل، وسيهلكهم الله عز وجل كما أهلك المكذبين في كل زمان وفي كل مكان، والعاقبة للمتقين، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} [ق:12 - 15]، أي: أفعجزنا للخلق الأول، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15].

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان)

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان) ثم بين الله عز وجل كيف أنه خلق الإنسان، وكيف أنه عز وجل وظف عليه الكرام الكاتبين، فقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16]. فالله عز وجل يعلم ما توسوس به نفس الإنسان، ويعلم السر وأخفى، والله عز وجل أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد، فقيل: أقرب بملائكته، وقيل: أقرب بصفاته، فهو أقرب بعلمه وبسمعه وببصره، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. والله عز وجل يحول بين المرء وقلبه، قيل: يحول بين الكافر وبين الإيمان، وبين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى الكفر والعصيان، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54]. {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]. قال عطاء بن أبي رباح: كان من مضى من السلف يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كلام الله عز وجل، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أن ينطلق أحدهم في أمر معيشته، أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18] عتيد أي: مستعد متيقظ، فهو يحصي على العباد الأقوال من الحسنات والسيئات، فملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئات. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12].

تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق)

تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق) ثم يذكر الله عز وجل القيامة الصغرى وهي الموت، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. ولما كان أبو بكر رضي الله عنه في النزع دخلت عليه عائشة رضي الله عنها وتمثلت قول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فقال: دعي هذه وقولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8]، وكيف يكون حال الإنسان إذا فر من عدو أو من سبع ثم وجده في مواجهته ملاقيه مقابلاً له؟ ثم يذكر الله عز وجل القيامة الكبرى، ونفخة البعث والنشور فيقول: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:20 - 21]، أي: سائق يسوقها إلى الله عز وجل، وإلى حيث أمر الله عز وجل، وشاهد يشهد عليها بأعمالها. {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن الله عز وجل أوحى إليه بهذه الشريعة العظيمة، وهذه الأمور الغيبية، وكان قبل ذلك لا يعلم ذلك، كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، أي: لا تعرف الهداية والدين، فهداك الله عز وجل إلى أقوم طريق وإلى أقوم دين. وقيل: الخطاب للكافر، {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22]، أي: كان غافلاً عن الآخرة، لا يؤمن بها، ولا يسعى لها سعيها، ولا يعمل لها عملها. وقيل: الخطاب لعموم الإنسان، كما أشار إلى ذلك قوله عز وجل: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]، أي: كل إنسان معه سائق ومعه شهيد، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، أي: كشفنا عنك غطاء الغفلة فالآن بصرك اليوم حديد، أي: من الحدة، كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38]، فهم يرون الأمور، ويرون كل شيء يوم القيامة. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، فهم أيقنوا عندما رأوا بعيني رءوسهم أمور الآخرة وآمنوا بها إيماناً جازماً، ولكن هذا الإيمان لا ينفعهم؛ لأنهم قد خرجوا من دار الابتلاء ومن لجنة الامتحان، وهم الآن يعرضون على الملك الجبار حتى يحكم الله عز وجل فيهم بحكمه. {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23]، أي: من وكلت به قد أحصيت عليه أعماله وأقواله، وأتيت به إلى العرض على الملك الجبار حتى ينفذ فيه حكم الله عز وجل، وحتى يصدر عليه الحكم من المحكمة الإلهية. فالله عز وجل لا يغفل عن المؤمنين الموحدين والدعاة إلى دين رب العالمين، ولا يغفل عن المكذبين والمفسدين، والذين يصدون عن سبيل رب العالمين ويبغونها عوجاً، أفلا يتفكر أعداء الإسلام في هذه الآيات الكريمات؟ أفلا يفعلون ألف حساب للموقف بين يدي ملك الأرض والسموات؟ ثم يصدر الحكم من الملك الجليل عز وجل: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، أي: يكفر بنعم الله عز وجل، ويتمتع بها ولا يشكرها، ولا يستعملها في طاعة الله عز وجل، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]. يعاند الحق، ويعرفه ولا يتبعه. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:25]، أي: ليس فيه خير ولا نفع لأمته ولا لنفسه ولا لأولاده ولا لعشيرته، {مُعْتَدٍ} [ق:25]. بل يتعدى على الناس في أموالهم وفي أعراضهم وفي دمائهم، {مُرِيبٍ} [ق:25]، أي: مشكوك فيه وفي أمره، فهو صاحب ريبة وشكوك. {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:26] فالذين يحكم عليهم الله عز وجل بهذه الحكم العدل من صفاتهم: أنهم يكفرون بنعم الله عز وجل، ويعاندون الحق، {كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:24 - 25]، يمنع الخير عن نفسه وعن غيره {مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:25 - 26]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

تفسير قوله تعالى: (قال قرينه ربنا ما أطغيته)

تفسير قوله تعالى: (قال قرينه ربنا ما أطغيته) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم قال عز وجل: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:27 - 29]. وهذا القرين -عباد الله! - هو قرينه من الجن ومن الشياطين، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]. وهذا ليس مع كل أحد، بل مع من أعرض عن ذكر الله عز وجل، فيقيض الله عز وجل له هذا القرين. قال سفيان بن عيينة: لا تأتوني بمثل إلا وجئتكم من القرآن بما هو مثله أو أعظم منه. فقيل له: في المثل يقولون: أعط أخاك تمرة فإن لم يقبل فأعطه جمرة فأين مثله في القرآن؟ قال: قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، فالذي يعرض عن ذكر الله وطاعته وهدايته ودينه عز وجل يوظف الله عز وجل له قريناً من الجن -أي: من الشياطين- يزين له الباطل، ويزخرفه له، ويشوه له الحق، ولا يجبره على معصية الله عز وجل وعلى الكفر به عز وجل، ولكنه مكر الليل والنهار، وتزيين الباطل وتزييف الحق، كما قال الله عز وجل: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]. فيقول عز وجل: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق:27]، أي: ما أجبرته على الضلال وعلى الكفر وعلى المعصية، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27]. فهو الذي كان في ضلال بعيد. قال عز وجل: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28]، والله عز وجل حذرنا من الشيطان وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، فاتخذه أكثر الناس صديقاً وناصحاً وخليلاً. {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، أي: أن الله عز وجل لا يغير وعده ولا يخلفه، ولا يخلف كذلك وعيده، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، ومع ذلك فالله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة. {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] والناس يستكثرون العصاة، ويظنون أن جنهم لا تسع هؤلاء ولا تسع للكافرين، والله عز وجل قد وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، فكلما ألقي فيها يقال لها: هل امتلأت؟ حتى ينفذ وعد الله عز وجل؟ فتقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ لأن وقودها الناس والحجارة. وقد ورد في الحديث الصحيح: (أنها لا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط). وهذا الحديث من أحاديث الصفات، ينبغي أن نؤمن به، وأن نعلم أن الله عز وجل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].

تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة)

تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة) ثم يذكر الله عز وجل كيف يكون حال المتقين يوم القيامة، لا يقال لهم: اذهبوا فادخلوا جنة الله عز وجل، ولكن الجنة تأتي إليهم وتقترب منهم، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]، قيل: غير بعيد في الزمان، وقيل: غير بعيد في المكان. ولا منافاة بين القولين، فهم يدخلون الجنة ولا يقفون طويلاً في عرصات القيامة، فيدخلون الجنة غير بعيد في الزمان، وكذلك الجنة تقترب حتى لا يبذلوا جهداً في الوصول إليها. ثم وصف الله عز وجل المتقين الذين يستحقون جنة الله عز وجل بقوله: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32]. والأواب: هو الرجّاع إلى الله عز وجل، ما قال: المعصوم من الذنوب؛ لأن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولكن المؤمن كلما أذنب رجع، وتاب إلى الله عز وجل، فهو الذي يذنب ثم يتوب، فلا يتبع الذنب بالذنب ويستمر في غيه. {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32]، قيل: ((حَفِيظٍ)) يحافظ على حدود الله، وعلى أوامره عز وجل، وعلى أمانته، وقيل: يحفظ الذنب ويتوب منه. {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق:33]، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]. وكما ذكر ست صفات للكافرين ذكر للمتقين الذين يستحقون الجنة أربع صفات، فقال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32]، أي: رجّاع إلى الله عز وجل، يحافظ على طاعاته وأوامره عز وجل، {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق:33]، أي: يخشى ربه عز وجل بالغيب، {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33]، أي: مقبل على الله عز وجل، فيقبل على ذكر الله، وعلى الاستغناء بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه. {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:34]، فهم يدخلون دار السلام، والله عز وجل من أسمائه السلام، فيدخلون دار السلام، والله عز وجل يسلم عليهم، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وكذلك الملائكة، {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. وتحيتهم يفها السلام كما قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:34]، لأن العبد إذا كان في نعيم عظيم ثم علم أنه يخرج من هذا النعيم ولو بعد آلاف السنين فإنه يتنغص عليه نعيمه، وهم إذا دخلوا الجنة ودخل أهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، ويقال: يا أهل النار! أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. إنه الموت وكلنا قد ذاقه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت. اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين. اللهم بلغنا رمضان يا رب العالمين! اللهم سلمنا إلى رمضان وتسلّمه منا متقبلاً، اللهم اجعل قدوم هذا الشهر المبارك قدوم عز وبركة وخير للمسلمين عامة يا رب العالمين! اللهم ارفع فيه راية الإسلام والمسلمين، وأعز فيه الإسلام والمسلمين، وأذل فيه الكافرين والمنافقين يا رب العالمين! اللهم ارفع راية الإسلام يا رب العالمين! اللهم فرج كرب المكروبين من المسلمين، واقض الدين عن المدينين من المسلمين، وفك أسرانا وأسرى المسلمين يا رب العالمين! اللهم فك أسرى المسلمين يا رب العالمين! اللهم رد كل غائب مسلم إلى أهله وأولاده بقدوم هذا الشهر المبارك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والغنى والعفاف يا رب العالمين! اللهم اهدنا واهد بنا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

قصة سيدنا سليمان عليه السلام

قصة سيدنا سليمان عليه السلام إن من حكمة الله عز وجل أنه يؤتي الملك من يشاء من عباده ويمنعه ممن يشاء، ومن آتاه الله ملكاً عريضاً لا ينبغي لأحد من بعده نبي الله سليمان عليه السلام الذي سخر له الإنس والجن والحيوان والطير وآتاه من كل شيء، فكان شاكراً لأنعمه تعالى قائماً بحقه في كل ما آتاه. صلى الله وسلم عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأتمها.

فوائد إيمانية من قصة سليمان عليه السلام

فوائد إيمانية من قصة سليمان عليه السلام الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله، خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي والأمر المرضي على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. قال عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ * وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:15 - 31].

من فضل الله عز وجل على النبيين الكريمين داود وسليمان

من فضل الله عز وجل على النبيين الكريمين داود وسليمان إن سليمان نبي الله ابن نبي الله داود، أثنى الله عز وجل عليهما بالعلم فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15]، رزقهما الله عز وجل الملك والنبوة، واشتهرا بالقضاء والعلم والحكمة، وداود هو الذي قتل جالوت كما بينا ذلك في قصة طالوت، وكان داود شاكراً لله عز وجل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، فقد كان لا تمر عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم جالس يسبح الله عز وجل، أو قائم أو ساجد لله عز وجل. ومن فضل الله عز وجل على داود: أن وهب الله له سليمان، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]، وهذا نوع من شكر الله عز وجل للشاكرين من عباده، وليس معنى ذلك أن داود لم يكن له من الأولاد إلا سليمان كما يشير إلى ذلك قوله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]؛ لأن داود كان له مائة امرأة من الحرائر غير ما تملك يمينه من الإماء، فكان له أولاد كثيرون، ولكن الله عز وجل وهب له سليمان وجعل فيه الملك والنبوة، وأثنى عليه بقوله: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]، والأنبياء لا يورثون ديناراً ولا درهماً، ولكن يورثون العلم، فورث سليمان داود في النبوة والعلم والحكم والقضاء، كذلك ورثه في الملك، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15]. فانظروا يا عباد الله! كيف شكر سليمان ربه عز وجل على كل نعمة، وكيف تحدث بنعم الله عز وجل، وكيف أعطاه الله عز وجل من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده، إذ سخر له الريح تجري بأمره حيث أراد، فكانت الريح تحمل جنوده، {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12]. ويذكر أن سليمان عليه السلام ذبح الخيل لله عز وجل؛ لأنها شغلته عن ذكر ربه، فعوضه الله عز وجل بالريح التي تحمل جنوده بلا كلفة ولا مئونة، وسخر له الجن والإنس والطير فهم يوزعون، فكانت الشياطين والجن تعمل بين يديه الأعمال الشاقة: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] وكانوا يغوصون في البحر ويأتونه باللآلئ. ومن فضل الله عليه أن علمه لغة الطير والحيوانات، فكيف تصنع التكنولوجيا الحديثة مع قدرة الله عز وجل؟

عظم ملك سليمان عليه السلام وشكره لله على ذلك

عظم ملك سليمان عليه السلام وشكره لله على ذلك قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]، أي: في الملك والنبوة، وزاده الله عز وجل من فضله، وآتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده. قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17]، وكان سليمان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وكان يستعرض جنوده من الجن والإنس، تظلهم الطير فهم يوزعون، قيل: إنهم يردون أولهم إلى آخرهم، كما قيل: إن الله عز وجل يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، أي: أن الذي لا يرتدع بالقرآن يرتدع بالسلطان وبأحكام الإمام العادل. فقوله: (فهم يوزعون) أي: مملكة منظمة، يرد أولهم إلى آخرهم. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]. هذه النملة في كلمات قليلة أمرت وحذرت واعتذرت، أمرت إخوانها ومن هم تحت رعايتها بأن (يدخلوا مساكنهم) وقدمت الأمر قبل أن تحذر وتعتذر حتى لا يدهمهم الخطب الذي تخاف عليهم منه، فقالت: ادخلوا مساكنكم، ثم حذرت فقالت: ((لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون))، وهذا يدل على أن سليمان وجنوده لا يحطمون نملة فما فوقها وهم يشعرون، فكيف بالملوك الذين يحطمون شعوبهم؟! وكيف بالرؤساء الذين يدمرون أممهم؟! وكيف بسجون البلاد الإسلامية وقد ملئت بالذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً؟! فهذا سليمان عليه السلام لا يحطم نملة فما فوقها وهو يشعر، فكيف بالذين يظلمون الناس يا عباد الله؟! وكيف بالذين يعنفون المؤمنين؟! قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عذبت امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)، امرأة تعذب في هرة -أي: في قطة- حبستها ولم تطعمها، فكيف بالذين يحبسون المؤمنين ويعذبونهم، وليس لهم جريرة ولا ذنب إلا أنهم يقولون: ربي الله، ويريدون أن يقيموا شرع الله عز وجل ويحكموا دينه؟! هذه النملة أمرت وحذرت اعتذرت لسليمان وجنوده بقولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]، فقال تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19]، وهذا يدل على أنه سمع مقالتها وأعجب بحكمتها وفهم لغتها، وحمد الله عز وجل أن علمه من كل شيء حتى لغة النمل وأسمعه صوتها، فماذا تصنع التكنولوجيا الحديثة أمام مقدرة الله عز وجل؟ قال سليمان شاكراً نعمة الله عز وجل: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل:19]، فالمؤمن كلما أنعم الله عز وجل عليه بنعمة تحدث بها وشكر الله عز وجل عليها، ومع ذلك يطلب من الله عز وجل مزيداً من النعم والخير والصلاح، وسليمان من هذا الصنف، إذ قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19].

ظهور بشرية سليمان في عدم إحاطته بعلم كل شيء رغم اتساع سلطانه ومملكته

ظهور بشرية سليمان في عدم إحاطته بعلم كل شيء رغم اتساع سلطانه ومملكته ثم قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]. تفقد سليمان عليه السلام مملكته، قال المفسرون: كان يأتيه من كل جنس من الطير نوع واحد، وهذا يدل على أن الطير خاضع لسلطان سليمان، مسخر لأوامره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما تفقد أنواع الطير عرف أن الهدهد غائب، وهذا فيه دلالة على أن الملك أو الرئيس أو الأمير ينبغي له أن يتفقد رعيته. فقوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]، أي: هل غاب عن عيني وهو من الموجودين، أم كان من الغائبين؟ ثم تهدد وتوعد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، وأراد بالسلطان هنا حجة تغيبه عن هذا الموكب وعن الحضور معهم عندما كان يمر عليهم سليمان ويتفقد الرعية، وعبر القرآن بقوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، فقد أتى بعد ذلك بسلطان بلقيس، وإنما سميت الحجة سلطاناً؛ لأن صاحب الحجة قوي، فقال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، فيعفو عنه عند ذلك. قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22]، أي: ما غاب الهدهد طويلاً، وهذا يدل على إحكام هذه المملكة، وأنهم خاضعون لحكم سليمان وأمره، فلم يختف الهدهد طويلاً، بل جاء يعتذر إلى سليمان ويقول: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:22 - 24]. فهذا الهدهد أتى سليمان عليه السلام، وأخبره بما خفي عليه من العلم، وهذا يدل على أن فوق كل ذي علم عليم، وأن الصغير قد يكتشف ما لا يعلمه الكبير، فهذا عمر رضي الله عنه كان ذا علم غزير، حتى أنه لما مات قالوا: ذهب تسعة أعشار العلم، لكن مع علمه الغزير غاب عنه سنة الاستئذان، وذلك لما أتى أبو موسى الأشعري إلى عمر رضي الله عنه فاستأذن عليه ثلاثاً فلم يؤذن له، فقال عمر: ألم أسمع عبد الله بن قيس؟ فطلبه عمر، فلما جيء به قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع)، فقال: البينة وإلا حد ظهرك، أي: لا بد أن تأتيني ببينة وبمن يشهد معك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فذهب أبو موسى الأشعري يلتمس من يشهد له، فأخبر جماعة من الصحابة ما قاله له عمر، فقالوا: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، وكان أصغرهم أبا سعيد الخدري، فذهب مع أبي موسى الأشعري، وشهد عند عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع). وغاب عن أبي بكر ميراث الجدة، حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فالكبير قد يغيب عنه ما علمه الصغير، فهذا الهدهد أتى إلى نبي الله سليمان الذي علمه الله من كل شيء حتى لغة الطير ولغة النمل، وقال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، والحكمة من ذلك حتى لا يعجب العالم بعلمه، فالله عز وجل يقدر له ما يعرفه قصور علمه حتى يرجع إلى الله عز وجل، ويعترف بقصوره في العلم، يعرف أن فوق كل ذي علم عليم. فأتى الهدهد بصولة العلم يقول: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، أي: أتيتك بما لم تعلم به من الأخبار، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]. ثم قال الهدهد: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:23]، فكان أول ما أنكره هذا الهدهد الذي كان يعيش في مملكة سليمان الموحدة لله عز وجل أن تكون امرأة ملكة لدولة فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:23]، وهو يعلم أن المرأة لا يمكن أن تكون ملكة ولا خليفة ولا قاضية. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرس أمروا عليهم ابنة كسرى، فقال: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). فكان هذا أول ما أنكره الهدهد، إذ قال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأ

ذكر قصة الملكة بلقيس مع قومها في شأن رسالة سليمان

ذكر قصة الملكة بلقيس مع قومها في شأن رسالة سليمان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. قال الله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:32 - 44]. إنها لعزة وقوة عندما تكون الدولة مسلمة، فيخضع الناس للإسلام وتفتح البلاد، ويدخل العباد في دين الله عز وجل، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فمع وجود الخلافة الإسلامية يلزم الخليفة أن يغزو الناس، وأن يغزو البلاد الكافرة من أجل أن يخضع الكل لله عز وجل، ومن أجل أن يكون الدين كله له سبحانه. ولما استشارت الملكة قومها في كتاب سليمان قالوا: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:33]، وهم بذلك يغترون بقوتهم ويظنون أن هذه الأسباب الأرضية تستطيع أن تواجه أمر الله عز وجل، ولكن المرأة كانت عاقلة، إذ قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، كأنها تقول لهم: لو كان سليمان نبياً لنصره الله عز وجل، ولا بد أن يفتح هذه البلاد، وإن فتح هذه البلاد فإنه لا يخلص الشر إلا إلي ولا يكون الذل إلا علي؛ لأن {الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، ثم قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]. وهذه المرأة كانت كافرة، لكن هذا يدلنا على أن الحق يخرج من كل من جاء به كائناً من كان، ثبت في الصحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه أمسك بشيطان كان يسرق من تمر الصدقة، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا الفقر وكثرة العيال فتركه أبو هريرة، فتكرر ذلك منه فأصر أبو هريرة أن يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب من أبي هريرة أن يتركه على أن يعلمه شيئاً، فعلمه أن يقرأ آية الكرسي عند نومه، وقال: لا يقربك شيطان، ولا يزال عليك من الله عز وجل حافظ، فلما أخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (صدقك وهو كذوب)، فمن أذكار النوم أن نقرأ آية الكرسي عند النوم، لكن المقصود: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة

ذكر ما أيد الله به سليمان من معجزات وبينات

ذكر ما أيد الله به سليمان من معجزات وبينات ثم أراد سليمان أن يظهر آية من آيات نبوته، ومعجزة من معجزات نبوته، قال تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38]، فقد علم سليمان أنهم سيأتون مسلمين، وذلك لقوة الإسلام ولقوة الحاكم المسلم ولقوة نبي الله سليمان، وهو الذي مات متكئاً على منسأته، أي: على عصاه، وظلت الجن مسخرة بين يديه في الأعمال الشاقة، وقيل: كانوا يبنون بيت المقدس، وكان قد أمر أهله ألا يخبروهم بموته حتى يستكملوا بناء بيت المقدس، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14]، فظلوا مسخرين بين يدي سليمان وهو ميت متكئ على عصاه حتى أكلت الأرضة منسأته وسقط على الأرض، عند ذلك علموا أنه قد مات، وعندئذ علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب، فهذه بينة واضحة من الله عز وجل، إذا أراد الله عز وجل أن يرفع عبداً من عباده، أيده بالمعجزات والبينات الواضحات. قال تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:38 - 39]، أي: وأنت في مجلسك قبل أن ينتهي مجلس القضاء، قيل: وكان مجلس القضاء من الصبح إلى الزوال، أي: إلى وقت الظهر. قال تعالى: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:39]، أي: قوي على إحضاره في هذه المدة، أمين على ما فيه من الجواهر والنفائس، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40]، قيل: من العلماء، أي: من علماء الجن، وقيل: كان يعلم الاسم الأعظم لله عز وجل، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، هل تستطيع التكنولوجيا الحديثة أن تفعل ذلك؟! أتى بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل:40]، لم يقل: هذا بقوتي وبحولي وشجاعتي، بل قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، فكان كلما أعطاه الله عز وجل نعمة شكره على هذه النعمة؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل هو الذي سخر له الجن، وهو الذي أعطاه هذه الأسباب العظيمة، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]؛ لأن الله عز وجل في غنىً عن شكر العباد، ولا ينفعه شيء من طاعات العباد، من أحسن فإنما يحسن لنفسه، ومن أساء فإنما يسيء عليها، ومن ظلم فإنما يظلم نفسه، والله عز وجل غني عن العباد وعن طاعاتهم، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل:40] أي: رأى سرير ملكها مستقراً عنده في طرفة عين، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]؛ لأنه لا يحتاج إلى طاعات العباد، قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8]. قال تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41]، أي: غيروا شيئاً من صفات عرشها لنختبر عقلها هل تعرف أنه سرير عرشها أم لا، {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل:42]، قيل: إنهم غيروا فيه بعض التغيير، فلم يقولوا: هل هذا عرشك؟ بل قالوا: أهكذا عرشك؟ ولرجاحة عقلها قالت: كأنه هو، لم تقل: هو؛ لأنها وجدت فيه تغييراً، وقيل: لأنها تعجبت كيف أوتي به في هذه السرعة، وقد تركته تحت الأغلال وتحت القيود، فقالت: كأنه هو، ولما شبهوا لها بقولهم: أهكذا شبهت لهم بقولها: كأنه، قال تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42]، قيل: هذا من كلام الملكة، إذ إنها أسلمت قبل أن ترى هذه الآية، وقيل: هذا من كلام سليمان، أو من كلام من هم مع سليمان في مملكته، فقوله تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} [النمل:42]، أي: صدق سليمان ونبوته؛ لكثرة المعجزات التي رأوها الدالة على صدقه. قال تعال

قصة مؤمن آل فرعون

قصة مؤمن آل فرعون لقد حكى الله تعالى لنا في كتابه ما قام به مؤمن آل فرعون من الإنكار على قومه ودعوتهم إلى الإيمان بالله، والكفر بالطواغيت والأوثان، وذلك من أفضل الجهاد؛ ولذا كان لا بد للمؤمن من أن يجهر بكلمة الحق وألا يخاف في الله لومة لائم، وأن يفوض أمره إلى الله، فهو الحافظ من كيد الكائدين ومكر الماكرين.

فوائد إيمانية من قصة مؤمن آل فرعون

فوائد إيمانية من قصة مؤمن آل فرعون إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: تكلمنا -بحمد الله تعالى- في الدرس السابق عن قصة مؤمن آل يس، ونتكلم اليوم إن شاء الله تعالى عن قصة مؤمن آل فرعون، والآيات في سورة غافر، قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْن ِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:26 - 46]. هذه حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، وقصة الصراع واحدة، ولكن تختلف الأسماء، وتختلف شبهات الطغاة والجبابرة، ولكن النهاية تكون واحدة، وهي الانتصار للحق وأهله، وزوال الباطل وأهله، فالباطل ينتفش ويبدو بأسبابه الأرضية كأنه على كل شيء قدير، ولكنه عندما يواجه الحق الثابت الذي يستمد قوته من الله عز وجل تكون العاقبة للمتقين، والهلاك والعذاب للطغاة والمتكبرين. فالباطل مثل الزبد والرغوة والغثاء الذي يك

خوف فرعون من قتل موسى وتردده فيه

خوف فرعون من قتل موسى وتردده فيه ولنشرع في شرح الآيات الكريمات: يقول تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. قال الزمخشري: قوله: ((ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)): كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحراً مثله. ويقولون: إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة. الظاهر: أن فرعون -لعنه الله- كان قد استيقن أنه نبي، وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، والله عز وجل يسجل ذلك، قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. وقال موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]. فكان فرعون يعتقد بأنه نبي، وأن هذه المعجزات التي أتى بها تؤيد أنه نبي صادق؛ ولذلك كان يخاف من قتله، فهو يظهر أنه يريد أن يقتله، ولكنه في الواقع كان يخاف من قتل موسى خشية أن ينزل به عذاب. يقول: ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه؛ لأنه كان يقتل الولدان، يعني كما يقولون: أنه بلغه من أهل الكتاب أو من بعض الكهان أنه يولد في تاريخه غلام يكون هلاك ملكه على يديه، ومن أجل ذلك كان يقتل الولدان، فهو كان يعتقد أنه سوف يزول ملكه على يديه، ولكنه كان يخاف إن هم بقتله أن يعجل له بالهلاك. فقوله: ((وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)) شاهد صدق على فرط خوفه منه، يقول: ((وَلْيَدْعُ رَبَّهُ))؛ لأنه خائف من دعاء موسى، وكان قوله: ((ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)) تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع. قوله: ((أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ)) أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام بدليل قوله: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]. يقول: إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه، أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه، وهكذا أهل الباطل دائماً، فهم يصورون أن أهل الإيمان والالتزام سوف يذهبون بطريقتهم المثلى، وأنهم على حضارة، وعلى نور وخير، وأن هؤلاء يريدون أن يردوا الناس إلى عصور الظلام، وأن يحرموهم من المدنية ومن حضارة أوروبا، فهذا تمويه من أهل الباطل، يموهون ويلبسون الباطل ثوب الحق والحق ثوب الباطل. قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]. قال ابن كثير: أي: عذت بالله ولجأت إليه، واستجرت بجنابه من أن يسطو فرعون وغيره علي بسوء.

اعتصام المؤمن بالله دائما ولجوءه إليه

اعتصام المؤمن بالله دائماً ولجوءه إليه وقوله: ((مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ)) أي: جبار عنيد لا يرعوي ولا ينتهي ولا يخاف عذاب الله وعقابه؛ لأنه لا يعتقد معاداً ولا جزاء، ولهذا قال: ((مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ)). فهكذا المؤمن دائماً له معاد وله مبدأ وله ملاذ، وهو الله عز وجل، فهو يعوذ به ويحتمي بجنابه، ويلوذ بالله -أي: يلجأ إلى الله عز وجل- إذا أراد شيئاً، كما فعل يوسف لما اجتمعت عليه امرأة العزيز ونساء المدينة، حيث استعان عليهن بالله وقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. فالمؤمن دائماً يلجأ إلى الله إذا خاف فتنة، أو إذا خاف من جبار ظالم.

اختلاف المفسرين في شخصية مؤمن آل فرعون

اختلاف المفسرين في شخصية مؤمن آل فرعون قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]. فاختلفوا في هذا الرجل: فقال الحسن ومقاتل والسدي: كان قبطياً، وهو ابن عم فرعون والذي نجا مع موسى. والمفسرون يرجحون أنه الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وقال لموسى: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]. وقيل: كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير: وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون. وهذا خلاف ظاهر الآية، فالآية: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر:28]، فإذا قيل: إنه من بني إسرائيل، أو من قوم موسى، يكون هذا القول خلاف الآية، أي: خلاف ظاهر القرآن، وظاهر القرآن يجب القول به والمصير إليه، حتى يدل الدليل على أن الظاهر غير مراد. قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد؛ لأنه يقال: كتمه أمر كذا، ولا يقال: كتم منه، كما قال سبحانه: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]، وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول، يعني: كونه تكلم بهذا الكلام أمام فرعون، وجهر بكلمة الحق ونصر موسى نصراً مؤزراً، ودعا الناس إلى الإيمان بالله عز وجل، وخوف فرعون وقومه من أيام الأحزاب التي هلك فيها عاد وثمود وقوم نوح وغيرهم، لو كان من قوم من بني إسرائيل قوم موسى لما كان يحتمل منه فرعون هذا الكلام فهو من قوم فرعون كما تدل الآية.

حكمة مؤمن آل فرعون في دعوته قومه إلى الله

حكمة مؤمن آل فرعون في دعوته قومه إلى الله وقال الزمخشري -ما ملخصه-: ((أَنْ يَقُولَ)): لأن يقول، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد؛ كأنه يقول: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها، وهي قوله: ربي الله، كيف يقتل إنسان يقول: ربي الله، مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة ولكن بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم؛ لأنه جاء بالبينات -يعني: ليست بينة واحدة، بل بينات ومعجزات- كان يلقي عصاه فتنقلب حية كبيرة، ويدخل يده في جيبه، ثم يخرجها فتصير بيضاء تشع نوراً، فيعيدها إلى جيبه فتعود سيرتها الأولى، فأتى ببينات ومعجزات كثيرة تدل على أنه صادق، فكيف تقتلونه وهو يقول: ربي الله، وقد أتى بالبينات؟ وقوله: (بالبينات)، يريد البينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم، فقال: لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً، يعني: هذا الذي يدعي أنه نبي، إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً، فعلى كل حال لا يجوز قتله، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28]، أي: إذا كان يكذب على الله فالله تعالى ينتقم منه؛ لأنه يدعي أن الله أرسله، فالله تعالى ينتقم منه (فعليه كذبه) أي: يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره إلينا. {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28]: إن كان صادقاً في أن الله عز وجل أرسله يصبكم بعض الذي يعدكم، وهو في الواقع يصيبهم جميع ما يعدهم به، ولكن هذا من باب المداراة، وحتى لا يظهر أنه متحامل عليهم، فقال: (يصبكم بعض الذي يعدكم به)، أي: إن تعرضتم له. فإن قيل: لم قال: الذي يعدكم، وهو نبي صادق لابد أن يصيبهم كل ما يعدهم به لا بعضه؟ A لأنه في مقاولة خصوم موسى ومناكريه إلى أن يحايلهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وتقديم الكاذب على الصادق أيضاً من هذا القبيل، قال: ((وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)). قال القاسمي: قال الناصر: ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا: قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27] حتى لا يظهر أنه متحيز ليوسف، وهم لا شك من بداية الأمر يرون أن القميص قد من دبر. يقول: إن كان قد من قبل فصدقت أنه هو الذي يريدها، وهي التي تمتنع منه، فقد قميصه من قبل، ولكن إذا كان هو يفر منها وهي تتبعه فتمسك قميصه من الخلف، أي: من دبر، فهذا أيضاً حتى يقبل قوله، وحتى لا يظهر أنه متحامل على امرأة العزيز. يقول: فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف، وهذا لا يضره؛ لأنه هو الصادق في الواقع؛ لرفع التهمة وإبعاد الظلم وإدلالاً بأن الحق معه، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة. وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة ما في قصة يوسف مع أخيه، إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، فلو بدأ بوعاء أخيه واستخرج منه صواع الملك لاتهم بأنه وضعه في وعاء أخيه، ولكن بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، كأنه لا يقصد أخاه، ولا يريد أن يحتجز أخاه، فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]: قال الشوكاني: وهو احتجاج آخر من وجهين: أحدهما: أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات وأيده بالمعجزات؛ لأن النبي إذا كان صادقاً فهو أصلح الصالحين، فيظهر عليه من العلامات ومن الدلائل من صدق الكلام ومن العفاف ما يدل على صدقه. وذلك كما قال حسان في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر يعني: الناظر إلى وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم يعتقد بأنه نبي صادق، فإذا كان الرجل محافظاً على الصلاة ويجتهد في الطاعة والعبادة تظهر عليه أنوار الطاعة والعبادة والإقبال على الله عز وجل، فكيف بالرسل الذين هم أفضل الأولياء. فليست المعجزات وحدها هي دلائل النبوات، بل الصدق والأمانة وحسن السيرة وشرف النسب وغير ذلك مما يدل على الصدق. ثانيها: أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] يعني: لا تشغلوا أنفسكم به فالله تعالى لا يهدي من هو مسرف كذاب، فلا حاجة لكم إلى قتله. والمسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب: المفتري.

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بنعم الله عليهم

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بنعم الله عليهم قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]. يعني: يذكرهم بأنهم الآن ظاهرون في الأرض، وهذا الظهور ظهور وقتي، ويذكر أيضاً بأن الدولة التي تحارب الدين يؤذن بزوالها. قال ابن كثير: يحذرهم أن يسلموا هذا الملك العزيز، فإنه ما تعرضت الدولة للدين إلا سلبوا ملكهم، فأي دولة تحارب شرع الله لابد أن تزول وأن تذل بعد عز، ولكن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) يعني: يعادي ولياً واحداً من أولياء الله، فالله تعالى يؤذنه -أي: يعلمه- أنه محارب له، فكيف إذا عادوا كل أولياء الله وكل الدعاة إلى الله عز وجل، وإذا حاربوا دين الله عز وجل جهاراً نهاراً لابد أن يزول ملكهم، وتزلزل عروشهم. يقول: وكذا وقع لآل فرعون، مازالوا في شك وريب ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به، حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور والنعمة والحبور، ثم حولوا البحر مهانين، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل سافلين، يعني: الأجسام بالغرق والأرواح بالحرق، نقلت الأرواح إلى النار، وأغرق الله الأجساد. ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق البر الراشد التابع للحق الناصح لقومه الكامل العقل: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ} [غافر:29] أي: عالين على الناس حاكمين عليهم. قال تعالى: {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] أي: لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة، والقوة والشدة لما نفعنا ذلك، ولا رد عنا بأس مالك الممالك. حين ضرب زلزال تركيا أسقط مائة ألف بيت معمور في أقل من دقيقة، فمن يستطيع أن يقف أمام بأس الله عز وجل، وأمام أخذه؟ لا يمكن أن يكون هناك من يدفع بأس الله عز وجل. وهذا قارون خسف به وبداره الأرض، وابتلعته الأرض بأمواله وخزائنه، فما وجد فئة تنصره من دون الله وما كان من المنتصرين.

رد فرعون على المؤمن وعتوه وكفرانه

رد فرعون على المؤمن وعتوه وكفرانه إن رد فرعون رد ساذج إذ يقول: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29] أي: ما أقول لكم إلا ما عندي، ليس عندي حجة ولا دليل ولا برهان ولا مقاومة الحجة بالحجة. {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] فهو يدعي مجرد ادعاء أنه على سبيل الحق والرشاد، وأنه يعتقد أنه ينصحهم به. يقول: وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين، فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة، وإنما كان يظهر خلافه بغياً وعدواناً وعتواً وكفراناً، كما قال تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]. فموسى يخبرهم أن فرعون يعلم تماماً أن الذي جاء به هو من عند الله. وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] أي: يعتقدون صدق موسى، ولكن لبغيهم وظلمهم لا ينقادون له، ولا يؤمنون بدعوته ولا يسلمون له. فهذه المقدمة الأولى لما قال: ((مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى)) وكذب في ذلك، وقال: ((وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)) وكذب في ذلك أيضاً، فإنه لم يكن على رشاد من الأمر، بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال، فكان أولاً ممن يعبد الأصنام والأمثال، ثم دعا الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه وصدقوه فيما زعم من الكفر والمحال في دعواه أنه رب العالمين، تعالى الله ذو الجلال.

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بهلاك الأمم السابقة وبيوم القيامة

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بهلاك الأمم السابقة وبيوم القيامة قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30]. قال الرازي -ما ملخصه-: واعلم أنه تعالى حكى عن هذا المؤمن أنواعاً من الكلمات ذكرها لفرعون: فالأول: قوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30]، والتقدير: مثل أيام الأحزاب، كما قلنا: أنه يأتي المفرد ويراد به الجمع كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54]، فهي في الواقع أنهار وليس نهراً واحداً. وقوله عز وجل: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31]، يقصد الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء. فالمفرد يأتي في لغة العرب ويراد به الجمع، فقوله هنا: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30] أي: مثل أيام الأحزاب، أو كل قوم لهم يوم، مثل أيام الأحزاب، قيل: إنه لما أضاف اليوم إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، فحينئذ ظهر أن كل حزب كان لهم يوم معين في البلاء، فاقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس. ثم فسر قوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30] بقوله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} [غافر:31] ودأب هؤلاء: دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، فيكون ذلك دأباً دائماً لا يفترون عنه، ولابد من حذف المضاف، يريد مثل جزاء دأبهم. والحاصل: أنه خوفهم بهلاك معجل في الدنيا، ثم خوفهم أيضاً بهلاك الآخرة، وهو قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33]، والمقصود منه: التنبيه على عذاب الآخرة. النوع الثاني من كلمات ذلك المؤمن: قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31] يعني: أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً؛ لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هاهنا، يعني: هؤلاء ما أهلكوا ظلماً، بل بما كسبت أيديهم، ولابد أنهم اقترفوا آثاماً أهلكهم الله عز وجل بها، وأنتم الآن تقترفون هذه الآثام فتعرضون أنفسكم أيضاً للهلاك. النوع الثالث من كلمات هذا المؤمن: قوله: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32]. فالتناد: تفاعل من النداء، يقال: تنادى القوم أي: نادى بعضهم بعضاً، وأجمع المفسرون على أن يوم التناد يوم القيامة، فمن أسماء يوم القيامة: يوم الزلزلة، الحاقة، الواقعة، القارعة، يوم الجمع، يوم التناد؛ لكثرة صفاته وكثرة أهواله، وهو يوم التناد لكثرة النداء فيه، وفي سبب تسميته بهذا الاسم وجوه: الأول: أن أهل النار ينادون أهل الجنة، وأهل الجنة ينادون أهل النار، كما في سورة الأعراف. الثاني: قال الزجاج: لا يبعد أن يكون السبب فيه قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]. الثالث: أنه ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والثبور، فيقولون: يا ويلنا. الرابع: ينادون إلى المحشر، أي: يدعون. الخامس: ينادي المؤمن: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] من فرحه بكتابه، والكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25]. السادس: ينادى باللعنة على الظالمين. السابع: يجاء بالموت على صورة كبش أملح، ثم يذبح، وينادى: يا أهل الجنة! لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، وأهل النار حزناً على حزنهم، فكل هذا مأخوذ من النداء. الثامن: قال أبو علي الفارسي: التنادي: مشتق من التناد من قولهم: ند فلان إذا هرب، فهذا تفسير آخر، وهو قراءة ابن عباس، فقال: يندون كما تند الإبل، ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34] فالتناد هنا: عندما يند الناس أو يفرون. ويفسره كذلك قوله تعالى بعد هذه الآية: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر:33]؛ لأنهم إذا سمعوا زفير الناس يندون هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. المسألة الثانية: انتصب قوله: يوم التناد وجهين: أحدهما: الظرف للخوف، كأنه خاف عليهم من ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب إن لم يؤمنوا، فيوم التناد يوم مفتوح لأنه ظرف. والآخر: أن يكون التقدير: إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد، وإذا كان كذلك كان انتصاب يوم التناد مفعولاً به. ثم قال: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر:33] هو بدل من قوله: (يوم التناد)، عن قتادة: منصرفين عن موقف الحساب إلى

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بيوسف وما جاءهم به من البينات

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بيوسف وما جاءهم به من البينات ذكر مؤمن آل فرعون قومه بيوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34]. قال ابن كثير: يعني: أهل مصر، قد بعث الله فيهم رسولاً من قبل موسى عليه الصلاة والسلام، وهو يوسف عليه الصلاة والسلام كان عزيز أهل مصر، وقيل: كان هو الملك، وبعضهم يقول: إن ملك مصر آمن بدعوة يوسف واختاره ملكاً من بعده، وبعضهم يقول: إنه لم يؤمن، ولكنه كان معجباً بحكمته وسياسته فاختاره من بعده، والدليل على ذلك: أنه رفع أبويه على العرش، والعرش: يكون للملك. وكان رسولاً يدعو إلى الله تعالى أمته القبط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي؛ ولهذا قال: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34]، أي: يئستم فقلتم طامعين: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34]؛ وذلك لكفرهم وتكذيبهم، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34] أي: كحالكم هذا يكون حال من يضللهم الله بإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه. ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]. قال الزجاج: هذا تفسير المسرف المرتاب، فالمسرف المرتاب الذي يجادل في آيات الله. قال المفسرون: يجادلون في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان، أي: بغير حجة أتتهم. (كبر مقتاً) أي: كبر جدالهم مقتاً عند الله، وعند الذين آمنوا، والمعنى: يمقتهم الله ويمقتهم المؤمنون بذلك الجدال الذي يردون به الآيات. (كذلك) أي: كما طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا وجادلوا بالباطل؛ يطبع على كل قلب متكبر عن عبادة الله وتوحيده.

طغيان فرعون وطلبه بلوغ أسباب السماوات

طغيان فرعون وطلبه بلوغ أسباب السماوات {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] يريد فرعون أن يبرر للناس أن ما يدعيه موسى من أن ربه فوق السماء، فهذه الآية تدل على الفوقية، إذ إن فرعون أراد من هامان أن يبني له برجاً عالياً يصعد عليه ليؤكد لقومه أنه ليس فوق السماء إله يعبد. قال ابن كثير: كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن الله أرسله، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه في قوله لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]. فبلغ من عتوه أنه يريد أن يبني أبراجاً وسلالم يصعد عليها ليؤكد لهم أنه ليس هناك إله أرسل موسى. قال: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ} [غافر:36 - 37] أي: طرقها ومسالكها {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:37]، هذا نوع من الكبر والغطرسة، ويحتمل هذا معنيين: أحدهما: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:37] في قوله: إن للعالم رباً غيري، أو في دعواه أن الله أرسله، والأول أشبه لظاهر حال فرعون، فإنه كان ينكر ظاهراً إثبات الصانع. والثاني أقرب إلى اللفظ حيث قال: فأطلع إلى إله موسى، أي: فأسأله عن إرساله موسى، -يعني: أرسله أم لا- ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)) يعني: في دعواه ذلك، وكأنه مقر بوجود إله، ولكنه يقول: لم يرسله، وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} [غافر:37] أي: الشرك والتكذيب، {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر:37] على ما لم يسم فاعله، أي: عن سبيل الحق. وفي قراءة (وصَدَّ عن السبيل)، فهو يصد صداً، أي: صد فرعون الناس عن السبيل. قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] أي: في خسران وضلال، ومنه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].

دعوة مؤمن آل فرعون قومه إلى اتباع الرشد وتذكيره لهم بحقارة الدنيا

دعوة مؤمن آل فرعون قومه إلى اتباع الرشد وتذكيره لهم بحقارة الدنيا قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38]. قال الزمخشري قال: (أهدكم سبيل الرشاد) فأجمل لهم، ثم فصل فافتتح بذم الدنيا، قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر:39] كأنه يريد أن يبين لهم سبيل الرشاد، وهو أن يعرفوا الدنيا على حقيقتها، وأن الدنيا متاعها متاع قليل، وأن الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون، وأن الإنسان عندما يعمل صالحاً يجازى بمثله، والذي يعمل صالحاً يدخل الجنة يرزق فيها بغير حساب. فأجمل سبيل الرشاد، ثم فصل فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها؛ لأن الإسناد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدي إلى سخط الله، ويجلب الشقاوة في العاقبة، وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منها؛ ليثبط عما يتلف، وينشط لما يدلف -يعني: يقرب- ثم وازن بين الدعوتين، دعوة إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوته إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وحذر وأنذر واجتهد في ذلك واحتشد، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين. فقال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] أي: بغير تقدير وموازنة للعمل، بل أضعاف مضاعفة، فضلاً منه تعالى ورحمة، فإنه مهما كان عمل الإنسان لا يوازي جنة الله عز وجل؛ لأن حياة الإنسان محدودة يعيش ستين سنة أو سبعين سنة أو مائة سنة، فتجد جزءاً من هذه الحياة في الطفولة، وجزءاً يشتركون فيه الناس في النوم والأكل والشرب، وتجد أعمال العاملين في خمسة عشر أو عشرين سنة تقريباً، فالذين يجتهدون في هذه المدة في الطاعة يدخلون الجنة، والذين يضيعون أعمالهم يدخلون النار. فهل الإنسان الذي يعمل عشرين سنة يجازى بخلود في نعيم مقيم، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت؟! فلا يقابل عمل الإنسان في الدنيا أبداً جنة الله عز وجل مهما كان عمله في سبيل الله. فالله تعالى يعطي المؤمن بغير حساب، أي: بغير تقدير وموازنة، بل أضعاف أضعاف فضلاً منه سبحانه.

تكرار الرجل المؤمن دعوة قومه إلى الله ووقاية الله له من سيئات مكرهم

تكرار الرجل المؤمن دعوة قومه إلى الله ووقاية الله له من سيئات مكرهم قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:41 - 42]. قال الشوكاني: كرر الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله، وصرح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة أنه منهم، وأنه إنما تصدى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى، كما يقوله الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه، فقال: {وَيَا قَوْمِ} [غافر:41] كما قال إبراهيم: {يَا أَبَتِ} [مريم:42]، قال: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41]: أخبروني عنكم كيف هذه الحال، أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك؟ قيل: معنى ((مَا لِي أَدْعُوكُمْ)): ما لكم أدعوكم، كما تقولون: ما لي أراك حزيناً، أي: مالك؟ ثم فسر الدعوتين، فقال: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} [غافر:42 - 43] أي: حق، ووجب بطلان دعوته، قال الزجاج: المعنى: ليس له استجابة دعوة تنفع، وقيل: ليس له دعوة توجب له الإلهية في الدنيا ولا في الآخرة. وقال الكلبي: ليس له شفاعة، (وأن مردنا) أي: مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت أولاً وبالبعث آخراً، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر. {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43]، أي: المستهترين بمعاصي الله. ثم قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. قال الشنقيطي رحمه الله ما ملخصه: التحقيق الذي لاشك فيه: أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه، وليس لموسى فيه دخل، يعني: هذا الكلام قاله مؤمن آل فرعون: ((فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ)) يعني: أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم، ويذكرون نصيحته، فيندمون حيث لا ينفع الندم، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا، كقوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:66 - 67]، يعني: سوف يرون الأشياء التي كذبوا بها لزيادة تبكيتهم وعذابهم، وقال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، وقال: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4 - 5] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45]. دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله وتفويض الأمور إليه؛ سبب للحفظ والوقاية من كل سوء، وقد جاء ذلك في آيات أخر، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: كافيه. وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173 - 174] فهذا جزاء التوكل، فالإنسان يتوكل ويفوض أمره إلى الله عز وجل، فإذا فعل ذلك فإن الله تعالى يكفيه ويدفع عنه. والظاهر: أن ما (مكروا) في قوله: (سيئات) مصدرية، أي: فوقاه الله سيئات مكرهم، أي: أضرار مكرهم وشدائده، والمكر يعني: الكيد. فلا شك أن فرعون يكيد به، يعني: من يقول مثل هذه المقالة الطويلة العظيمة، ويواجه بها أهل الباطل؛ لابد أنهم يكيدون به ويلفقون له التهم والقضايا، والمسلمون تلفق لهم قضايا بغير تهم، من أجل أن يزج بهم خلف الأسوار، أو تستباح دماؤهم، فكيف يقول هذه المقالة الطويلة العظيمة وينصر بها نصراً مؤزراً أمام فرعون ويمكرون به؟ فلا شك أنهم مكروا به، وإن كان القرآن لم يفصح لنا عن طبيعة هذا المكر، ولكن بين الله عز وجل أنه وقاه سيئات ما مكروا. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {

بعض ما يستفاد من قصة مؤمن آل فرعون

بعض ما يستفاد من قصة مؤمن آل فرعون لا شك أن ما قام به هذا الرجل المؤمن من آل فرعون من الإنكار على فرعون، ثم من دعوة فرعون وقومه إلى الإيمان بالواحد الديان، والكفر بالطواغيت والأوثان من أفضل الجهاد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد: كلمة عدل عند سلطان جائر)، وكان هذا أفضل الجهاد؛ لأن الجهاد تعريض للنفس للتلف، أو الجراح العظيمة، ولكن كلمة الحق عند سلطان جائر تعرض النفس أكثر للتلف، أو يغلب على الظن تلف النفس. ثبت أيضاً أن أبا بكر الصديق أفضل من هذا الرجل المؤمن، وله موقف مع النبي صلى الله عليه وسلم لما لبده أحد الكفار بردائه، فدفعه أبو بكر وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: (سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت عقبة بن أبي معيط -هو أشقى القوم- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28])، بل ثبت أن أبا بكر وعمر أفضل أولياء الله عز وجل بعد الأنبياء، كما في الحديث: (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين عدا الأنبياء والمرسلين). وكذلك استدل أهل السنة والجماعة بقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] على فوقية الله عز وجل على خلقه، فإنه عندما سئل موسى عن ربه قال: فوق السماء؛ فلذلك قال فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36]. فهذا يدل على عقيدة الفوقية والأدلة كثيرة على ذلك، كما في قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: فوق السماء؛ لأن (في) تأتي بمعنى (على)، كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]. فنحن لا نمشي داخل الأرض، لكن نمشي فوق الأرض، وأيضاً: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من على السماء أو فوق السماء. قال القاسمي في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]: المراد: عرض أرواحهم عليها دائماً، واكتفى بالطرفين المحيطين الغدو والعشي عن الجميع، وبه يستدل على عذاب القبر والبرزخ، وقانا الله عز وجل منه بمنه. قال السيوطي في العجائب للكرماني: في هذا الآية أدل الدليل على عذاب القبر؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، يعني: قوله تعالى: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)) أي: هذا العرض ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة يقال لهم: ((أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) وهو عذاب جهنم؛ لأنه جزاء شدة كفرهم، فهم في عذاب أدنى وفي عذاب أكبر، والعذاب الأدنى في البرزخ وفي الدنيا، والعذاب الأكبر يوم القيامة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.

قصة مؤمن آل ياسين

قصة مؤمن آل ياسين قصة مؤمن آل ياسين تمثل نبراساً للدعاة في كيفية الصبر على الدعوة، وتحمل المشاق من أجل نجاحها وإيصالها إلى الناس، حتى وإن كان الثمن التضحية بالنفس، فمؤمن آل ياسين ضحى بنفسه من أجل الدعوة، ولم يكتف بدعوة قومه حياً، بل تمنى هدايتهم بعد قتلهم إياه.

بين يدي القصة

بين يدي القصة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فما زلنا في هذه الرحلة المباركة مع القصص القرآني، ونحن مع قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، كما في سورة يس، قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [يس:13 - 30]. بين يدي القصة: هذه القصة مثل من أمثلة الدعوة إلى الله عز وجل، وقد استفرغ الدعاة إلى الله عز وجل جهدهم في البلاغ والنصيحة والتضحية من أجل هداية قومهم، وكان القوم غاية في الغباوة والكفر والتكذيب، فلم ينفعهم نصح الناصحين ووعظ الواعظين، وإن كانت عاقبة المؤمنين والمكذبين قد تتشابه في النظر القاصر على الدنيا الجاحد للآخرة، إلا أن الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً، ويستوي في علمه السر والعلانية والغيب والشهادة؛ بين لنا كيف أن المؤمن ما هي إلا لحظة القتل، والشهيد لا يذوق من مس القتل إلا كما يذوق من مس القرصة. يعني: كما أن الكافر أو المجرم أو الذي يصد عن سبيل الله قد يقتل أو يموت، فكذلك المؤمن قد يموت في الدعوة أو في الجهاد، ولكن يبقى حساب آخر، وهو حساب الآخرة، وحتى القتل بالنسبة للمؤمن كما صح في الحديث: (أن الشهيد لا يذوق من مس القتل إلا كما يذوق من مس القرصة)، الناس يظنون أن الذي يموت على فراشه وبين زوجته وأولاده يموت مستريحاً، كأنه لا يجد من سكرات الموت إلا الشيء اليسير، والذي يقطع في ساحة الوغى ويقتل في سبيل الله عز وجل هذا تكون سكرات الموت بالنسبة له شديدة؛ أن يقطع بالسيف مثلاً أو يتفجر فيصير قطعاً صغيرة، ولكن في الواقع أن الذي يموت على السرير هو الذي يجد الآلام الشديدة، كما كان علي بن أبي طالب يحرض على القتال، ويقول: قاتلوا، فإنكم إن لم تقتلوا متم على الفرش، فوالذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش. فليس هناك سبيل للنجاة من سكرات الموت، إلا أن يرزق الإنسان منا الشهادة، نسأل الله تعالى الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين. ثم درجة الشهادة عند الله عز وجل ومنزلة الشهداء عند الله عز وجل كما صح في الحديث: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه). فقصة مؤمن آل ياسين أو قصة أصحاب القرية تحكي لنا قصة الدعوة إلى الله عز وجل، والداعية إلى الله عز وجل ليس عليه هداية المدعوين؛ لأن الله عز وجل يقول لنبيه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]، مع أنه سيد المرسلين وخاتمهم. إذاً: فليس على الداعية هداية الناس، ولكن عليه البلاغ المبين والإخلاص في الدعوة،

ذكر إرسال الرسل إلى أصحاب القرية وموقفهم منهم

ذكر إرسال الرسل إلى أصحاب القرية وموقفهم منهم نشرع في شرح الآيات الكريمات من سورة يس، يقول تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس:13]، قال الشوكاني: واضرب لأجلهم مثلاً، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً، أي: مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية، فعلى الأول لما قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:3]، وقال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا} [القصص:46] قال: قل لهم: ما أنا بدعاً من الرسل، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون، وأنذروهم بما أنذرتكم، وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة، وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اضرب لنفسك ولقومك مثلاً. أي: مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية، حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا، وصبر الرسل على الإيذاء، وأنت جئت إليهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية، وأنت بعثتك إلى الناس كافة، والمعنى: واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية، أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، فترك المثل وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب. قال القرطبي: هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين، وسوف يأتي ما في هذا القول إن شاء الله تعالى. قوله: ((إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ))، قيل: هم رسل من الله على الابتداء، وقد كان في الأمم السابقة يوجد فيهم أكثر من رسول في وقت واحد ولأكثر من مكان، فلا يستبعد أن يكون هؤلاء الرسل من الله. والقول الثاني: أن عيسى عليه السلام هو الذي أرسلهم، فهم دعاة إلى لله عز وجل أرسلهم عيسى إلى هذه القرية. قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14]، قال ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: ((إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا)) أي: بادروهما بالتكذيب، ((فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ)) أي: قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث، ((فَقَالُوا))، أي: لأهل تلك القرية ((إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)) أي: من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له قاله أبو العالية. وزعم قتادة أنهم كانوا رسل المسيح عليه السلام إلى أهل أنطاكية. {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس:15] أي: فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لم يوح إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة، وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله عز وجل في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6] أي: استعجبوا من ذلك وأنكروه، فهم يظنون أن الله عز وجل إذا أراد أن يرسل إليهم، يرسل إليهم ملائكة لا يرسل إليهم البشر. وقوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم:10]، وقوله تعالى حكاية عنهم: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:34]، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:94]، فالناس تتعجب لماذا يرسل بشراً؟ لماذا لا يرسل ملائكة؟ قوله تعالى: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:16 - 17]. قال الزمخشري: وقول: ((رَبُّنَا يَعْلَمُ)) جار مجرى القسم في التوكيد، وكذلك قوله: (شهد الله)، و (علم الله)، وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق، مع قولهم: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي: الظاهر المكشوف للآيات الشاهدة على صحته، وإلا فلو قال المدعي: والله إني لصادق فيما أدعي ولم يحضر البينة كان قبيحاً. {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس:18]، (تطيرنا) يعني: تشاءمنا، يقول: وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا: ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:131]، يعني: كلما تأتيهم مصيبة يقولون: هذا بشؤمه

موقف مؤمن آل ياسين من الرسل ومن قومه

موقف مؤمن آل ياسين من الرسل ومن قومه قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21]، فدائماً القرآن يصف الإنسان بأنه رجل في مواقف يستحق فيها اسم الرجولة، وليس المقصود برجل يعني: ذكر، ولكن المقصود أنه رجل كامل الرجولة، له مواقف تدل على كمال رجولته كما هنا، وكما في قصة موسى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20]. وكذلك قوله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، وقوله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:36 - 37].

كلام الرازي عن قصة مؤمن آل ياسين وقومه مع الرسل

كلام الرازي عن قصة مؤمن آل ياسين وقومه مع الرسل قال الرازي ما ملخصه: ثم قال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان: أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي. يعني: هذا يدل على أن المرسلين قاموا بدعوة أصحاب القرية، فكذبهم أصحاب القرية إلا أن أناساً منهم آمنوا منهم، ومنهم هذا الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة، يقول: وفيه بلاغة باهرة، وذلك لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل قد آمن فهذا يدل على أن إنذارهم ودعوتهم قد انتشرت إلى أقصى المدينة، حتى بلغ من هو في أقصى المدينة دعوتهم وآمن بها. وثانيها: أن ضرب المثل لسعي المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا، وحصول الجزاء الأوفى لهم، ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كما أن ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم، فكون هذا الرجل آمن بالرسل فهذا تسلية للصحابة الذين آمنوا بدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي التفسير مسائل: المسألة الأولى: قوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} [يس:20] في تنكير الرجل مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان: الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه، أي: أنه رجل كامل الرجولة، يعني: كان من الممكن أن يذكر الله عز وجل اسمه، ولكن كنى عنه وقال: رجل، فنكر الرجل للتعظيم. الثانية: أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال: إنهم تواطئوا. وقوله: {يَسْعَى} [يس:20] يعني: فيه تبصرة للمؤمنين وهداية لهم؛ ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، فهذا الرجل كان يبذل الجهد ويسعى ويتحرك، وجاء من أجل أن يأمر الناس باتباع المرسلين، مع أن الناس كانوا في غاية الغباء والعصبية، فقد كانوا يهددون الرسل ويقولون: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18]، فرغم هذا التهديد، فإن هذا الرجل المؤمن جهر بالحق ودعاهم إلى الإيمان بدعوة الرسل. وقوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20] فيه معان لطيفة: الأول: قوله: {يَا قَوْمِ} [يس:20] فإنه ينبئ عن إشفاق عليهم، كما قال إبراهيم: {يَا أَبَتِ} [مريم:44] فهذا يدلنا على الشفقة، فهو ينصح قومه، وفي الغالب أن الإنسان يكون ناصحاً مخلصاً لقومه، فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله: {يَا قَوْمِ} [يس:20] يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيراً، وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} [غافر:38]، فإن قيل: قال هذا الرجل: ((اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ))، وقال ذلك: ((اتَّبِعُونِ)) فما الفرق؟ نقول: هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل، وأوضحوا لكم السبيل؛ لأنهم قد عرفوا الرسل، أما مؤمن آل فرعون فكان معروفاً قبل ذلك لديهم، فقال: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38]، فقد كان فيهم واتبع موسى ونصحهم مراراً، فقال: اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي، وأنتم تعلمون أني اخترته، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى أن يقول: أنتم تعلمون اتباعي لهم؛ لأنه أتى من أقصى المدينة ما يعرفونه، فقال: ((اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)). الثاني: جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه، فقوله: ((اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ))، أي: أنه آمن بأنهم مرسلون. الثالث: قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان؛ لأنه كان ساعياً في النصح، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل، وقوله: ((رَجُلٌ يَسْعَى)) يدل على كونه مريداً للنصح. ثم قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21]، فالداعية إذا كان لا يسأل أجراً ولا يأخذ على دعوته أجراً فهو أقرب إلى الإخلاص، وهذه سنة الرسل؛ لا يسألون الناس على الهداية أو على دعوتهم إلى الله عز وجل أجراً. يقول: وهذا في غاية الحسن؛ وذلك من حيث إنه لما قال: ((اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)) كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة، وقال: لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة، والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه، والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين: إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة، يعني: لو أن أناساً تاهوا في طريق أو في صحراء، وشخص أراد أن يدلهم على الطريق يمكن أن يأخذ أجراً فيه مغالاة، فيرفضون هدايته؛ لأنه طلب أجراً فيه مغالاة. وإما أن يكون على غير معرفة بالطريق الموصلة، فيحصل عدم الاعتماد على اهتدائه لعدم معرفته بالطريق لكن هؤلاء المرسلون لا يطلبون أجرة وهم مهتدون، يعني: هم عالمون بالطريق

كلام القاسمي عن قصة مؤمن آل ياسين مع قومه

كلام القاسمي عن قصة مؤمن آل ياسين مع قومه قال هذا الرجل المؤمن: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:22 - 23]. قال القاسمي: قوله: ((وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي)) أي: خلقني، وهذا تلطف في الإرشاد، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح، يعني: إخلاص النصيحة، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه، والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيرهم، فيقول: ((وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي)) كأنه يقول لهم: أنتم لماذا تعرضون عن عبادة الله وهو الذي خلقكم، ولكن أضاف ذلك إلى نفسه على سبيل التلطف بهم، فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بعد الموت، ((أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)) فأضرع إليها وأعبدها وهي في المهانة والحقارة بحيث: ((إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ)) أي: من ذلك الدون بالنصر والمظاهرة، وفيه تحميس لهم؛ لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق فكيف يعبد؟! ثم قال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:25 - 26]، يريد فاسمعوا قولي وأطيعوني فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا على عبادته عبادة أشياء، إن أرادكم هو بضر وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم، يعني: أنتم تصرفون العبادة إلى هذه الآلهة الباطلة، والله تعالى إن أراد أن ينزل بكم بأساً أو ضراً وعذاباً لا تستطيع أن تشفع لكم عند الله عز وجل. ثم يقول: ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده، ولم يقدروا على إنقاذكم منه بوجه من الوجوه، إنكم لفي هذا الاستحباب في ضلال ظاهر بين لا يخفى على ذي عقل وتمييز، وقيل: إنه نصح قومه وأخذوا يرجمونه. والقرآن يكون فيه حذف واختصار أشياء تفهم من السياق، وليس فيه كثير كلام أو حواش أو أشياء يمكن أن يحتاج إليها، بل أشياء مجملة يمكن أن تفهم من خلال السياق؛ لأنه قال هنا: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:25 - 26]، فلم يقل: فقتلوه أو فرجموه، ولكن يظهر من دخوله الجنة أنه قتل، وأن هؤلاء الكفار قد حققوا معه ما تهددوا به الرسل: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18]، فهو في لحظات بعد البذل والجهد في الدعوة وما لاقى من التهديد والإرهاب والتخويف بالسجن والقتل والتعذيب انتقل إلى كرامة الله عز وجل. كما في القصة السابقة قصة قارون بعد الزينة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، في لحظات: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، وانتهت الزينة وانتهى الزخرف وانتهت الأموال والمناصب والجاه، وصار تحت الأرض هو وأمواله وزينته. فهكذا الأمور تنتقل انتقالة سريعة من الدنيا إلى الآخرة. فالداعية إلى الله عز وجل أو المجاهد في سبيل الله في لحظة ينتقل من الجهد والمشقة والبذل إلى الكرامة والنعيم وإلى رحمة الله، والكافر والمجرم والفاسق والمعرض فما هي إلا لحظات وينتقل من زينة الدنيا وزخرفها إلى بأس الله وعذابه.

حرص مؤمن آل ياسين على هداية قومه حتى بعد موته

حرص مؤمن آل ياسين على هداية قومه حتى بعد موته إن مؤمن آل ياسين أسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال لهم: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25]، أي: اسمعوا إيماني فاشهدوا لي به، {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. قال ابن كثير: قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً، لا تلقاه غاشاً؛ لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى، قال: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، فكان حرصه وهمه أيضاً في الدعوة، حتى لما قتل تمنى أنهم يرون أي كرامة حتى يؤمنوا، تمنى أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله. قال ابن عباس: نصح قومه في حياته، بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20] وبعد مماته، بقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] رواه ابن أبي حاتم. وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بالإيمان بربي وتصديق المرسلين. والمقصود أنهم لو اطلعوا على ما حصل له من الثواب والجزاء والنعيم المقيم لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فقد كان حريصاً على هداية قومه.

ذكر ما حصل لقوم مؤمن آل ياسين من العذاب

ذكر ما حصل لقوم مؤمن آل ياسين من العذاب قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28 - 29]. فالله عز وجل الذي يرى الدنيا والآخرة ويرى الظاهر والباطن، فحكى لنا كيف انتقل مؤمن آل ياسين إلى الكرامة وعاينها، وكيف سجل لنا كلمته عندما عاين كرامة الله، وقال: ((يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ))، فسجل لنا كذلك في هذه القصة ما حدث في الدنيا لهؤلاء المكذبين الذين رجموا هذا المؤمن أو قتلوه، وكيف أن الله عز وجل أرسل عليهم صيحة أخمدتهم، فهذا في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الآخرة. قال الزمخشري ما ملخصه: المعنى أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم ينزل لإهلاكهم جنداً من السماء كما فعل يوم بدر والخندق. يعني: يقدر الله عز وجل أن يرسل جبريل فيصيح في الكفار يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق فيهلكهم، ولكن أراد أن يكون النصر في المعركة التي حصل فيها الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، وأن تكون الملائكة على سبيل المدد الذي يأتي الجيوش، حتى ينسب النصر إليهم والبذل لهم، ولكن هؤلاء أرسل الله عز وجل عليهم جبريل فصاح فيهم صيحة. فهذا يدل على ضعف الباطل وهوان الباطل، والآن كثير من الناس يهولون الأمريكان والروس والشيوعيين والمنافقين واليهود والنصارى، ويقولون: كيف ينتصر عليهم المسلمون، والمسلمون في القلة والذلة والضعف؟ نقول: هذا من الجهل بالله عز وجل، فالله تعالى قادر على إهلاكهم في لحظة واحدة وبصيحة واحدة من جبريل وهو ملك من ملائكة الله عز وجل، ولكن كيف يكون البذل، وكيف تكون التضحية، وكيف يكون الجهاد، وكيف يتخذ الله عز وجل شهداء، فالله تعالى قادر على الانتصار منهم قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، والله عز وجل قادر على هداية كل الناس؛ اليهود والنصارى والشيوعيين والعلمانيين؛ لأنه يملك قلوبهم كما يملك نواصيهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، ولكن كيف تكون الدعوة، وكيف يكون البذل، وكيف تكون الخطب والمحاضرات والدروس والأشرطة والكتب. فالله عز وجل يريد من الدعاة أن يبذلوا، فيفتح الله عز وجل لهم القلوب، فينالون الأجر من عند الله عز وجل. إذاً: فالله تعالى قادر على الكافرين والمكذبين، كما قال: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ} [يس:28]، يعني: لم يكن الأمر يستدعي أن تنزل جيوش مجيشة من السماء إلى هؤلاء الكفرة، ولكن صيحة واحدة تكفي في إخمادهم، قال تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:29]. يقولون: إن مؤمن آل ياسين اسمه أنه حبيب النجار، ولكن نهجنا الذي انتهجناه في هذه القصص أننا لا نذكر أسماء أو زيادات لم ترد في الكتاب أو السنة الصحيحة، فلم يرد في القرآن ولا في السنة الصحيحة أن اسم مؤمن آل ياسين حبيب النجار، والغالب أن هذا مأخوذ من الإسرائيليات، ولو كان في ذكر اسمه فائدة لذكر الله عز وجل اسمه، ولكن هذا لا يفيدنا بشيء ولا ينتفع بمعرفة اسمه بشيء، فهو مؤمن ثبت ودعا الله عز جل ونال الشهادة بسبب هذه الدعوة، كما أن مؤمن آل فرعون كذلك قام مقاماً حسناً، ودعا إلى الله عز وجل ونصر موسى نصراً مؤزراً، ووقف في وجه فرعون، ودعا إلى الله عز وجل، ولم نعرف اسم هذا المؤمن، ويكفي أن الله عز وجل يعلمه، والله تعالى ذكر قصته ومقالته في كتابه، يكفيه ذلك شرفاً وفخراً، مع ما له في الدار الآخرة من الجزاء الحسن. فقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} [يس:28] معناه: ما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء؛ وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، يعني: الله عز وجل أهلك المكذبين بوسائل مختلفة من أنواع العذاب، منهم من أرسل عليه حاصباً من السماء، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أمر الأرض أن تبتلعه، ومنهم من أغرقه في اليم. وإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]، وقال: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأ

كلام الرازي في معنى قوله تعالى (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول)

كلام الرازي في معنى قوله تعالى (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول) قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [يس:30]، قال الرازي: ثم قال تعالى: ((يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ)) أي: هذا وقت الحسرة، فاحضري يا حسرة، والتنكير للتكثير، يا حسرة كثيرة، يعني: على العباد. فيه مسائل: المسألة الأولى: الألف واللام في (العباد) يحتمل وجهين: ((يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ)). أحدهما: للمعهود الذين أخذتهم الصيحة، فيا حسرة على أولئك، فالألف واللام للمعهود، يعني: العباد الذين أخبر الله عز وجل عنهم بأنهم كذبوا الرسل وأهلكهم الله عز وجل. وثانيها: لتعريف الجنس، جنس الكفار المكذبين، فقال: المكذبين للتعريف، كأنه قال: العباد المكذبين. المسألة الثالثة: من المتحسر؟ نقول فيه وجوه: الأول: لا متحسر أصلاً في الحقيقة؛ إذ المقصود بيان أن ذلك وقف طلب الحسرة، حيث تحققت الندامة عند تحقق العذاب. الثاني: أن قائل: يا حسرة هو الله على الاستعارة؛ تعظيماً للأمر وتهويلاً له. الثالث: المتلهفون من المسلمين والملائكة، يعني: من المؤمنين والملائكة يقولون: يا حسرة على العباد إلى أن قال رحمه الله: ثم بين تعالى سبب الحسرة بقولهم: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر:11]، وهذا سبب الندامة؛ وذلك لأن من جاءه ملك من بادية، وأعرفه نفسه، وطلب منه أمراً هيناً فكذبه ولم يجبه إلى ما دعاه، ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك، يكون عند ذلك من الندامة ما لا مزيد عليه. يعني: لأنه لم يفعل هذا الأمر الهين الذي لو فعله لاستحق الجائزة، وكذلك هو متعرض للعقوبة؛ لأنه لم يفعل ما أمره به الملك فكيف تكون الحسرة في هذا الشرع. ثم يقول: فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم، بإعزاز الله إياهم وجعلهم نوابه، كما قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فهؤلاء جاءوا وعرفوا بأنفسهم ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس، ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند الله لهم، وكان ما يدعون إليه أمراً هيناً نفعه عائد إليهم من عبادة الله، وما كانوا يسألون عليه أجراً، فعند ذلك تكون الندامة الشديدة، وكيف لا وهم لم يقتنعوا بالإعراض حتى آذوا واستهزءوا واستخفوا واستهانوا

ذكر الفوائد والآثار الإيمانية من قصة مؤمن آل ياسين

ذكر الفوائد والآثار الإيمانية من قصة مؤمن آل ياسين بعض الفوائد والآثار الإيمانية في القصة: يقول ابن كثير: قد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره، وفي ذلك نظر من وجوه: أحدها: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:14]. وهذا القول يجب والمصير إليه حتى يدل الدليل على أن الظاهر غير مراد، فالظاهر أن الله عز وجل هو الذي أرسلهم: {إِذْ أَرْسَلْنَا} [يس:14]، {فَعَزَّزْنَا} [يس:14]، فلم يكن المسيح هو الذي أرسلهم، لأن ظاهر القرآن خلاف ذلك. إلى أن قالوا: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:16 - 17]، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، والله تعالى أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس:15]؛ لأن هذا الإطلاق يكون على الرسل الذين من عند الله، فلو أن المسيح أرسلهم لكان من الطبيعي أن يرسل بشراً، يعني: لا يستطيع المسيح أن يرسل ملائكة، فكلهم يعتقد على أنهم بشر فهذا يدل على أنهم كانوا رسلاً من الله عز وجل، ولكنهم كذبوا كما كذب كثير من الناس بالرسل؛ لأنهم بشر وليسوا بملائكة. الثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانت أول مدينة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية، وذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم. الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف: أن الله تبارك وتعالى بعد إنزال التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص:43]. فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية كما أطلق ذلك غير واحد من السلف. أيضاً: أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت؛ لأنه تكون مدن كثيرة بنفس الاسم كما أن اسم الإسكندرية يطلق على أكثر من مدينة، وأيضاً حلوان، يعني: هناك أكثر من مدينة بهذا الاسم. فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. يقول القرطبي في قوله تعالى: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، يقول في معنى تمنيه قولان: أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. والثاني: تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله. قال ابن عباس: نصح قومه حياً وميتاً، وفي هذه آية تنبيه عظيم ودلالة على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبدة أصنام. يعني: كان هؤلاء كفرة وعبدة أصنام وقتلوه ومع ذلك تمنى لهم الخير، فهذا غاية الإحسان، فالإنسان يحسن إلى من أساء إليه. قال الرازي في قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]: ولما قال: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21]، بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القيوم، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع. وفيه لطائف أخرى: قوله: ((وَمَا لِيَ)) أي: وما لي مانع من جانبي، إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع، ولا مانع من جانبي فلا جرم عبدته، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال فيه حكمة أخرى. لطيفة ثانية: وهي أنه لو قال: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، لم يكن في البيان مثل قوله: ((وَمَا لِيَ))؛ لأنه لما قال: ((وما لي لا أعبد))، وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد؛ لأنه أعلم بحال نفسه، فهو يبين عدم المانع، وأما

وصف سيد قطب لخاتمة قصة مؤمن آل ياسين

وصف سيد قطب لخاتمة قصة مؤمن آل ياسين قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله في وصف خاتمة القصة: يوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه، وإن كان لا يذكر شيئاً من هذا صراحة، وإنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها، وعلى القوم وما هم فيه، ويرفع قدر هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق متبعاً صوت الفطرة، وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل، نراه في العالم الآخر يطلع على ما ادخر الله له من كرامة تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. ثم يقول: وتتصل الحياة الدنيا بحياة الآخرة، ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة، ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق، ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين، ونرى الرجل المؤمن وقد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة، يذكر قومه طيب القلب رضي النفس، يتمنى لو يراه قومه فيرون ما آتاه ربه من الكرامة؛ ليعرفوا الحق معرفة اليقين. هذا كان جزاء الإيمان. فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليهم ملائكة لتدمرهم، {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28 - 29]. ولا نطيل هنا في وصف مصرع القوم تهويناً لشأنهم وتحقيراً لقدرهم، فما كانت إلا صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم. وهكذا أيضاً كان سيد قطب رحمه الله، فبعد السجن وبعد الضرب والتعذيب انتقل إلى ربه، ونسأل الله تعالى أن يكون شهيداً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كيف تتقي الله؟

كيف تتقي الله؟ تقوى الله غاية مطلوبة، ومنقبة للأولياء مكتوبة، وعن المحرومين من ذوي الغفلة محجوبة، ولا سبيل للعبد إليها إلا ببذل الأسباب الموصلة إليها، كمحبة الله الغالبة على قلب العبد، ودوام مراقبة الرقيب، والاتعاظ بالنكال والآلام وعاقبة السوء للشرور والفجور والآثام، ومعرفة كيد الشيطان للإنسان واتخاذه عدواً، ثم تعويد النفس على التقى بمخالفة الهوى وتذكيرها بعظمة الله جل جلاله، وتهديدها بكشف الله ستره عن عبده وفضيحته بين الخليقة.

أسباب تقوى الله عز وجل

أسباب تقوى الله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: كيف تتقي الله عز وجل؟ هذا باب شريف، وقصر منيف، لا تدخل فيه إلا النفوس الأبية، التي لا ترضى بالدون، ولا تبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون. والمؤمن إذا رغب في الخير رغب، وإذا خوف من الشر هرب، ولا خير في من إذا أمر لا يأتمر، وإذا زجر لا ينزجر. فكيف نصل إلى تقوى الله عز وجل بعد أن عرفنا شرف التقوى؟ هناك خمسة أسباب توصل بإذن الله تعالى إلى تقوى الله عز وجل. السبب الأول: محبة الله عز وجل تغلب على قلب العبد فيدع لها كل محبوب، ويضحي في سبيلها بكل مرغوب. السبب الثاني: أن يستشعر العبد مراقبة الله عز وجل، وأن يحس باطلاع الله عز وجل على قلبه. السبب الثالث: أن يدرس ما في سبيل المعاصي والآثام من الشرور والآلام. السبب الرابع: أن تتدرب كيف تخالف هواك وتطيع مولاك. السبب الخامس: أن تدرس مكائد الشيطان ومصائده، وأن تحذر من وساوسه ودسائسه.

محبة الله عز وجل

محبة الله عز وجل السبب الأول: هو محبة الله عز وجل، وإن كانت المحبة غاية، إلا أن العبد إذا وصل إلى محبة الله عز وجل، فلا شك أن هذا يدفعه إلى تقوى الله عز وجل ومراقبته. فما هي الأسباب الموصلة إلى محبة الله عز وجل؟ من ذلك: معرفة أسماء الله عز وجل وصفاته، وتقلب القلب في رياض معانيها؛ فإن العبد إذا عرف ربه عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وإلهيته وربوبيته؛ فإنه لا شك يزداد حباً لله عز وجل، فأعرف الناس لله عز وجل أكثرهم حباً له، وأكثرهم خشية منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية). ومن ذلك: أن يتدبر العبد نِعم الله عز وجل عليه، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فمهما تدبر العبد نعم الله عز وجل عليه فإنه لا شك يزداد حباً لله عز وجل، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. ومن ذلك: الخلوة بالله عز وجل في وقت الإذن العام والنزول الإلهي: (في ثلث الليل الآخر ينزل ربنا جل وعز إلى سماء الدنيا يقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فاغفر له؟). فالخلوة بالله عز وجل في هذا الوقت مما يزيد العبد حباً لله عز وجل ومراقبة له. ومن ذلك: قراءة القرآن مع التدبر والتفكر في معانيه، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. أيضاً من أسباب محبة الله عز وجل: التفكر في مخلوقات الله عز وجل فإن معرفة عظمة المخلوق يدل كذلك على عظمة الخالق عز وجل. ومن ذلك: كثرة النوافل بعد استكمال الفرائض، كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). ومن ذلك: تقديم محابه على محابك عند غلبة الهوى. ومن ذلك: أن يترك العبد كل سبب يحول بينه وبين محبة الله عز وجل. ومن ذلك: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب كلامهم، فإذا أردت أن تحب أحداً فجالس من يحبه، فإنه يذكر لك من صفاته ومن أياديه ما يدعو قلبك إلى محبته. فهذه جملة أسباب تعين على زيادة محبة الله عز وجل.

استشعار العبد قرب الله عز وجل منه ومراقبته إياه

استشعار العبد قرب الله عز وجل منه ومراقبته إياه السبب الثاني مما يوصل إلى تقوى الله عز وجل: أن يستشعر العبد قرب الله عز وجل منه، ومراقبته لأقواله وأفعاله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، فاستشعار مراقبة الله عز وجل مما يدعو القلب إلى الخوف من الله عز وجل. وقد ضرب العلماء لآيات المعية مثلاً حتى يكون كالمحسوس، قالوا: هب أن ملكاً سفاكاً قتالاً، وسيافه قائم على رأسه، والسيف مرفوع يقطر دماً، والنطع مبسوط، وهذا الملك أمامه بناته وجواريه، فهل يهم أحد بريبة تجاه بنات الملك وجواريه والملك ناظر إليه؟ يقول: لا شك أن الله عز وجل أعظم من هذا الملك، وأشد بطشاً، وأكثر غيرة من هذا الملك على نسائه وبناته، وهو سبحانه عليم بما في الصدور، فينبغي للعبد أن يتقي محارم الله عز وجل.

معرفة ما في سبيل المعاصي والآثام من الشرور والآلام

معرفة ما في سبيل المعاصي والآثام من الشرور والآلام السبب الثالث مما يوصل إلى تقوى الله عز وجل: معرفة ما في سبيل المعاصي والآثام من الشرور والآلام، فسبيل المعاصي كله شرور وآلام وأحزان في الدنيا قبل الآخرة، بل ليس في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى الدنيا دار الشرور والآلام والمصائب؟ وما الذي مقت إبليس ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه، وجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبدل بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجنة ناراً تلظى، فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وصار قواداً لكل فاسق وظالم ومجرم، رضي لنفسه بتلك القيادة بعد تلك العبادة والسيادة؟ فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك. وما الذي أغرق قوم نوح حتى علا الماء رءوس الجبال؟ وما الذي أهلك عاداً بالريح العقيم: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]. وما الذي أرسل على ثمود الصيحة فقطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب، فلما صار السحاب فوق رءوسهم أمطرهم ناراً تلظى؟ وما الذي حمل قرى اللوطية إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، ثم أمطرهم حجارة من سجيل منضود {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:34]، ولإخوانهم أمثالها {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]؟ وما الذي أرسل على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد، فقتلوا الرجال وسبوا النساء والذرية، وتبروا ما علوا تتبيراً؟ وما الذي أغرق فرعون وجنوده، ثم أرسلت أرواحهم إلى النار، فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح ودمرها تدميراً؟ كل ذلك بسبب الذنوب والمعاصي تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار وكم من معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فيا سوأتا والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا فإذا تدبر العبد الشرور والآلام التي تترتب على الذنوب والمعاصي في الدنيا قبل الآخرة، لا شك أنه سوف يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على معصية الله عز وجل، وعلى خلاف تقوى الله عز وجل.

التدرب على كيفية مخالفة الهوى وطاعة المولى عز وجل

التدرب على كيفية مخالفة الهوى وطاعة المولى عز وجل السبب الرابع مما يوصل إلى تقوى الله عز وجل: أن تتدرب كيف تخالف هواك وتطيع مولاك؟ قال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: إذا دعتك نفسك إلى معصية الله عز وجل فذكرها بالله عز وجل، فإذا لم تنزجر فذكرها بمروءة الرجال؛ لأن المعاصي تخالف المروءة. كما قال عنترة: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها وعنترة شاعر جاهلي لم يسمع قول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، ولكنه علم بفطرته أن إطلاق البصر خلاف المروءة. فيقول: إذا دعتك نفسك إلى معصية الله عز وجل فذكرها بالله؛ فإن الله عز وجل أهل لأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر؛ فإن أبت فذكرها بأخلاق الرجال، فإن أبت فذكرها بالفضيحة، كيف إذا علم الناس به -وهو مستور الحال- أنه يقع في هذا الذنب. يقول: فإن أبت فاعلم أنك انقلبت الساعة إلى حيوان. أي: لا تستحق أن تكون إنساناً متقياً، ولا تستحق أن تكون مجرد إنسان عنده مروءة وإن لم يكن عنده دين، واعلم أنك انقلبت الساعة إلى حيوان. يقول ابن القيم كلاماً أقيم وأنفس من ذلك، يقول: ملاك الأمر كله في محبة الله عز وجل والشوق إليه وإرادة وجهه الكريم، فإن لم تكن لك همة عاليه تدعوك إلى ذلك فتذكر ما في الجنة من نعيم مقيم للأبرار، وأن من شرب الخمر في الدنيا لن يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير في الدنيا لن يلبسه في الآخرة، فإن لم تكن لك همة تدعوك إلى ذلك، فتذكر ما في النار من الجحيم ومن الأغلال ومن الحميم. يقول: فإن لم تكن لك همة تدعوك إلى ذلك فاعلم أنك خلقت للجحيم لا للنعيم، والعياذ بالله. فينبغي للعبد أن يتدرب على كيفية مخالفة هواه، وأن يسأل نسفه: لماذا يغلبه الشيطان دائماً ويقع في معصية الله عز وجل؟ ولماذا لا ينتصر هو على الشيطان، ويفعل ما يتقي به ربه عز وجل، ويفعل ما يحبه الله عز وجل؟ والله تعالى جعل للعبد سبيلين اثنين لا ثالث لهما، إما أن يكون متبعاً لشرع الله عز وجل، وإما أن يكون متبعاً للهوى، فقال عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وجعل الله عز وجل اتباع الهوى هو سبيل الوصول إلى النار، فقال عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41]. والهوى كما قال العلماء: هوان سرقت نونه. نظمه الشاعر فقال: نون الهوان من الهوى مسروقة فإذا هويت فقد لقيت هوانا فالنفس إذا استعملت التقوى تقوى بها، وإذا اتبعت الهوى هوى بها. قال الإمام أحمد: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب راود رجل أعرابية عن نفسها وقال لها: والله ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: فأين مكوكبها؟! وسئل الجنيد: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره. فالعبد إذا استحضر أن الله عز وجل ينظر إليه فإنه عند ذلك يستحيي من الله عز وجل.

ضرورة معرفة مكائد الشيطان ومصائده والحذر من وساوسه ودسائسه

ضرورة معرفة مكائد الشيطان ومصائده والحذر من وساوسه ودسائسه السبب الخامس من أسباب التقوى: أن تعلم مكائد الشيطان ومصائده، وأن تحذر من وساوسه ودسائسه، وأن تتخذ الشيطان عدواً كما أمرك الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، لا تتخذه صديقاً ولا حميماً ولا ناصحاً أميناً، بل تتخذه عدواً كما أمرك الله عز وجل، والشيطان يقف لابن آدم عند سبع عقبات: عند عقبة الكفر فإن أسلم وسلم، وعند عقبة البدعة فإن لم يجبه وقف له عند عقبة الكبيرة، ثم عند عقبة الصغيرة، ثم يشغله بالعمل المباح، ثم يشغله بالعمل المفضول عن الفاضل؛ فإن خالفه في كل هذه العقبات وسلم منه فإنه لا يسلم منه في العقبة السابعة، وهو أن يسلط عليه أولياءه من شياطين الجن والإنس بألوان الأذى، ولو سلم من ذلك أحد لسلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فينبغي للعبد إذا وسوست له نفسه بالمعصية أن يستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأن يدافع الخطرات، كما قال ابن القيم: دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة فدافعها، فإن لم تفعل صارت إرادة فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة فحاربها؛ فإن لم تفعل صارت فعلاً. فالعبد ينبغي له أن يشغل نفسه دائماً بطاعة الله عز وجل حتى لا يكون محلاً للوساوس، كما قال ابن القيم رحمه الله: إذا غفل القلب ساعة عن ذكر الله جثم عليه الشيطان، وأخذ يعده ويمنيه، فمهما كان العبد مشغولاً بالطاعة والعبادة لا يكون عند ذلك محلاً للوساوس. فينبغي أن يشغل العبد نفسه دائماً بطاعة الله، وأن يكون دائماً مع الله عز وجل، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]؛ فإن حصلت منه غفلة ووسوس له الشيطان بمعصية؛ فينبغي له أن يتذكر الاستعاذة فيحتمي بجناب الله العظيم من الشيطان الرجيم، ثم ينبغي له أن يتحصن بالتحصينات الشرعية، ومن ذلك: أن يقرأ آية الكرسي عند النوم، والآيتين من آخر سورة البقرة. ومن ذلك في أذكار الصباح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ومن ذلك: أن يقرأ سورة البقرة، أو تقرأ في بيته، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة يفر منه الشيطان. ومن ذلك: أن يحافظ على أذكار الوضوء دائماً، وتجربته تغني عن الاستدلال له. ومن ذلك: أن يترك فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة. فهذه أسباب خمسة إذا عمل بها العبد فإنه يصل بإذن الله إلى تقوى الله عز وجل: أولاً: محبة لله عز وجل تغلب على القلب يدع له كل محبوب، ويضحي في سبيلها بكل مرغوب. ثانياً: أن يستشعر في قلبه مراقبة الله عز وجل والخوف منه. الثالث: أن يعلم ما في سبيل المعاصي والآثام من الشرور والآلام. الرابع: أن يعرف كيف يخالف هواه ويطيع مولاه. الخامس: أن يدرس مكائد الشيطان ومصائده، وأن يحذر من وساوسه ودسائسه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

كيف تنمو شجرة الإيمان؟

كيف تنمو شجرة الإيمان؟ إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، ولذا كان لا بد للعبد من أن يتعاهد شجرة الإيمان في قلبه، حتى تثمر الثمرات اليانعة، ويذوق حلاوة الإيمان، من خلال معرفة الأسباب التي تزيد في الإيمان وتنميه.

أسباب زيادة الإيمان ونموه

أسباب زيادة الإيمان ونموه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فقد تكلمنا فيما سبق عن شرف الإيمان، وثمرات شجرة الإيمان، ويبقى لنا أن نطرح السؤال التالي: كيف تنمو شجرة الإيمان؟ وكيف يتعهد العبد شجرة الإيمان في قلبه حتى تثمر الثمرات اليانعة، وحتى يذوق حلاوة الإيمان وطعمه؟

معرفة الله عز وجل وتوحيده

معرفة الله عز وجل وتوحيده فأول سبب من أسباب نماء شجرة الإيمان: معرفة الواحد الديان عز وجل، فكلما تعرف العبد على ربه الجليل عز وجل فإنه يزداد حباً لله، ويزداد خوفاً منه، ويزداد شوقاً إليه، ويزداد توكلاً عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، فكلما ازداد علم العبد بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته فإنه يزداد خشية ويزداد حباً ويزداد إخلاصاً، ومن ثم فقد غلب الخوف على العلماء، وغلب أمن المكر على الفراعنة الطغاة، والكفرة والعوام، والرعاع والطُغام، حتى كأنهم قد حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا سطوة العقاب، ولا نار العذاب ولا بعد الحجاب، قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]. فأول سبب من أسباب نماء شجرة الإيمان: أن يدرس العبد التوحيد، وأن يتعرف على ربه العزيز الحميد المجيد؛ فإن هذا أكثر الأسباب تغذية لشجرة الإيمان.

تدبر القرآن والتفكر فيه

تدبر القرآن والتفكر فيه من أسباب نماء شجرة الإيمان: تدبر القرآن، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فكلما تدبر العبد القرآن فإنه يزداد إيماناً؛ كما قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. وقال عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]. فأهل الإيمان الصادق عندما يستمعون إلى القرآن ويتدبرون القرآن فإنهم يزدادون إيماناً بالله عز وجل ويقيناً بوعده، ويعلمون أنه كلام الله وقصصه وتنزيله ووحيه وأمره ونهيه، فيزداد إيمانهم، ويزداد حبهم لله عز وجل.

التعرف على النبي صلى الله عليه وسلم ودراسة سيرته

التعرف على النبي صلى الله عليه وسلم ودراسة سيرته السبب الثالث من أسباب زيادة الإيمان: أن يتعرف على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن يدرس سيرته، وأن يعرف آيات نبوته صلى الله عليه وسلم، وأن يدرس كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم. وكان يكفي من عاصر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلى وجهه فيعتقد صدقه، كما قال حسان: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر أي: لو لم يأت بالمعجزات التي تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم لكان الناظر إلى وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم يعتقد أنه صادق، وهذا ما حدث من عبد الله بن سلام وكان حبراً من أحبار اليهود، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان عبد الله بن سلام يخترف في بستانه -أي: يجمع الثمر- فذهب ومعه الثمر، فنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد بأن وجهك ليس بوجه كذاب، فاعتقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وآمن وأقر بنبوته ورسالته. كذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر معجزاته؛ لأن الدارس لسيرته يرى رجلاً على أكمل خلق، لم يغدر مرة، ولم يخلف الوعد مرة، ولم يكذب مرة، وكان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان أشجع الناس، وكان أكرم الناس، فاجتماع هذه الشمائل في رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، يدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فيزداد إيماننا به. كذلك دراسة معجزاته، وكيف أنه أشار للقمر فانشق لإشارته، وكيف نبع الماء من بين أصابعه، وكيف حن الجذع اليابس الذي كان يستند إليه في المسجد إليه، وذلك حينما صنعوا له المنبر وصعد عليه وترك الجذع، فظل يخور خوار الرضيع حتى نزل فاحتضنه فسكن. وفي بعض الروايات: (لو لم أحتضنه لظل يخور إلى يوم القيامة). ومنها: انقياد الشجر له صلى الله عليه وآله وسلم، وتسليم الحجر عليه، فكل هذه المعجزات معرفتها يزيد من إيماننا بصدقه صلى الله عليه وسلم، والإيمان يزيد وينقص، يزداد بكثرة الأدلة وقوتها ووضوحها.

دراسة محاسن الإسلام

دراسة محاسن الإسلام من أسباب نماء شجرة الإيمان كذلك: دراسة محاسن الإسلام، فلو تدبر المسلم محاسن الإسلام لعلم أنه دين الله عز وجل الذي ارتضاه لعباده، قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فهو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأحل الطيبات وحرم الخبائث، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4]، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. فدراسة محاسن الإسلام مما يدعونا إلى القناعة بأنه دين الله عز وجل الذي ارتضاه لعباده، ومما يزيد إيماننا به.

العيش في أجواء إيمانية

العيش في أجواء إيمانية من أسباب نماء شجرة الإيمان كذلك: أن يحيا العبد في أجواء إيمانية، وأن يتنفس هواء الإيمان، فإذا وجدت جواً إيمانياً كمجالس الذكر، وصلاة الجماعة، وتشييع الجنائز، وأجواء الأماكن المقدسة كمكة والمدينة، والمسجد الأقصى، فإن شجرة الإيمان تترعرع وتنمو، أما أجواء الإباحية والاختلاط والمجون، والأماكن التي يستهزأ فيها بشرع الله عز وجل وأماكن الغفلة، لا شك أن شجرة الإيمان تذبل إذا وجدت مثل هذه الأجواء، كما أن شجر الصيف يذبل في وقت الشتاء، وشجر الشتاء يذبل في وقت الصيف وتسقط أوراقه. فإذا وجدت شجرة الإيمان الجو الملائم لها فإنها تنمو وتترعرع، فينبغي على العبد الذي يحرص على نماء شجرة الإيمان في قلبه أن يحرص على أن يتنفس الجو الإيماني والهواء الإيماني، وأن يكثر من حضور مجالس الصالحين، ومجالس الذكر، ويتردد إلى الأماكن الطيبة المقدسة للحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي، وأن ينأى بنفسه عن أماكن الاختلاط الماجن والفسوق والأسواق والملاهي، وغير ذلك مما تذبل معه شجرة الإيمان.

التفكر في مخلوقات الله

التفكر في مخلوقات الله من أسباب نماء شجرة الإيمان كذلك: التفكر في مخلوقات الله، وقد نهانا الله عز وجل أن نتفكر في ذاته؛ لأن الله عز وجل لا يحاط به علماً؛ ولأن العقول قاصرة لا يمكن أن تحيط بالله عز وجل، فيخشى على العقل أن يتلف إذا تفكر في ذات الله عز وجل لعظمته سبحانه، ولكن لو تفكرنا في مخلوقات الله فإن هذا مما يدعونا إلى زيادة الإيمان بعظمة الله عز وجل وقدرته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا تتفكروا في الله، وتفكروا في مخلوقات الله، فإن الله خلق ملكاً قدماه في الأرض السابعة السفلى، ورأسه قد جاوز السماء العليا، فبين ركبتيه إلى عقبيه مسيرة ستمائة عام، وما بين عقبيه إلى أخمص قدميه مسيرة ستمائة عام، والخالق أعظم من المخلوق). فكيف تتصور خلقاً بهذه الصورة؟ وهذا ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش كما ورد في الحديث الآخر: (أذن لي أن أتحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام)، تطير الطير خمسمائة عام ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه -أي: كتفه- فكيف بارتفاع هذا الملك؟ وكيف تتصور مخلوقاً بهذه العظمة؟ وكيف بالخالق عز وجل؟! فأمرنا الله عز وجل أن نتفكر في مخلوقاته، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]. وقال عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21]، فالعبد إذا تفكر في مخلوقات الله فإنه يزداد إيماناً بعظمة الله عز وجل.

الإكثار من النوافل بعد استكمال الفرائض

الإكثار من النوافل بعد استكمال الفرائض من أسباب زيادة الإيمان: كثرة النوافل بعد استكمال الفرائض، كما ورد في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فالإكثار من النوافل بعد استكمال الفرائض يغذي شجرة الإيمان، فقيام الليل والصيام والحج والعمرة والذكر وغير ذلك مما يغذي شجرة الإيمان، ومما يغذي شجرة الإيمان كذلك -وإن كان يدخل في جملة النوافل ولكن نخصه بالذكر- ذكر الله عز وجل؛ لأن هذا الغذاء سهل، فالإنسان يحرك لسانه بالذكر في الطريق، وفي المواصلات، وكلما وجد سبيلاً لأن يحرك لسانه بذكر؛ لأن هذا مما يغذي شجرة الإيمان، خاصة ونحن في أزمنة اختلط فيها الحابل بالنابل، وكثرت فيها الفتن والمحن، فيها فتن الشبهات وفتن الشهوات، فكثرة الذكر لا شك مما يقوي قلب العبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت).

المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل

المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل من أسباب نماء شجرة الإيمان كذلك: المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل سمى وحيه روحاً، وسماه نوراً، فقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فالله عز وجل سمى شرعه روحاً؛ لأن الروح تكون بها الحياة، فإذا فقد الإنسان هداية الشرع يكون ميتاً، كما قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122]، ووصف الكفار فقال: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21]، فإن كانوا يحيون حياة يأكلون فيها ويشربون فهي حياة البهائم، فهم لا يحيون الحياة الطيبة التي يحبها الله عز وجل ويرضاها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع منا مقالة فبلغه كما سمعه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، فنضارة الوجه تكون نتيجة لنضارة القلب، والجزاء من جنس العمل، فهو كما نضر الشريعة، وجعلها غضة طرية بأن حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وبثه وعلمه، كذلك ينضر الله عز وجل قلبه، وينضر وجهه وجوارحه، وكذلك كما أحيا قلوب الناس بشرع الله عز وجل يحيي الله عز وجل قلبه وينضر قلبه، ومن شارك في الدعوة إلى الله عز وجل يعلم كيف تحيا القلوب بالدعوة، ويعلم كيف تكون الدعوة من أعظم أسباب زيادة الإيمان. فنسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالنا وفي أعمارنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أيد الله أنبياءه بمعجزات دالة على صدق نبوتهم، وما من نبي إلا وله معجزات يجريها الله على يده دلالة على صدقه، وقد أيد الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزات فاقت معجزات الأنبياء الأولين عدداً وأثراً، وأعظم معجزاته هي القرآن الكريم، وهو المعجزة الخالدة الباقية ما دامت الدنيا شاهدة على صدق نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم.

تنوع معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية

تنوع معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية الحمد الله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل، وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً. أما بعد: فما زلنا مع النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تكلمنا في الخطبة السابقة عن المعجزة الكبرى لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة). فهذا يدل على أن معجزته الكبرى صلى الله عليه وسلم هي معجزة القرآن المبين، وليس معنى ذلك عباد الله! أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ليس له معجزات كسائر الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكن الأمر كما قال الإمام الشافعي: ما أعطى الله عز وجل نبياً من الأنبياء ما أعطى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم حنين الجذع.

إبراء المريض والأكمه والأبرص

إبراء المريض والأكمه والأبرص فمعجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاقت معجزات جميع الأنبياء، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، وكان يبرئ المرضى بإذن الله عز وجل كما أعطي عيسى عليه السلام، فقد خرجت عين قتادة من موضعها وسقطت على خده، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فردها إلى مكانها بيده صلى الله عليه وسلم، وصارت أحسن عينيه فصلى الله عليه وسلم، ورد الله عز وجل بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بصر عثمان بن حنيف. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فتح خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فأصبح الناس يدوكون ليلتهم من يعطاها)، كلهم يتشوف إلى هذا الشرف العظيم، أن النبي صلى الله عليه وسلم يشهد له بأنه يحب الله ورسوله، وبأن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم يحبانه، فأصبح الناس يدوكون ليلتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: يشتكي عينيه يا رسول الله! فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فأحضر، فبصق في عينيه فبرئ رضي الله عنه). فنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم استعمله الله عز وجل كذلك في إبراء المرضى.

فهم النبي صلى الله عليه وسلم للغة الحيوان

فهم النبي صلى الله عليه وسلم للغة الحيوان كذلك سليمان عليه السلام فهم قول النملة، ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم قول الجمل، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي حاجته فدخل حائط بستان لأحد الأنصار فلما رآه ناضح -أي: جمل- حن للنبي صلى الله عليه وسلم، واغرورقت عيناه بالدموع، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ومسح عليه، فهمهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صاحب هذا الناضح؟ فقال الأنصاري: أنا يا رسول الله! قال: ألا تتقي الله عز وجل في هذه البهيمة؟ لقد اشتكى إلي الجمل أنك تجيعه وتدئبه). أي: أنه لا يطعمه الطعام الكافي، ويدئبه: أي يتعبه في العمل، ففهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول الناضح.

انقياد الجبل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم

انقياد الجبل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك الجبال والأشجار يا عباد الله! تستجيب لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أحد، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، فثبت الجبل بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذا علم آخر من أعلام النبوة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن على الجبل شهيدين، وهما عمر وعثمان، ووقع الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

تأدب الوحش مع النبي صلى الله عليه وسلم

تأدب الوحش مع النبي صلى الله عليه وسلم روى الإمام أحمد كذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحشاً -قيل: إنه قطة؛ لأنها حيوان متوحش عكس المستأنس- فكان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرك ولعب في البيت، فإذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن حتى لا يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانت الوحوش كذلك تعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتتأدب معه.

نبع الماء من بين أصابع النبي وانفلاق القمر له

نبع الماء من بين أصابع النبي وانفلاق القمر له فاقت معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معجزات جميع الأنبياء، فموسى عليه السلام ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم وضع يديه في الماء فنبع الماء من بين أصابعه، وتوضأ الصحابة رضي الله عنهم، فهذه أبلغ في الإعجاز من معجزة موسى عليه السلام. موسى عليه السلام ضرب بعصاه البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أشار بأصبعيه إلى القمر فانفلق القمر فلقتين، فقال: (اشهدوا)، قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2].

انقياد الشجر للنبي وتسليم الحجر عليه

انقياد الشجر للنبي وتسليم الحجر عليه الشجر ينقاد للنبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي حاجته، فأخذ بغصن شجرة وقال: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه الشجرة، ثم أخذ بغصن شجرة أخرى وقال: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه ثم قال: التئما بإذن الله، فالتأمت). والحجر يسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح مسلم كذلك: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، فكلما مر النبي صلى الله عليه وسلم بجواره يقول: السلام عليك يا رسول الله!

كثرة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

كثرة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (وحين كان الصحابة في طريقهم إلى تبوك أصابتهم مجاعة فاستأذن بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن ينحروا النواضح -أي: الجمال- فأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم أتى عمر فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فعلت ذلك يا رسول الله! قل الظهر، ولكن أرى أن تجمع ما عند الناس من أزواد، وأن تدعو فيه بالبركة، فعسى الله عز وجل أن يجعل فيه من البركة، فقال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنطع فبسط، ثم أمر من كان عنده شيء من الطعام أن يأتي به، فكان الواحد يأتي بكسرة خبز أو بكف تمر، فجمع من ذلك شيئاً يسيراً، ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبركة، فعظم الطعام جداً، فملئوا جميع الأوعية التي معهم وأكلوا وشبعوا). وعند حفر الخندق عباد الله! رأى جابر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا ما ذاقوا ذواقاً -أي: طعاماً- منذ يومين أو ثلاثة، رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعصب على بطنه حجراً، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى امرأته وقال: (رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم منظراً لم يكن لي صبر عليه، ثم سألها: ما عندك؟ قالت: عناق -أي: شاة صغيرة- وشيء من شعير، فأمرها فذبحت العناق، وطحنت الشعير، ثم ذهب جابر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: طعيم لك يا رسول الله! ولرجل أو رجلين من أصحابك، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم كم هو فأخبره فقال: كثير طيب، ثم أمر جابر أن يأمر امرأته أن تترك اللحم في البرمة، وأن تترك العجين دون أن تخبزه، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار فكانوا يدخلون بيت جابر رضي الله عنه عشرة عشرة، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تضاغطوا، وأطعم النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار من هذا الطعام القليل ببركته صلى الله عليه وسلم، وبقيت بقية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر: كلي وأطعمي وتصدقي؛ فإن الناس قد أصابتهم مجاعة).

المعجزات الغيبية التي أيد الله بها نبيه في حياته

المعجزات الغيبية التي أيد الله بها نبيه في حياته ليست المعجزات منحصرة في هذه المعجزات الحسية وفي معجزة القرآن المبين، بل أخبر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالمغيبات التي منها ما سيكون في حياته ومنها ما سيكون بعد مماته، وكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل أنه من أهل النار

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل أنه من أهل النار فمن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (هو من أهل النار)، فلما أتى القتال قاتل الرجل أشد قتال وأبلى بلاءً حسناً، فتعجب الصحابة كيف يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار وهو يقاتل هذا القتال ويغني هذا الغناء، فتبعه أحد الصحابة رضي الله عنهم فجرح هذا الرجل جرحاً شديداً فأخرج أسهماً فنحر نفسه فانتحر، فذهب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لقد صدق الله قولك يا رسول الله! لقد انتحر فلان فقال: (قم يا فلان فاشهد بأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة). قيل: لعله استحل هذا الفعل -أي: الانتحار- وقيل: لعله أصابه يأس من رحمة الله عز وجل فنحر نفسه، فعند ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار.

إخبار النبي بهبوب ريح في غزوة تبوك

إخبار النبي بهبوب ريح في غزوة تبوك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأشياء وقعت كما أخبر سواء بسواء، ففي عزوة تبوك قال للصحابة: (سوف تهب الليلة عليكم ريح شديدة فلا يقم فيها أحد)، فهبت ريح شديدة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل فحملته الريح وألقته إلى جبل طي. فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأشياء وتكون كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

شهود النبي صلى الله عليه وسلم غزوة مؤتة وهو في المدينة

شهود النبي صلى الله عليه وسلم غزوة مؤتة وهو في المدينة ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث قواده إلى مؤتة جلس بين الصحابة رضي الله عنهم يقول: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله عز وجل ففتح الله عز وجل عليهم). ينقل لهم -لا أقول: بالإنترنت ولا أقول: بقناة الجزيرة على الهواء- بالوحي الصادق من السماء، ينقل للصحابة ما يحدث بالمعركة، يقول: (أخذها زيد فأصيب) أي: قُتل، (ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله)، وهو خالد رضي الله عنه، (ففتح الله عليهم وعيناه تذرفان صلى الله عليه وآله وسلم).

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بمصارع بعض المشركين يوم بدر

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بمصارع بعض المشركين يوم بدر وليلة بدر قام النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله عز وجل ويبتهل إلى الله عز وجل والصحابة نائمون، وأبو بكر يشفق على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يتضرع حتى وقعت عباءته عن منكبيه، فجمعها عليه أبو بكر رضي الله عنه وقال: (يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك)، فيرتفع اليقين في قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكشف له عن شيء من الغيب، فيقول: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، هنا يقتل فلان إن شاء الله، وهنا يقتل فلان غداً إن شاء الله). قال عمر رضي الله عنه: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأ المواضع التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه أخبر الصحابة رضي الله عنهم بالأماكن التي يصرع فيها أئمة الكفر من قريش، وكان الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء بسواء.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بموضع الضعينة التي حملت رسالة إلى قريش عند تأهبه لفتح مكة

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بموضع الضعينة التي حملت رسالة إلى قريش عند تأهبه لفتح مكة وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة أرسل حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم ببعض خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً والمقداد رضي الله عنهما ويقول: (اذهبا إلى روضة خاخ -أي: مكان في طريق مكة- فإن فيها ضعينة -أي: امرأة- ومعها كتاب)، فذهبوا تتعالى بهما خيلهما، فوجدا المرأة فقالا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، قالا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، أي: من رباط رأسها، وعادوا بالكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى بعض أهل مكة يخبرهم بما يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه أشياء من الغيب أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وحدثت كما أخبر سواء بسواء.

إخبار النبي بموت أصحمة نجاشي الحبشة

إخبار النبي بموت أصحمة نجاشي الحبشة ولما مات النجاشي أصحمة ملك الحبشة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بخبر موته في اليوم الذي مات فيه وقال: (مات الرجل الصالح، أصحمة النجاشي) وصلى عليه صلاة الغائب، ما أرسلها إليه أحد تلغرافاً، ولا أتاه الخبر بالبريد السريع، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن موته في اليوم الذي مات فيه، وخرج وصلى عليه صلاة الغائب، فهذه أشياء من المغيبات أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت كما أخبر سواء بسواء، والله عز وجل يقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27]. فالله عز وجل يطلع من شاء من الرسل على ما يشاء من الغيب، فيكون ذلك من قبيل المعجزات والآيات الدالات على صدق هؤلاء الأنبياء عليهم جميعاً الصلاة والسلام. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

المعجزات الغيبية التي أيد الله بها نبيه بعد وفاته

المعجزات الغيبية التي أيد الله بها نبيه بعد وفاته إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. كل الدلائل تشير إلى صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يزيد إيماننا به، وحبنا له صلى الله عليه وسلم، واتباعنا لسنته صلى الله عليه وسلم. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستكون أشياء في حياته وكانت كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وأخبر صلى الله عليه وسلم كذلك أنه ستكون أشياء بعد وفاته، وكانت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

إخبار النبي بإصلاح الحسن بن علي بين فئتين عظيمتين من المسلمين

إخبار النبي بإصلاح الحسن بن علي بين فئتين عظيمتين من المسلمين خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحابه ومعه الحسن بن علي، فصعد به المنبر وأجلسه إلى جواره، وقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وحدث ذلك في سنة 40 من الهجرة في عام الجماعة، وذلك لما تصاف المسلمون صفين: صف معاوية رضي الله عنه ومن معه من أهل الشام، وصف الحسن بن علي ومن معه من أهل العراق ومن خرج من مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكاد الجيشان أن يلتحما، فضن الحسن بن علي بدماء المسلمين، وتنازل عن الخلافة لـ معاوية وبايعه عليها كما بايعه الأمراء والقادة كذلك، واجتمع الناس بعد سنين طويلة من النزاع على خليفة واحد، وتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بخبر الخوارج

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بخبر الخوارج كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبر الخوارج، وأنه تنجم ناجمة على حين فرقة من المسلمين تقاتلهم أولى الطائفتين بالحق، فنجمت الخوارج بعد معركة صفين بين علي ومعاوية، لما دعا معاوية المسلمين إلى التحكيم، ورفعوا المصاحف على السيوف، وقابل علي رضي الله عنه نجمة الخوارج، وقالوا: حكم الرجال في دين الله عز وجل، واستدركوا أشياء على علي رضي الله عنه، ثم اجتمعوا عليه وقاتلهم علي رضي الله عنه. وبين النبي صلى الله عليه وسلم صفتهم، وأن فيهم المخدج، أي: الذي هو مقطوع الأطراف، وفيه أصبع مثل ثدي المرأة، فوجد في القتلى، وكبر علي لما رآه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تقاتلهم أولى الطائفتين بالحق)، فدل ذلك على أن علياً كان أولى الطائفتين بالحق.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الفئة الباغية لعمار بن ياسر وبالبلوى التي تصيب عثمان بن عفان

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الفئة الباغية لعمار بن ياسر وبالبلوى التي تصيب عثمان بن عفان كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار بن ياسر: (ويح عمار! تقتله الفئة الباغية)، وقتله أصحاب معاوية، وكان هذا تصديقاً لخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وأخبر أن عثمان سوف يدخل الجنة على بلوى تصيبه، وقال له: (إن الله عز وجل سوف يلبسك قميصاً، فإذا طلب المنافقون منك أن تخلعه فلا تخلعه)، ولذلك رفض عثمان أن يتنازل عن الخلافة، وقتل عثمان رضي الله عنه كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء بسواء.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأويس القرني

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأويس القرني ومن معجزات النبي صلى لله عليه وسلم أنه قال للصحابة رضي الله عنهم: (يأتي إليكم مع أمداد أهل اليمن أويس القرني من مراد ثم من قرن، أصابه برص فبرئ منه إلا موضع درهم، له أم هو بها بار، فمن وجده منكم فليطلب منه أن يستغفر له). وعمر رضي الله عنه يتلقى أمداد أهل اليمن -والأمداد: جمع مدد، وهي القوات التي كانت تأتي من الأمصار إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تشارك في الفتوحات الإسلامية- فكان كلما أتى مدد من أهل اليمن، يقول لهم عمر: أفيكم أويس؟ حتى وقف عليه عمر رضي الله عنه، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد؟ قال: نعم، قال: ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: أصابك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك أم أنت بها بار؟ قال: نعم، قال: فاستغفر لي، فاستغفر له.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية وبأن فاطمة أول أهله لحوقا به

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية وبأن فاطمة أول أهله لحوقاً به وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القسطنطينية سوف تفتح، وفتحت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. كما أخبر صلى الله عليه وسلم فاطمة، وقال لها: (إنك أول أهلي لحوقاً بي) وكان الأمر كذلك، فماتت رضي الله عنها بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هي أول أهله لحوقاً به، فهذه معجزات كثيرة تدل على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

معجزات متفرقة تؤيد النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته

معجزات متفرقة تؤيد النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته هناك كذلك معجزات متفرقة. من ذلك أن واحداً من بني النجار كان يكتب الوحي لنبي صلى الله عليه وسلم فارتد عن الإسلام ولحق بالروم، فقالوا: هذا كان يكتب الوحي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقصم الله عز وجل رقبته فيهم، فحفروا له فدفنوه، فأصبح في الأرض قد ألقته على وجهها، فأصبح منبوذاً، فحفروا له مرة أخرى فواروه، فألقته الأرض على وجهها فأصبح منبوذاً، ثم حفروا له مرة ثالثة فألقته الأرض على وجهها فأصبح منبوذاً، فتركوه منبوذاً إهانة من الله عز وجل؛ لأنه ارتد وترك شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. من هذه المعجزات كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه، واجتمع عنده إحدى عشرة امرأة في ليلة واحدة مع قلة المطعوم عند ذلك، وكان يكثر من الصيام وكان يواصل، فهذه معجزة للنبي صلى الله علية وسلم. من معجزاته أنه قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه، فإن على أحد جناحيه داء وعلى الآخر دواء)، ويكتشف العلماء بعد أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان أن على أحد جناحي الذباب (توكسين) أي: مادة سامة، وأن على الجناح الآخر ما يضاد هذه المادة, وأن الذبابة إذا وقعت في شيء فإنها تتقي بالجناح الذي عليه السم، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر قبل أربعة عشر قرناً من الزمان بأنه ينبغي أن تغمس الذبابة في الإناء، فإن على أحد جناحيها داء وعلى الآخر دواء. معجزات تترى للنبي صلى الله عليه وسلم تزيده شرفاً وتزيدنا حباً له صلى الله عليه وسلم وتصديقاً به. اللهم إنا نسألك أن تزيده تشريفاً وتكريماً، وصلاةً وتسليماً، اللهم زدنا حباً له كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا حتى تدخلنا مدخله. اللهم أحينا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته، واسقنا من يديه الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

من ننتخب؟

من ننتخب؟ أهل التقوى والإيمان هم خيرة الخلق وأشرفهم، وعلى رأسهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فعلى العبد أن يعلم صفات أهل التقوى والإيمان، وأن يتصف بها؛ حتى يكون منهم، وينال فضلهم وشرفهم.

همة أهل التقوى والإيمان

همة أهل التقوى والإيمان الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. أما بعد: ننتخب هؤلاء بيض القلوب، وبيض الوجوه، هؤلاء الذين يتجملون بأحسن لباس، فقد تمنن الله عز وجل على بني آدم فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. فنحن ننتخب الذين يتجملون بلباس التقوى، فالله عز وجل بعد أن تمنن على بني آدم بما جعل لهم من اللباس الذي يواري السوءات ويستر العورات، ومن الرياش الذي يتجملون به، ثم ذكر الله عز وجل أجمل لباس، وأحسن لباس، الذي يواري سوءات الظاهر والباطن، والذي يستر العبد في الدنيا والآخرة، فقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا وخير ثياب المرء طاعة ربه ولا خير في من كان لله عاصيا ننتخب هؤلاء الذين قد جعلوا الآخرة هي شغلهم الشاغل، فلا يتنافسون على كراسي الدنيا، ولا يتنافسون على العلو في الدنيا، ولا يلهثون خلف الدنيا ويسعون خلفها سعياً حثيثا: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. فنحن ننتخب الذي يشتغلون بالآخرة، والذين يتزودون بزاد الآخرة، كما قال عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]، قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إن أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج ولا يتزودون في سفرهم إليه، ويقولون: نحن أضياف الله أفلا يطعمنا؟ ثم يصيرون كلاً على الناس، ويسألون الناس، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأمرهم الله عز وجل بالتزود لسفر الدنيا فقال: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197]. ثم دلهم على خير زاد -وهو الزاد لسفر الدنيا والآخرة- فقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].

بشارة أهل التقوى والإيمان

بشارة أهل التقوى والإيمان فننتخب هؤلاء الذين اختارهم الله عز وجل والذين شرفهم الله عز وجل، فقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:61 - 64]. فهؤلاء أولياء الله عز وجل الذين آمنوا وكانوا يتقون، هؤلاء أولياء الله عز وجل لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فلهم في الدنيا محبة الخلق، وثناء الخلق، كما ورد في صحيح مسلم: (قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: الرجل يعمل العمل لا يريد به إلا وجه الله، فيحبه الناس -وفي رواية:- فيثني عليه الناس؟ فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن). فمن المبشرات في الدنيا محبة الخلق وثناء الخلق، ومن المبشرات في الدنيا كذلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟! قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له). فأهل الإيمان والتقوى مبشرون بكل خير في الدنيا والآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. تتنزل عليهم الملائكة في كل وقت وحين، وقيل: تتنزل عليهم عند الموت بقول الله عز وجل: {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] أي: مما تستقبلونه من أمر الآخرة، (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الدنيا، ولا تحزنوا على فراق أولادكم وأموالكم: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32]. فهم في الجنة، وحلاوة البشرى في قلوبهم، فإذا خرجت روح المؤمن بشرت بكرامة الله، وبفضل الله عز وجل، وبرحمة الله عز وجل، فتأتي تطير فوق الجنازة، وتقول: قدموني قدموني، تستعجل رحمة الله عز وجل، وتشتاق إلى كرامة الله عز وجل؛ لأنها تعلم أن الجسد يساق إلى روضة من رياض الجنة، وأن الروح تنعم في جنة الله عز وجل بعد مفارقة الجسد، فإذا دخل المؤمن في قبره فإنه يفسح له في قبره مد البصر، ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من ريحها وطيبها، ويدخل عليه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، فيستبشر برؤيته، كل شيء يبشر المؤمن في الدنيا والآخرة، يستبشر به فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير، فهو يستبشر بمنظره، فيبشره بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، أنا قيام الليل وصيام النهار، أنا تقوى الله عز وجل، فيقول: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة، مع أنه في روضة من رياض الجنة، ويلبس من لبسها، ويفرش قبره من الجنة، ويفتح له باب إلى الجنة، إلا أنه عندما يرى النعيم الأكبر في جنة الله عز وجل فإنه لا يصبر على ما هو فيه من النعيم، بل يشتاق إلى النعيم الأكبر، فيقول: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة، فإذا كان يوم القيامة كثرت المبشرات للمؤمنين، فمن ذلك بياض وجوههم: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]. ومن ذلك: النور الذي يكون بين أيدهم: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد:12]. ومن ذلك: أنهم يؤتون كتابهم بأيمانهم، ويعلمون أن من أوتي كتابه بيمينه: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]. والحساب اليسير هو: العرض على الله عز وجل: (ومن نوقش الحساب عذب). ومن ذلك: أن الملائكة تبشرهم برحمة الله، وتبشرهم بجنة الله عز وجل، فيقولون: هذا يومكم الذين كنتم توعدون، هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. وتزفهم الملائكة إلى جنة الله، وإلى رحمة الله عز وجل، فإذا دخلوا الجنة دخلت عليهم الملائكة من كل باب: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]. ثم يبشرون بالخلود في جنة الله عز وجل، فليس شيء من نعيم الدنيا والآخرة إلا وقد بشر الله عز وجل به أهل الإيمان والتقوى. فنحن ننتخب هؤلاء الأتقياء الذين ينافسون على مراكز الآخرة، وينافسون على كراسي من نور، وجوههم نور، وثيابهم نور، يجلسون ينظرون إلى وجه ربهم عز وجل، فتتنضر وجوههم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. فالنظر إلى وجه الله عز وجل هو الذي ينضر الوجوه.

شرف أهل التقوى والإيمان

شرف أهل التقوى والإيمان ننتخب هؤلاء الذين حكم الله عز وجل بأنهم أتقى الناس، وأنهم أكرم الناس، فقال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. (وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكرم الناس؟ فقال: أتقاهم لله عز وجل). فنحن لا ننتخب الذين ينافسون على الدنيا، والذين يتنافسون على الدنيا، ولكننا ننتخب الذين يتنافسون على الآخرة، وعلى درجات الآخرة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. فالتقوى هي الشرف، وهي الكرامة: ألا أنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم وكان الإمام مالك رحمه الله له منظر وأبهة، وعز وشرف في الدنيا، كان إذا أراد أن يحدث يغتسل، ويلبس أحسن ثيابه، ويجلس على منصة، ويلبس طيلسان على رأسه، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ، وصف بعضهم الإمام مالك فقال: يدع الجواب ولا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهاب وليس ذا سلطان فالتقوى هي الشرف، وهي الكرم، فانظروا إلى سلمان الفارسي لم يكن عربياً فضلاً عن أن يكون قرشياً، ومع ذلك رفعه الإيمان، ورفعته التقوى، وانظروا إلى أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عربياً قرشياً من أشرف الناس نسباً، ومع ذلك: لقد رفع الإسلام سلمان فارساً وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وكان سلمان يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فنحن ننتخب هؤلاء الذين هم أشرف الناس وأكرم الناس، وهم أهل التقوى، وأهل الإيمان، وأهل العمل الصالح، نبأهم قريب، وخبرهم عجيب، ونحن نستغفر الله عز وجل أن نتكلم عن قوم ما شممنا رائحة زمن عاشوا فيه. يقول ابن القيم رحمه الله: ووا حسرتاه! ووا أسفاه! كيف ينقضي الزمان، ويذهب العمر، والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، فخرج من الدنيا كما دخل إليها، خرج منها وما ذاق أطيب ما فيها، فكانت حياته هماً وغماً، وموته كدراً وحسرة، ومعاده أسفاً وندامة، فإلى الله المشتكى، وبه المستعان، وبه المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل.

فوائد ذكر أهل التقوى والإيمان

فوائد ذكر أهل التقوى والإيمان ولكن ذكر القوم له فوائد، فمن ذلك: ألا يزال المسكين منكسراً منزوياً، يرى تجارات التجار، وبضائع التجار، وهو من المحرومين، ويرى الواصلين وهو من المنقطعين. ومن ذلك: أنه قد تتجدد له همة، فيلحق بالقوم، ولو زحفاً، أو يجد أثراً من غبارهم. ومن ذلك: أن العلم بكل حال أفضل من الجهل. ومن ذلك: أن العبد إذا عرف أوصاف القوم تهيأ لأحوالهم، وقد حصل له شطر، فلعل الله عز وجل أن يمن عليه، وأن يوفقه لأن يتصف بأخلاق القوم.

صفات أهل التقوى والإيمان

صفات أهل التقوى والإيمان فنبأ القوم غريب، وخبرهم عجيب، أثنى الله عز وجل عليهم في كتابه، وبين شيئاً من صفاتهم ومما يتميزون به فقال عز وجل في بداية سورة البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:1 - 3]. فأول ما يميز المتقين أنهم يؤمنون بالآخرة إيماناً جازماً، وكل مسلم يؤمن بالآخرة، ولكن هؤلاء تعمق الإيمان بالآخرة في قلوبهم، فهم كأنهم يشاهدون الآخرة ليل نهار، حساباتهم أعمالهم وأقوالهم، وإنما تنضبط على حسب إيمانهم بالآخرة، فهل هذا القول وهل هذا العمل مما ينجيهم في الآخرة؟ إيمانهم بالآخرة هو الذي يجعلهم يقيمون الصلاة على وجهها، ويؤدون الزكاة، ويؤمنون بما أمر الله عز وجل بالإيمان به، وبما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. من صفاتهم كذلك: أنهم يعفون ويصفحون، كما قال عز وجل: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]. وقال عز وجل: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]. وقال عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. فمن صفات المتقين: أنهم يعفون ويصفحون، ولذلك هم أولى الناس بعفو الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لغلمانه تجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عز وجل عنه). فمن صفات المتقين أنهم يعفون ويصفحون. ومن صفات المتقين كذلك: أنهم يعدلون في حكمهم، كما قال الله عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. فهم يعدلون في أقوالهم وفي حكمهم. ومن صفاتهم كذلك: أنهم أصدق الناس إيماناً، وأصدق الناس أقوالاً، وأصدق الناس أعمالاً، كما قال عز وجل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]. فهم أصدق الناس، وأول الناس تصديقاً للمرسلين، فهم أصدق الناس في الأقوال وفي الأعمال وفي الإيمان. ومن ذلك: أنهم يكونون دائماً مع الصادقين، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. والصادقون قيل: هم الرسل، وقيل: هم الصحابة رضي الله عنهم، وقيل: قد وسم الله المهاجرين بالصدق، ووصفهم الله بالصدق، ثم أمر الأنصار أن يكونوا تبعاً للمهاجرين، وهذه الآية مما استدل به أبو بكر رضي الله عنه على استحقاق المهاجرين للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل وصف المهاجرين بأنهم هم الصادقون، ووصف الأنصار بأنهم هم المفلحون، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. فقال: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء. فمن علامات التقوى أن نكون مع الصادقين مع الصحابة رضي الله عنهم في عقيدتهم وفي إيمانهم، وفي أقوالهم، وفي منهجهم، في فهم الكتاب والسنة. كذلك من علامات الصدق ومن علامات التقوى أن نكون مع الصادقين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً. أهل التقوى ليسوا معصومين من الذنوب والخطايا، وليس هناك معصوم إلا من عصمه الله عز وجل من الأنبياء، ولكنهم لا يقارفون الكبائر، ولا يصرون على الصغائر، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]. فأهل التقوى إذا مسهم طائف، ما قال: إذا وقعوا في كبيرة؛ لأنهم منزهون عن الكبائر، (إذا مسهم طائف) إذا وقعوا في هفوة أو صغيرة، فإنهم شديدو الحساسية، قلوبهم منورة بالإيمان، يحسون بأدنى ريبة وبأدنى معصية، ويتوجعون لها، فيتوبون ويرجعون إلى الله عز وجل. يتذكرون وعد الله عز وجل ووعيده، فيرجعون إلى الله عز وجل بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية. أما إخوان الشياطين فإنهم -أي: الشياطين- يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، يتابع بين المعاصي وبين الكبائر، ولا يتذكر، ولا يعود إلى الله عز وجل، ولا يتوب إلى الله عز وجل، وقال تعالى: {وَالَّذِ

مواقف إيمانية في الصبر على البلاء

مواقف إيمانية في الصبر على البلاء الصبر ضياء للمسلم في حياته، وأعلى منه رتبة الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، وقد ضرب في ذلك الأنبياء والصالحون أروع الأمثلة، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيوب عليه السلام، فعلى المرء المسلم أن يتحلى بالصبر والرضا حتى ينال الدرجات العلى.

أنواع الصبر وحاجة الإنسان إليه

أنواع الصبر وحاجة الإنسان إليه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فلما كانت الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء لا يسلم المؤمن في الدنيا من المصائب والرزايا والبلايا، قال بعضهم: المرء رهن مصائب لا تنقضي حتى يوسد جسمه في رمسه فمؤجل يلقى الردى في غيره ومعجل يلقى الردى في نفسه ونحن في أزمنة متأخرة حرم فيها المسلمون من التحاكم إلى شريعة ربهم عز وجل، ونكست فيها أعلام العلم والدين، وصار الدعاة إلى الله عز وجل والملتزمين بشرع الله عز وجل محاربين مضطهدين، وارتفعت أعلام الفتن، وكثرت الشبهات والمحن، وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر، فما أحوجنا إلى تعلم الصبر والعمل به، فإن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على الطاعات حتى يؤديها. وصبر على المعاصي حتى لا يقع فيها. وصبر على الأقدار المؤلمة التي تخالف هوى النفس. وهذه الأنواع الثلاثة حاجتنا إليها في هذا الليل الحالك أكثر من حاجتنا إلى الطعام والشراب. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.

تعريف الصبر وذكر مراتبه

تعريف الصبر وذكر مراتبه معنى الصبر: الصبر لغة: هو المنع والحبس. وشرعاً هو: حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك. وقيل: هو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به عن فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها. وقال بضعهم: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقال آخر: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقال آخر: هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى. وقال آخر: تجرع المرارة من غير تعبس. والنفس لها قوتان: قوة إقدام وقوة إحجام. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره. وقيل: الصبر شجاعة النفس. ومن هنا أخذ القائل قوله: الشجاعة صبر ساعة. والصبر والجزع ضدان، كما أخبر تعالى عن أهل النار أنهم يقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]. فهذا تعريف الصبر.

منزلة الرضا ومحلها من الصبر

منزلة الرضا ومحلها من الصبر أما الرضا فهو: انشراح الصدر وسعته بالقضاء. يعني: أن الرضا درجة أعلى من درجة الصبر، فالصبر: المنع والحبس، منع النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب ونحو ذلك. أما الرضا فهو: انشراح الصدر، وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال الألم. يعني: أن الإنسان لو أصيب ببلاء فهو لا يتمنى زوال هذا البلاء؛ لما يرجو من ثوابه عند الله عز وجل، فهو لو خير بين أن الذي ذهب منه يعود إليه وبين ألا يعود لاختار ألا يعود، فلو مات له ولد أو فقد ماله أو فقد سمعه أو بصره فإن طمعه في ثواب الله، ومحبته لقضاء الله عز وجل وقدره تجعله لا يتمنى غير ما كان، فهو يرضى بقدر الله عز وجل، ويطمع في الثواب، وتطمئن نفسه إلى قضاء الله عز وجل وقدره. فالرضا هو: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال الألم، وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة. وإذا وجد الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية، فللعبد فيما يكره درجات: درجة الرضا ودرجة الصبر. فالرضا فضل مندوب إليه، والصبر واجب على المؤمن حتماً. وأهل الرضا تارة يلاحظون المبتلي وخيره لعبده في البلاء، وأنه غير متهم في قضائه. وتارة يلاحظون عظمة المبتلي وجلاله وكماله، فيستغرقون في مشاهدة ذلك؛ حتى لا يشعرون بالألم، وهذا يصل إليه أهل المعرفة والمحبة، حتى ربما تلذذوا بما أصابهم؛ لملاحظتهم صدوره من حبيبهم.

الفرق بين الرضا والصبر

الفرق بين الرضا والصبر والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر حبس النفس وكفها عن السخط مع وجود الألم وتمني زواله، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع. والرضا يوافق الصبر في حبس النفس وكف الجوارح، ويزيد عليه عدم تمني زوال الألم. ففرح العبد بالثواب وحبه لله عز وجل وانشراح صدره بقضائه يجعله لا يتمنى زوال الألم. قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به -أي الرضا- كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، غفرت ذنوبه). فالرضا لم يوجبه الله عز وجل على خلقه، ولكن ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها، فمن رضي عن ربه رضي الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عز وجل عنه؛ يعني: كما أن توبة العبد تكون نتيجة لتوبة سابقة من الله عز وجل -توبة إذن وتوفيق- ويعقبها توبة قبول وإثابة، فكذلك الرضا. فالله عز وجل يرضى عنه فيرزقه الرضا، ثم يرضى عنه رضا قبول وإثابة، فالله عز وجل هو الأول والآخر. فرضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه على عبده، رضا قبله أوجب له أن يرضى، ورضا بعده هو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين، نسأل الله أن يقسم لنا من رضاه ما يبلغنا به غاية المنى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

فضل الصبر

فضل الصبر فضيلة الصبر: وردت آيات كثيرة وأحاديث نبوية شريفة تبين فضيلة هذه العبادة:

فضل الصبر في القرآن الكريم

فضل الصبر في القرآن الكريم من ذلك: قوله عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. والمصيبة هي كل ما يؤذي الإنسان ويصيبه، وكان عمر رضي الله عنه يقول: نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين. يعني بالعدلين: الصلاة والرحمة، والعدلان: ما يوضعان فوق سنام البعير، والعلاوة: الزيادة على العدلين التي توضع فوق سنام البعير. فالصابرون هنا يبشرون بثلاثة أمور: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:155 - 157]. وهما العدلان: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] وهذه العلاوة. وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. وفاز الصابرون بمعية الله عز وجل، قال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]. وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، فقال تعالى -وبقوله اهتدى المهتدون-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]. وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]. وعلق الفلاح بالصبر والتقوى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. وأخبر عن محبته للصابرين فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. ولا يفوز بجنة الله عز وجل إلا الصابرون، قال تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]. نسأل الله تعالى أن يفتح علينا في الدين، وأن يجعلنا من الصابرين الشاكرين.

فضل الصبر في السنة النبوية

فضل الصبر في السنة النبوية أما أدلة السنة على فضل الصبر والصابرين، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يصب منه). وأنتم تجدون أصحاب الدنيا والشهوات والمال والجاه والسلطان عندهم الصحة والعافية والمال والجاه، فيستعينون بذلك على المعاصي فيزدادون غياً وتمادياً، وتجدون أهل الإيمان غالباً عندهم الأمراض والفقر والأوجاع، فليس إعطاء الدنيا دليلاً على محبة الله عز وجل، بل قال الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44]. قال بعض السلف: يعطيهم النعم ويمنعهم الشكر. وقال بعضهم: كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً). وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: أصبر، لكن ادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها). فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن صبرها على هذا المرض يوجب لها الجنة، وأنها إذا صبرت عليه تدخل الجنة، وإن شاءت أن يدعو لها فسيدعو لها، فاختارت الصبر: ثم قالت: إني أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة). وقال أنس بن مالك رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -يعني: عينيه- فصبر عوضته منهما الجنة). فبين أن جزاء الصبر على هذه المصيبة الجنة؛ لأنها مصيبة عظيمة، فمن ابتلي بهذا البلاء فجزاؤه الجنة إذا صبر. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها). وهذا إنما يكون عند الصدمة الأولى، كما في الحديث: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، يعني: محك الصبر الحقيقي عند الصدمة الأولى؛ لأن الإنسان يسلم بقضاء الله بعد ذلك، وإنما يفعل الصابر في بداية المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام. فقدر الله عز وجل واقع مثل السيف، فالصبر الحقيقي أن الإنسان يصبر عند نزول البلاء. والناس بعد ذلك يسلمون، فمن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم، فكما أن البهائم تكون مستسلمة لقضاء الله عز وجل وقدره ولما هي فيه، فالناس بعد ذلك يستسلمون، ولكن الصبر الحقيقي الذي يثاب عليه المرء إنما يكون عند الصدمة الأولى. قالت أم سلمة: (فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ ثم أني قلتها، فأخلف الله لي رسوله صلى الله عليه وسلم).

آثار عن السلف الصالح في الصبر والرضا

آثار عن السلف الصالح في الصبر والرضا آثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم في الصبر والرضا: قال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوساً. وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه. وقال يونس بن زيد سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن - ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك -: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم أن تصيبه المصيبة مثل قبل أن تصيبه. وقال فضيل بن عياض في قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]. قال: صبروا على ما أمروا به، وصبروا عما نهوا عنه. وقالوا: الحيلة فيما لا حيلة فيه الصبر. وقالوا: من لم يصبر على القضاء فليس لحمقه دواء. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن الله عز وجل إذا قضى قضاءً أحب أن يُرضى به. وقال أبو عبد الله البراثي: من وهب له الرضا فقد بلغ أقصى الدرجات. وقالت رابعة: إن الله عز وجل إذا قضى لأوليائه قضاءً لم يتسخطوا. وقتل لبعض الصالحين ولد في سبيل الله عز وجل فقيل له: أتبكي وقد استشهد؟ فقال: إنما أبكي كيف كان رضاه عن الله عز وجل حين أخذته السيوف. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. وقال علقمة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى. وقال أبو معاوية الأسود في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] قال: الرضا والقناعة، يعني: أن هذه الحياة الطيبة هي الرضا والقناعة. ونظر علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى عدي بن حاتم كئيباً فقال: يا عدي! من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله. وقال عمر بن عبد العزيز: ما بقي لي سرور إلا في مواقع القدر. وقيل له: ما تشتهي؟ قال ما يقضي الله عز وجل. وقال الحسن: من رضي بما قسم له وسعه وبارك الله له فيه، ومن لم يرض لم يسعه ولم يبارك له فيه. وقال بعضهم: من لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء. وأصبح أعرابي وقد ماتت له أباعر كثيرة، فقال: لا والذي أنا عبد في عبادته لولا شماتة أعداء ذوي أحن ما سرني أن إبلي في مباركها وأن شيئاً قضاه الله لم يكن وقال حفص بن حميد: كنت عند عبد الله بن المبارك بالكوفة حين ماتت امرأته، فسألته: ما الرضا؟ قال: الرضا ألا يتمنى خلاف حاله. يعني: أن الإنسان لا يأسف على شيء فاته أو يتمنى أن يكون على غير ما هو فيه، فقال: الرضا: ألا يتمنى خلاف حاله. فجاء أبو بكر بن عياش فعزى ابن المبارك، قال حفص: ولم أعرفه. فقال عبد الله: سله عما كنا فيه، فسألته فقال: من لم يتكلم بغير الرضا فهو راض. يعني: أن الإنسان الذي كلامه كله فيه استسلام وقبول لقضاء الله عز وجل فهو راض. قال حفص: وسألت الفضيل بن عياض فقال: ذاك للخواص. قال قادم الديلمي العابد: قلت للفضيل بن عياض: من الراضي عن الله؟ قال الذي لا يحب أن يكون على غير منزلته التي جعل فيها. ونحن عندما نذكر أمثلة في الصبر والرضا نذكر ذلك من أجل أن تعرفوا حقيقة الرضا، وكيف أن الإنسان لا يختار إلا ما اختاره الله عز وجل له وإن كان هو من المصائب. وقال أبو عبد الله البراثي: لم ير أرفع درجات من الراضين عن الله عز وجل على كل حال.

بعض الدوافع والأسباب التي تعين على الصبر والرضا

بعض الدوافع والأسباب التي تعين على الصبر والرضا وقبل أن نشرع في المواقف الإيمانية في الرضا والصبر نتكلم عن بعض الدوافع التي تعين على الصبر والرضا، وهذه الدوافع لا شك أنها تعين على مثل هذه المواقف الإيمانية؛ لأن المواقف الإيمانية تكون نتيجة لغلبة الإيمان على قلب العبد وإيثار العبد لمراد الله عز وجل، ومحبته لدين الله عز وجل. فالذي يدفع إلى مثل هذه المواقف الإيمانية قوة الإيمان وقوة الأحوال الإيمانية، فهذه الدوافع تعين على الصبر والرضا. فلا شك في أن الصبر مقاماً رفيعاً، وطاعة يحبها الله عز وجل، ويحب أهلها، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. فقد جعل الله ثواب الصبر بغير حساب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. والصبر واجب حتماً، أما الرضا فهو أعلى رتبة منه، وجزاؤه رضا الله عز وجل الذي هو أكبر من جنة الله عز وجل، فما هي الدوافع والأسباب التي تعين على الصبر والرضا؟ و A أولاً: أن يتدبر العبد ما سبق من آيات كريمات، وأحاديث نبوية في فضل الصبر والرضا، فيعلم العبد فضل الصبر والرضا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ثانياً: أن يدرس المواقف الإيمانية، كالصبر على البلاء والرضا بأمور القضاء؛ فإنه مما يعينه على الصبر؛ لأنها رايات مرفوعة على طريق الإيمان، فيتأسى بأصحاب هذه المواقف المؤمنون الصادقون، وينسج على منوالهم العباد الصالحون. ومن ذلك أن يعلم أن القدر سبق بذلك، قال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]. يعني: أن الله عز وجل جعل لنا ملائكة تحفظنا، قال الله عز وجل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]. وهذه الملائكة لا تحفظه من أن ينفذ فيه أمر الله، بل هذه الملائكة من أمر الله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42]. فكل إنسان منا تعرض خلال حياته لمواطن كثيرة جدة كاد أن يهلك فيها، ولكن الله عز وجل يحفظه. فالملائكة التي تحفظ العبد وتكلؤه بالليل والنهار تتخلى عنه إذا جاء أمر قدره الله عز وجل له، فإذا جاء القدر تخلوا عنه. فالإنسان إذا أصيب ببلاء فليتذكر أن هذا البلاء مكتوب في اللوح المحفوظ، وأن الله عز وجل شاءه، وأنه لابد أن يكون؛ والمعنى: أن المصائب مقدرة، لا أنها وقعت على وجه الاتفاق كما يقول الطبائعيون، ولا أنها عبث، بل هي صادرة عمن صدرت عنه محكمات الأمور. فالله عز وجل قدرها، فلابد أن فيها حكمة، يقول بعض السلف: إذا وقعت ذبابة على يدك فاعلم أنها وقعت بقدر ولحكمة. فكل أمر لحكمة؛ لأن مدبر هذه الأمور هو الحكيم الخبير، فالله عز وجل يدبر أمر ملكه كيف يشاء، فالأمور لا تأتي كما يقول الطبائعيون اتفاقاً، ولكنها بقدر وبحكمة، بل هي صادرة عمن صدرت عنه محكمات الأمور، ومتقنات الأعمال، وإذا كانت صادرة عن الحكيم فهو لا يعبث، فهي إما لزجر عن فساد أو لتحصيل الأجر أو لعقوبة على ذنب. رابعاً: العلم بأن الدنيا دار الابتلاء والكرب، لا يرجى منها راحة. وما استغربت عيني فراقاً رأيته ولا أعلمتني غير ما القلب عالمه فالإنسان لا يستغرب أي بلاء؛ لأن الدنيا أصلاً دار كدر، لذلك جرى القدر، ويا عجباً ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع! فالإنسان لا يستغرب أن يصاب ببلاء؛ لأن الدنيا دار امتحان ودار بلاء. خامساً: أن يقدر وجود ما هو أكبر من تلك المصيبة، كمن له ولدان ذهب أحدهما؛ فقد كان يمكن أن يذهب الاثنان، فقد تذهب أسر بكاملها في حوادث، نسأل الله العافية، فالإنسان يقدر أن المصيبة كانت أكثر من ذلك. سادساً: النظر في حال من ابتلي بمثل هذا البلاء، فإن التأسي راحة عظيمة، قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي وهذا المعنى قد حرم الله عز وجل منه أهل النار، كما قال عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] يعني: يحرم أهل النار من التأسي. فيقولون: المصيبة إذا عمت هانت، يقال: فلان أصيب بكذا، وفلان بكذا، فيتسلى الناس بعضهم ببعض. ولكن أهل النار يظن كل إنسان منهم أنه محبوس وحده، وأنه لم يبق في النار سواه. سابعاً: أن يتذكر نعم الله عز وجل عليه، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. يعني: أن الإنسان بدل ما يفكر في المصائب التي تصيبه يتذكر نعم الله عز وجل عليه. ثامناً: أن العبد إذا صبر واحتسب فإن الله يعوضه ولا يخيبه. من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعت من عوض تاسعاً: أن الجزع لا يرد المصيبة، بل يضاعفها،

مواقف إيمانية في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء

مواقف إيمانية في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء مواقف إيمانية في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء:

موقف أيوب عليه السلام في الصبر على البلاء والرضا بالقضاء

موقف أيوب عليه السلام في الصبر على البلاء والرضا بالقضاء وأولى الناس بالذكر في هذا الباب هو أيوب عليه السلام؛ لأنه الذي يضرب به المثل في الصبر. قال ابن كثير رحمه الله: قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة من أرض حوران، وحكى ابن عساكر أنها كانت كلها له، وكان له أولاد وأهلون كثير، فسلب منه ذلك جميعه، وابتلي في جسده بأنواع من البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما، وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليلة ونهاره وصبحه ومسائه. وطال مرضه حتى عافه الجليس واستوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه وتعرف قديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته، وضعف حالها، وقل مالها، حتى كانت تخدم الناس بالأجر وتطعمه، وتقوم بحاجته رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد، وما يختص بها من المصيبة بالزوج وضيق ذات اليد، وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، وقال: يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه). ولم يزد هذا أيوب عليه السلام إلا صبراً واحتساباً، وحمداً وشكراً، حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام. ويضرب أيضاً بما حصل له من أنواع البلاء، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:41 - 44]. قال السعدي رحمه الله: ولما تطاول به المرض العظيم ونسيه الصاحب والحميم نادى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، فقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42]، فركض، فنبعت بركضته عين ماء بارد، فقيل له: اشرب منها واغتسل، ففعل ذلك فذهب ما في ظاهره وباطنه من البلاء. وقال الحافظ: أصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جريج وصححه ابن حبان والحاكم من طريق نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس: أن أيوب ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه فكانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر: لقد أذنب أيوب ذنباً عظيماً وإلا لكشف عنه هذا البلاء، فذكره الآخر لأيوب، فحزن ودعا الله حينئذ، فخرج لحاجته، وأمسكت امرأته بيده، فلما فرغ أبطأت عليه، فأوحى الله إليه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42]، فضرب برجله الأرض فنبعت عين فاغتسل منها، فرجع صحيحاً، فجاءت امرأته فلم تعرفه، فسألته عن أيوب فقال: إني أنا هو، وكان له أندران: أحدهما للقمح، والآخر للشعير، فبعث الله سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض، وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض. وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه - يعني: يجمع في ثوبه من هذا الجراد الذي هو من ذهب- فناداه ربه: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب! ولكن لا غنى لي عن بركتك). ولا بأس أن يطلب الإنسان المال الحلال حتى ولو كان عنده مال كثير، فأيوب عليه السلام كان عنده ذهب وفضة، ومع ذلك كان يجمع جراد الذهب فقال الله عز وجل له: (يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب! ولكن لا غنى لي عن بركتك). ففي قصة أيوب عليه والسلام عبرة للمعتبرين، فإنه صبر هذا الصبر الجميل على ذهاب ماله وأقاربه وصحته، وثبت على حبه لله عز وجل وصبره على قضائه وقدره، واقتصاره على الشكوى إلى الله عز وجل، وهي لا تنافي الصبر؛ لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]، مع أنه شكى إلى الله وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. وزاده عز وجل من فضله، وهذه عاقبة المواقف الإيمانية دائماً رفعة الدنيا والآخرة، فكما كان يوسف عليه السلام مثلاً ل

موقف أم سليم الأنصارية في الصبر والرضا

موقف أم سليم الأنصارية في الصبر والرضا من المواقف الإيمانية في الصبر: موقف أم سليم امرأة أبي طلحة رضي الله عنهما. عن أنس رضي الله عنه قال: (اشتكى ابن لـ أبي طلحة فمات وأبوه أبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً -قيل: غسلته وكفنته، وقيل: تزينت له- وجعلت ابنها في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح). فلم تستقبله عند دخوله بالمصائب والمشاكل، بل جعلت تهدئ من نفسه ثم تخبره في الوقت المناسب، مع أن النساء أقل صبراً بالنسبة لمرض الأولاد أو موت الأولاد، ولكن هذه المرأة تضرب هذا المثل العظيم جداً في الصبر والأدب، فقال أبو طلحة: (كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح). وظن أبو طلحة أنها صادقة، وهي فعلاً صادقة، ولكنها عرضت بالكلام. قال: (فباتا، فلما أصبح اغتسل -إشارة إلى أنه أصاب منها- فلما أراد أن يخرج أعلمته)، يعني: صبرت كل هذا الوقت، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات. وفي بعض الروايات: أنها قالت له: (لو أن أحداً وضع عندك وديعة ثم أراد أن يستردها، أكان يحزنك ذلك؟ فقال: لا، فأخبرته بعد ذلك) فمهدت له الخبر بضرب هذا المثل. قال: (فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبره بما كان منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما، فقال رجل من الأنصار: فولد له ولد فرأيت له تسعة أولاد كلهم قد حفظوا القرآن). فرزقت ولداً وسمي عبد الله، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وكان من ذرية هذا الولد هؤلاء القراء التسعة. وفي بعض الرويات: أنها جاءت بغلام حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه عبد الله، والذي كان من سلالته الإخوة القراء. فالحاصل: أن المواقف الإيمانية ترفع العبد في الدنيا والآخرة. قال الحافظ: وقوله: (هيأت شيئاً) قال الكرماني: أي: أعدت طعاماً لـ أبي طلحة وأصلحته، وقيل: هيأت حالها وتزينت. وقال الحافظ: بل الصواب أنها هيأت أمر الصبي بأن غسلته وكفنته، كما روي في بعض الطرق صريحاً. وقوله: (فلما أصبح اغتسل) كناية عن الجماع. فهذا موقف إيماني من أم سليم رضي الله عنها، مع أن النساء أشد هلعاً وجزعاً في مثل هذه المواقف، ولكن الإيمان يغير طبائع النفوس، ويعلو بهمم العباد، ويرفعهم في الدنيا والآخرة. وعمت بركة هذا الموقف الإيماني ذرية أبي طلحة وأم سليم ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في أولاد أولادها تسعة كلهم ختم القرآن، فليتأس الشخص وليتعلم أوصاف السابقين الأولين، وليعلم أن الرجال أولى بهذا الصنيع.

موقف رجل صالح مع ملك ظالم في الصبر والرضا

موقف رجل صالح مع ملك ظالم في الصبر والرضا ومن هذه المواقف الإيمانية: قصة رجل من أفضل أهل زمانه، قال وهب بن منبه رحمه الله: أتي برجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك كان يجبر الناس على أكل لحوم الخنازير، فلما أتي به أعظم الناس مكانه وهالهم أمره، فقال له صاحب شرطة الملك: ائتني بجدي تذكيه، يعني: تذبحه مما يحل لك أكله، فأعطنيه؛ فإن دعا بلحم الخنزير أتيتك به فكله، يعني: أن صاحب الشرطة قال لهذا الرجل الذي هو من أفضل أهل زمانه: ائتني بجدي تذكيه وتذبحه، ثم إذا أمر الملك أن يعطى من لحم الخنزير فيعطيه من هذا اللحم. قال: فأعطنيه، فإن دعا بلحم الخنزير أتيتك به فكله. فذبح جدياً فأعطاه إياه، ثم أتي به إلى الملك، فدعي بلحم الخنزير، فأتاه صاحب الشرطة بلحم الجدي الذي كان أعطاه إياه، فأمره الملك بأكله، فأبى، فجعل صاحب الشرطة يغمز له ويأمره أن يأكله، ويريه أنه هو اللحم الذي دفعه إليه، فأبى أن يأكله، فأمر الملك صاحب الشرطة أن يقتله، فلما ذهب به قال: ما منعك أن تأكل وهو اللحم الذي دفعت إلي؟ أظننت أني أتيتك بغيره؟ قال: لا، قد علمت أنه هو، ولكني خفت أن يفتتن الناس بي، فإذا أريد أحدهم على أكل لحم الخنزير قال: قد أكله فلان، فيستنوا بي، فأكون فتنة لهم، فقتل رحمة الله عليه!

موقف أبي عبيدة بن الجراح في الصبر والرضا

موقف أبي عبيدة بن الجراح في الصبر والرضا ومن المواقف الإيمانية في الصبر على البلاء والرضا بالقضاء: موقف أبي عبيدة بن الجراح، وأبو عبيدة هو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، شهد بدراً وقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحد بلاءً حسناً، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانقلعت ثنيتاه، فحسن ثغره بذهابهما، حتى قيل: ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة. فرضيه أبو بكر رضي الله عنه خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر وأبا عبيدة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). ومناقبه رضي الله عنه كثيرة شهيرة، ومواقفه الإيمانية عالية رفيعة في البذل والتضحية والزهد، وإنما قصدنا موقفه الإيماني عند نزول وباء الطاعون. عن قيس بن مسلم عن طارق أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في الطاعون: إنه قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك. كان أبو عبيدة في هذا الوقت على رأس جيش في الشام، فلما سمع عمر رضي الله عنه بوقوع طاعون عمواس أرسل إلى أبي عبيدة، وطاعون عمواس منسوب إلى قرية تسمى عمواس بين الرملة وبين بيت المقدس. وقال الأصمعي: هو من قولهم: زمن الطاعون عم وآسى. يعني: فاختصر وقيل له: عمواس، ولكن الصحيح الأول، والله أعلم. فلما سمع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بنزول الطاعون أرسل إلى أبي عبيدة فقال له: إني قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك فيها، فعجل إلي، فلما قرأ الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين؛ إنه يريد أن يستبقي ما ليس بباق. فكتب: إني قد عرفت حاجتك، فحللني من عزيمتك؛ فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد، قال: فتوفي أبو عبيدة، وانكشف الطاعون. وروى ابن المبارك في الزهد عن شهر بن حوشب -وهو مختلف فيه- قال: حدثني عبد الرحمن بن غنم عن الحارث بن عميرة قال: أخذ بيدي معاذ بن جبل فأرسله إلى أبي عبيدة فسأله: كيف هو؟ وقد طعن، فأراه أبو عبيدة طعنة، يعني: إصابة الطاعون، وهو يظهر على شكل أورام يصيب الغدد اللمفاوية، ويظل ينتشر في أماكن متفرقة في الجسم، وينتقل إلى الرئتين وغير ذلك، يقول: وقد طعن، فأراه أبو عبيدة طعنة خرجت في كفه، فتكاثر شأنها في نفس الحارث وفرق منها حين رآها، يعني: انزعج عندما رأى هذه الطعنة، فأقسم أبو عبيدة بالله إنه ما يحب أن له مكانها حمر النعم. فصبره رضي الله عنه وعدم استجابته لاستدعاء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ثم رضاه بما أصيب به من الطاعون وعدم تمنيه زوال البلاء هو عين الرضا. فالإنسان لا يتمنى البلاء أبداً، لأن ساحة العافية هي أوسع، ولكن إذا نزل بلاء فيصير ميدان الصبر هو الميدان الواسع، وأعلى منه ميدان الرضا، وهو عدم تمني زوال ما هو فيه. فصبره رضي الله عنه وعدم استجابته لاستدعاء أمير المؤمنين عمر ثم رضاه بما أصيب به من الطاعون وعدم تمنيه زوال البلاء هو عين الرضا، وهو أعلى الدرجات، ومن أولى بذلك من الصحابة الكرام، ثم من أولى بكل فضيلة من العشرة المبشرين رضي الله عنهم أجمعين.

موقف عروة بن الزبير في الصبر والرضا

موقف عروة بن الزبير في الصبر والرضا وهذا فارس آخر من فرسان الصبر وهو عروة بن الزبير: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: وقعت الأكلة في رجله فقيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: إن شئتم، والأكلة الظاهر أنها مرض يصيب الأطراف وينتقل. فجاء الطبيب فقال: أسقيك شراباً يزول به عقلك، وطبعاً يجوز أخذ البنج أو شيء يذهب العقل؛ لأن هذه الآلام قد تذهب بحياة الإنسان، فقد يدخل في صدمة عصبية، وقد يموت من ذلك، فالعلماء رخصوا في العمليات الجراحية، وعمليات البتر بتعاطي البنج ونحوه، ولكن عروة بن الزبير اختار المقام الذي لا يصبر عليه إلا من هو إمام في الصبر. فجاء الطبيب فقال: أسقيك شراباً يزول به عقلك؟ فقال: امض لشأنك، ما ظننت أن خلقاً يشرب شراباً يزول فيه عقله حتى لا يعرف ربه! قال: فوضع المنشار على ركبته اليسرى ونحن حوله فما سمعنا له حساً، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت. وما ترك حزبه من القراءة تلك الليلة. وقال عامر بن صالح عن هشام بن عروة: إن أباه خرج إلى الوليد بن عبد الملك، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئاً، فظهرت به قرحة، ثم زاد به الوجع، فلما قدم على الوليد قال: يا أبا عبد الله! اقطعها، قال: دونك، فدعا له الطبيب، وقال له: اشرب المرقد، فلم يفعل، فقطعها من نصف الساق، فما زاد على قوله: حسي حسي، فقال الوليد: ما رأيت شيخاً أصبر من هذا. وأصيب عروة رحمه الله في هذا السفر بابنه محمد؛ ركضته بغلة في إصطبل، فلم نسمع منه كلمة في ذلك، فلما كان بوادي القرى قال: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت منهم واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، فإن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت. فهذا موقف إيماني في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء، فكم من إنسان يدعي الإيمان، فإذا نزل به البلاء أو المصيبة تزلزل إيمانه، وأساء الظن بربه عز وجل! والمواقف الإيمانية كما ذكرنا غير مرة ثمرة من ثمرات الإيمان، فالدافع لها قوة الإيمان ومحبة الرحمان، ولا يصبر هذا الصبر الجميل إلا إذا اكتمل إيمانه، وعلا يقينه، وقد كان على هذا أئمة العلم والعمل والعبادة والجهاد. فقد كان عروة يسرد الصيام، ويقوم بربع القرآن كل ليلة، ويحكم ما عند خالته عائشة رضي الله عنها من مرويات قبل وفاتها بثلاث سنوات. وقد ورد أنه نظر إلى ساقه التي قطعت فقال: الله يعلم أني ما مشيت بها إلى معصية قط وأنا أعلم. فرحم الله أئمتنا وجزاهم عنا خير الجزاء، فقد أسندوا لنا الأحاديث النبوية، وضربوا لنا أروع الأمثلة في العبادة والصبر والجهاد، ولا شك في أن هذه النماذج وهذه الهمم في العلم والعمل كلها تدل على بركة رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن توجد في أمة من الأمم مثل هذه الثمرات الطيبة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ورحم الله علماء المسلمين وأعظم مثوبتهم.

موقف الخنساء رضي الله عنها في الصبر والرضا

موقف الخنساء رضي الله عنها في الصبر والرضا ومن تلك المواقف: موقف الخنساء رضي الله عنها وأبنائها الأربعة: حضرت الخنساء رضي الله عنها حرب القادسية، وكان معها بنوها أربعة رجال، فوعظتهم، وحرضتهم على القتال وعدم الفرار، وقالت: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لأب واحد، وأم واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت أخوالكم، فلما أصبحوا باشروا القتال، حتى قتلوا، فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. وهذا الدعاء بعض العلماء يقول: فيه نظر؛ لأن بعضهم يقول: مستقر الرحمة هي ذات الله عز وجل، وعلى كل حال، الأولى أن يقال: في فردوسه الأعلى. قال: وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى قبض. وقد أجمع أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، وقد كانت تقول في أول أمرها البيتين والثلاثة، حتى قتل شقيقها معاوية بن عمرو وقتل أخوها لأبيها صخر وكان أحبهما إليها؛ لأنه كان حليماً جواداً محبوباً في العشيرة. ومما قالت فيه: ألا يا صخر! لا أنساك حتى أفارق مهجتي ويشق رمسي يذكرني طلوع الشمس صخراً وأبكيه لكل غروب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي فانظر -رحمك الله- كيف جزعت على أخيها صخر وأنشدت ما تتقطع له القلوب، وعندما تشرفت بالإسلام حضت أبناءها على الجهاد، ورغبتهم في الاستشهاد، فلما قتلوا قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم. فهذا يبين قيمة الإيمان، حيث إنه يغير الطبائع ويغير الأحوال، ويغير الأعمال، ويغير القلوب والتصرفات. إنه الإيمان الذي يغير القلوب، ويرفع الهمم، وينتج المواقف الإيمانية التي وفق لها سادات المؤمنين، والتي يرتفعون بها في الدنيا وعند الله رب العالمين.

موقف سعد بن أبي وقاص في الصبر والرضا

موقف سعد بن أبي وقاص في الصبر والرضا ومن تلك المواقف أيضاً موقف سعد بن أبي وقاص: لما قدم سعد بن أبي وقاص مكة وقد كان كف بصره جاءه الناس يهرعون إليه كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة. قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت إليه فعرفني، وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم فذكر قصة قال في آخرها: فقلت له: يا عم! أنت تدعو للناس، فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك، فتبسم وقال: يا بني! قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري. فهذا حال الرضا من الإنسان يرضى بالحال التي هو فيها، ويطمع في ثوابها، ولا يتمنى زوالها. فالعبد لا يصل إلى درجة إجابة الدعاء إلا بعد مجاهدة عظيمة وتحبب وتقرب إلى الله عز وجل، فترتفع رتبة العبد بالطاعة وكثرة النوافل فيصير في درجة تؤهله إن سأل الله عز وجل أعطاه، وإن استعاذ بالله عز وجل أعاذه. والعبد يصل مع ذلك إلى درجات عالية من المحبة والرضا والتعظيم لأمر الله عز وجل، كما قال بعضهم: أحبه إليه أحبه إلي.

موقف رجل أنصاري في الصبر والرضا

موقف رجل أنصاري في الصبر والرضا وهذا موقف رجل من الأنصار، والأنصار أصحاب مواقف إيمانية مدحهم الله عز وجل بالإيمان ووصفهم بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. تبوءوا دار الهجرة فسبقوا، وكانوا من سكان دار الهجرة، وسبقوا أيضاً إلى الإيمان. عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فغشينا داراً من دور المشركين، فأصبنا امرأة رجل منهم، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وجاء صاحبها -وكان غائباً- فذكر له مصابه، ثم حلف لا يرجع حتى يهريق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دماً، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق نزل في شعب من الشعاب وقال: من رجلان يكلأاننا في ليلتنا هذه من عدونا؟ قال: فقال رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار: نحن نكلؤك يا رسول الله! قال: فخرجا إلى فم الشعب دون العسكر، ثم قال الأنصاري للمهاجري: أتكفيني أول الليل وأكفيك آخره، أو تكفيني آخره وأكفيك أوله؟ قال: فقال له المهاجر: بل اكفني أوله، وأكفيك آخره، فنام المهاجري وقام الأنصاري يصلي، فافتتح سورة من القرآن فبينما هو فيها يقرؤها جاء زوج المرأة، فلما رأى الرجل قائماً عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فنزعه، ثم وضعه وهو قائم يقرأ في السورة التي هو فيها -يعني: سحب السهم ورماه واستمر في الصلاة ولم يتحرك كراهية أن يقطعها- قال: ثم عاد له زوج المرأة فرماه بسهم آخر، فوضعه فيه، قال: فانتزعه وهو قائم يصلي في السورة التي هو فيها، ولم يتحرك؛ كراهية أن يقطعها، ثم عاد له زوج المرأة المرة الثالثة فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فانتزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اقعد فقد أتيت، قال: فجلس المهاجري، فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف أنه قد نذر به. قال: وإذا الأنصاري يفوح دماً من رميات صاحب المرأة، قال: فقال له أخوه المهاجري: يغفر الله لك، ألا كنت آذنتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي بها، فكرهت أن أقطعها، وايم الله! لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها). فلله در الأنصار أصحاب المواقف الإيمانية، وهم الذين تبوءوا الدار والإيمان، وأي صبر مثل هذا الصبر الجميل؟ وأي مواقف تداني تلك المواقف الإيمانية؟ فرضي الله عن أصحابها، ورفعهم بها، وأعلاهم، وقد فعل، فله الحمد والمنة.

موقف عمر بن عبد العزيز في الصبر والرضا

موقف عمر بن عبد العزيز في الصبر والرضا وهذا موقف صبر لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله: عن الربيع بن سبرة قال: لما هلك عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز وكان صنو أبيه، يعني: كان شبيهاً بأبيه في الزهد، بل كان بعض الناس يقول: إنه أفضل من أبيه، ثم هلك أخوه سهل بن عبد العزيز ومولاه مزاحم. وسهل بن عبد العزيز هو أخو عمر بن عبد العزيز، هلكوا في أيام متتابعة، فدخل الربيع بن سبرة عليه فقال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين، فما رأيت أحداً أصيب بأعظم من مصيبتك في أيام متتابعة، والله! ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى قط. قال: فطأطأ عمر رأسه، فقال لي رجل معي على الوسادة: لقد هيجت على أمير المؤمنين. قال: ثم رفع رأسه فقال: كيف قلت الآن يا ربيع؟! فأعدت عليه ما قلت أولاً، فقال: والذي قضى عليهم بالموت ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن. وأعاد الحديث وزاد فيه: ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن؛ لما أرجو من الله تعالى فيهم. إنه الرضا عن الله عز وجل، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. والرضا أكبر من جنة الله عز وجل، وعمر بن عبد العزيز إمام عادل صاحب زهد وورع وعلم وعبادة وشرف وسيادة، وكل أخباره عجيبة. وقد أشار الإمام أحمد رحمه الله إلى أن نشر فضائله فيه خير كثير. فنسأل الله عز وجل أن يجمعنا مع هؤلاء الأعلام بحبنا لهم ونشرنا لأخبارهم، ولله الحمد والمنة على كل نعمة.

موقف صفية بنت عبد المطلب في الصبر والرضا

موقف صفية بنت عبد المطلب في الصبر والرضا وهذا موقف لـ صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها عند مقتل أخيها أسد الله حمزة. لما انهزم المسلمون بعد أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات، وانفض أكثر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق حوله سوى القلائل من أصحابه، قامت صفية رضي الله عنها وبيدها رمح تضرب به وجوه الناس الفارين المنهزمين والأعداء المشركين، وتقول لهم: انهزمتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليها أن ترى أخاها حمزة وقد مثل به، فقال لابنها الزبير: القها فأرجعها؛ لا ترى ما بشقيقها -أي: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه- فلقيها الزبير فقال: يا أماه! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، فقالت صفية: فقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله عز وجل قليل، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى، وعاد الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: خل سبيلها، فأتت صفية إلى حمزة فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن. فهذا موقف إيماني من عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبد المطلب، وقد رأت أخاها وقد مثل به المشركون، ومع ذلك صبرت واحتسبت، فلله درها! وعلى الله تعالى أجرها، والمواقف العظيمة يوفق لها العظماء، وقريش هي قريش، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة، وصفية هي أم الأسد المغوار حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وفارس الإسلام الزبير بن العوام رضي الله عنه، وسوف يأتي موقف آخر لـ أسماء شبيه بهذا الموقف. والقصة طويلة معروفة، وهي قصة أسماء بنت أبي بكر حين قتل ولدها عبد الله بن الزبير.

موقف أسماء بنت أبي بكر في الصبر والرضا

موقف أسماء بنت أبي بكر في الصبر والرضا عن يعلى التيمي قال: دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث وهو مصلوب، فجاءت أمه وهي عجوز طويلة عمياء فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقاً؛ كان صواماً قواماً براً، قال: انصرفي يا عجوز! فقد خرفت! قالت: والله! ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يبعث في ثقيف كذاب ومبير) الحديث. تشير إلى أن المبير هو الحجاج، فهذا موقف إيماني في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء من ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، وما أكثر مواقفها الإيمانية! عن أسماء قالت: صنعت سفرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي حين أراد أن يهاجر فلم أجد لسفرته ولا لسقائه ما أربطها فقلت لأبي: ما أجد إلا نطاقي، فقال: شقيه اثنين فاربطي بهما، قالت: فلذلك سميت ذات النطاقين. وقد طال عمرها رضي الله عنها، فهي أكبر من عائشة الصديقة ببضع عشرة سنة، وهي آخر المهاجرات وفاة. قال ابن سعد: ماتت بعد ابنها بليال، وكان قتله لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين. وعن ابن أبي مليكة قال: دخلت على أسماء بعدما أصيب ابن الزبير فقالت: بلغني أن هذا صلب عبد الله، اللهم لا تمتني حتى أوتى به فأحنطه وأكفنه. فأتيت به بعد فجعلت تحنطه بيدها وتكفنه بعدما ذهب بصرها. وجاء من وجه آخر عن ابن أبي مليكة: وصلت عليه، وما أتت عليها جمعة إلا ماتت.

موقف معاذة العدوية في الصبر والرضا

موقف معاذة العدوية في الصبر والرضا وهذا موقف معاذة العدوية زوجة صلة بن أشيم: روى ابن أبي شيبة بإسناده عن ثابت البناني أن صلة بن أشيم كان في غزاة له ومعه ابن له فقال له: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أبوه فقتل، فاجتمعت النساء فقامت امرأته معاذة العدوية فقالت للنساء: إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. ومعاذة العدوية عابدة من العابدات الشهيرات، وأيضاً صله بن أشيم من العباد والزهاد المشهورين، وإنما تليق المواقف الإيمانية بأرباب العبادة والعلم؛ لأن المواقف الإيمانية ثمرة الإيمان، فهم أحق بها وأهلها. فـ صلة بن أشيم كان يدفع ابنه للجهاد، ويرغبه في الاستشهاد، فهو أراد أن يأخذ ثواب الصبر على ابنه، ثم يبذل نفسه بعد ذلك. فهذا موقف من مواقف البذل والتضحية، يبين كيف أن الواجب على المسلم أن يكون حبه لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللجهاد في سبيل الله أكثر من حبه لأولاده. وفي هذا واعظ لكثير من الآباء الذين يمنعون أولادهم من الالتزام بالشرع المتين، وصحبة الدعاة المخلصين؛ خوفاً عليهم من السجون والمعتقلات، مع أن ما قدره الله عز وجل للعبد لابد له منه، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كم قاتل ونافح وجاهد، وما في جسده موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ومع ذلك مات على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء. وفي هذا عظيم موقف الولد وطاعته لأبيه وبذله نفسه وتقدمه للقتال قبل أبيه حتى قتل رحمه الله. وهكذا موقف معاذة رحمها الله في الصبر على البلاء، فرحم الله سلف الأمة، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

موقف امرأة عربية في الصبر والرضا

موقف امرأة عربية في الصبر والرضا وهذا موقف لعربية ذهب البرد بزرعها فصبرت واحتسبت فعوضت خيراً. قال التنوخي: أخبرني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي بالبصرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة قراءة عليه وأنا أسمع عن البرقي قال: رأيت امرأة بالبادية وقد جاء البرد فذهب بزرع كان لها، فجاء الناس يعزونها، فرفعت طرفها إلى السماء وقالت: اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف وبيدك التعويض عما تلف، تفعل بنا ما أنت أهله، فإن أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك. قال فلم أبرح حتى جاء رجل من الأجلاء فحدث بما كان، فوهب لها خمسمائة دينار. فثواب الصبر والرضا يكون كاملاً في الآخرة، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، ومع ذلك فإن الله عز وجل يعوض المؤمن في الدنيا ولا يخيبه، فهذه من البركات المعجلة للمؤمنين، وتوفية حسابهم يوم القيامة. عن ابن عباس قال: إن للحسنة لنوراً في الوجه، وضياء في القلب، وسعة في الرزق، ومودة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلاماً في الوجه، وسواداً في القلب، وضيقاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.

موقف إبراهيم الحربي في الصبر والرضا

موقف إبراهيم الحربي في الصبر والرضا وهذا موقف لـ إبراهيم الحربي رحمه الله: عن محمد بن خلف قال: كان لـ إبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، قال: فمات، فجئت أعزيه فقال: كنت أشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق! أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقنته الحديث والفقه؟! قال: نعم، رأيت في منامي كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم يوماً حاراً شديد الحر، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، فنظر إلي، وقال: لست أنت أبي، قلت: فأي شيء أنتم؟ قال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا آباءنا فنستقبلهم نسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته. فهذا موقف إيماني من إبراهيم الحربي رحمه الله في الرضا بقضاء الله عز وجل. وفي هذا تسلية لمن مات له ولد، وقد وردت الأخبار الصحيحة الصريحة بكثير من المبشرات لمن مات له ولد فصبر واحتسب، وما ذاك إلا لصعوبة الصبر والرضا في هذا المقام؛ لأن الأولاد فلذات الأكباد، والعبد لا يحب لأحد من الخير مثل ما يحب لنفسه إلا لولده. بل الإنسان قد يضحي بنفسه ولكن يشق عليه أن يضحي بابنه. ولذلك كان ابتلاء إبراهيم عليه السلام من أشد البلاء، فالعبد يسهل عليه أن تهون نفسه، وأن يضحي بنفسه، أما أن يضحي بولده وأن يتولى هو ذبح الولد بنفسه فهذا شيء شاق، فلله هذه النفوس التي تبتلى بمثل هذا البلاء.

موقف أم عقيل الأعرابية في الصبر والرضا

موقف أم عقيل الأعرابية في الصبر والرضا وآخر موقف من هذه المواقف الإيمانية موقف أم عقيل رحمها الله: قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي في البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضلوا عن الطريق، أتيناكم فأنسنا بكم. فقالت: يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني، حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسح، فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها إلى أن رفعتها فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني، فوقف الراكب عليها فقال: يا أم عقيل! أعظم الله أجرك في عقيل، قالت: ويحك! مات ابني؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم، يعني: حقهم وحق الضيافة، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت، فقالت: يا هؤلاء! هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً؟ قلت: نعم، قالت: اقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها، قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. قالت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا؟! قلت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا، قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثاً، اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني. فهذا الموقف تعجز عنه الكلمات في كرم الضيافة والصبر والرضا والاحتساب، وبعض هذه الصفات كانت متوفرة عند العرب في جاهليتهم، فلما تشرفوا بالإسلام ازدادت رسوخاً بالإسلام، وتهذبت بآدابه وأخلاقه، وقد عزت هذه الصفات النبيلة والأخلاق الفاضلة في المتأخرين، والله ولي الصابرين. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

نبأ ابني آدم

نبأ ابني آدم القصص القرآني فيه عظة وعبرة وحكمة، ومن القصص القرآني قصة ابني آدم عليه السلام، ففيها بيان كيف يصنع الحسد، وعظم جريمة القتل، وكذلك عظم إثم من سن سنة سيئة، فعلى العبد المسلم أن يحذر من أن يلغ في الدماء، وأن يحذر من أن يسن سنة سيئة يكون عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده.

قصة ابني آدم هابيل وقابيل

قصة ابني آدم هابيل وقابيل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمر محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزون. قال عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة:27 - 32]. هذه الآيات الكريمة في سورة المائدة تحكي لنا كيف بدأت الجريمة على الأرض، وكيف حدثت أول جريمة قتل على الأرض. ومناسبة هذه الآيات الكريمات لما قبلها من نفس السورة: أن اليهود حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النبوة والرسالة، فكأن الله عز وجل يقول له: فقل لهم: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. ومناسبة هذه الآيات لما بعدها: أن الله عز وجل قبل أن يشرع لنا القصاص وأن يبين لنا أحكام القصاص بين لنا كيف بدأت الجريمة، وكيف كانت أول جريمة قتل على الأرض. كذلك في هذه الآيات الكريمات يظهر فيها كيف يدعو الحسد أهله، وكيف أن أحد ابني آدم حسد أخاه؛ لأنه تقبل منه قربانه ولم يتقبل منه، فقتله من أجل ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، ألا إنها هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين). والحسد هو الذي دعا إبليس ألا يسجد لآدم، وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وأبى أن يسجد لآدم تنفيذاً لأمر الله عز وجل له بالسجود. وفي هذه الآيات الكريمات كذلك يظهر فيها نوعان من البشر: النوع الأول: النوع الخير الذي لا يستطيع أن يعمل إلا الخير، الذي يتقي الله عز وجل ويتقبل الله عز وجل منه، والذي يخاف الله عز وجل في كل قول وعمل، والذي لا تطاوعه نفسه على الشر، وعلى الإقدام على كبائر الذنوب. والنوع الثاني: هو الذي لا يرزق التقوى، ولا يخاف الله عز وجل، والذي يتجرأ على معصية الله عز وجل وعلى الكبائر وعلى الإفساد في الأرض دون وازع ودون رادع. كذلك في القصة نجد كيف يسول الشيطان للعبد بالمعصية؟ وكيف يخفي عنه عواقب المعصية؟ وكيف يزين له الشهوات ويدعوه إلى الإعراض عن طاعة رب الأرض والسماوات؟ حتى إذا وقع في معصية الله عز وجل يكون الخسران ويكون الندم ويكون الصغار، وتكون الذلة، ويكون العذاب في الدنيا والآخرة. يقول عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَ

سبب عدم مدافعة هابيل عن نفسه

سبب عدم مدافعة هابيل عن نفسه فإن قال قائل: لماذا لم يدافع عن نفسه؟ فأجاب العلماء بأجوبة: الجواب الأول: أنه قال له ذلك أولاً على سبيل التهديد، قال: (لأقتلنك) أي: على سبيل التهديد، ولم يكن شرع في القتل، فنصحه أخاه وقال: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:28 - 29]. فكان ذلك على سبيل التهديد، ولم يشرع في قتله حتى يدافع عن نفسه، ويعضد ذلك ما قاله بعض المفسرين بأنه قتله عندما كان نائماً، أي: لم يستطع أن يدفع عن نفسه، فقتله وهو نائم. الجواب الثاني: أنه قال له: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]، فقال: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]، وليس معنى ذلك أنه لا يبسط يده دفاعاً عن نفسه، أي: أنه قد يبسط يده دفاعاً عن نفسه، ولكن لا تطاوعه نفسه لأن يبسط يده ليقتل أخاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)؛ أي: في نيته لو تمكن منه لقتله. فهو قال: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]، ويجوز له أن يبسط يده ليدافع عن نفسه. الجواب الثالث: أنه يجوز للمؤمن إذا قُصد بالقتل أن يستسلم للقتل، وألا يدافع عن نفسه، كما قال سعد بن أبي وقاص للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إذا دخل علي بيتي وبسط إلي يده ليقتلني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل). وفي رواية: (كن كخير ابني آدم) أي: المقتول وليس القاتل. وكما استسلم عثمان رضي الله عنه لما ألبوا عليه ولما قصده أصحاب الفتنة وأرادوا دمه، وكان طلحة بن عبيد الله وعلي بن أبي طالب وجماعات من المؤمنين أرسلوا أولادهم للدفاع عن الخليفة، فعزم عليهم ألا يدافعوا عنه من أجل أن يحقن دماء المسلمين، فقتلوه ظلماً، ووقع دمه على المصحف، وكان يقرأ في المصحف، فنزل على قول الله عز وجل: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]، فقالوا: يجوز للعبد إذا قصد بأن يقتل أن يستسلم ولا يدافع عن نفسه. الجواب الرابع: لعل هذا كان في شريعتهم، أنه لا يجوز للرجل أن يدفع عن نفسه إذا قصد بالقتل، ولكل أمة شريعة ومنهاجاً كما قال الله عز وجل، فالتوحيد واحد، ولكن التكاليف الشرعية والعبادات تختلف من أمة إلى أمة، فهذه أربعة أجوبة، وفي شريعتنا ما يسمى بدفع الصائل، إذا قصد مسلم بأن يقتل أو ينتهك عرضه أو يسلب ماله فيشرع له أن يدافع عن نفسه، ويشرع له أن يدفع بالأخف، فإن كسر يده فاندفع بذلك لا يجاوز ذلك إلى قتله، فإن كان لا يندفع إلا بالقتل فيجوز له أن يقتله، وهذا ما يسمى بدفع الصائل، وهو المعتدي، هذا الصائل وليس له دية إذا قتل؛ لأنه هو المعتدي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد)، فهو إذا قتل وهو يدافع عن عرضه أو عن ماله أو عن نفسه فهو شهيد بنص حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. هذه أجوبة عن أن هذا العبد المقتول لم يدافع عن نفسه.

من فوائد القصص القرآني

من فوائد القصص القرآني قال: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28] في هذا أدب حسن، والقصص القرآني يقصد به التربية، ويقصد به الارتفاع بالأحوال الإيمانية في الأمة، وغرس المعاني الإيمانية الشريفة، لا يقصد بذلك إشاعة الفواحش كما يقصد بذلك أصحاب مجلة الحوادث أو الفواحش، أو الذين يشيعون الفواحش على صفحات الجرائد؛ فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ من أجل أن يتجرأ الناس على معصية الله عز وجل، ويستهينون بمعصية الله عز وجل، ولكن القصص القرآني قصص حق وقع في تاريخ البشرية. قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة:27] أي: أن هذا حق، ليس هو كما في القصص الدنيوي من نسج الأفكار، ومن خيال الكتاب، ولكنه قصص واقعي في تاريخ البشرية، يغرس الله عز وجل به المعاني الإيمانية، فكأنه يقصد كيف يفعل المؤمن إذا قصد بالقتل ما يكون جوابه، وكيف ينصح أولاً من يريد أن يعتدي عليه، وكيف يقول له: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]، فالمؤمن في قلبه من الخوف ما يدفعه عن معصية الله عز وجل، وما يدفع به إلى طاعة الله عز وجل.

الوعيد الشديد في حق المعتدي

الوعيد الشديد في حق المعتدي ثم قال له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:29]، أي: أريد أن تتحمل أنت وزر أعمالك وسيئاتك التي من أجلها لم يتقبل الله عز وجل قربانك، وتبوء أيضاً بإثمي، وكأنه يقول له: ليس لك حسنات حتى آخذها منك إذا كان يوم القيامة، ولكنك سوف تأخذ سيئات، وتبوء بإثم قتلي أو تبوء بذنوبي؛ لأنه إذا كانت هناك مظلمة فإن المظلوم يأخذ من حسنات الظالم، فإن لم تبق له حسنات طرح عليه من سيئاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: ولكن المفلس من أمتي من يأتي بحسنات كأمثال الجبال ويأتي وقد قذف هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته طرح عليه من سيئاتهم ثم طرح في النار). فكأنه يقول له ويعظه بأنك سوف تتحمل أوزارك وأوزاري يوم القيامة، فكيف تجرؤ على هذا العمل؟

حرص الشيطان على إيقاع العبد في الغفلة والمعصية

حرص الشيطان على إيقاع العبد في الغفلة والمعصية قال: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30]، (طوعت له) أي: سهلت له، فالعبد إذا وسوس له الشيطان بمعصية يكون في داخله نوازع الخير ونوازع الشر، نوازع الخير تقول له: لا تفعل، وتذكر الآخرة، وتذكر عقاب الله عز وجل، وتذكر الفضيحة على رءوس الأشهاد، وتذكر الفضيحة في الدنيا، ونوازع الشر تدفع به إلى المعصية، والشيطان يخفي عنه عواقب المعصية، وينسيه أن بعد المعصية خسران وبعدها ضنك وشقاء وبعدها عذاب أليم في الآخرة. تفنى اللذاذة ممن نال لذتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار وقال بعضهم: وكم من معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فيا سوأتا والله راءٍ وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصي فالشيطان يخفي العواقب، والإنسان عند المعصية لا يتذكر عذاب النار، ولا يتذكر الوقوف بين يدي العزيز الجبار، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، أي: أنه في وقت المعصية يضعف في قلبه الإيمان جداً، وقيل: يخرج بالكلية ويكون فوق رأسه، فإن تاب عاد إليه مرة ثانية، وإن أصر لم يعد إليه مرة ثانية. فالشيطان يحرص على إخفاء العواقب وتزيين الشهوات، كالعصفور الذي يرى الحبة في الفخ ولا يرى الفخ، فإذا أراد الحبة يكون في ذلك هلاكه، فبعد المعصية تبدأ الحسرات ويبدأ الندم ويتقطع قلب العبد بعد المعصية إن لم يوفق إلى التوبة أو يتقطع عندما تحق الحقائق يوم القيامة، ويرى ثواب الطائعين، وعقاب العاصين. وقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة:30]، ما قال: فطوعت له نفسه قتله فقتله، بل كرر ذكر أخيه؛ لأن قتل الرجل كبيرة من الكبائر، فكيف إذا قتل أخاه الذي يجب عليه أن يصله، فالإفضل أن أخاه هو الذي ينصره، (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فكيف يقتل من ينصره؟ وكيف يقتل من هو له عضد في الدنيا ومن يقويه في الدنيا فأصبح من الخاسرين، أي: خسر كل شيء، خسر أخاه وخسر دينه؛ لأنه تجرأ على هذه الكبيرة، وما نال شيئاً، وإنما دفعه الحسد إلى هذه الكبيرة، فطوعت له نفسه -أي: سهلت له نفسه، وزينت له- قتل أخيه، ونسي كل العواقب الوخيمة، ونسي عذاب الله عز وجل، ونسي انتقام الله عز وجل: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30]. وهكذا العبد بعد المعصية يحس بالخسارة ويحس بالندم، ويحس كذلك بالضنك والشقاء في الدنيا قبل الآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

عظم جريمة القتل

عظم جريمة القتل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. قال عز وجل: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة:30 - 32]. بين الله عز وجل عظم هذه الجريمة جريمة القتل، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعظم محفل شهدته البشرية وأشرف اجتماع حدث على وجه الأرض في حجة الوداع: (إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا). وقال: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) أي: إن وقع في معاص دون القتل فهو في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً. بل سد النبي صلى الله عليه وسلم الذرائع إلى هذه الجريمة التي هي أكبر الجرائم بعد الكفر بالله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، فذكر بعد الشرك قتل النفس، ثم ذكر الزنا، ولذلك كانت عقوبة الردة عن دين الإسلام القتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه). كذلك من قتل يقتل قصاصاً أو يرضى أولياء المقتول بالدية، فعظم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجريمة وسد الذرائع إليها، وقال: (لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بحديدة فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار) أي: لا يفعل ذلك وإن كان مازحاً، لا يشير إلى أخيه بحديدة أو بقطعة سلاح أو سكين ولو على سبيل الهزل، لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم من يحمل أسهماً أن يأخذ بنصالها؛ لئلا تخدش مسلماً. وكان ابن عباس رضي الله عنهما ينظر إلى الكعبة ويقول: إن الله حرمك وشرفك وعظمك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. فحرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة التي حرمها الله عز وجل وكرمها وشرفها. قال عز وجل: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30]، كيف تطوع النفس عباد الله؟! وكيف تسهل لصاحبها الوقوع في هذه الجريمة الشنيعة؟ ثم لم يدر كيف يفعل بأخيه، فأكثر المفسرين أخذوا من الإسرائيليات أن غرابين تقاتلا فقتل أحدهما الآخر فدفنه، فاهتدى ابن آدم إلى سنة الدفن، ولكن الله عز وجل ما أخبر أنه بعث غرابين بل بعث غراباً، فالراجح أن هذا الغراب كان يحفر في الأرض يبحث عن شيء، أو يدفع شيئاً، فاهتدى بذلك هذا الرجل إلى سنة الدفن.

فوائد من قصة هابيل وقابيل

فوائد من قصة هابيل وقابيل وفي قول الله عز وجل: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة:31] إشارة إلى كثرة البحث، فكأنه ظل يحفر حتى حفر حفرة عميقة؛ لأنه ما قال: بحث في الأرض، بصيغة الماضي، بل قال: (يبحث في الأرض) أي: أطال البحث حتى حفر حفرة عميقة، فاهتدى هذا الرجل إلى سنة الدفن، فحفر لأخيه حفرة عميقة فدفنه فيها فأصبح من النادمين. وهذا كذلك من جزاء المعصية؛ فإنه تعلم من الغراب، والغراب صار أستاذه؛ لأنه بالذنب صار ذليلاً، فكفاه بذلك صغاراً وذلاً أنه يتعلم من الغراب، {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31]، أي: أحس أن الغراب أشرف منه، وأنه وارى سوأة أخيه، {فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31] وهذه عاقبة المعصية. قال الله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] أعقب الله عز وجل هذه القصة بذكر أن بني إسرائيل كتب الله عز وجل عليهم أنه من قتل نفساً بغير نفس -أي: بغير استحقاق القتل- أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، أي: فإنه يحمل يوم القيامة إثم قتل الناس جميعاً، قال المفسرون: وإنما أعقب الله ذلك تعظيماً لجريمة القتل، ولكثرة الذنوب التي يتحملها القاتل، وإنما ذكر عز وجل بني إسرائيل لأنهم يكثر فيهم القتل، فانظروا كيف يفعلون في إخواننا بفلسطين، لا يكاد يمر يوماً أو ليلة حتى يقتلوا منهم العشرات وأحياناً المئات، فهم يتشوفون إلى سفك الدماء، ويكثرون من سفك الدماء، وهم الذين اجترءوا على قتل نبي الله زكريا، وابنه نبي الله يحيى، وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، ولكن رفعه الله عز وجل إليه وما قتلوه يقيناً، بل أرادوا قتل نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد سمت امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة وقالت: أي جزء من الشاة أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا لها: الذراع، فسمت وأهدتها للنبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم). كذلك في قصة إجلاء بني النضير، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى يهود بني النضير، يستعينهم على دية قتيلين في العهد الذي بينه وبين هذه القبيلة التي منها القتيلين، فقالوا: نعم، يا محمد! نجيبك إلى ما سألتنا، وخلا بعضهم مع بعض وقالوا: لا تجدون الرجل على هذه الحال، من منكم يصعد على بيت بني فلان فيلقي عليه صخرة عظيمة فيريحنا منه؟ فأخبر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي وحاصرهم حتى أجلاهم عن مدينته. فكثر من بني إسرائيل جريمة القتل، قال عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]. كذلك في هذه القصة عقوبة الذين يسنون السنن السيئة، كأهل البدع والذين يشيعون الفواحش فيحملون مثل أوزارهم في ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الآول كفل من دمها). فالذين يسنون السنن السيئة والذين يشيعون الفواحش والذين يبتدعون في دين الله عز وجل فيتبعهم الناس على ذلك فإنهم يحملون أوزارهم وأوزار من يضلونهم بغير علم، ألا ساء ما يزرون. قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها)، فكيف تكون ذنوب هذا الرجل يوم القيامة؟! فما قتلت نفس في الأرض إلا وتحمل إثماً من قتلها؛ لأنه أول من سن القتل. وفي ذلك كذلك بيان كيف يدفع الحسد أصحابه، وقد حسد إخوة يوسف يوسف وهموا بقتله، ولكنهم عدلوا عن ذلك فألقوه في غيابة الجب، من أجل أن يلتقطه بعض السيارة، قال صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، ألا إنها هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين). اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من المنافقين والعلمانيين، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين،

وإن محمدا خاتم الأنبياء ردا على البهائية

وإن محمداً خاتم الأنبياء رداً على البهائية إن من نعمة الله عز وجل على هذه الأمة أن بعث فيها خاتم أنبيائه محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعل رسالته الرسالة الخاتمة والدعوة المهيمنة على كل ما سبقها من الرسالات، ومع ذلك فقد ظهر بعد رسول الله من يدعي النبوة، وخرجت على الناس طوائف أساس عقيدتها ادعاء النبوة، وقد قيض الله من عباده من يحارب هذه الطوائف ويتولى القضاء عليها، ومع ذلك بقي للبعض منها بقية متفرقة في أنحاء الأرض ممولة بأيدي أعداء الله عز وجل وأعداء دينه.

وجوب اعتقاد أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

وجوب اعتقاد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الحمد لله المتفرد بوحدانية الأولهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون. وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع به الإيمان على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً. أما بعد عباد الله: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمر محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. نبين -عباد الله- في هذه الخطبة عقيدة من عقائد المسلمين التي دل عليها الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهذه العقيدة هي أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين. كما قال الطحاوي: إن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالأمر المرضي، وإنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده تعتبر هوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء. فيجب على كل مسلم أن يعتقد بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن كل دعوى للنبوة بعده صلى الله عليه وسلم فغي وهوى، فهذه عقيدة ختم النبوة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، فقال: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ) ما قال: وخاتم المرسلين؛ لأنه قد يكون آخر رسول ولكن قد يكون بعده أنبياء، فقال: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)، وفي قراءة: ((وَخَاتِمَ النَّبِيِّينَ)) أي: ختم الله عز وجل به النبوة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا نبي بعده، كما صرحت بذلك الأحاديث الكثيرة المتواترة التي ذكر بعض الباحثين في ذلك خمسة وستين حديثاً، ولكن نقتصر على بعض هذه الأحاديث التي تدل على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من تشريفاته ومن تكريم الله عز وجل له أن الله عز وجل ختم به النبوة، فلا نبي بعده صلى الله عليه وآله وسلم، منها: (لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك استخلف علياً رضي الله عنه على المدينة، فحزن علي رضي الله عنه وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟) فـ علي رضي الله عنه فارس من فرسان الإسلام وابن عم النبي عليه الصلاة والسلام يحزن أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى). وحتى لا يقول أحد: بأنه أولى الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يثبت له شيئاً من النبوة، أو يعتقد خلاف ما يعتقده أهل السنة والجماعة، سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب، فقال: (إلا أنه لا نبي بعدي)، فإن هارون كان نبياً مع موسى، فإذا استخلفه موسى فهو نبي معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). كذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة في زاوية، فجعل الناس يطوفون ويقولون: ما أحسنه وأجمله لولا هذه اللبنة) أي: لولا وضعت هذه اللبنة، فقال: (فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين). كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له) فهذا الذي بقي من النبوة، والرؤية الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وكان الوحي بالرؤية الصادقة للنبي صلى الله عليه وسلم في بداية فترة الرسالة ستة أشهر، ومدة البعثة ثلاثة وعشرون سنة. كذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يبعث بعدي دجالون كذابون قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه نبي)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الساعة لا تقوم ح

المؤسس الأول لفرقة البهائية وبيان عقائدهم

المؤسس الأول لفرقة البهائية وبيان عقائدهم كان أول ظهور هذه البدع في القرن الثالث عشر سنة (1260م)، فقد ظهر في جنوب إيران رجل يدعى بـ الميرزا علي بن محمد الشيرازي، ظهر في مدينة شيراز في جنوب إيران، وزعم أنه الباب إلى المهدي، ثم زعم بعد ذلك أنه المهدي المنتظر، ثم لما تبعه مائة من أغبياء البشر ومن أشباه القردة والخنازير تبعوه على هذا الإفك الظاهر والشر الواضح الفاضح، زعم بعد ذلك أنه نبي، وأرسل إلى الألوسي يقول له: بأن الله قد بعثني كما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم أو بمثل ما بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم. وكان في ذلك الوقت عصر الخلافة العثمانية، وكان في الناس نخوة ودين، فأخذ هذا الرجل الذي لقب نفسه بالباب؛ لأنه يزعم أنه الباب إلى المهدي، ثم زعم أنه المهدي ثم زعم أنه نبي وأن الله عز وجل أرسله بما أرسل به محمداً أو بمثل ما أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، أخذ هذا الرجل الخبيث فقتل، ولكن أتباعه بقوا، فاستمر على الدعوة بعده ابنه حسين بن علي والذي لقب بـ بهاء الدين، وكان الرجل الأول شيعياً خبيثاً، والثاني كان صوفياً من كبار الصوفية في زمانه، وعقائد الصوفية والشيعة تساعد على ظهور هذا الإفك الواضح والشر الفاضح، فإن الشيعة يزعمون بأن الأئمة الاثني عشر وهم علي رضي الله عنهم وذريته، يزعمون بأنهم في منزلة لا يصل إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأنهم أعلى من جميع الرسل والأنبياء، وبأنهم يتلقون عن الله عز وجل مباشرة. كذلك الصوفية يزعمون بأنهم يتلقون من الله عز وجل مباشرة، كما قال أبو يزيد البسطامي: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. وقال بعضهم: أنتم تأخذون عن عبد الرزاق -أي الصنعاني - ونحن نأخذ عن الواحد الخلاق. فيزعمون أن الواحد منهم يتلقى من الله عز وجل مباشرة، ويقولون: بأن هذا هو العلم اللدني. وقالوا أيضاً: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله. يقولون: إن الأنبياء عندهم علم الشريعة ونحن عندنا علم الحقيقة. ويزعمون أن عندهم من العلوم المتلقاة عن الله عز وجل ما ليس عند الأنبياء الكرام. ويعتقدون بأن الأولياء أعلى من الرسل والأنبياء، كما قال بعضهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي أي: أن أعلى الناس منزلة هم الأولياء ثم الأنبياء ثم الرسل. وأبو يزيد البسطامي يفتح باب ادعاء النبوة، فيقول: ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم المرسلون، فاستبدل كلمة النبيين بكلمة المرسلين، أي: أنه لا رسول بعده، ولكن قد يكون هناك من الأنبياء من يأتي بعده. وقال: إنما انقطعت نبوة التشريع، أي: قد تكون هناك نبوة غير نبوة التشريع؛ ولذلك ظهرت هذه الدعوات الكاذبة: القاديانية والبابية والبهائية، إما أنهم من الشيعة أو من الصوفية، رضعوا لبانها وتغذوا على مبادئها، فتحت لهم الصوفية والشيعة هذا الباب فولج منه من ولج، ودخل هذا الشر على المسلمين، وأعداء الإسلام يروجون لهم ويعينونهم بالمال؛ لأنهم ينخرون في جسد الأمة من أجل أن يقضوا على البقية الباقية من الإسلام. فهذه الدعوات قائمة على ادعاء النبوة، فهم ليسوا من الأمة بحال، ولا حتى من الفرق النارية، ولا نقول: هم من أهل البدع، بل هي أديان جديدة باطلة، وأصحاب هذه الأديان الباطلة أضل وأشر وأخبث من اليهود والنصارى، وفيهم من الفجور ومن الخروج عن شرع الله عز وجل ما يدل على أنهم على باطل، وليسوا من الحق في شيء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

المؤسس الثاني للفرقة البهائية وبيان عقائدهم ومخططاتهم

المؤسس الثاني للفرقة البهائية وبيان عقائدهم ومخططاتهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: عباد الله! فإنه لما قتل علي بن محمد الشيرازي الذي كان يلقب نفسه بالباب، والذي زعم أنه أنزل عليه كتاب يسمى البيان، وقال: كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أفضل من عيسى، فإن كتاب البيان هو أفضل من القرآن، فهو يزعم أنه أتى بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أكمل رسالة منه، وتبعه على هذا الغباء كثير من أشباه الناس، لما قتل هذا الخبيث الفاجر رفع الراية بعده أحد أتباعه وهو يلقب بـ المرزا حسين بن علي ويلقب بـ بهاء الدين وهو ولده، وكان من كبار الصوفية، فزعم كذلك أنه عيسى بن مريم، ثم بعد ذلك ادعى النبوة، وبعد أن ادعى النبوة وتبعه على ذلك ناس زعم أنه رب وادعى الربوبية من دون الله عز وجل، وهذا الخبيث كذلك تابعه الحكام ونفوه من بلد إلى بلد، ولكن راج المذهب في حياته، ولقب بالبهائية، فالبهائية تصور للبابية. وهذا الخبيث تلميذ الخبيث السابق، أخذ منه هذه العقائد، ولكنه دعا إلى نفسه فزعم بأنه عيسى بن مريم، ثم بعد ذلك ادعى النبوة ثم ادعى الربوبية بعد ذلك. وهذه العقائد كما قال الله عز وجل: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222]. فهؤلاء توحي لهم الشياطين، والشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فالباب الخبيث الأول قد وضع على الناس من صيام رمضان، وجعل الصيام تسعة عشر يوماً، واشترط أن يكون الصيام في الربيع حتى لا يكون شاقاً على الناس، وأن يكون عيد الفطر موافقاً لعيد النيروز. أما البهاء الخبيث فوضع على الناس كذلك بعض الصلوات وجعل الصلاة تسع ركعات في اليوم والليلة، كذلك ألغى الحج، وأوصى إذا كان لأتباعه شوكة أن يهدموا الكعبة المشرفة. فهذه عقائد الخبثاء يلغون الحج وفي مخططاتهم لو أن لهم شوكة وقوة يهدمون الكعبة المشرفة، ويضعون من الشرائع ما يخالف شرع الله عز وجل. والباب حرم على الناس أن يقرءوا في أي كتب غير الكتب التي ألفها، وحرم عليهم أن يقرءوا في القرآن، وأمرهم بتحريق القرآن، فكيف يكون هؤلاء من المسلمين؟! لم تقتصر عقائدهم الباطلة على ذلك عباد الله، ولكنهم قالوا: بأن الجنة والنار أمور نفسية، ومن ذلك أخذ مصطفى محمود في كتابه (التفسير العصري للقرآن) بأن الجنة والنار أمور نفسية، أي: أن أهل الجنة يفرحون؛ لأنهم يحسون أنهم متنعمون، وأهل النار يحزنون؛ لأنهم يحسون أنهم مهانون معذبون، فأين قول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]؟ أين هذا العذاب الحسي الذي ثبت في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كذلك أنكر البهاء لقاء الله عز وجل ويوم الجزاء، وقال: بأن يوم الجزاء عندما يلتقون به، وهذا من ادعاء الربوبية، وألغى أيضاً الاتجاه إلى الكعبة، وقال: فليتوجهوا شطري، أي: في حياتي إلى المكان الذي هو فيه في الدنيا، وبعد مماته يتوجهون إلى قبره، فهذه قبلة البهائية غير قبلة المسلمين، وتشريعهم غير تشريع المسلمين، واعتقاداتهم غير اعتقادات المسلمين. ولهم من الكتب ما يخالف كتب المسلمين، فهو زعم أولاً أنه عيسى بن مريم، ثم ادعى الربوبية بعد ذلك، ثم ادعى النبوة بعد ذلك، ولم يقتصر فيه الأمر على ذلك حتى ادعى الربوبية.

مؤسس الفرقة القاديانية وبيان عقائدهم ومخططاتهم

مؤسس الفرقة القاديانية وبيان عقائدهم ومخططاتهم أما القاديانية فهي أيضاً من هذه الشجرة الخبيثة، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58]. فصاحب هذا الإفك هو غلام أحمد القادياني، ظهر في الهند، ثم انتقلت دعوته إلى أمريكا وإلى بعض البلاد الأخرى، زعم أولاً أنه ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم ادعى بعد ذلك الربوبية. فهذه الطائفة مثل سابقتها انبثقت من هذه الشجرة الحنظلية الخبيثة القائمة على الكفر بهذه العقيدة الثابتة من عقائد المسلمين: أن الواجب على المسلم أن يعتقد أنه لا نبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه أديان ما أنزل الله بها من سلطان، كالمجوسية وعبدة الأوثان، بل هم أكفر منهم؛ لأنهم يكذبون على الله عز وجل، ويزعمون بأن الله عز وجل بعثهم، ويقولون: بأن الله عز وجل فض الخاتم، أي: بعد أن جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فض هذا الخاتم. وقال بعضهم: (خاتم الأنبياء) أي: زينة الأنبياء. فهم يؤولون نصوص الكتاب والسنة حتى توافق مذاهبهم الباطلة، ويجدون من أغبياء البشر من يتابعهم على ذلك، وإذا انتشر في الناس الجهل انتشرت هذه المذاهب الباطلة وهذه الأفكار الهدامة، التي من اعتقدها أو اعتقد شيئاً منها فليس له في الإسلام إلا السيف؛ لأنه كافر مرتد، كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكفره أكبر وأعظم من كفر اليهود والنصارى؛ لأن المرتد أشد كفراً من اليهود والنصارى، ومن الكافر كفراً أصلياً، وحظه من الإسلام القتل. فهذه الدعوات الخبيثة التي ظهرت واشرأبت بأعناقها في هذه الأيام، وظن بعض الناس أنها مذاهب إسلامية، وأنه يجوز للمسلم أن يتمذهب بمثل هذه المذاهب، ثم نجد من المسئولين من يقر هذه الأديان الباطلة، ويوافق على أن يُكتب في البطاقة بهائي بدلاً من مسلم، كأنه يقول له: أنت على دين محترم، وأنت على عقيدة محترمة، فمن حقك أن يقال عنك: بهائي أو بابي. وهذا خروج عن الإسلام، والموافقة على ذلك كفر بما أنزل على النبي عليه الصلاة والسلام من أنه خاتم الأنبياء والمرسلين؛ لأنه أتى بالشريعة الكاملة التي رضيها الله عز وجل لعباده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقال عز وجل: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فلا نبوة بعده صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أتى بالشرع الكامل الذي تحتاجه البشرية، وبالتشريعات التي لا تستغني البشرية عنها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكل من اعتقد غير ذلك فهو كافر مرتد خارج عن دين الإسلام. فهذه بعض الحقائق عن هذه المذاهب الباطلة التي هي خارجة عن الإسلام جملة وتفصيلاً، والتي أصحابها أكفر من اليهود والنصارى. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فرد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة تدور عليه. اللهم عليك باليهود والنصارى، وعليك بالبهائيين والبابيين والقاديانيين، وعليك بفرق الكفر والعلمانيين والمنافقين، وعليك بالذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم اهدنا واهد بنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

§1/1