دروس الدكتور عمر عبد الكافي

عمر عبد الكافي

حسن الظن

حسن الظن من مراتب الهداية: أن تحسن ظنك بالله تعالى، فحسن الظن بالله يعطي المؤمن أملاً في رحمة الله عز وجل، وكلما اقترب العبد من ربه في العمل ازداد حسن الظن بالله تعالى. واعلم أن حسن الظن بالله يقوم على عدة أمور، ينبغي أن يعملها الإنسان ويحافظ عليها.

حسن الظن بالله من مراتب الهداية

حسن الظن بالله من مراتب الهداية أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد: من مراتب الهداية: حسن الظن بالله، فحسن الظن بالله يعطي المؤمن أملاً في رحمة الله عز وجل، وكلما اقترب العبد من ربه في العمل ازداد حسن ظنه بمولاه، فلولا أن السيدة أم سيدنا موسى كانت حسنة الظن بالله لما نفذت أمر الله عز وجل عندما أمرها أن تلقي رضيعها في الماء. قال تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39]، إذاً: فعمل أم موسى عمل يدل على حسن ظنها بالله تعالى، في حين أنه لو قيل لنا ذلك لبدأنا نشكك ونحسبها بالعقل، وليس كل شيء يعرض على العقل. وليس معنى ذلك أن الدين الإسلامي دين لاهوت وناسوت، أو كلام ما وراء الطبيعة، ولكن هناك أمور يحسنها الشرع قد لا يحسنها العقل، وليس معنى هذا أن الوحي يتعارض مع العقل، ولكن العقل محدود والشرع من عند الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال، وقد قال علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان المسح أسفل الخف أولى من أعلاه.

مقتضيات حسن الظن بالله تعالى

مقتضيات حسن الظن بالله تعالى

أولا: دخول الجنة لا يكون ثمنا للعمل

أولاً: دخول الجنة لا يكون ثمناً للعمل وإحسان الظن بالله يقتضي ثلاثة أمور: الأمر الأول: أنه لا يدخل أحد منا الجنة بعمله، فلا تفكر أن الصلاة التي تصليها أو الصدقة التي تتصدق بها ستوصلك إلى الجنة. رأى ابن عباس سيدنا عمر في المنام بعد عام من استشهاده فقال له: يا أمير المؤمنين! اشتقت إليك وأردت أن أراك منذ زمن، قال له: اسكت يا ابن عباس! لقد كاد عرشي أن يهد لولا أني وجدته غفوراً رحيماً، قال له: وماذا صنع بك؟ قال: رحمني وأحلني دار المقامة من فضله، قال له: بعلمك؟ قال: لا، قال له: بعملك؟ قال: لا، قال: بخوفك؟ قال: لا، قال: بنصرتك لرسول الله؟ قال: لا، قال: ذات مرة كنت أسير في الطريق فرأيت صبية يلعبون بعصفور فخلصته من أيديهم، فقال لي ربي: يا ابن الخطاب! خلصت العصفور من أيديهم، وأنا أخلص جسدك من النار وأدخلك الجنة. وصحابي آخر يقول وهو يحتضر: ليته كان جديداً، ليته كان بعيداً، ليته كان كاملاً، ثم مات، فتعجب الحاضرون وهم لا يعرفون معناه، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك فقال: أتته الملائكة فأطعمته حتى شبع، فلما سألهم عن سبب إطعامهم له قالوا: كان معك رغيف فأتاك سائل يسألك طعاماً فأعطيته نصفه، فعندها قال: ليته كان كاملاً، ثم شعر بعطش شديد فأرواه الله، فلما سأل عن ذلك قيل له: أخذت بيد شيخ كبير لا يستطيع المشي فقدته إلى المسجد، فعندها قال: ليته كان بعيداً، يقصد: المسجد، ثم شعر بضيق في صدره فسرت عنه الملائكة فسألهم عن ذلك، فقيل له: كنت تلبس ثوبين في الشتاء: جديداً وقديماً، فأتاك سائل فأعطيته القديم، فعندها قال: ليته كان جديداً. إذاً: فعلى الإنسان ألا يحتقر شيئاً، وأن يعلم أنه لن يدخل الجنة بعمله: (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

ثانيا: منزلتك في الجنة على حسب عملك

ثانياً: منزلتك في الجنة على حسب عملك الأمر الثاني: أن دخول الجنة يكون برحمة الله، وأما سكنى الجنة فيكون على حسب العمل، يقول الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! ادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم). قال أحد السلف: إن قوماً غرتهم الأماني يقولون: نحسن الظن بالله، أما إنهم لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. فتجد الرجل يدخن السجائر طوال الليل وربما إلى الفجر، فإذا سمع: حي على الصلاة لم يجب، وكأن الأمر لا يعنيه، وتجد المرأة متبرجة فإذا نهيتها عن ذلك قالت: أنا أتصدق بربع مرتبي، وأصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، فهذه تمسكت بالنوافل وتركت الفرض الواجب. وفي عصرنا الحاضر نشهد هجوماً على قيمنا الإسلامية ومبادئه، وهذا الهجوم يتمثل في الدعوة إلى تحرير المرأة وعصرنتها كما يزعمون، ومن ذلك: دعوتهم إلى خلع الحجاب، والاختلاط، والتزين بالحلل والعطور أمام الرجال الأجانب، وتهميش وتضييع أصولهم الإسلامية، كنسبة أهل مصر إلى الفراعنة، وتعظيم الفراعنة في أعين الشباب المصري وغيره، فيسمونهم: أبناء الفراعنة، أو من سلالة مخترعي الأهرامات ونحوها من الدعايات التي تريد أن تخدش عقائد المسلمين أبناء عمرو بن العاص، وأبناء الصحابة الذين فتحوا مصر واستوطنوها. كذلك من أساليبهم: نشر الكتب التي تحتوي على العقائد الفاسدة، والتي تعنى بشريحة المثقفين في المجتمع المسلم بأسعار زهيدة رخيصة حتى يسري السم في أفهام المجتمع المسلم، ككتب: قاسم أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين.

لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله

لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله الأمر الثالث في موضوع إحسان الظن بالله عز وجل: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه). وحسن الظن بالله: أن تطرق بابه في كل حاجة، وأن تنزل فاقتك به دون الناس، وأن ترجع إليه كلما أذنبت مع عدم الإصرار، فهذا هو حسن الظن بالله تعالى. فالله من رحمته لا يعاتب تائباً عاد إليه، (يا موسى! بلغ عبدنا وقل له: أطعتنا فأطعناك، وأحببتنا فأحببناك، وتركتنا فأمهلناك، ولو عدت إلينا على ما كان منك قبلناك). ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: لما تثور الأرض والسماء والبحار وغيرها على ابن آدم يقول: (يا مخلوقاتي! أخلقتموه؟ فيجيبون: لا يا رب! فيقول: لو خلقتموه لرحمتموه، دعوني وعبادي، من تاب إلي منهم فأنا حبيبهم، ومن لم يتب فإني طبيبهم، وأنا إليهم أرحم من الأم بأولادها). فهذا حسن الظن بالله. والله أعلم.

التوبة

التوبة التوبة مناط الفلاح، وعليها مدار النجاة في الآخرة، ولها شروط كي تكون مقبولة عند الله، وهي على أقسام، ومنزلتها كبيرة وعظيمة، وصاحبها في أعلى المراتب والدرجات.

التوبة باب إلى الهداية

التوبة باب إلى الهداية نحمد الله رب العالمين، ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد: عندما يسمع الإنسان كلمة هداية يشعر بأن قلبه قد لان، وصدره قد انشرح؛ لأن كل واحد منا يريد الهداية، اللهم اهدنا فيمن هديت يا رب! وكلنا نقول في اليوم سبع عشرة مرة على الأقل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وليس اهدني، وإنما اهدنا كلنا، أي: أن كل واحد منا ينوب عن الجميع في الدعاء، فأنت تدعو الله عز وجل أن يهديك والمسلمين كلهم، فتقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]. وأول خطوة من أجل أن ندخل على الهداية هي التوبة، ودعنا نتفق في مسألة التوبة على شيئين مهمين: الأول: أن كل العباد يخطئون، كما قال الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء). فليس معنى أنك صليت أنك مهتد والذي لا يصلي عديم الهداية، لا، وإنما ربنا قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فالآية علقت الفلاح على التوبة، فمن تاب فهو مفلح. والثاني: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]. فمن مشى في طريق الهداية فعسى أن يكون من المفلحين، اللهم اجعلنا منهم يا رب! فالفلاح مرتب على التوبة، ومن أجل أن أكون من المفلحين وأصبح من حزب الله المفلح فلابد أن أتوب، والذي لم يتب يكون ظالماً لنفسه، وقد يكون فتنة لغيره.

التحذير من الشماتة بالآخرين

التحذير من الشماتة بالآخرين أول خطوة من خطوات الهداية: التوبة، فلا تنظر إلى عيوب الناس وذنوبهم وتظن أنها ليست فيك، مثل أن تقول: فلان أخطأ في كذا، وفلان لا يصلي، وفلان زوجته ليست محجبة، وفلان بنته كذا، وفلان ولده عديم التربية، وتجلس تنظر إلى عيوب الناس، فهذه بلية في الاثنين: فيمن فيه العيب وفيمن يعيره بالعيب. روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثر بالعيب على أخيك فيعافيه الله ثم يبتليك)، وهذه قضية خطيرة، وما من عبد يعيب على أخيه ذنباً إلا ويبتلى بهذا الذنب، فإذا بلغك عن فلان سيئة، وأنه لا يصلي، وأنه لا يصوم رمضان فقل في نفسك: غفر الله لنا وله. والرجل الموظف في مصلحة كذا يقول لك: ستدفع وإلا لن نجهز المصلحة، ثم يقول: أتى الظهر ونحن لم نصل السنة، لا إله إلا الله! يرتكب كبيرة الرشوة ويبحث عن سنة الصلاة! هذه كارثة، بل كوارث. فكل شخص من الناس مبتلى بذنب معين، وليس فينا واحد صاف.

بلايا الذنوب

بلايا الذنوب والذنب فيه ثلاث بلايا: فرحك بالمعصية، وهذا ذنب، ولا يوجد أحد من أهل المعصية يعمل المعصية إلا وهو فرحان، من أذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي، فليس هناك أحد يعمل الذنب وهو غضبان، بل يعمل الذنب وهو منبسط، وإذا عمل الذنب وهو غضبان فإن ضميره يبدأ يهتز ويؤنبه. إذاً: فرحك بالمعصية أكبر من المعصية نفسها. ونسيانك لرؤية الخالق لك أكبر من المعصية، ولا يوجد هناك شخص يعمل المعصية وربنا لا يراه، فلا تحتقر نظر الله إليك، فربما ينظر إليك الله في المعصية نظرة مقت فيبغضك. ثم الحزن على فوات المعصية أكبر من المعصية. فأهل المعاصي -والعياذ بالله- عندما تفوتهم المعصية يغضبون ويقولون: يا خسارة! فاحمد الله أن أغلق في وجهك باب المعصية، ومادام أن الله أغلق في وجهك باب المعصية فقد بدأ يحبك؛ لأن العبد بين أمرين: بين اندفاع من نفسه، وبين تيسير من أمر ربه، فاندفاع نفسه لا يستطيع التحكم فيه، ولكن من توفيق الله وتيسيره له أنه يغلق أمامه باب المعصية.

شروط التوبة

شروط التوبة والتوبة فيها أربعة أشياء متلازمة مع بعضها: أولاً: الترك، فالشخص الذي يغتاب يتركها، والشخص الذي يشرب السجائر يترك شربها، والشخص الذي يسمع كلاماً سيئاً يترك سماعه، والذي يسمع أغنية خليعة يترك سماعها، ولا يضع وقته هباءً منثوراً. فليس عند المسلم وقت للفراغ، وإنما يشغل نفسه بما يرضي الله من أمور معاشه، أو من أمور معاده. فأول شيء ترك المعصية، ثم الندم.

أقسام التوبة

أقسام التوبة والسادة العلماء رضي الله عنهم قسموا التوبة أو التائبين إلى ثلاثة أنواع: توبة العامة، وتوبة الأوساط، والوسط يعني: الخاصة، وتوبة خاصة الخاصة، أو توبة العامة، وتوبة الأوساط، وتوبة الخاصة. وسأبين نوع كل توبة؛ حتى ترى نفسك من أي صنف أنت، أو أنك لست من الثلاثة أصلاً.

توبة الخاصة

توبة الخاصة ثم هناك توبة كبيرة جداً وهي توبة الخاصة، والخواص هؤلاء يتوبون عن إضاعة الوقت، فهو رصيدهم ورأس مالهم فلا يضيعونه.

توبة الأوساط

توبة الأوساط وتوبة الأوساط -يعني: الذين ترقوا قليلاً- قال أهل العلم: يتوبون من استغفارهم، يعني: استغفارهم في حد ذاته يعتبرونه ذنباً؛ لأنه ليس استغفاراً كاملاً حقيقياً، واللمم لأهل العلم فيها قولان: قول ابن عباس وهو: أن اللمم أن يعمل الذنب ولو كبيرة ثم يتوب، فمثلاً: أخطأ مرة وشرب خمراً، أو عمل كبيرة من التي نهى رب العباد عنها ثم تاب، فهذا من اللمم عند ابن عباس. والقول الثاني: أن اللمم نظرة وليست نظرات، وفي الحديث: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما الأولى لك والثانية عليك). وذهب أحمد بن حنبل يوماً يصلي العصر، فلقي في الطريق امرأة كانت ذاهبة تصلي فظهر منها خلخالها، فوضع الإمام أحمد العباءة على وجهه وعاد إلى البيت، وقال: هذا زمان الفتن. وقد جاء رجل إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم مرعوباً وقال له: يا رسول الله! هلكت وأهلكت؟ فقال له: (ما لك؟ قال: قبلت جارتي، فقال سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: أصليت معنا الغداة؟ قال له: نعم يا رسول الله! قال: إن الحسنات يذهبن السيئات)، ففتح له باب الرحمة، ولو أغلقه في وجهه لانتكس. وقال صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وسددوا وقاربوا، وكونوا عباد الله إخوانا) يعني: يسروا على الناس.

توبة العامة

توبة العامة فتوبة العامة إلى الله تكون بكثرة الحسنات، فالذي يريد أن يتوب يكثر من الحسنات، وسيدنا عمر رضي الله عنه يقول: ما أنفقت نفقة في الجاهلية إلا وأنفقت مثلها في الإسلام، وما جلست مجلساً في الجاهلية إلا وجلست نظيراً له في الإسلام، وما آذيت مسلماً في الجاهلية إلا وآذيت كافراً في الإسلام. يعني: عدل المسألة بفضل ضدها، وأنت إذا كنت تصرف خمسة جنيهات في تذكرة السينما فأخرج خمسة جنيهات لمسكين. إذاً: توبة العامة: أن نكثر من الحسنات، وهذه أول نوع من التوبة، ولابد من إكثار الحسنات لسببين: السبب الأول: أن الشخص إذا تاب وعمل الحسنات قلب الله له السيئات التي عملها قبل التوبة إلى حسنات. والسبب الثاني: أنك -كما يقول الحسابيون أصحاب التجارة ومكاتب المحاسبة- تنقل من حساب إلى حساب، فأنت تنقل من حساب الدنيا إلى حساب الآخرة، فتأتي يوم القيامة وتسحب من رصيدك، ولابد أن تسحب من رصيدك يوم القيامة، سواء بغيبة أو نميمة أو نظرة في حق فلان، فكثر الرصيد قليلاً؛ حتى إذا جاءوا يسحبون يبقي لك قليلاً.

عظم الثواب على قراءة القرآن

عظم الثواب على قراءة القرآن والحرف في التلاوة في المصحف بعشر حسنات، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لا أقول: ألم حرف، وإنما ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). فهذه ثلاثون حسنة، وربنا كريم يضاعف إلى سبعمائة ضعف، ولكن أنت لا تحسبها هكذا، ولكن سل الله القبول فقط. والحرف في الصلاة في القرآن بمائة حسنة، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يدخل في الصلاة يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة). وسيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقف يصلي فسلم فوجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم جالساً بجانبه، فقال أبو موسى الأشعري: أوتسمعني يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا موسى! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود. فقال: يا حبيب الله! والله لو أعلم أنك تسمعني لحبرته لك تحبيراً). ولذلك قال: (اسمع القرآن ممن إذا سمعته قلت: إنه يخشى الله). فإذا أردت أن تسمع القرآن فاسمعه من شخص تقول: هذا الرجل بينه وبين الله شيء، وقد تسمع بعض القراء لكتاب الله ولا تشعر أن لسانه يتلو، ولكن تشعر أن قلبه هو الذي يقرأ عليك. قال الحسن البصري: سمعت القرآن من ابن مسعود، فلما ترقى بي الحال -حال الإيمان- صرت كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ترقى بي الحال صرت كأني أسمع جبريل يقرؤه على رسول الله، فلما ترقى بي الحال صرت كأني أقرؤه من اللوح المحفوظ. فهؤلاء ناس هممهم عالية جداً، نسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم. وقد كان سيدنا أحمد بن حنبل رحمه الله مريضاً فيتكئ قليلاً، ويستأذن من تلاميذه فيأذنون له، فإذا ذكر في الحديث أو في الكلام الشافعي أستاذه أو مالكاً أو أبا حنيفة جلس وقال: يجب أن نحترم علماءنا. هذا وهم غير موجودين. وكان يقول: الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن. ولذلك نفع الله بعلمهم، وعلمنا رجع إلى الخلف، نسأل الله أن يقدمنا بالعلم، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

بيان كيفية التوبة من الكلام في أعراض الناس

بيان كيفية التوبة من الكلام في أعراض الناس لو أن شخصاً ارتكب في حق أخيه مصيبة من مصائب العرض فلا يذهب يخبره ويقول له: أنا عملت كذا وكذا كما قال العلماء، وإنما عليه أن يستغفر له بعد كل صلاة، ويدعو له: اللهم اغفر لفلان وارحمه وبارك فيه وفرج الكرب عنه، ومن ثم يحسن إليه في اللقاء، وفي المعاملة، ولا تخبره بما ارتكبت في حقه؛ لأن هذا يترتب عليه مفسدة أكبر، ولكن أحسن إليه وادع له بظهر الغيب، وهذه تكون توبتك إن شاء الله رب العالمين.

عقبات في طريق التوبة

عقبات في طريق التوبة هناك بعض العقبات التي تقف أمام المسلم في طريق توبته: العقبة الأولى: أنه لم يدرك معنى: التائب حبيب الرحمن، ولم يدرك معنى: المؤمن لا يقع، وإن وقع وجد متكئاً وهي رحمة الله، وهذا مثل العبد إذا وقع وهو يمشي في الشارع في ماء فيه طين وتلوثت ثيابه، أو سقط ابنك من يدك ووقع في الأرض فأخذته إلى أمه في البيت، فغسلت له الثياب المتسخة فتعود نظيفة كما كانت. العقبة الثانية: البدع، فالبدع تجعل العبد لا يتوب، مثل شخص يذهب إلى الحسين أو السيدة زينب ويطوف حول القبر، فهذه بدعة، وهي مصيبة، فتقول له: تب، فيقول لك: من ماذا أتوب؟ أنا محب لآل البيت وأنت تكره آل البيت، مع أننا لا نكره آل البيت، ولكن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة، فصاحب البدعة مقتنع بها. والمؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، فتقول له: هذه غير موجودة، وبلال لم يعملها، فهل أنت أشد حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بلال؟! فيقول لك: ولو، فمن أين يتوب هذا؟! فهو غير مقتنع أنه مذنب، أو أنه على خطأ، ويقول لك: أنا أحب سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكلنا نحبه صلى الله عليه وسلم، ولن ندخل الجنة من غير حبه صلى الله عليه وسلم. فصاحب البدعة لا يتوب، وهذه عقبة شديدة من عقبات التوبة. العقبة الثالثة من عقبات التوبة: الإسراف في المباحات، فالأكل والشرب والنوم والإنفاق كل هذا مباح، ولكن لو زادت جرعة المباح فأكل أو شرب أو نام أو أنفق أكثر مما يجب فهو مسرف في الطعام وفي الشراب وفي النوم وفي الإنفاق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27]. العقبة الرابعة: أن الشيطان يضع السم في العسل، فيجعل للمعصية حلاوة، ولذلك سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم على إدراكه لبواطن النفوس يقول: (من رأى امرأة في الطريق فأعجبته فليأت أهله) فهذه امرأة وتلك امرأة. والشيطان يجعل الشيء الحرام جميلاً، والحلال منفراً. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أناساً يتركون طعاماً طيباً ويذهبون إلى الطعام الخبيث المنتن، فقال صلى الله عليه وسلم: (من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء يرزقهم الله بالحلال فيتركونه ويذهبون إلى الحرام). وعبد الله الصالح الذي يعرف أن ربنا تاب عليه يحلو في عينيه الحلال، ويقبح الحرام. وخادم أبي بكر سقى أبا بكر شربة لبن، فلما شرب أبو بكر قال له الخادم: أما سألتني يا خليفة رسول الله؟! قال له: عن ماذا؟ قال له: عن اللبن، قال له: عن ماذا؟ قال له: عن مصدره، قال له: من أين أتيت به؟ قال له: كنت أتكهن لقوم في الجاهلية، يعني: كان يعمل كاهناً في الجاهلية، ويسمى اليوم المنجم، وهو الذي يضرب المندل والودع، ويفتح الكوتشينة، ويقرأ الفنجان والكف والحظ الذي في المجلة، وفي الحديث: (ومن ذهب إلى عراف أو كاهن فصدقه بما قال فقد برأت منه ذمة الله وذمة رسوله). فهذه كبيرة من الكبائر لابد أن نتوب منها، ولا يوجد داع لصفحة الحظ هذه، وهل هناك ستون مليوناً يجتمعون في حظ واحد؟! فلا تفتح صفحة الحظ لا من باب المزاح ولا من باب الجد. قال الخادم: كنت أتكهن لقوم في الجاهلية، فمررت بهم فأعطوني منيحة اللبن تلك. فوضع أبو بكر إصبعه في فمه فتقيأ ما شرب، ثم بكى وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما اختلط باللحم والعروق؛ لأن بطن أبي بكر لم تتعود على الحرام، ولا تقبله، مثل السيارة لا تمشي إلا بالبنزين، ولو وضعت لها شيء غير البنزين لا تمشي. وسيدنا سهل بن عبد الله رضي الله عنه وصل به الورع إلى أنه كان إذا مد يده إلى طعام فيه حرام أو شبهة نبض عرق في يده. اللهم ألحقنا بهؤلاء.

بيان الأقوال في المنزلة التي يعود إليها التائب بعد التوبة

بيان الأقوال في المنزلة التي يعود إليها التائب بعد التوبة وهل العبد بعد التوبة يرجع إلى درجته التي كان عليها قبل الذنب والتوبة، أم إلى درجة أحسن، أو أقل؟ العلماء على آراء، فبعض العلماء يقولون: يرجع إلى نفس الدرجة التي كان عليها قبل التوبة، ويضربون لذلك مثلاً: فيقولون: لو أن شخصاً وقع في بئر فجاء أخ له في الله فخلصه، فإنه لما خلصه أخرجه إلى الأرض والمكان الذي كان فيه مرة ثانية. وآخرون يقولون: يرجع بعد التوبة إلى درجة أفضل من الدرجة التي كان عليها قبل الذنب، وقالوا: هذا الذي وقع في البئر قد ابتلت ثيابه واتسخت، فأخذه صاحبه إلى البيت، وأخذ منه الثياب القديمة المتسخة وأعطاه ثياباً نظيفة، فعاد إلى درجة أحسن من التي كان عليها قبل أن يقع في البئر. وهناك رأي آخر يقول: يرجع إلى درجة أقل؛ لأنه لما وقع في البئر إما أن يصاب وجهه بجروح، أو تكسر يده أو رجله. وخذ الرأي الذي يعجبك أنت، ولا يوجد داع لأن أملي عليك رأياً.

بيان الاختلاف في قبول التوبة من الذنب إذا كان مصرا على آخر

بيان الاختلاف في قبول التوبة من الذنب إذا كان مصراً على آخر والعبد إذا عمل ذنباً وتاب منه ثم عمل ذنباً آخر فهل هذه التوبة مقبولة؟ قالوا: ينظر إلى الذنب هذا الذي يعمله أهو كبيرة أو صغيرة؟ وهذا كشخص يصوم ولا يصلي، وأظن أن هذه عادة في كثير من العائلات، والناس يسألون: هل صيامه مقبول؟ العلماء على رأيين: رأي يقول: إن الإسلام كل لا يتجزأ، فلا يأخذ من الإسلام جزءاً فينفذه ويترك جزءاً لا ينفذه، فالذي يريد أن يكون مسلماً فعليه أن يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على قدر ما يستطيع، أما أن يصوم ولا يصلي فلا. وعلى هذا فإذا تاب العبد من ذنب وارتكب ذنباً آخر فلا تقبل منه التوبة، لأنه فتح على نفسه باب جهنم من ذنب آخر، مثل الشخص الذي كان لا يصلي ثم بدأ يصلي لكنه يغتاب الناس، فإن صلاته تمحو ما بينه وبين الله لا ما بينه وبين الناس. فالذنب الذي بين العبد والعبد لابد فيه من المسامحة، وحقوق الناس لابد أن تعاد.

المفاضلة بين التائب من الذنب والذي لم يذنب

المفاضلة بين التائب من الذنب والذي لم يذنب وأما أيهما أفضل من لم يذنب قط، أم من أذنب وتاب؟ فقد قال أهل العلم: إن مثلهما مثل مرآة في الحمام وهناك بخار، أو أنت تنفخ فيها في كل فترة ثم تنظفها، ومرآة أخرى بعيدة عن الحمام وعن البخار، فإن البعيدة أشد نصاعةً ونقاءً. إذاً: فالقلب الذي لم يذنب هو مثل المرآة البعيدة عن البخار، والقلب الذي أذنب وتاب مثل المرآة التي أصابها البخار ونظفت، ففيها قليلاً من الغبش.

الاستقامة

الاستقامة لقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، وأثنى الله على أهل الاستقامة في كتابه سبحانه وتعالى، ولذا فمن أراد الاستقامة والاتصاف بها فإن لأهل الاستقامة علامات وشروطاً ينبغي أن يتلزم بها ويتخلى عما ينافيها، حتى يكون من المستقيمين بإذنه سبحانه وتعالى.

شروط الاستقامة

شروط الاستقامة

من شروط الاستقامة صدق الإيمان بالله

من شروط الاستقامة صدق الإيمان بالله أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائماً متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فلابد أن نعرف أن للاستقامة شروطاً محددة، وعلامات نفسية تستطيع أن تعرف بها هل أنت من أهل الاستقامة أم أنك مازلت على بداية الطريق، يا ترى! هل خطوت خطوتين داخل الطريق، أم قطعت شوطاً طويلاً أو قصيراً؟! فالاستقامة لها شروط: فأول شرط من شروط الاستقامة: صدق الإيمان بالله عز وجل: مشى الأصمعي مرة في السوق، فوجد ابنته الصغيرة تحمل إناءً وقد وضعت فيه رماناً، فمشى شخص وسرق رمانة من الرمان، فلقيه شخص يطلب صدقة فقال له: خذ هذه الرمانة، فقال له الأصمعي: لماذا صنعت هذا؟ فقال: لقد أخذتها بسيئة، وأعطيتها بعشر حسنات! فهذا سارق يسرق لله، وفي داخله نفحة من الإيمان. يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: لحظة ارتكابه للذنب يرتفع عنه الإيمان، لأنه لو وجد الإيمان لوجدت الاستقامة.

من شروط الاستقامة التصديق بكل ما جاء به رسول الله

من شروط الاستقامة التصديق بكل ما جاء به رسول الله الشرط الثاني: التصديق التام بكل ما جاء به رسول الله: فمثلاً: كان سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم له في كل وقت ذكر، وكان في كل حركة من حركات حياته صلى الله عليه وسلم مرتبطاً بالسماء، فأول ما يفتح عينيه ينطق بالشهادتين: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) (أصبحنا وأصبح الملك لله، وأمسينا وأمسى الملك لله). كذلك كان إذا دخل الخلاء يقدم رجله اليسرى ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) والخبث: ذكور الشياطين، والخبائث: إناث الشياطين. وإذا خرج قال: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأبقى علي ما ينفعني). ولذلك دخل رجل على هارون الرشيد وقال له: يا هارون! لو منع منك كوب الماء بكم تشتريه؟ قال: أشتريه بنصف ملكي، قال له: وإذا دخل كوب الماء بطنك ولم يخرج فكم تدفع ونخرج لك البول؟ قال: نصف ملكي الآخر، قال: تباً لملك لا يساوي شربة ماء لم تدخل، وشربة ماء لم تخرج. وقال هارون الرشيد لـ أبي حازم: يا أبا حازم! ما أزهدك! قال: أنت يا أمير المؤمنين أزهد مني، قال له: أنا! قال له: نعم، أنا زهدت في الفاني، وأنت زهدت في الباقي! أي: أنا زاهد في الدنيا، لكن أنت زاهد في الآخرة! وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إذا لبس ثيابه: (الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به أمام الناس) وإذا خرج إلى المسجد قال: (باسم الله، التكلان على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي، أو أكسب سوءاً أو أجره إلى أحد من المسلمين) فيخرج وهو في حماية الله. ويقف على بابك ملك وشيطان، فإن خرجت في سبيل الله يظل الملك معك حتى ترجع، وإن خرجت إلى معصية الله يخرج الشيطان معك حتى ترجع، وإن للملك لمة، وإن للشيطان لمة، أما لمة الملك فإيعاد بالخير، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر. والعياذ بالله رب العالمين! ولذلك يقال: إن شيطان المؤمن وشيطان الفاجر والفاسق والكافر التقيا، فشيطان المؤمن كان نحيفاً وهزيلاً، وشيطان الكافر كان سميناً، فقال له: ما لك نحيف؟ فقال له: وما لك أنت سمين؟ فقال: أنا جالس مع شخص عندما يأكل لا يسمي ربنا، ولا يستعيذ بالله مني؛ فآكل معه، وعندما يشرب أشرب معه، وعندما ينام أنام معه، فأنام وصحتي جيدة. لكن أنت ما لك هكذا نحيف؟ قال له: أنا أعيش مع شخص إذا أكل سمى الله فلا آكل، وإذا شرب سمى الله، فلا أشرب وإذا دخل البيت سمى الله، فأطرد خارج البيت، وأنام في البرد؛ ولذا بقيت هكذا نحيفاً. فيا ترى، هل تريد أن تجعل الشيطان نحيفاً أم غير ذلك؟! سيدنا علي رضي الله عنه دعا له الرسول دعوة فقال: (اللهم قه شر الحر والقر)، والقر: هو البرد، فكان سيدنا علي في عز الصيف لا يحس بالحر، وفي عز الشتاء لا يحس بالبرد! وسيدنا الحبيب كان يحب علياً، وكان سيدنا علي أشجع العرب، كان يشبه سيدنا الحبيب في الطول والعرض، فلم يكن طويلاً ولا قصيراً، ولا نحيفاً ولا سميناً، وكان ربعة بين الرجال، ولكن كان الحبيب أبيض مشوباً بحمرة، وكان سيدنا علي يميل إلى السمرة هو وسيدنا عثمان، وكان سيدنا عمر أبيض، وكذا سيدنا أبو بكر، لكن سيدنا أبو بكر كان قصيراً غزير الشعر، إذا تركه ينزل على أذنيه من كثرته وغزارته، وسيدنا عمر كان أصلع، وسيدنا عثمان كان متوسط الشعر، وسيدنا علي كان أصلع ليس له إلا شعيرات في مؤخرة رأسه رضي الله عنهم جميعاً. وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً يداعب علياً كرم الله وجهه. ونحن نقول: كرم الله وجهه؛ لأنه لم يسجد لصنم قط، وقد أسلم علي ولم يكن قد بلغ الحلم، فلما رآه أبوه أبو طالب يصلي قال له: ماذا تصنع يا علي؟ قال له: اتبعت دين محمد، فقال له أبو طالب: والله! لا يأمرك إلا بخير، فكن معه يا علي. ومن أجل هذا يخفف ربنا عن أبي طالب العذاب بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أخف الناس عذاباً في جهنم أبو طالب وقال: (يلبس نعلين من نار يغلي منهما دماغه).

علامات الاستقامة

علامات الاستقامة

خفة الطاعة على القلب

خفة الطاعة على القلب من علامات الاستقامة: خفة الطاعة على قلب العبد: صلى رجل وراء أبي حنيفة، وأبو حنيفة كان يخفف بالمسلمين في صلاة الصبح، فيقرأ بالثمانين آية من سورة البقرة، هذا وهو يخفف، فالرجل أول مرة يصلي، فبعدما أكمل الصلاة -وكان معه عمل- وجد الشروق قد قرب فقال: ما هذه السورة التي قرأها الشيخ؟ قالوا له: سورة البقرة. ففي اليوم الثاني قال: أنا سأصلي وأمشي على طول، وأبو حنيفة في اليوم الثاني كان مريضاً فقرأ بسورة الفيل، فلما بدأ يقرأ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] أخذ الرجل الحذاء ومشى وقال: قرأ أمس سورة البقرة ومكثنا إلى غاية الشروق، فكيف وهي سورة الفيل؟!

انقباض النفس من الذنب الماضي

انقباض النفس من الذنب الماضي من علامات الاستقامة أيضاً: أن الإنسان إذا ارتكب صغيرة انقبض خاطره، وخاف، وارتعد، وحصل له رعب وهلع؛ لأنه ارتكب ما يغضب الله، ولذلك لا يقول العبد: إن هذا مكروه، والمكروه هذا بسيط. قد تقول: هذا مكروه يعني: ليس حراماً، لكن انظر إلى من يكره هذا الفعل، أنا لو أعرف أن أبي أو مديري في العمل يكره شيئاً فأنا لا أعمله؛ لأنه يضيق ذرعاً مني، فما بالك بالذي يكرهه رب العباد سبحانه؟! فمن دلائل الاستقامة لدى العبد أن تصير الصغيرة لديه كبيرة، قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].

الخشوع عند سماع القرآن

الخشوع عند سماع القرآن كذلك من علامات الاستقامة: أن العبد يخشع عند سماع آيات كتاب الله: ولذلك نحن نغبط أبناءنا الشباب الذين في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة والعشرين عندما يسمع القرآن ويبكي، كلنا نكون فرحين به؛ لأنه شاب يباهي رب العباد به الملائكة، وهذا الشاب هو الذي ينزل الله الخير على مصر أو على بلاد الإسلام بسببه. اللهم اجعلنا من أهل الاستقامة يا رب العالمين، اللهم اجعل أول يومنا هذا صلاحاً، وأوسطه نجاحاً، وآخره فلاحاً، لا تدع لنا فيه ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالباً ألا نجحته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا شهيداً إلا رحمته وأدخلته جنتك يا رب العالمين! كما نسألك يا مولانا أن تنصر الإسلام وأن تعز المسلمين، ولا تجعل لكافر على مؤمن سبيلاً، لا تدع لنا حاجة من حوائج الدنيا لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أكرم الأكرمين! اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم أزل عن أبنائنا وبناتنا شياطين الإنس والجن، واجعلنا لك من الذاكرين والذاكرات، والقانتين والقانتات، والعابدين والعابدات، يا رب العالمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.

الأدب

الأدب من مراتب هداية الله لعبده أن يجعله مؤدباً، وموضوع الأدب موضوع مهم لابد للمسلم أن يلتزمه، وأن يكون سمة ظاهرة عليه، والأدب منه ما يكون مع الخالق جل وعلا، ومنه ما يكون مع نبينا محمد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ومنه ما يكون مع خلق الله، وأعظمهم حقاً الوالدان اللذان أوصى الله بهما وبطاعتهما.

الأدب أهميته وأقسامه

الأدب أهميته وأقسامه

أولا: الأدب مع الله تعالى

أولاً: الأدب مع الله تعالى من مراتب الهداية ودرجاتها: الأدب، اللهم اجعلنا من أهل الأدب معك يا رب العالمين، والأدب أنواع ثلاثة: أدب مع الله، وأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه، وأدب مع خلقه. فما معنى الأدب مع الله؟ وما معنى الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وما معنى الأدب مع خلق الله؟ أولاً: الأدب مع الله في إطاره العام: ألا ترى نفسك على معصية، أو على إصرار على معصية. ففي الدنيا لو وصف أب ابناً له بأنه مؤدب، أو وصف أهل الحي أحداً بأنه إنسان مؤدب -أي: أدب دنيوي- فمعناه: أنه يحترم الكبير، فاحترامه لكبير القوم نوع من الأدب. فأدبك مع الله عز وجل: ألا تسيء إلى شرع الله والقانون الذي وضعه الله عز وجل، وقانون الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: أمر ونهي. فالأمر: التنفيذ، فلا يكون هناك تقصير. ففي القانون الوضعي عندما أخالف الأمر تأتيني المخالفة، فإذا خالفت أمر المرور مثلاً أتتني المخالفة، فإذا كانت السيارة محطمة، أو أخذ التاكسي حمولة أكثر من اللازم أو غير ذلك فإن المخالفة تسجل علي، أو في قانون المباني إذا كان قد صرح له ببناء خمسة أدوار فبنى سبعة سجلت عليه مخالفة، وهكذا في كل القوانين الوضعية عندما لا تنفذ الأمر، أو ترتكب منهياً عنه في القانون تأتيك المخالفة. إذاً: أليس من باب أولى أن يكون لك مع الله قانون؟! فقانون الله عز وجل عبارة عن أمر ونهي، فإذا خالفت الأمر فأنت مخالف، وعندها نقول عن فلان: إنه غير مؤدب مع الله، فأي إنسان مستمرئ لمعصية، ومعتاد عليها، أو أنه يضيق صدور المسلمين فيدخل النكد عليهم، أو يحاول أن يثير الذعر بينهم، أو يحاول أن يوقع المسلم في أخيه، والجماعة المسلمة في الأخرى، فهذا إنسان لا يعرف الأدب مع الله، أي: أنه ارتكب مخالفة، أو لم يطبق أمر الله عز وجل. وقد يجتمع المسلمون في بيت واحد لمدة ساعتين أو ثلاث فيسأل كل واحد منهم عن الآخر، وربما لا يعرف بعضهم أسماء بعض، لكن الأرواح قد تلاقت في الأزل منذ أن قال ربنا: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]؟ فقال الجميع: {بَلَى} [الأعراف:172]، بل وأشهدنا على أنفسنا، قال ربنا: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، فكل الأرواح اجتمعت في ذلك اليوم، فأنت ترى الأخ في المسجد ولم تره من قبل حقيقة، فتقول له: قد رأيتك من قبل؟! فيقول هو أيضاً: وأنا رأيتك، ولعلك تتذكره فتقول: كنت في كلية كذا؟ فيقول: لا، هل اشتغلت في المصلحة الفلانية؟ فيقول: لم يحصل، هل كنا مع بعض في المدرسة؟ فيقول: لا، أو في الروضة؟ فيقول: لا، فتقول له: أنا كنت في الإسكندرية، فيقول: وأنا أتيت من سوهاج، وكلاهما صادق؛ لأن روحيهما قد التقتا في عالم الأزل، فلما تلاقت الأجساد لم تكن الأشكال غريبة.

حاجتنا مع الله حالة وهالة

حاجتنا مع الله حالة وهالة فنحن لنا مع الله حاجتان: حالة وهالة. فالحالة نوعان: إما حالة إيمانية، أو حالة تمردية عصيانية، وهذا كما يقال: أعلنوا التمرد العام أو العصيان المدني، فنحن مع الله في إحدى حالتين: حالة إيمانية تقترب فيها من رب العباد كلما ازداد العمر ومضت السنين، وكلما ذقت حلاوة الهداية والطاعة ورقة القلب عندما تقترب من الله، أو حالة تمردية عصيانية تدخل بها في دائرة إبليس، قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:142]، وقال: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، ويأتي إبليس بعد ذلك ويتبرأ: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، فشخص يقول لك: ضع نفسك تحت القطار، أو اشرب هذا السم فتشرب، أو ارم نفسك من الدور العاشر فترمي بنفسك، لم يكن له عليك من سلطان إلا أن دعاك، فلم أُشربك السم رغماً عنك، ولم أضعك على سكة القطار رغماً عنك، ولا جعلتك تقتل نفسك رغماً عنك، ولكن بمجرد أن دعوتك دعوة استجبت لي، وهذا مثل الولد الفاشل إذا قيل له: تعال نلعب قليلاً استجاب، فزميله ليس له سيطرة عليه إلا أنه زين له اللعب، فإذا ما جاءت نهاية السنة فشل وسقط، فإذا قال له: أنت السبب، قال له: ليس لي دخل فيك، إنما دعوتك إلى اللعب فاستجبت لي، ولم أمسك بك لكي تلعب، ولم أهددك أبداً، وإنما استجبت لي بمحض إرادتك. ثم يترتب بعد ذلك على هذه الحالة هالة، والهالة نوعان: هالة مضيئة إذا كنت في حالة إيمانية، وهالة مظلمة قاتمة لا ترى فيها سبيل الهداية إن كنت متمرداً عاصياً؛ ولذلك تسمع أن فلاناً عليه هالة من النور، أو فلاناً في جبينه نور، أو فلاناً في وجهه السماحة، بينما فلان من أهل المعصية عليه غبرة، رجل ليس فيه نور، إذا تكلم لم يسمعه أحد، إذا خرج كلامه من لسانه لم يتجاوز الآذان، فالهالة إذاً مترتبة على الحالة. وفي الآخرة تنير حالتك الإيمانية طريقك على الصراط -اللهم أضئ لنا طريقنا يا رب العالمين-، فإذا كنت مستقيماً على طريق الله في الدنيا تأتي على الصراط وهو مظلم ومن تحته جهنم -والعياذ بالله نسأل الله السلامة- وجهنم مظلمة لا يرى الإنسان فيها نوراً، فالذي يظلك في هذا الوقت هالتك الإيمانية، وكل إنسان على قدر إيمانه. فمثلاً: تجد أن الإنسان إذا كان غنياً في الدنيا يصنعون له صيواناً عند موته، يأتي المهندس فيقال له: نريد الكثير من قناديل الإضاءة، والمهندس عليه التوصيل الكهربائي، فتضاء القناديل كلها، ويكون الصيوان كضوء النهار، بينما الآخر المسكين ليس معه عند موته سوى قنديلين أو ثلاثة، وهكذا المؤمن كلما ازداد إيمانه ازدادت هالته الإيمانية النورانية فأضاءت له على الصراط، كما وصف الحبيب أن من الناس من يضيء له إيمانه على قدر إبهامه، يعني: قدر إبهام إصبع رجله، مثل بطارية الدكتور الصغيرة الخاصة بالأنف والأذن والعيون، شيء على قدر الحاجة يفي بالغرض. قال تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] يعني: أن الصراط مظلم، وهذا هو حال من يصلي من رمضان إلى رمضان، ومن الجمعة إلى الجمعة فقط، وكلما مات له قريب قال: سأتوب وسأصلح حالي، فهذا الإنسان يضاء له على الصراط قليلاً ثم ينطفئ ضوءه، قال تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:20] لأنه رأى طريقه، قال: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] لأنه لا يرى أمامه فيوشك أن يقع في جهنم. وقال صلى الله عليه وسلم: (ومنكم من يضيء له إيمانه كضوء الهلال) يعني: كالشهر في أوله، (أو المحاق)، وهو الشهر في آخره، (ومنكم من يضيء له إيمانه كضوء القمر ليلة التمام، ومنهم من تناديه النار: يا مؤمن! أسرع بالمرور من فوقي فإن نورك غطى على ناري) سبحان الله! إذاً: هذه هي الهالة الإيمانية، اللهم أنر لنا الدنيا والآخرة بالإيمان يا رب! فأنت مع الله عز وجل في قضية الأدب لا تكسر أمراً ولا ترتكب منهياً، هذا هو الإطار العام. ولقد كان أنبياء الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام في قمة الأدب مع الله عز وجل، وهناك صور شتى: فسيدنا إبراهيم، والرجل الصالح الذي يقال له الخضر عليه السلام الذي التقى به الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وسيدنا يوسف كيف تعلمنا منه الأدب عندما التقى بأبيه وإخوته، قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] مع أن الورطة الكبرى كانت في إخراجه من الجب وهو البئر، لكن لو أنه قال: (إذ أخرجني من الجب) لكان فيه جرح لمشاعر إخوته، لكن من أجل صفاء القلوب لم يذكر هذا الأمر. فالنفوس مثل الحوض أو البئر الذي فيه ماء معكر، ومع مرور الوقت أو الزمن ينزل التعكير إلى الأسفل، فمن باب المصلحة أن نأخذ كوباً منه أو إناء من حافة الحوض دون تحريك العكارة، وهذا من باب الأدب. قال رجل للحسن البصري: يا بصري! تعال لنتعاتب -يعني: نجلس مع بعضنا جلسة عتاب- قال: كلا! قل: تعال لنتغافر. يعني: لا نريد أن نجلس للعتاب ولكن للمغافرة. وتقول العرب في أمثالها: أنت تئق وأنا مئق فمتى نتفق؟! وتئق يعني: رجل سريع الغضب، وأنا مئق: يعني سريع الاندفاع، يعني: أنك لا تتحمل وأنا لا أستطيع أن أمسك نفسي، إذاً: من اللازم أن أخفف من حدة انفعالي، وأن تخفف من حدة توترك وتلقيك للمسألة. والسلف الصالح كانوا في قمة الأدب مع الله في مسألة الوقت، وقد علمنا أهل العلم رضي الله عنهم: أن من الحقوق في الأوقات ما يمكن قضاؤها، ومن حقوق الأوقات ما لا يمكن قضاؤها. المثال الأول: أن يدخل وقت الظهر فأقوم للصلاة، فهذا حق الوقت في الظهر، وإذا انقضى وقت الظهر أصليه قضاءً، فإذا دخل وقت العصر ولم أصله بعد والشمس سوف تغرب فمن الواجب أصليه، فقبل أن أنام لابد أن أصلي خمس صلوات، والصلوات على أوقاتها من أفضل القربات، لكن الإنسان أحياناً قد يؤخر الوقت، أو تأتيه ظروف تضطره لتأخير الصلاة فيدخل وقت على وقت، وهذا لا يستوي مع الذي يؤديها في نفس الوقت. أما حقوق الأوقات مما لا يمكن قضاؤها فمثل اليوم الذي يفوت من غير طاعة، أو سنة أو سنتين تمر عليك ولم تطع الله فيها، فهل تستطيع أن تستعيد هذا الزمن مرة أخرى؟ وهل ما فات حجة لك أم عليك؟ اللهم اجعله حجة لنا لا علينا يا رب العالمين! إذاً: هذه بعض من صور الأدب مع الله.

ثالثا: الأدب مع خلق الله

ثالثاً: الأدب مع خلق الله النوع الثالث من الأدب موجود عند بعضنا وغير موجود عند البعض الآخر: وهو الأدب مع خلق الله، وخلق الله ينقسمون إلى درجات: فهناك أناس أصحاب حقوق كبيرة، وأناس أصحاب حقوق أقل، ولا يوجد شخص ليس له حقوق عندك، فالمسلم الذي في الصين له حق عليك، ومن كرم الله عليك وعلينا أجمعين أن جعلنا من زمرة المصلين؛ لأنك تقول في التشهد: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، فكل مصلٍ صالح فأنت تلقي السلام عليهم أجمعين، نفرض مثلاً: أن هناك ملياراً وربع مليار مسلم، يصلي منهم نصف مليار أو ربع مليار، فأنت تسلم على هؤلاء كلهم في كل صلاة مرتين، أي: عشر مرات في الصلوات الخمس، وبالتالي يصير لك من الحسنات ما الله به عليم. وهناك أخ كريم له صاحب غير ملتزم، وهو يحكي لنا يقول: اتصل بي وقال: يا شيخ! أريد أن أتوب إلى الله وأترك الفوضى التي أنا فيها، وسأذهب معك إلى المكان الذي تذهب إليه في رمضان، فقال له: نحن نذهب إلى العمرة في رمضان عشرة أيام لا نتحرك فيها من الحرم، فقال له: موافق، فقال له: لن تتحمل، قال له: سوف أتحمل، ومتى سنرجع؟ قال: يوم العيد، فقال: موافق وسوف أحج معك بالمرة، فقال له: أين تحج؟ فقال: ما دمت سأجلس معك عشرة أيام إلى العيد ولن أخرج من الحرم فسأحج بالمرة، فليس من اللازم أن يكون الحج في ذي الحجة؟!! قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، ففي الآية دلالة على عظم أهمية الوقت في حياة المسلم.

صور من أدب العظماء

صور من أدب العظماء سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم قبل البعثة واعد شاباً من مكة أن ينتظره عند الحرم، فجلس سيدنا الحبيب ولم يأت هذا الشاب، فبعد أربعة أيام ذهب الشاب فوجد سيدنا الحبيب جالساً، فقاله له: في كل يوم في هذا الوقت آتي فأجلس هنا لكي لا أكون قد خالفت عهدي معك، وهذا قبل الرسالة، فانظر إلى الأخلاقيات! وأتى رجل إلى الإمام أبي حنيفة وكان يمشي في الشارع يذاكر مسألة فقهية، فقال له: يا إمام! فقال له: نعم، قال: عندي سؤال صغير، فقال له: سل فيه عالماً صغيراً! فهناك أناس من الخلق لهم أكبر الحقوق، مثل الوالدين: أبوك وأمك، فهؤلاء لهم أكبر الحقوق، فأدبك معهم: ألا تناديه باسمه، وألا تجلس بحضرته إلا إذا أذن لك، وألا تسير أمامه إلا إذا كان ليلاً، ولا تقل له: تعال، ولا ترفع الصوت عليه، ولا تجعله يبيت باكياً، وأظن أن هذا الكلام واضح جداً للشباب، ولن يدخل أحدٌ الجنة إلا برضاهما، (فالوالدان على بابين من أبواب الجنة، وإن كان واحداً فواحداً)، يعني: لو كان أبوك على قيد الحياة وأنت تبره فستدخل من باب من الجنة، وإن كنت تبر أباك وأمك فستدخل من بابين من الجنة تخير بينهما فتدخل من هذا أو من الآخر، ومن عقهما فلن يدخل الجنة، فإياكم وعقوق الوالدين، ولا توجد آية في كتاب الله تنهى عن الشرك إلا وتنهى عن العقوق، ولا آية تأمر بالتوحيد إلا وتأمر بالبر. فإن قيل: فإذا مات الأب والأم ولم أبرهما فماذا أفعل؟ قلنا: ليست بمشكلة فالبر موجود أيضاً، وهو أن تبر صديقهما من بعدهما، تأتي في رمضان وتتصل بصديق أبيك الذي كان يزوركم، وتسأل عن أحواله وأخباره. كان لسيدنا ابن عمر عمامة يحبها كثيراً لأن رسول الله صنعها له مرة، وذات مرة ذهب ليعتمر فلما أنهى العمرة ولبس ملابسه وعمامته لقي شخصاً فأخذ عمامته ووضعها على رأسه، فقيل له: لم فعلت هذا؟! فقال: كان والد هذا وداً لـ عمر بن الخطاب، يعني: صاحباً وخليلاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل ود أبيك)، وليس كالولد الذي قال لأبيه: لو كان مثلك في زمان المصطفى ما كان في القرآن بر الوالدين فهذا حق من الحقوق قد يضيع كالدعاء لهما، والاستغفار، وصلة صديقهما من بعدهما، والتصدق على روحيهما، وإن كان عليهما أيام صيام صام عنهما، وإن كان عليهما حج ولم يحجا ويسر الله له حج عنهما، فهذه من حقوق الوالدين. أما قراءة القرآن فإنها لا تصل؛ لأن الله يقول: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس:70] أي: ما زال في الدنيا، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إلى قبر أو جلس في بيته وقرأ وقال: هذه القراءة لروح فلان. لكن الواجب عليك تجاه الميت: أن تدعو له، وتذكر أنك ستصل بعده لهذه الحالة، هذا هو هدي حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم. جزاكم الله خيراً، وبارك فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ثانيا: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثانياً: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانياً: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدب معه يندرج تحت عنوان واحد: الانقياد له ولشرعه صلى الله عليه وسلم. يعني: إذا قال الله أو قال رسوله، قلنا: سمعنا وأطعنا، سواء فهمت العلة أم لم أفهمها، فهمت المسألة أم لم أفهمها، ما دام أن هذا الكلام من حبيب الله فقد انتهى الأمر. جاء عن ابن مسعود: أنه كان ذاهباً إلى المسجد النبوي فبينما هو في وسط الشارع سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن في المسجد: اجلسوا! فجلس ابن مسعود على قارعة الطريق، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم رأى ابن مسعود جالساً على الطريق فقال له: مالك تجلس هكذا، قال: سمعتك تقول: اجلسوا! فجلست مخافة أن أتقدم خطوة فأكون مخالفاً لأمرك يا رسول الله! وهذا غاية الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن إذا أتتنا امرأة قليلة أدب -وكثيرات ما هنّ- تقول لك: الحجاب هذا لم يرد، وتجد إنساناً أيام عبد الناصر كان من أكبر الماركسيين في مصر، فلما كبر قليلاً في السن -والسن عند بعض الناس الذين لا يتقون الله في ماضيهم يصير وبالاً عليهم إذا تقدم بهم- فالشاهد: أن هذا الماركسي طلع على الناس في إحدى المجلات يقول لهم: الحجاب ليس بفرض، كيف هذا يا رفيق؟! ورفيق: تطلق على الشيوعيين في الوقت الحالي، فبئس الرفيق هذا. فهؤلاء الذين يدعون إلى حرية المرأة هم لا يدعون إلى حرية المرأة ولكن يدعون إلى حرية الوصول إلى المرأة، وأنا عندي قناعة بهذه المسألة، وأعرف أناساً كثيرين وأتمنى ألا عرفهم من هؤلاء، فأي حرية مرأة!! وما الذي يغضبك يا أخي في هذا الشيء؟! فإذا لم نأخذها بالفطرة أو بالدين، أو أنه لا توجد آية في النور أو في الأحزاب، أو لا يوجد شيء في أيام رسول الله أو في الإجماع، فهب أنها بالغيرة العربية، هل تحب أن تمشي زوجتك عارية أم مستترة؟! انظر إلى حيوانات الغابة هل هي محجبة أم عارية؟ هل في عمرك رأيت جاموسة منقبة أو مخمرة؟ لم نسمع في عمرنا -أعزكم الله-، بل تمشي عارية كما خلقت، هذه حياتها، لكن الإنسان الذي كرّمه الله يقول الله عنه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26]، وأبونا آدم عندما أكل من الشجرة وبدت له سوءته قال الله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] أي: يريد أن يغطي سوأته. فالمرأة عورة وإن لم يكن النقاب فرضاً، لكن جزاها الله خيراً من غطت جسدها أمام الرجال، فما الذي يغضب الآخرين سوى أنه يريد أن ينظر إليها؟! وإذا سألته: هل هذه أختك؟ قال: لا. ابنتك؟ قال: لا. وقاسم أمين -رحم الله الجميع- لما أخرج كتاب: (المرأة الجديدة)، و (تحرير المرأة) ذهب إليه أحد أصحابه ممن لم يقتنع بالكلام الذي كتبه قاسم أمين عن خروج المرأة وجلوسها مع الرجال، فلما أتاه قال له: أنا لم آت لأجلس معك، ولكن لأجلس مع امرأتك قليلاً!! فقال: ما قلة الأدب هذه؟! فقال له: ألم تقل أنت هذا! ما المشكلة؟! فلو خرج قاسم أمين من قبره وسمع ما يقال اليوم لظن نفسه عمر بن الخطاب؛ لأن قاسم أمين كان يقول: لا داعي أن تغطي المرأة وجهها؛ لأن جدتي وجدتك من عهد قريب -أربعين أو خمسين سنة- كانت إذا خرجت من البيت غطت وجهها لكي لا يراها أحد؛ من باب الفطرة، ولو سألت جدتك: ما هذا؟ وهل النقاب فرض أم لا؟ لما عرفت الجواب؛ لأنهم لم يكونوا يعرفوا هل السلام على الرجال حرام أم لا؟ لكن إذا جاءت تسلم على الرجل أدخلت يدها في الكم أو الشال الذي معها وسلمت عليه، رغم أنها لم تكن تسلم على الرجال، لكن إذا اضطرت وضعت يدها بالفطرة من غير أن يعلمها أحد، ونحن أتينا لنكسر هذه الفطرة ونكسر الدين، ولو جلست امرأة غير محجبة بجانب امرأة يهودية أو نصرانية أو روسية فكيف ستعرف المسلمة؟! ويقولون: أنتم أيها الإسلاميون! تذهبون بعيداً جداً، امرأة عارية تذهب وتجيء في المسرح!! يقول تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:36]، ويقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22] انظر إلى شر الدواب!! فقد جعل الله الذي لا يفهم في الدين ولا يريد أن يفهم الدين أسوأ من البقرة والجاموسة والحمار، والبقرة والجاموسة والحمار هذه البهائم مجبولة ومفطورة ومسخرة لطاعة الله وتسبيحه وتقديسه طوعاً أو كرهاً. لكن نحن -من أعطانا الله العقل- متمردون على الدين، فأين أدب هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يقول تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، هذا هو الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإحسان

الإحسان إن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على أهل الإحسان في العمل، وجعلهم من أعلى المراتب، فهي منزلة لا يبلغها إلا المقربون؛ ولذا كان لمن أراد أن يبلغ هذه المرتبة شروط لابد من معرفتها وتطبيقها؛ حتى يبلغ العبد مرتبة الإحسان في الأعمال والأحوال والأوقات.

شروط الإحسان في العمل

شروط الإحسان في العمل

موافقة العمل للكتاب والسنة

موافقة العمل للكتاب والسنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإننا نعلم جميعاً ما سأله جبريل للحبيب المعصوم صلى الله عليه وسلم: (ما هو الإحسان يا محمد؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). نستطيع أن نفهم كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوايا ثلاث: الإحسان في الأعمال، والإحسان في الأقوال، والإحسان في الأوقات. فالإحسان في الأعمال فيه خمسة شروط: الشرط الأول: ألا يكون العمل خارجاً عن الكتاب أو السنة: فلو أن شخصاً أتى وهو متعب بعد سفر وجاء من أسوان، فقلت له: إلى أين أنت ذاهب يا هذا؟ قال: سأذهب لأزور الحسين، فيدخل عند الضريح ويطوف سبعاً أو يطوف حتى مرة، فهذا الطواف لا ينفع إلا حول الكعبة، إذاً: هذا عمل ليس على مقتضى السنة. يصعد الإمام على المنبر يوم الجمعة، ويؤذن المؤذن بين يدي الإمام، وعند: حي على الصلاة! حي على الفلاح! ترى الآباء الكبار يحب أحدهم أطراف أنامله ويمسح على عينيه: يا قرة عيني! يا حبيبي يا رسول الله! ما هذا الكلام؟ أيها الأب الفاضل من أين أتيت بهذا؟ أنت مخطئ! فهذا عمل على غير منهج الكتاب والسنة. وعندما يقف المؤذن، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن (سيدنا) محمداً رسول الله! يا رجل! أذن مثلما كان يؤذن بلال بين يدي رسول الله، يعني: هل رسول الله أحب إليك منه إلى بلال؟ هل يعقل أننا أشد حباً للرسول من صحابة رسول الله؟ فتقول له: لا داعي لهذه الكلمة لكنه يقلق ويغضب، ولو فتحنا المجال لقلنا: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، وأن علياً ولي الله، وأن آل البيت أهل الله؛ فيكون هذا من التلاعب بالدين، وكأنه فاعله لم يعجبه الكتاب والسنة، فالعمل الخارج عن حدود الكتاب والسنة ليس فيه إحسان. كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك من العمل أخلصه وأصوبه، قالوا: ما أخلصه وما أصوبه يا أمير المؤمنين؟ قال رضي الله عنه: أخلصه ما كان خالصاً لوجه الله عز وجل، وأصوبه ما كان على الكتاب والسنة، أي يمكن أن يكون العمل خالصاً، ولكن ليس صواباً، ويمكن أن يكون صواباً ولكن ليس خالصاً. إذاً: العمل لابد فيه من شروط: أولاً: أن يكون على منهاج الكتاب والسنة، وهنالك أناس يحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكنهم لا يحسنون العمل، يعني: هناك أناس يحبون أن يجتمعوا كل ليلة جمعة في مسجد من المساجد ويصلون صلاة التراويح أو القيام في غير رمضان هل يصلح هذا الفعل؟ لا يصلح هذا الفعل؛ لأن هذا على غير منهج الكتاب والسنة، يعني: إذا كان الرسول لم يصنعها إلا في رمضان ثلاثة أيام، ثم أصبحت سنة مؤكدة بعد ذلك، وأحياها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم زاد فيها عثمان فجعلها ستاً وثلاثين ركعة، والبعض يقول: إنها عشرون ركعة، والبعض يقول ثمان ركعات، ولم يجتمع الصحابة على نافلة إلا في رمضان، فعندما تنكر عليه يقول لك: لو صليت سأدخل النار؟! فأقول: النار والجنة هذه ليست إلينا، نحن لدينا كتاب وسنة، فلو وجدت هذه الصلاة في الكتاب والسنة فنحن سنأتي ونصلي معكم، ونصلي بكم، وليس هنالك مشكلة، لكنها صلاة على غير منهاج الكتاب والسنة، ومخالفة لمنهاج صحابة الحبيب المصطفى الذين نقلوا لنا كل حركة من حياة رسول الله. وأنا أتخيل منذ أن نزل على رسول الله ((اقْرَأْ)) إلى نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] أو: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] والدين محفوظ مثل شريط الفيديو صوت وصورة، يعني: كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حركته وسكنته في بيته في المسجد في الشارع في الحرب في السلم في السفر، في الحضر في كل خطوة من ليل أو نهار مسجل تماماً عن رسول الله، فمن زاد في الدين شيئاً كان كمن نقص منه شيئاًَ. يعني: أنت لو زدت في الدين شيئاً اتهمت الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير في أنه لم يبلغنا هذا الأمر، فعندما تزيد في الدين تكون قد اتهمت رسول الله أنه نسي شيئاً، وأنك بحذاقتك وعلمك أكملتها، وإن نقصت من الدين شيئاً رأيت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بما لا طاقة لك به، فحذفت من الدين تلك الزيادة بحسب تعبيرك. قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} [المائدة:3]، والإكمال أفضل من الإتمام: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (وتركتكم على المحجة البيضاء)، والمحجة: هي الطريق الواضح الممهد، (ليلها كنهارها) يعني: مضيئة واضحة.

أن يكون العمل خالصا لوجه الله

أن يكون العمل خالصاً لوجه الله الشرط الثاني: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، أبو موسى الأشعري عندما سلم من الصلاة وجد الحبيب صلى الله عليه وسلم جالساً وراءه وهو يصلي تحية المسجد، قال: أوسمعتني يا رسول الله! قال: (منذ أن بدأت يا أبا موسى، والذي بعثني بالحق نبياً لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، أي: صوتك طيب وجميل! حتى المصريون ينتقون شخصاً صوته جيد معقول ليصلي بهم، والمؤذن يكون صوته جيداً حتى لا ينفر الناس! (اسمع القرآن ممن إذا سمعته قلت: إنه يخشى الله)، فلا تنكرون عليه قراءته، من أنه لم يقف هنا في هذا الموطن، وأخطأ هنا، هذا ليس مجلس عرض للقرآن، يا أخي إن الله امتن عليهم بحفظ كثير من القرآن والسنن فلا تكن معولاً في هدم البناء، وكن حجراً في إعلاء البناء، يعني: سددوا وقاربوا من أجل أن الله يسد الخلل علينا يوم القيامة، يستمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلاوة أبي موسى فيقول: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، قال: والذي بعثك بالحق نبياً، لو أعلم أنك تسمعني لحبرته لك تحبيراً)، أي: لكنت جملت وحسنت صوتي، فالرسول يسمع. أنت إذا ذهبت إلى الإذاعة تجد أن المقرئ عندما يذهب للامتحان يكون في اللجنة واحد من معهد الموسيقى؛ من أجل أن يرى مقامات الأصوات، المهم أنه لابد أن يكون عضواً في اللجنة، سواء يصلي أو لا يصلي، المهم أن يأتي يسمع صوت هذا الشخص، وكأنه -سبحان الله- كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم) يعني: بالكاد أن القرآن يخرج من اللسان فقط دون العمل بما فيه. ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن نزل بحزن، فاقرءوه بحزن، ولا تقرءوه بلحن أهل العشق) أي: لا يمكث طوال الوقت يغني بالقرآن، فيقول آخر: يا سلام عليك يا شيخ {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100] يا سلام! الله يفتح عليك: ثانية ثاني! ماذا الله يعرض جهنم! يعرض جهنم يا شيخ! لا إله إلا الله، نسأل الله السلامة! انظر إلى الصحابة كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قرأ عليهم القرآن كأن على رءوسهم الطير!

إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار والعكس

إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار والعكس الشرط الثالث في الإحسان في العمل: أن الله عز وجل له عمل بالليل لا يقبله بالنهار، وله عمل بالنهار لا يقبله بالليل، مثلما أوصى أبو بكر عمر رضي الله عنهما في وصيته، يعني: هل ينفع أن شخصاً يصوم في رمضان بالليل ويفطر بالنهار؟ هل يصح أن أحداً يصلي الصبح بعد صلاة العصر؟ إذاً: ربنا له عمل محدد، الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، الزكاة لا تخرج صدقة، والصدقة لا تحسب زكاة، والصدقة الجارية شيء، وكفارة الأيمان شيء آخر، والنذر شيء ثالث، وزكاة الفطر شيء رابع إذاً كل هذه الأشياء لها حدود وقانون، وأنا أقول لك دائماً: الذي جعل للكرة قانوناً فهل الدين ليس له قانون؟ أليست الكرة لها ملعب خاص بها، ولها مرمى طوله كذا وارتفاعه كذا فهذه مواصفات عالمية يا كابتن! يعني: الكابتن له مواصفات عالمية، وتلعب بالدين وتقول: أنا قلبي أبيض؟ نعم أبيض، ولكن هذه قوانين، فإذا كانت الكرة فيها قانون أليس لدين الله قانون من باب أولى؟! إذاً: اسأل الحكم أليس كذلك؟ يأتون بحكم من الخارج، أما نحن فالحمد لله العلماء بين أظهرنا فلا نحتاج أن نستورد علماء من الخارج. يجب أن نعلم أن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار وأن له عملاً بالنهار لا يقبله بالليل.

مراقبة الله تعالى عند القيام بالعمل

مراقبة الله تعالى عند القيام بالعمل الشرط الرابع في الإحسان في العمل: أن يعتقد العبد وهو يعمل أن الله يراه: فعندما يستشعر العبد أن الله سبحانه وتعالى ينظر إليه يكون عمله متقناً، بل وخالصاً لله. الرجل الذي يقف يصلي بخشوع في المسجد والناس ينظرون إليه، يقولون: ما شاء الله، هذه الصلاة ليست مثل صلاتنا المستعجلة، فنتعلم من هذا الرجل كيف نصلي، انظروا إليه له عشر دقائق وحتى الآن لم يركع! وهذا الرجل عندما يسمع هذا يعجبه فيحاول أن يحسن من الصلاة ويتقنها! للأسف كلنا هذا الرجل، نسمع المدح فنرضى، وعندما ينتقدك أحدهم تحزن، ولكن الذي ينتقد لو نوى نية صادقة لما حزن الذي ينقد، فلو نويت النصح من داخلك لوجه الله فالذي أمامك لن يحزن، لكن أنت نويت أن تجرحه، وتشعره بالهوان والصغر بأنه لا يفهم ولا يعرف. اسمعوا إلى هذه القصة البسيطة التي كلنا نعلمها أولادنا، الحسن والحسين لما رأيا رجلاً كبير السن لا يحسن الوضوء كانا صغيرين عمرهما تسع سنين أو عشر سنين، فلو قالوا للرجل كبير السن: أنت مخطئ لربما غضب؛ لكن الحسن والحسين قالا له: يا عماه! اختلفت أنا وأخي في كيفية الوضوء، فتعال فاحكم بيننا، فتوضأ الاثنان الوضوء الذي رأيا جدهما صلى الله عليه وسلم يتوضؤه، فقال لهما: يا أبنائي! أنتما المصيبان وأنا المخطئ، أنا الذي لا أستطيع أن أتوضأ. هذه هي طريقة التعليم، وانظروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كيف علم الرجل الرحمة، وعلم الصحابة كيف تكون الدعوة إلى الله، الأعرابي الذي دخل المسجد -الذي لا يختلف عن الشارع في ذلك الوقت، الشارع فيه رمل وحصى، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه حصير ولا موكيت ولا سجاد ولا كهرباء- فلقي منطقة فارغة في مؤخرة المسجد فأراد أن يتبول، فذهب إلى ركن المسجد ثم شمر، والصحابة جروا خلف الرجل يريدون أن يفتكوا به، فقبل أن يصلوا إليه حجزهم رسول الله، وقال: (لا تزرموه)، يعني: لا تقطعوا عليه بوله، (وبعدما انتهى الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: أهريقوا على بول أخيكم سجلاً من ماء). أخذوا الماء ونظفوا المكان الذي بال فيه (ووضع يده على كتف الرجل، حتى قال: فما وجدت أحن وأرحم من رسول الله) وضع يده عليه بحنان ولم يدفعه ويقول له: أنت عمرك لن تفهم! بل قال له: (يا أخا الإسلام! هذا مكان لا يصلح لما صنعت) ولم يقل له: أنت جاهل، أو ستذهب في داهية، وإنما قال: هذا المكان لا يصلح للذي عملته، هذا مكان للصلاة والعبادة. نظر الرجل وتعجب فرفع إلى السماء وقال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً) فالرسول صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يسكت عنه، لكن الرسول كلمه مرة أخرى وقال: (لقد حجرت واسعاً) أنت ضيقت الأمر الواسع قل: (اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم) انظر إلى طريقة التعليم سبحان الله! انظروا كيف يكون التعليم! عندما ركب عبد الله بن عباس خلف النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره إحدى عشرة سنة، يعلمه ويقول له: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله)، يعني: عندما يسأل عن سؤال يجيب عنه بسؤال آخر، من أجل أن يخرج المعلومة من الذي أمامه، ثم بعد ذلك إما أن يؤكد هذه المعلومة له، وإما أن يلغيها، وإما أن يكملها له إن كانت ناقصة، أو يرفع الزيادة إن كان هناك شيء زائد، هكذا كان معلماً صلى الله عليه وسلم.

مفهوم الإحسان في الأحوال

مفهوم الإحسان في الأحوال إن للعبد في العمل أمرين: فرض ونفل، فهنالك أناس يكتفون بالفرض، (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ فقال: لا إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق). إذاً: الرجل عنده إيجابيات وليس عنده سلبيات، لكن نحن عندنا سلبيات وعندنا قليل من الإيجابيات، وقد شبهنا الفرض والنفل بالبيت الذي له حديقة محيطة به، فالذي يريد أن يدخل البيت لابد أن يدخل أولاً على باب الحديقة، ثم بعد ذلك يدخل على الممر، ثم يصل إلى الباب الأساسي للبيت، ولابد أن يفتح الباب وإن قفز من الجدار إما أن يكون الحرس قد رأوه، أو أصحاب البيت، أو كلب الحراسة، أو جهاز الإنذار أو إلى آخره، فليس بالسهولة أن يدخل مباشرة. هذا مثال الفرض والنفل، الفرض: هو البيت، والنفل: هو الحديقة، فيأتي الشيطان يريد الدخول، يدخل أولاً على الحديقة أي: على النفل، يأتي وأنت تصلي ركعتي العشاء، فيقول لك: أنت متعب هذا النهار لا داعي لهاتين الركعتين، أو الأفضل أن تجعلها قبل الفجر، أصلي الشفع والوتر يقول: لا داعي للشفع والوتر أنت اليوم متعب، لكن لو أنك صليت العشاء فقط، ماذا يقول لك: إنك طوال الليل مرهق فنم وقبل الفجر تصليها. إذاً دخل لك مباشرة على الفرض نفسه. إذاً: يريد منك الشرع أن تحوط الفرض بالحديقة، وهذه الحديقة هي النوافل التي تصليها، وبالعكس تجده في حالات يسمع آية من كتاب الله يخر بكاءً فينفعل في البكاء، ويسمع نفس الآية في اليوم الثاني فلا يتحرك له ساكن أبداً، وتجده كذلك عندما يجلس في مجلس علم من باب أنه يشغل وقت الفراغ، تعود على أنه يذهب إلى هذا الدرس، ويعجبه ذلك الرجل الذي يتكلم، لكن في حالات أخرى يجلس في مجلس العلم منصتاً بكل جوارحه، متشوقاً إلى المعرفة، يتمنى ألا ينتهي هذا المجلس، ويريد أن يستمر، يقول: يا ليت أني لا أخرج من هنا، مرة ثانية، يجد نفسه تواقة إلى الشهادة في سبيل الله، يقول: يا لله! لو أنهم فتحوا باب الجهاد حتى نضمن الجنة، ونضمن أن تغفر ذنوبنا، ونضمن أن الله جل وعلا يمسح لنا الصفحات السود الماضية! ولحظات أخرى ينظر فيها إلى الأولاد والزوجة والأموال والمنصب، فيقول: أنا لو مت سأترك هذا كله؟! هانحن نجاهد أنفسنا على لقمة العيش، ونجاهد في قيمة السيارة، وكل واحد على قدر استطاعته! هكذا الإنسان لا يبقى على حال واحد، يعني: سبحان الله يكون حاله مثل المرتفعات والمنخفضات، يصعد فوق وينزل تحت، وهكذا الحالات الإيمانية! حتى في المنام ترى أحياناً رؤى جميلة طيبة، فتنظر الجنة وما فيها من نعيم وتنظر إلى مجلس العلم وربما تنظر سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتنظر الصحابة، وفي حالات تنظر إلى كوابيس، فترى البيت أنه حصل له إخلاء إداري، والشارع حصل له كذا وكذا والدرجة الوظيفة التي ستأتي لك من الوزارة أخذها صاحبك! فتقوم مكتئباً. لحظات أخرى تجد -سبحان الله العظيم- زوجتك نفسها معك في الدنيا صالحة مستقيمة ومطيعة تقول: حاضر يا حاج! ربنا يبارك لنا فيك، ربنا يخليك، وتجدها في بعض أيام تقول: اغرب عن وجهي! الله يجازي الذي كان السبب في هذه الزواجة السوء، وهي نفسها الحالات التي تكون عندك أيضاً، مرة تكون راضياً عنها تقول: كثر الله خيرها، متحملة لتصرفاتي، ومتحملة أتعابي أنا وأولادي، وصابرة وساكتة! وسبحان الله! وهاهي محبوسة في البيت شغالة، طباخة، وكناسة، وتهدئ الأولاد، وتعطف على الصغير، وتحن على الكبير، الله يعينها ويقويها وهكذا. فالعبد لا يبقى على حال، وأنا لا أتكلم على رجل آخر، وكلنا هذا الرجل، وكلنا يحصل لنا هذه الأحوال، لابد أن نرصد حركة الإيمان داخل القلب، ولابد للمؤمن أن يكون له نظرة يحاسب نفسه فيها، يقول: لماذا هذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لا يكون الإنسان على وتيرة واحدة، ما الذي جعل الصحابة أنهم دائماً يطمحون إلى الأعلى، ونحن نصعد درجة وننزل عشرين درجة، نصعد ثلاث درجات وننزل خمسين درجة، لماذا؟ ما الذي يحصل؟ قلنا من قبل: إن البيئة المحيطة لها أثر على حالة العبد الإيمانية هذا أولاً. يعني: لو عدت من صلاة التراويح إلى البيت منفعلاً، وتبكي على قضية إخواننا في فلسطين، وتتخيل لو أننا نصلي الفجر ثلاثة أو أربعة صفوف منا فقتلوا بأيدي كفار ماذا كنت تصنع؟ وماذا يجب عليك أن تعمل؟ وتخيل الآن أن لك أقارب في طنطا أو الإسكندرية أو في أصوان أو في أي بلد سبحان الله، وبلغك أن إخوانك -يعني: أولاد أمك وأبوك- دخل عليهم مسلم فقتلهم، ماذا يكون شعورك؟! فمن أجل أنهم نزعوا الإخوة منا أصبحنا لا نشعر بالمشكلة، وتصير الحياة أمراً عادياً يقول لك: يا عم! الله يرحمهم هذا مكتوب لهم، ويريد ألا يسمع عنهم شيئاً، ولا يريد أن يتحمل مسئولية، ولا أن يتحمل هم الدعوة، ولا هم الرسالة، ولا هم الإسلام سبحان الله. فالبيئة المحيطة لها أثر على العبد، يرجع من المسجد يفتح التلفاز، إذاً الناس في عالم آخر، يدخل النادي، يمشي في الشارع الله الله الله ما هذا الكلام الذي يقوله الشيخ عمر؟! فإن الناس نائمون ليس في العسل فحسب، يا ليتهم في العسل! الذي ينام في العسل ينام على شيء جميل، لا، هؤلاء نائمون في مجار والله، ينام أحدهم في رائحة عفنة؛ لأن الإيمان قد تبخر، فكانت البيئة الإيمانية للصحابة تشجع على التقوى والقرب من الله، كان سيدنا عمر يمسك بيد أبي موسى الأشعري ويقول: يا أبا موسى اجلس نؤمن بالله ساعة، عجيب! وهل كان عمر ليس مؤمناً قبل ذلك؟! كلا، وإنما مراده: يزيد إيماننا بالذكر وبالعلم إلى غير ذلك، يعني: يريد من يأخذ بيده إلى الخير. هل كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى من يقرأ عليه القرآن؟ كلا، ولكن قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري)، من أجل أن يسمع صلى الله عليه وسلم ويبكي عندما يسمع كتاب الله، انظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يقوم طوال الليل بآية واحدة يقرؤها ويبكي، وهي قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] تخنقه العبرات صلى الله عليه وسلم، ويعيدها مرة أخرى ويبكي، ويعيدها مرة أخرى حتى يؤذن بلال لصلاة الفجر، وهو مشغول بالله عز وجل، وأنت تسمع أزيزاً لصدر رسول الله -وهو يقرأ القرآن- كأزيز المرجل، انظر إلى الوعاء عندما يغلي عليه الماء وقد وضع فيه الخضار أو اللحم وهو على النار. هكذا كان صدره صلى الله عليه وسلم من بكائه لله، يقول: (أنا أقربكم إلى ربي، ولكني أشدكم خشية)؛ لأنه قريب إلى رب العباد سبحانه وتعالى، بل ربما في بعض الأوقات يخرج إلى البقيع وإلى شهداء أحد، فيبكي ويقول: (كم وددت أن أوارى معهم في بطن هذا الجبل)، يا ليتني رزقت الشهادة مع إخواني! وكان له حنان حتى على الجبل الأصم، يقول: (أحد جبل يحبنا ونحبه) مع أنك تكره المكان الذي قتل فيه أخوك ولا تحبه. فالرسول عنده حنان؛ لأن الجبل يعتبر وسيلة إلى وصول صحابته صلى الله عليه وسلم إلى جنة الرضوان، فالرسول يحب الجبل، وشعر أن الجبل يبادله نفس الحب صلى الله عليه وسلم، فكان في توافق ما بينه وبين الطبيعة من حوله، والطبيعة متوافقة مع خلقة وطبيعة ومع إيمان عظيم موجود في قلب الرسول الرءوف الرحيم بالأمة صلى الله عليه وسلم. فالأحوال التي يتقلب فيها الإنسان والبيئة لها أثر في ذلك، وهل نترك أنفسنا إلى البيئة؟! إذا انتشر الوباء فما هو الحل؟ الحل هو: أنني آخذ مصلاً ولقاحاً مضاداً لهذا الوباء، أو أنني لا آخذ أي نوع من العلاج وما يجري على الناس يجري علي! ما الذي سيحصل عندئذ؟ يهلك الشخص ويموت، فإذاً: عندما يحصل الوباء يبدأ الإنسان يقوي جرعته الإيمانية، التي تستطيع أن ترد كيد الميكروبات أو الجراثيم أو الفيروسات التي تتكثف في هذا الجسد، وهكذا الجسد الإيماني أو الطبيعة الإيمانية في قلب العبد كوباء محيط بها، كل شيء مما حولك يريد أن يصل بك الأرض، سواء كان والداً أو زوجة أو جاراً أو كان في العمل، أو في البيئة أو في التلفاز، أو كان في المجلة سبحان الله! يعني: البيئة المحيطة كلها عبارة عن وباء، وأنت قد تصاب بها؛ لأن الإيمان مهزوز، فلابد من تقوية جانب الإيمان؛ كي تتغلب على هذه الأوبئة، لابد من التغلب عليها بتقوية الجسد، فكان العلماء الصالحون يعلموننا، ويقولون: يا ربنا! لا نسألك رفع البلاء، ولكن نسألك تقوية الظهر، يعني: البلاء موجود موجود، ولكننا يا ربنا لا نقول لك: أزل البلاء؛ لأن البلاء هو واقع بنا لا محالة، ولكننا نسألك أن تقوي ظهرنا، وتشرح صدورنا وتقوي إيماننا، اللهم قو إيماننا يا رب العالمين! ثانياً: كما قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي أبو بكر يقول: تجمع علي إبليس ودنياي وهواي ونفسي، فإذا كان أبو بكر قد اجتمع عليه هؤلاء الأربع، فنحن من الذي اجتمع علينا؟! فعند أن هجم على أبي بكر هؤلاء الأربعة تقوى بطاعة الله عز وجل، فهزمهم، فماذا صنعنا نحن للأربعة التي هجمت علينا؟ سبحان الله، فإذا كان هؤلاء الأربعة ضد الصديق، فكيف بضدنا نحن وهم أربعمائة أربعة آلاف أربعون ألفاً؟ أنا أكاد أجزم أنهم أكثر من أربعين مليون، فعلى هذا قلت: إنني أذهب لأصلي الفجر وأسمع درس الصبح، أقسم بالله أن

التواضع

التواضع التواضع صفة من صفات عباد الرحمن، فبه يسمو المرء عند الله تعالى، ويعظم في أعين الخلق، فينبغي للمسلم أن يتحلى بهذه الصفة العظيمة؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم.

الحث على التواضع، ونماذج من تواضع النبي وصحابته

الحث على التواضع، ونماذج من تواضع النبي وصحابته الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: كتب على باب الجنة أنه لا يدخلها متكبر، فنعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومن كل خلق لا يرضاه رب العباد سبحانه، ونسأل الله أن يجعلنا من المتواضعين الذين يمدحهم المولى عز وجل. إن عباد الرحمن لهم ثلاث صفات: أول صفة فيهم هي صفة التواضع، قال ربنا: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. وسئل صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس). (بطر الحق) يعني: إنكاره، ولذلك عندما تذهب لخطبة ابنة فلان من الناس أو أخته لشاب صاحب خلق ودين، وقلت: جئنا لنخطب ابنتك لهذا الشاب، فنريد أن تخفف المهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثرهن بركة أيسرهن مهراً)، فإنه يقول لك: لا، هذا الكلام في المسجد. فهذا نوع من الكبر جعله يرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم. (وغمط الناس) أن تعتبر نفسك أهم شخص والناس أمامك لا يساوون شيئاً، وكما قيل: أنت أمير وأنا أمير فمن الذي يسوق الحمير؟ كان سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم مثالاً للتواضع، فقد كان الصحابة يريدون أن يمشوا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ووراءه وعن جنبه هكذا، فكان يقول لهم: سيروا أمامي ودعوا ظهري لملائكة ربي؛ تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم. وصورة من صور التواضع الجم للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني آكل كما يأكل العبد، وأنام كما ينام العبد، وأجلس كما يجلس العبد، ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة). وهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث لـ سعد بن معاذ ثوب حرير هدية، فسيدنا سعد باع الثوب الحرير واشترى به ستة عبيد وأعتقهم، فسيدنا عمر بلغه الأمر، فأخذ ثوباً ثمنه أقل من الثوب الأول قليلاً وأرسل به إلى سعد، فـ سعد جاء مغتاظاً وقال: يا أمير المؤمنين! ما الذي صنعت؟ قال: أرسلت لك بديلاً لتعطيه لامرأتك أو لابنتك أو للجارية التي عندك، قال: ولكني أقسمت مغتاظاً أن أضرب رأسك بهذا الثوب، فقام سيدنا عمر وقال له: وهذا رأسي فافعل به ما تشاء. ونظر سيدنا عبد الله بن عمر إلى أبيه وهو آخذ قربة ماء على ظهره أيام خلافته، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: رأيت الناس يأتوني من كل حدب وصوب ويقولون: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! فأرادت نفسي أن تستشرف، فأردت أن أضعها مكانها. ولذلك روي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً في جماعة من أصحابه فذكروا رجلاً وأكثروا الثناء عليه، فبيناهم كذلك إذ طلع عليهم الرجل ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء، وقد علق نعله بيده، وبين عينيه أثر السجود، فقالوا: يا رسول الله! هو هذا الرجل الذي وصفناه، فقال صلى الله عليه وسلم: أرى على وجهه سفعة من الشيطان، فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك؟ فقال: اللهم نعم). هذا هو التكبر والعجب، فأين التواضع الذي وصف به عباد الرحمن في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. ويقول سيدنا علي: يا بن آدم علام الكبر وأنت الذي تنتنك عرقة، وتميتك شرقة، وتقلقك بقة!! أخي المسلم لقد أكرمك الله بدين عظيم فكن متواضعاً مع عباد الله، والتواضع هذا يجعل نفسيتك طيبة، ويجعلك لا تنافق أحداً؛ لأنك متواضع لله، وجاء في الحديث: (أقربكم مني مجالساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، والموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون). اللهم اجعلنا من أهل التواضع يا رب العالمين.

الحياء

الحياء الحياء خلق عظيم، وهو خير كله، ولا يأتي إلا بخير، وهو صفة من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم، واقتدى به الصحابة في ذلك، فكانوا المثل الأعلى بعد نبيهم في تحقيق هذا الخلق العظيم قولاً وسلوكاً. والحياء له مراتب عديدة ذكرها علماؤنا الأفاضل رحمهم الله تعالى.

اشتقاق الحياء وفضله

اشتقاق الحياء وفضله الحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فإن من مراتب الهداية: الحياء، والحياء مشتق من الحيا وهو المطر، والمطر يحول الأرض الميتة إلى أرض فيها خير كبير، قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْاضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39]، وكما يحيي ربنا الأرض الموات فإنه يحيي القلوب الميتة، لكن القلب الميت لا يحيا إلا بمادة الحياء، وهو زاد الإيمان. رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء فقال: (دعه فإن الحياء من الإيمان) يعني: إذا كان عنده إيمان كان عنده حياء، والحياء ثمرة للإيمان، والذي يدخن في نهار رمضان ويتعذر بأنه مريض هذا ما عنده حياء ولا عنده إيمان، بل إنه يتجرأ ويقول: إنه ليس خائفاً من ربنا، فهو لا يستحي من ربنا، فلو كان عنده إيمان لاستحيا.

أقسام الحياء

أقسام الحياء الحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فإن من مراتب الهداية: الحياء، والحياء مشتق من الحيا وهو المطر، والمطر يحول الأرض الميتة إلى أرض فيها خير كبير، قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْاضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39]، وكما يحيي ربنا الأرض الموات فإنه يحيي القلوب الميتة، لكن القلب الميت لا يحيا إلا بمادة الحياء، وهو زاد الإيمان. رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء فقال: (دعه فإن الحياء من الإيمان) يعني: إذا كان عنده إيمان كان عنده حياء، والحياء ثمرة للإيمان، والذي يدخن في نهار رمضان ويتعذر بأنه مريض هذا ما عنده حياء ولا عنده إيمان، بل إنه يتجرأ ويقول: إنه ليس خائفاً من ربنا، فهو لا يستحي من ربنا، فلو كان عنده إيمان لاستحيا.

حياء التقصير

حياء التقصير قسم العلماء الحياء إلى خمسة عشر قسماً: أول قسم من أقسام الحياء: حياء التقصير، أي: حياء الإنسان المقصر، كحياء أبينا آدم وأمنا حواء عندما أكلا من الشجرة، {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:22]، وشعرا بأنهما مقصران، فكان رد فعلهما: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]؛ حياء من الله. فالمؤمن عندما يذنب فإن عليه أن يستحي، فهذا حياء المقصر أو حياء التقصير.

حياء الأدب

حياء الأدب القسم الثالث: حياء الأدب، قال سيدنا علي رضي الله عنه: كنت رجلاً مذاء -يعني: يخرج منه بعد التبول سائل رقيق لزج يسمى المذي- قال: فاستحييت أن أسأل رسول الله؛ لمكانة فاطمة منه ومني. وهذا من الأدب، فإن الرسول هو الذي رباه في حجره، وزوجه ابنته، قال: فسألت ابن عباس أن يسأل لي رسول الله، فاستحيا ابن عباس، فذهب إلى عبد الرحمن بن عوف فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه رسول الله، فأخبر ابن عوف علياً بالجواب. والرسول صلى الله عليه وسلم عاش مع عثمان رضي الله عنه سنة كاملة في بيته فقال: ما سمعت خشخشت مائه في الطست. وهذا حياء وأدب مع رسول الله. وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما شرف بيته باستقبال الحبيب صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا أيوب! اجعلني في الدور الأسفل وامكث أنت وزوجك في الدور الأعلى، فقال: يا رسول الله! أيعلو أبو أيوب وزوجه على رسول الله! فأول ليلة بات الرسول صلى الله عليه وسلم في الدور الثاني، فلما أتى الفجر قال له: يا أبا أيوب! أيسر لإخواننا أن أكون في الدور الأسفل، وفي يوم شديد البرد بينما كان أبو أيوب يمشي في الظلمة تعثرت رجله بالجرة التي فيها الماء فتسرب منها الماء، فقام أبو أيوب وزوجته بتجفيف الماء سريعاً؛ لكي لا يتساقط على رسول الله وهو نائم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر قال له: يا أبو أيوب! قال: نعم، قال: شكر الله صنيعك برسوله الليلة. هذا هو الحياء، فالمسلم يكون عنده حياء العبادة، وحياء الأدب، قال أهل العلم: استحي من الله استحياءك من رجل عظيم في قومك، أي: من رجل له مكانته، أليس إذا دخل الوالد البيت يقوم له الابن احتراماً له ولا يقعد في مجلسه إلا إذا قعد الأب؟ والأخ الصغير يقبل يد الأخ الأكبر، فهذه الأخلاقيات والسلوكيات منبعثة من الإسلام والفطرة، فما هي المشكلة أننا نعلم أبناءنا أن يقبل كل واحد منهم يد والده وأمه قبل أن يذهبوا إلى المدرسة أو الجامعة؟ نريد أن نرجع هذه الأخلاقيات في البيوت؛ من أجل أن الرزق يعود مرة أخرى، والمحبة تعود مرة أخرى، نسأل الله عز وجل أن يربي لنا أبناءنا على الكتاب والسنة كما ربانا آباؤنا على الكتاب والسنة. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً. اللهم اجعل أول يومنا هذا صلاحاً، وأوسطه نجاحاً، وآخره فلاحاً. اللهم لا تدع لنا فيه ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا مسجوناً مظلوماً إلا فككت سجنه. واغفر لنا بالباقيات الصالحات يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

حياء العبادة

حياء العبادة القسم الثاني: حياء العبادة، كما أخبر تعالى عن الملائكة أنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] أي: لا يحصل لهم فتور كما يحصل لنا، فالملائكة في حالة دائمة من العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا حشروا بين يدي مولاهم عز وجل قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك)، فهذا حياء العبادة، فالله سبحانه وتعالى عصمهم من الزلل: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6]، وهذه الآية هي الحجة الكبيرة للعلماء القائلين إن إبليس لم يكن من الملائكة، لأن من صفات الملائكة: أنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، بل إنه من الجن لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، وأنا أميل إلى هذا الرأي. وحياء المؤمنين أنهم يعملون الطاعات ويخافون ألا يتقبل الله منهم، ولما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] قالت عائشة: (أهم الذين يرتكبون الفواحش ويسرقون يا رسول الله؟ قال: كلا يا عائشة، إنهم يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم)، فهذا حياء العابد؛ لأنه يفعل الخير ويخاف أنه لا يتقبل منه. وأنت لو أنك زرت وزيراً من الوزراء فإنك ستأخذ له هدية تليق به، وستختار نوع الورقة التي تضع فيها الهدية؛ لأنها ذاهبة إلى عظيم؛ ولذلك قال لنا أهل العلم رحمهم الله: إن الصلاة عبارة عن مهر، وهل يقدم من المهور إلا ما كان كاملاً؟ ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر فالذي يخطب امرأة فطلب أبوها مبلغاً باهضاً كمائة ألف جنيه، فإن الخاطب سيدفع ذلك إذا كان راغباً فيها. والشيماء بنت العلاء الحضرمي كان أبوها العلاء الحضرمي من أغنى أغنياء العرب، وكان من ضمن الذين يقولون عليهم: مطاعيم الريح، يعني: إذا ما لقى شخصاً يؤكله فإنه يؤكل الريح، فإنه يضع الحبوب في الريح فلعلها تأخذه إلى أحد يأكله، وكان العلاء الحضرمي والوليد بن المغيرة يسميان: زاد الركب، أي: الركب المسافرين الذين لا يملكون طعاماً ولا كساء، فإنهما يمولان من قبلهما. وكان الوليد يكسو الكعبة عاماً وقريش تكسوها عاماً، وكان يقول: لولا حرجي من قومي لكسوتها كل عام، فقد كان فيه صفات طيبة، مثل صفة الكرم التي هي صفة المؤمن. وفي غزوة الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يأتني بخبر القوم وأضمن له الجنة؟ وقد كانت الليلة شديدة البرد، فما استطاع أحد أن يقوم من مكانه، فكررها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية، فما قام أحد، وسيدنا حذيفة رضي الله عنه يقول: كنت ألتحف ورجل جواري بكساء رقيق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حذيفة بن اليمان! فقام في شدة البرد ونزل الخندق في الليل وكان ظلاماً دامساً لو أخرج أحد يده لم يكد يراها، حتى توغل داخل جيش المشركين وجلس يتحسس الأخبار لرسول الله كسرية استطلاع، فإذا بـ أبي سفيان ينادي: ليحدث كل واحد منكم أخاه أو من بجواره وليسأله عن اسمه فإني أرى فتنة، فـ أبو سفيان له حاسة في الحرب، وهو أيضاً رجل زعيم في قومه، فـ حذيفة قال: فأمسكت بيد من بجواري فقلت لكل منهما: من؟ قالا له: فلان وفلان، ثم خرج من بينهم سالماً غانماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيهزم الجمع ويولون الدبر. فقال عمر بن الخطاب: كنت أسأل نفسي: أي جمع سوف يهزم نحن أم هم؟ وتقع الشيماء بنت الحضرمي في الأسر، وقد أسرها جليبيب، وهو رجل كان يخدم الرسول ولا أحد يعرف اسمه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها لي يا رسول الله! فغبطه الصحابة، أي: تمنوا مثل نعمته، أما تمني زوال النعمة من الغير فهذا حسد، والمؤمن يغبط والمنافق يحسد. فالصحابة قالوا له: سوف تصير من الأغنياء يا جليبيب، فإنك لو طلبت من مال العلاء بن الحضرمي إلا وأعطاك؛ فإنه أغنى أغنياء العرب وابنته في الأسر. فجاء العلاء بن الحضرمي ليفك أسر ابنته، فقال له: يا جليبيب! كم تريد؟ قال جليبيب: أريد ألف دينار، قال: يا جليبيب! أما تطلب شيئاً أكثر من هذا؟ قال: وهل هناك أكثر من الألف؟ فقالت الشيماء: يا أبتي! زوجني جليبيباً.

الخوف

الخوف من العبادات القلبية الجليلة عبادة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وهو الخوف المحلى بالرجاء المحفز للعمل والطاعة، الذي باعثه العلم حيث يصيره خشية. والخوف مرتبة متقدمة، ومنزلة عالية من مراتب الهداية التي ينبغي أن يتحلى بها السالك إلى الله عز وجل.

معنى الخوف من الله تعالى، والفرق بينه وبين الخشية

معنى الخوف من الله تعالى، والفرق بينه وبين الخشية أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فإن من مراتب الهداية الخوف، وقد أشرنا إليه كثيراً من قبل، وهنا سنتحدث عن مسألة الخوف مضيفين إليه معنيين جديدين، ألا وهما: الخشية والرهبة، مبينين الفرق بين الخوف والخشية والرهبة، وهل هي ثلاثة معان لشيء واحد -أي: مترادفة-، أم أنها مرتبة، أو متباينة، أو متصاعدة؟ من أجل أن نوضح معنى الخوف ومعنى الخشية سنضرب هذا المثال: لو حصل زلزال فلا شك أن الناس عندما يقع سيهربون من المكان مستخدمين كافة الوسائل السريعة الممكنة للهرب: من مصاعد وغيرها، أو يفرون إلى الدور الأرضي؛ باعتباره مكاناً آمناً من خطر الزلزال. فالحاصل في هذه الحالة يسمى: خوفاً، ثم بعد ذلك لو أن الزلزال أخذ يتصاعد، وقد وقف الفارون في مكان بعيد عن مرمى سقوط الحجارة أو البنيان أو الطوب على الناس، فهاتان حركتان متباينتان مختلفتان، فالحركة الأولى هي التي نستطيع أن نسميها: الخوف، وهي مرحلة البعد أو الهرب، والحركة الثانية وهي بعد أن يكون المرء في مكان بعيد عن مرمى الحجارة وفي مأمن من شرها، وهي التي نستطيع أن نسميها: الخشية. فالخوف أن يوقف العبد نفسه عند محارم الله، تاركاً لها، مجافياً لطرقها ومسالكها، لكن أن يحصن العبد نفسه بالفقه والعلم، أو بمجالس العلم، أو بالأخوة الصادقة وغيرها من أعمال البر التي تبعد عن الغواية فحالته حينها هي الخشية، ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؛ لأن العالم يخاف بعلم، يخاف من الذي علمه، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أقربكم إلى ربي ولكني أشدكم خشية)، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أشدنا خشية؛ لأنه أكثرنا علماً، ولذا كلما تعلم الإنسان كلما زادت خشيته. والخوف إذا زاد عند العبد ينقلب إلى رهبة، والرهبة توصل إلى الرغبة. تقدم أن الخوف: هو أن العبد لا يدخل فيما حرم الله، (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فمثلاً: هناك أشياء تكون محمية تحميها الحكومة أو غيرها، فقد تكون تعمل بسيارتك أو بالدراجة النارية أو بالعجلة فيقال لك: لا تدخل هذا الشارع؛ لأن الحكومة لها شوارع والشعب له شوارع، يعني: هذا الشارع ممنوع الدخول فيه. فإذا كان لكل شخص فقير حمى فما بالك بحمى الله؟ (ألا وإن لكل ملك حمى، إلا وإن حمى الله محارمه)، أي: لا تدخل محارم الله، فما دام أن هذا حرام حرمه الله عز وجل إذاً: فأنا أخاف من الدخول في الحرام، ولذلك جاء في الحديث القدسي: (لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، ومن أمنني في الدنيا خوفته في الآخرة). وعندما يتكلم العلماء عن الآخرة وما في الآخرة، وعن ذكرها في القرآن، فالقرآن مثلاً كما تكلم الله فيه عن الرحمة تكلم فيه عن العذاب كذلك، والقرآن ذكرت فيه الدنيا مائة وثمانية وخمسين مرة والآخرة ذكرت مائة وثمانية وخمسين مرة، وفيه أن آيات الرحمة بمقدار آيات العذاب، فلا تكاد تقرأ آية في القرآن فيها ذكر للعذاب إلا وفيها ذكر الرحمة، وغيرها من الحكم والدلائل التي يتغافل عنها من يريدون القرآن لتصدير الحفلات والمهرجانات، فلو عرض القرآن على أحدهم لصار هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم صدق الله العظيم، هذا هو القرآن الذي يريدونه، لكن الله يقول: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، أي أن الله أنزله مثاني على رسول الله، يتكلم عن الرحمة، ويتكلم عن العذاب، ويتكلم عن الخير، ويتكلم عن الشر، يتكلم عن الإيمان، ويتكلم عن الكفر، ويتكلم عن الاستقامة، ويتكلم عن الانحراف، ويتكلم عن الطغاة، ويتكلم عن أهل العدل، وهكذا.

ما الذي ينبغي أن يخاف منه العبد؟

ما الذي ينبغي أن يخاف منه العبد؟ يخاف العبد من ستة أمور: الأول: يخاف العبد من ربه ألا يقبل منه عملاً، فهو سبحانه لا يسأل عما يفعل في ملكه سبحانه حتى إن أهل البادية يقولون: إن الوحيد الذي لا يمنع من شيء هو الله؛ لأن كل منا مقيد بحدود يتحرك فيها فحسب، لكن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولذا ينبغي أن تخاف من الله أن يرد عليك عملك؛ لأن العمل قد لا يخلو من علة من عجب أو رياء، أو لا يوجد فيه إخلاص، أو لا يوجد فيه نية صادقة، أو يتخلله قليل من الكبر. ولذلك هناك مراحل للعمل صعبة جداً، فإن من دلائل خوفك أن تكون مرعوباً وأنت تصلي: يا ترى أتقبل الصلاة أم لا؟ فتخرج باكياً، وهكذا سائر الطاعات والقرب قال تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]. الثاني: أن تخاف من الملائكة أن تكتب عليك سيئات لم تستغفر منها؛ لأنني يمكن أن أتذكر السيئات التي عملتها قبل ساعة أو ساعتين وربما قبل يوم أو يومين، أو قبل شهر على مشقة! لكن أن أتذكر سيئات قبل عشر سنين، أو خمس عشرة سنة، أو قبل عشرين سنة!! فهذا قد يكون مستحيلاً، ولكن هل نسي رب العباد سيئاتنا؟ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، كما أن الله عز وجل جعل علينا شهوداً عشرة منها: الجوارح والأرض والسماء والليل والنهار والملائكة، وملك الحسنات وملك السيئات، ولذا عندما يتوب الله عز وجل على العبد سوف ينسى الحفظة؛ لأن الحفظة هم الذين يكتبون أعمال العباد، وينسي الأرض التي عملت عليها المعصية، وينسي الجديدين: الليل والنهار. إذاً: فالله يُنسي كل من يستطيع أن يشهد عليك، وبقي أن يشهد عليك خير الشاهدين، وهو أرحم الرحمين، وفي الحديث: (ما من عبد إلا ويقربه الله منه يوم القيامة، ثم يضع عليه كنفه -أي: ستره- ويذكر العبد ببعض غدراته في الدنيا، -عملت كذا وكذا وكذا في يوم كذا وكذا-، فيقول العبد: يا رب ألم تغفر لي؟). والرجل في الدنيا إن كان مظلوماً فإن الله سوف يبرئه، وإن لم يبرئه في الدنيا فسوف يبرئه يوم القيامة، فيوقفه على رءوس الأشهاد فيقول: خذ من الظالمين الذين ظلموك حتى ترضى، فيقول العبد: أنا لن أرضى حتى آخذ كل حسناتهم وأعطيهم كل سيئاتي، فيقول: لك ما تشاء، وأفضل ما يوضع في الميزان يوم القيامة كظمة غيظ يتجرعها المؤمن وهو قادر على إنفاذها، فالمؤمن يوقن بانتصار الله له، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وأفوض أمري إلى الله، قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]، فطالما أنني أمشي وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يهمني كيد كائد، أو حسد حاسد. الثالث: أن يخاف من سوء الخاتمة، وسوء الخاتمة يأتي من شيء وحيدن هو إدمان الذنوب، فالناس الذين لا يعملون خيراً في الدنيا، وهم طوال حياتهم يؤذون أنفسهم ويؤذون غيرهم، وجل عملهم إدخال النكد والحزن على بيوت المسلمين، فهؤلاء يخاف عليهم من سوء الخاتمة. يذكر أنه كان هناك شخص أيام أبي حامد الغزالي دعي إليه الإمام ليلقنه الشهادة، وكان الرجل يعالج سكرات الموت، فذهب إليه الإمام الغزالي وأخذ يقول له: قل لا إله إلا الله، فيقول الرجل: شاه مات شاه مات؟ فلم يفهم أبو حامد الغزالي معنى قوله: شاه مات، -والشاه: في لعبة الشطرنج- فسأل: ماذا كان يعمل هذا الرجل؟ قالوا: إنه كان طول وقته يلعب الشطرنج. وامرأة أخرى يذكر أنها قبل وفاتها بثلاثة أيام قالت لمن حولها: ائتوا بطبل، فظلوا يطبلون لها؛ لأنها كانت من أهل اللهو والغناء، فخرجت روحها على أنغام الطبلة. هذا من سابقات الأعمال. وفي الجهة المقابلة لسوء الخاتمة حسن الخاتمة، فهذا عامر عثمان رحمه الله الذي علم كل المقرئين في مصر، كان شيخ المقارئ المصرية، وكان مشرفاً على طباعة المصحف، عمر ثمانين سنة، وكان كل من يتتلمذ على يديه يكون له شأن، وكان طوال حياته ليس في لسانه إلا كتاب الله، وأنت تجلس معه وهو يقرأ، ويمشي في الطريق وهو يقرأ، وكان يجلس ليعلم، فلما بلغ من العمر (82) سنة كان صوت الحبال الصوتية قد تأثر لا يتضح كلامه، وهو في المستشفى المرضي، وكان الذين هم في الحجرات المجاورة يشتكون من شدة صوته وهو يقرأ القرآن، ولما دخلوا حجرته وجدوا الرجل وبأعلى صوته يرتل كتاب الله مبتدأ بالفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران، فأرادوا إيقاف الرجل وتهدئته، وهو فاقد الوعي وظل حاله هكذا يومين متواصلين حتى أنهى سورة الناس، ثم نطق بالشهادتين وفاضت روحه إلى بارئها. الرابع: أن تكون على خوف من هجوم ملك الموت عليك فجأة، وقد ينزل عليك فجأة أو بعد إنذار، ولذلك عندما بعث ملك الموت إلى سيدنا موسى عليه السلام قال: يا رب! أترسل لي ملك الموت قبل أن ترسل إلي وتنذرني، قال: أرسلت إليك يا موسى! قال: وما أرسلت؟ قال: شاب شعرك بعد سواده، ووهن عظمك بعد قوته، واحدودب ظهرك بعد استقامته، أليست تلك رسل؟ ولذا عندما يكون هنالك رجل كبير أو امرأة كبيرة في العائلة ويكون كلامهم غير متزن فإنه يخشى عليه، ولذا قيل: من بلغ الأربعين من عمره ولم يغلب خيره شره فليتجهز للنعش؛ لأن الشخص عندما يبلغ الأربعين ينتكس خلقه، ولذا ينبغي أن يكون دعاءه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19]، ثم إنه لا يفهم من ذلك أن الذي بلغ الأربعين فقط أو الذي هو أقل من الأربعين لا عليه ألا يكون خائفاً، لا، أو أن الموت لا يعرف إلا كبير السن، أو لا يعرف إلا المريض فقط، لا ليس الأمر كذلك، فالصغير يموت، والشباب يموت، وصحيح البدن يموت، والكل يموتون، ولذا ينبغي على كل واحد منا أن يخاف من هجوم ملك الموت عليه. الخامس: أن أخاف فأبحث في أموالي لئلا يكون فيها حرام، ولئلا يكون فيها مال مغتصب، أو يكون فيها مال ملت أنا عن الحق فيه وأكلته بدون وجه حق، وهنا لابد من مسألة التفتيش. السادس: أن أخاف ألا يشفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وأعرف أنه سيشفع لي من كثرة الصلاة والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام. فهذه مخاوف ستة إذا عاش العبد في حيطانها فعلاً فلا يجمع الله عليه خوفاً ثانياً يوم القيامة. وإذا كان خوف العبد لابد أن يكون في هذا الإطار، فإنه إذا قرن بالعلم تحول الخوف إلى خشية، والخشية تتحول إلى رهبة، والرهبة تتحول إلى رغبة؛ لأن الرهبة: هي الفرار مما تخاف منه، والرغبة: هي سريان القلب وجريانه نحو المعروف، فطالما أحببت ربك فأنت تسرع إلى مرضاته ليل نهار، والله عز وجل يحب الذي يحب الصلاة، ويحب الجماعة، ويحب صلة الرحم، ويحب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، ويحب المحسنين، ويحب المتقين، ويحب الخائفين، ويحب أهل الخشية، ويحب أهل الرفق، ويحب أهل العفة وغيرها من الفضائل، فأنت تصنع ما يحبه رب العباد سبحانه. كما ينبغي التنبيه على نقطة مهمة جداً، ألا وهي: أن نخاف أن نكون ظالمين لأحد من العباد، وهنا ينبغي أن يقف المرء ويسأل نفسه: يا ترى من الذي ظلمته؟ الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، هل ظلمت أولادي؟ أو ظلمت أبي؟ أو ظلمت أمي؟ أو ظلمت جاري؟ أو ظلمت مديري في العمل؟ أو ظلمت العمال الذين هم تحت يدي؟ أو ظلمت الموظفين الذين أنا رئيس عليهم؟ وهكذا. فإن وجد أنه قد ظلم أحداً سأل نفسه: ما الذي ينبغي أن أعمله حتى أستطيع أن أستسمحه في الدنيا، لكيلا يطالبني بحسنات يوم القيامة؛ وما يدريني لعلي أكون يوم القيامة محتاجاً لحسنة واحدة، فلا أجد من يعطيني إياها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من فاتته صلاة العصر حتى دخل وقت المغرب

حكم من فاتته صلاة العصر حتى دخل وقت المغرب Q تأخرت في أحد الأيام على أداء صلاة العصر وأديتها بعد صلاة المغرب، وحينما كنت في الركعة الأولى دخل خلفي أخ يصلي جماعة معتقداً أني أصلي المغرب، فهل أطيل صلاة العصر، وفي هذه الحالة سوف يصلي المغرب أربع ركعات؟ A هناك عادة غريبة عند المصريين وهي أنه لو فاتته صلاة الظهر إلى أن تدخل وقت صلاة العصر، فإنه يصلي العصر، فتقول له: يا أخي لمَ لم تصل الظهر؟ فيقول لك: لا لن أصلي، لماذا؟ لابد أن تصلي الظهر أولاً، فإن قلت له: صل معنا العصر بنية الظهر، وعندما نسلم نحن تقف أنت وتصلي العصر، يقول لك: لا، أبي علمني أنه مادام أن صلاة الظهر فاتتني فإنها تقضى من الغد سبحان الله! أبوك علمك؟! إنني أقول لك: قال أبو حنيفة ومالك وتقول لي: قال أبوك!! فهذا الأخ الذي لم يصل العصر حتى دخل المغرب، فأخذ يصلي العصر، ثم دخل أحد المصلين فقام يصلي المغرب وراءه، مادام أنه دخل وراءه فيكمل الإمام صلاته عادية مثل صلاة العصر، والمأموم لو أنه أدرك الإمام في الركعة الأولى فإن الإمام سيفارقه في الركعة الثالثة، فيأتي بالركعة الرابعة، إذاً: فالمأموم يجلس ويقرأ التشهد ويسلم، وصلاتك وصلاته صحيحة.

الرجاء

الرجاء إن طريق الوصول إلى الله متمثل في ثلاثة أشياء: الخوف والرجاء والمحبة، فالمحبة رأس الطائر، والخوف والرجاء جناحاه، ولا يكون المؤمن متعبداً لله إلا بهذه الثلاثة، فمن تعبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن تعبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن تعبده بالخوف وحده فهو حروري.

معنى الرجاء، والفرق بينه وبين التمني

معنى الرجاء، والفرق بينه وبين التمني الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن كل شخص يظن أن الرجاء هو التمني، وكل واحد منا يأمل في رحمة الله، ولا يأملن إنسان أن يدخل الجنة بعمله، هذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته). فهناك فرق بين الرجاء والتمني، فالتمني: رجاء مع الكسل، والرجاء: تمن مع العمل، فالطالب الذي يلعب طوال السنة ثم إذا جاء وقت الامتحان تمنى أن يكون من الأوائل صاحب أماني، ومن الصعب أن تتحقق أمنيته، وأما الطالب الذي يجتهد طوال السنة ثم يتمنى أن يكون من الأوائل فإن أمنيته من الممكن جداً أن تتحقق، فالأول صاحب تمني، والثاني صاحب رجاء، وهذا هو الفرق بين التمني والرجاء. كذلك الفلاح الذي يهتم بزرعه فيسقيه ويسمده وينميه ثم يأمل أن يأتي المحصول جيداً هذا العام، فهذا من باب الرجاء، وأما المتمني فقط فهو الذي يغرس زرعاً ثم لا يعبأ به ولا يهتم به، ثم يتمنى أن ينبت له الزرع، ويجمع المحصول.

أنواع الرجاء، وبيان المحمود منها والمذموم

أنواع الرجاء، وبيان المحمود منها والمذموم والرجاء أنواع ثلاثة: رجاءان محمودان، ورجاء مذموم: فالرجاء الأول: رجاء إنسان مسلم أو مسلمة يعمل الصالحات ويبتعد عن المحرمات، فيرجو عفو الله تعالى ورحمته، فهذا رجاء محمود. والرجاء الثاني: رجاء مسلم أو مسلمة مذنب قد تلطخ بالمعاصي، لكنه يتوب ويئوب ويرجع دائماً إلى رب العباد جل جلاله، فهذا يرجو الله أن يغفر له وأن يتقبل توبته، فهذا رجاء محمود أيضاً. أما الرجاء الثالث: فهو رجاء إنسان مقيم على المعاصي مصر عليها في عفو الله ورحمته ومغفرته، فهذا الرجاء المذموم.

طرق التوصل إلى الله جل وعلا

طرق التوصل إلى الله جل وعلا والخوف والرجاء كجناحي الطائر، ورأسه محبة الملك عز وجل، يقول تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، ويقول: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، وقد وصف الله تعالى حشر المؤمنين إلى الجنة بأنهم كالوفود، فقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85]. وهم في اللغة: علية القوم، فيساق أهل الجنة إلى الجنة كالزعماء والملوك، والحشر في الآية دال على كثرة من يدخل الجنة من المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: (لكظيظهم) يعني: ازدحامهم، أي: أمته، قال: (لكظيظهم على أبواب الجنة أحب إلي من شفاعتي). وقد بشر النبي أمته بأنهم أكثر أهل الجنة فقال: (كيف بكم وأنتم ربع أهل الجنة! فكبر الصحابة)، وهذا إكرام الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (كيف بكم وأنتم ثلث أهل الجنة! فكبر الصحابة) وفي هذا دليل على أن الصحابة كانوا عندما يعجبهم الشيء يكبرون ولا يصفقون، فإنما جعل التصفيق للنساء، حتى إن الإمام إذا أخطأ في الصلاة أو سها سبح الرجال وصفقت النساء. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (كيف بكم وأنتم شطر أهل الجنة! فكبر الصحابة)، وقد حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة وثلاثة عشر ألفاً من المؤمنين. قال صلى الله عليه وسلم: (كيف بكم وأنتم ثلثا أهل الجنة)، وقال في حديث آخر: (أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أمتي ثمانون منها)، وانظر إلى حب رسول الله لأمته، أخرج الإمام الترمذي وصححه الدارقطني، قال: (يا محمد! أأجعل إليك حساب أمتك؟ قال: لا يا رب! أنت أرحم بهم مني) فصدق من سماك الرءوف الرحيم؛ لأن الله يقول: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فأرحم الناس بهذه الأمة هو رسولها صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: (يا رب! أنت أرحم بهم مني)، هذا بالنسبة لحشر المتقين، أما حال المجرمين فقد قال تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86]، السوق عادة ما يطلق على الأنعام، تقول: ساق فلان الحمير أو الغنم أمامه. فيوم القيامة يكشف فيه عن المستور، فلا يستطيع أحد أن ينكر شيئاً مما عمله في الدنيا، ولن يستطيع الظالم أن يغطي على ظلمه بالرشاوي ونحوها، بل في يوم ينتصر المظلوم انتصاراً مؤزراً، والله تعالى قد تكفل أن يعطيه حقه كاملاً، فقال على لسان حبيبه صلى الله عليه وسلم: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. ثم ينبغي للمظلوم ألا يدعو على ظالمه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (عبدي! أنت قد ظلمت وتدعو على من ظلمك، وظلمت آخر فهو يدعو عليك، فإن شئت أجبت لك وأجبت عليك، وإلا أخرتكما حتى يسعكما عفوي يوم القيامة). فينبغي للمسلم ألا يشاحن أو يباغض إخوانه المسلمين، بل يجب عليه أن يكون كلامه وفعله برداً وسلاماً على إخوانه، وألا يكون هو الشعلة والوقود للمشاحنة والمباغضة، يقول الشاعر: لا تكن عود ثقاب في حريق ولكن كن دلو ماء في هذا الحريق وسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما قاتله عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد وصناديد قريش في أحد سمع جماعة من الصحابة يتحسرون لأنهم لم يقتلوا خالداً أو عمرو بن العاص، فتبسم تبسم المنشرح صلى الله عليه وسلم وهو الذي أوذي في أحد، وكسرت رباعيته، وشج رأسه، بل إن خالداً كان من أسباب هزيمة المسلمين يوم أحد، فكان النبي يدعو لقومه بالمغفرة والهداية، ولم يدع عليهم كما فعل نوح عندما قال: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]. إذاً: فطريق الوصول إلى الله يكون عبر هذه الطرق الثلاثة: الخوف، والرجاء، والمحبة.

الرضا

الرضا من مراتب الهداية الرضا باختيار الله سبحانه وتعالى للعبد، والصبر على المصائب، فكم من ضال هداه الله في آخر حياته وأرشده، وكم من مهتدٍ أضله الله في آخر حياته، فالإنسان وهو جنين في بطن أمه يرسل الله له ملكاً يكتب رزقه وعمله وأجله وشقياً أو سعيداً.

الرضا بقضاء الله سبحانه وقدره

الرضا بقضاء الله سبحانه وقدره أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فإن من مراتب الهداية: الرضا باختيار الله لك في صغير الأمر وكبيره، وكلنا يثق أن رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت شديدة في إيمان عمه أبي طالب، ولم يسلم من أعمامه العشرة إلا اثنان، واحد أسلم مبكراً، والآخر أسلم قبل الفتح بعام أو عام ونصف. فعمه حمزة أسلم في بداية الدعوة، وهو أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه، وأخو الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وكان عمره يقارب عمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك كان عماً وأخاً وصديقاً، وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم تأثراً شديداً عندما رأى بطنه قد بقرت، وكبده قد ليكت، وأنفه قد جدع، وجثته قد مثل بها. العم الثاني: العباس، وكان كبير مكة وحكيمها بعد أخيه أبي طالب، ولم يسلم إلا قبل فتح مكة. وسوف نعمل مقارنة بسيطة ونتحدث عن مراتب الهداية، وأنه لا يختار مع اختيار الله. فسنجري مقارنة بين عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب وسلمان الفارسي رضي الله عنه. ومن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أبو لهب، واتفقنا من قبل أن اسمه عبد العزى، وكنيته أبو لهب، وكني بذلك لأن وجهه كان أبيض بحمرة شديدة، فكأن الشرر يتطاير منه. وسنقارن بين أبي لهب وبلال الحبشي. وسوف نقارن بين أبي جهل وسيدنا صهيب الرومي الله رضي الله عنه.

مقارنة بين أبي طالب وسلمان الفارسي

مقارنة بين أبي طالب وسلمان الفارسي فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أبا طالب، لكن الله لا يريد أبا طالب، وكأن لسان القدر يقول: يا محمد! أنت تريد عمك ولكننا نريد سلمان. وإن سئل أبو طالب: ابن من؟ قال: ابن عبد مناف، وإذا قيل له: ماذا تملك؟ قال: أملك الإبل والضياع والأرض والعبيد، وإن قيل له: ما مكانتك؟ قال: زعيم قريش، فإن قيل: طريقك مع من؟ قال: مع قومي. واسأل هذه الأسئلة لسيدنا سلمان: ابن من؟ فسيقول: ابن الإسلام. أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فأنا لست من قيس ولا تميم، أنا ابن الإسلام، وما أحلاه من أب. وكان هناك رجل شاعر تاريخي اسمه: مهيار الديلمي، قال قصيدة جميلة جداً، قال فيها: أعجبت بي بين نادي قومها أم سعد فمضت تسأل بي يعني: تسأل عنه. قال: لا تخالي نسباً يخفضني أنا من يرضيك عند النسب قوميَ استولوا على الدهر فتىً ومشوا فوق رءوس الحقب وأبي كسرى على إيوانه أين في الناس أب مثل أبي قد قبست النبض من خير أب وقبست الدين من خير نبي وضممت الفخر من أطرافه سؤدد الفرس ودين العرب يعني: هو موفق أنه أخذ السلالة من فارس، وأخذ الدين من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو سئل سلمان لقال: أنا ابن الإسلام، وإن قيل له: ما مالك؟ لقال: مالي عند الله كثير، فإن قيل: وإلى أين الطريق يا سلمان؟ قال: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42]. وإن قيل: بم تفخر يا أبا طالب؟ لقال: أنا من بني عبد المطلب، وإن قيل: وبم تفخر يا سلمان؟! لقال: (سلمان منا آل البيت). إذاً: فـ سلمان الذي أتى من آخر أطراف الأرض انضم للأسرة الشريفة، أسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: (سلمان منا) وذلك عندما قال المهاجرون: سلمان منا، فقد جاء مهاجراً مثلنا، وقال الأنصار: بل سلمان منا، فهجرته جاءت من بلاد فارس إلينا، فتبسم الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال: (سلمان منا آل البيت)، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أعلى نسب. إن من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أبو لهب، وهو العم الوحيد الذي كانت عداوته شديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت عداوة أبي جهل إلا من أجل العصبية القبلية، فقد كانت قبيلته تنازع بني عبد مناف في الرئاسة في قريش. قال أبو جهل: تسابقنا نحن وبنو عبد مناف، فأطعموا وأطعمنا، وكسوا وكسونا، وقاتلوا وقاتلنا، حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي! ومن أين نصل إلى هذا السؤدد؟ والله لا نؤمن به أبداً! فـ أبو جهل كانت عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عصبية، لكن أبا لهب كان عمه، وكان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم عليه. فكان هناك سبعة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم في الحرم، ومن ضمنهم: أبو لهب وأبو جهل وعقبة بن أبي معيط، وكان عقبة هذا -والعياذ بالله- يقلد النبي صلى الله عليه وسلم ويسخر بتقليده منه، وكان يقول: إن محمداً يتكلم هكذا، ويصنع بعينه هكذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا داهمه الهواء يغمض عينيه اتقاء التراب، فكان يقلده ويقول: هذه حركة عينه دائماً، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (دائمة إن شاء الله)، فما زالت عينه تختلج إلى أن مات.

مقارنة بيت أبي لهب وصهيب بن سنان

مقارنة بيت أبي لهب وصهيب بن سنان ابتلي أبو لهب في آخر حياته بمرض معد، فلما مات حملوه على خشب بعيداً، وأخذوا يرشون عليه الماء، وقد كان العرب قبل الإسلام يغسلون الميت ويغتسلون من الجنابة، وهذه أيضاً فضيلة فيهم، ويذكر أن أبا سفيان لما هزم في بدر أقسم ألا يغتسل من جنابة حتى يهزم محمداً. ولما أرادوا دفن أبي لهب رموا عليه الحجارة وما استطاعوا أن يقتربوا منه؛ لرائحته النتنة. أما صهيب فقد أتى من بلاد الروم فقيراً لا أهل له إلى مكة، فأراد أن يلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الخروج إلى المدينة لقيه نفر من قريش فقالوا له: يا صهيب! جئتنا فقيراً وعشت بيننا، أو تريد الآن أن تهاجر؟! قال: والله إنكم لتعلمون أني أجيد الرمي، ولن تقتربوا مني إلا وقد قتلت منكم ستة أو سبعة، فماذا تريدون؟ هذا بيتي خذوه بما فيه، فأخذوا بيته وتركوه يهاجر، فوصل إلى المدينة بعد أربعة أيام وقد أوشك أن يموت جوعاً، فدخل المسجد، فرأى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرات فأخذها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى)، أي: لقد بعت البيت واشتريت الجنة والدار الآخرة. وأما أبو جهل فقد كانت عداوته شديدة للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لما قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل فرعون هذه الأمة). ففي غزوة بدر قال أبو سفيان: إن القافلة نجت ولا حاجة لنا إلى قتال محمد وأصحابه، فقال أبو جهل: والله لنقيمن هناك عند ماء بدر، وننخر الجزر، وترقص القيان لنا، ونمكث لنشرب الخمر ثلاثة أيام، فتسمع العرب بنا، فما تزال تهابنا أبداً، فحاول الوليد بن المغيرة إقناعه بالرجوع -وكان رجلاً عاقلاً- فأبى، فقتل في هذه الغزوة. ولننتقل إلى بلال، وهل هناك أحد في العالم الإسلامي لا يعرف بلالاً؟ هو ليس من مكة ولا من المدينة وليس له مركز اجتماعي، وإنما هو عبد حبشي أتى من الحبشة خادماً لرجل من قريش، فعذبوه فرق له أبو بكر وأعتقه؛ ولذلك يقول عمر بن الخطاب: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا. وسيدنا بلال بكعبه الأسود يقف فوق الكعبة ويؤذن، فانظر إلى إرادة العبد وإرادة الله سبحانه أيهما تغلب؟! إذاً: فمن مراتب الهداية أن ترضى بإرادة الله سبحانه فيما أراد.

إرادة الله سبحانه في نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش أثناء هجرته

إرادة الله سبحانه في نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش أثناء هجرته يقول ابن القيم رحمه الله التلميذ النجيب لشيخ الإسلام ابن تيمية: جاءت العنكبوت فنسجت على منوال الستر، والمنوال: هو اللون الذي ينسجه عليه، يقال له باللغة العربية: اللون أو منوال. قال: جاءت العنكبوت فنسجت على منوال الستر، فأظلت المطلوب -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأضلت الطالب- أي: من يبحث عنه صلى الله عليه وسلم. ولما لحق سراقة بالركب الكريم أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سهماً من سهامه فغارت أقدام فرسه في الرمال، والقصة معروفة، وعندئذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا سراقة! ما بالك بسواري كسرى، يبشره بسواري كسرى إن كتم عنه وهو مطارد من مكة إلى المدينة؛ لأن الله أراه ما لم يرنا نحن، وهذه إرادة الله سبحانه. إذاً: من مراتب الهداية أن ترضى بإرادة الله لك، اللهم اجعلنا من الراضين بما أردت لنا يا رب العالمين!

أسباب الرضا بقضاء الله والتسليم لأمره

أسباب الرضا بقضاء الله والتسليم لأمره إن الرضا له أسباب، والعبد يرضى بإرادة الله لأنه مسلم، ولأنه سلم أمره لمولاه وخالقه، فيفعل الله به ما يريد، ولأن الله عز وجل محب للعبد فلن يختار له إلا الخير، والعبد ملك لمولاه، والمالك يتصرف فيما يملك. فالرضا يكون عن الله وبالله وعما يريد الله سبحانه وتعالى، والعبد ليس له اختيار في أي أمر قضاه الله سبحانه، قال تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، وإنما لك التفويض والتسليم؛ لأنك مفوض، ويجب أن تفوض الأمر لصاحب الأمر، ولو فوضت الأمر لصاحب الأمر لقلت الأسباب عندك، فلو كان لديك ولد صغير عمره سنة ويريد أن يصعد فوق الطاولة، فيرفع يديه للصعود فإذا بأبيه يأخذه ويضعه فوق الطاولة، لكن لو كان عمره أربع سنوات ويريد أن يصعد فوق الطاولة فإن الأب يقول له: اصعد أنت بنفسك فأنا متعب، فإذا بالابن يضع الكرسي ويصعد فوقه ويمسك الطاولة، وبذلك يكون قد عمل مجهوداً. لكنه لما كان صغيراً اعتمد على أبيه أو على أمه أو على من هو أكبر منه فقلت الأسباب، فما بالك بمن يعتمد على رب الأسباب؟! فقد تنصح أخاك للصلاة فيرفض، ويستمر على ترك الصلاة عشرين سنة، وفجأة مشى فلقي زحاماً، فأخذ يقول: ما لهؤلاء المجانين؟ فيقال له: إنهم يصلون، فقال: وهل المصلون يشكلون زحاماً! سأدخل وأقول كلاماً أؤدب به إمامهم، فدخل عليهم فوجد الكلام برداً وسلاماً في قلبه، فأصبح أول المؤمنين. فالله عز وجل له في الكون يد تعمل، ولكن العبد يتعجل عمل يد الله، فإذا ظلمك ظالم فإنك تريد أن يعاقبه الله لتشفي غليلك، لكن لله عز وجل أمر آخر وإرادة أخرى. فأنت تتمنى أن تنزل على الظالم كارثة، أو تأتي عليه مصيبة فتمحقه، لكن لله أمر آخر، فمن الممكن أن يهديه الله ويجعله من الناصرين لك، ومن الممكن أن يهديه الله على يديك، فلو سلمت أمرك لله لرضيت بقضائه، واعلم أن السخط دليل على عدم الرضا، والسخط يأتي بالهم والغم وضيق في الصدر، ويأتي بالاكتئاب؛ لأن الذي لا يرضى بقضاء الله يقول: انظروا أصحاب المناصب: هذا مدير مجلس إدارة، وهذا رئيس شركة، وهذا موظف في الوزارة، وهذا رئيس وزراء. فاعلم أن المناصب لن تشفع لابن آدم؛ لأنه كشارب البحر لا يزيد بالشرب إلا عطشاً.

ذكر بعض آثار الصالحين في الرضا بقضاء الله سبحانه

ذكر بعض آثار الصالحين في الرضا بقضاء الله سبحانه ويذكر أن سيدنا علياً زين العابدين رحمه الله لقيه سفيه عند الحرم بذيء اللسان، فقال له: يا فاجر، فقال له زين العابدين: جزاك الله خيراً، فقال له: يا منافق! قال: بارك الله فيك، فقال له: يا فاسق، قال: هداني الله وإياك، فأراد الرجل أن يذهب، فقال زين العابدين: لقد أخبرتني عن ثلاث صفات سيئة فقط، وفيَّ صفات كثيرة أكثر مما ذكرت، أتريد أن تعرفها؟! فنظر الرجل إليه وقال: أشهد أن هذا ابن رسول الله. إذاً: فمسألة الرضا مسألة تعود على العبد بانشراح الصدر، وعدم الرضا يجعل العبد يتسخط؛ ولذلك تجده جالساً في مكتبه وهو يفكر في طعام أبنائه، أو كيف يحل مشاكله مع أقسام الشرطة وغير ذلك.

الأمور الأربعة التي كتبها الله سبحانه للجنين وهو في بطن أمه

الأمور الأربعة التي كتبها الله سبحانه للجنين وهو في بطن أمه إن الإنسان المسلم لا بد أن يرضى بما كتب له، فالعبد منذ أن كان جنيناً في بطن أمه كتب له أموراً أربعة: العمر أولاً، وسواء ينتهي العمر بسبب أو بغير سبب، فقد كتب الله الموت على كل إنسان. الأمر الثاني: الرزق، فالعبد قد تكفل الله برزقه، والإيمان رزق، والزوجة رزق، ونعمة السكن رزق، والهدوء رزق، والعلم هذا من أكبر أنواع الرزق، فيجب على الإنسان أن يحمد رب العباد عليه، لكن الشيطان يعظم في وجه الإنسان مسألة الفقر، ومسألة الصلاة، ويزين له النوم، والله سبحانه يقول: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]. ومن رزق الله عليك أن يعطيك ولداً طائعاً يعرف ربه، وبنتاً مطيعةً تعرف ربها، وزوجة تصبر عليك وتعاملك بالتي هي أحسن، فكل هذه أنواع الرزق وهو مكتوب في الأزل، لكن هناك أناس يشترك أحدهم في عطاءات ومناقصة، ويجهد نفسه ويخسر، ويرجع متعباً وفي فمه سيجارة، ولا يريد امرأته أن تكلمه وهكذا، فهذا المسكين لو كان واعياً لعلم أن هذا الرزق ليس مكتوباً له، فيرضى بقضاء الله وإرادته، فأسباب الرزق بيد مسبب الرزق، والرزاق هو الله سبحانه وتعالى، فالعمر والرزق ليس فيهما نقاش. يحكى أن الحسن البصري رأى رجلاً واضعاً كفه على خده وعليه علامات الهم، فسأله الحسن: مالك؟ فأشاح الرجل في وجه الحسن، فقال له: يا بني! هل يجري شيء في هذا الكون على غير مراد الله؟ قال له: لا، قال له: يا بني! هل يأتيك ملك الموت لينقص من عمرك؟ قال له: لا، قال: أو ينقص درهماً من رزقك؟ قال له: أبداً، قال: فعلام الحزن إذاً؟ فاعمل واطرق الأسباب، واترك الأمور لمقدر الأقدار عز وجل. الأمر الثالث: السعادة أو الشقاوة، فإن الملك يكتب للجنين وهو في بطن أمه رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد. فقد يرسل الله إلى من رضي الله عنه في أواخر أيامه ملكاً يقومه ويرشده ويهديه، فيموت على خير حال، فيقول الناس: رحم الله فلاناً لقد مات على خير حال. اللهم اجعلنا من أهل الرضا، واجعلنا من الذين رضيت عنهم ورضوا عنك، اللهم اجعلنا من الذين يرضون بكل شيء قدرته لهم يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً. واجعل أول يومنا هذا صلاحاً، وأوسطه نجاحاً، وآخره فلاحاً. ولا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً لأهله رددته. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم.

الشكر لله

الشكر لله الشكر لله تعالى من أجل العبادات، ومما يزيد النعم ويديمها على العبد، وله جوانب كثيرة فمنها: حب الله عز وجل، والثناء عليه بما هو أهله، والانقياد والخضوع له، وعدم استعمال نعمه فيما يغضبه.

تعريف الشكر لغة واصطلاحا

تعريف الشكر لغة واصطلاحاً بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد فإن من مراتب الهداية: الشكر لله عز وجل، والشكر له معنى في اللغة ومعنى في الاصطلاح، وهو على أنواع ثلاثة: فإذا ظهر على الدابة أثر النعمة فامتلأت أو اكتنزت باللحم سميت دابة شكوراً، فتعريف الشكر في اللغة العربية أتى من هذا المعنى. فالدابة الشكور هي: الدابة التي ظهرت عليها آثار النعمة. والشكر في الاصطلاح قريب من هذا المعنى، فالعبد عندما يشكر ربه يظهر نعمة مولاه عليه، فعندما تظهر نعمة الله عليك ولا تخفيها فهذا هو الشكر.

جوانب الشكر

جوانب الشكر الشكر له جوانب وهي: حب المشكور، والثناء عليه، والخضوع له، وعدم استعمال نعمه فيما يغضبه. أول جانب من جوانب الشكر: أن تخضع لصاحب النعمة. فقد أنعم الله علينا بصغير الأمر وكبيره، وأعطانا مثلاً: الصحة، فإن هناك أناساً آخرين ليس عندهم صحة، قال الشاعر: لا تعجبين من سقمي صحتي هي العجب يعني: من كثر البلاء الذي رآه في جسده قال: لا تستغربين من المرض الذي عندي ولكن استغربي من الصحة المتبقية لدي. فالإنسان منا عندما يُنعم عليه بالصحة يراها نعمة لا يتساوى فيها كل الناس، فليس كل إنسان عنده صحة، وليس كل إنسان ظهره سليم ويستطيع أن يقف في المسجد نصف ساعة، هناك أناس يبكون بكاءً مراً في الهاتف ويقولون: نتمنى أن نصلي معكم مثل زمان، لكن لا نستطيع أن نمشي ولا أن نأتي إليكم، ادعوا لنا، الهم اشفهم واشف كل مريض. فأنت في نعمة الصحة يجب أن تحمد الله عليها، وهذه نعمة أنت متفرد فيها، ولا تظن أن جميع الناس أصحاء، فلو كشفت الغطاء أو حللت بعض التحاليل لجميع الناس لوجدت في الألف رجلاً واحداً صحيحاً والباقي مرضى، والرجل المسكين الذي كان يحكي عنه الشيخ كشك ربنا يبارك فيه، عندما ذهب ليمتحن فصعبوا له الامتحان حتى لا يتم تعيينه، لأنهم لا يريدون تعيينه. فقال الرجل: هم يتعذرون بأن البول فيه شيء ما، فأخذ قليلاً من ماء الحنفية وأعطاها لصاحب المعمل، وهم في نيتهم ألا يعينوه، فقال صاحب المعمل: البول فيه سكر وبلهارسيا وغير ذلك، فقال له: اذهبوا فاشتكوا أصحاب الصرف الصحي هؤلاء، ولا تشتكوني أنا. وعندما تذهب لعمل رسم القلب وأشعة مقطعية وغير مقطعية فإنك تسمع صوت الدم وهو يندفع بين حجرات القلب مثل شلالات نياجرا، فهو صوت رهيب، وحركة القلب رهيبة. وامرأتك عندما تحمل وتقول للطبيب أو الطبيبة: هل الجنين ولد أم بنت؟ فإنك تسمع الولد يتنفس بالدقة ويتهيأ لك أنه يتنفس وهو لا يتنفس، بل هو صوت الجنين وهو في بطن أمه. ولو ظهرت أصوات حركة الدم داخل جسمك وصارت جلية لما طابت لنا الحياة لحظة، لكن كل شيء مكتوم، فنعمة الصحة نحن متفردون فيها، ثم إنها نعمة من المنعم سبحانه. والحمد لله أن الصحة لا توزعها وزارة الصحة، ولو أن الصحة كانت توزع من قبل الوزارة بالبطاقة لخسرنا الكثير من الصحة، والحمد لله على نعمة هذا الهواء وأنه لا توجد وزارة للهواء. فالنعم التي جعل الله قيام الحياة بها لم يجعل لأحد فيها يداً أو سبيلاً، فلم يجعل حنفية الهواء عند أحد، وإلا لو جعلها عند أحد لاغتاظ منك ولقفل عليك حنفية الهواء، فمن رحمة الله علينا أن النعم التي لا نحيا إلا بها أنها بيد المنعم سبحانه وتعالى. فلا تستخدم نعمة الصحة فيما يغضب الله، فربنا أنعم علينا بالرئتين فلا ندخل إليه الدخان، فإن الدخان فيه إهدار لنعمة الله، وأعطانا نعمة المال فلا نهدره في شراء الدخان، وأعطانا نعمة الصحة فلا نهدرها بشرب الدخان، فإن هذا ليس بشكر.

الخضوع للمشكور

الخضوع للمشكور فأول جانب من جوانب الشكر: خضوعك للمشكور، بأن يكون عندك خضوع لله، قال سيدنا داود: يا رب! كيف أشكرك وشكري لك نعمة تستوجب الشكر؟ وهذا من أدب النبوة! فإنه يقول: يا رب! كيف أشكرك والشكر نفسه نعمة رزقتني إياه، فيجب أن أشكرك عليه؟ قال: يا داود! الآن شكرتني. وقال داود أيضاً: الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، فأخذت الملائكة تقلب في دفتر الحسنات فلم يجدوا مثل هذه الكلمات فيه، فقالوا: يا ربنا! لقد قال عبدك داود كلمة لم نجد له ثواباً، يعني: على هذه الصيغة، فالذي يقول: سبحان الله يعطى عشر حسنات، والذي يقرأ حرفاً من القرآن يعطى له قدراً من الحسنات، والذي يصلي ركعتين كذلك يعطى له قدراً محدوداً من الحسنات، فمعروف الحد الأدني والحد الأقصى عند الله عز وجل، فقال الله عز وجل لملائكته: (اكتبوها كما هي وأنا أجازي عبدي داود عليها يوم القيامة). صلى الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالناس وجلس في المسجد حتى طلعت الشمس، ثم صلى ركعتي الضحى، ثم دخل بيته فوجد السيدة جويرية رضي الله عنها قد عملت كوماً من النوى وتسبح الله وتحمده، فتقول مثلاً: سبحان الله وتنقله من ناحية إلى الناحية الأخرى، ثم تقول: الحمد لله وتنقله من الناحية الأخرى إلى الناحية الأولى، وهكذا عندما تكبر وتهلل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا تصنعين؟ قالت: أسبح وأحمد وأكبر وأهلل يا رسول الله! قال: أما أنا فقد قلت كلمة تعدل ما قلت، سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته). فعدد خلقه لا يحصيهم إلا الله، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، والله تعالى يرضى عن العباد وليس لرضاه منتهى، ولا يعلم زنة العرش إلا الله، وكذلك مداد كلماته. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، فعليكم بالجوامع الكوامل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان للرحمان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصحابة، وسيدنا معاذ بن جبل كان أستاذ الحفظ خلف رسول الله، لذلك فإن سيدنا معاذ يحمل راية العلماء يوم القيامة، فسيدنا بلال كانت حفيظته على قدر حاله، وكان لا يحفظ، فقال: يا رسول الله! أنا لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ بن جبل، فسمى الذكر: دندنة، وأهل زماننا يسمونه نكد، فيقولون: الجماعة الهبل يعملون درساً بعد صلاة الفجر! وهل هناك أحد يعمل درساً في الفجر؟!! فابتداء اليوم عندهم من الساعة العاشرة! وهذا نوم غير شرعي، إنما اليوم يبتدأ من صلاة الفجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها). قال علماء الطبيعة: هناك أشعة اسمها الأشعة الكونية إذا تعرض الجسد لها وقي من سبعة وثلاثين نوعاً من أنواع المرض، وأن وقتها قبل وأثناء وبعد أذان الفجر. فالعلماء لا يعرفون تركيب هذه الأشعة الكونية إلى هذا اليوم، وهي تقي من سبعة وثلاثين نوعاً من أنواع المرض، وتعطي مناعة للجسد، وهذا الفضل لا يكون إلا للمواظب على صلاة الفجر. والعسكري المسكين الذي يقف في الدرك أو الضابط الذي في القسم أو الرجل الذي في المطار في برج المراقبة إذا صبح الصبح وجدت وجهه أصفر، أما الذي يصلي الفجر ويمكن أنه نام ساعة أو ساعتين فترى وجهه منيراً، مع أن هذا سهران وهذا سهران، وهناك من سيقول: يا أستاذ! العمل عبادة، وأنا لا أتكلم من هذه الناحية بتاتاً، ولا أقول لك: لا تعمل، لكن أقول لك: انظر إلى الفرق بين من يعبد الله ومن يغفل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (فماذا تقول يا بلال؟ قال أقول: اللهم إني أسألك رضاك والجنة، وأعوذ بك من سخطك والنار، فقال: يا بلال! إنما حولهما ندندن) فلم يقل له: تريد أن تعمل رأسك برأس معاذ بن جبل الذي جالس يحفظ، أو أنت غير فالح، أو لا تنفع، وإنما قال: (إنما حولهما ندندن) ثم في اليوم التالي مباشرة حتى يزيل من قلب بلال الحزن الذي أصابه من عدم القدرة على الحفظ قال له: (يا بلال ماذا تصنع فإني ما دخلت الجنة إلا وسمعت دبيب نعليك أمامي؟) فيعطي له تصريحاً أخضر، وكرت دخول. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى في النوم أنه يدخل الجنة ويرى فيها ما يرى، فقال له: (ما دخلت الجنة مرة إلا وسمعت دبيب نعليك، فماذا تعمل؟ قال: ما توضأت وضوءاً من ليل أو نهار إلا وصليت ركعتين، وما أذنبت ذنباً إلا وأعقبته باستغفار) يعني: أنه كان يخلص حسابه أول بأول. وأنت أيضاً قم بتخليص حسابك أول بأول، ولا تؤخر التوبة إلى سن أربعين سنة ثم تقول: هل لي توبة؟ نعم لك توبة، فالتوبة مفتوحة وهل نحن معنا المفاتيح حتى نعقدها على الناس؟ والمرأة في البيت عندما تطبخ الطبيخ وتترك الطبق لمدة يومين أو ثلاثة أيام في الحوض بدون تنظيف فإنه ييبس ولا يتنظف، لكن إذا غسلته مباشرة بعد الأكل يكون سهلاً، وهكذا الذنب في القلب، فعندما تمسحه مباشرة ينتهي بسهولة، فإذا تراكم كان من الصعب إزالته؛ لأنه قد تعود على الذنب. فموضوع الشكر موضوع قائم عليه الدين كله، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أي: ليس كل أحد يشكر الله. فالخضوع للمشكور أول جانب من جوانب الشكر.

الثناء على المشكور

الثناء على المشكور والجانب الثاني: الثناء عليه سبحانه، لأنه أهل للثناء وأهل للمدح، ومن أدب النبوة في الدعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يدعو يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) ويسن للذي يدعو أن يقول قبل ذلك: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، ثم يبدأ في الدعاء، ثم عندما ينتهي من الدعاء يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثق تماماً أن أي صيغة من الصلوات على رسول الله مقبولة عند الله، فالله تعالى يقبل الصلاة الأولى وقبل الصلاة الأخيرة، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما ما دام الدعاء ليس بإثم ولا قطيعة رحم. والثناء على الله عز وجل لا يستوجب الثناء اللساني فقط، وإنما يستوجب أيضاً الشكر من جنس النعمة، فشكر الأموال الكثيرة الصدقة، وشكر العالم الذي أعطاه الله علماً أن يزكي عن العلم، فشكرك من جنس النعمة التي أنعم الله عليك بها، وهكذا ونحن بفضل الله أهل علم ولو علماً قليلاً، فالله ربنا أعطانا الفاتحة وبعض من آيات الله، وهناك من أكرمه ربنا بحفظ القرآن، وهناك من أفهمه ربنا القرآن، وهكذا، وقد قال الحكيم العربي: قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أَركب فإنني جاهل بسيط وصاحبي جهله مركب أي: لو أن الدنيا تمشي بشكل صحيح كان من الواجب أن الحمار يركب فوق راكبه، والراكب يصير مركوباً، لأن الحمار جاهل بسيط، فجهله على قدره، وصاحبه جاهل جهلاً مركباً، فالجاهل الجهل المركب جاهل ويجهل أنه جاهل، فإذا أتيت تكلمه في الدين مثلاً قال لك: أنا فاهم كل شيء، وأنا عارف كل شيء، فهذا جاهل جهلاً مركباً، فهو لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

حب المشكور

حب المشكور الجانب الثالث: حبك للمشكور عز وجل، فيجب أن يكون هناك حب، لأن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها، فالواجب أن تحب عمك الحنون وخالك الحنون، وتكره عمك الجاحد، ولا تحب خالتك التي لا تحن عليك بعد موت أمك، فالواجب أن تحب من أحسن إليك. ولذلك سيدنا عمر كان له دعاء غريب فكان يقول: (اللهم لا تجعل لفاجر علي نعمة حتى لا أحبه) أي: يا الله! لا تجعل فاجراً يعمل معي معروفاً؛ حتى لا أضطر إلى حبه، لأني مجبول على هذا. فالإنسان مجبول على حب من أحسن إليه. الجانب الرابع: لا تستخدم النعمة في إغضاب صاحب النعمة، فالإنسان لا يستخدم المال في إسراف ولا في إنفاق غير ما يرضي الله، ولا يستخدم الصحة فيما لا يرضي الله، ولا يستخدم الجاه فيما لا يرضي الله، وإلا لم يصر من الشاكرين.

الفرار إلى الله

الفرار إلى الله الدنيا مليئة بالأحزان والأكدار، والضيق والضنك، فلا سعيد فيها إلا من فر منها إلى خالقها، فيفر المؤمن من شهواتها وزخارفها وتضليلها إلى الله سبحانه. وأما الشقي فيفر من الله، ومن مظان رحمته وعفوه، إلى حبائل الدنيا وشياطينها. فشتان ما بين الفرارين، وما أعظم البون بين الطائفتين!

معنى الفرار إلى الله وأنواعه

معنى الفرار إلى الله وأنواعه أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فمن مراتب الهداية ودرجاتها: الفرار، وهو على نوعين: فرار السعداء، وفرار الأشقياء، أما فرار السعداء فهو فرار الذين يفرون من كل شيء إلى خالق كل شيء، وهذا فرار أهل السعادة، فيفرون من الدنيا ومن بلاياها ومن الناس ومن كل شيء إلى الله عز وجل، ففروا إلى الله جميعاً. إذاً: فالفرار إلى الله هو فرار السعداء، وهناك -والعياذ بالله- فرار الأشقياء، وهو فرار الذين يفرون من الله ومن الهداية، ومن أهل الخير، ومن أصحاب الحق، ويرون بعين البصر المحدد غير المنطلق من أنوار الوحي، فيرون أن السعادة فيما يتخيله الواحد منهم لا فيما حدده الشرع الحنيف. وكل واحد من هؤلاء يفكر أن الكتاب والسنة يضعان عليه قيوداً، فيقول لك: يا أخي! كل مرة يذهبون للصلاة، ويجلسون في الدرس، وفي كل حين أوامر ونواه، وحديث عن الجنة والنار، وسلوكيات مطلوبة، ثم يقول لك: في الانحراف توسيع على الناس، وفيه انطلاق وحرية، فأنا بالخيار آكل ما أريد، وأصلي أو لا أصلي، وأشرب الخمر، وأنظر إلى ما أشاء، وأسمع أي كلام أشاء مما يريحني! فهذا حال من سخط الله عز وجل عليه، فالمعصية عنده لها حلاوة، والطاعة عنده لها مرارة، فلذلك يرى المعصية جميلة، فالمرأة التي ترتدي الحجاب عنده مستنكرة؛ لأنها غطت الجميل الناعم السايح، أفمعقول هذا تغطيه؟! ولماذا خلقه الله؟ فنقول: هو مخلوق للمحارم كالزوج فقط، فهو قطاع خاص لا عام، لكن الجهلة مصممون على القطاع العام! والجاهلة تظن بعقلها المحدود أن الدين هذا قيد عليها وعلى الناس، مع أن الدين يفك قيد الإنسان، أي: يفك قيده من المعصية، ومن الجهل، ومن الانحراف، ويفك قيده من ضيق الدنيا ليعطيه سعة الآخرة، ويفك قيد الكبت والاكتئاب إلى الرضا والتوكل على رب العباد سبحانه وتعالى.

صفة الفار إلى الله

صفة الفار إلى الله إن كل من يفر إلى الله فهو كريم؛ لأنه يفر إلى الكريم، فيأخذ من صفة الكرم التي لله عز وجل، وليس الكرم أن يعطي أو يبذل المال، وإنما الكرم في خلق المسلم كله، فالكرم في معاملاتك، فإن أساءت إليك زوجتك تكون كريماً معها، فترد الإساءة بالإحسان، وهكذا إن أساء إليك جارك. وسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ليس هناك أكرم منه إلا ربه، فكان اليهودي يأتي كل ليلة قبل الفجر في المدينة ويضع القاذورات على بيت الحبيب المصطفى، ولو كان مثل حالتي وحالتك لربما كان يقوم أحدنا فيقتله! لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك. وبعد صلاة الفجر طرق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على اليهودي، والعربي بطبيعته كان ينهض في الصباح، لكن العرب هذه الأيام لا ينهضون الصباح، المهم: أن العرب كان النوم عندهم ساعة الفجر نوماً غير شرعي، المسلم وغير المسلم، فكان يوم العربي قبل الإسلام يبدأ عند البكور، فجاء الإسلام وأقر ذلك، يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) فمثلاً: أنت عندما تأتي المسجد في الصبح لا يحصل لك إغماء ولا غيره، بل بالعكس فالذي يحصل لك هو انشراح الصدر طوال اليوم. واليوم الذي تنام فيه بعد الفجر -والمتعود على الفجر يعرف هذا- تجد صدرك ضيقاً طوال اليوم، وتقول: ما الذي حصل ما لي ضائق هكذا وليس هناك خبر سيئ؟ ولما تبحث عن السر تجد أنك استيقظت بعد أن أشرقت الشمس؛ لأن الشيطان قد بال في فمك وأذنيك، فأكثر الشعب صار دورة مياه للشيطان، فلا بورك في هذا الشعب إذا كان بهذا الشكل، لكن بورك في شعب استيقظ عند الصباح. يقول امرؤ القيس الشاعر العربي: وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل يعني: أنه يخرج الصبح وما زالت الطيور في أعشاشها، فهذا زمن خروجه للعمل. إذاً: فالإنسان الذي يفر إلى الله إنسان كريم، فليس الكرم في بذل المال فحسب، ولكن للأسف نحن كل حدودنا في البخل والكرم في مسألة المال، وكل تفكيرنا فيه، وإن كان مهماً واقعاً، فمن ذلك: رجل بخيل قال لخادمه: هناك شخص يضيق علي في المسجد كل يوم ويقول لي: ألا تؤكلني عندك؟ فاليوم سآتي به، وسأقول لك: يا غلام! ائتنا بالطعام، فتأتي بالدجاجة مسلوقة وجاهزة، ولكن تأتي بها باردة، وسأقول لك: يا بني سخنها، فتذهب لتسخنها فتغيب حتى يضيق الضيف فيذهب. فالرجل البخيل يقول للضيف: تعال يا أخي! فأخذه معه، وقد اتفق سلفاً مع الغلام كما تقدم، فقال: يا غلام! ائتنا بالطعام، فأتى بدجاجة مثلجة، فقال له: يا بني! هذه باردة سخنها، فذهب الولد فغاب حتى العصر، وقرب موعد الأذان والانتظار من الظهر، فقال المضيف: نذهب نصلي العصر، وبعد ذلك بقي البخيل يتسكع في الجامع ويقول: أنا عندي جزء قرآن أقرؤه، أو سنحضر درس العلم، فحضرا، وبقي الضيف معه إلى صلاة العشاء، فالرجل البخيل لم يجد مفراً من أخذه معه، فقال: يا غلام! والغلام لم يتفق على هذا الموضع مع سيده، فقال سيده: ائتنا بالطعام، فأتى بالفرخة أيضاً، فقال سيده: يا بني! هذه باردة من أجل أن يفهم الغلام، فذهب الغلام للداخل، والضيف أصابه الغيض، فقال: أدجاجتكم هذه من آل فرعون تعرض على النار غدواً وعشياً؟! سنأكلها باردة. ففي الناس من الكرم طبيعته، وهناك أناس -والعياذ بالله- بخلاء، وأحسبكم من أهل الكرم؛ لأن الكريم قريب من الله، وقريب من الجنة ومن الناس، وبعيد عن النار، وأما البخيل فهو بعيد عن الله، وبعيد عن الجنة وبعيد من الناس، قريب إلى النار، والعياذ بالله رب العالمين. لذلك قال أهل العلم: إن الذي يسألك إذا شكيت فيه: هل يستحق أو لا يستحق؟ ولو أعطيته فاحتمال أني جعلت الصدقة في غير موضعها، لكن لو منعته فيمكن أنه يستحق، فأعطه ولو القليل، ثمن إراقة ماء الوجه، هكذا قال أهل العلم، ولك الخيار. أما مسألة: أن الصدقة للسائل ولو راكباً على الحصان فهذا لم يقله الرسول ولا الصحابة، وإنما هو من اختراع المصريين، فصاحب الحصان يبيعه أولاً، ثم عندما يفقد ثمنه، نعطي له حاجته، وليس هناك شيء يجوز للراكب على الحصان، فمثلاً شخص راكب سيارة بمائة ألف جنيه، أفأضع يدي في جيبي وأعطي له صدقة؟! ليس هذا من المعقول، فليبع السيارة، وعندما تنتهي المائة ألف -أي: ثمن السيارة- نعطي له.

أقسام فرار السعداء

أقسام فرار السعداء

فرار العامة

فرار العامة فرار السعداء ثلاثة أقسام: فرار العامة، وفرار الخاصة، وفرار خاصة الخاصة. أما العامة الذين مثلنا فيفرون من الجهل إلى العلم، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الشك إلى اليقين، ومن الضيق إلى السعة، فهذا فرار العامة، وإن قال قائل: وهل نحن نستطيع أن نفر الفرار الذي ذكرته هذا؟! أي: أن ننتقل من الجهل إلى العلم ونحوه؟ فتقول: نعم يدرك هذا أصحاب العزائم والصدق مع الله، فيفرون من الجهل إلى العلم، ومن الضيق -أي: ضيق الدنيا- إلى سعة الآخرة، ولا تظن أن الدنيا فيها سعة أبداً، فالله عز وجل يأتي يوم القيامة بأبأس أهل الأرض، يعني: يأتي بشخص فقير دوماً لم ير يوماً يهنأ فيه أبداً، ولكنه اتقى الله، يعني: كان الرجل يصلي ويصوم، ويده ليست طويلة إلى الحرام، فهذا يغمس في الجنة غمسة فقط، فيخرج كالقمر ليلة التمام، فيقول الله له: عبدي! هل رأيت بؤساً من قبل قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك أنا في النعيم منذ أن خلقتني، فغمسة واحدة أنسته بلايا الدنيا. ويؤتى بأنعم أهل الأرض ولكنه لم يتق الله، فيغمس في النار غمسة، فيخرج كالفحمة السوداء، فيقول الله له: عبدي! هل رأيت نعيماً من قبل قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك أنا في الشقاء منذ أن خلقتني، فانظر أخي! غمسة واحدة في الجنة، وأخرى في النار ماذا صنعت! ولذلك العبد الصالح عندما يأخذه الناس على أعناقهم بعد موته يرى عمله أمامه، وعندما يمشون به يقول: علام تبطئون بي؟ لو تعلمون ما ينتظرني من الخير لأسرعتم بجنازتي، إذاً: فهو يرى الذي أمامه. والآخر -أي: العاصي- يقول: علام تسرعون بي؟ ولذلك سيدنا عمر قال: عندما تحملوني فاجروا بالجنازة جرياً، قالوا: لماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إن كان خيراً فقد قدمتموني إليه، وإن كان شراً فقد سرحتموه من فوق أعناقكم. فهذا فرار العامة من الجهل للعلم، ومن الضيق للسعة، ومن الشك لليقين، أي: لا يكون المؤمن قلقاً من غد، لكن عنده يقين تام، فما دام غداً من عمري فسيأتيني رزقي. لو أن لي قرشين في الحكومة، أو في القطاع الخاص أو في أي مكان قد كتبها الله لي، وأنها من رزقي، فستأتيني، ولو أصدرت الأمم المتحدة قراراً بمنع الصرف لك فسيصرف لك، فلو أن من في الأرض جميعاً اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، وكذلك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وفي رواية: (رفعت الأقلام، وطويت الصحف)، وهذه أبلغ؛ لأنها تعني: أن الصحف قد حفظت بعد الكتابة.

فرار الخاصة

فرار الخاصة أما فرار الخاصة: فهم يفرون من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، مثلاً: عندما يخرج الجنيه في سبيل الله فهو قد وضع في ذهنه أن هذا الجنيه يقع في كف الرحمن، كما كانت عائشة تصنع، أي: كانت تعطر الدرهم وتعطيه للفقير، قالت: أعلم أنه لا يقع في كف الفقير، ولكن يقع في كف الرحمن. والفقير يدعو لها: جزاك الله خيراً يا أم المؤمنين! وتقول: بل جزاك أنت؛ لأنك حملت زادنا إلى الآخرة، ويقال لها: يا أم المؤمنين! هذا هو الذي ينبغي أن يدعو؛ فهو الذي يأخذ، فتقول: دعوة بدعوة؛ ليضل لنا الثواب كاملاً عند الله يوم القيامة. أي: هو يدعو لنا دعوة فنرد عليه بدعوة، فتكون الحسنة صافية، فيمكن أن تضيع مقابل دعوته، فهي خائفة على حسنتها! والحسن البصري رضي الله عنه يقول: أدعو الله عز وجل، فأرى يد الله تكتب لي الإجابة. إذاً: فهذا فرار الخاصة: أن يرى يد ربنا تكتب له الإجابة. ويقول سيدنا عمر: أنا لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل هم الدعاء. ونحن نحمل هم الإجابة لا هم الدعاء للأسف، أما سيدنا عمر فيحمل هم الدعاء، أي: لو كان الدعاء صادقاً صاعداً من لسان طاهر، ومن قلب نقي، وفي وقت من الأوقات التي يستجيب ربنا سبحانه وتعالى فيها الدعاء، مثل: قبل صلاة الفجر وبعدها، وما بين العصر والمغرب، وعند السجود، وعند إفطار الصائم، وعند زحف الصفوف على العدو، وبين الأذان والإقامة، وعند هطول المطر، وعند سفر المسافر، فكل الدعوات في هذه الأوقات مظنة الاستجابة من الله رب العالمين. لذلك فأهل الجنة عندما يجمعهم ربنا -اللهم اجمعنا معهم يا رب- يتذاكرون أحوالهم في الدنيا، فيقول أحدهم: أنت متى غفر الله لك؟ ثم يقول: أتذكر يوم كذا؟ في ذلك اليوم غفر لنا فيه.

فرار خاصة الخاصة

فرار خاصة الخاصة وهناك فرار خاصة الخاصة، وهو فرار مما دون الحق، فكل شيء لله عز وجل، فكل حياته لله سبحانه، وفي مقدمة هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم. والفرار درجة من درجات الهداية التي بينها لنا العلماء. اللهم اجعلنا من الفارين إليك يا رب العالمين.

المحاسبة

المحاسبة إن المحاسبة للنفس ينظر لها من زاويتين: جناية العبد على نفسه، وعناية الله سبحانه بالعبد، فعلى العبد أن يحاسب نفسه في كل صغيرة وكبيرة قبل أن يحاسب يوم القيامة، فليس في ذلك اليوم دينار ولا درهم وإنما هي الحسنات والسيئات، وهو يوم يشيب فيه الولدان من هوله.

جهات النظر إلى المحاسبة

جهات النظر إلى المحاسبة الحمد لله حمد عباده الشاكرين الذاكرين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: مرتبة المحاسبة ينظر إليها من ناحيتين: من ناحية العناية، ومن ناحية الجناية، والجناية منك، والعناية من ربك، ونحن في حالة من حالات الجناية، فالذنب عبارة عن جناية، وفي القانون الوضعي هناك مخالفة وهناك جنحة، وهناك جناية، وأما في النصوص الإلهية فهناك لمم وصغائر وكبائر.

جنايات العبد

جنايات العبد إن العبد قد يجني على نفسه، وقد يكون جانياً على غيره، والجناية على النفس فيها أقوال، والجناية على الغير فيها قول واحد.

جناية العبد على نفسه

جناية العبد على نفسه إن الجاني على نفسه هو إنسان ضيع أيامه الخمسة، فالعبد له خمسة أيام: يوم مفقود، ويوم مشهود، ويوم مورود، ويوم موعود، ويوم ممدود. فاليوم المفقود هو اليوم الذي ضاع منك ومضى، واليوم المشهود: هو اليوم الذي تعيش فيه حاضراً، فيومك من الساعة الخامسة والنصف إلى أن ينتهي هذا اليوم، والله أعلم من الذي سيبقى منا إلى المغرب، ومن الذي سيتوفاه رب العباد، والله أعلم ماذا سيحدث فيه من أخبار، نسأل الله أن يجعل يومنا أفضل من أمسنا، وأن يجعل غدنا خيراً من يومنا، وأن يحول حالنا إلى أحسن حال. وقد روي في الأثر: من كان يومه خيراً من أمسه فهو سعيد، ومن كان يومه أسوأ من أمسه، أو غده أسوأ من يومه فهو مغبون. أي: مظلوم ظلم نفسه، إذاً: فظلم النفس نوع من أنواع الجناية. واليوم المورود: يوم غد. واليوم الموعود: عند مجيء ملك الموت فيقفل الحساب، قال تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]. فهناك ملك يعد الحسنات وملك يعد السيئات، قال الله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، وقال تعالى: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، فالله سبحانه وتعالى سيحاسبنا، لكن من فضله أنه يخفف حسابه عنا، ويفتح مجالات للرحمة. فالمغبون هو الذي جنى على نفسه وضيع أيامه الخمسة، هذه هي الجناية.

عناية الله سبحانه بالعبد

عناية الله سبحانه بالعبد وهناك عناية، فربما فتح لك باب العمل وأغلق عليك باب القبول والعياذ بالله، وربما أتاك الله بالذنب لتتوب، فكان سبباً للوصول. فقد يأتي الخير من داخل الشر، والعبد لا يعلم خواتيم الأعمال كيف ستأتي، فلو افترضنا على سبيل المثال أن هناك رجلاً أميناً على خزينة في محل، ففي آخر اليوم يغلق الحساب ويقول: وجد في الخزينة في هذا اليوم سبعمائة جنيه، وصرف منها ثلاثمائة جنيه، فكان الباقي أربعمائة جنيه مثلاً، فيقيد ذلك عنده على أنه حساب يومي. وقد يجلس مع صاحب العمل بعد أسبوع، فيقول: جمعنا في هذا الأسبوع أربعة آلاف جنيه، وصرفنا ألفين وخمسمائة جنيه، وبقي لك في الخزينة ألف وخمسمائة جنيه. فالمسألة مسألة مقاصة، وحساب يومي، ومن ثم حساب أسبوعي، وهناك حساب شهري، وهناك حساب سنوي يسمى بالميزانية؛ ليعطي الضرائب نصيبها. ومن الأمور العجيبة أن المسلمين يسألون العلماء كيف يدفعون زكاة أموالهم، فإذا قيل لأحد المسلمين: عليك مثلاً ألف جنيه زكاة، يقول: اجعلها ألفاً ومائة جنيه، أو ألفاً ومائتي جنيه، فالمزكي يزكي ويزيد. ولكن إذا رأى الناس رجل الضرائب، أو مكتب محاسبة فإنهم يسألونه: كيف يتهرب أحدهم من الضرائب، ولكن لا يوجد أحد يحاول أن يتهرب من الزكاة بل تراه يدفع أكثر. إذاً: من واجب الحكومة أن تراجع الحسابات، فتقول: ما الذي جعل الناس يرغبون في الدفع أكثر في الزكاة والضرائب يحاولون التهرب منها؟ A لأن الناس يشعرون أن مال الزكاة يصل إلى مستحقيه، وأنه أمر من الله عز وجل، وأن زكاة المال إن زاد الواحد عن النصاب الذي كتب عليه إنما هو في ميزان حسناته، وأنه يثق أنه يوضع في مصارفه الطبيعية التي يرضاها رب العباد سبحانه. وأما في مسألة الضرائب فهو لا يشعر بالمسألة هذه. إذاً: فهذا هو الفرق بين قانون الله الذي ليس عليك رقيب فيه إلا يقينك وقلبك الناصع، وإيمانك الراسخ بالله، وبين قوانين الدنيا، فإنه لا يمكن لأحد أن يجعل على كل شخص مأمور ضرائب يقف فيحاسبه حساب الملكين. ففي قوانين الدنيا يستطيع الإنسان أن يتهرب، ولكن في قوانين الآخرة وبالإيمان يدفع الإنسان أكثر مما يطلب منه. إذاً: فالعبد في مسائل الآخرة يريد أن يقدم خيراً، وفي مسائل الدنيا يريد أن يتهرب منها؛ لأنه يخاف من الله، ومسألة الخوف من الله نوع من أنواع الحساب.

كيفية محاسبة النفس

كيفية محاسبة النفس لابد أن تحاسب نفسك في أمور خمسة: الأمر الأول: أن تجلس كل ليلة قبل أن تنام عشر دقائق مع نفسك، فإن كان في رمضان فقبل المغرب بربع ساعة اغلق على نفسك الغرفة، أو اختل مع نفسك فترة وجيزة بعيداً عن الناس، وقل: كم سنين صليت من عمري؟ وقل مثلاً: أنا صليت حين كان عمري عشرين سنة، فإن كان كذلك بقي عليك ست سنين أو سبع منذ أن بلغت إلى أن بدأت في الصلاة، فما فاتتك من صلوات يجب أن تؤديها مع كل فرض فرضاً أو فرضين أو ثلاثة فروض، وذلك بأن تأتي قبل الفجر بساعة أو بساعتين وتقوم لله قيام الليل وتصلي يومين أو ثلاثة أو أربعة مما عليك، وإذا استطعت في عرض النهار أن تصلي مع كل ظهر ظهرين، ومع كل عصر عصرين، ومع كل مغرب مغربين فخير وبركة، وإذا لم تستطع فقد صليت ثلاثة أو أربعة أيام من التي عليك في قيام الليل، ثم بعد ذلك إن عشت سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً فقد قضيت ما عليك من صلوات. فإن أدركتك المنية قبل أن تقضي ما عليك من صلوات فكأنك صليت كل ما عليك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهكذا في أمر الصيام، وهكذا في أمر الحج، وهكذا في أمر ديون الناس وحقوقهم، وهذه هي محاسبة النفس على الفرائض والأركان. الأمر الثاني: محاسبة النفس على النوافل، يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فالسنن المؤكدة اثنتا عشرة ركعة: ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، غير الشفع والوتر، وأما الشفع والوتر فقد أوجبهما أبو حنيفة، والواجب يقترب من الفرضية. وقد يقول قائل: إن الفرائض والنوافل والشفع والوتر كلها قد تشغل من يصليها عن عمله وطلب رزقه؟ A إذا أحب الله عبداً بارك له في إيمانه، وفي يقينه وقناعته، وبارك له في وقته، ومن أبغضه الله أماته بعد أن ضيع حياته سدى، قال تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58]، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. إن المسلم قد يختم القرآن ست مرات في رمضان، فإن قلت له: في غير رمضان؟ يقول: سأختمه في عشرة أيام في كل يوم ثلاثة أجزاء، هذا هو تفاعلي مع كتاب الله عز وجل. قيل لـ أحمد بن حنبل: ما أفضل الأعمال؟ قال: قراءة القرآن، قيل: بفهم أو بغير فهم؟ قيل: بفهم وبغير فهم، كما وضح الحبيب صلى الله عليه وسلم: (كل حرف في القرآن بعشر حسنات، لا أقول: (الم) حرف، وإنما ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). إن القرآن سيدخل معنا في القبور، وسيأتي الملكان لمحاسبة كل شخص، فيأتيانه من جهة العين فتقول العين: دعني؛ إن صاحبي كان ينظر بي في كتاب الله. فيأتيان للسان فيقول: كان صاحبي ذاكراً للقرآن يريد الله رب العالمين، فيأتيان من ناحية الأذن فتقول: لقد كان مستمعاً بي لآيات كتاب الله. فيأتيان من ناحية القلب فيقول: كان يعي كلام الله. فيقال: لقن الحجة، وحاج القرآن عن العبد، فصار حجة له لا حجة عليه. اللهم اجعله لنا في الدنيا دستوراً، وفي القبر منيراً، وعلى الصراط مؤنساً، وإلى الجنة صاحباً وصديقاً يا رب العالمين! الأمر الثالث من مسألة الحساب: مسألة حقوق الناس، فإن كان لأحد عندي شيء رددته له، فإن لم يكن عندي مقدرة أطلب منه السماح، وإن اغتبته أقول له: يا أخي! اغتبتك فسامحني. ونحن في رمضان في الأيام الأخيرة أطلب منكم السماح، والذي ذكر أخاه بسوء، أو تكلم على أخيه بكلمة قبيحة، أو فهم موقفاً من المواقف خطأً فاغتاب أخاه غيبة فهو في حل منها، ويسامح بعضنا بعضاً. ولنبدأ صفحة جديدة وبقلوب مضيئة مشرقة منيرة بكلام الله وذكره، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين! الأمر الرابع في مسألة الحساب: ماذا قدمت للإسلام؟ هل قدمت ولداً صالحاً يحفظ القرآن؟ فإن لم أستطع أن أحفظ حفظت ابني، كذلك هل الأم قدمت بنتاً صالحة للإسلام؟ هل قدمت العون للمسلمين؟ هل جمعت المسلمين ولم أفرقهم؟ وهكذا يكون سؤالك لنفسك كل يوم. إذاً: مسألة الحساب إما مسألة الجناية منك وإما مسألة العناية من ربك، والله عز وجل هو الحنان المنان الذي يعتني بك دون أن تسأل، فأنت في بطن أمك من كان يعتني بك؟ وبعد أن تخرج للحياة يا أخي المسلم؟ فإن عنايته بك باقية إلى أن يأخذك عنده مرة أخرى. إذاً: مسألة المحاسبة درجة من درجات الهداية لابد أن ندركها وأن نتعلمها. وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المراقبة

المراقبة درجة المراقبة من أعلى درجات الإيمان، فبها يسمو العبد، وترقى النفس، ويصفو القلب، ويستيقظ الضمير، وصاحبها حيي خائف مشفق وجل من الله عز وجل، وهي عنوان النجاة عند الله يوم القيامة؛ إذ إنها تبعث على التقوى والعمل الصالح، وتجنب كل ما يغضب الله جل جلاله.

المراقبة من مراتب الهداية

المراقبة من مراتب الهداية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فمن مراتب الهداية: مراقبة الخالق، ومراقبة الجوارح، ومراقبة الأعمال. ومراقبة الخالق هي درجة الإحسان، وهي أعلى درجة في الإيمان، فهناك درجة الإسلام، وأعلى منه الإيمان، وأعلى منه الإحسان، وهو: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فهذه درجة الإحسان، وهي أول درجة من درجات المراقبة، ولو كانت هذه الدرجة موجودة عندنا في العالم الإسلامي لما عصى أحد ربه؛ لأنه يرى أن الله مطلع عليه.

حياء الصحابة رضي الله عنهم ومراقبتهم لله تعالى

حياء الصحابة رضي الله عنهم ومراقبتهم لله تعالى يقال: إن الصديق رضي الله عنه كان إذا جلس في الحجرة وحده لا يتخفف من ثيابه كلها، فسألته أمه: لم يا أبا بكر؟! قال: لأني أرى ربي ينظر إلي. فكان يستحي. وسيدنا عثمان رضي الله عنه عاش سنة مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمدحه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (والله لقد عاش سنة معي ما سمعت خشخشة مائه في الطست)، يعني: أن سيدنا عثمان كان إذا أراد الاغتسال أو الوضوء لا يتوضأ في الغرفة، بل يذهب إلى البقيع ليغتسل أو يتوضأ؛ حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد دخل أبو بكر رضي الله عنه والرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ وركبته مكشوفة، ودخل عمر رضي الله عنه، فلما دخل عثمان رضي الله عنه غطى الرسول صلى الله عليه وسلم ركبته، فقالوا: لم صنعت هذا عندما دخل عثمان يا رسول الله؟! قال: (ألا أستحي من رجل تستحي منه ملائكة السماء). تنبيه: يقول العلماء: ليس هناك داع لأن نقول: سيدنا محمد في الصلاة، ولا بأس أن نقول ذلك خارج الصلاة فهو سيدنا صلى الله عليه وسلم، وأما داخل الصلاة فلا سيد مع الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وصلوا كما رأيتموني أصلي)، وكان يقول في التشهد: (اللهم صل على محمد)، فلنصل كما كان يصلي عليه الصلاة والسلام.

نصيحة الحسين رضي الله عنه للعاصي

نصيحة الحسين رضي الله عنه للعاصي إن مسألة المراقبة مسألة مهمة، فهذا سيدنا الحسين رضي الله عنه جاءه رجل وقال له: كلما أتوب أرجع، يعني: أتوب من الغيبة ثم أرجع، وأتوب من النميمة ثم أرجع، وأتوب من أكل الحرام ثم أرجع، وكلنا مثل هذا الرجل. فقال له سيدنا الحسين رضي الله عنه: عليك بخمسة أشياء: إن أردت أن تعصي الله فاعصه في مكان لا يراك فيه. قال: كل مكان يراني فيه. وأحد الشباب ذهب إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال له: أذنبت ذنباً، قال له: (أما علمت أن الله قد كان يراك، قال: أوقد كان يراني؟ أوقد كان يراني؟ أوقد كان يراني؟ ثم خرجت روحه. فغسله الرسول صلى الله عليه وسلم بيديه، وكفنه وصلى عليه ولحده في قبره، وقال: اللهم إني أمسيت عنه راضياً اللهم فارض عنه. قال ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب ذلك القبر). فهذا شديد الخوف من الله. ولو أن صاحب قصر جاء بمن يعمل له في القصر عملاً وذهب هو، فانقسم العمال ثلاثة أقسام: قسم ذهب ونام، لأن صاحب الشغل ليس موجوداً، والقسم الثاني: كانوا يشتغلون قليلاً وينامون قليلاً، والقسم الثالث قالوا: نحن نحلل القرش الذي نأخذه، ونعمل الذي علينا لإرضاء الله، ثم في ساعة الحساب اكتشفوا أن صاحب القصر لم يمش وإنما كان مختبئاً في غرفة في الداخل ينظر إليهم، فكيف سيكون حال الذي لم يشتغل؟ ولله المثل الأعلى، فربنا أنزلنا إلى الأرض للعمل، وأخبرنا أنه مطلع علينا ومراقب لنا في كل وقت. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على أمتي يمر الرجل بقبر أخيه فيقول: يا ليتني كنت مكانه) أي: ولم أنظر إلى هذه البلايا، مثل: ولد يطرد أمه، أو ابن يأخذ أباه إلى دار المسنين. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الابتلاءات كلها، وألا تكون بليتنا أو مصيبتنا في الدين، آمين يا رب العالمين! قال الحسين: فإن أنت لم تعمل هذه فإن أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله. وهذا مثل الأب الذي يقول لابنه: كيف أصرف عليك وأتعب أنا وأمك من أجلك ثم تعصينا! فما بالك بالذي يغذيك الحياة كلها؟! ثم قال: والثالثة: إن أردت أن تعصي الله فاعصه في ملك غير ملكه. فعيب عليك أن تعصيه في داخل ملكه، فكن مؤدباً، ونحن ضيوف على الله في أرضه، فلابد أن نعمرها كما أراد، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]. وتعمير الأرض يكون بطاعة الله، وتخريبها بمعصيته. فقال: هذه شديدة جداً، قال له: الرابعة: إذا أردت أن تعصي وجاءك ملك الموت فقل له: أخرني حتى أتوب. أي: لماذا أنت مستعجل علي؟ انتظر قليلاً حتى أتوب. وسيدنا موسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دخل بيته فوجد فيها رجلاً غريباً، فما كان من موسى عليه السلام إلا أن لطم الرجل على وجهه ففقأ عينه، فالرجل اختفى، فعلم موسى أن الزائر ليس من بني آدم وإنما هو ملك الموت، فلبث قليلاً ثم عاد فقال: من؟ قال: ملك الموت، فجلس موسى عليه السلام على الأرض، ولقاء الله ليس سهلاً يا إخواني! ولكن الناس فقط نائمة. وفي رواية مسلم: أن ملك الموت قال: (يا رب! أرسلتني إلى رجل يكره الموت)، وفي رواية الترمذي: (قال موسى: يا رب! هل رأيت حبيباً يسيء إلى حبيبه؟ قال: يا موسى! وأنت هل رأيت حبيباً يكره لقاء حبيبه؟ يا ملك الموت! مر موسى أن يضع يده على جلد الثور، وبعدد الشعرات التي تحت يديه نعطيه عن كل شعرة سنة زيادة، قال موسى: ثم ماذا بعد؟ قال: الموت. قال: فخذني الآن إلى ربي). قال الحسين: إن أردت أن تعصي الله وأتى لك ملك الموت فقل له: انتظر، قال: لا ينفع هذا. قال: والخامسة: إن أردت أن تعصي الله فإذا وقفت بين يديه يوم القيامة وقال: عبدي لم عصيتني؟ فقل: أنا لم أعصك يا رب! قال له: أكون كذاباً في الدنيا وأكذب على الله في الآخرة؟! أشهد الله أني قد تبت إليه توبة خالصة نصوحاً.

الغربة

الغربة من أعظم ما يقاسيه المتمسكون بهدي الإسلام ونهجه غربتهم في مجتمعاتهم وبيئاتهم التي تتنكر لالتزامهم واستقامتهم، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك حائلاً دون استمرار المرء في الاستقامة والطاعة، بل لا بد أن يزيده ذلك ثباتاً ويقيناً أنه على الحق.

وضوح الحلال والحرام

وضوح الحلال والحرام الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين. وبعد: فإن غربة المؤمن تكون في مسكنه وفي أسرته وفي عائلته وفي وطنه ثم في دنياه، فلا تجد إنساناً يحاول أن يشق طريق الهداية إلا وتجده غريباً عمن حوله، لا بد أن لك لحظات تترك فيها الزحام من حولك، تترك العائلة، والأسرة، والناس، والعمل، والزوجة، والأولاد، والأقارب، وتجلس فيها صادقاً مع نفسك قبل أن تنام كل يوم، وإذا لم يكن كل يوم فليكن كل أسبوع كيوم الجمعة مثلاً، وإلا تذهب حياتك في غمرة الزحام. وحين تجلس مع نفسك ينبغي أن تسأل نفسك سؤالاً واحداً: أين أنا من طريق الله؟ يمكنني أن أضحك عليك، وأنت تضحك علي، ويضحك بعضنا على بعض، لكن لا يستطيع أحد أن يضحك على الله. وأيضاً لا يستطيع الإنسان أن يضحك حتى على فطرته، وقلنا من قبل: إن الحلال والحرام لا يحتاج إلى سؤال، أي: أن الأمر لا يحتاج إلى عالم تسأله: هل الموضوع هذا حلال، أم أنه حرام؟ بل ما دام أنه تلجلج في صدرك فهذا دليل على أنه ليس حلالاً فلم السؤال؟ فمدلول الكلمة العربية نفسها يدل على ذلك، فأنت عندما تقول: حلال، تجد الفم مفتوحاً أثناء النطق بها، فلا أحد يستطيع أن يقول: حلال وفمه مغلق! كما أنك عندما تقول: حرام، تجد أن فمك مغلقاً، ولا أحد يستطيع أن يقول حرام وفمه مفتوح. إذاً: فالحلال في النور، والحرام في الظلام، فأنت تعمل الحلال أمام الناس جميعاً، ومن الممارسات اليومية التي تدل على ذلك أنك حين تذهب لموظف الخزنة لتطلب مستحقاتك تطرق الباب بكل جرأة وشجاعة، وتسأله مستحقاتك بصوت جريء مسموع، لكن لو أن الموظف يأخذ الرشوة فسيتحرى خلو المكان، والتحدث بهدوء، ويحرص على ألا يشعر به أحد؛ إذ الحرام لا يستطيع أن يمارسه العبد أمام الناس، وهكذا في كل شيء، فكل ما تلجلج في صدرك عرفت حرمته ولم تحتج إلى سؤال. فالمرأة مثلاً لا يمكن أن تسأل وتقول: زوجي مرتبه حلال فهل هذا الأكل الذي يأتي به حلال أم حرام؟ لكن لا يبعد أن تسأل: لو أخذت من مال زوجي من وراء ظهره هل ما آخذه حلال أم حرام؟ فهي إذاً بدأت تتساءل عن الشيء غير الطبيعي، وهو يصدق فيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرام ما تلجلج في صدرك، وخشيت أن يطلع الناس عليه)، فالإنسان عندما يعيد حساباته وهو في طريق الهداية يجد أنه غريب في المجتمع.

غربة الزوجة في بيتها وبيئتها

غربة الزوجة في بيتها وبيئتها الذي يؤرقني ويزعجني أمران: فإن الرجل عندما يكون مهتدياً وزوجته بعيدة عن الهداية لا تكون المشكلة كما لو أن المرأة هي التي اهتدت والرجل هو البعيد عن الهداية، كما أن هذه أهون مما لو كان الولد هو الذي اهتدى إلى الطريق المستقيم والأب والأم بعيدان عن الهداية. أما الموقف الأول: وهو غربة الزوجة في بيتها مع زوجها، فإنها عندما تعرف وتتذوق طعم الهداية فالرجل يصبح مثل المجنون، فلا تراه إلا شاكياً: ما هذا، كل لحظة حرام حلال، وتقوم تصلي الليل، وأستأذنك غداً أصوم الإثنين، وأستأذنك غداً أصوم الخميس، فيبدأ يعمل القيود والأوامر ليضيق عليها، فهذه نوع من الغربة الشديدة. وهناك نوع آخر من الغربة يعيشه الشباب، فإني أعرف شاباً عمره قرابة العشرين أو خمس وعشرين سنة، يأتي أبوه بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً ويغلق الباب ويأخذ المفتاح ليضعه تحت الوسادة؛ لكي لا ينزل الابن ليصلي الفجر في المسجد! فكيف ترى أمر هذا الشاب المستقيم على طريق الله، الذي لا يبعد أن الله يرحم هذه الأسرة من أجله، لكن المصيبة والطامة أن هذا الابن لو سهر في النادي إلى الساعة الواحدة، وأكمل سهرته على القهوة، يقول أبوه: لا إشكال لدي طالما أن ابني بعيد عن أصحاب المسجد والملتزمين! وكم من آباء وأمهات يبكون ويشكون مر الشكوى، يتمنى الواحد منهم لو أن ابنه يترك شتمه وأذاه. ولذلك أقول: إن الغربة التي يشعر بها المؤمن سواء المستقيم في العائلة، أو المستقيم في المجتمع غربة ليست هينة، فإذا ذهبت أنت وزوجتك عند أقربائها للزيارة فيدخل ابن عمها: كيف حالك يا زينب؟ فتجيبه: أهلاً وسهلاً، فيمد يده ليصافح، فإذا امتنعت عن المصافحة لا تسمع إلا عبارات اللوم والتوبيخ: يبدو أنها انحرفت، وزوجها يشعر بالاستحياء والخجل؛ لأن زوجته أصبحت إرهابية عندما لا تصافح. فالرجل يشعر أنه خطأ، رغم أنه سعيد أن امرأته لا تسلم، وأن امرأته أصبحت -بما يشبه- قطاعاً خاصاً وملكاً خاصاً له لا يلمسه أحد، فرغم قناعته بسلامة طريقة زوجته في التعامل مع الناس لكنه يستحي من صنيعها، فيقول لها: لا إشكال فهو ابن عمك، فتقول: عيب يا أستاذ! هو أجنبي، نعم هو في الفقه أجنبي. فالأجنبي هو الذي يجوز له أن يتزوجها، يقول لك: يا أستاذ! عيب هذا في سن والدها، ف Q هل ينفع أن يتزوجها أم لا ينفع؟ يقول لك: يا أستاذ! كيف يتزوجها مادام هي زوجتي؟! و A ماذا لو طلقتها أنت هذا اليوم هل يصح لهذا أن يتزوجها؟ فيجيبك: نعم، يصح. إذاً: فلا يجوز أن تسلم عليه. ولك أن تنظر إلى السخرية التي تنال الموظفة كل صباح في المكتب لو تركت السلام، وأغرب من ذلك عندما تتحجب الموظفة، وطبعاً هي لا تتحجب الحجاب الكامل، فهي مثلاً: ترتدي شراباً شفافاً، وتضع منديلاً على رأسها لتخفي شعرها، ظناً منها أن شعرها هذا هو المصيبة، لكن نحرها ورجليها إذا انكشفت فلا إشكال عندها، ومع ذلك لا تسلم من اللوم والتعنيف والسخرية: هل تحجبتي؟! فتقول: الحمد لله، وحين يسأل الشيخ عن حجابها يقول لك: هذا ليس حجاباً، فتشعر أنها في حالة من الغربة شديدة. والكارثة أنها حين تبتدئ متدرجة نحو الحجاب الصحيح حيث يصبح المنديل طرحة، والطرحة تصبح خماراً، تفاجأ بمن يقول لها: ما دمت تحجبت فإن زوجك سيتزوج عليك!! ولا ندري ما علاقة الحجاب بأن زوجها سيتزوج عليها؟ وحتى لو تزوج ما علاقة هذه بهذه؟! فتجد التعليلات السخيفة: لو تحجبت سينظر زوجك إلى الخارج. سبحان الله! هل قيل لها تحجبي على زوجك، أم تحجبي على الغريب؟! بل قد يقول بعض الأزواج السذج مثل هذا الكلام. سبحان الله! وهذا يدل على أن هذا الزوج ينظر إلى الخارج تحجبت أم لم تتحجب! فما علاقة أن المرأة تتحجب؟! والإسلام عندما شرع الحجاب هل اعتبر أن المرأة جالسة خارج البيت أربعاً وعشرين ساعة أو جالسة ساعة كل أسبوع في الخارج للضرورة؟! الحالة الثانية بالطبع، بمعنى: أن المرأة لا تخرج إلا للضرورة، وإن كانت تعمل فهي تعمل للضرورة، وإن كانت تخرج فهي تخرج مضطرة، إذاً فأكثر وقت المرأة في البيت، فهي قاعدة في البيت لا محتجبة. والشيطان يأتي ويقول لها: لو تحجبتي فإن شعرك الناعم سيتساقط وتصبحين بلا شعر، فتخاف، وقد تحجم عن الحجاب إن كانت ضعيفة، ومنهم النساء التي بلغت ثمانين سنة أو ما يقاربها قد أبيض شعرها فتقول: اصبغوه لي بالأسود، ومع أن هناك صبغة غير الأسود، فإن من الحماقة فعل ذلك؛ إذ كيف لا يوجد أسنان وهناك شعر أسود!! كما أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه أبو قحافة والد سيدنا أبي بكر وهو في الثمانين من عمره، وقد أبيض شعر رأسه وشعر لحيته، قال: (غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد). ليس أضنى لفؤادي من عجوز تتصابا وعليم يتغابى وجهول يملئ الأرض سؤالاً وجواباً وقال آخر يصف عجوزاً ذهبت إلى العطار تريد الزينة: ذهبت إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر فمن الحمق والغباء أن يطلب إعادة العمر إلى الوراء، إذ لكل سن رونق وجمال ووصف لا يشاركه غيره. فالرجل العجوز تكبر معه امرأته، فليست متوقفة وهو الذي يكبر! فسن المرأة يكبر، فيكون الرجل عمره سبعون سنة وزوجته عمرها ستون أو خمسة وستون، وتكون مناسبة له، وأما التي يكون عمرها عشرين سنة فليست مناسبة له، وهذا أمر طبيعي أن السن له جمال في مكانه، وكل سن له وضعه، وفي الحديث: (حتى إذا بلغ العبد الستين قال الله للملائكة: أحسنوا إلى أسيري في الأرض، فإذا بلغ السبعين قال: تجاوزوا لعبدي عن سيئاته -أي: لو أخطأ خطأ لا تحاسبوه عليه-، فإذا بلغ الثمانين قال: عبدي شاب شعرك، واحدودب ظهرك، ووهن عظمك، فاستحي مني فإني أستحي أن أعذبك)، فكبير السن يستحي الله منه وهو غير مستح من نفسه، سبحان الله!

الغربة أمر محمود

الغربة أمر محمود والمراد: أن الغربة التي يحياها المؤمن أمر طبيعي أخبر عن فضله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يكثرون عندما يقل الناس)، وليس المراد أنهم يكثرون عدداً، وإنما يكثرون هداية عندما يقل إقبال الناس على الهداية. فأنت إذا شعرت بغربة في بيتك، أو في عائلتك، فاعلم أنك على الحق طالما أنت تأخذ من الكتاب والسنة، وطالما أنت لا تعمل خطأ، بل تعمل ما أمرك به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأخبرك العلماء به عنه، فثق أن هذه الغربة التي تحياها أمر طبيعي، فأمر الغربة مرتبة من مراتب الهداية. اللهم اجعلنا من الغرباء، وأحينا وأمتنا على كلمة التوحيد يا رب العالمين. اللهم أبعد عنا شياطين الإنس والجن يا رب العالمين، واجعل اللهم جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، واجعل أول يومنا هذا صلاحاً، وأوسطه نجاحاً، وآخره فلاحاً، ولا تدع لنا فيه ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً لأهله إلا وقد رددته. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

صفات أهل الغربة

صفات أهل الغربة إن أمة الإسلام تعيش في غربة عامة، وهناك غربة خاصة، وهناك غربة أخص منها، فينبغي لكل مسلم أن يسعى إلى دفع هذه الغربة بالوسائل الشرعية، وأعظم هذه الوسائل والعوامل التي تدفع الغربة عدم التنازع فيما بيننا، ونبذ الفرقة والاختلاف، والاجتماع على الكتاب والسنة.

أقسام الغربة

أقسام الغربة

الغربة العامة وصفة أهلها

الغربة العامة وصفة أهلها الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أوضح الحجة، وأتم المحجة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كفر الكافرون. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون! إننا نعيش عصر الغربة الذي أخبرنا به الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم عندما قال: (إن هذا الدين سوف يعود غريباً كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله! قال: المستمسكون بسنتي عند فساد أمتي). من هم أهل الغربة؟ من هي الفرقة الناجية التي حدثنا عنها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وصحابتي). فالغربة ثلاثة أقسام: غربة عامة، وغربة خاصة، وغربة أخص. فالغربة العامة: هي التي يحياها المسلمون في العالم اليوم. والغربة الخاصة: هي التي تحياها الفرقة الناجية التي تحدث عنها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. والغربة الأخص: هي غربة الفرقة المنصورة التي وعدها رب العباد سبحانه وتعالى بالتمكين في الأرض، وبالنصر على العدو. ما صفات هذه الغربة العامة؟ وما صفات الغربة الخاصة؟ وما خصائص الفرقة المنصورة؟ وما هي أخلاقيات جيل النصر الذي نتوخاه في شبابنا، وفي نسائنا، وفي كبارنا وصغارنا، بعد أن رمانا أعداؤنا عن قوس واحدة من خارج دول الإسلام ومن تلاميذهم في داخل دول الإسلام؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، بعز عزيز أو بذل ذليل، اللهم انصر دينك يا رب العالمين. هذه غربة عامة يحياها المسلمون في العالم اليوم، فقد اجتمع العدو الحاقد الذكي مع بعض الأغبياء من المتمسلمين في جعل الإسلام غريباً على هذا المجتمع، والمجتمع العالمي الذي يريد أن يصف نفسه بالحرية والإخاء، والنزعة الإنسانية العالمية، والشرعية الدولية. إننا نحيا غرباء في هذا العالم، فقد أخذوا الفتات المتساقط من حول موائدنا عبر التاريخ وأنشئوا به حضارات، ثم بعد ذلك امتصوا دماءنا، وأخذوا خيراتنا، واستعمروا بلادنا الإسلامية، وكانت بلادنا كلها من الهند شرقاً إلى الأندلس غرباً عبارة عن أماكن للمصانع والمنتجات الأوروبية فالغربية، المواد الخام تؤخذ من بلادنا لتصنع هناك وليعاد بيعها مرة أخرى لنا بالملايين، وبعد أن كنا دائنين صرنا مدينين، وبعد أن كنا أقوياء صرنا ضعفاء. فلقد تداعت الأمم علينا كما نبأنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (سوف تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب عدوكم لكم، وتصابون بالوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الحياة وكراهية الموت). حتى إن كل إنسان منا يقول: أنا أريد أن أربي عيالي وأنفق على أسرتي، فلا أريد مشاكل، وأنا أصلي في مسجد قريب؛ لكي لا تأتي إلي مشكلة، وعندئذ أصبنا بالوهن؛ لأننا أحببنا أن نخلد في الحياة الدنيا كهذا الذي أخلد إلى الأرض، وترك آيات ربه، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176]. اللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، القائلين الحق ولا يخافون فيك يا رب العالمين لومة لائم، إنك على ما تشاء قدير. هذه غربة عامة نحياها كمسلمين، وينظر العالم اليوم إلى عالمنا الإسلامي على أنه العالم الثالث، يعني: العالم الأخير، لأنه ليس هناك عالم رابع، فنحن في ذيل قائمة الأمم، وفي المقابل نحن في أول الأمم الفقيرة المتنافرة المتناحرة على كراسي الحكم، وعلى أمور ما أقرها كتاب الله، ولا أقرتها سنة الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم.

عوامل دفع الغربة عن الأمة المحمدية

عوامل دفع الغربة عن الأمة المحمدية إننا نستطيع أن ندفع غربتنا العامة هذه وأن نردها، وألا نعتبر أنفسنا غرباء، ويجب علينا كمسلمين أن نحمل راية قيادة العالم كله، فنحن أهل التوحيد، ونحن أصحاب الدين الذي أراده الله للعالمين ديناً، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. ومَن مِن أفراد العالم، ومن أمم العالم، ومن حضارات العالم على مر التاريخ أولى برفع الراية وأخذ زمام المبادرة، وقيادة العالم إلى رب العالم سبحانه وتعالى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! هذه الأمة التي كانت تعيش شتاتاً في جزيرة العرب، فجاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فوحدها تحت راية التوحيد، وقادها إلى النصر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ما شعر المسلمون الأول من الصحابة والتابعين بغربة، وإنما الذين يشعرون بغربة هم الذين تناحروا وتنافسوا على الحكم، والذين بعدوا عن رب العباد سبحانه، والذين تركوا التوراة والإنجيل وألقوها خلف ظهورهم من قبل، فما كان أولى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقيادة زمام العالم، وما كان أولى من سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن تكون نبراساً لهذا العالم. إن دفع هذه الغربة يقتضي خمسة أمور: الأمر الأول: ألا يتنازع بعضنا مع بعض، قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. الأمر الثاني: أن نكون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، ونحن مازلنا أعزة -للأسف- على المؤمنين، وأذلة على الكافرين والعياذ بالله رب العالمين، فنتهم كثيراً من دول الإسلام الموحدة أنها هي التي تصدر لنا الإرهاب وغيره، ونمالئ دولاً أخرى وهم الإرهابيون الحقيقيون. الأمر الثالث: أن يحمل كل واحد من المسلمين الذكور والإناث الصغار والكبار هم الإسلام، فإذا كان لك من الأبناء ثلاثة فاعتبرهم أربعة؛ لأن الإسلام هو ابنك الأول، وإذا كان لك من الأبناء خمسة فاعتبرهم ستة؛ لأن الإسلام أولى بالرعاية، فلا بقاء لنا في العالم إلا بإسلامنا؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم أن تسلم مفاتيح بيت المقدس: كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله. وقالها ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما سأله قائد الفرس: ما الذي جاء بكم وأخرجكم من أرض الجزيرة؟ قال: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأن نخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. هكذا دفعوا الغربة؛ لأنهم صاروا على قلب رجل واحد، وسمعوا كلام الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]. وسمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة فاقتلوه) هكذا أمرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم أن نكون على قلب رجل واحد. الأمر الرابع الذي ندفع به غربتنا: أن تكون دولنا عادلة مع نفسها، عادلة بين حكامها ومحكوميها، بين رؤسائها ومرءوسيها، بين ملوكها ومملوكيها، عندها يتحقق العدل، وتزول الغربة، ولقد صدق شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه حين قال: إن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة، ويهزم الدولة المسلمة الظالمة. هذه حقيقة واقعية، فالله عز وجل لا يحابي أحداً، وهذه سنة الله في خلقه، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]. يجب أن نكون منصفين مع أنفسنا، يجب أن يكون الواحد منا منصفاً مع نفسه، وأن يقتص من نفسه، وأن يكون إنساناً عادلاً مع نفسه وغيره، لا يبحث عن حقوقه فحسب، بل يبحث عن واجباته، بذلك نستطيع أن ندفع الغربة. أضيف أمراً آخر ندفع به غربتنا وهو: أن نتمسك بأعالي الأمور ونترك سفاسفها، ونتفوق في مجالات الحياة، فليتفوق الطالب في دراسته، وليتفوق المهندس في هندسته، وليتفوق الطبيب في طبه، وليتفوق الحرفي في حرفته، عندئذ نأخذ زمام المبادرة مرة أخرى. نحن أولى من اليابان، وأولى من جنوب شرق آسيا، وهونج كونج، وسنغافورة، وغيرها من عبدة التماثيل، فهؤلاء لما تمسكوا بالأسباب أعطاهم رب العباد سبحانه وتعالى الأسباب كلها. وديننا يأمر بالعمل، ويأمر بالإخلاص، ويأمر بالصدق، ويأمر بالعلم، ويأمر بعدم التفرق، فما بالنا نتفرق ولا نأخذ مأخذ الجد في العلم، ونرى طلابنا يركضون في المدارس والجامعات ولا يهتمون بالدروس، ونرى أساتذتنا لا يخلصون فيما يدرسون، ونرى أطباءنا جشعون فيما يأخذون، ونرى كثيراً من محامينا ينصبون على الموكلين، ونرى كثيراً من أصحاب المهن يستغلون مهنتهم في إذلال الناس، وأصحاب الجاه يستغلون جاههم في ما لا يحل لهم. إذاً: فلابد لنا إن أردنا أن ندفع غربتنا وأن نأخذ زمام المبادرة أن نعمل وأن نكد وأن نخلص، وأن نجتهد كل في مكانه، لا تحمل الأمر على العلماء، أو على الأمراء، أو على الحكام، نعم كل واحد سوف يحمل ما وكل إليه أمام رب العباد يوم القيامة، وفي الدنيا أيضاً، لكن أنت أخا الإسلام كن عملياً بأخذ زمام العمل الجاد، وبذلك ندفع الغربة العامة عن المسلمين.

غربة الفرقة الناجية وخصائصها

غربة الفرقة الناجية وخصائصها النوع الثاني من الغربة: غربة الخاصة، وهي غربة الفرقة الناجية. والفرقة الناجية لها خصائص منها: أنها فرقة موحدة لله حق التوحيد، وفرقة ليس بينها وبين الله واسطة، وفرقة تأخذ من الكتاب والسنة، وفرقة مستقيمة على طريق الله صابرة مصابرة، وفرقة تملأ بيوت الله عز وجل وتعمرها، وفرقة تريد نصر الإسلام، وفرقة تأخذ على عاتقها نبذ الخلافات والانحرافات والفسوق والعصيان، وفرقة تبعد نفسها عن البدع، وفرقة لا تطبق من الدين شيئاً وتترك شيئاً آخر، وإنما تأخذ الأمر كله؛ لأنها تعلم أن كل أمر بيده سبحانه وتعالى، وهي فرقة تنتهي عند نهي رب العباد سبحانه وتعالى، وفرقة تحمل هم الإسلام. هذه بعض خصائص الفرقة الناجية. وتشعر هذه الفرقة أنها غريبة في مجتمعها، فإذا رأيت زوجة قد أكرمها الله عز وجل بنقاب أو حجاب، عندئذٍ نرى أنها منبوذة في العائلة، وبالذات بعض العائلات التي تسمى بـ (الإتكيت) أو (الفيتي فايتي) أو المجتمعات التي قد طمست بصائرها، وصارت وراء الغرب حذو القذة بالقذة، حتى لو دخل الغرب جحر ضب لدخلوه خلفهم. فهؤلاء لو قال لهم رجال الأزياء في أوروبا: إن قميص الرجل يكون تثني ياقته هذا العام هكذا، فإذا بهذه الفرق في بلاد الإسلام تثني ياقة قميصها كما قال مصمم أو مبعوث الأزياء الفرنسي أو الأوروبي. وإذا قال لنسائهم: قصرن الفساتين، قصرت الفساتين، وإذا قال لبناتهم: البسن أسورة عليها صورة كذا، أو افعلن وشماً شكله كذا، لفعلن ما أمرن به. لكن لو قال الله أو قال الرسول صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: افعلوا كذا، أو لا تفعلوا كذا، لما فعلوا ما أمروا به، ولأعرضوا عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكأن هؤلاء لم يسمعوا قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وكأنهم لم يقرءوا قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. فهؤلاء ما فتحوا كتاب الله ليقرءوه، حتى وإن قرءوه فإنه لا يجاوز تراقيهم، فهم يفتحون فيقرءون عن الربا، ويقرءون عما حرم الله، وإذا بكل واحد منهم يريد أن يقنع نفسه بما لا يحل له، يريد أن يضعها في رقبة عالم ليخرج منها سالماً. لن تسلم يوم القيامة إلا إذا خلصت نفسك من هذه الانحرافات وهذا الهوى الذي يحكمك ويحكم عقلك وقلبك، يجب أن يكون هواك تبعاً لما جاء به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. دخل الرسول عليه الصلاة والسلام فرأى أبا بكر رضي الله عنه يقرأ ويصلي ويخفض صوته، ورأى عمر رضي الله عنه يقرأ فيرفع صوته، فقال: (يا أبا بكر! لم لا ترفع صوتك في الصلاة؟ قال: أسمعت من ناجيت يا رسول الله، ثم قال: وأنت يا عمر لم ترفع صوتك؟ قال: أوقظ الوسنان -أي: النائم-، وأطرد الشيطان). فاسمع ماذا قاله المربي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، قال: (يا أبا بكر! ارفع صوتك قليلاً، ويا عمر اخفض صوتك قليلاً) فالرسول صلى الله عليه وسلم حقق أمرين: الأمر الأول: العمل بما جاء في كتاب الله عز وجل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110]. الأمر الثاني: أنه جعل هواهما تبعاً لمراد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. يعني: أن الإنسان لا يصنع ديناً من عنده، فالدين قد أحكمه الحكيم عز وجل، وأنزله على قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ ليكون للعالمين بشيراً ونذيراً صلى الله عليه وسلم. إذاً: الفرقة الناجية هي فرقة غريبة في مجتمعها، تجد الأب يعيب على الولد الملتزم، وعمه يعيب عليه، وخاله يعيب عليه، وأخوه الأكبر يأمره بحلق اللحية، ويقول: لا داعي للصلاة في المسجد. يقول هؤلاء المتمسلمون: نعم، نحن نعرف أن هذا حق، وأن هذا واجب، وأن هذه سنة مؤكدة، وأن هذا كذا، وأن هذا كذا، لكن الظروف لا تسمح بالتزام ذلك، والدين بالعقل وليس بالتهور والتشدد، هكذا يقولون. فهؤلاء يريدون أن يحققوا البدعة، وأن يجنبوا السنة بعيداً، ولكني أقول: إن طائفة من أمة محمد ستظل قائمة على الحق، لا يضرها من خالفها حتى تقوم الساعة. اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.

عوامل دفع الفرقة الناجية للغربة عن مجتمع الإسلام

عوامل دفع الفرقة الناجية للغربة عن مجتمع الإسلام كيف ترد الفرقة الناجية غربتها في مجتمع الإسلام؟ أولاً: بأنها تظهر صورة الإسلام الحسنة، وذلك بنبذ العنف. ثانياً: المجادلة بالتي هي أحسن، وبالحكمة وبالموعظة الحسنة، يعني: أن يجادل الإنسان كما جادل الخليل إبراهيم عليه السلام أباه آزر، وكما جادل الأنبياء أتباعهم، بالحكمة والموعظة الحسنة، وكما جادل الدعاة الأول الذين يريدون أن يصل كلام الله عز وجل إلى أسماع من يجادلونهم. ثالثاً: أن تظهر أصول الإسلام، فأصول الإسلام كثيرة، منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أصول الإسلام: أن يسلم الناس من لسانك ويدك، وأن يسلم الناس منك على أعراضهم ودمائهم وأموالهم، وأن يعيش المجتمع في سلام، وأن يقبل كل واحد منا الحق غير متعتع، فلا بورك في أمة ضاع فيها حق الضعيف، وضاع فيها حق الإنسان الذي لا ناصر له إلا الله عز وجل. أيضاً من وسائل دفع غربة الفرقة الناجية في أرض الإسلام أو بين ذويهم من المسلمين: أن يعلم كل واحد منهم أن الناس ما بين مبتلىً ومعافىً، فليحمد الله على العافية، وليرحم أهل البلاء، وليعلم أن الذين يعيبون على التيار الإسلامي من علمانيين وشيوعيين وغيرهم أن هذا هو صراع الحق مع الباطل، وما علينا إلا أن ندافع عن ديننا، وأن نوضح أن ديننا إنما هو كتاب وسنة، عقيدة وشريعة، مصحف وسيف، هكذا فهمنا من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

غربة الفرقة والطائفة المنصورة

غربة الفرقة والطائفة المنصورة أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فالفرقة المنصورة، أو جيل النصر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بقوله: (عمل الواحد منهم كخمسين منكم، قالوا: بل منهم يا رسول الله! قال: بل منكم، إنكم تجدون على الخير أعواناً، وهم لا يجدون). كان أبو بكر يجد عمر معواناً له على الحق، وكان عمر يجد عثمان معواناً له على الحق، وعثمان يجد علياً، وعلي يجد سعداً، وسعد يجد عماراً، وعماراً يجد بلالاً، وبلال يجد ابن مسعود، كل يعين أخاه على الحق. أما نحن فإننا في زمن كل واحد يريد أن يعين الآخر على الباطل، يريد أن يوقفه عن الحق، يريد أن يكتم شهادة الحق، يريد أن يقول الزور، يريد أن يملأ قلبه هيبة من المخلوق لا من الخالق، يريد أن يبعده عن حقيقة الإسلام، يريد أن يبعده عن ما هو مخلوق له، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].

صفة الطائفة المنصورة

صفة الطائفة المنصورة إن الفرقة المنصورة يجب أن تتصف بصفات، أولاً: يجب أن نفرح عندما نرى المساجد قد اكتظت بالمصلين الموحدين، فهؤلاء المصلون هم أمان للأمة في كل مكان. اسمع إلى الحديث القدسي الذي يقول فيه رب العباد سبحانه فيما بلغه عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأهم بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى المتزاورين فيّ، والمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، وإلى عمار بيتي، رفعت عذابي عنهم). وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت فأصحابي أمنة لمن بعدي، فإذا ذهبوا صار كل مؤمن صادق الإيمان أمنة لمن حوله)، وكل مؤمن بفضل الله يستجلب رحمة الله عز وجل على المكان الذي يعيش فيه، فإذا اكتظت مساجدنا بالمصلين في رمضان، وبالدعاء في رمضان، واكتظت موائد الرحمن من المحسنين في الطرقات والشوارع، فإنا نفرح بذلك، وأهل الإحسان والحمد لله كثيرون في مصر وفي كل بلاد الإسلام. ثانياً: يجب أن نفرح بالذين يقومون على أمرنا ويقولون: إن شعوبنا لا تصلح إلا بالإسلام، وإن الرحمة لا تنزل إلا على الذين يتقون ربهم، ويخشونه بالغيب، ويخافون عذابه. ويجب أن نقول: إن نصر المسلمين، واستتباب الحكم في البلاد كلها لا يكون إلا بهذه الفرقة المنصورة الناجية التي استقامت على طريق الله، ونشرت دين الله عز وجل، وباعت نفسها ومالها وكل شيء لرب العالمين سبحانه، محققين قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين. فهذه فرقة استقامت على طريق أجدادها من الصحابة، فعندما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في خيبر خرج مرحب، وكان رجلاً فارساً شجاعاً مغواراً مقاتلاً شرساً، وقال: من يخرج إلي؟ فخرج إليه علي بن أبي طالب فأطاح برأس مرحب. ثم خرج ياسر أخو مرحب، وكان مقاتلاً شديداً من أشاوس المقاتلين في جزيرة العرب، فقال: من يقاتل؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لتقم يا زبير بن العوام، فقام الزبير فإذا بـ صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: يقتله يا بن أخي! يقتله يا محمد! يقتله يا رسول الله! قال: لا تخافي يا عمة إنما سيعينه الله عليه، فقتل الزبير أخا مرحب. وفي غزوة الخندق عبر عمرو بن عبد ود الخندق وكان رجلاً مقاتلاً شجاعاً، وقال: يا محمد! أخرج لي رجلاً كفؤاً يقاتلني، فقال علي: أنا له يا رسول الله! قال: يا علي اجلس إنه عمرو بن عبد ود، فقال: وأنا علي بن أبي طالب، فيقوم علي كرم الله وجهه، فقال عمرو: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، قال عمرو: يا بن أخي! والله لا أحب أن أقتلك، قال علي: ولكني يا عدو الله أحب أن أقتلك. فعندئذٍ استشاط الرجل غضباً وتحاورا وتقاتلا من بعد صلاة الظهر حتى أوشكت الشمس أن تغيب، وقبل غروب الشمس بلحظات إذا بـ علي يقطع رقبة عمرو بن عبد ود. ولقد صدق التاريخ في مقولته: إن القواد الشجعان والمقاتلين الشجعان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم استشهدوا في المعارك، والقواد الأشد شجاعة لم يرزقوا الشهادة في المعارك. فهذا خالد بن الوليد كان يتمنى أن يستشهد في معركة، فهو عندما أدركته المنية قال: لقد خضت أكثر من مائة معركة، وليس موضع شبر من جسدي إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. وفي فتح خيبر قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قم يا علي فخذ الراية) ففتح الله رب العالمين على المسلمين. يا إخوتاه! إن أجدادنا باعوا أنفسهم وأموالهم لله فما ضاعت عليهم أرض، بل في كل يوم تُضم أرض جديدة إلى الإسلام، وتدخل فرق جديدة في الإسلام، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً، أما نحن فقد صارت أراضينا تلتقط من كل جهة، فقد ضاعت الأندلس، وبعدها ضاعت فلسطين، وتوشك أن تضيع البوسنة والهرسك. اللهم أعد إلينا ديار الإسلام عزيزة قوية منيعة يا رب العالمين. إن الفرقة المنصورة فرقة يجب أن تتوكل على رب العباد سبحانه، فلا يضرها من ضل، والله عز وجل ناصرها. هكذا ندفع الغربة العامة التي نحياها، وكذلك ندفع الغربة الخاصة، وندفع الغربة الأخص؛ لنتبوأ مكاننا تحت الشمس مرة أخرى، ولنأخذ زمام المبادرة ونكون قواداً لهذه البشرية الضالة إلى رب العباد سبحانه وتعالى. يقول صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز، أو بذل ذليل). أيها الإخوة المسلمون! قد أكون شاقاً في خطبتي، ولكن الخطبة إن لم توقظ همم المسلمين وقلوبهم فلا خير فيها، وأحسب أنني أقولها صادقاً من قلبي إن شاء الله رب العالمين، لا أريد بها جزاءً ولا شكوراً إلا من رب العباد سبحانه. أقولها لأوقظ نياماً، وأوقظ الوسنانين الذين يظنون أن النصر يأتي بدون مجهود، وأن النصر يأتي ونحن نائمون على ظهورنا، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا ينامن أحدكم على ظهره فيقول: اللهم ارزقني، وهو يعلم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. إن الدعاء وحده لا يكفي، بل لابد من الاستقامة على طريق الله، وتحقيق أمر الله من الحاكم والمحكوم في بلاد الإسلام، حينها ينزل الله علينا رحمته، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. أيها الإخوة المسلمون! ليكن رمضان لنا وقفة يتوقف العبد فيه ليحاسب نفسه، ويسأل نفسه: ماذا قدم كل واحد منا لدينه دين الإسلام دين محمد صلى الله عليه وسلم؟ ماذا قدم لنصر شريعة الله عز وجل؟ كل في مكانه، عسى رب العباد أن يجلي الغمة، وأن ينصر الأمة، وأن يوضح لنا معالم الطريق، وأن يهدينا سواء السبيل. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت يا رب أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم ادفع غربتنا، اللهم ادفع غربتنا، اللهم ادفع غربتنا. اللهم آمن روعتنا، اللهم أطعمنا من جوع، واكسنا من عري، وآمنا من خوف، اللهم انصرنا بعد هزيمة، ووفقنا لما تحب وترضا، وأقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به الجنة، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأنصر إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم انصرهم نصراً عزيزاً مؤزراً. اللهم صن أعراض نسائنا في البوسنة والهرسك يا رب العالمين. اللهم عليك بالصرب وأعوانهم، زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم اهزمهم يا رب العالمين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، اللهم من أراد بالمسلمين سوءاً فاردد اللهم سوءه إليه. اللهم انصرنا وانصر بنا يا رب العالمين، وردنا إلى الإسلام رداً حسناً جميلاً، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك. وصلى الله على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم يا رب تسليماً كثيراً.

الابتلاء

الابتلاء إن الإنسان في هذه الدنيا معرض للابتلاء، سواء بالنعم أو بالمصائب، فالعبد المؤمن يصبر على هذا الابتلاء ويحمد ربه أنه لم يكن في دينه، وأن الله عز وجل إنما يبتليه ليرفعه يوم القيامة إن صبر، ولقد ابتلي الأنبياء والرسل فصبروا، فرفعهم الله عز وجل وأعلى شأنهم في الدنيا والآخرة، ولنا فيهم أسوة حسنة.

أقسام أهل الجنة حسب تقواهم

أقسام أهل الجنة حسب تقواهم

أهل الجنة بين عابد وزاهد وصديق

أهل الجنة بين عابد وزاهد وصديق أيها الأخ المسلم الكريم! أنت في هذه الدنيا إما في حالة نعمة أو في حالة بلية، وتحدثنا كثيراً عن هاتين الحالتين، ولكن ننظر إليهما في هذه الخطبة وفي هذه الدقائق المعدودة من زاوية أخرى، عسى رب العباد أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يتم علينا وعليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وأن يصبرنا على ما ابتلانا إن ربنا على ما يشاء قدير. أنت في الدنيا لست في دار تكريم، ولكن أنت في دار عناء وابتلاء واختبار، والبلاء كما قلنا من قبل: إما بلاء عام أو بلاء خاص، أو إن شئت فقل: بلاء مطلق أو بلاء مقيد، وهكذا أيضاً في النعم، فإما أن تكون النعمة مطلقة وإما أن تكون مقيدة ولنا مع كل حالة من هذه الحالات الأربع وقفة تختلف عن الأخرى. أيها الأخ المسلم الكريم! بينك وبين الجنة قنطرة تستطيع أن تعبرها بخطوتين: خطوة عن نفسك، وخطوة عن الناس. يعني: أن أهل الجنة في الدنيا أنواع ثلاثة: إما عابد، وإما زاهد، وإما صديق. فالعابد من يعبد الله مع العلائق، والزاهد من يعبد الله بدون علائق، والصديق من يعبد الله على الرضا، هذا كلام ربما يكون ثقيلاً على الأسماع وسوف أبينه إن شاء الله رب العالمين، فاللهم علمنا ما جهلنا، وذكرنا ما نسينا يا رب العالمين. فالدنيا جعلت مزرعة للآخرة، وأهل الآخرة الذين قال الله فيهم: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83] جعلت لأصناف ثلاثة: إما أن يكون عابداً. وإما أن يكون صديقاً وإما أن يكون زاهداً. فالعابد هو إنسان لا يرتكب الكبائر من الآثام والفواحش، ولكنه يتعرض لما يتعرض له البشر من اللمم ومن صغائر الذنوب، ولكنه يتوب أولاً بأول، فما بين الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والحج إلى الحج، كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر؛ لأن أفضل ما يعبد الله به قلة الذنوب، وأفضل شيء يدخل السرور والانشراح على قلبك أن تكون قليل الذنوب كثير الحسنات. اللهم اجعلنا قليلي الذنوب ومن التائبين عنها يا رب العالمين! فالإنسان العابد في الدنيا يأتمر بما أمر الله وينتهي عما نهى الله سبحانه، ثم هو بعد ذلك وقاف عند حدود الله، فهو يرى الله في كل خطوة وفي كل نظرة وفي كل كلمة وفي كل حركة وسكنة، فشغله الشاغل رضوان مولاه عز وجل.

مثل أقسام السائرين إلى الله

مثل أقسام السائرين إلى الله ولقد قسمنا من قبل السائرين في الطريق إلى الله إلى أقسام ثلاثة، وضربنا لكم مثلاً: برجل غني أو أمير أو رئيس أو وزير أو ملك جاء بعمال يصنعون له في بيته شيئاً، وبعد أن وزع الأعمال عليهم صباحاً تركهم فانقسم العمال ثلاثة أصناف: الصنف الأول قال: طالما أنني سوف آخذ أجراً فيجب أن أعمل بجد وإخلاص، سواء كان صاحب العمل يراني أو لا يراني، فهذا الصنف يعمل بجد من طلوع الشمس إلى مغيبها لا يكل ولا يستريح. الصنف الثاني: يعمل ساعة ويستريح ساعة؛ لأن صاحب العمل غير موجود. الصنف الثالث قال: إن صاحب العمل غير موجود ولا يراني فسوف أنام طوال النهار وأكسب صحتي وأوفر جهدي؛ لأن عندي عملاً بالليل سوف أقوم به في مكان آخر، وآخر اليوم سوف آخذ أجري، كالمدرس المهمل الذي يقول: لو نجح الفصل كله فمرتبي كما هو، ولو رسب الفصل كله فمرتبي كما هو، إذاً أنام فيرسب الفصل كله؛ لأنني لا أريد أن أتعب. في آخر النهار اكتشف العمال جميعاً وهم الأصناف الثلاثة أن صاحب البيت ناظر إليهم يراهم من فوهة وهم لا يرونه، فهو يراهم ويرى أعمالهم منذ صبيحة اليوم إلى مغرب الشمس، فمن عمل بجد فله أجره؛ لأن صاحب العمل كان يراه بعينه، والذي قصر بعض الساعات ندم وعض أصبع الندم، والذي نام طوال اليوم كان له الخسران والخزي، فلم يعطه صاحب العمل أجراً. ولله المثل الأعلى، فهو مالك الدنيا وخالقها، فالله سبحانه أوجدنا في الدنيا وقال: يا عبادي اتقون، يا عبادي انزلوا إلى الدنيا بعضكم لبعض عدو، أي: نحن والشيطان وسائر الشياطين أعداء بعضنا لبعض، سواء شياطين الإنس أو شياطين الجن. إذاً: العابدون يعبدون الله عز وجل على أن الله يراهم، وهم يعبدونه على درجة الإحسان، والإحسان هو: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فأنا في الدنيا يجب أن أعلم أن الله ناظر إلي من صبيحة اليوم إلى مغربها، وبالليل أيضاً يراني، لا يعزب عن الله مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يغفل رب العباد سبحانه فلا تأخذه سنة ولا نوم، قيوم السماوات والأرض، ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم. فالله عز وجل ناظر إلى عباده في الدنيا منذ أن أوجدوا فيها إلى أن يموتوا، وهذا العمر كنهار العامل تماماً، يعني: منذ أن بلغت الحلم وكلفت أيها الإنسان -رجلاً كنت أو امرأة- فالله عز وجل ناظر إليك يرى ماذا تصنع. فانقسمنا في أعمالنا لله ثلاثة أقسام كما انقسم العمال: قسم يعلم أن الله لا يغفل عنه؛ ولذلك هو يحب ربه، ويدعوه ليل نهار، ويعبده ليل نهار، ولا يغفل عن ذكره لحظة. هذه الطائفة الأولى عندما يأتي يوم القيامة سوف يكونون من الفائزين الناجحين، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين! القسم الثاني: من تأتيهم غفلة على مر الأيام والزمن ينامون عن العبادة، تجد الواحد منهم يقصر في صلاته وعبادته، ويغتاب هذا، ويتكلم في حق هذا، وينم في حق هذا، ويسيئ إلى هذا، ولكنه رغم ذلك يعمل بعض الحسنات، هذا ندمه يوم القيامة كثير. القسم الثالث: من ينكر الآخرة أو يمني نفسه بالأماني، قال بعض السلف: إن قوماً قد غرتهم الأماني يقولون: نحسن بالله الظن، فوالله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. وجاء في الحديث القدسي: (لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة).

من مواقف الصالحين من الدنيا

من مواقف الصالحين من الدنيا هذا سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث رضي الله عنه رزقه الله بخمسين ألف درهم فوزعها على إخوانه كلها، فتعجب الحاضرون وقالوا: يا إمام أتوزع عليهم خمسين ألف درهم، قال: عجباً إذا كنت في كل صلاة أطلب لهم الجنة أفلا أوزع عليهم شيئاً من حطام الدنيا؟! يعني: أن المسألة أكبر من هذا، فليست القضية قضية كلام، وإنما القضية قضية عمل، فأنا أطلب لهم عقب كل صلاة أن يرزقهم الله الجنة ويرضى عنهم، فكيف لا أعطيهم من حطام الدنيا؟! إذاً: عابد يعبد الله على العلائق، أي: على أمور متعلقة بالدنيا والغفلة التي تأتي. الدرجة الأعلى: الزاهد الذي يعبد الله على غير العلائق، أي: من استولى الله عز وجل على قلبه فلا يذكر إلا الله، ولا يكون مقصده إلا الله عز وجل، قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] هذه هي الدرجة العليا. أما الدرجة الأعلى من الجميع، فهي درجة الصديقية، والصديق هو الذي يعبد الله على الرضا، كما كان أبو بكر رضي الله عنه، اللهم لا تحرمنا مجاورة الصالحين في الجنة يا أرحم الراحمين. أعود إلى ما ابتدأت فيه من حديث: يا أخا الإسلام بينك وبين الجنة قنطرة وحاجز، وتستطيع أن تعبر هذه القنطرة بخطوتين: خطوة عن نفسك، وخطوة عن الناس.

كيف تخطو خطوة عن نفسك في قنطرة الجنة

كيف تخطو خطوة عن نفسك في قنطرة الجنة

الفرق بين الكبر والعزة

الفرق بين الكبر والعزة خطوة عن نفسك: أن تفرق بين الكبر وبين الكرامة والعزة، فلو آذاك أخوك فقلت: إن هذا شيء يخص كرامتي وأنا لن أذهب إليه ولن أصافحه ولن أعزيه ولن يجمعني وإياه مجلس واحد؛ لأنه أساء إلى كرامتي، نقول: أنت متكبر، رأينا كيف كان الصالحون رضي الله عنهم يصلح الواحد منهم أمره مع أخيه، قيل للحسين بن علي: ادخل فاصطلح مع أخيك الحسن؟ فتبسم الحسين وقال: الحسن أخي أكبر مني سناً ومقاماً، ولكني بلغني عن جدي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأخوان المتخاصمان أسرعهما صلحاً لأخيه أسرعهما دخولاً إلى الجنة) وأنا أتباطأ حتى يسرع أخي الحسن إلى الصلح معي فيدخل قبلي الجنة. هذه درجة وخطوة عن نفسك. وأبوهما رضي الله عنه لما أراد أن يجهز على عدوه ورفع السيف بصق الرجل في وجه علي فأغمد علي سيفه، فقيل له: لمَ لم تجهز عليه وأنت في معركة يا أمير المؤمنين؟ قال: رفعت السيف في أول مرة كي أضربه ابتغاء مرضات الله، فلما بصق على وجهي خشيت أن يكون قتلي له انتقاماً لنفسي، فأغمدت سيفي لكي لا أكون خاسراً يوم القيامة. كذلك من سلك خطوة عن نفسك، كما قال عمر رضي الله عنه وهو يسير مرة مع الصحابة وابنه عبد الله بجواره فقال: رأيتني مرات وأنا أرعى الإبل للخطاب في هذا المكان، وكان رجلاً فظاً غليظ القلب، وصرت اليوم وليس فوقي أحد إلا الله رب العالمين، قال ابنه: يا أبت ماذا قلت؟ لم تعجب الكلمة عبد الله بن عمر كأنما لمح لمحة كبر في أبيه رضي الله عنه وحاشا لأمير المؤمنين عمر أن يكون متكبراً، فقال: يا بني! استشرفت نفسي-أي: أرادت أن تتكبر- فأردت أن أضعها أمام أصحابي، أي: أذكرهم بماضيَّ الذي كنت فيه فقيراً أرعى الإبل لأبي وكان فظاً غليظ القلب، فصرت اليوم أميراً للمؤمنين. ولذلك لما عين سلمان الفارسي رضي الله عنه في زمن عمر حاكماً على بلاد فارس التي جاء منها ودخل إلى المدائن عاصمة كسرى سابقاً، دخل وعليه ثوب قصير، فقال له رجل من بلاد فارس: يا حمال! قال: نعم، قال: احمل حزمة الحطب هذه، فحمل سلمان رضي الله عنه حزمة الحطب، فلما رأى الصحابة وهم يستقبلون سلمان ويقولون: مرحباً بالأمير، مرحباً بالأمير، أسقط في يد الرجل، قال سلمان: لا عليك أخا الإسلام، أنت قلت: احمل يا حمال، فأنا حملت فصرت حمالاً، قال الرجل: ضعها لكي أحملها وتعفو عني، قال: والله لن أضعها إلا في المكان الذي تريد أن أوصلها إليك فيه، سبحان الله! هذه خطوة عن نفسك، فأنت إن أردت أن تصل إلى الجنة وتقطع القنطرة التي بينك وبين الجنة فعليك أن تخطو خطوة عن نفسك.

كيف تخطو خطوة عن الناس في قنطرة الجنة

كيف تخطو خطوة عن الناس في قنطرة الجنة الخطوة الأخرى هي: خطوة عن الناس: أي: الناس يخافون من الناس، والناس يضعون اعتبارات للناس أكبر من وضعهم الاعتبار والخوف والخشية لرب الناس سبحانه. ومن أسباب وموجبات عذاب القبر أن يخاف الإنسان من المخلوق ولا يخاف من الخالق، تجد مثلاً: بدعة ذكرى الأربعين والذكرى السنوية، يقول: أنا لو لم أصنع لأبي ذكرى الأربعين أو ذكرى السنوية فإن الناس سيعيبون علي، ويقولون: لقد بخل الرجل بعد موت أبيه، لقد خلف أبوه له تركة ضخمة وتكاسل عن صنع كذا أو كذا. فأنت تخاف من الناس، ولا تدري أن هذه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فليكن رائدك أخا الإسلام أن ترضي الله رب العالمين لا أن ترضي الناس، فمن أرضى الله بسخط الناس رضي عنه الله وأرضى له الناس، ومن أسخط الله برضا الناس سخط عليه الله وأسخط عليه الناس. نرى هذا الأمر جلياً في مسألة الأفراح: أنت تريد أن ترضي غرورك وترضي غرائزك، بل وترضي أحياناً أهلك وأقاربك، وتريد أن تصنع لابنتك عرساً وفرحاً لم يحدث من قبل في القاعة الفلانية بعدة آلاف من الجنيهات؛ لأن الناس سيقولون: إن ابنة عمتها وابن عمها وبنت خالتها فعلن أعراسهن في نفس هذا المكان، وبنفس التكاليف، فلا بد أن يصنع هذا الأمر لابنتي كما فعل لهؤلاء، وهو يعلم أنه كله حرام من ألفه إلى يائه؛ لأن من فعل ذلك فهو سفيه، والله عز وجل جعل السفيه مع أهل النار يوم القيامة والعياذ بالله، فلا تكن سفيهاً أخا الإسلام، وليكن رائدك أن ترضي الله رب العالمين، فإن أرضيت الله فقد قطعت خطوة بعيداً عن الناس، فصار منتهاك إلى رضوان الله سبحانه وتعالى.

النعم والبلايا مطلقة ومقيدة

النعم والبلايا مطلقة ومقيدة أخا الإسلام! تلك مقدمة للحديث عن النعمة والبلية. النعمة إما مطلقة وإما مقيدة. نعمة مطلقة قد لا نشعر بها، كنعمة الشمس التي نحن فيها أو الضوء، فهذه نعمة عامة لا يشعر بها غير المؤمن؛ لأن المؤمن يشعر بكل نعمة، ويستشعر فضل الله عز وجل. لو حجبت الشمس عاماً عن الأرض لمات أهل الأرض جميعاً من شدة البرد، سبحان الله! حتى في حرارة الصيف كم تقتل حرارة الشمس من ميكروبات وجراثيم؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. ينبغي أن نشكر الله على نعمة الشمس، لكن كونها نعمة يشاركه فيها غيره فتجد العبد لا يرى النعمة إلا إذا كان متملكاً لها للأسف الشديد، لكن المؤمن يرى النعمة المطلقة ويرى النعمة المقيدة، النعم المطلقة مثل: نعمة الهواء، فهي نعمة لا تساويها نعمة، هذه نعم مطلقة يشاركنا فيها الناس يجب أن نشكر الله عليها ونحمد الله رب العالمين. أما النعم المقيدة فمثل: نعمة الإيمان في الدنيا، هذه نعمة مقيدة لك، والنعمة المطلقة في الآخرة هي الخلود في جنة الرضوان، اللهم اجعلنا من الخالدين في جنات النعيم يا رب العالمين. هناك من النعم المقيدة في الدنيا من تكون نعمة من وجه وبلية من وجه آخر، فالمال نعمة، لكن عندما يميل بك هذا المال عن الحق يصير بلية، عندما تنفق هذا المال في غير مرضاة الله يصير بلية، وعندما تستخدم مالك في إغضابك لرب العباد وفي الابتعاد عن خطه وصراطه المستقيم يصير بلية، لكن المال إذا استخدمته في مرضاة الله وأنفقته فيما يرضي الله عز وجل يصير نعمة، فالمال نعمة من وجه وبلية من وجه. كذلك الولد نعمة وبلية، إن كان الولد طائعاً وربيته على طاعة الله عز وجل، وربيته على الكتاب والسنة، وربيته على حب المسلمين وحب الضعفاء والمساكين، وحب رسول الله وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صار الولد عندئذ نعمة، أما إذا كان الولد مخنثاً أو البنت تخرج عارية إلى الطريق، ومعنى عارية أن ممن يحمل شهادة الدكتوراه تكون له بنت في الجامعة أو في الثانوية، وتكون قد بلغت أكثر من خمس عشرة سنة، وبلغت سن من تستطيع إذا تزوجت أن تلد، فإذا بهذه البنت تخرج ببنطلون مما يسمونه البنطلون الضيق الذي يفسر ساقها ورجلها، نقول: هذه عارية تماماً لم يبق إلا أن يرى الرائي منظر اللحم إن كانت البشرة سوداء أو بيضاء البشرة، لكن هو رأى جسدها واضحاً، وهذه بلية؛ لأن الله عز وجل سلب من والد هذه البنت إيمانه وسلب منه الغيرة والرجولة، وسلب منه دماء العروبة، وصار خنزيراً لا يتحرك إذا انتهكت حرمة من حرمات الله، بل إنه يشارك والعياذ بالله في أن يغري عيون الشباب الجائع إلى النظر إلى ما حرم الله. أخا الإسلام! اتق الله رب العالمين؛ لكي يكون أبناؤك نعمة عليك لا بلية، اللهم اجعل أبناءنا نعمة لنا لا بلية علينا يا رب العالمين! إذاً: فالبلية إما مطلقة أو مقيدة، والبلية المطلقة مثل: الكفر في الدنيا، فهذه بلية مطلقة، والخلود في النار في الآخرة بلية مطلقة. أما الابتلاءات المقيدة فمثل: الجوع والخوف والمرض والفقر، ولكن الله عز وجل يريد بعبده دائماً خيراً.

رؤية نعمة الله في الابتلاء بخمسة أمور

رؤية نعمة الله في الابتلاء بخمسة أمور إن العبد المؤمن إذا ابتلاه الله رب العالمين يحمد الله، إذا مرضت، إذا افتقرت، إذا أقلت من منصبك، إذا حدثت لك ضائقة سواء في المال، أو سوء أدب من زوجة أو من ولد أو من جار أو من رئيس في العمل، أو ابتليت ابتلاء عاماً من إنسان مسئول لا يتقي الله رب العالمين فيك، فاحمد الله في هذه البلية على أمور خمسة:

الأول: أن البلية ليست في الدين

الأول: أن البلية ليست في الدين الأول: أن هذه البلية ليست في دينك، جاء في الحديث: (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا) يجب أن يكون دعاؤك هكذا ليل نهار، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا، فطالما أن المصيبة بعيدة عن الدين فاحمد الله رب العالمين. لكن لو كانت لك زوجة تطيعك بحيث إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك وعرضك، ثم إذا بها صارت لا تصلي والعياذ بالله، وخلعت حجابها، وصارت إنسانة بذيئة اللسان، صارت ناشزة فهذه بلية في الدين والعياذ بالله رب العالمين، فاحمد الله رب العالمين في البلية التي تحصل أنها لم تكن في الدين، هذا هو الأمر الأول. فنحمد الله أن جميع ابتلاءاتنا ليست في الدين. كذلك إذا رأيت إنساناً له ابن عاق، فاعلم أن هذا ابتلاء في الدين، وإذا رأيت إنساناً كان يصلي وأصبح لا يصلي هذا ابتلاء في الدين، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، اللهم أجرنا من غضبك يا رب العالمين.

الثاني: أن البلية لم تكن أكبر مما حدث

الثاني: أن البلية لم تكن أكبر مما حدث الأمر الثاني: احمد الله رب العالمين أن البلية ليست أكبر من ذلك: ربما تصاب بمرض في بدنك، فصارت يدك لا تتحرك، أو أن قدمك لا تخطو، أو أن عينك بدأت تفقد القدرة على الإبصار، فاعلم أن الله ابتلاك في الوقت الذي يريده هو لمصلحتك أنت؛ لأنه ربما يفقد الواحد منا نعمة المشي؛ لأن الله يعلم في سابق علمه أن لو ظلت هذه النعمة معك لاستخدمت قدميك في غضبه عز وجل؛ لأنك سوف تذهب بهما إلى مكان لا يحبه الله رب العالمين، فيمقتك الله مع من يمقت، فاحمد الله رب العالمين أن رزقك نعمة فقد القدرة على المشي. كذلك نعمة العقل، قد يذهب الله نعمة العقل، تعال إلى العلمانيين في مصر الذين يقولون مثلاً: إن الحجاب حرية شخصية، هذا إنسان علماني يريد أن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فهو يؤمن أن الصلاة مفروضة، والزكاة مفروضة، والمساجد يجب أن تعمر بالمصلين، لكن أن يحكم المسلمون بشرع الله، لا، أن تحجب المسلمات، لا، فهذا المرء يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض. فهؤلاء العلمانيون في مصر أكثرهم من المثقفين وأكثرهم ممن يقرءون ويكتبون كثيراً؛ لكنهم يستخدمون عقولهم فيما يغضب الله سبحانه، فهؤلاء عندما يأتون يوم القيامة يتمنى الواحد منهم أن لو كان مجنوناً في الدنيا لا عقل له؛ لكي لا يحاسب على نعمة العقل يوم القيامة؛ لأنه استخدم عقله في إغضاب الله رب العالمين. إذاً: الله عز وجل عندما يبتلي عبداً ببلية معينة فإنما يختار له خيراً، فاحمد الله رب العالمين في البلية أنها ليست في الدين، واحمد الله رب العالمين أنها ليست أكبر من ذلك، فإذا فقدت حركة اليد فاحمد الله رب العالمين أن لك يداً أخرى تتحرك، وإذا فقدت حركة اليدين فاحمد الله على حركة الرجلين، إذا فقدت حركة الجسد كله وأصبحت لا تستطيع الحراك فاحمد الله أن لك قلباً شاكراً ولساناً يذكر الله رب العالمين ويوحده.

الثالث: أن الله رزقك الصبر والدعاء

الثالث: أن الله رزقك الصبر والدعاء الأمر الثالث: احمد الله في البلية أنه رزقك أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها، أو وأعقبني خيراً منها: قالت أم سلمة: عندما مات أبو سلمة أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول هذا الدعاء، فقلت: وهل هناك خير من أبي سلمة يا رسول الله؟! فقال: اسمعي لله ولرسوله يا أم سلمة، قولي: سمعنا وأطعنا، فدعت أم سلمة هذا الدعاء: اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها، فلما انقضت عدتها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يخلفها رب العباد خيراً؟ فأنت في كل مصيبة تدعو الله هذا الدعاء: اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها، فما من عبد دعا بهذا الدعاء إلا وأعطاه الله الاثنين: أخلفه خيراً، وآجره في مصيبته.

الرابع: أنها اختيار الله لك

الرابع: أنها اختيار الله لك الأمر الرابع: أن الله عز وجل اختار لك خيراً: يخرج قوم من قبورهم يوم القيامة إلى أبواب الجنات يوقفهم رضوان: إلى أين تذهبون؟ كيف تدخلون الجنة وأنتم لم ينشر لكم ديوان ولم ينصب لكم ميزان؟ قالوا: يا رضوان نحن لا نقف لنصب ميزان ولا لنشر ديوان، يا رضوان أوما قرأت القرآن؟ يقول: وما في القرآن؟ يقولون: نحن أهل الصبر: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، قال: كيف كان صبركم؟ قالوا: نحن كنا إذا أسيء إلينا غفرنا، وإذا جهل علينا حلمنا، وإذا ابتلينا صبرنا، وإذا أعطينا شكرنا، قال: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. فهؤلاء يوفون أجرهم بغير حساب؛ ولذلك رأينا كثيراً من الصالحين عندما يبتلى بالبلية كان يقول: مرحباً بشعار الصالحين. وهذه قضية عجيبة وهي: أن امرأة تزوجت رجلاً صالحاً فيما حسبته، وعاشت معه ستة أشهر، فقالت له: أتحبني؟ قال لها: بلى أحبك، قالت له: وإن طلبت منك شيئاً نفذته؟ قال لها: نعم، قالت له: أريد أن تطلقني، فعجب الرجل، لم؟ أأسأت عشرتك؟ قالت: كلا، قال: أبخلت عليك؟ قالت: كلا، فأخذها وذهب بها إلى بيت أبيها وفي الطريق عثرت رجل الرجل في حجر فانكسرت ساقه، فحمل إلى البيت، فعادت معه، فبعد أن وضعت رجله في الجبيرة، قال لها: عندما أشفى بإذن الله وأستطيع الحراك والتحرك على قدمي سوف أذهب بك إلى أبيك لأقضي لك ما تريدينه من طلاق، قالت: كلا، أنا لا أطلب الطلاق، وإنما عشت معك ستة أشهر فما رأيتك قد ابتليت ابتلاء من الله فخشيت أن تكون بعيداً عن الله عز وجل، فلما جاء الابتلاء علمت أنك قريب من الله رب العالمين، فسوف أعيش معك ولا أطلب الطلاق مرة أخرى. هذا مقياس الصالحات والصالحين، إن مر عليك شهر أو أربعون يوماً - كما قال لنا الصالحون - ولم تأتك مصيبة فأعد حسابك مع الله رب العالمين.

الخامس: أنها قدر من الله

الخامس: أنها قدر من الله الأمر الخامس: اعلم أن البلية قدر وقضاء من الله عز وجل، وأن الله يريد أن يضعك في زاوية معينة من القرب منه، ولكن عملك لا يرقى إلى هذه الدرجة، عندئذ يبتليك رب العباد ببلية معينة ليرفعك عنده درجات ودرجات، إن في الجنة درجات لا يبلغها إلا الذين ابتلاهم رب العباد سبحانه وتعالى. اللهم اجعلنا من الشاكرين عند النعمة، ومن الصابرين عند البلية، إنك يا ربنا على ما تشاء قدير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

واجب العبد المؤمن تجاه القضاء المبرم والقضاء المعلق

واجب العبد المؤمن تجاه القضاء المبرم والقضاء المعلق أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: أخا الإسلام، الله عز وجل يريد بنا ومنا قضاء وقدراً، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا! معنى هذا الكلام: أن الله عز وجل أراد منا عملاً وأراد بنا قضاء وقدراً، فما أراده بنا وهو القضاء والقدر طواه عنا فلم يظهره لأحد، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول. ثم أراد منا عملاً، أراد منا تكليفات شرعية، فلماذا نشتغل نحن بما أراده بنا من قضاء وقدر عما أراده منا من عمل؟! يجب أن نشتغل بما أراده منا وما طلبه منا من تكليفات وأوامر. القضاء من الله عز وجل قضاء مبرم، وقضاء معلق، القضاء المبرم كالموت، فلان سيموت في الساعة الفلانية في الدقيقة الفلانية في الثانية الفلانية، في المكان الفلاني، بالطريقة الفلانية، لا يتقدم الإنسان خطوة إلى الأمام ولا يتأخر خطوة إلى الخلف، لا يتأخر ثانية ولا يتقدم ثانية، لا يبعد عن المكان الذي قدر له أن يموت فيه. إذاً: يجب أن يعترف الإنسان ويوقن ويؤمن بقضية القضاء والقدر، هذا هو القضاء المبرم. وإني لأعجب من كثير من المسلمين عندما يدعون لبعض المسلمين بطول العمر، دعت السيدة رملة أم حبيبة زوج رسول صلى الله عليه وسلم: فقالت: (اللهم زد في عمر زوجي رسول الله، وعمر أبي أبا سفيان وعمر أخي معاوية فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أم حبيبة لقد سألت الله أعماراً محدودة، وأنفاساً معدودة، وآجالاً مكتوبة، ألا قولي: اللهم إنا نسألك البركة في العمر)، ندعو الله عز وجل بالبركة في العمر وليس بطول العمر؛ لأن طول العمر وقصره إنما هو بيد من يقول للشيء: كن فيكون، لمالك الملك والملكوت فقط، لا يطيل العمر إلا شيء واحد ألا وهو بر الوالدين، ولا يعلم ملك الموت بهذا الأمر حتى يهبط في الساعة الفلانية ليقبض روح هذا العبد فيقول الله لملك الموت: يا ملك الموت، لا تصنع؛ إنه بار بأبيه وأمه وليس أحد لأبيه وأمه في الدنيا إلا هو، فجعلته سبباً لخدمة أبيه وأمه، لقد أعطيته كذا سنة علاوة من الله رب العالمين. هذه مسألة لا نقاش فيها، لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا بر الوالدين، اللهم اجعلنا بررة بآبائنا أحياءً وأمواتاً يا رب العالمين. الأمر الثاني في القضاء: هو القضاء المعلق، كأن يقضي الله عز وجل بمرض إنسان أو بفقره، ولكن العبد يدعو كما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه). قد ييئس مريض من مرضه، فمثلاً: نرى في أوروبا كيف ينتحر المرضى، يقيمون هناك مؤتمرات يقولون فيها: هل يصح أن نقتل المريض الميئوس من شفائه أم لا نقتله. لم يصلوا إلى حل إلى الآن، لكننا نقول: طالما العبد مؤمناً وموقناً بقضاء الله عز وجل وأنه كلما ازداد مرضه ازداد قربه إلى الله رب العالمين، وكلما عجز الطب والأطباء اقترب قلب العبد المؤمن من الطبيب الشافي المعافي سبحانه وتعالى. يا رب أليس الشفاء من عندك؟ قال: نعم يا موسى، قال: فماذا يصنع الأطباء؟ قال: يأخذون أرزاقهم ويطيبون نفوس عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي. إنما الشافي هو الله رب العالمين، لا شافي للأمراض إلا الله، ولا مفرج للكرب إلا الله، ولا كاشف للغم إلا الله، ولا شارح للصدر إلا الله، ولا موفق للخيرات إلا الله، فوحدوا رب العباد توحيداً صادقاً، واذكروه ليل نهار، وتوكلوا عليه حق التوكل، يرزقنا رب العباد عقيدة صافية صادقة، ونية صادقة نقية. فاللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، سامحنا وتقبل منا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت يا رب أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اشف كل مريض، واهد كل ضال، وتب على كل عاص، ووفق كل مسلم لما تحب وترضى. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب تسليماً كثيراً. بسم الله الرحمن الرحيم. {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].

حسن الخاتمة

حسن الخاتمة إن من أعظم نعم الله على العبد أن يوفقه لحسن الخاتمة، فالأعمال بالخواتيم، فكم من إنسان عمل الخير سنين عديدة ثم انتكس وتوفي على الشر، فعلى الإنسان أن يدعو ربه أن يرزقه حسن الختام. وللخاتمة الحسنة أسباب كثيرة منها: المداومة على الخير، وتجديد التوبة باستمرار، والحذر من مكر الله، والخوف منه سبحانه، والصدق في عبادته جل في علاه.

أثر العلم في حسن الخاتمة وقبحها

أثر العلم في حسن الخاتمة وقبحها أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد لعل من حسن الطالع وحسن الأمر أن يكون حديثنا في الوعد الحق في هذا الشهر الكريم ونحن في العشر الأواخر، وهذه كلها مبشرات، فرمضان بالنسبة للشهور الباقية من السنة كيوسف بالنسبة لإخوته الأحد عشر، فإذا كانت الشهور الأحد عشر هي إخوة يوسف فرمضان هو يوسف لأنه كان أسيراً عند أبيه يعقوب -ولله المثل الأعلى- فرمضان أسير عند خالقنا وأسير عند المسلمين. ويعقوب لم يرتد إليه بصره لما رأى قمصان أبنائه الأحد عشر، وإنما ارتد إليه بصره لما شم قميص يوسف، ولما وجد ريح قميصه قال: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف:94] فالقلب يشم ريح التوبة وعبير الاستقامة وعبير حسن الخاتمة في هذه الأيام الطيبة مع ريح رمضان ومع قميص رمضان ومع جلباب رمضان. وموضوع حسن الخاتمة نبحث عنه كلنا، ويجب أن نبحث عنه كلنا، وأنت لما تزرع شجرة عنب لا تظن أنك تجني منها الشوك، فكذلك لا تظن أنك تظلم الناس ثم تموت بحسن خاتمة، ولا تظن أنك تفتري على الناس، وتحقر من شأنهم، وتتكبر عليهم، وتتألى عليهم، أو تصيّر نفسك من طينة أو من عجينة غير الطينة والعجينة التي خلق منها الناس، وتظن أن هناك حسن خاتمة تنتظرك! والرسول صلى الله عليه وسلم هيأه تفوقه أن يكون واحداً فوق الجميع، فعاش بتواضعه واحداً بين الجميع، وهكذا يجب أن نكون، أي: يجب أن يكون الشخص محمدي النزعة، محمدي السلوك، محمدي التصرف. وحسن الخاتمة له محاور وأسباب، وقد يتعجب الإنسان ويقول: هل لي دخل في موضوع حسن الخاتمة؟ فهو شيء مقدر لا دخل لي فيه. فهذا ما يقوله البعض، ولكن نحن طالما نبحث وندقق ونفهم ديننا حق الفهم، فنقول: الأمر كما قال جعفر الصادق: أراد بنا وأراد منا، أراد الله بنا قضاءً وقدراً، وأراد منا عملاً، فما أراده بنا -القضاء والقدر- واراه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا. فبهذا تتضح الصورة. فأنا مسير في أمر لا أحاسب عليه، ومخير في كل أمر أحاسب عليه، قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. وهل سوء الخاتمة للإنسان دخل فيه؟ نعم، هي من فعل العبد، وله كل الدخل في حسنها أو قبحها، فحسن الخاتمة من صنع الإنسان وفعله؛ لأنه كما يزرع فسوف يحصد. أما كونه كتب عليه رزقه وأجله وشقي أم سعيد، فهذا الشقاء وتلك السعادة في علم الله؛ لأنه لا يقع في كون الله إلا ما يعلم رب العباد، وهو العليم الخبير، ولكن لم يكتب على الكافر كفراً، وإنما الكافر هو الذي كتب ذلك على نفسه بعمله. وأما قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فالمعنى: أن من شاء من البشر أن يهتدي هداه الله، ومن شاء الضلالة فليمدد له الرحمان مدا، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] إذاً فالهداية بدايتها من العبد، ومن يطرق الباب يفتح له. ومن هذا قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فإنهم طرقوا باب الهداية، وأناخوا رواحلهم على باب الله ففُتح لهم، وباب الله ليس عليه باب ولا بواب، أي: أن باب الله دائماً مفتوح لا يغلق، وكلمة باب تعني له رتاج، فهذا هو تعريف الباب، ولكن باب الله باب مجازي، فلا باب ولا بواب، يعني: لا يوجد ملك يقف على الباب ويقول: يدخل فلان أو لا يدخل، وليس هناك دعوة تصعد في الثانية ليلاً فيقال لها: ارجعي الملائكة الآن نائمون! وأما قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21]، فالمراد: ننزله بقدر لكن ليس من الباب، وإنما لعلم الله أن هذا يصلح في هذا الوقت لا في هذا الوقت، وبهذه الطريقة وليس بهذه الطريقة، وبهذه الكمية لا بهذه الكمية.

أهمية وجود دواعي الهداية عند العبد

أهمية وجود دواعي الهداية عند العبد عندما يشاء الله للعبد الهداية إنما ذلك بعد أن توجد دواعيها؛ لأن رب العباد أنزل الشرع وعلمه إيانا رسوله صلى الله عليه وسلم، وتركنا على المحجة البيضاء، وبالعامية: (هذه سكة السلامة وهذه سكة الندامة)، فبين طريق الهداية من طريق الغواية، ونؤكد أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر قد قاله لـ أبي جهل، ولم يزد لـ أبي بكر ساعة زيادة، أي: لم يختص أبا بكر بساعة، أي: لم يقل له: تعال نعطيك درساً خصوصياً في الهداية، وكذلك لم يقل لـ علي بن أبي طالب تعال لنتكلم معك في الهداية ليل نهار، ولا نتكلم مع عمك أبي لهب إلا دقيقتين! فكما أوصل المعلومة لـ علي أوصلها لـ أبي لهب، وكما أوصلها لـ أبي بكر أوصلها لـ أبي جهل، فما الذي حدث؟ سعى أبو بكر فطرق ففُتح له فدخل، بينما أبو جهل أعرض وولى فأخذ ثمن إعراضه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على هدايته، فكان يقول: (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك) أي: عمرو بن هشام الذي هو أبو جهل، أو بـ عمر بن الخطاب، فلما بشر خباب بهذا الدعاء بدأ بـ عمرو بن هشام؛ لأنه أحد صناديد قريش، وبهدايته يهتدي كثير. وقد أمضى الرسول صلى الله عليه وسلم وقتاً طويلاً معهم؛ طلباً لهدايتهم، حتى قال الله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:5 - 6]. ولما وكل الأنصار إلى إيمانهم يوم حنين قال لهم: (لو شئتم لقلتم: جئت مكذباً فصدقناك، وعائلاً فأغنيناك، ولو قلتم لصدقتم وصدقتم، أما ترضون أن يعود الناس بالأسلاب والغنائم وتعودون أنتم برسول الله؟ قالوا: رضينا رضينا، وبكى القوم وابتلت لحاهم). فالهداية أولاً من العبد؛ لأنها لو كانت مقصورة على أناس محددين فقط، لكنت عند أن تقول: يا فلان! لماذا لا تصلي؟ لقال لك: عندما يهديني الله، وإن قلت: يا فلانة! لماذا لا تتحجبين؟ لقالت: عندما يهديني الله، وإن قلت: يا فلان! لماذا لا تتوب من الربا فسيقول: عندما يهديني الله، وهكذا. أو قد يقول: ادع لنا! وبدلاً من أن ندعو الله له فليسلك هو الخطوات، كالمدخن مثلاً، إن قلت له: لماذا تدخن؟ فيقول: يا شيخ ادع لنا! فأقول: والله دعائي أحد أمرين: إما أن يستجاب أو لا يستجاب، لكن إقلاعك أنت عن التدخين هذه هي الحقيقة الكائنة. ونحن الآن قد عكسنا الدالة الحسابية، أي: يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] ونحن قلنا: أوجد المخرج ثم أتق الله عز وجل. فازرع شجرة التقوى يأتيك المخرج، ويثمر مخرجك، ولا تسأل عن المخرج وأنت لم تزرع. والعبد هنا يريد أن يمتحن الله والله لا يمتحن، بل الله يمتحن عباده، لا أن يمتحن العباد ربهم، فلا ينبغي أن يقال: أوجد لي مخرجاً حتى أتقي، وفي قصص بني إسرائيل قال إبليس لعيسى: هل أنت روح الله؟ قال: نعم. قال: فإذا كنت تحب الله فألق نفسك من فوق هذا الجبل، ولننظر كيف ينقذك رب العباد! قال: يا لعين! الله الذي يمتحن عباده، وليس للعبد أن يمتحن ربه. فلا نقلب الموازين، ولا نجرب مع الله، فالله لا يجرب معه. فلنكثر من العمل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون رفيقاً لك في الجنة، فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود) أي: صل واستقم وأنا أشفع لك، وهذا كما تقول لابنك: يا بني! مدير المدرسة أو رئيس الجامعة يعرفني، أو الأساتذة زملائي فإياك أن تفضحني أمامهم، ذاكر بجد حتى إذا كلمتهم أكون رافعاً رأسي، فيقولون: ما شاء الله ابنك خطه جميل، وإجابته جميلة، وهو منمق ومهذب، وسلوكه متميز؛ فيعطونك الدرجة، لا لأن أبيك من ضمن الفريق فيجاملونك لأجله. حتى لجنة الرأفة نفس القضية، أي: لو أتينا للشفاعة لشخص أتى بثمانية وأربعين في المائة، وبقيت عليه درجتان لينجح، فهذا فيه شفاعة، أما شخص أتى بصفر في المائة، فهذا ليس له شفاعة! إذاً: فالحاصل أن حسن الخاتمة وسوءها مبني على سابقة الأعمال.

أسباب حسن الخاتمة

أسباب حسن الخاتمة

الصدق

الصدق ونتحدث الآن عن كيفية المحاولة لتحسين الخاتمة. أول عنصر من عناصر حسن الخاتمة: الصدق مع الله عز وجل، وأول شيء في الصدق مع الله: صدق النية وتجريدها. أي: يجب أن أصدق النية أولاً في أي عمل أقدم عليه، فإن قلت: سأذهب لزيارة فلان لوجه الله، وربما أجد عنده فلاناً فهو دائماً يزوره، وأنا لي مصلحة معينة عنده، فحينها لا يوجد صدق نية. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. أي: ولا تنس نصيبك من الدنيا في زراعة الآخرة فيها، فالدنيا لا تنفصل عن الآخرة، وإنما هذا عند الغرب، أما عندنا فالدنيا مصنع ومزرعة، وفي الآخرة جني الثمرات، فلابد من صدق النية في العمل. أما مقولة: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً) فهي مقولة خائبة لم يقل بها أحد، وليست حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تذكر حتى في (الموضوعات) لـ ابن الجوزي. وهذه المقولة تسبب هزة في اليقين، وتوحي لك كأنك تعيش أبداً وأنت لن تعيش أبداً، وبالتالي فهذه الحكمة باطلة من أولها، ولم يقل هذا رسول الله ولا أحد من الصالحين، وهذه انتشرت بين الناس كانتشار النار في الهشيم. إذاً: فصدق النية أمر هام، وقد تحدثنا عن الإمام مالك أنه جاءه أبو جعفر فقال له: يا إمام! وطئ لنا كتاباً -يعني: ذلل وسهل- وتجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، وغرائب ابن مسعود، وذلك أن عبد الله بن عباس كان يعتمد على التيسير، وابن عمر يعتمد على التشديد، وابن مسعود يأتي بالغرائب التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعها أحد، فالناس يتعجبون منه ويقولون: من أين أتيت بهذا الكلام؟! وغرائبه مشهورة. فكتب كتابه الموطأ في الفقه، وهو أول كتاب، ويعتبر مرجعاً فقهياً عظيماً، وكان الإمام مالك إذا حدث يقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: حديث كذا، في الفقه أو في الحديث، فيدخل ويغتسل ويتطيب ويسرح لحيته ويلبس ثوباً أبيض، ويخرج على الناس قائلاً: نحن نحدث عن رسول الله، بلغني عن فلان، حدثني فلان عن فلان عن فلان عن صاحب هذا القبر الشريف، ويضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فلما كتب الكتاب قال له أبو جعفر نطبع منه، أي: نعمل منه نسخاً ونوزع في الأمصار، فقال مالك: لا، لا أدري مدى صدقي فيه، أي: أريد صدق النية فقط، قيل: وكيف نعرف نيتك؟ قال: ضعوه على سقف الكعبة سنة، فإن وجدتموه كاملاً فهذا دليل على صدق نيتي، وإن محيت منه كلمة أو سطر أو حرف فصدقي فيه نظر، فجاءوا بعد سنة فوجدوه كاملاً كما هو، فقال: صدقت نيتي فيه يا أمير المؤمنين.

تجديد النية

تجديد النية لابد من صدق النية ثم تجديدها، فكيف أجدد النية؟ لقد وضع لي ربي صلوات بين الحين والآخر، ففي الساعة الخامسة صباحاً آتي إلى المسجد، وكذا الساعة الثانية عشرة، ثم الساعة الثالثة أيضاً، ثم الساعة السادسة كذلك، ثم الساعة الثامنة، هذا كله لكي أجد لنفسي فرصة فأبحث ماذا عملت بين كل وقتين، فإذا اغتبت فلاناً فإني أستغفر الله أولاً بأول، وأعزم أن أتصل به الآن وأستسمحه، وأتأمل ماذا عملت أيضاً فأستغفر الله وأنزع. وهكذا يكون حالي بين كل وقتين من أوقات الصلاة، فلابد أن يقف أحدنا كل ثلاث أو أربع ساعات مع نفسه، هذا أمر لابد منه. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن نهراً يجري بباب أحدكم يغتسل فيه خمس مرات في اليوم، هل يبقي ذلك من درنه شيئاً؟ قالوا: لا، قال: هكذا الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن). إذاً: فيجب أن نصدق في تجديد النية أولاً بأول، وقد كان لنا علماء يكتبون سيئاتهم في ورق، ويجلس أحدهم يستغفر الله منها في الليل، فليست كتابة للإحصاء فقط، حتى رأى أحدهم من يقول له في منامه: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]. فـ (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)، حتى الملائكة عندما يأتون لمحاسبة العبد الصالح يقولون: (قد كفانا مؤنته، وحاسب نفسه قبل أن نحاسبه). فلابد من المحاولة للسير في درب الصادقين مع الله سبحانه وتعالى وتجديد النية؛ لأن النية تضعف كل فترة، فتحتاج للتجديد بصورة مستمرة، فأسأل نفسي: لماذا أفعل كذا أو كذا؟ فمثلاً: عند أن أخرج للعمل يومياً ماذا أريد؟ هل أفعل ذلك حتى أحصل على راتب قوي جميل أعيش به عيشة هنية، ثم أستمتع بالحياة؟ لا، وإنما أجدد نية العمل بأنني أعين على حركة دولاب الحياة، أي: حركة سير الحياة؛ لأنني كمسلم مكلف أن أعين الحياة على أن تسير. وهنالك من المسلمين من هو أبسط من هذا، أي: يأخذ الحياة ببساطة شديدة، وهي بسيطة ولكن نحن عقدناها، فنحن وجدنا في الحياة لنعيشها لا لنفهمها، أي: ليس من الضروري أن أفهم، وإنما أفهم شيئاً واحداً فقط، وهو أني موجود في الحياة من أجل أن أزرع فيها خيراً، أو أعمل الخير، وأعمر الحياة بمرضاة الله عز وجل. فإذا ألجأت الظروف أحد المسلمين أن يحيد عن هذا الطريق المستقيم فليعد وليجدد النية وليستغفر مرة أخرى، ويجدد ويبدأ صفحة جديدة.

أهمية الاستمرار في تجديد النية

أهمية الاستمرار في تجديد النية وإذا ألجأته مرة أخرى وثانية وثالثة ولو مائة مرة، فليستغفر وليتب، وفي الحديث: (ما أذنب من استغفر من الذنب ولو عاد إليه مائة مرة). بل يقول الله في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض ذنوباً ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لجئتك بقرابها مغفرة). وقال الرجل الصالح: يا رب! أنا أنا وأنت أنت، أنا العواد إلى الذنوب، وأنت العواد إلى المغفرة، فعاملني بفضلك ولا تعاملني بعدلك، العباد لك غيري كثير، لكن لا رب لي سواك، فاغفر لي وارحمني. فيتملق لله، ويتودد إليه بهذا المنطق، وينيخ راحلته على باب الله عز وجل، فأهم شيء في موضوع تجديد النية أن تتوب من الذنوب أولاً بأول. وهل نحن محاسبون على نياتنا؟ قد تسبق نية المرء عمله، مثل أن أقول: إن شاء الله قبل أن ينتهي رمضان سأخرج كذا وكذا من الصدقة، وليس لها دخل بالزكاة أو زكاة الفطر، فجاءت أمور عطلتني وأنا صادق في النية، فالأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من هم منهم بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة). في عام من أعوام المجاعة رأى رجل من بني إسرائيل جبلاً من حصى ورمال وأحجار، وليس في يده ما يعطي الفقراء، فقال يا رب! وعزتك وجلالك لو كان هذا الجبل طعاماً لوزعته على عبادك ابتغاء مرضاتك، فقال الله: يا موسى! بلغ عبدنا أنا قد قبلنا منه صدقته. فالذي يعطي هو الكريم سبحانه، فلِمَ التيئيس من الله سبحانه وتعالى! والكافر المستمرئ المعصية، والمجرم الظالم للناس والحقود والحسود الذي لا يريد خيراً بالناس، والذي ليس له رأفة بأحد لا بإنسان ولا حيوان، الذي يريد أن يكون مفترساً، فهذا هو الذي ينتقم منه رب العباد، وهو الجبار عليه. لكن العبد المسلم يتصف ويعيش مع صفات الجمال لله عز وجل كالرحيم والودود والغفور والعفو والستار، ونحوها، وينقمع وينخاف من الصفات الأخرى كالجبار والمنتقم والقهار ونحوها. وقد يتساءل متسائل فيقول: نوعية الذنوب التي يقترفها العبد وبها تسوء الخاتمة والعياذ بالله: من السرقة، والقتل، والزنا، والغيبة، ونحوها، كيف يبدل الله سبحانه وتعالى هذه السيئات إلى حسنات؟ وماذا يصنع العبد في الدنيا لنيل ذلك؟ من أنواع الصدق صدق الجوارح، وهذا من الصدق مع الله أيضاً، ونحن لا زلنا تحت عنوان: الصدق مع الله. وصدق الجوارج معناه: أنت تغسل يديك جيداً، ألم تقل السيدة سكينة عن الإمام الشافعي: رحم الله الشافعي كان يحسن الوضوء. وهذا صاحب مذهب، ونحن قد نجد طفلاً صغيراً عندنا يحسن الوضوء، لكن لا يحسن الوضوء الحقيقي، فما هو الوضوء الحقيقي؟ الوضوء الحقيقي: أنا أغسل يدي من الذنوب، وكانت العرب تقول: نظيف اليد، ويسمى هذا في البلاغة: كناية، أي: كناية عن استقامته، فلا يأخذ رشوة بها، ولا يضرب أحداً، ولا يأخذ مالاً حراماً، ولا يلمس شيئاً يحرم عليه، إذاً: فهو نظيف اليد من الذنوب. وعندما يتمضمض هل المراد المضمضة فقط؟ لا، فقد يكون الفم نظيفاً، والصائم فمه أنظف، لكن عندما أتمضمض أقول: لا داعي للغيبة ولا للنميمة ولا للكذب، فهذا الوضوء هو وضوء الفم، وهكذا. فعند أن أستنشق لا أشم ما حرم الله عز وجل، وعند أن أغسل وجهي أعزم أن العين لا ترى والأذن لا تسمع شيئاً حرمه الله، وإن مسحت الرأس فأعزم أن العقل هذا لا يفكر إلا في الله وفي رحمته وفضله ونصر دينه، وعند غسل الرجلين أقول: إن هاتين الرجلين لن أمشي بهما إلا إلى بيت الله، وإلى مجالس العلم والخير، كصلة الرحم، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، والتهنئة في الخير، والتعزية عند البلاء. وهذا من إسباغ الوضوء على المكاره، بل هذا هو الإسباغ الحقيقي، فعند أن أتوضأ، لا ينبغي أن أكتب خطاباً لهيئة معينة يدخل به إنسان السجن ظلماً، أو أن أكتب كلمة أسيء بها إلى عائلة أو إلى أسرة أو إلى بلد ظلماً وعدواناً، بل هذا الفم الذي يتمضمض لا ينبغي أن يخرج منه هذا أبداً. فالفم الذي يخرج منه القرآن لا يصلح أن يخرج منه شيء آخر.

عمارة الوقت بالطاعة

عمارة الوقت بالطاعة المحور الثالث في الصدق مع الله -وهو الأخير-: تعمير الوقت بالطاعة. أي: أن أعمر الوقت بالطاعة، قال أحد الصالحين: أحتسب عند الله نومتي كما أحتسب عنده قومتي، أي: عندما ينام، يقول: لماذا أنام؟ فإن كنت أنام كي أقوم مرة أخرى لعمل الطاعة، ولأن أفتح صفحة جديدة من تعمير الدنيا بأمر الله، وبفضله وبطاعته وبكرمه وبقانونه، فنومي أثاب عليه، فبعض الناس نومه في ذاته عبادة. وأما الظالم فنومه خير من يقظته؛ لأنه طالما وهو موجود فنومه أحسن، وهو مثل الطفل كثير الصراخ، فإنهم يهدهدونه ويهدئونه لينام، فإذا نام قالوا: الحمد لله نام، وهذا -أي: الطفل- غير مؤذ إلا في الصياح فقط، بينما الثاني مؤذ في كل شيء، فنومه أفضل. فينبغي أن أعمر الوقت بالطاعة بحيث يظهر أثر هذه الطاعات في سلوكياتي مع الناس، وقد أقول: لا دخل لك بالصلاة؛ فصلاتي بيني وبين ربي، لكن إن لم تنهني صلاتي عن الفحشاء والمنكر والبغي فما فائدتها؟! فإن قال قائل: قد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ حنظلة: (هذه ساعة وتلك أخرى). فنقول: وأي ساعة تلك التي لـ حنظلة؟ يقول حنظلة: عندما نكون معك نشعر بأننا نطير في السماء، فلما نعافس النساء والأولاد نعود إلى الدنيا، فمسألته أن طاعته بلغت مائة في المائة، فلما يترك الرسول تتراجع الطاعة إلى خمسة وتسعين في المائة، فهو يريد أن يطيع دوماً مائة في المائة، فكأن النبي قال له: لا، الأمر مرة خمسة وتسعون، ومرة مائة في المائة. فالصحابة ظل الرسول عليه الصلاة والسلام يرفع في إيمانياتهم حتى صاروا فوق الأفق، واستمر سيرهم هكذا فوق الأفق. ولو قال أحد: إذا كانت طبيعة الحياة الدنيا من حيث العمل مثلاً تعرقل الإنسان عن أداء العبادات، وتحديداً الصلاة في وقتها، فما الحيلة؟ نقول: لا شيء يعطل الإنسان عن الصلاة ووقتها، وأوقات الصلاة خمسة، ما بين كل وقت ووقت هناك أول الوقت ووسطه وآخره، ولا يوجد عمل في الدنيا إلا وفيه راحة، فلا يوجد عمل عشر ساعات دفعة واحدة. وما العذر الذي تقبله مصادر الشريعة الإسلامية في تقصير العبد في فريضة فرضت عليه؟ A الموت، أما إن كان حياً فهو مكلف بها، إلا إن كان مغمىً عليه، أو مجنوناً أو نائماً أو طفلاً، أما من كان وسط عملية جراحية فيلزمه أن يصلي ويصوم.

تجديد التوبة من جميع المعاصي ومنها أمراض القلوب

تجديد التوبة من جميع المعاصي ومنها أمراض القلوب من علامات حسن الخاتمة تجديد التوبة، أي: التوبة من معاصي الجوارح ومعاصي القلوب، أو كبائر الجوارح وكبائر القلوب، ونسردها الآن سريعاً: فمن أمراض القلب: الكبر، والعجب، والرياء، والأمن من مكر الله. ومن الكبر، والعجب، والرياء أن يظهر أمام الناس بصورة مثل صورة النفاق، أي: أن يرائي الناس، فأمام الناس يصلي على مهله، وفي البيت -والعياذ بالله- ينقرها، ويظلم زوجته، وهو يتكلم عن حسن التعامل مع الزوجات أمام الناس. فهذه من أمراض القلوب. ومنها: الحقد والحسد والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، ثم عدم الخوف من الله. فهذه كبائر أمراض القلب. فالكبر معروف، وكذلك العجب، وأما الرياء فمثاله: أن يظهر المرائي أمام الناس بصورة وهو على غيرها حقيقة، أو يشرك مع الله في العمل غيره، فمثلاً: يجد رئيس المصلحة ذاهباً لصلاة الظهر فيقول: ما شاء الله عليك، أنت رجل صالح وأنا وراءك، وإذا غاب لم يصل، فهذا مرائي. وأما الحقد: فهو أن تضمر للناس شراً، وتعتبر نفسك ذئباً والناس أمامك شياه، وتترقب من الناس أي ثغرة أو عيب حتى تهجم عليهم، فهذا هو الحقود والعياذ بالله. وإن قال قائل: أليس الحقد من مخلوقات الله سبحانه وتعالى؟ نقول: كل شيء مخلوق لله، لكن الإنسان هو الذي ينمي الحقد في قلبه، وهذا في القلب الذي لم يمتلئ بالإيمان بعد؛ لأن الحقد والحسد والرياء والعجب مثل الخفافيش أو البوم والهوام، فإنها تبقى في البيت المغلق الخرب، لكن افتح الأبواب، وأدخل أشعة الشمس وتيار الهواء النقي، فستهرب هذه الأشياء، وهكذا إذا دخل نور الإيمان إلى قلب العبد انقشعت كل هذه الآفات.

التحذير من الحسد

التحذير من الحسد وأما الحسد: فهو أن تتمنى زوال نعمة الغير، يقول الإمام الشافعي: ألا قل لمن بات لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لي ما وهب فجزاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب الحسود عنده مصيبتان: المصيبة الأولى: أنه ناقم على عدل الله في الكون؛ لأنه غاضب أنك أخذت وظيفة وهو لم يأخذ، أو أخذت رتبة أكبر منه، أو أن الناس يحبونك ولا يحبونه، أو يقبلون عليك ولا يقبلون عليه. وأما إن كان يرى في نفسه كفاءة لهذا فهذه مصيبة أخرى؛ فقد جمع حسداً مع كبر. المصيبة الثانية: أنه يأكل نفسه إذا رأى نعمة جاءت إلى غيره، وأنت خالي الذهن منه، يعني: أنت نائم في بيتك ومستريح أن جاءك الخير، والناس يحبونك ويستمعون إليك، وأخذت وظيفة أو مركزاً اجتماعياً أو خيراً معيناً، وهو لم ينله هذا كله، فيتقطع حسداً وغيظاً، ولذا قال العلماء: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله أي: كمثل شخص معه كرة قوية، فمن غيظه يضربها في الحائط بقوة، فترتد بنفس القوة على وجهه. والحسود ليس عنده مقام الرضا، كشارب البحر، فشارب البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً، فهو كلما وجد نعمة عند الغير تقطع حسداً أو غيظاً، ويزداد كلما ازدادت النعمة على الغير. وليس من الحسد أن أتمنى أن أكون مثل فلان، فهذا حق مشروع؛ لأن هذه غبطة لا حسد، والغبطة: هي تمني مثل تلك النعمة مع عدم تمني زوالها. وألأم الحاسدين من يتمنى أن يكون صاحب النعمة مثله، والعرب كان عندهم فريق من الحساد، هذا هو عملهم، أي: الحسد، فيقولون له: تعال نريد منك أن تحسد ناقة فلان! فيقول له الحاسد: أشر إليها، فينظر إليها نظرة ويقول: يا غلام! ائتني بجزء من لحمها، فبعد خطوات تقع الناقة صريعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدخل الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر)، ولكن نحن لا نعول على الحسد كثيراً؛ حتى لا تكون حياتنا رهينة لفلان. وإذا اكتشفنا أن فلاناً حسود بطبيعته، أو يظهر هذا عليه، فأول ما نراه نقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وهذه تبطل الحسد إن شاء الله، ونكبر، كما ورد في سورة الكهف: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39]. وإذا أراد إنسان من نفسه ألا يحسد أحداً فكذلك يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وكلما رأى نعمة مثل أن يسمع أن هناك ولداً صغيراً يحفظ القرآن، فإنه يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أو ما شاء الله تبارك الله، وعندما يرى بيتاً جميلاً، يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أما من أين هذا؟ وكيف حصلتم عليه؟ ونحو ذلك، فلا داعي له، ولا نريد أن نخوض في قضية الحسد كثيراً؛ لأنه موضوع كبير. أما الغبطة فهي مشروعة، فالمؤمن يغبط والمنافق يحسد. وماذا يصنع المؤمن إذا أعجبه شيء؟ يقول: اللهم ارزقني كما رزقت فلاناً. وقد قال الله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32]. لأن الذي أعطى هذا المال هو الله سبحانه، فخزائنه لا تنفد، فإن أعطاه علماً أسأله سبحانه أن يعطيني، وأتمنى له الخير، والله سيزيدني، وأشكر ربنا على النعمة، وعندما نجد علامة أو رجلاً ثرياً يوجه ماله للخير، أو حاكماً صالحاً يعمل خيراً، فندعو له ونقويه لا أن نحطمه.

خطر الأمن من مكر الله

خطر الأمن من مكر الله من أمراض القلوب أيضاً: الأمن من مكر الله، ومثاله: أن تجد شخصاً ليس له في الصلاة ولا في الزكاة ولا في عمل الخيرات نصيب، وتسأله عن حاله فيقول: الحمد لله على ما يرام، إيماني ما شاء الله، لو وزع على المسلمين كلهم لدخلوا الجنة إن شاء الله!! فهذا آمن من مكر الله، ولا يأمن من مكر الله إلا كل خاسر، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فالأمن من مكر الله مصيبة وكبيرة من الكبائر. فالعبد المؤمن لا يأمن، فالصحابة الذين بشروا بالجنة ازداد خوفهم وما ازداد أمنهم، فهذا أبو بكر الصديق يقول: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدامي في الجنة. وقالوا لـ عثمان: متى الراحة؟ قال: عندما تصير الرجل اليسرى بجوار اليمنى داخل عتبة الجنة. فهذه هي الراحة، وبغير هذا لا توجد راحة.

التحذير من القنوط

التحذير من القنوط ومن أمراض القلوب أيضاً: القنوط من رحمة الله، والقنوط هو اليأس من رحمة الله، والقانط إنسان قد يكون كثير الذنوب، ولكن يجب أن يسأل نفسه: هل ذنوبي أكبر أم عفو الله؟ فعفو الله أكبر، فعفوه يستغرق الذنوب، ووده يضيء القلوب، وحبه يدهش العقول.

ما تقع تحته كل الذنوب

ما تقع تحته كل الذنوب إن عدم الخوف من الله عندما يتبخر من قلب العبد تحل الذنوب مكانه، وكل الذنوب تقع تحت عنوان عدم الخوف من الله. فينبغي للإنسان أن يعود نفسه الخوف من الله ويربيها عليه. والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم وإن قال أحد: مكتوب في صحيفة كل أحد أنه سيصنع كذا أو كذا فأين المفر من المقدور؟ فنقول: لم يلزم الله الكافر بالكافر ولكنه علمه، والكافر هو الذي عمل الكفر واختاره لنفسه، فلا يستقيم أن يأتي أحد يوم القيامة ويقول لربه: لو كتبتني في السعداء مع أبي بكر وعمر لكنت صالحاً! فهو سبحانه قد علم أزلاً أنك لن تكون مثلهم فهو العليم الخبير، والعبد هو الذي خط بنفسه قدره، وأعماله هي التي خطت له هل هو من أهل النعيم أم من أهل الجحيم. ومن ولد أعمى أو أخرس أو أبكم فهذا يدل على أن الله أراد به خيراً، فلما حرمه من نعمة البصر ماذا صنع به؟ قال الله له في الحديث القدسي: (لقد سلبت حبيبتيك في الدنيا، هذا وجهي أبيحه لك تنظر له بكرة وعشياً، لا أجد لك جزاءً أكثر من هذا)، وهذا أعلى ثواب في الجنة، ولما قال ربنا: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] والمزيد هو مشاهدة وجه رب العالمين، فالأعمى ولد هكذا لكي يكرمه رب العباد، وربما لو كان هذا الأعمى مبصراً لافترى بعينيه. ويقال: كل ذو عاهة جبار. ونقول: لا، ليس بجبار، ولكنه مبدع، فإذا وجدت شخصاً عنده شيء ناقص فإنك تجده مبدعاً بفضل الله.

إثبات اختيار الإنسان في تصرفاته كلها

إثبات اختيار الإنسان في تصرفاته كلها لقد كتب في اللوح المحفوظ السيرة الذاتية لكل إنسان منا، ومن ضمن ذلك الرزق، والله سبحانه وتعالى يعلم أن هذا المخلوق الذي خلقه سيصنع يوم كذا كذا، والعبد هو الذي يختار ذلك الفعل بنفسه، وهو مخير في أفعاله، فهو لا يعلم ماذا قدر له. فأنت مخير لأن تذهب برجليك إلى المسجد أو إلى السينما، وأن ترى الحق أو الباطل، فأنت مخير في تصرفاتك التي تثاب وتعاقب عليها، فمن طرق الباب يسر الله له الدخول أو أزاح عنه العقبات، والخلقة كلها واحدة، أي: خلقنا جميعاً على الفطرة، وقد خرجنا من بطون أمهاتنا بدون سيئات.

المسارعة إلى الخيرات

المسارعة إلى الخيرات ومن أسباب حسن الخاتمة أيضاً: المسارعة إلى الخيرات، فكلما وجدت باب خير لا أتوانى، فإن وجدت باب صدقة تصدقت، أو كفالة يتيم كفلت، أو صوم صمت، فلا تأخر المعروف حتى في الدنيا، خرج النبي صلى الله عليه وسلم فوجد العباس وأبا بكر وعمر على الباب، أي: على باب رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا يريدون أن يزعجوه، فقال: (فيم كنتم تتحدثون)؟ وقد كانت عندهم أعمال، فـ أبو بكر كان تاجراً وعمر كان يعمل في الزراعة، وكان العربي يعمل حتى الظهيرة، وبعد الظهيرة يكون عنده قيلولة، فإذا كان لديه عمل آخر يذهب إليه، وإن لم يكن عنده عمل يجلس، وربنا يضع البركة. وقد عملوا إحصائية في دولة إسلامية فوجدوا أن العامل يعمل سبع وعشرين ثانية، أهذا مسلم! وهذه إحصائية من مؤسسة محترمة نثق بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيم كنتم تتحدثون؟ قالوا: كنا نتحدث في المعروف يا رسول الله! قال: وماذا قلتم؟ قال أبو بكر: إن خير المعروف تعجيله، وقال عمر: وأنا قلت يا رسول الله: إن خير المعروف ستره، وقال العباس: إن خير المعروف تصغيره) يعني: أصغّره، فأقول: أنا لم أعمل شيئاً. فقال صلى الله عليه وسلم: (إن في المعروف الثلاثة، فإن عجلته هنأته، وإن سترته تممته، وإن صغرته عظمته). إذاً: فـ أبو بكر يقول: خير المعروف تعجيله، أي: إذا أردت أن تعمل معروفاً فبسرعة، وقال عمر: خير المعروف ستره، أي: إذا عملت معروفاً فاستره، واحذر من الرياء والتسميع. وقال العباس: خير المعروف تصغيره، يعني: تقول: أنا لم أعمل شيئاً. فجمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأقر ما قالوه بقوله: (إن في المعروف الثلاثة: إن عجلته هنأته، وإن سترته تممته، وإن صغرته عظمته). ولابد في المسارعة إلى الخيرات، من اتباع السنة، أي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، فاقتف أثر رسول الله، وما خان الرسول عليه الصلاة والسلام أحداً قط، وما كذب قط، وما تهجم على أحد قط. فلابد أن يكون الرسول قدوة ثم تذكر الآخرة. قال أحد الصالحين: لو فاتني ذكر الآخرة ساعة لفسد قلبي. وأناس لا يذكرون الموت حتى يموتوا، حتى إذا قلت له: احذر الموت قال: فال الله ولا فالك، ابعد الشر.

من أسباب حسن الخاتمة إصلاح عيوب النفس

من أسباب حسن الخاتمة إصلاح عيوب النفس ثم من أسباب حسن الخاتمة: إصلاح عيوب النفس، فكل إنسان فينا له عيوب، فاعرض نفسك على الكتاب والسنة، أو على عالم رباني، أو على أخيك المسلم الذي إن رآك غافلاً ذكرك، وإن رآك ذاكراً أعانك. سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. اللهم أحسن لنا خاتمتنا في الأمور كلها يا رب العالمين، وارزقنا قبل الموت توبة الهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين، غير خزايا ولا نداما ولا مبدلين. اللهم هيأ لبناتنا الأزواج الصالحين، ولأبنائنا الزوجات الصالحات، واصرف عن مجتمعاتنا الإسلامية شياطين الإنس والجن. اللهم أعن حكامنا ببطانة الخير التي تعينهم على الحق يا رب العالمين، ووفقنا وإياهم لما تحب وترضى، اللهم أظلنا بعرشك يوم لا ظل إلا ظله، واسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم يا رب تسليماً كثيراً آمين.

سوء الخاتمة

سوء الخاتمة لقد خاف الصالحون من سوء الخاتمة فأظمئوا نهارهم، وسهروا ليلهم طاعة لله تعالى؛ حتى يجيرهم من سوء الخاتمة، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل ذلك. ولسوء الخاتمة أسباب مثل الدوام والإصرار على المعاصي والأمن من مكر الله تعالى، والظلم، وطول الأمل وغير ذلك.

أثر الخاتمة السيئة

أثر الخاتمة السيئة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله ومن والاه. أما بعد: إذا أراد الله بالعبد خيراً أرسل إليه في آخر أيامه ملكاً فأرشده وهداه وقومه وأصلحه، فيموت على خير حال، ويقول الناس عنه: رحم الله فلاناً مات على خير حال: يموت في صلاة، أو في مجلس علم، أو في صلة رحم، أو في الجهاد في سبيل الله، أو في أمر يرضاه الله ورسوله. وإن الله إذا أراد بعبد سوءاً أرسل إليه أو وكل به شيطاناً فأغواه وأضله، فيموت على أسوأ حال، فيقول الناس: مات فلان على أسوأ حال، كأن يموت وهو يعصي الله، أو يموت وهو لم يتب، والأعمال بخواتيهما. وضربنا مثالاً لهذا الإنسان بالمصلي الذي أخرج ريحاً في آخر ركعة من ركعات الصلاة فإن صلاته باطلة. وسوء الخاتمة أن يختم للإنسان بشر عمله، والمقصود بها ما يصنع الإنسان في آخر حياته، وذلك أن صحيفة حياته سيئة، ولم يمح بعمل صالح ما اسود من هذه الصحيفة، فلم يبيض صحيفته بأعمال صالحة، فيأتي في آخر حياته وهو لا ينطق بلا إله إلا الله، أو يترك الصلوات، أو عليه مظالم للعباد، فصحيفة أعماله كلها سوداء.

تعلق سوء الخاتمة بعمل العبد في حياته كلها

تعلق سوء الخاتمة بعمل العبد في حياته كلها Q هل سوء الخاتمة مرهون بآخر لحظة للإنسان في حياته، أم مرهون بحياته كلها؟ A سوء الخاتمة مرهون بحياته كلها، ثم تنتهي حياته كما زرعها، مثل شجرة الحنظل فإنها تزرع وتأخذ مدة، وفي النهاية تصدر حنظلاً مراً علقماً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة -الأترجة: فاكهة- ريحها طيب وطعمها حلو، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة طعمها مر وريحها طيب، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة لا ريح لها، وطعمها مر). فالخاتمة مرهونة بسابقة عمله، وليس بالعمل الأخير؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، فليس هذا مبني على عمل واحد، وإنما سابقة أعماله كانت هكذا، ومات على غير توبة، أو مات على ضلالة، أو مات على غرور، أو مات على ظلم، أو مات على افتراء، أو مات على كبر طول حياته، فهو لم يظلم الآن وإنما ظلم طوال حياته، وهكذا.

الأعمال التي تؤدي إلى سوء الخاتمة

الأعمال التي تؤدي إلى سوء الخاتمة Q ما هي الأعمال التي تسود بها صحيفة الإنسان، وبها تسوء خاتمته والعياذ بالله؟! A أول الأعمال التي تسيئ الخاتمة: طول الأمل، بمعنى أنه يظن أنه لن يموت الآن؛ لأن أباه عاش تسعين سنة، وجده عمر بعد المائة، وأمه عاشت مائة وعشر سنوات!! فالعمر ليس بالوراثة. أو يقول: أنا عندي يقين أنني سأهتدي في آخر أيامي، وأنا في صحة وفي أحسن حال. فطول الأمل يجعل الإنسان يركن إلى الدنيا، وتصير الدنيا غاية وليست وسيلة، فقد يصير من الكاذبين، لأن الغاية تبرر الوسيلة، وقد يريد أن يكون غنياً فيدخل في الربا، والخوض في أعراض الناس، بأن يضغط على الناس ليعلو عليهم، وبأن يكون لسانه بذيئاً مع كل الناس: مع العالم وغير العالم، المهم أن يصل إلى غايته. فطول الأمل يثمر كل هذه المصائب، فهذه ثمرة سيئة. ولذلك قالوا: إن العاقل من فعل ثلاثاً: ترك الدنيا قبل أن تتركه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه، وعمر قبره قبل أن يدخله. والجاهل من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) فالعاقل هو الإنسان الذي يزرع ويخشى الكساد، والجاهل هو الذي يقلع ويرجو الحصاد، وهذا من ترهات نفسه، ومن ثمرات طول الأمل. قالوا: إن أحد الصالحين وهو عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه كان مريضاً، فقدم أحد مريديه وهو حافظ بن أبي توبة ليصلي بالناس، وهو من تابع التابعين فقال: لا أريد أن أصلي؛ لأنني إذا صليت بكم الآن لن أصلي بكم مرة أخرى. فقال عطاء: أتدخل الصلاة وفي نيتك أنك سوف تعيش لتصلي بنا صلاة أخرى؟!! أنت لا تصلح للإمامة، فالأصل أن يكون الإمام قدوة، فإذا دخل في الصلاة لا يفكر أنه سيصلي بعدها مرة أخرى، فإن هذا من طول الأمل. وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر على أسامة بن زيد وجده قد أتى بفصيل -وهو ناقة صغيرة أو جمل صغير-، فسأل رسول الله: ما هذا يا أسامة؟ قال: فصيل اشتريته لشهرين يا رسول الله! يعني: اشتريته بالتقسيط على شهرين، قال: أتعجبون من أسامة؟! إن أسامة لطويل الأمل. بهذا المنطق كان يربي النبي صلى الله عليه وسلم صحابته، فطول الأمل يقسي القلب وينسي الآخرة، وبعض الناس يكره الكلام عن الوعد الحق، والبعض الآخر يحبون؛ لأنهم مؤمنون، والذي يكره الكلام عن الوعد الحق فإنه مدعي للإيمان، فهو يكره التذكير بالآخرة، وبأنه سيخرج من الدنيا، وسيترك الثروة والأموال والبنوك والعمارات والبنايات والسطوة والجاه والانتخابات والسلطة. والصالحون قديماً كانوا يفرون من المسئولية؛ لأنهم لا يريدون أن يمسكوا بالدنيا، لأن المسئولية حلوة الرضاع، مرّة العظام، فطول الأمل يعمل هذا الأمر كله. ثانياً: الظلم، فمن كان ظالماً فليتوقف، والظلم أنواع ثلاثة: أولاً: ظلم الإنسان لنفسه، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32]، وذلك بأن يظلم دينه، فيضيع فرائض الله، ويتعدى حدود الله سبحانه وتعالى. ثانياً: ظلم الإنسان للآخرين، سواء كان حيواناً أو نباتاً أو إنساناً مسلماً أم غير مسلم. ومن سوء الخاتمة أن الظالم لا يقتنع أنه ظالم، فقد يظلم أحد الورثة بأن يحتال عليه فيأخذ ميراث أبيه كاملاً، والسبب في ذلك أنه كان يعمل مع أبيه ليل نهار في الحر وفي البرد وفي الأسفار، وأنه كان يتبعه وكان لا يعطيه راتباً، فيأخذ التركة كلها، فهذا ظلم، فالواجب عليه أن يأخذ ما يساوي عمله، ويعطي الباقي للورثة الآخرين. والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمصيبة الكبرى أنه يعتبر نفسه عادلاً كـ عمر بن الخطاب. وأسوأ الظالمين من يظلم من لا ناصر له إلا الله، كمن يظلم زوجته التي مات أبواها وأهلها، أو التي أهملها إخوانها وكل واحد منهم مشغول بحاله، فيسومها زوجها سوء العذاب؛ لأنه لا ظهر لها، وإذا دعت عليه فإنه لا ينتبه، ويعتبر نفسه أنه يقوم بحق القوامة عليها، أو أن له أن يقطع ما يشاء، وهنا تكمن المصيبة. النوع الثالث: الغفلة عن الذكر، فالمسلم ليل نهار يجب أن يكون ذكاراً شكاراً بكاء من الله عز وجل، يقول ربنا سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. وعندما يدعوك أحد الناس لحضور حفل جميل فيه أغان لطيفة، والآخر يدعوك لحضور درس للشيخ فلان، فتقارن بينهما فتصبر مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، ولا تطع من اتبع هواه وكان أمره فرطاً، والفرط في اللغة هو المفكوك. والذكر قد يكون بالجوارح، فالعين تنظر في المصحف، واليد تعطي صدقة، وأما التذكر فلا يكون إلا في القلب، وهو التدبر، وهذا هو المطلوب، لأن القرآن حجة على الذي يقرأ ولا يتدبر. والمقصود بقوله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] هو ذكر الله في كل وقت، فمن كان خائفاً فقال: يا قوي! أمني، أمنه سبحانه وتعالى، أو كان فقيراً فقال: يا غني! أغنني، أغناه الله عز وجل، أو كان ضعيفاً فقال: يا قوي! قوني، أو كان مهزوماً فقال: يا ناصر! انصرني، أو يا ستار استرني، فهو في معية الله، فيطمئن القلب بالله سبحانه وتعالى! ولو قال رجل مثلاً: أنا خالي فلان، وأنا عمي فلان، وأنا أبي فلان، وأنا شهاداتي كذا، وأنا في المركز الاجتماعي كذا، فإنه لا يستطيع أحد أن يكلمه، فما بالك بمن قال: وأنا ربي الله سبحانه وتعالى. النوع الرابع: الاغترار بالدنيا، فإن من طول الأمل الاغترار بالدنيا، فالمغتر يريد أن يدوس على كل الناس في سبيل أن يصل إلى هدفه، وينكد على كل البشر في سبيل أن يبقى هو، ويفقر كل العالم في سبيل أن يشبع هو، وهناك دول غنية تأتي بالغذاء وتلقيه في البحر؛ حتى لا تهبط قيمته في الأسواق! ويرحمون القطط والكلاب والدببة التي تعيش في شمال القطب، ولا يرحمون الذي يدب على الأرض من بشر، فهؤلاء مغترون بالدنيا. وفي الحديث: (من أقام الصلاة في وقتها، وأسبغ وضوءها، وأتم ركوعها وسجودها، حشر مع النبيين والصديقين، ومن ضيعها حشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف). فهؤلاء الأربعة هم ملك في مملكة، ووزير في وزارة، وتاجر صاحب تجارة مال، وغني صاحب أموال كثيرة. فهل رأيت رئيس مجلس الإدارة أو المدير المسئول أو رئيس البنك -إلا من رحم ربي- يأتي وقت الصلاة وهو يدخل حسابات ومليارات وملايين فيتركها ليصلي؟ كلا، وإنما يقول: هذا عمل وهذا عمل، والعمل عبادة، ويقيس هذا بذاك، وتختلط عليه الأمور والعياذ بالله رب العالمين. النوع الخامس: الأمن من مكر الله، وهو من كبائر القلوب، والمؤمن لا يأمن من مكر الله. والصلاة لا تقبل إلا إذا أسبغت وضوءها، وأتممت ركوعها وسجودها، والثواب في الصلاة على قدر الخشوع، فلا تقبل الصلاة مائة بالمائة إلا ما يعقل منها. حتى إن العلماء أباحوا لنا أن نستعيذ بالله من الشيطان إن وسوس لنا في صلاتنا، وهذا لا يبطل الصلاة، فالله تعالى يقول: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] أي: قل: أعوذ بالله، ولو في وقت الصلاة بأن تقطع القراءة، ثم تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تعود إلى القراءة مرة أخرى وهكذا، ولا تعيد الفاتحة ولا الركعة.

الخشوع في الصلاة

الخشوع في الصلاة Q كيف نخشع في الصلاة ونحن بين يدي الله سبحانه وتعالى؟ A كيف أخشع في الصلاة وجوارحي قبل الصلاة غير خاشعة؟ كيف أخشع في الصلاة وأنا أغتابك، وأنم في حقك، وأتكبر عليك، وأحتقرك، وأنظر إليك بعين الازدراء، ومالي حرام أو شبهة، وأظلم من حولي، ثم أريد أن أخشع في الصلاة؟! فالذين خشعت قلوبهم لطاعة الله قبل الصلاة هم الذين سيخشعون في الصلاة. ومن علامة عدم خشوع الجوارح عبث الرجل بحليته في الصلاة، فلو خشع بقلبه لخشعت جوارحه؛ لأن قلبه هو المسيطر. وهناك أسباب للخشوع وهي: أولاً: أن يكون المال حلالاً، كان ابن عمر يركع أو يسجد عند الكعبة فتقف الطيور على ظهره وتستقر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع فإنه يتم الركوع، حتى لو وضعت إناء مليئاً بالماء على ظهره الشريف لاستقر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المثال والقدوة، وصفة صلاة النبي موجودة في البخاري ومسلم. ثانياً: عدم الأمن من مكر الله، والسبب الرئيسي في الأمن من مكر الله هو ستر الله على العبد وهو يبارز الله بالمعاصي، فيأكل الحرام، والشبهة، ويرتشي ويختلس، ويمد يده لما حرم الله، ويظلم عباد الله، فالله عز وجل يدخله في مرحلة الاستدراج، فيظن أن الله راض عنه، ومصيبة المصائب الرضا عن النفس، وإذا وجدت إنساناً راضياً عن نفسه فاعلم أنه مغرور. والله سبحانه ما أمَّن صحابياً ولا تابعياً ولا صالحاً، فقد كانوا كلهم على وجل وخوف، قال أحد الصالحين: ابكوا على أنفسكم، فأنا أبكي على هذا اليوم منذ ستين سنة، وكان عمره اثنتين وسبعين سنة. فلا يأمن مكر الله إلا كثير المعاصي، فالله كثير الستر، ومن كرم الله عز وجل أنه لم يحاسبنا كما يحاسب بعضنا بعضاً، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، والله لا يعجل لعجلة عبده، ومن كرم الله أن مقومات الحياة لا يملكها الإنسان. والعبد العاصي يكون في حالة رضا عن نفسه، وهو يرى غيره مثلاً مفضوحاً، أو فقيراً مقتراً عليه، أو مريضاً، فهو يستدرج دون أن يعلم حتى يدخل في مرحلة الغرور، والواجب على المسلم أن ينظر في أمور الدين إلى من هو أفضل، وفي أمور الدنيا إلى من هو أقل، ونحن نعكس القضية، فننظر في أمور الدين إلى من هو أقل، فيقول أحدنا: أنا أصوم وأصلي وأزكي، وفلان لا يصوم ولا يصلي ولا يزكي.

بيان عدل الله في أخذ الظالم بغتة

بيان عدل الله في أخذ الظالم بغتة Q قد يقول قائل: هل من العدل أن يتركني الله تبارك وتعالى أعمل المعاصي ثم يأخذني بغتة، مع أن المنطق أن ينبهني وأن يذكرني؟ A قال تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15]، فالله تعالى أعطى الإنسان عقلاً، وهو من البداية قد حمل أمانة العقل وهو ما يزال في عالم الأرواح، ثم بعد ذلك جاءه الرسول والقرآن. وقد تحمل الأمانة آدم وحده ونحن جميعاً في صلبه، وخاطب الله الأرواح بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]، وآدم يمثلنا جميعاً ونحن في عالم الأرواح، ولما عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وهي طاعة الله فيما أمر والانتهاء عما عنه نهى وزجر، فأبين إلا الطاعة دون إكراه بلا أوامر ولا نواهي، ولا تكليفات، وحملها الإنسان الظلوم الجهول قبل خلقته، لأنه متعجل، فالله خلق الإنسان من عجل. والذي جعل الإنسان يأمن من مكر الله أن الله تعالى أعطاه النعم فلم يشكرها، فلما لم يشكرها ظلت النعم كظواهر وسلبت من قلبه، فلم ير أنه في نعم فيعيش ذئباً يريد أن يفترس، وهجومياً يريد أن يهجم، ويأخذ ما لا يحق له؛ لأنه لم يشكر النعم الظاهرة والخفية، والمطلقة والمقيدة. والإنسان في العالم له أربعة حالات: إما حالة طاعة أو حالة معصية، أو حالة نعمة، أو حالة بلية، فهو لم يقدر نفسه عند هذه الأمور، فرأى الطاعة وما أطاق، ورأى المعصية فارتكبها وما استغفر، ورأى النعمة وما شكرها، ورأى البلية وما صبر عليها، بل تمرد. وأسوأ ما يصيب الله به العبد أن يغره بنفسه فلا ينتبه، وهذا ليس ظلماً من الله، فلو جلس معه الناصح الأمين لم يستمع إليه، ويدخل في فلسفات، فيقول مثلاً: موضوع سوء الخاتمة أكيد، والعذاب أكيد وهكذا، ويدخل نفسه فيما لا يحسن أن يدخل فيه.

إرادة الله وإرادة العبد

إرادة الله وإرادة العبد Q قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، فهذه الإرادة من الله سبحانه وتعالى بتدمير وإهلاك القرية، فماذا جنت أيدي الناس الذين في القرية؟ A من كرم الله سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل ليأخذوا بأيدي الناس من الضلالة إلى الهداية، ومن الغواية إلى طريق الاستقامة، فالرسل أنذروا وبشروا ورغبوا. والبلاد بلدان: بلد تجل العلماء وتحترمهم، فهذه فيها البركة، ويجذب إليها العلماء، وبلد تحتقر العلماء وتطردهم، فيحل بها العقاب، ومثال ذلك صاحب القرية المذكورة في سورة يس، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:13 - 14] إلى قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20] فضربه قومه وقتلوه، فقضي الأمر. فالله عز وجل لم يهلك قرية إلا بعد أن ظلمت وطغت وانحرفت وابتعدت عن طريق الله. فإرادة الله معلقة على فعل العبد سابقة له لا سائقة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، فهذه الإرادة جاءت لما كذبوا ولم يشكروا. وعلى المستوى الفردي: فالمسلم يشعر بالرضا النفسي مثلاً لما يطيع الله، فالذي يعيش لله عز وجل ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى، تجري وراءه الدنيا رغم الابتلاءات والمحن والمصائب. أما عشاقها وعشاق الأموال والسلطة والجاه فهم يجرون خلفها، فترى أحدهم متعباً ومرهقاً ومكتئباً والمليارات في يده، فلا يشعر بقيمتها ولا قيمة للمال عنده.

انسحاب سوء خاتمة الفرد على الأمة إذا لم ينصحوا

انسحاب سوء خاتمة الفرد على الأمة إذا لم ينصحوا Q هل سوء الخاتمة للعبد تنسحب على الأمة؟ A إذا لم تقل الأمة للظالم: يا ظالم! فقد ينسحب الظلم على الأمة كلها. فعلى كل من يقول: لا إله إلا الله أن يقف في وجه الظالم، وعلى جميع المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى، وينصحوا الظالم ولو كان صاحب مسئولية، أو كان إنساناً عادياً لا قيمة له في الحياة، إذا لم يتق الله وعمل عملاً سيئاً، كما يحصل على شاشات التلفزيون من العهر والمجون، فيجب أن تقف الأمة وتعترض وتمنع. فلو لم تقف الأمة ضد هذه المنكرات بل تتفرج وتشاهد المسلسلات والأخبار، فإن الأمة تتحمل وزر ما هي فيه. ومن تخاذلنا صار المخرج التلفزيوني المسلم يقفو أثر بني صهيون، ويتحكم في إعلام الناس، فيجب علينا أن نقف في وجهه، وأن نمتنع عن ذكره وعن نشر أخباره في الصحف، ولا يوضع تحت الميكروسكوب، ولا تحت الأضواء، بل نهمل ذكره. ولا تستيقظ هذه الأمة إلا بتكوين لجنة أو مؤتمر كبير يسمى: مؤتمر النهوض بالأمة، يعمل جميع الأسئلة والاقتراحات في أي وقت سواء كانت عبر البريد الإلكتروني أو الفاكس أو التلفزيون أو غيرها، وذلك لدراسة سبب تخلف الأمة، ثم تصاغ الصياغة لمعرفة من أين يبدأ، ويكون ذلك مع بعض الدعاة وأصحاب الحل والعقد والمفكرين على مستوى العالم الإسلامي. ونحن كعرب نريد الحل الآن، ونريد أن نقول: إن الجيل الذي فوق الخمسين الآن الذي يقود في كل مكان يعمل مرحلة، وبعد عشرين يتسلمها الجيل الذي بعده، فعلى مدى قرن إن شاء الله ستنهض الأمة. لكن أن نترك هذا ينتقص من ديننا وهذا ينتقص من علمنا، ليس هذا عمل الصالحين أو عمل الناس الذين يريدون حسن الخاتمة، فلابد أن نجتمع في وجهة التقارب مع بعضنا البعض، ونحب بعضنا بعض، فلن نجتمع إلا بحب، فنحب الأوطان ونحب البلاد؛ لأن ما من متدين إلا ويحب وطنه، ومن أكثر الناس حباً لمكة رسول الله وهو خارج منها، ونحن كلنا نحب أوطاننا ونحب أوطاننا أكثر عندما تتمسك بالإسلام. إذاً: البداية من عند القرآن والسنة، وإن لم نبدأ من القرآن والسنة وننتهي إلى القرآن والسنة، فإن ذلك من سوء الخاتمة. النوع السادس: من الأعمال التي تعمل على سوء الخاتمة الرياء، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142] والرياء صورة من صور النفاق، والمنافق له علامات، منها: أنه يظهر عكس ما يبطن. وكلمة النفاق مشتقة من نفق اليربوع، واليربوع حيوان يأوي إلى جحر له بابان، فإذا انسد أحدهما خرج من الآخر، والوصف بالنفاق أمر صعب، فلا يوصف إنسان بالنفاق إلا إذا اكتملت فيه الشروط. وللنفاق دلائل تدل عليه، وهي: إذا حدث كذب، فهو كذاب ولم يكذب مرة فقط بل يكذب مرات كثيرة، وإذا وعد أخلف، وليس ذلك مرة، فلا تصف إنساناً بالنفاق لأنه وعدك ثم أخلف الوعد وهو ينوي ألا يخلف، بل تلتمس له سبعين عذراً، فهو ليس منافقاً في هذه اللحظة، وإن وصفته بالنفاق فإن النفاق يرتد عليك. فالخلف هو أن تعد شخصاً أن تأتي إليه وتنوي ألا تأتي، فمن تيقن فيه أنه لا يفي بوعده ففيه خصلة من خصال النفاق. ومن الدلائل التي تدل على النفاق: أنه إذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اجتمعت الأربعة في إنسان كان منافقاً خالصاً. والرياء هو التجمل أمام الناس، لكن مع أهله فهو بذيء اللسان، طويل اليد، قابض الكف في الإنفاق بخيل، بينه وبين أولاده أو زوجته حواجز، إذا جلس في مكان أمام الناس فإنه يعامل زوجته معاملة أخرى، ويقول كلاماً كبيراً، ويصادق الأولاد، فهذا هو الرياء، أو يصلي في بيته بدون طمأنينة وأما في المسجد فإنه يطمئن في صلاته. فهذا يدخل في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:6]. ففي يوم تسعة وعشرين من رمضان لا تجده في المسجد، فإنه كان يصلي لرمضان، من أجل أن يقال عنه: فلان كان يصلي في رمضان، فهذا رياء والعياذ بالله رب العالمين، فلابد أن نعيد الحساب، قال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران:188]، فالمسلم لا يريد أن يحمد بشيء يصنعه، أو أن ينسب إليه خير لم يعمله. فمن المصائب أن تنسب إلينا أعمال لم نقم بها، وهذا من باب الاستدراج والغرور، وعدم رضا الله. وإذا نسبوا إلينا مرة فلتكن لنا وقفة مع النفس؛ لكي نكون كما نسب إلينا، وإذا لم نستطع ذلك فلنحاول، وإذا فشلنا فلنحاول مرات وننوي الخير من أجل أن نؤجر على النية، وإذا اعترتنا في أنفسنا بعض الوساوس أو الأقاويل بأن هذا سيكون محرجاً لنا مثلاً، أو أن هذا يتنافى مع مكانتنا ومقامنا، فمرضاة الله هي المقصد الأسمى في المسألة، ونسفه هذه الوساوس والأقاويل بل ونواجهها. والرياء لم يكن موجوداً عند السلف الصالح قديماً، ومعلوم أن اليسير من الرياء شرك والعياذ بالله، ولو أن إماماً يصلي بالناس وبينما هو راكع إذ شعر بدخول أحد المسبوقين فانتظر في ركوعه من أجل أن يدرك المسبوق الركعة، فعند أبي حامد الغزالي رحمه الله وهو رأي للشافعية أن صلاة الإمام باطلة؛ لأنه لم يصل لله. وقال ابن عباس: لو قلت: لولا الكلاب لسرقتنا اللصوص لكنت مشركاً. وكذلك من قال: إن الماء يروي، وإن الدواء يشفي، فإن هذه أسباب لا تنفع ولا تضر، وإنما النافع والضار هو مسبب الأسباب، وإنما يجب علينا أن نأخذ بالأسباب ونحن مكلفون بها. فمن اعتقد بقلبه أن الأسباب تنفع وتضر دون الله تعالى فإن هذا من سوء الخاتمة، فعلينا أن نصحح ما في قلوبنا من هذه الاعتقادات الخاطئة، فنحن مصابون في قلوبنا. وسوء الخاتمة معلق على القلب أولاً، ثم الجوارح ثانياً، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح كلها، وكل الناس تخاف من أمراض القلب، فلو حصل أي ألم في القلب فإن المتألم يذهب إلى الطبيب؛ لأنه خايف على دنياه، لكن لو أصيب في قلبه فصار لا يخشع في صلاته، ولا يقشعر جلده من ذكر الله، ولا يحن على الناس، ولا يتواضع، أو أن قلبه مليء بالكبر وبالحقد، فإنه لا يذهب إلى طبيب القلوب! والعلماء قسموا القلوب إلى أربعة: القلب الأول: قلب لا يحب إلا الله، وهذه قلوب الصحابة، فصاحب هذه القلوب تجده في أي وقت يحب الله عز وجل، ودوداً مع إخوانه، متواضعاً، هادئ النفس، كريماً، مضيافاً، بشوشاً، وكل الناس تشكره. الثاني: قلب الدنيا فيه جاثمة، فصاحب هذا القلب إذا أعطي منها رضي، وإن لم يعط ظل ساخطاً. الثالث: قلب ساعة وساعة، أي: بين بين، فعندما يأتي رمضان فإنه يعبد الله، ولذلك أحمل رسالة مهمة إلى كل المشاهدين والمشاهدات الذين واظبوا على العبادات في رمضان ألا يتركوها بعد رمضان؛ فإن ذلك من إحباط القلب. أما الذي يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما)، فلا يعبد الله إلا في رمضان، فهذا احتجاج في غير محله، فإن رمضان هو القمة في العبادة، والحسنة فيه مضاعفة، فرمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما بشرط ما اجتنبت الكبائر، ومن الكبائر الكذب والربا والظلم والافتراء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر). الرابع: قلب أحياناً تعلو عنده الآخرة فيلتزم قليلاً في درس علم، أو جلسة طيبة، أو تذكير بآية أو بأحاديث، أو يتفاعل مع قضية معينة، وأحياناً الدنيا تأخذه في أوديتها وشعابها، فهذا قلب متردد، ويوم القيامة يأتي إلى حرف الصراط فنوره مرة يضيء ومرة يخبو، كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20]، فإن الصراط مظلم، ولا يجتاز إلا بنور الإيمان. إذاً: سوء الخاتمة معلق على القلب أولاً، والقلب فيه من الأمراض الكثيرة التي تستلزم منا وقفة صادقة؛ لنصلح ما في القلب بتوبة صادقة، كما فعل أحد الكفار في غزوة الخندق عندما قال لرسول الله: يا محمد! لو أنا أسلمت الآن، وجاهدت معك هؤلاء، وقتلت في سبيل الله أأدخل الجنة؟ فلما عرف أن الإجابة بالإيجاب نطق بالشهادتين، وبدل ما كان الفرس ناحية المسلمين صار الفرس ناحية الكفار، فجاءه سهم غرب -أي: سهم طائش- فرزق الشهادة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (تبوأ الفردوس الأعلى وهو لم يسجد لله سجدة) وهذا من حسن الخاتمة. فهذا هو الفرق في حالتي المقتول، فمن قتل ونيته ابتغاء وجه الله ودخول الجنة فقد نجح وأفلح، ومن قتل في غير هذه النية فقد خسر خسراناً عظيماً. وفي القرآن الكريم تجد أن عدد آيات الرحمة مائتين وثلاث عشرة آية، وآيات العذاب مائتين وثلاث عشرة آية كذلك، وآيات الجنة مائة وسبع وخمسين آية، وآيات النار مائة وسبع وخمسين آية. أما الاعتماد على الشفاعة في الآخرة بدون أخذ الأسباب من الأعمال الصالحة، وطاعة الله ورسوله، فهذا غرور بالله سبحانه وتعالى، فإن الشفاعة تكون لرجل نتيجته تسعة وأربعين بالمائة، وإنما يحتاج درجة واحدة، فإنه يشفع له، وكذلك تكون الشفاعة لمن قال: لا إله إلا الله، فيخرج من النار بعد أن يأخذ مدة في العقاب. أما أن تفسر الشفاعة بأنها دخول الجنة مباشرة فإن هذا الكلام يملأ القلوب بالأماني والغرور بالله سبحانه وتعالى، ويملأ القلوب بالظلمة، فلا يُعبد رب العباد حقيقة العبادة التي خلقنا من أجلها. والبعض يتذرع في دخول الجنة بما ورد في الأثر السابق، فإن هذا الرجل عنده رصيد يتوجه به إلى الرب العظيم، أما نحن فأين رصيدنا من قيام الليل، أو رعاية اليتامى، أو رعاية الأرملة والمطلقة في المجتمع، فقد أصبحتا في زماننا مثل الكلبين الضالين.

الاهتمام بالنساء

الاهتمام بالنساء Q لماذا تركز على النساء تحديداً في المجتمع؟ A لأنهن ضعيفات، وأما ضعف الرجال أمام النساء كما هو مشاهد في عصرنا الحالي فإنه ناتج عن ضعف إيمان الرجال بالله تعالى، فلو عامل الرجال نساءهم بما يرضي الله لنزلت علينا البركات من السماء، ولخرجت بركات الأرض، لكن المعاملة فيما بينهم تسخط الله، فلذا تجد أن المرأة لا تدعو على زوجها أو أبيها فقط، وإنما تدعو علينا كلنا، وبهذه الدعوات تسوء الخاتمة، فتدعو على العلماء والدعاة الذين علموهم، وتدعو على الإعلام وعلى العاملين فيه، بل تدعو على الدولة بأسرها، وتستجاب دعوتها؛ لأن دعوة المظلوم مستجابة، فكم من دموع ثكالى ودموع أرامل ودموع مطلقات منبوذات في المجتمع وكأنهن مصابات بداء خطير معدي، فإن من شواهد سوء الخاتمة أن يكثر الظلم في المجتمع أياً كان نوع ومستوى الظلم. وقد دخلت امرأة النار في هرة، وهذا بسبب ظلم هرة فكيف بظلم العباد!!

الاستعداد للقاء الله وحسن الخاتمة

الاستعداد للقاء الله وحسن الخاتمة Q فضيلة الدكتور عمر عبد الكافي! كيف نستعد للقاء الله سبحانه وتعالى ونحسن خاتمتنا؟ A لن تصلح أمورنا إلا بما صلحت به أمور أسلافنا، فقد صلحت أمور أسلافنا بالكتاب والسنة، ونحن طالما نؤلف ونضع العقل فيما لا يصلح أن يوضع فيه، فنضع قوانين ومناهج عجيبة لأنفسنا فلن تصلح نهايتنا. والذي نريد أن نطالب الناس بتطبيقه هو الدين المفروض، أن نرى كل مسلم ومسلمة نسخة من القرآن تسير على الأرض. والمصيبة الكبرى هي أن نرى حافظ القرآن وهو يتعامل مع البنك الربوي، أو أن زوجته غير محجبة، أو يأكل ميراث الآخرين، أو يظلم فلاناً، أو يجور على حق الجار، فقد صار القرآن حجة عليه، وسوف يأتي ليشهد عليه يوم القيامة، فالمطلوب منا المحافظة على الدين كل والعمل به. والصحابة رضوان الله عليهم لم تكثر أسئلتهم كما هو الحال في كثرة أسئلتنا، فقد سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر سؤالاً، لأنهم كانوا يعملون بالدين في واقع حياتهم، أما نحن فلا نعمل، وعلى هذا ربينا، فلنعد صياغة تربيتنا مرة أخرى على منهج الكتاب والسنة. ولو سار المسلم بمصباح الكتاب والسنة لصغرت في طريقه هذه الفيروسات والميكروبات واضمحلت وما صارت في حياته شيئاً، وما صار في حياته إلا الله ورسوله، فهذا الكلام يقين وليس كلاماً نظرياً، هذا كلام عملي. فسر في طريق الله تجد الدنيا تسير خلفك، ولن يأتيك منها إلا الحلال، وسوف يأتيك منها نصيبك، فاللص الذي سرق لو صبر لما أخذ ما سرقه إلا من حلال، لكن من يفهم هذا الكلام، والموظف المرتشي لو صبر ولم يرتش ويمد يده لجاءته هذه الرشوة من طريق حلال. والصبر كلمة تتكون من ثلاثة أحرف، لكن حينما نترجمها إلى تهذيب النفس وإصلاحها، فإنها تستغرق طوال العمر. ومن حق الإنسان أن يعيش بمرضاة الله، هذه هي المعيشة الحقيقية، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، وقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96] أي: ولتجدنهم أحرص الناس على معيشة الهوام والحشرات والدواب والإبل، أما الحياة الحقيقية فليست إلا بكتاب الله، وحياة القلب عندما يحيا بكتاب الله سواء في رمضان أو في غير رمضان، بالليل أو بالنهار، في العلن أو في السر. والمسلم إذا أراد أن يحيا الحياة الحقيقية فإنه يضطهد من قبل الحكومات ويطرد ويشرد، وهذا ميراث النبيين، فلن تضاء آخرته إلا إذا احترقت دنياه، ومن احترقت بدايته أشرقت نهايته، يعني: أحرق الشهوات والغرائز، وأحرق اللسان الذي يكذب ويتسول وينم ويخوض ويتكبر، بأن أغفل الشهوات والغرائز ورباها، وزكاها. وهذا الأمر يحتاج إلى مجاهدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، والصحابة جاهدوا أنفسهم، يقول أحدهم: نزل القرآن وكنا أصحاب خمر نشربها، فلما طاف أنس في شوارع المدينة ونادى: يا معشر المسلمين! إن ربكم قد حرم الخمر من فوق سبع سماوات، أراق المسلمون جرار خمورهم في الشوارع حتى كأن سيلاً عرماً أصاب شوارع المدينة، حتى ظلت رائحة الخمر أسبوعاً كاملاً في المدينة من كثرة الخمور ومن كان في فمه جرعة ألقاها، أي: مجها. فهذا هو الجهاد الحقيقي، وأما نحن فإننا نتفلسف كثيراً، بل إن كثرة الأسئلة وكثرة الفلسفة وكثرة الجدال هي التي أزاحتنا إلى الوراء، لكن يجب علينا أن نضع خطة تعيدنا إلى الكتاب والسنة. ومن أراد أن ينقي نفسه فليقرأ سيرة السلف، ومن أراد الكتلوج فإنه واضح وبين وبسيط وميسور، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أريد أن أدخل الإسلام فعلمني، فقال رسول الله: يا أبا ذر! علم أخاك الإسلام، فيقرأ عليه سورة الزلزلة فقط، فيبكي الرجل ويقول: كفاني تعليم، وذهب الصحابي يجاهد في سبيل الله. فليس من المسلمين من لم يحمل هم الإسلام وهم المسلمين، فيجب علينا أن نحمل هموم الأمة في أن نأخذها بأيديها إلى سواء السبيل، وما نحن إلا ذرة تراب في بناء الإسلام الكبير.

دعاء

دعاء Q نرجو منكم دعاء نختم به هذا اللقاء. A اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، وارزقنا يا مولانا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً. اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا. اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، وهيء لبناتنا الأزواج الصالحين، ولأبنائنا الزوجات الصالحات، واطرد عنهم شياطين الإنس والجن يا رب العالمين. اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، وارحم كل ميت، وانصر كل مجاهد، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، ومن أراد بنا سوءاً فاردد سوءه إليه، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين، وإخرجنا من الفتن سالمين غانمين إنك على ما تشاء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

على بساط القرآن

على بساط القرآن القرآن هو كتاب الله العظيم، فيه صلاح البشرية وهدايتها، وإخراجها من الظلمات إلى النور، فهو المعجزة العلمية والتشريعية الخالدة، وقد وقفت أمامه قوى الكفر حائرة معترفة بقوته في ذاته، وتربيته النفسية والبدنية لأفراد صنعوا التاريخ.

العزة والتمكين في التمسك بكتاب الله تعالى

العزة والتمكين في التمسك بكتاب الله تعالى أحبتي في الله! الكون كونان: كون منثور وكون مستور، أما الكون المنثور: فهذا الفلك السيار الذي يحيط بنا، ونحن عبارة عن نقطة في محيط واسع من هذا الملكوت التي لا يعلم اتساعه ولا دقائقه ولا أسراره إلا خالقه عز وجل، هذا هو الكون المنثور الذي أمرنا الله أن ننظر فيه، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا} [الأنعام:11]، وهناك آيات للموقنين وللذين يقفون متدبرين لما خلق الله سبحانه وتعالى. وأما الكون الثاني من الكونين اللذين أوجدهما رب العباد عز وجل: فهو الكون المستور، وهو كتاب الله عز وجل، هذا الكون الذي يجمع رب العباد فيه كل ما صغر وما كبر، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]. وكلما اقترب المسلمون من هذا الكون المستور كان لهم كيان في هذا العالم الذي يحيون ويعيشون فيه، وكلما ابتعدوا عن هذا المنهج تلاوةً وتدبراً وتعبداً وسلوكاً وتطبيقاً عفا عليهم الدهر، وكانوا في هذا المجتمع العالمي غثاءً كغثاء السيل.

تطبيق الصحابة لكتاب الله عمليا

تطبيق الصحابة لكتاب الله عملياً لقد كان الصحابة يقرءون كتاب الله بتدبر، ثم يعملون بما فيه، وقد جاء بهم الحبيب صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم في هذه الحضانة الإيمانية في بدايتها، وشحذ هممهم، وركب هذه العقلية والنفسية العربية، وأحاطها بإحاطة إيمانية روحانية فذة، فصار كل صحابي نسخة مصحفية تسير على قدمين. فلقد كان المعصوم صلى الله عليه وسلم الأسوة قرآناً يمشي على الأرض، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)، كذلك كان صحابته الغر الميامين، فكل واحد منهم يمثل نسخة عملية من المصحف يراها الناس رؤيا العين. يحكى أن أعرابياً جاء وربط ناقته في جدار بستان من بساتين المدينة، ثم نام وغط في نوم عميق، فشعرت الناقة بجوع شديد فقطعت حبلها ودخلت إلى البستان وعاثت فيه فساداً، وحولت البستان إلى خراب من شدة جوعها. فأتى صاحب البستان فأخذ عصاً غليظةً وضرب الناقة حتى أخرجها من بستانه، فوقعت ضربة على رأس الناقة فماتت منها، فاستيقظ الأعرابي على ناقته وقد ماتت، فثار غضبه، فمن الذي سيعيده إلى قبيلته وهو من أرض بعيدة؟ فصارع الأعرابي صاحب البستان، فلكم الأعرابي صاحب البستان لكمة قضى فيها الرجل نحبه. واجتمع أهل صاحب البستان على الرجل ليأخذوه للقصاص، فقال الرجل: لي مطلب، قالوا: ما هو؟ قال: أعود إلى عشيرتي لأعطيهم وصية وأعود إليكم مرة أخرى، فتبسم القوم وقالوا: عجباً لك يا رجل! لا نعرفك ولا نعرف اسمك ولا اسم قبيلتك، ولا من أي بلد أنت، ولا من أي عشيرة، ثم نتركك بعد أن تقتل صاحبنا؟! فسمع أبو هريرة هذا الشجار، فلما علم بالمسألة قال: أنا أضمن الرجل، فسار الرجل ومرت جمعة وجمعتان وشهر والرجل ولم يعد بعد، فذهب أهل القتيل إلى أبي هريرة وقالوا له: يا أبا هريرة! أتضمن من لا تعرف؟ قال أبو هريرة: كي لا يقال: إن أصحاب المروءة قد ولوا، فإذا بالرجل يظهر على الأفق، قالوا: عجباً ما الذي أعادك؟ قال: حتى لا يقال: إن أصحاب الوفاء قد ولوا، فإني قد عاهدت أن أعود ولابد من الوفاء بالعهد، فقال أهل القتيل: ونحن قد عفونا كي لا يقال: إن أصحاب العفو قد ولوا. فأين أصحاب المروءة في زماننا؟ وأين أصحاب الوفاء في زماننا؟ وأين أصحاب العفو في زمننا؟ فهذه هي أخلاق القرآن وأخلاق المتدبر لكتاب الله عز وجل، إن هناك أناساً قد يقرءون القرآن ليصير حجة عليهم لا حجة لهم، فأنت تحكمك عدة محاور: زمان ومكان وأحداث.

فضل الله علينا في مغفرة ذنوبنا بالصلوات

فضل الله علينا في مغفرة ذنوبنا بالصلوات إن رب العباد عز وجل هو الذي يعلم من خلق، ويعلم ما الذي يصلح عبده وما الذي يفسده، فجعل الله للمسلمين بفضله سبحانه لقاء في عدة ساعات، ليلقى العبد ربه، ولكي ينفض عن نفسه ذنوباً صنعها في وقت قد مضى، فعندما تلقى الله ظهراً فإنه عز وجل يمحو عنك الذنوب التي عملتها صباحاً، فإذا وجدته عصراً نفس القضية، والمغرب كذلك، وصلاة العشاء كذلك، فيغفر لك ما قد سلف فتبيت وليس عليك خطيئة. وهل كل صلواتنا مقبولة؟ فإنه ليس كل مصل بمصل، وقد جاء في الحديث القدسي: (إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي، ورحم الأرملة والمسكينة وابن السبيل، هذا أكلؤه بعنايتي، وأستحفظه بملائكتي، وهو في عبادي كالفردوس في الجنة). إذاً: المتكبر لا تقبل له صلاة، وانظر إلى المسلم وستعرف كبره من حركة واحدة، خذ بيده لينتظم في الصف فإنه يقاتلك، وهذا هو الكبر.

ازدياد خوف الصحابة بعد تبشيرهم بالجنة

ازدياد خوف الصحابة بعد تبشيرهم بالجنة الصحابة الذين بشروا بالجنة عندما تقرأ عن حياتهم في كتب السير تجد أن خوفهم من الله اشتد وازداد بعد أن بشروا بالجنة، وهذا أمر غريب قد لا يفهمه العقل البشري. فهب جدلاً أن رجلاً صاحب مدرسة قال لك: أنا صاحب المدرسة وأنا الذي أعين المدرسين وأنا الذي أوقع على النتيجة النهائية، وابنك في رعايتي وهو ناجح آخر العام إن شاء الله، سواء كتب أم لم يكتب، هل يزداد اطمئنانك أم يزداد خوفك؟ يزداد اطمئنانك. أما أن تزداد خوفاً فهذا هو الأمر الأعجب، وليس المبشر للصحابة هنا هو صاحب المدرسة، وإنما المبشر للصحابة هو الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وعندما يبشر فتبشيره لهم صادق، لكن الصحابة يزدادون خوفاً؛ وذلك لأن العبد كلما ازداد حبه لله ازداد خوفه منه، وكلما ازداد قرباً من الله ازداد خوفاً منه، وكلما ازداد علماً ازداد جهلاً. وما يزال الرجل يتعلم ويتعلم فإن ظن أنه قد علم فقد بدأ يجهل، فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد جهلاً، وكلما كبرنا في السن كبرنا في العمر ولا نكبر في العلم، وذلك لأن العلم أرجاؤه متسعة وبالذات في الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه). وتقرأ في كتاب الله عجباً، فهذا عمر يخطب ويقول: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فيقول رجل أعرابي: ما الأب يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر: أفي المسجد من يجيب؟ فهذه فتيا ليست مهمته، إنما مهمته إمارة المؤمنين، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! الأب: ما تأكله الأنعام، أو ما قرأت بعدها {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:31 - 32] فالفاكهة لنا والأب لأنعامنا، فتدمع عين عمر ويقول: كل الناس أفقه منك يا ابن الخطاب! فهكذا الإنسان كلما اقترب من الله زاد خوفاً منه، وذكر أن ابن عباس ترجمان القرآن حبر الأمة يقول: كلمة فاطر في قوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:11] تعلمتها من أعرابي قح، فقيل له: كيف؟ قال: مررت بأعرابيين يحفران بئراً، فكان يدعي كل واحد منهما أنه هو الذي فطره، أي: هو الذي أنشأها وبدعها وكونها، فعلمت معنى كلمة {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] أي: مبدع السماوات والأرض، وخالق السماوات والأرض، ومنشئ السماوات والأرض. وهكذا الإنسان يظل يتعلم من الصغير ومن الكبير، ويظل يتعلم لا إله إلا الله، والإنسان كلما قرأ في كتاب الله يجد هذا الكون المستور في كتاب الله عز وجل. أعود وأقول: إن الصحابة بعد أن بشروا بالجنة ازداد خوفهم، فالعبد كلما اقترب من رب العباد عز وجل ازداد خوفه منه، وبالرجاء والخوف يعبر الإنسان إن شاء الله إلى بر النجاة. اللهم نجنا من النار، وقربنا من الجنة آمين يا رب العالمين!

سعي الشيطان في تثبيط بني آدم عما يرضي الله سبحانه

سعي الشيطان في تثبيط بني آدم عما يرضي الله سبحانه أنت أيها المسلم يحكمك زمان ويحكمك مكان، وهناك عدة عقبات حولك، فأنت تأتي لتفتح المصحف وتقرأ، فبعد صفحة أو صفحتين يأتيك الشيطان ويقول: يا فلان! أنت مجهد اليوم فخفف عن نفسك، وأنت تسعى لطلب الرزق، وسيكفر الله لك كل سيئاتك إن شاء الله؛ لأن هناك ذنوباً لا يكفرها إلا السعي على المعيشة. فالمسلمون لا يحفظون إلا أحاديث خاصة تهم المعيشة، مثل حديث: (الطبق يستغفر للاعقه)، وحديث: (إذا جاء العشاء والعشاء فأخروا العِشاء وقدموا العَشاء)، فالمهم أنه يطمئن بطنه، وهذه أحاديث متواترة عنده، فالمسلم عندما يقرأ القرآن يأتيه الشيطان من هذه الزاوية، يقول له: نم واسترح قليلاً، ثم قم قبل الفجر بساعة، واقرأ وأنت يقظ، فالمؤمن اليقظ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذه فرصة لا تعوض، ومن الذي يضمن لي إذا نمت أن أستيقظ مرة أخرى؟ قيل لأحد العلماء: أتحب أن تموت مسلماً عند باب الحجرة، أم شهيداً عند باب الدار؟ قال: أموت مسلماً عند باب الحجرة، فمن يضمن لي عندما أخرج من الحجرة ألا أجد فتنة فأموت على سوء خاتمة؟ أسأل الله أن يختم لنا ولكم بالصالحات. إذاً: يا إخوتاه! الشيطان يشغلنا في صلاتنا وفي قراءتنا لكتاب ربنا وفي جميع عباداتنا، فإذا أردت أن تخرج نفقة يقول لك: يا أخي! عشرة دراهم لا تكفي أحداً، انتظر حتى تصير مائة، انتظر حتى تصير مائتين. أقول: يا أخي! أخرج العشرة؛ لأنك لا تضمن نفسك بعد ذلك، فرب درهم غلب درهمين. ورضي الله عن أبي الدحداح، ورضي الله عن الصحابة الذين قدموا ما عندهم لله عز وجل، وقد كان أبو بكر يقول: والله يا رسول الله! ما نعطيه لك أحب إلينا من الأموال التي تبقى في بيوتنا. لكن يوجد في هذا الزمن أناس إذا حصل الواحد منهم على الدرهم أو الدينار أو الجنيه يأخذه ويضعه في كيسه ويقول له: لقد تعبت كثيراً يا حبيبي! في تنقلك بين أيدي الناس، فادخل فلن ترى النور مرة أخرى. وهكذا سمي المال مالاً؛ لأنه مال بالناس عن الحق. فنحن يحكمنا زمان ومكان، فالله عز وجل علم تقصير العباد فجعل الصلوات الخمس متقاربة، ثم جعل بفضله للمسلمين لقاء الجمعة، إذ نحضر إلى المسجد بعد أن نغتسل ونتطيب، ويأتي الخطيب ليخطب خطبة يذكرنا فيها بالله، ونجتمع فيصافح بعضنا بعضاً، وننفض الذنوب، ونخرج وقد شحنت القلوب شحنة طيبة. ثم علم الله تقصير العباد فجعل لهم مناسبة سنوية لقراءة كتاب الله، والأعمال الصالحة، إذ يبدأ المسلم في نفض التراب عن دفتي المصحف، ويكتشف أنه يوجد في بيته مصحف ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهناك من يزور المسجد خمس مرات في اليوم، وهذا هو المطلوب وفي رمضان وغيره. وهناك من يزور المسجد كل جمعة، وهناك من لا نراه في المسجد إلا من رمضان إلى رمضان، وهناك من يأتي إلى المسجد محمولاً على الأعناق لا ليصلي وإنما ليصلى عليه، نسأل الله السلامة. فيا أخي المسلم! الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فهو لك إذا عمرته وغمرته بطاعة الله، وعليك إذا ضيعته في اللهو واللعب، ولذلك فإن المؤمن الصادق يقف في معالم الحياة ويصلح فيها نفسه، فالحياة لها معالم يتوقف معها المسلم. وها قد بقي على رمضان أيام، فلابد لكل واحد منا أن يحاسب نفسه: هل صمت رمضان كله؟ ربما لم أصم، ربما أفطرت يوماً ولم أقضه، قد يكون علي زكوات ولم أخرجها، أو علي صلوات لم أصلها، أو ربما لم أختم المصحف في رمضان، يقول بعض أهل العلم: من لم يختم القرآن في شهر فقد بات مهاجراً لكتاب الله، فإذا كان الشهر العربي يمر عليه دون أن يختم المصحف فمتى يختمه؟ فعلى الأقل مرة في الشهر، أي: جزء في اليوم دائماً. وللأسف الشديد فإن كثيراً من المسلمين لا يدركون أن آيات العبادات في كتاب الله تقريباً مائة آية وعشر آيات من ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، إذاً: فهناك ستة آلاف ومائة وستة وعشرون آية تقريباً المسلمون غير مهتمين بها. يحكى أن حاتماً الأصم صلى بالمسلمين صلاة العصر، وكان المسجد مليئاً إلى آخره، فسلم يمنة ويسرة فلم يجد في المسجد مصلياً خلفه، فتعجب أين ذهب الناس؟ فوجد ضوضاء خارج المسجد فخرج، فقال: خيراً، قالوا: أما تشعر بما نحن فيه؟! انكسرت سارية من سواري المسجد فخشينا أن يسقط السقف علينا فهربنا، فقال: لقد كنت في الصلاة. وذكرني أحد الإخوة أنه حدث في مصر في عام اثنين وتسعين زلزال أثناء صلاة العصر، وكان هناك رجل ملتزم يصلي ركعتين، قال: ركعت فشعرت أن الأرض تهتز وشعرت بضوضاء، فوجدت نفسي راكعاً خارج المسجد لا أدري من الذي أخرجني؟ فهذا الرجل أثناء الزلزال خرج من المسجد في وضع الركوع ولم يتحرك، فكيف بزلزلة يوم القيامة؟! نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، لذلك فإن المسألة تعود إلى ضعف اليقين داخل القلوب. سئل حاتم عن خشوعه في صلاته، فقال: إن جاء وقت الصلاة أسبغت وضوئي، وجلست في المكان الذي سأصلي فيه؛ حتى تجتمع جوارحي. وانظر إلى صلاة الظهر أثناء الدوام، وانظر إلى عدم الخشوع فيها، فقد انشغلنا بأعمال الدنيا، يقول حاتم الأصم: جلست في المكان الذي سوف أصلي فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم فأكبر، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بخشوع، وأسجد سجوداً بتواضع، واضعاً الجنة عن يميني، والنار عن يساري، والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي، وملك الموت ورائي؛ كي أظنها آخر صلاة لي، وأتبع ذلك بالإخلاص في النية، ثم لا أدري أقبلت أم لم تقبل! وشتان بين حاتم وهذا الرجل الذي ذهب إلى أبي حنيفة قال: يا أبا حنيفة! بعت داراً لي وحفظت ثمن الدار في مكان ونسيته فلا أدري أين هو؟ فضحك أبو حنيفة إذ إن مهمة الفقيه ليست البحث عن مال الناس، قال: اذهب فقم لله الليلة عسى رب العباد أن يذكرك، فجاء الرجل في صلاة الصبح مبتهجاً، فقال له أبو حنيفة: وجدت مالك؟ قال: نعم، قال: ما الذي حدث؟ قال: دخلت في أول ركعة فتذكرت مكان المال، فخرجت قبل أن أنسى فلما وجدته نمت. قال أبو حنيفة: كنت أوقن أن الشيطان لن يدعك تتعبد لله الليلة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فهي أمامه، ومن كان يريد الآخرة فالله عنده ثواب الدنيا والآخرة. ولا يمكن أن يصلي الرجل الصلوات الخمس بالنوافل ويقرأ القرآن، ولكنه لا يكلم زوجته شهراً وشهرين ولا أريد أن أتطاول وأقول: وربما سنة أو سنتين، فتراه يقطب جبينه في وجه زوجته وأولاده. يروى عن عمر أنه جاءه رجل يريد أن يوليه، فقال عمر لخادمه: إذا جاء هذا فأدخله، فدخل الرجل فرأى عمر على يديه ورجليه، وأطفال عمر يركبون على ظهره ويدور بهم في البيت، فوقف الرجل في حالة من الذهول، فقال عمر: ما لك؟ قال: هكذا تصنع مع أبنائك يا أمير المؤمنين! قال: نعم، وماذا تصنع أنت؟ قال: إن دخلت فر الواقف، واستيقظ النائم، ووقف الجالس. قال: إذا لم تكن رحيماً بأبنائك فكيف تكون شفيقاً ورحيماً بأبناء المسلمين؟! لا حاجة لنا في ولايتك. فالإنسان الذي يريد أن يتولى أمر المسلمين يجب أن يكون رقيق القلب رحيماً.

وجوب فهم العبادة بمفهومها الواسع الصحيح

وجوب فهم العبادة بمفهومها الواسع الصحيح هناك فرائض غائبة عن المسلمين منها: تبسم المسلم في وجه أخيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، فالتبسم فريضة غائبة، وكأن كثيراً من الناس يظنون أن الفقهاء يقولون -وما قال بها فقيه-: إن أسنان الإنسان عورة، وهذا غلط، فإننا نريد أن نراها وهي جميلة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بسام المحيا، وكان لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمة من حرمات الله، فكان في شتى الأوقات يلقى الصحابة بوجه طلق مبتسم. فأنت في دعاء السفر تقول: وأعوذ بك من كآبة المنظر، فتخيل وأنت مسافر مع شخص مقطب جبينه أو زوجة مقطبة الجبين، والرحلة مسافتها عشرة كيلو متر، فبتقطيب الجبين تصبح ألف كيلو متر، ولذلك نستعيذ بالله من كآبة المنظر، فنحن لما فهمنا العبادة بمفهوم ضيق حصرنا الإسلام في جزئية عبادات قليلة، بدليل أن: زوجتك إذا جاءتها أيام لا يسمح لها بالصلاة أو بالصيام فيها يحدث لها حزن داخلي، لماذا؟ تقول: لقد تعطلت عن العبادة، وتظن أن العبادة مطلوبة منها في هذه الأيام، لكن انظر إلى رحمة الإسلام، فإن المرأة التي تواظب على الصلوات والنوافل وقراءة القرآن إذا جاءتها الأيام التي لا يصح أن تصلي فيها، تكتب الملائكة لها صلاتها ونوافلها وقراءتها للقرآن؛ لأنها ما حبسها إلا أمر الله عز وجل، فانظر إلى عظمة الإسلام ويسر الدين، إذ إن العبادة غير محصورة في هذا الأمر، فحسن تبعلها لزوجها من الأمر الذي يوضع لها في ميزان حسناتها، كذلك طلاقة وجهها في وجه زوجها. يذكر أن تابعية زفت إلى رجل تابعي ودخل وأغلق عليها الباب، فقالت له: يا عبد الله! أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، فخبرني بالله عليك ماذا تحب من الأمور حتى آتيها، وماذا تكره من الأمور حتى أتجنبها. فيجب علينا أن نفهم العبادة بمفهومها الواسع، فالله عز وجل جعل شهر رمضان شهر رحمة، فعليك أن تعيد حساباتك في هذه الأيام وتقول: أنا علي ديون يجب أن أؤديها.

كيفية مواجهة الأحداث ومعالجة مستوى الهزيمة في نفوسنا

كيفية مواجهة الأحداث ومعالجة مستوى الهزيمة في نفوسنا إن رمضان يأتي والأمة في حالة هزيمة داخلية وشعور بإحباط، وهذه حالة الجميع، وإذا كان الناس مقطبين عابسين فربما لهم العذر مما يحدث لهم من معوقات على مستوى العالم كله، ولكن ليست القضية أن تشغل نفسك بميكروبات وجراثيم الكفر والشرك، لا، القضية أن تشغل نفسك بتقوية جهاز المناعة الإيمانية التي تستطيع أن تقاوم به هذه الجراثيم وتلك الميكروبات، هذا ما صنعه الحبيب صلى الله عليه وسلم. ففي مكة أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ، ثم أمره الله أن يبلغ دعوته إلى الناس، وكان في مكة ميكروب يسمى أبا جهل، وفيروس يسمى أبا لهب، وجرثومة تسمى عقبة بن أبي معيط، وميكروبات عبارة عن طبقية وسادة وعبيد وخمور وأصحاب رايات حمر، وكل هذه الموبقات كانت موجودة في مكة. فلو أشغل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بتلك الميكروبات والجراثيم لما استطاع أن يبلغ دعوته، فما الذي صنع؟ إنه إذا وجد طفل ناقص فإن الأطباء يأخذونه ويضعونه في حضانة، لماذا؟ لتقوى عنده أجهزة المناعة، حتى إذا انطلق في العالم الخارجي فإنه يستطيع أن يتحمل الجو الخارجي. فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالصحابة ووضعهم في هذه الحضانة الإيمانية في دار الأرقم، حتى بلغ عددهم أربعين بإسلام عمر؛ وحينما أسلم عمر كان عمره ستة وعشرين عاماً، ويوم أن أسلم كان عدد المسلمين قبله تسعة وثلاثين مسلماً، فلما دخل في الإسلام صار المسلمون أربعين فيخرج عمر في صف وحمزة بن عبد المطلب في صف أمام مكة كلها. إذاً: بعد تقوية جهاز المناعة بدءوا يواجهون الميكروبات والجراثيم، فما ضرهم الجرثومة أبو جهل، ولا الميكروب أبو لهب ولا غير ذلك؛ لأن جهاز المناعة قوي، والذي يجعلنا ننهزم نحن في حياتنا هو أن أجهزة المناعة ضعيفة. والعز بن عبد السلام رجل عالم أيام المماليك وزحف التتار، هذا العالم استطاع أن يحمي الحضارة الإنسانية كلها من الزوال، فقد وقف وقفة جادة حتى باعوا المماليك وأخذوا ثمنهم، وجهزوا الجيوش وحفزوا القوة الشرعية والإيمانية في قلوب الناس، وكان النصر على التتار، فقد أوقِف زحف هؤلاء الجحافل، حتى إنه من كرم الله دخل التتار أنفسهم بعد ذلك في دين الله عز وجل لقوة الإسلام. إن أي دين يقوى بقوة أتباعه ويضعف بضعفهم إلا الإسلام، فهو قوي في ذاته ولا علاقة له بأتباعه، فلو أن الإسلام مرتبط بأتباعه لاندثر منذ زمن؛ لأن كثيراً منا عبارة عن منخنقة وموقوذة ونطيحة وما أكل السبع.

الإسلام قوي في ذاته

الإسلام قوي في ذاته دخل أعرابي الإسلام فسألوه: لماذا دخلت الإسلام؟ قال: ما قال لي محمد: افعل وقال قلبي: لا تفعل، وما قال لي محمد: لا تفعل وقال لي قلبي: افعل. فقد قال الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] فليس شرطاً أن ستة مليار إنسان يصيرون مسلمين، فالخمر في الغرب مباح، فهل يسمح الغرب لقائد طائرة أو قائد سيارة أن يسير وهو مخمور؟ مع أنه مباح عنده، فهو عند الضرر بالآخرين لا يسمح؛ لأنه يحتاج إلى ما عند الإسلام من تشريع. حتى إن الفرنسيين اليوم يدرسون قوانين المواريث الإسلامي لتطبيقه؛ لأنها أعظم القوانين في الميراث، حتى إن أبا القانون في فرنسا جلس بعدما درس المحاماة يبحث في القضايا التي حكمت فيها المحاكم الفرنسية على مدى ثلاثين عاماً، فوجد أن المحاكم الفرنسية أخطأت فيما يقرب من أربعين بالمائة في أحكامها، تبدأ من حبس لمدة ساعة، إلى سجن لمدة معينة، إلى إعدام. فالرجل الذي حجز لمدة ساعة وظلم وصار بريئاً، والذي سجن عشر سنوات وكان بريئاً، والذي قتل ولم يكن يستحق القتل، من يعوضهم؟ فبدأ يفتح في الكتب المقدسة؛ لعله يجد كتاباً مقدساً يعوض الإنسان بعد موته عن ظلم حاق به في الحياة، فلم يجد هذا التعويض إلا في القرآن، فأسلم هذا الرجل. فالإسلام قوي في ذاته، ففي الهيئة العالمية للإعجاز العلمي اكتشف علماء المخ والأعصاب منذ شهور أن المرأة التي تنزع بالملقاط أو بآلة شعر حواجبها يؤثر ذلك على الخلايا المخية عندها. ولا ننتظر أن يقول العلم: إن كلام الرسول صدق، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، لكن هذا كما قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]. تقول المرأة الألمانية العالمة التي حصلت على جائزة نوبل في الستينات: من الذي أدرى محمداً أن الكبد ناحية اليمين والقلب ناحية اليسار؟ فقد علم المسلمين أن يناموا على الجنب الأيمن؛ حتى يكون القلب من أعلى، فيتحرك طوال النوم بحرية، ولو نام الإنسان على الجنب الأيسر لالتصق الكبد على القلب فتحرك حركة بطيئة وعاق دخول وخروج الدم! من الذي علم محمداً هذا إلا ربه! فدخلت الإسلام لهذا السبب. إذاً: نحن في أيدينا أكبر ثروة في العالم وهو كتاب الله عز وجل، ولذلك قال الله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] أي: لا كتاب غيره، قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، وهذه الآية في أول البقرة يجوز أن تنطق كل كلمة منها وتقف عندها فتجد جملة مفيدة، فتقول: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] جملة مفيدة، وتقول: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة:2] جملة مفيدة، وتقول: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى} [البقرة:2] أو {فِيهِ هُدًى} [البقرة:2]، {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] فكلها جمل مفيدة. فالقرآن وحدة متكاملة، قال ابن عباس: كلما دخلت وقرأت في الحواميم شعرت أني في رياض أتأنق فيهن. ودخل أعرابي خلف أبي حنيفة ليصلي، فقال: من هذا الذي يصلي؟ قالوا: هذا أبو حنيفة، قال: من أبو حنيفة؟ قالوا: هذا عالم من علماء المسلمين، فوقف الرجل وزاحم في الصفوف إلى أن جاء إلى الصف الأول، فقرأ أبو حنيفة وهو يصلي بالناس. {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] وأخطأ أبو حنيفة وقال: (والله غفور رحيم)، فرد الأعرابي فقال: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38] فاستدرك أبو حنيفة وأعاد الآية سليمة، وبعد أن أنهى الصلاة قال: جزى الله خيراً الذي ردني، ففرح الأعرابي وقال: أنا، قال: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، قال: أتحفظ السورة؟ قال: لا، قال: أتحفظ الآية؟ قال: أول مرة أسمعها، قال: وما الذي أدراك أن نهاية الآية: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38] وليس: (والله غفور رحيم)؟ قال: لو كان نهاية الآية: (والله غفور رحيم) لما حكم على السارق بقطع يده، لكنه لما عز في عليائه حكم على السارق بقطع يده، فكان النص يقتضي: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38] وليس: (والله غفور رحيم). إذاً: فالقرآن خاطب هذه القلوب، وهذه القلوب تفاعلت مع كتاب الله عز وجل، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يجعل القارئ يقرأ أمام الجيش سورة الأنفال وسورة التوبة، ثم يقول: شعار المعركة: الله أكبر هبي رياح النصر، فتهب رياح النصر؛ لأنهم متفاعلون مع كتاب الله عز وجل. وهذا أنس بن النضر يقول: أشم رائحة الجنة خلف أحد، فهم لم يقرءوا القرآن فحسب، وإنما قرءوا القرآن وطبقوه. وحفظ عمر البقرة في ثمان سنوات، ليس لأن عمر لم يكن نبيهاً ولا ذكياً، وإنما كان يحفظ الآية ثم يطبقها، ثم يحفظ الآية التي تليها ثم يطبقها، فكان يحقق العلم والعمل.

دعوة إلى اعتناق حلق العلم في المساجد

دعوة إلى اعتناق حلق العلم في المساجد إن الله أعطانا أعظم ثروة وهي القرآن، ثم أعطانا الفرصة وهي شهر القرآن الذي نزل فيه، ففيه إعادة حسابات مع النفس الإنسانية المسلمة في بيته، فإني أحملك أمانة أن تجلس كل يوم مع زوجتك وأولادك ولو ربع ساعة بشرطين أساسيين: أن تغلق الهواتف المحمولة والمتحركة والساكنة وغير الساكنة، وتغلق شاشة التلفاز. أريد أن تنصت إليك زوجتك وأبناؤك، وأنت تنصت أيضاً وترى ماذا عملوا؟ من سمع حديث اليوم؟ من سمع قصة طيبة؟ من سمع حكمة في المدرسة؟ من رأى منظراً أعجبه؟ من له تعليق على موضوع معين؟ فقد ثبت أن الأسرة المسلمة هي أعظم أسرة في العالم. ففي الصيف الماضي كنت في أوروبا، فهناك خمسة عشر ألفاً قضوا نحبهم من الفرنسيين في موجة الحر، وأغلبهم من كبار السن الذين لا يعرف عنهم أحد أنهم ماتوا إلا إذا شم رائحتهم، ولا أحد يسأل عنهم، لكن نحن والحمد لله كل صلاة نتواجد فيسأل فلان عن فلان، ويقول: ما رأيناك في صلاة الصبح، أو ما رأيناك في صلاة العشاء، وهكذا دائماً المسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد). وقد وصل الأمر بالصحابة أن الصحابي كان يضع التمر في فم أخيه ليجد حلاوته في فمه هو، هذا شعور جيل القرآن، هؤلاء هم ملوك البشر الذين رباهم خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم في مسجده. فقد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبارة عن حصى ورمل وليس بهذه الأبهة التي في مساجدنا، ورغم ذلك فأولادنا عازفون عن المساجد، ونساؤنا عازفات عن المساجد، لماذا لا تحضر زوجتك معك في درس العلم وفي صلاة الجماعة لتسمع؟ فما وجدنا في كتب السير ولا التراجم صلاة خلت من امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن المسجد للرجال والنساء أيضاً، لتسمع أنت الدرس وتعود أنت وهي إلى البيت فتتدارسان ما سمعتماه من الشيخ، فالبنات والأولاد كلهم مكانهم المسجد، فالمؤمن في المسجد كالسمك في الماء إن خرج منه مات، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص يريد أن يهرب فور أن يفتح له. وما من مسلم يتطهر في بيته ثم يتوجه إلى بيت مولاه إلا ورب العباد سبحانه على باب المسجد يتلقاه، ويتبشبش في وجهه كما يتبشبش أهل الغريب عندما يعود إليهم غريبهم. فأنت في المسجد عند العظيم، وإن كنت عند العظيم فاسأل عظيماً حتى وإن كان عملنا لا يساوي شيئاً، لكن إن سألت العظيم فاسأله الفردوس الأعلى، فإنك عندما تدخل على إنسان غني وتريد أن تأخذ منه تقول له: أعطني عشرة آلاف أو عشرين ألفاً أو خمسين ألفاً. يذكر أن أعرابياً دخل على كسرى، فقال كسرى للأعرابي: تمنَّ علي يا أعرابي! قال: أتمنى ألف درهم؟ فغضبت الحاشية من الرجل، قال: وهل هناك أكثر من الألف؟ إذاً: فهناك عقبات تحيط بك لكن إن قويت جانب الطاعة علمك الله، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]. فالإنسان حين يقوي جانب العقيدة بداخله، ويتفاعل مع كتاب الله عز وجل، ويعمر شهر القرآن بالعمل بالقرآن بعد تلاوته، ينتج من هذا نتيجة مذهلة تعود على الأمة بالخير. إخوة الإسلام! إننا نحيا في وقت يحصل للمسلمين فيه مصائب جمة، لكن إن كانت الأمة في حالة من النوم المؤقت أو الغفلة المؤقتة، فإن الغد للإسلام إن شاء الله، لأن عند لحظة الاختيارات الكبرى لن يختار إلا الإسلام، قلت في مؤتمرين: بين الشرق والغرب، والمسلمين والغرب في أوروبا في الصيف الماضي: إنكم قد تقدمتم -ولا ننكر- في التقنية وفي الحضارة، ولكنكم تأخرتم في أمر آخر، قدموا أنتم لنا ما عندكم من حضارة ونحن نقبلها، ونقدم لكم حضارتنا وقيمنا الإسلامية، نتبادل المعرفة، أنتم تعطونا حضارة دنيوية ونحن نعطيكم سعادة الدارين: الدنيا والآخرة. إن نسبة الانتحار ونسبة الأمراض النفسية ونسبة الطلاق في دول الغرب مذهلة، ومن أسباب كثرة الطلاق في بلد كأسبانيا هو أن يذهب الزوج فيشكو، فيقال له: كيف تصبر عليها؟! هذه خطر على صحتك، طلقها، وتذهب الزوجة إلى الطبيب فتشكو زوجها، فيقول الطبيب: كيف تصبرين؟! طلقيه فوراً. لكن في ديننا فقد ضرب عمر بن الخطاب الحكمين، قالا: يا أمير المؤمنين! رفضا الصلح، فقام عمر بالدرة يضرب الحكمين، وقال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] فلو أخلصتما النية لأصلح الله بين الزوج وزوجته. إذاً: عمر اعتبر الحكم هو السبب في المشكلة، إذاً: فالحل ليس إلا في دين الله، فالعالم كله في حالة من الضياع، ونحن عندنا هذا الميراث الضخم وهذه الثروة الضخمة من كتاب الله، ومن أزمنة ونحن نتفاعل مع كتاب عسى رب العباد أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. جزاكم الله عني خيراً بحسن صبركم وحسن إنصاتكم، وبورك فيمن صنع هذا الخير، ولعلها بداية خير في عمارة المسجد، وندعو الله أن تستمر من حسن إلى أحسن، ومن جميل إلى أجمل. بوركت يد من وقع مثل هذا القرار، وبوركت قدمان تسعى لمثل هذه الأمور، وبورك لجهد يصنع الخير للمسلمين، وبوركتم جميعاً، يتقبل الله منا ومنكم، وجزاكم الله عنا خير الجزاء. وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه أجمعين.

الشوق إلى الله

الشوق إلى الله المؤمن يعيش في الدنيا غريباً، وتثير غربته شوقه إلى الله عز وجل، فتراه يصبر على ابتلاءات الدنيا؛ لأنه يعلم أن ذلك خير له في دينه ودنياه، فإن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، ومن لم يصب ببلاء قط فليحاسب نفسه، فقد يكون ذلك سخطاً من الله عليه.

غربة الإنسان في الدنيا

غربة الإنسان في الدنيا الحمد لله حمد عباده الشاكرين الذاكرين، وأصلي وأسلم على من أرسله الله رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فإن المسافر يشعر بأمور أربعة: الأمر الأول: الغربة. الأمر الثاني: التعب. الأمر الثالث: القلق. الأمر الرابع: أنه يعيش على أمل العودة. فأول صفة هي صفة الغربة، وهكذا نحن في الدنيا مسافرون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). إذاً: فالغريب وعابر السبيل فيهما صفة السفر، وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الناس، فالإنسان داخل بلده لا تظهر أخلاقه على طبيعتها، ولذلك تجد الناس الذين يحجون رفقة ينقسمون إلى قسمين وثلاثة، فإما أن يرجعوا متحابين أكثر، وإما أن يصبحوا أعداء، لماذا؟ لأنه يقول لك: أنا لم أكن أظن أنه بخيل، ولم أكن أظن أنه عصبي. ورحم الله إمامنا الشافعي الذي كان أستاذ علم الفراسة، فإذا كان للفراسة علم فهو أستاذها، كان ينظر إلى الشخص فيقول: هذا مؤمن، وهذا منافق، وهذا يظهر ما لا يبطن، وهذا مُراءٍ، لكن إذا قال فقد صدق. قال مرة: ألجأتني رحلة العلم إلى خيمة بالليل، فسلمت فرد الرجل السلام، فقلت في نفسي بعلم الفراسة: هذا رجل بخيل، قال: فإذا بالرجل يكرمني ويحسن ضيافتي، ويعلف ناقتي، ويهيئ لي مضجعاً، وأتاني بطعام العشاء، وشراب من نوعين، وقمت لله أصلي، فجاءني بماء وضوء ساخن، وصلى معي الفجر، ثم أتاني بطعام الإفطار، قال: فقلت في نفسي: تعس علم الفراسة، إن الرجل يكرمني إلى هذه اللحظة، فلابد أن أستسمحه، فقلت: يا هذا! اسمي محمد بن إدريس الشافعي، وأقطن مكة في منطقة كذا، فعندما تأتي إلينا لحج أو لعمرة فمر علينا. قال: وقبل أن أقول له: اعف عني وسامحني، قال: أعزمت على المسير؟ قلت: نعم، قال: اجلس، علفت دابتك بكذا، وقدمت لك طعام العشاء بكذا، وضيقت على نفسي في الليل ووسعت عليك بكذا، وأفطرتك بكذا، وقدمت لك ماءً ساخناً لتتوضأ بكذا، فقال الشافعي: فلم تخطئني الفراسة! فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال، وأول صفة في السفر الغربة، ولذلك كلنا في الدنيا على سفر. ويروى أن الحسن البصري رحمه الله رأى جمعاً من الناس فقال: ما لهؤلاء لماذا يبكون؟ قالوا: يا إمام! دفنوا ميتاً لهم، قال: عجباً! مسافرون يبكون مسافراً قد وصل قبلهم.

الشوق إلى الله عز وجل

الشوق إلى الله عز وجل أنت غريب في المجتمع، لكن غربتك هذه تدعوك إلى أن تشتاق للقاء الله عز وجل، أن يكون عندك شوق ومحبة، وعندك اندفاع روحاني قلبي إيماني للقاء رب العباد سبحانه. ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: احرص على الموت توهب لك الحياة. وقد حققنا لكم من قبل أن كل الشجعان من الصحابة رزقوا الشهادة في المعارك، ولكن الأشد شجاعة من القواد ما استشهدوا في المعارك، منهم خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، فهؤلاء لم يقتلوا في المعارك، رغم أنهم كانوا في المقدمة، ولا توجد حرب إلا اشتركوا فيها. إن سيدنا خالد بن الوليد لما احتضر قال: والله ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة رمح أو ضربة بسيف، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. إذاً: هذا إنسان غربته جعلته يشتاق إلى ما عند الله سبحانه. وسيدنا أنس بن النضر رضي الله عنه في غزوة أحد يقول: والله إني لأشم رائحة الجنة من خلف أحد. وسئل الحسن البصري: ماذا تصنع مع الشيطان؟ قال: ومن الشيطان؟! أطاعوه فما نفعهم، وعصوه فما ضرهم. فالذي يطيع الشيطان لا ينفعه، والذي يعصي الشيطان لا يضره، إذاً: كن مع الله.

التعب في السفر

التعب في السفر الصفة الثالثة: التعب، فلا يوجد مسافر في راحة، فمهما كانت وسيلة السفر مريحة فلابد أن يكون متعباً، وهكذا فإنك في الدنيا متعب. وقيل: لا راحة في الدنيا، ولا حيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، ولا راد لقضاء الله، فلا راحة في الدنيا لا لمؤمن ولا لغير مؤمن، بل إن المؤمن يعيش في الدنيا مستعداً للقاء الله. ولذلك فإن المؤمن تبدأ راحته عند الموت، والفاجر يبدأ تعبه عند الموت. فالمؤمن عندما يموت يحمل صفحة الراحة، وأما الفاجر فقد كان يقول: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فهو يظن أنه يعيش في الدنيا فقط، ويعمل فيها ما يشاء براحته، ولكنه حين يموت يبدأ تعبه، والمؤمن عند يموت تفتح له أبواب الرحمة. وأطمئن كل الذين ابتلاهم رب العباد وأقول لهم: هنيئاً لكم ما عند الله عز وجل، ولا أخص بالذكر أناساً معينين، فكل شخص عنده بلوى بقدر حجمه، فهناك من عنده بلاء المرض، أو أنه فقير، أو أن هناك مشكلة لا يوجد لها حل، أو أن هناك قضية في محكمة، فكل هذه من الابتلاءات. فهذا المبتلى لابد أن يثق في فضل الله ورحمته، فأنت لا ترى من الصورة إلا ظاهرها، ولكن باطن الصورة كله خير؛ لأن المبتلي رحمن رحيم، بل هو أرحم بك من أمك وأبيك. إذاً: لابد أن يعود عليك الابتلاء بالخير كله، واحمد الله أنك من أهل الابتلاء، وإذا لم تكن من أهل الابتلاء فراجع حساباتك. فقد ثبت في الحديث أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (من أصيب بحمى؟ فقال أعرابي: وما الحمى يا رسول الله؟! قال: أما أصابتك أم ملدم؟ قال: وما أم ملدم؟ قال: حرارة في الجسد، قال: كلا، قال له: أما أصابك صداع؟ قال: وما الصداع يا رسول الله؟! قال: عرق ينبض عن الرأس. قال: كلا، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا). فالله سبحانه إذا أحب عبداً ابتلاه. فهؤلاء الناس الذين يجلسون على الكراسي لو أصيب واحد منهم بمغص فإنه لا يعرف ربه إلا عندما يوعك وهو على الكرسي. نسأل الله سبحانه أن يرزقنا الصبر على البلوى. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.

معوقات في طريق الهداية

معوقات في طريق الهداية هناك أشياء تقف عائقاً أمام طريق الإنسان الذي يسعى نحو الهداية، ومن هذه العوائق: كثرة التمني، وكثرة الخلطة، وكثرة الأكل، وكثرة الضحك، وكثرة النوم.

معوقات الهداية

معوقات الهداية

كثرة التمني

كثرة التمني الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فهذه خواطر تخرج من القلب عن الهداية، وهي أشياء ملموسة أرجو أن تخرج من القلب لتدخل إلى القلب إن شاء الله. أول سبب من أسباب عدم الهداية: كثرة التمني، فإن الناس متى ركبوا بحر الأماني غرقوا وأغرقوا، وقد قيل: الأماني رأس مال المفاليس، مثلاً: رجل جالس في بيته لا يعمل أي عمل ومع ذلك يتمنى أن يكون لديه مال كثير فهذا لن ينال من المال شيئاً لم يسع في تحصيله، وهذا كالذي يعمل المعاصي ويقول: إن الله غفور رحيم، ونسي أو تناسى أن الله ذو عقاب أليم. تجد شاباً صغيراً فتأمره بالصلاة فيعتذر لك بعذر الصغر، وأن أباه لم يصل إلا في سن متقدمة، ويمني نفسه بأنه إذا كبر صلى كأبيه، وهذه عين الأماني الكاذبة، أو يزعم أنه سيصلي إذا تزوج، فهو يسوف ويتمنى رغم أن عمره بيد الله تعالى إن شاء أماته وإن شاء أحياه. قال أحد الصالحين: عرضت على نفسي الجنة وما فيها من نعيم، والنار وما فيها من عذاب، فقلت: أي المكانين تريدين؟ قالت: أريد ساعة أعمل فيها لله، قال: أمسكي الأمنية لتعملي. وجحا كان عنده من الأمنيات الشيء الكثير، فذات مرة لم يجد طعاماً فرزقه الله بكأس لبن من الجيران، فجلس يفكر في شأن اللبن وكيف يصنع به، فخطرت له فكرة مضمونها: أن يبيع هذا اللبن ويشتري بثمنه فرخين صغيرين، ثم يربيهما حتى يكبرا ثم يزاوج بينهما، ثم ينجبان فروخاً صغيرة، ثم يبيع هذه الفروخ ويشتري بثمنها شاتين، ثم يزاوج بينهما إلى أن يصبح له قطيع من الغنم، ثم بعد ذلك يصبح ثرياً، ثم فجأة ضرب كوب اللبن برجله فسقط وضاع كل شيء؛ وذلك بسبب هذه الأماني الكاذبة وأحلام اليقظة التي رآها. لكن الدين ليس بالأحلام: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123]، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]، فالقضية أن تعيش بالعمل لا بالأماني.

كثرة الخلطة

كثرة الخلطة العقبة الثانية من عقبات الهداية: كثرة الخلطة: وقد قال الحكماء: زر غباً تزدد حباً، وهذا في المعاملة العادية مع الناس، أما الحب في الله فليس له حواجز أو قوانين. وقال صلى الله عليه وسلم: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما) فإذا كرهت شخصاً فلا تقطع جميع الحبال؛ لأنه قد يكون حبيباً لك يوماً ما. فالمقصود: أن كثرة الخلطة تضيع المسألة، وتجعل الناس يتكلون على بعضهم، هذا إذا كانت الخلطة في غير مرضاة الله.

كثرة الأكل

كثرة الأكل العقبة الثالثة من عقبات الهداية: كثرة الأكل: وهو ثلاثة أنواع: حلال وشبهة وحرام. فالحلال من ناحيتين: من ناحية النوع كالأزر والجبن والخضروات، وحلال من ناحية الكسب. وهناك حرام من جهة النوع كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وحرام من ناحية الكسب. وهنا نطرح سؤالاً: ما حكم اللحمة التي تشترى من الجزار؛ لأننا سمعنا بعض الفتاوى التي تحرم لحمة الجزار حتى تتأكد من دينه وغير ذلك؟ A لحمة الجزار حلال، ولا ينبغي لك أن تسأل أو تتأكد من دينه؛ لأن هذا من قبيل التشدد لا التحري، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم كما شدد بنو إسرائيل على أنفسهم)، وذلك أنهم أمروا بذبح بقرة، فلو ذبحوها من غير تعنت لقبلت منهم، لكنهم تشددوا وتعنتوا فسألوا عن حقيقتها ولونها ونوعها فشدد الله عليهم. سؤال آخر: إذا تخمرت المكسرات كالزبيب والبلح فهل تحرم؟ الجواب: لا تحرم، ونقول: إنه لا ينبغي طرح مثل هذه الأسئلة لأنها من قبيل التشدد والتعنت. إذاً: فمن معوقات الهداية: كثرة الأكل، خاصة إذا كان طعام شبهة، ومن أكل من الشبهات أربعين يوماً عصت جوارحه شاء أم أبى. كذلك من معوقات الهداية: كثرة الضحك وكثرة النوم.

§1/1