درر السلوك في سياسة الملوك

الماوردي

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الَّذِي جعل الْحق معزا لمن اعتقده وتوخاه ومعينا لمن اعْتَمدهُ وابتغاه وَجعل الْبَاطِل مذلا لمن آثره وارتضاه ومذلا لمن أظهره واقتفاه واختص ملك الْمُلُوك بهاء الدولة وضياء الْملَّة وغياث الْأمة باعتقاد الْحق وَاجْتنَاب الْبَاطِل حَتَّى تمكن من نواصي من راده وَمَانعه وَجعل لَهُ من وَلَده سندا يظاهره وعضدا يؤازره فَالْحَمْد لله حمدا يوازي جميل نعمه ويضاهي جزيل قسمه وَصلى الله على بشير كل تَقِيّ مهتد ونذير كل مُعْتَد مُحَمَّد وَآله وصحابته هداة الصَّالِحين الأخيار وعداة الطالحين الأشرار وَسلم كثيرا أما بعد فَإِن الله سُبْحَانَهُ ببليغ حكمته وَعدل قَضَائِهِ جعل النَّاس أصنافا مُخْتَلفين وأطوارا متباينين ليكونوا بالاختلاف مؤتلفين وبالتباين متفقين واختص مِنْهُم رَاعيا أوجب عَلَيْهِ حراسة رَعيته وَأوجب على الرّعية صدق طَاعَته وَجعله الْوَسِيط بَينه وَبَين عباده وَلم يَجْعَل بَينه وَبينهمْ أحدا سواهُ فَكَانَ ملك الْمُلُوك بهاء الدولة مِمَّن خصّه الله باسترعاء خلقه واستودعه حفاظ حَقه

وَجَعَلنَا أهل طَاعَته نتمسك بعصم الْمُوَالَاة ونمت بإخلاص المصافاة وأخلص الرّعية من كَانَ لحق الرّعية مذكرا وبحق سُلْطَانه معترفا وَقد دَعَاني صدق الطَّاعَة إِلَى إنْشَاء كتاب وجيز ضمنته من جمل السياسة مَا إِن كَانَ الْملك قد حَاز علم أضعافه بِحسن بديهته وأصيل رَأْيه فَإِنِّي لن أعدم أَن أكون قد أدّيت من لَوَازِم الطَّاعَة أم يحسن موقعه إِن شَاءَ الله عز وَجل وقسمته بَابَيْنِ الْبَاب الأول فِي أَخْلَاق الْملك الْبَاب الثَّانِي فِي سياسة الْملك وترجمته بدرر السلوك فِي سياسة الْمُلُوك إِذا كَانَ مَا تضمنه دَاعيا إِلَيْهِ وحاثا عَلَيْهِ وَأَنا أسأَل الله تَعَالَى حسن المعونة والتوفيق وَإِلَيْهِ أَرغب فِي إمدادي بِالرشد والتسديد وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل

الأخلاق بين المدح والذم

الْبَاب الأول فِي أَخْلَاق الْملك الْأَخْلَاق بَين الْمَدْح والذم اعْلَم أَن الْإِنْسَان مطبوع على أَخْلَاق قل مَا حمد جَمِيعهَا أَو ذمّ سائرها وَإِنَّمَا الْغَالِب أَن بَعْضهَا مَحْمُود وَبَعضهَا مَذْمُوم قَالَ الشَّاعِر (وَمَا هَذِه الْأَخْلَاق إِلَّا طبائع ... فمنهن مَحْمُود وَمِنْهَا مذمم) إصْلَاح الْأَخْلَاق المذمومة بالتأديب وَلَيْسَ يُمكن صَلَاح مذممومها بِالتَّسْلِيمِ إِلَى الطبيعة والتفويض إِلَى النحيزة إِلَّا أَن يرتاض لَهَا رياضة تَأْدِيب وتدريج فيستقيم لَهُ

شريف الأخلاق ثمرته شريف الأفعال

الْجَمِيع بَعْضهَا خلق مطبوع وَبَعضهَا تخلق مسموع لِأَن الْخلق طبع وتكلف قَالَ الشَّاعِر (يَا أيتها المتحلي غير شيمته ... وَمن سجيته الْإِكْثَار والملق) (عَلَيْك بِالْقَصْدِ فِيمَا أَنْت فَاعله ... إِن التخلق يَأْتِي دونه الْخلق) شرِيف الْأَخْلَاق ثَمَرَته شرِيف الْأَفْعَال وشريف الْأَفْعَال لَا يتَصَرَّف فِيهِ إِلَّا شرِيف الْأَخْلَاق سَوَاء كَانَ ذَلِك طبعا أَو تطبعا وَقد نبه الله تَعَالَى على ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم بقوله لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} لِأَن النُّبُوَّة لما كَانَت أشرف منَازِل الْخلق ندب إِلَيْهَا من أكمل فَضَائِل الْأَخْلَاق

سياسة الإنسان لنفسه

سياسة الْإِنْسَان لنَفسِهِ فَإِذا بَدَأَ الْإِنْسَان بسياسة نَفسه كَانَ على سياسة غَيره أقدر وَإِذا أهمل مُرَاعَاة نَفسه كَانَ بإهمال غَيره أَجْدَر وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين من بَدَأَ بسياسة نَفسه أدْرك سياسة النَّاس وَقد قيل فِي منثور الحكم لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يطْلب طَاعَة غَيره وَطَاعَة نَفسه ممتنعة عَلَيْهِ قَالَ الشَّاعِر (أتطمع أَن يطيعك قلب سعدى ... تزْعم أَن قَلْبك قد عصاكا) وَرُبمَا حسن ظن الْإِنْسَان بِنَفسِهِ فأغفل مُرَاعَاة أخلاقه

فَدَعَاهُ حسن الظَّن بهَا إِلَى الرِّضَا عَنْهَا دَاعيا إِلَى الانقياد لَهَا ففسد مِنْهُ مَا كَانَ صَالحا وَلم يصلح مِنْهَا مَا كَانَ فَاسِدا لِأَن الْهوى أغلب من الآراء وَالنَّفس أجور من الْأَعْدَاء لِأَنَّهَا بالسوء أَمارَة وَإِلَى الشَّهَوَات مائلة وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّديد من ملك نَفسه قَالَ بعض الْحُكَمَاء من رَضِي عَن نَفسه أَسخط عَلَيْهِ النَّاس ولحسن الظَّن بهَا أَسبَاب فَمن أقوى أَسبَابه الْكبر والإعجاب وَهُوَ بِكُل أحد قَبِيح وبالملوك أقبح لِأَنَّهُ دَال على صغر الهمة مخبر بعلو الْمنزلَة وَكفى بِالْمَرْءِ ذما أَن تكون همته دون مَنْزِلَته وَقد قَالَ بعض أَشْرَاف السّلف لَا يَنْبَغِي أَن يرى شَيْئا من الدُّنْيَا لنَفسِهِ خطرا فَيكون بِهِ تائها والملوك أَعلَى النَّاس همما وأبسطهم أملا فَلذَلِك كَانَ الْكبر

السكينة والوقار أحمد من الكبر والإعجاب

والإعجاب بهم أقبح وَكَانَ عبد الله بن الْعَبَّاس رضوَان الله عَلَيْهِ يَقُول سَمِعت أَبَا بكر الصّديق رضوَان الله عَلَيْهِ يَقُول (إِذا أردْت شرِيف النَّاس كلهم ... فَانْظُر إِلَى ملك فِي زِيّ مِسْكين) (ذَاك الَّذِي حسنت فِي النَّاس رأفته ... وَذَاكَ يصلح للدنيا وَالدّين) السكينَة وَالْوَقار أَحْمد من الْكبر والإعجاب لَكِن السكينَة وَالْوَقار أَحْمد وَأولى بِهِ من الْكبر والإعجاب وَمن النَّاس من لَا يفرق بَين الْكبر وَالْوَقار وَهَذَا جهل بمعناهما الْفرق بَين الْكبر والإعجاب فإمَّا الْكبر والإعجاب فقد يَجْتَمِعَانِ فِي الذَّم ويفترقان فِي الْمَعْنى فالإعجاب يكون فِي النَّفس وَمَا تظنه من فضائلها وَالْكبر يكون بالمنزلة وَمَا تظنه من علوها أَسبَاب الْكبر وللكبر أَسبَاب فَمن أقوى أَسبَابه علو الْيَد ونفوذ الْأَمر

وَقلة مُخَالطَة الْأَكفاء وللإعجاب أَسبَاب فَمن أقوى أَسبَابه كَثْرَة مديح المقربين وإطراء المتملقين الَّذين استبضعوا الْكَذِب والنفاق واستصحبوا الْمَكْر وَالْخداع فَإِذا وجدوا لنفاقهم سوقا ولكذبهم تَصْدِيقًا جَعَلُوهُ فِي ذمم النوكي فاعتاضوا بِهِ رتبا وعوضوا مِنْهُ نشبا وحسبوه زينا فَصَارَ شينا وَحكم الممدوح بكذب قَوْلهم على صدق علمه وَجعل لَهُم طَرِيقا إِلَى الِاسْتِهْزَاء بِهِ وَمن أجل ذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احثوا فِي وُجُوه المداحين التُّرَاب وَقيل لأنوشروان لم تتهاونون بالمدح إِذا مدحتم قَالَ لأننا رَأينَا ممدوحا هُوَ بالذم أَحَق

بين التملق وصدق النصيحة

بَين التملق وَصدق النَّصِيحَة وَهَذَا أَمر يَنْبَغِي لكل وَاحِد أَن يراعيه من نَفسه وَيفرق بَين متملقه احتيالا وَبَين مخلص لَهُ النَّصِيحَة من أهل الصدْق وَالْوَفَاء الَّذين هم مرايا محاسنه وعيونه فَإِنَّهُ إِن أغفل ذَلِك داهن نَفسه ونافق عقله واستفسد أهل الْوَفَاء والصدق ومار مأكله النِّفَاق والملق فأعقبه ذَلِك ضَرَرا وأورثه تهجينا وذما وَالْملك أولى من حذر ذَلِك وتوقاه لِأَن حَضْرَة الْمُلُوك كالسوق الَّتِي يجلب إِلَيْهَا مَا ينْفق فِيهَا وكل دَاخل عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يُرِيد التَّقَرُّب إِلَيْهِ بقوله وَفعله فَإِذا علمُوا مِنْهُ إِيثَار الْمُوَافقَة على الْهوى وَحب الْمَدْح والإطراء جعلُوا ذَلِك أربح بضائعهم لَدَيْهِ وَمن أجل مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَيْهِ فيتصور ذمه حمدا وَقد كسب بِهِ ذما وَيتَصَوَّر قبحه حسنا وَقد كسب بِهِ قبحا فَهَذَا مِمَّا يجب أَن يتوقاه الْملك ويحذره دَلَائِل الْوَقار وَإِذا كَانَ الْوَقار مَحْمُودًا وَكَانَ الْإِنْسَان بِهِ مَأْمُورا فَوَاجِب أَن نصف مِنْهُ فصولا دَالَّة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا فَمن ذَلِك قلَّة التسرع إِلَى الشَّهَوَات والتثبت عِنْد الشُّبُهَات

وَاجْتنَاب سرعَة الحركات وخفة الإشارات ثمَّ إطراق الطّرف وَلُزُوم الصمت فَإِنَّهُ أبلغ فِي الْوَقار وَأسلم من هَذَا الْكَلَام مَعَ أَن الْملك ملحوظ الأنفاس مَنْقُول اللَّفْظ وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْحصْر خير من الهذر لِأَن الْحصْر يضعف الْحجَّة والهذر يتْلف المهجة وَقَالَ بعض البلغاء الزم الصمت فَإِنَّهُ يكسبك صفو الْمحبَّة ويؤمنك سوء المغبة ويلبسك ثوب الْوَقار وَيَكْفِيك مُؤنَة الِاعْتِذَار وَتكلم أَرْبَعَة من حكماء الْمُلُوك بأَرْبعَة كَلِمَات كَأَنَّهَا رميت عَن قَوس فَقَالَ ملك الرّوم أفضل علم الْعلمَاء السُّكُوت وَقَالَ ملك الْفرس إِذا تَكَلَّمت بِالْكَلِمَةِ ملكتني وَلم أملكهَا وَقَالَ ملك الْهِنْد أَنا على رد مَا لم أقل أقدر مني على رد مَا قلت وَقَالَ ملك الصين نَدِمت على الْكَلَام وَلم أندم على السُّكُوت

اعتماد الصدق والحذر من الكذب

وليعلم أَن الْحَاجة إِلَى الصمت أَكثر من الْحَاجة إِلَى الْكَلَام لِأَن الْحَاجة إِلَى الصمت عَامَّة وَالْحَاجة إِلَى الْكَلَام عارضة فَلذَلِك مَا وَجب أَن يكون صمت الْعَاقِل فِي الْأَحْوَال أَكثر من كَلَامه فِي كل حَال حُكيَ أَن بعض الْحُكَمَاء رأى رجلا يكثر الْكَلَام ويقل السُّكُوت فَقَالَ لَهُ إِن الله تَعَالَى إِنَّمَا جعل لَك أذنين وَلِسَانًا وَاحِدًا ليَكُون مَا تسمعه ضعف مَا تَتَكَلَّم بِهِ فَإِذا دَعَتْهُ الْحَاجة إِلَى الْكَلَام سبره وَقيل اللِّسَان وَزِير الْإِنْسَان فَإِذا تكلم تحذر من الْإِكْثَار فَقل من كثر كَلَامه إِلَّا وَكثر ندمه وَقد قيل من كثر كَلَامه كثرت آثامه وَلَا يَنْبَغِي أَن يعجب بجيد كَلَامه وَلَا بصواب مَنْطِقه فان الْإِعْجَاب بِهِ سَبَب الْإِكْثَار مِنْهُ وَقد قيل من أعجب بقوله أُصِيب بعقله اعْتِمَاد الصدْق والحذر من الْكَذِب ويعتمد الصدْق فِي مقاله وَاجْتنَاب الْكَذِب من مقاله فقد

رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ رحم الله امْرَءًا أصلح من لِسَانه واقصر من عنانه وألزم طَرِيق الْحق مقوله وَلم يعود الخطل مفصله فيحذر الْكَذِب وَلَا يرخص لنَفسِهِ فِيهِ إِلَّا على وَجه التورية فِي خداع الحروب فَإِن الْحَرْب خدعة وَقد جَاءَت السّنة بإرخاص الْكَذِب فِيهَا على وَجه التورية دون التَّصْرِيح فان أرخص لنَفسِهِ فِيهِ على غير هَذَا الْوَجْه صَار بِهِ موسوما لِأَن الْإِنْسَان بِقدر مَا يسْبق إِلَيْهِ يعرف وَبِمَا يظْهر من أخلاقه يُوصف وَبِذَلِك جرت عَادَة الْخلق أَنهم يعدلُونَ الْعَادِل بالغالب من أَفعاله وَرُبمَا أَسَاءَ ويفسقون الْفَاسِق بالغالب من أَفعاله وَرُبمَا أحسن فَإِذا وسم بِالصّدقِ وَقصر كَلَامه على المهم كَانَ تبشيره وإنذاره على حسب خطر الْأُمُور الَّتِي يجْرِي فِيهَا وعده أَو وعيده كَانَت أَلْفَاظه ألقابا وَكَانَ ذمه عذَابا وَاسْتغْنى عَن كثير من الإرغاب والإرهاب وَقد اختير للملوك عذوبة

الحذر من الغضب

الْكَلَام وجهارة الصَّوْت لِأَنَّهُ أرعب وأرهب وَحكي أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى عِكْرِمَة ابْن أبي جهل وَهُوَ عَامله بعمان إياك أَن توعد على مَعْصِيّة بِأَكْثَرَ من عقوبتها فَإنَّك إِن فعلت أثمت وَإِن تركت كذبت الحذر من الْغَضَب ويحذر الْغَضَب ويتجنبه فَإِنَّهُ شَرّ قاهر وأضر معاند وَلَيْسَ يفْسد الْأُمُور وينتقص التَّدْبِير إِلَّا عِنْد غلبته وَشدَّة فورته فَإِن مني بِهِ فَلَا يمْضِي فعلا وَلَا ينفذ حكما حَتَّى يَزُول

الحذر من المحل واللجاج

وروى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا استشاط السُّلْطَان تسلط الشَّيْطَان وَحكي أَن بعض مُلُوك الْفرس كتب كتابا فَدفعهُ إِلَى وزيره وَقَالَ إِذا غضِبت فناولنيه وَكَانَ فِيهِ مَكْتُوب مَالك وَالْغَضَب إِنَّك لست بإله إِنَّمَا أَنْت بشر ارْحَمْ من فِي الأَرْض يَرْحَمك من فِي السَّمَاء وَإِنَّمَا كَانَ يفعل هَذَا ليزول عَنهُ الْغَضَب خوفًا من قبح آثاره وَشدَّة إضراره الحذر من الْمحل واللجاج وَكَذَلِكَ الْمحل واللجاج يجب أَن يحذرهُ فَهُوَ أليف الْغَضَب وحليف العطب والانقياد للرأي أَحْمد والرفق فِي الْأُمُور أوفق وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الرِّفْق لم يكن فِي شَيْء قطّ إِلَّا

الصبر وأقسامه

زانه وَلَا نزع مِنْهُ إِلَّا شانه وليعلم أَن فِي الْأُمُور الَّتِي تدبرها مَا لَا يمْضِي إِلَّا بفرط الصرامة والهيبة وَأَن ذَلِك لَا يكون إِلَّا لمن خيف غَضَبه وخشيت سطوته فليجعل من الْغَضَب تغضبا لَا غَضبا لِأَن التغاضب فعله يُمكنهُ أَن يقف مِنْهُ على الْحَد الْمَطْلُوب وَالْغَضَب انفعال فِيهِ اضْطر إِلَيْهِ لَا يُمكنهُ أَن يقف مِنْهُ على حد وَلَقَد أصَاب من كَانَت عُقُوبَته للأدب وَأَخْطَأ من كَانَت عُقُوبَته للغضب وَهَذَا مِمَّا ذكرنَا فِي معنى الطَّبْع والتطبع وعَلى هَذَا الْقيَاس فَلَا يَنْبَغِي أَن يستفزه السرُور فتملأ البشائر قلبه وتخلب الأفراح لبه فينسبه الْعَدو إِلَى ضعف الْعَزِيمَة ولين الهمة بل يصور فِي نَفسه وَيقدر فِي فكره أَن البشائر وَإِن جلت محتقرة إِذا قيست بكبر همته وأضيفت إِلَى عظم مَنْزِلَته الصَّبْر وأقسامه وَكَذَلِكَ الْحَوَادِث إِذا طرقت والنوازل إِذا ألمت كَانَت سهلة الْوَطْأَة فِي جنب صبره وشهامته قَليلَة الْأَثر لسعة صَدره

وَبعد همته فَإِن طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْهَا طَارِئ بَان فَضله على سواهُ بِالصبرِ والمسكة عِنْد جزعهم وَالْوَقار والأناة عِنْد استفزازهم فَيكون بصبره ممتثلا لأمر الله عز وَجل فِيمَا أَتَاهُ راجيا للظفر فِيمَا يَقْصِدهُ ويتوخاه وَقد قَالَت الْحُكَمَاء بِالصبرِ على مواقع الكره تدْرك الحظوة وَقد قَالَ الشَّاعِر (إِذا الْمَرْء لم يَأْخُذ من الصَّبْر حَظه ... تقطع من أَسبَابه كل مبرم) وليعلم أَن الصَّبْر قد يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام وَهُوَ فِي كل قسم مِنْهَا مَحْمُود فَأول أقسامه الصَّبْر على مَا فَاتَ إِدْرَاكه من نيل الرغائب أَو نقضت أوقاته من نزُول المصائب وبالصبر فِي هَذَا تستفاد رَاحَة الْقلب وهدوء الْحَواس وفقد الصَّبْر فِيهِ مَنْسُوب إِلَى شدَّة الأسى وإفراط الْحزن فَإِن صَبر طَائِعا وَإِلَّا احْتمل كَارِهًا هما لَازِما وَصَارَ إِثْمًا لعمله راغما وَثَانِي أقسامه الصَّبْر على مَا نزل من مَكْرُوه أَو حل من أَمر مخوف وَالصَّبْر فِي هَذَا يفتح وُجُوه الآراء ويتوقى مكايد الْأَعْدَاء وَفِي مثله قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} وَقَالَت الْحُكَمَاء مِفْتَاح عَزِيمَة الصَّبْر يعالج مغاليق

كتمان السر

الْأُمُور وفقد الصَّبْر فِي هَذَا مَنْسُوب إِلَى الْخرق وثالث أقسامه الصَّبْر فِي مَا ينْتَظر وُرُوده من رَغْبَة يرجوها أَو يخْشَى حُدُوثه من رهبة يخافها وبالصبر والتلطف فِي هَذَا يدْفع عَادِية مَا يخافه من الشَّرّ وينال نفع مَا يرجوه من الْخَيْر وَفِي مثله قَالَت الْحُكَمَاء من اسْتَعَانَ بِالصبرِ نَالَ جسيمات الْأُمُور وفقد الصَّبْر فِيهِ مَنْسُوب إِلَى الطيش كتمان السِّرّ وَلَيْسَ يَصح الصَّبْر فِي الْأُمُور بترك التسرع إِلَيْهَا دون كتمان السِّرّ فِيهَا فَإِن كتمان السِّرّ من أقوى أَسبَاب الظفر وأبلغ فِي كيد الْعَدو وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ اسْتَعِينُوا على الْحَاجَات بِالْكِتْمَانِ

وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ سرك أسيرك فَإِذا تَكَلَّمت بِهِ صرت أسيره وَقَالَ أنوشران من حصن سره فَلهُ بتحصينه خصلتان الظفر بحاجته والسلامة من السطوات وليعلم أَن من الْأَسْرَار مَالا يسْتَغْنى فِيهَا عَن مطالعة ولي مخلص واستشارة نَاصح فليتحفظ فِيهَا وليختر لَهَا أمناءها فَإِن الركون إِلَى حسن الظَّن ذَرِيعَة إِلَى إفشاء السِّرّ فَلَيْسَ كل من كَانَ على الْأَمْوَال أَمينا يجب أَن يكون على الْأَسْرَار مؤتمنا والعفة على الْأَمْوَال أيسر من الْعِفَّة عَن إذاعة الْأَسْرَار لِأَن الْإِنْسَان قد يذيع سر نَفسه لمبادرة لِسَانه وَسقط كَلَامه ويشح على الْيَسِير من مَاله ضنا بِهِ وحفاظا عَلَيْهِ وَلَا يرى مَا أذاع من سره كَبِيرا فِي جنب مَا حفظه من يسير مَاله مَعَ عظم الضَّرَر الدَّاخِل عَلَيْهِ فَمن أجل ذَلِك كَانَ أُمَنَاء الْأَسْرَار أَشد تعذرا وَأَقل وجودا من أُمَنَاء الْأَمْوَال فَإِذا ظفر بِهَذَا الْأمين المعوز أودعهُ إِيدَاع متحفظ فَإِن وجده مؤثرا للوقوف عَلَيْهِ حذره وتوقاه فَإِن طَالب الْوَدِيعَة خائن

وَقد قَالَ الشَّاعِر (لَا تذع سرا إِلَى طَالبه ... إِن الطَّالِب للسر مذيع) وَأولى الْأُمُور فِي الْأَسْرَار كتمها لتؤمن مخاوف الإذاعة والإستطالة بالإدلال وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء من أفشى سره كثر عَلَيْهِ المتآمرون وَقد قَالَ الشَّاعِر (ألم تَرَ أَن وشَاة الرِّجَال ... لَا يتركون أديما صَحِيحا) (فَلَا تفش سرك إِلَّا إِلَيْك ... فَإِن لكل نصيح نصيحا)

المشورة

وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء إِذا وقفت الرّعية على سرائر الْمُلُوك هان عَلَيْهَا أمرهَا المشورة وَيَنْبَغِي للْملك أَن لَا يمْضِي الْأُمُور بهاجس رَأْيه ونتائج فكره تَحَرُّزًا من إفشاء سره والاستعانة بِرَأْي غَيره حَتَّى يشاور ذَوي الأحلام والنهى وَأهل الْأَمَانَة والتقى مِمَّن قد حنكتهم التجارب فارتضوا بهَا وَعرفُوا عِنْد موارد الْأُمُور حقائق مصادرها فَإِنَّهُ رُبمَا كَانَ استبداده بِرَأْيهِ أضرّ عَلَيْهِ من إذاعة سره وَلَيْسَ كل الْأُمُور المبرمة أسرارا مكتومة وَلَا الْأَسْرَار المكتومة بمشاورة النصحاء فَاشِية مَعْلُومَة وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا سعد أحد بِرَأْيهِ وَلَا شقي عَن مشورة

قَالَ بعض الْحُكَمَاء الاستشارة عين الْهِدَايَة وَقد خاطر من اسْتغنى بِرَأْيهِ وَقَالَ بعض البلغاء من حق الْعَاقِل أَن يضيف إِلَى رَأْيه آراء الْعلمَاء وَيجمع إِلَى عقله عقول الْحُكَمَاء فَالرَّأْي الْفَذ رُبمَا زل وَالْعقل الْفَرد رُبمَا ضل ويعتمد على استشارة من صَلَاحه مَوْصُول بصلاحه إِذا كَانَ عريا من الْهوى فِي المشورة فَإِن الْهوى يصد عَن الرَّأْي وَيمْنَع من الرُّؤْيَة وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حبك للشَّيْء يعمي ويصم أَي يعمي عَن الرشد ويصم عَن الموعظة

وَلَا يصور فِي نَفسه قبح الْحَاجة إِلَى رَأْي غَيره فَإِنَّهُ لَيْسَ يُرِيد الرَّأْي للإفتخار بِهِ وَإِنَّمَا يُريدهُ للِانْتِفَاع وَقد قَالَت الْحُكَمَاء من كَمَال عقلك استظهارك على عقلك وَقَالَ بعض البلغاء إِذا أشكلت عَلَيْك الْأُمُور وَتغَير لَك الْجُمْهُور فَارْجِع إِلَى رَأْي الْعُقَلَاء وافزع إِلَى استشارة الْعلمَاء وَلَا تأنف من الاسترشاد وَلَا تستنكف من الاستمداد فَلِأَن تسْأَل وتسلم خير من أَن تستبد وتندم وتكثر من استشارة ذَوي الْأَلْبَاب لاسيما فِي الْأَمر الْجَلِيل فَإِن لكل عقل ذخيرة من الصَّوَاب ومسكنا من التَّدْبِير ولقلما يضل عَن الْجَمَاعَة رَأْي أَو يذهب عَنْهُم الصَّوَاب وَلَا يجمعهُمْ على المشورة فَيكون الرَّأْي وَاحِدًا أَو يُوقع بَينهم إحنا وَلَا يطلع بَعضهم على استشارة بعض ليحيل كل وَاحِد مِنْهُم فكره فِي الرَّأْي طَمَعا فِي الحظوة بِالصَّوَابِ وَليكن مَعَ ذَلِك غير وان فِي الفكرة وَلَا مقصرا فِي الارتياء اتكالا على الِاسْتِعَانَة بآرائهم فَيكون فِي الرَّأْي مفوضا وَفِي الْأَمر

الأخلاق المتقابلة في الملوك

مُقَلدًا وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الاستسلام لرأي المشير هُوَ الْعَزْل الْخَفي فَإِذا أظهروه من مَكْنُون آرائهم سبرها بِرَأْيهِ واختبرها بعقله وسألهم عَن أُصُولهَا وفروعها وباحثهم عَن أَسبَابهَا ونتائجها وَلم يبد لَهُم رَأْيه فَإِنَّهُ يَسْتَفِيد بذلك ثَلَاث خِصَال إِحْدَاهُنَّ معرفَة عقله وَصِحَّة رُؤْيَته وَالثَّانيَِة معرفَة عقل صَاحبه وصواب رَأْيه وَالثَّالِثَة وضوح مَا انغلق من الصَّوَاب فَإِذا تقرر لَهُ الرَّأْي أَمْضَاهُ وَلم يَأْخُذهُمْ بعواقب الإكداء فِيهِ فَإِنَّمَا على الناصح الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَان النجاح وَقد قيل فِي الْمثل الطَّالِب للنجاح كالضارب للقداح سهم لَهُ وَسَهْم عَلَيْهِ الْأَخْلَاق المتقابلة فِي الْمُلُوك وليعلم أَن أَرْبَعَة أَخْلَاق مُقَابلَة لَيْسَ يعرى مِنْهَا أَو من أبدالها ملك فَإِن اسْتعْملت فِي غير موضعهَا أَو أخرجت عَن حَدهَا

الرقة والرحمة

إِلَى زِيَادَة أَو نُقْصَان ذمت وَإِن اسْتعْملت فِي موضعهَا ووقف مِنْهَا على حَدهَا حمدت 1 - الرقة وَالرَّحْمَة فأحدها الرقة وَالرَّحْمَة تحمد عِنْد اعتدالها وَفِي موضعهَا وتذم عِنْد غلبتها وميلها لِأَنَّهَا إِذا غلبت أفضت بِهِ إِي ترك الْحُدُود وإضاعة الْحُقُوق فيدعو ذَلِك إِلَى هياج طبائع المفسدين وتحريك آمال المتغلبين وانحل من عرى السياسة مَا كَانَ بالرهبة ملتئما وبخوف الْعقُوبَة منتظما وَمن نسب إِلَى رَحْمَة تبطل حدا أَو تضيع حَقًا كَانَ كَمَا قَالَ المقدمون كالطبيب الَّذِي يرحم العليل من ألم الْحَدِيد ومرارة الْأَدْوِيَة فتؤديه رَحمته إِيَّاه إِلَى هَلَكته وتورده حِيَاض منيته فَتَصِير رَحمته لَهُ أبلى من قسوته ورفقه بِهِ أضرّ من غلظته 2 - الْقَسْوَة والغلظة ثمَّ الْخلق الثَّانِي الْمُقَابل لهَذَا الْخلق هُوَ الْقَسْوَة والغلظة فَإِنَّهَا إِذا غلبت أفضت إِلَى مُجَاوزَة الْحُدُود فِي الجناة وعقوبة الأتقياء البراة فيدعو ذَلِك إِلَى إيحاش المستأنسين وتفرق المتآلفين وإساءة ظنون المناصحين وَيصير كل ولي لَهُ خصيما وكل امْرِئ عَلَيْهِ حنقا وَرُبمَا

السماحة والعطاء

ظن بعض النَّاس القساوة صرامة فَيذْهب فِي ذَلِك بَعيدا لِأَن الصرامة قلَّة الْغَفْلَة عَن الجرائر وَمَعْرِفَة الْأُمُور على الْحَقَائِق حَتَّى لَا يتدلس عَلَيْهِ السقيم بالسليم وَلَا يتَصَوَّر الخالع بِصُورَة الطائع والقساوة تهور فِي الْحُدُود وتعد فِي الْحُقُوق يقفه عَلَيْهِ أَتبَاع أهوائه وتحكيم فَاسد رَأْيه 3 - السماحة وَالعطَاء ثمَّ الْخلق الثَّالِث وَهُوَ السماحة وَالعطَاء فَإِن وقف على حَده وَهُوَ بذل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد الْحَاجة وإيصاله إِلَى مُسْتَحقّه بِقدر الطَّاقَة كَانَ مَحْمُودًا وَإِن تجَاوز هَذَا الْحَد صَار مَنْسُوبا إِلَى التبذير والإضاعة وَصَارَ بِإِزَاءِ تبذيره حُقُوق مضاعة وَإِذا انْتَشَر فِي النَّاس أَن أَمْوَاله تنَال بِغَيْر اسْتِحْقَاق وتدرك بِغَيْر سعي أثار ذَلِك مطامع المحتذين وتوجهت إِلَيْهِ وُفُود السَّائِلين قد ألقوا كلف الاحتراف واستبدلوا بِهِ دني الاقتراف فَإِن رام إرضاء جَمِيعهم لم يطق لاتساع آمالهم وَقُوَّة

البخل والإمساك

أطماعهم وَلَو أطَاق لأفسد سعي أَتْبَاعه وخبثت نيات أشياعه إِذْ سوى بَينهم فِي الْعَطاء بَين من لم يسع سَعْيهمْ وَلَا سد مسدهم وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا خير فِي السَّرف وَلَا سرف فِي الْخَيْر وَإِن خص بالعطاء قوما وَحرم قوما لحقه من ذمّ من حرمه أَضْعَاف مَا لحقه من حمد من وَصله 4 - الْبُخْل والإمساك ثمَّ الْخلق الرَّابِع الْمُقَابل لهَذَا الْخلق وَهُوَ الْبُخْل والإمساك الْمُؤَدِّي إِلَى تفرق الْكِرَام وذم الْخَاص وَالْعَام وانصراف قُلُوب الْأَوْلِيَاء واستطالة أَلْسِنَة الْأَعْدَاء فَيصير ذَلِك مفضيا إِلَى إِيثَار الْخِيَانَة على الْأَمَانَة والغش على النَّصِيحَة لِأَنَّهُ إِذا حرم الناصح الْأمين كحرمان الخائن الظنين وَلم ير الناصح مؤثرا كَانَ للخيانة مؤثرا ثمَّ يفتح للحاشية أَبْوَاب الريب فِي قَبِيح المكاسب وخبيث المطالب وَقبُول الرشا فَهَذِهِ

تجنب الحسد

الْأَخْلَاق إِذا أَخذ الْملك نَفسه بتعديلها اتسق نظام مَمْلَكَته واستقام أَمر دولته تجنب الْحَسَد ثمَّ يحفظ نَفسه من حسد غَيره فَإِن قدره يجل عَن مذمته وَظَاهر الْحَسَد أقبح من بَاطِنه وباطنه أضرّ من ظَاهره لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِر شدَّة الأسى على الْخَيْر أَن يكون للنَّاس الأفاضل وَهَذَا قَبِيح فِي الظَّاهِر وخاصة بالملوك الَّذين هم أس الْفَضَائِل ومعدن الْخيرَات وباطنه أَنه مغم للنَّفس كدود للحسد غير جالب لنفع وَلَا دَافع لضَرَر وَلَا مُؤثر فِي عَدو المنافسة فَأَما المنافسة فَهِيَ غير الْحَسَد فَلَا بَأْس أَن يتنافس الْأَكفاء فِي فضائلهم وَرُبمَا غلط قوم فظنوا أَن المنافسة فِي الْخَيْر هِيَ الْحَسَد وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ظنُّوا لِأَن المنافسة طلب التَّشَبُّه بالأفاضل من غير إِدْخَال ضَرَر على الْفَاضِل والحسد مَصْرُوف إِلَى الضَّرَر لِأَن غَايَته أَن يعْدم الْفَاضِل فَضله فَهَذَا هُوَ الْفرق بَين المنافسة والحسد

الامتنان

الامتنان ويجتنب الامتنان فِي الْإِحْسَان والبذخ بالجميل فَإِنَّهُ من ضيق النَّفس وتابع لفساد الْأَخْلَاق إِلَّا أَن يرى قوما كفرُوا إحسانه وقاربوا عصيانه فَيخرج ذَلِك مخرج التهديد جَزَاء لقلَّة شكرهم وَكفر إحسانه إِلَيْهِم وَيكون ذَلِك مِنْهُ إحسانا آنِفا يسْتَوْجب بِهِ الشُّكْر تصفح الْأَعْمَال وَليكن من رَأْيه أَن يتصفح فِي ليلته مَا فعله فِي نَهَاره فَإِن اللَّيْل أجمع للفكر وأحضر للخاطر فَإِن كَانَ صَوَابا أحكمه وأمضاه وَإِن كَانَ قد مَال فِيهِ عَن الصَّوَاب بَادر إِلَى استدراكه إِن أمكن وانْتهى عَن مثله فِي الْمُسْتَقْبل وليعلم إِنَّمَا صدر من أَفعاله فَلَيْسَ يَخْلُو فِيهِ ثَلَاثَة أَحْوَال إِمَّا أَن يكون قد اقتصد فِي فعلهَا ووقف مِنْهَا على حَدهَا وَهُوَ الْعدْل فِي كل الْأُمُور أَو يكون قد أفرط فِيهَا أَو قصر عَنْهَا وَكِلَاهُمَا ميل عَن الْقَصْد وَخُرُوج عَن الْحق فليعرف ذَلِك بصبره وتحريه وليفكر فِيهِ قبل نُفُوذه وتقصيه وَليكن مَعَ ذَلِك متصفحا لأفعال غَيره فَمَا أعجبه من جميلها وَاسْتَحْسنهُ من فضائلها بَادر إِلَى فعله وزين نَفسه بِالْعَمَلِ بِهِ فَإِن

الحذر والاحتراس

السعيد من تصفح أَفعَال غَيره فَانْتهى عَن سيئها واقتدى بأحسنها فنال هنيء الْمَنَافِع وَأمن خطر التجارب وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ وَقَالَ الشَّاعِر (إِن السعيد لَهُ من غَيره عظة ... وَفِي التجاريب تحكيم ومعتبر) الحذر والاحتراس وَلَا يغْفل عَن الحذر والاحتراس وَيجْعَل التَّوَكُّل على الأقدار

الطيرة والفأل

طَرِيقا إِلَى إِضَاعَة الحزم وَقيل لبَعض الْحُكَمَاء مَا الحزم فَقَالَ أَن تحذر مَا يُمكن كَونه قيل فَمَا الْعَجز قَالَ أَن تأمن مَا يُمكن كَونه وليعلم أَن بعض شدَّة الاتقاء والحذر مِمَّا يَدْعُونَا إِلَيْهِ مَا يتقى ويحذر فَإِن اسْتعْمل ذَلِك فِي غير مَوْضِعه أدخلهُ شدَّة اتقائه فِيمَا كَانَ مِنْهُ بَدْء إشفاقه وَقيل من التوقي ترك الإفراط فِي التوقي الطَّيرَة والفأل ويحذر من اعْتِقَاد الطَّيرَة فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء أضرّ بِالرَّأْيِ وَلَا أفسد للتدبير مِنْهَا مَعَ وُرُود السّنة باجتنابها وَالنَّهْي عَنْهَا وَمن ظن أَن الطَّيرَة ترد قَضَاء أَو تدفع محذورا فقد وهم فَأَما الفأل فمحمود لِأَن فِيهِ تَقْوِيَة للعزم وباعثا على الْجد فقد تفاءل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزَوَاته وحروبه

الملوك قدوة للرعية

وَلَا يُحَرك من الْأُمُور مَا كَانَ سَاكِنا وَلَا يفتح مِنْهَا مَا كَانَ مرتقبا مَا لم يغلبه أضرار فقد قيل فِي الْمثل لَا تفتح بَابا يعييك سَده وَلَا ترم سَهْما يعجزك رده وَلَا تفْسد أمرا يعييك إِصْلَاحه وَلَا تغلق بَابا يعجزك افتتاحه وَقد قَالَ الشَّاعِر (إياك وَالْأَمر الَّذِي إِن توسعت ... موارده أعيت عَلَيْك المصادر) (فَمَا حسن أَن يعْذر الْمَرْء نَفسه ... وَلَيْسَ لَهُ من سَائِر النَّاس عاذر) الْمُلُوك قدوة للرعية وَلَا يَأْمر بِمَعْرُوف إِلَّا بَدَأَ بِفِعْلِهِ وَلَا ينْهَى عَن مُنكر إِلَّا بَدَأَ بِتَرْكِهِ وَلَا يلم أحدا فِيمَا لَا يلوم عَلَيْهِ نَفسه وَلَا يَأْمُرهُم ببر لَا يأتمر بِهِ فَإِن النَّاس بأخلاق مُلُوكهمْ يستنون وعَلى شاكلتهم يجرونَ لأَنهم الْعلم الْمشَار إِلَيْهِ وَالْغَرَض الْمَقْصُود نَحوه وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء أصلح نَفسك لنَفسك يكن النَّاس تبعا

الرجوع إلى الحق

لَك وَقَالَ الْمَأْمُون أسوس الْمُلُوك من سَاس نَفسه لرعيته فأسقط عَنهُ مواقع حجتها وَقطع مواقع محبته عَنْهَا الرُّجُوع إِلَى الْحق لَا يأنف من حق إِن لزمَه أَو حجَّة إِن قَامَت فَإِن الرُّجُوع إِلَى الْحق أولى من الْمقَام على مَا سواهُ لمن علم وضوح حجَّته فَإِن كل امْرِئ إِنَّمَا يُخَاطب بأصغر لسانيه وَيحبس نَفسه عَن إِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِ ويراعي أَمر شهواته فَإِنَّهَا من نتائج الْهوى المذموم فَيَأْتِي مِنْهَا مَا لم يكن فِي الْعقل قبيحا وَلَا فِي الشَّرْع مَحْظُورًا فقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِذا تفرغ الْملك للهوى تفرغت الرّعية لإفساد ملكه

محاسبة النفس

وَقَالَ بعض البلغاء من آثر الْهوى ضَاعَت رَعيته وَمن داوم السكر فَسدتْ رويته محاسبة النَّفس فيهذب نَفسه بسبر أخلاقه ويراقب وليه كمراقبة عدوه وَلَا يحدث لَهُ الأنسة والانبساط بترك التحفظ عِنْد ولي أَو نسيب فقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء ليكن استحياؤك من نَفسك أَكثر من استحيائك من غَيْرك فَهَذِهِ كلمة كَافِيَة فِي أَخْلَاق الْملك الرشيد

شكر النعمة وحسن السيرة

الْبَاب الثَّانِي فِي سياسة الْملك شكر النِّعْمَة وَحسن السِّيرَة حق على كل من مكنه الله عز وَجل فِي أرضه وبلاده وائتمنه على خلقه وعباده أَن يُقَابل جزيل نعمه بِحسن السريرة وَيجْرِي فِي الرّعية بجميل السِّيرَة قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك} وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سَار فِيمَن بَين ظهريه بسيرة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر العاملين بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء وَمن سَار فِيمَن بَين ظهريه بسيرة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر العاملين بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أوزارهم شَيْء

وَحكي أَن عُثْمَان بن عبد الله وقف على مُحَمَّد بن سَمَّاعَة القَاضِي وَهُوَ فِي مجْلِس قَضَائِهِ يحكم بَين النَّاس فَقَالَ اسْمَع لَا سَمِعت يَا ابْن سَمَّاعَة ثمَّ أنشأ يَقُول (لقد كلفت يَا مِسْكين أمرا ... تضيق لَهُ قُلُوب الخائفينا) (أتعلم أَن رب الْعَرْش قَاض ... وتقضي أَنْت بَين العالمينا) فَقَامَ ابْن سَمَّاعَة من مَجْلِسه ودموعه جَارِيَة على خَدّه وَلَيْسَ أحد أولى بالحذر والإشفاق وَأَحْرَى بِالنّصب وَالِاجْتِهَاد مِمَّن تقلد أُمُور الرّعية لانقيادهم لحكمه وتصرفهم بَين أمره وَنَهْيه وَصَلَاح جَمَاعَتهمْ بصلاحه وَفَسَاد أُمُورهم بفساده وَقد قَالَت الْحُكَمَاء رشاد الْوَالِي خير من خصب الزَّمَان

الدين والملك

وأرشد الْوُلَاة من حرس ولَايَته بِالدّينِ وانتظم بنظره صَلَاح الْمُسلمين وَرُبمَا أهمل بعض الْمُلُوك أَمر الدّين وعول فِي أُمُوره على قوته وَكَثْرَة أجناده وَلَيْسَ يعلم أَن أجناده إِذا لم يعتقدوا وجوب طَاعَته فِي الدّين كَانُوا أضرّ عَلَيْهِ من كل ضرّ مباين لاقتراحهم عَلَيْهِ مَا لَا ينْهض بِهِ وتحكمهم عَلَيْهِ بِمَا لَا يثبت لَهُ فَإِن سمعُوا بنابغ نبغ عَلَيْهِ قوي طمعهم فِي اجتياج أَمْوَاله وَلم يقنعهم اسْتِيعَاب حَاله فَكَانَ مِنْهُم على شفا جرف لَا يَأْمَن من سطوتهم بِهِ وَقد قيل من جعل ملكه خَادِمًا لدينِهِ انْقَادَ لَهُ كل سُلْطَان وَمن جعل دينه خَادِمًا لملكه طمع فِيهِ كل إِنْسَان الدّين وَالْملك وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء يَنْبَغِي للْملك أَن يأنف أَن يكون فِي رَعيته من هُوَ أفضل دينا مِنْهُ كَمَا يأنف أَن يكون فيهم من هُوَ أنفذ أمرا مِنْهُ

وَقَالَ أردشير بن بابك فِي عَهده إِلَى مُلُوك فَارس إِن الدّين وَالْملك توأمان لَا قوام لأَحَدهمَا إِلَّا بِصَاحِبِهِ لِأَن الدّين أس وَالْملك حارس وَلَا بُد للْملك من أسه وَلَا بُد للدّين من حارسه لِأَن مَا لَا حارس لَهُ ضائع وَمَا لَا أس لَهُ منهدم وَكَيف يَرْجُو من تظاهر بإهمال الدّين استقامة ملك وَصَلَاح حَال وَقد صَار أعوان دولته أضدادها وَسَائِر رَعيته أعداءها مَعَ قبح أَثَره وَعظم وزره وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ستحرصون على

أصول السياسة العادلة

الأمارة ثمَّ تكون حسرة وندامة يَوْم الْقِيَامَة فنعمت الْمُرضعَة وبئست الفاطمة وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْملك خَليفَة الله فِي عباده وبلاده وَلنْ يَسْتَقِيم أَمر خِلَافَته مَعَ مُخَالفَته فالسعيد من الْمُلُوك من وقى الدّين بِملكه وَلم يق الْملك بِدِينِهِ وأحيى السّنة بعدله وَلم يمتها بجوره وحرس الرّعية بتدبيره ليَكُون لقواعد ملكه موطدا ولأساس دولته مشيدا ولأمر الله تَعَالَى فِي عباده ممتثلا أصُول السياسة العادلة وأصل مَا تبنى عَلَيْهِ السياسة العادلة فِي سيره الرَّغْبَة والرهبة والإنصاف الرَّغْبَة فَأَما الرَّغْبَة فتدعو إِلَى التآلف وَحسن الطَّاعَة وتبعث على الإشفاق وبذل النَّصِيحَة وَذَلِكَ من أقوى الْأَسْبَاب فِي حراسة

الرهبة

المملكة وَقد قيل من وثق بإحسانك أشْفق على سلطانك وَقَالَ أبرويز أَجْهَل النَّاس من يعْتَمد فِي أُمُوره على من لَا يأمل خَيره وَلَا يَأْمَن شَره الرهبة وَأما الرهبة فتحسم خلاف ذَوي العناد وتمنع سعي أهل الْفساد وَذَلِكَ من أقوى الْأَسْبَاب فِي تَهْذِيب المملكة وَقد قيل من أَمَارَات الْجد حسن الْجد وَمن عَلَامَات الدولة قلَّة الْغَفْلَة وَقَالَ بعض البلغاء من أعرض عَن الحذر والاحتراس وَبنى أمره على غير أساس زَالَ عَنهُ الْعِزّ وَاسْتولى عَلَيْهِ الْعَجز

الإنصاف

الْإِنْصَاف وَأما الْإِنْصَاف فَهُوَ الْعدْل الَّذِي بِهِ يَسْتَقِيم حَال الرّعية وتنتظم أُمُور المملكة وَقد قيل من عدل فِي سُلْطَانه اسْتغنى عَن أعوانه وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْملك يبْقى على الْكفْر وَلَا يبْقى على الظُّلم فَأَخذه بعض هَذَا الْعَصْر فَقَالَ عَلَيْك بِالْعَدْلِ إِن وليت مملكة وَاحْذَرْ من الْجور غَايَة الحذر (فالملك يبْقى على الْكفْر البهيم وَلَا ... يبْقى مَعَ الْجور فِي بَدو وَلَا حضر) وَقَالَ الْإِسْكَنْدَر لحكماء الْهِنْد أَيهمَا أفضل الْعدْل أم الشجَاعَة

الانتصاف

قَالُوا إِذا اسْتعْمل الْعدْل استغني عَن الشجَاعَة وَقَالَ أردشير إِذا رغب الْملك عَن الْعدْل رغبت الرّعية عَن الطَّاعَة الانتصاف وَأما الانتصاف فَفِيهِ إعزاز الْملك وتوفير الْأَمْوَال وَلَيْسَ فِي الْعدْل ترك مَال من وَجهه وَلَا أَخذه من غير وَجهه بل كلا الْأَمريْنِ عدل لَا استقامة للْملك إِلَّا بهَا وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا يَسْتَغْنِي الْملك عَن الكفاة وَلَا الكفاة عَن الإفضال وَلَا الإفضال عَن الْمَادَّة وَلَا الْمَادَّة عَن الْعدْل فالملك بِغَيْر كفاة مختل والكفاة بِغَيْر الإفضال مسلطون والإفضال بِغَيْر الْمَادَّة مُنْقَطع وَإِنَّمَا يُقيم الْموَاد بتسليط الْعدْل وَفِي تسليط الْعدْل حَيَاة الدُّنْيَا وبهاء الْملك

سياسة الملك للأعوان والحاشية

وَلَيْسَ تصح هَذِه الْأُمُور بِالْوُقُوفِ على حَدهَا وَاسْتِعْمَال كل وَاحِد مِنْهَا فِي مَوْضِعه فَإِن اسْتِعْمَال الرَّغْبَة فِي مَوضِع الرهبة فَسَاد فِي السياسة وَمَا أحسن مَا قَالَ المتنبي فِي هَذَا الْمَعْنى (وَوضع الندى فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى ... مُضر كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندى) وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من سَكَرَات السُّلْطَان الرِّضَا عَن بعض من يسْتَوْجب السخط والسخط عَن بعض من يسْتَوْجب الرِّضَا سياسة الْملك للأعوان والحاشية وليعلم أَنه لَا استقامة لَهُ ولرعيته إِلَّا بتهذيب أعوانه وحاشيته لِأَنَّهُ لَا يقدر على مُبَاشرَة الْأَمر بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَنِيب فِيهَا الكفاة من أَصْحَابه وَقد شبه المتقدمون السائس الْمُدبر للمملكة فِي

السّلم وَالْحَرب بالطبيب الْمُدبر للجسد فِي حفظ الصِّحَّة وعلاج الْأَمْرَاض وشبهوا الْيَدَيْنِ فِي بطشها بالجند والأعوان وَالرّجلَيْنِ بِالْكُرَاعِ وَالظّهْر والعينين بالحجاب والحرس والأذنين بأصحاب الْبَرِيد وَالْأَخْبَار وَاللِّسَان فِي نطقه بالوزراء وَالْكتاب بالخطباء والأعضاء الْمُجَاورَة للقلب بحاشية الْملك على طبقاتهم فِي الْقرب والبعد وحاجة الْخَاصَّة إِلَى الْعَامَّة فِي الِاسْتِخْدَام كحاجة الْأَعْضَاء الشَّرِيفَة إِلَى الَّتِي لَيست بشريفة لِأَن بعض الْأُمُور لبَعض سَبَب وعوام النَّاس لخواصهم عدَّة وَلكُل صنف مِنْهُم إِلَى الآخر حَاجَة وَإِذا كَانَ أعوانه مِنْهُ بِمَنْزِلَة أَعْضَائِهِ الَّتِي لَا قوام للجسد إِلَّا بهَا وَلَا يقدر على التَّصَرُّف إِلَّا بِصِحَّتِهَا واستقامتها وَجب عَلَيْهِ تَقْوِيم عوجهم وَإِصْلَاح فاسدهم وإبادة من لَا يُرْجَى صَلَاحه مِنْهُم كالسلع الَّتِي لَا يَسْتَقِيم الْجَسَد إِلَّا بقطعها قَالَ أبرويز من اعْتمد على كفاة السوء لم يخل من رَأْي فَاسد وَظن كَاذِب وعدو غَالب وأصل مَا يَبْنِي عَلَيْهِ قَاعِدَة أمره فِي اختبار أعوانه وكفاته أَن

يختبر أهل دولته ويسبر جَمِيع حَاشِيَته ويتصفح عُقُولهمْ وآراءهم وَمَعْرِفَة هممهم وأغراضهم حَتَّى يعرف بواطن أَحْوَالهم وكوامن أَخْلَاقهم فَإِنَّهُ إِذا فعل ذَلِك وجد طباعهم مُخْتَلفَة وهممهم متباينة فَيصْرف كل وَاحِد فِيمَا طبع لَهُ وجبل عَلَيْهِ وَلَا يُعْطي أحدهم منزلَة لَا يَسْتَحِقهَا وَلَا يستكفيه أَمر ولَايَة لَا ينْهض بهَا وَلَا ينقصهُ عَن مرتبته الَّتِي يَسْتَحِقهَا بِحسن كِفَايَته فكلا الْأَمريْنِ مُضر وبالسياسة معر وَقد قَالَ بهْرَام جور لَا شَيْء أضرّ على الْملك من استخبار من لَا يصدق إِذا خبر واستكفاء من لَا ينصح إِذا دبر وَقد قيل لبرز جمهر كَيفَ اضْطربَ بعض أُمُور آل ساسان وَفِيهِمْ مثلك قَالَ لأَنهم استعانوا بأصاغر الْعمَّال على أكَابِر الْأَعْمَال فآل أَمرهم إِلَى مَا آل وَقيل من اسْتَعَانَ بأصاغر رِجَاله على أكَابِر أَعماله فقد ضيع الْعَمَل وأوقع الْخلَل وَقد قَالَ بعض حكماء البلغاء من استوزر غير كَاف خاطر

بِملكه وَمن اسْتَشَارَ غير أَمِين أعَان على هلكه وَمن أسر إِلَى غير ثِقَة ضيع سره وَمن اسْتَعَانَ بِغَيْر مُسْتَقل أفسد أمره وَمن ضيع عَاقِلا دلّ على ضعف عقله وَمن اصْطنع جَاهِلا أعرب عَن فرط جَهله وليحذر تَوْلِيَة أحد بشفاعة شَفِيع أَو لرعاية حُرْمَة إِذا لم يكن مضطلعا بثقل مَا ولي وَلَا ناهضا بعبء مَا استكفي فقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء من قلد لذِي الْكِفَايَة سلم وَمن قلد لذِي الرِّعَايَة نَدم وَكَذَلِكَ لَا يُورث الْأَبْنَاء منَازِل الْآبَاء إِذا لم يتناسبوا فِي الشيم والطباع كَمَا لَا يَرث الأشرار مَرَاتِب آبَائِهِم الأخيار وَلَا يستخدم فِي الكتبة من كَانَ أَبوهُ كَاتبا إِذا كَانَ هُوَ غير كَاتب فَإِن أحب مُكَافَأَة أحد من هَؤُلَاءِ كافأه بِالْمَالِ والصلة وأضرب عَن إطعامه فِي الْولَايَة ليَكُون قَاضِيا لحقوقهم بِمَالِه وَلَا يكن قَاضِيا لحقوقهم بِملكه حُكيَ أَنه كَانَ على بَاب كسْرَى ساجة منقوشة بِالذَّهَب عَلَيْهَا

من يتفقدهم الملك من أعوانه

مَكْتُوب الْعَمَل للكفاة وَقَضَاء الْحُقُوق على بيُوت الْأَمْوَال وَمن رَآهُ قد تصدى للمعالي لَيْسَ من أبنائها فَلَا بَأْس باستكفائه إِذا كَانَ على مَا تصدى لَهُ مطبوعا وَإِلَيْهِ مَنْسُوبا إِذْ لَا سَبِيل إِلَى نجباء أَوْلَاد نجباء على الْأَبَد من يتفقدهم الْملك من أعوانه وبالملك أَشد الْحَاجة إِلَى تفقد أَربع طَبَقَات وَلَا يَسْتَغْنِي عَن تفقد أَحْوَالهم بِنَفسِهِ لأَنهم عماد مَمْلَكَته وقوام دولته فالطبقة الأولى الوزراء لأَنهم خلفاؤه وعَلى أَيْديهم تصدر أَفعاله فَإِن أَحْسنُوا نسب إِلَيْهِ إحسانهم وَإِن أساءوا أضيف إِلَيْهِ مساوئهم مَعَ عظم الضَّرَر الدَّاخِل عَلَيْهِ فِي مَمْلَكَته والقدح الموهن لدولته وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى بالأمير خيرا جعل لَهُ وَزِير صدق إِن نسي ذكره وَإِن ذكر أَعَانَهُ وَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى بِهِ غير ذَلِك جعل لَهُ وَزِير سوء إِن نسي لم يذكرهُ وَإِن ذكر لم يعنه

والطبقة الثَّانِيَة الْقُضَاة والحكام الَّذين هم مَوَازِين الْعدْل بتفويض الحكم إِلَيْهِم وحراس السّنة باتباعها فِي أحكامهم وبهم ينتصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم فِي رد ظلامته والضعيف من الْقوي فِي اسْتِيفَاء حَقه فَإِن قل ورعهم وَكثر طمعهم أماتوا السّنة بِأَحْكَام مبتدعة وأضاعوا الْحُقُوق بأهواء متبعة فَكَانَ قدحهم فِي الدّين أعظم من قدحهم فِي المملكة فِي إبِْطَال الْعدْل أعظم من إضرارهم بالمتحاكمين إِلَيْهِم فِي إبِْطَال الْحق وَقد قيل من أقبح الْأَشْيَاء سخف الْقُضَاة وظلم الْوُلَاة وَقَالَ أنو شرْوَان مَا عدل من جارت قُضَاته وَلَا صلح من فَسدتْ كفاته والطبقة الثَّالِثَة أُمَرَاء الأجناد الَّذين هم أَرْكَان دولته وحماة مَمْلَكَته والذابون عَن حَرِيم رَعيته والمالكون أَعِنَّة أجناده والعاطفون بهم على صدق نصرته وموالاته فَإِذا استقامت لَهُ هَذِه الطَّبَقَة استقام لَهُ جَمِيع أعوانه وَإِن اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ فسد نظام تَدْبيره مَعَ سَائِر أجناده لأَنهم إِلَى طَاعَة أمرائهم أسْرع وَلقَوْل كبرائهم أطوع فَإِذا خَافَ سطوة من بهم يَسْطُو وَلم يَأْمَن جَانب من

بهم ينجو كَانَ بِملكه مغررا وبنفسه مخاطرا وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِن الْوَفَاء لَك بِقدر الْجَزَاء مِنْك والطبقة الرَّابِعَة عُمَّال الْخراج الَّذين هم جباة الْأَمْوَال وعمار الْأَعْمَال والوسائط بَينه وَبَين رَعيته فَإِن نصحوا فِي أَمْوَاله وَعدلُوا فِي أَعماله توفرت خزانته بسعة الدخل وعمرت بِلَاده ببسط الْعدْل وَقد قيل فَضِيلَة السُّلْطَان عمَارَة الْبلدَانِ وَإِن خانوا فِيمَا اجتبوه من أَمْوَاله وجاروا فِيمَا تقلدوه من أَعماله نقصت مواده وَخَربَتْ بِلَاده وَتغَير عَلَيْهِ لقلَّة دخله أجناده وتولد مِنْهُ مَا لَيْسَ يحل فَسَاده وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء ظلم الْعمَّال ظلمَة الْأَعْمَال وَحكي أَن الْمَأْمُون جلس يَوْمًا وَحضر الْعمَّال فقبلهم أَعمال السوَاد واحتاط فِي الْعُقُود فَلَمَّا فرغ قَامَ إِلَيْهِ عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله تَعَالَى دَفعهَا إِلَيْك أَمَانَة

تفقد الملك بنفسه لمن يستخدمهم في شئونه الخاصة

فَلَا تخرجها عَن يدك قبالة قَالَ صدقت وَفسخ ذَلِك وَإِنَّمَا أَرَادَ عبيد الله ابْن الْحسن الْعَنْبَري أَن تَقْبِيل الْأَعْمَال ذَرِيعَة إِلَى تحكيم الْعمَّال وتحكيمهم سَبَب لخراب الْأَعْمَال فَتنبه الْمَأْمُون على مُرَاده تفقد الْملك بِنَفسِهِ لمن يستخدمهم فِي شئونه الْخَاصَّة وَهَا هُنَا طبقَة أُخْرَى يجب أَن يتفقد أَحْوَالهم بِنَفسِهِ غير أَنهم يختصون بحراسة نَفسه لَا لسياسة ملكه وهم الَّذين يستخدمهم فِي مطعمه ومشربه وملبسه وَمن يقرب مِنْهُ فِي خلوته فَإِنَّهُم حصنه من الْأَعْدَاء وجنته من الأسواء

تفقده لمن سوى هؤلاء

وَقد اخْتَار حكماء الْمُلُوك أَن لَا يستخدموا فِي مثل هَذَا إِلَّا أحد ثَلَاثَة إِمَّا من تربى مَعَ الْملك وألفه وَإِمَّا من رباه الْملك على أخلاقه وَإِمَّا من رَبِّي الْملك فِي حجره فَإِن هَؤُلَاءِ أهل الصدْق فِي موالاته ونصح فِي خدمته وعلو فِي حفاظه ورعايته وَمن أجل ذَلِك وَجب أَن يكون إحسانه إِلَيْهِم أَكثر وتفضله عَلَيْهِم أظهر ويتولى فعل ذَلِك بِنَفسِهِ وَلَا يكلهم إِلَى غَيره فقد قيل فِي سالف الحكم إِنَّه لَيْسَ من استكره نَفسه فِي حظك كمن كَانَ حَظه فِي طَاعَتك تفقده لمن سوى هَؤُلَاءِ ثمَّ يتفقد من سوى هَذِه الطَّبَقَات بِحَسب مَنَازِلهمْ فِي خدمته فقد قيل من قضيت واجبه أمنت جَانِبه

تصفح أحوال الحاشية في زمان السلم

تصفح أَحْوَال الْحَاشِيَة فِي زمَان السّلم وليعلم أَن لكل طبقَة من الْحَاشِيَة والأعوان آفَة مفْسدَة وبلية قادحة يقف عَلَيْهَا عِنْد سبرهم واختبارهم وَيظْهر مَا استكن مِنْهَا بالبحث عَن أَحْوَالهم وَقد قيل آفَة الْمُلُوك سوء السِّيرَة وَآفَة الوزراء خبث السريرة وَآفَة الْجند مُخَالفَة القادة وَآفَة الرّعية مُفَارقَة الطَّاعَة وَآفَة الزعماء ضعف السياسة وَآفَة الْعلمَاء حب الرياسة وَآفَة الْقُضَاة شدَّة الطمع وَآفَة الْعُدُول قلَّة الْوَرع وَآفَة الْملك تضَاد الحماة وَآفَة الْعدْل ميل الْوُلَاة وَآفَة الجريء إِضَاعَة الْعَزْم وَآفَة الْقوي استضعاف الْخصم وَآفَة الْمجد عوائق الْقَضَاء وَآفَة الْمُشَاورَة انْتِقَاض الآراء وَآفَة الْمُنعم قبح الْمَنّ وَآفَة المذنب سوء الظَّن حسم مواد الْفساد فَإِذا وقف على مواد فسادهم وَأَسْبَاب آفاتهم حسم ببحثه وسبره الْموَاد الْفَاسِدَة وَقطع بكشفه وَخَبره الْأَسْبَاب الموهنة لتستقيم لَهُ

تفقد الملوك سيرة حماة البلاد وولاة الأطراف

مصَادر الْأُمُور ويأمن نتائج التَّقْصِير تفقد الْمُلُوك سيرة حماة الْبِلَاد وولاة الْأَطْرَاف وَيكون كثير الاعتناء بسيرة حماة الْبِلَاد وولاة الْأَطْرَاف الَّذين قد فوض إِلَيْهِم أمانات ربه واستخلفهم على حفاظ خلقه فَينْدب لذَلِك من أمنائه من قد حَاز خِصَال التَّفْوِيض وَاسْتحق بحزمه وشهامته الْولَايَة والتقليد وَقد قَالَ أردشير فِي بعض حكمه لَا يصلح لسد الثغور وقود الجيوش وتدبير الْخُيُول وحراسة الأقاليم إِلَّا من تكاملت فِيهِ خمس خلال حزم يتَيَقَّن بِهِ عِنْد موارد الْأُمُور وحقائق مصادرها وَعلم يحجزه عَن التهور فِي المشكلات إِلَّا عِنْد تجلي فرصتها وشجاعة لَا ينقصها الملمات بتواتر جوائحها وعظيم هولها وَصدق فِي الْوَعْد والوعيد يوثق مِنْهُ بِالْوَفَاءِ عَلَيْهَا وجود يهون عِنْده تبذير الْأَمْوَال عِنْد ازدحام السُّؤَال عَلَيْهِ

وَهَذِه خِصَال إِن لم يحزها ذَوُو السياسة ويكملها أولو الرِّعَايَة كَانَ إخلالهم فِيمَا يقلدون من أَعْمَالهم بِقدر إخلالهم بِمَا عدموه مَعَ تَكَامل خصالهم وَقد يقْتَرن بِهَذِهِ الْخِصَال مَا يُخَالف حَاله على حسب اخْتِلَاف الزَّمَان فَرُبمَا حمد من أخلاقه فِي بعض الْأَزْمَان اللين واللطف وَفِي بعض الْأَزْمَان الخشونة والعنف فَإِن لكل زمَان حكما وَلكُل قوم تدبيرا وَقد وصف عمر بن الْخطاب رضوَان الله عَلَيْهِ أَخْلَاق الْوُلَاة فَقَالَ لَا يصلح أَن يَلِي أَمر الْأمة إِلَّا حصيف الْعقْدَة قَلِيل الْغرَّة بعيد الهمة لَا يخْشَى فِي الله لومة لائم ثمَّ يكون شَدِيدا من غير عنف لينًا من غير ضعف جوادا من غير سرف وَهَذِه الْأَخْلَاق الَّتِي وصفهَا يجب أَن تكون لَازِمَة لكل وَال مطبوعة فِي كل مُدبر ثمَّ يحفظ مَرَاتِب جَمَاعَتهمْ وَينزل كل وَاحِد مِنْهُم الْمنزلَة الَّتِي يَسْتَحِقهَا لكفايته وَحسن أَثَره فَإِن حفظ الْمَرَاتِب فِي المملكة أولى من حفظ السّمع وَالْبَصَر لعظم المنافسة فِيهَا وَكَثْرَة

الْمُزَاحمَة عَلَيْهَا وَقد يُدَلس عَلَيْهَا كتدليس البهرج وترشح لَهَا من لَيْسَ من أَهلهَا غَاصبا عَلَيْهَا فتصغر فِيهَا أَيدي أَرْبَابهَا وَينفذ فِيهَا حكم غصابها وَلَيْسَ كل من تعاظم بعظيم وَلَا كل من تسود بِسَيِّد صَار والناسك غير المتناسك والشريف غير المتشرف وَلَا خير فِي مملكة الرؤوس فِيهَا أذنابا والأذناب رؤوسا وَهَذَا أَمر يجب صرف الاهتمام إِلَيْهِ لما فِي نظامه من نضارة الْملك وغضارته وبهجة الْعَيْش ولذته إِذْ لَا شَيْء أعظم إيحاشا من إِضَاعَة مثله سعي الكفاة وَرفع السفلة الدناة فَإِذا حمد سعي صَاحب فِي ولَايَته أقره على عمله فَإِنَّهُ وَإِن حسن أَن ينْقل الْجند من مرتبَة إِلَى أُخْرَى فَلَيْسَ بصواب أَن ينْقل وَالِي مَدِينَة إِلَى مَدِينَة أُخْرَى وَلَا وَصَاحب خراج إِلَى ولَايَة أُخْرَى بل تكون ولَايَته مَا بَقِي على جميل السِّيرَة فَإِن أَتَى بِمَعْصِيَة أَو خِيَانَة صرفه صرفا لَا ولَايَة بعده إِلَّا عَن تَوْبَة وإقلاع وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْحَاشِيَة والحكام وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَنه مَتى عرف من السُّلْطَان أَنه يرى الصّرْف والاستبدال اعْتقد كل وَال أَن أَيَّامه قَصِيرَة فَعمل لسوق يَوْمه محتجنا للأموال فِي صدر ولَايَته

وَلم يلْتَفت إِلَى صَلَاح غده فَإِذا صرف خلف الْبِلَاد على من بعده مَرِيضَة ثمَّ زَادهَا الثَّانِي مَرضا حَتَّى تخرب فَإِذا سكنت نفس النَّاظر أَن أَعماله مقرة عَلَيْهِ نظر فِيهَا كنظر الشافي غلاتهم وَكَانَ فكره فِي صَلَاح غده قبل فكره صَلَاح يَوْمه لعلمه بِأَن خير الْعَاقِبَة أَو شَرها عَائِد عَلَيْهِ ومنسوب إِلَيْهِ وَليكن نزها عَن أَمْوَالهم غير طامع فِي شَيْء من أَحْوَالهم فَإِنَّهُ إِن طمع مِنْهُم فِي الْيَسِير أطمعهم فِي الْكثير وَإِن أَخذ مِنْهُم مَالا أخذُوا مِنْهُ أضعافه فيظن أَنه قد ارتفق بِمَال غَيره وَهُوَ قد أَخذ بعض حَقه مَعَ قبح القالة وَسُوء العاقية وَقد قيل من طمع فِي أَمْوَال عماله ألجأ بهم إِلَى اقتطاع أَمْوَاله وَقَالَ أنو شرْوَان من خَافَ شرك أفسد أَمرك وَقَالَ أردشير لَا ترجو خير من لَا يَرْجُو خيرك وَلَا تأمن جَانب

من لَا يَأْمَن جَانِبك فَإِن ظهر مِنْهُم على مَال قد احتجنوه أَو حق قد خانوه طالبهم بِهِ مُطَالبَة الْمَدِين الْمنصف ثمَّ كَانَ من وَرَاء تأديبهم بعد اسْتِيفَاء حَقه واسترجاع مَاله وَإِذا وجد من بعض خدمه هفوة أَو تقصيرا لم يَأْته عمدا وَلَا فعله قصدا لم يَأْخُذهُ بذنب الدَّهْر وعوائق الْقَضَاء مَعَ حسن الثِّقَة بِهِ فقد قيل أَي عَالم لَا يهفو وصارم لَا ينبو وجواد لَا يكبو وَقَالَ الشَّاعِر (وَلست بمستبق أَخا لَا تلمه ... على شعث أَي الرِّجَال الْمُهَذّب)

استخبار الملك عن رعيته وحاشيته والنائبين عنه

وَإِذا قطعت بَعضهم عَن الْخدمَة قواطع ظَهرت أعذارها ووضح برهانها لم يكلفه فعل مَا لَيْسَ فِي وَسعه فقد تقطع الْمُلُوك القواطع عَن حُقُوق أنفسهم فَكيف بأوليائهم وخدمهم استخبار الْملك عَن رَعيته وحاشيته والنائبين عَنهُ وَإِن الْملك جدير أَن لَا يذهب عَنهُ صغبر وَلَا كَبِير من أَخْبَار رَعيته وأحوال حَاشِيَته وسيرة خلفائه والنائبين عَنهُ فِي أَعماله بمداومة الاستخبار عَنْهُم وَبث أَصْحَاب الْأَخْبَار فيهم سرا وإعلانا وَينْدب لذَلِك أَمينا يوثق بِخَبَرِهِ وَينْصَح الْملك فِي مغيبه ومحضره غير شَره فيرتشي وَلَا ذِي هوى فيعتدي لتَكون النَّفس إِلَى خَبره سَاكِنة وَإِلَى كشفه عَن حقائق الْأُمُور راكنة فَإِنَّهُ لَا يقدر على رِعَايَة قوم تخفى عَنهُ أخبارهم وتنطوي عَنهُ آثَارهم فَرُبمَا ظن استقامة الْأُمُور بتمويه ألحق بِهِ فأفضى ذَلِك إِلَى هَلَاك رَعيته وانتهز الْعَدو فرْصَة غفلته واستثار من وهج ناره وشره مَا عساه يصعب بعد أَن كَانَ سهل المرام ويقوى بعد أَن كَانَ ضَعِيف القوام

حذر الملك من قبول السعاية في أصحابه

وَإِذا كَانَ باحثا عَن الْأَخْبَار انْكَشَفَ لَهُ غطاء الْغَفْلَة وانجلت عَنهُ شبه الْحيرَة فساس الْأُمُور ببصيرته وحرس الرّعية بإيقاظ عزيمته وتهيب أعوانه فعل الجرائر فاستقاموا وتجنبوا قبح المطالب فانصانوا وَتَكون عنايته بأخبار من بعد عَن حَضرته كعنايته بأخبار من قرب مِنْهَا بل رُبمَا كَانَ ذَلِك أهم لِأَن بعد الديار يبسط أَيدي الظلمَة فَإِذا وَافق بعد دَارهم قلَّة الاستخبار عَن أَحْوَالهم أمنُوا فِي اتِّبَاع أهوائهم وَسَكنُوا إِلَى الْغَفْلَة عَن أفعالهم فَكَانَت أَيْديهم مبسوطة فِي الرعايا وأهواؤهم محكمَة فِي القضايا فَرُبمَا أفْضى ذَلِك إِلَى فَسَاد نياتهم فِي الطَّاعَة لقبح آثَارهم وسو أفعالهم لِأَن الْمُسِيء مستوحش حذر الْملك من قبُول السّعَايَة فِي أَصْحَابه وَمِمَّا يَنْبَغِي للْملك أَن يحذرهُ قبُول السّعَايَة فِي أَصْحَابه فَإِن ذَلِك يوحش الناصح وَيسر الخائن وَيفتح للسعاية أَبْوَاب الرشى وليعلم أَن السَّاعِي لم يحملهُ على سَعْيه إفراط النَّصِيحَة مِنْهُ

لسلطانه وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك إِمَّا حسدا لمن سعى بِهِ أَو طلبا للتشفي مِنْهُ بِمَا شَاءَ للخظوة عِنْد السُّلْطَان فيوطىء الْملك الرِّشْوَة وَيدخل عَلَيْهِ الشُّبْهَة حَتَّى يتَصَوَّر الْأمين بِصُورَة الخائن والمحسن بِصُورَة الْمُسِيء فَيكون إضراره بِمن سعى إِلَيْهِ أَكثر من إضراره بِمن سعى عَلَيْهِ وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إيَّاكُمْ ومهلك الثَّلَاثَة قيل وَمن مهلك الثَّلَاثَة قَالَ الَّذِي يسْعَى بأَخيه إِلَى سُلْطَانه فَيهْلك نَفسه وسلطانه وأخاه وَقد قيل فِي منثور الحكم السَّاعِي كَاذِب لمن سعى إِلَيْهِ وخائن لمن سعى عَلَيْهِ وَوَقع الْمَنْصُور فِي رقْعَة متنصح تقربت إِلَيْنَا فِيمَا باعدك من الله

مراقبة أحوال النقود وأمر جباتها

وَلَا ثَوَاب لمن آثرنا عَلَيْهِ فَإِذا حسم قبُول السّعَايَة فِي أَصْحَابه أكذب ظنون السّعَايَة فيهم وَأَيْقَظَ عزمه فِي قلَّة الْغَفْلَة عَنْهُم فَإِذا علمُوا أَنه لَيْسَ يخفي شَيْء من أفعالهم عَلَيْهِ أقلع الخائن عَن خيانته وازداد الناصح نصحا فِي ولَايَته مراقبة أَحْوَال النُّقُود وَأمر جباتها وليعلم الْملك أَن فِي الْأُمُور الَّتِي يعم نَفعهَا إِذا صلحت ويشتمل ضررها إِذا فَسدتْ فَمِنْهَا أَمر الدَّرَاهِم والنقود فَإِن مَا يعود على الْملك من نفع صَلَاحهَا بسعة دخله وَقلة خرجه أَضْعَاف مَا يعود من نَفعهَا على رَعيته فَإِن سامح فِي غشها وأرخص فِي خلط الْفضة بغَيْرهَا حدث من ضَرَر فَسَادهَا مَا يُقَابل نفع صَلَاحهَا لِأَنَّهُ إِذا خلط الْفضة بِمِثْلِهَا وَجعل فِي كل عشرَة خَمْسَة خرقا وَخَمْسَة مسَاوٍ ورام أَن تُؤْخَذ بِقِيمَة الْفضة الْخَالِصَة كَانَ محالا وَإِن رام أَن تُؤْخَذ بِقِيمَتِهَا لم يجد ذَلِك نفعا

تفقد الملك للرعية

وَكَأَنَّهُ غير مكيالا ووزنا مَعَ إِفْسَاد الْفضة وخسران الْعَمَل وَإِذا طَال مكثها وَكثر لمسها قبحت عِنْد النَّاس فتجنبوا قبض قبيحها وَرَغبُوا فِي قبض طريها ومليحها وبهرج أَصْحَاب اللّبْس عَلَيْهَا بِضَرْب كثير الْغِشّ يكون أحسن من عتق تِلْكَ فتفسد النُّقُود ويتجنب النَّاس قبض الدَّرَاهِم ويمتنعوا من بيع الْأَمْتِعَة إِلَّا بِالْعينِ أَو الْفضة الْخرق وَتبطل معاملات النِّسَاء فينهك المستور المرق وَلَا يصل إِلَى أَرْبَاب الْأَمْوَال الجامة فتدعو الضَّرُورَة إِلَى تَغْيِير الضَّرْب فَإِن غير بِمثلِهِ كَانَ حَاله فِي الْمُسْتَقْبل كحاله فِي الأول وَإِذا عرف من السُّلْطَان تَغْيِير ضربه فِي كل عَام عدل النَّاس عَن ضربه الى ضرب غَيره حذرا من الوضيعة والخسران وَكَانَ عدولهم إِلَى ضرب غَيره موهنا لسلطانه وَإِذا كَانَ أَمر النَّقْد مُسْتَقِيمًا أَمن من جَمِيع ذَلِك وَكَانَ المتقدمون يجْعَلُونَ ذَلِك دعامة من دعائم الْملك تفقد الْملك للرعية وَيَنْبَغِي للْملك أَن يُقيم رَعيته مقَام عِيَاله واللائذين بِهِ فِي ارتياد موادهم وَإِصْلَاح معاشهم بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِم وَحذف الْأَذَى عَنْهُم وَلَا يهمل حَالهم وَيصرف نَفسه عَن تفقد شَأْنهمْ فيصيروا رعية قهر وفريسة دهر تتشذب أَحْوَالهم غَفلَة السُّلْطَان وحوائج الزَّمَان

فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلكُمْ رَاع وكللكم مسئول عَن رَعيته وَكتب عمر بن الْخطاب رضوَان الله عَلَيْهِ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَن أسعد الرُّعَاة من سعدت بِهِ رَعيته وأشقاهم فِي الدَّاريْنِ من شَقوا بِهِ وَإنَّك إِن ترتع عمالك فَيكون مثلك مثل الْبَهِيمَة رَأَتْ أَرضًا خضرَة ونباتا حسنا فرتعت تلتمس السّمن وَإِنَّمَا حتفها فِي سمنها وَكتب الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان أَن يحملهُ على أهل

الاهتمام بأمن السبل والمسالك

السوَاد فَكتب أليه عبد الْملك لَا تكن على درهمك الْمَأْخُوذ أحرص مِنْك على درهمك الْمَتْرُوك وأبق لَهُم لحوما يعقدوا بهَا شحوما الاهتمام بأمن السبل والمسالك ويهتم كل الاهتمام بأمن سبلهم ومسالكهم وتهذيب طرقهم ومفاوزهم من أهل الزعارة والمفسدين لينتشر النَّاس فِي متاجرهم آمِنين فَكثر جلبهم وتخصبت بِلَادهمْ وَيكون نفع جَمِيعهم عَاما وَدخل موادهم جَاما فَيصير رفق السُّلْطَان بذلك أعظم من رفق رَعيته وعقباه أَنْفَع فِي مَمْلَكَته مُسَاوَاة الْملك نَفسه مَعَ الرّعية وَيَنْبَغِي أَن يُسَاوِي بَينهم وَبَين نَفسه فِي الْحق لَهُم وَعَلِيهِ وَلَا يقدم فِيهِ شريفا على مشروف وَلَا قَوِيا على ضَعِيف بل يعدل بَين جَمِيعهم فِي الْقَضَاء وَيجْرِي الحكم على الْخَاصَّة والعامة بالسواء فَإِن ذَلِك أحسم لمواد الظلمَة وأقطع لشره الْغَلَبَة وَقد قيل من جارت قَضيته ضَاعَت رَعيته

وَسَأَلَ ملك ناسكا عَن الْإِخْلَاص فَقَالَ الناسك ثَلَاث اعْدِلْ فِي الْقَضِيَّة واقسم بِالسَّوِيَّةِ واعدد نَفسك وَاحِدًا من الرّعية وَقَالَ الْوَلِيد بن عبد الْملك لِأَبِيهِ يَا أبه مَا السياسة قَالَ هَيْبَة الْخَاصَّة مَعَ صدق محبتها واستمالة قُلُوب الْعَامَّة بالإنصاف لَهَا وَاحْتِمَال هفوات الصَّنَائِع فَإِن شكرها لأَقْرَب الْأَيْدِي إِلَيْهَا ويتعهد حَالَة الْفَقِير بَينهم بِالْبرِّ وَالصَّدَََقَة ويراعي خلة الْكَرِيم مِنْهُم بالزور والصلة فَإِن إحسانه إِلَى الْفُقَرَاء يشكره عَلَيْهِ الْأَغْنِيَاء كَانَ الموبذان إِذا دخل على أنو شرْوَان يَقُول يَا ملك الْمُلُوك استدم النعم بالْعَطْف على الرّعية وأهن طَعَامك بإشباع الجائع وَرَاء بابك والتحف بالأمن بإنصاف النَّاس من نَفسك يَا ملك الْمُلُوك أعْط الْحق من نَفسك يتعاطاه النَّاس وَرَاء بابك يَا ملك الْمُلُوك أظهر الْعدْل فِي دَارك يتعامل بِهِ أهل مملكتك يَا ملك الْمُلُوك وَاحْذَرْ

كيفية معاملة الملك للأخيار والأشرار من رعيته

النِّسَاء تسلم وَقد قيل فِي منثور الحكم بالراعي تصلح الرّعية وبالعدل تملك الْبَريَّة كَيْفيَّة مُعَاملَة الْملك للأخيار والأشرار من رَعيته وَيَنْبَغِي أَن يُمَيّز أخيار رَعيته فيخصهم بالإكرام والتقريب ويقمع أشرارهم بالإبعاد والتأديب لِيَرْغَبُوا فِي منَازِل الأخيار ويقلعوا عَن أَخْلَاق السفلة الأشرار ويأمن أهل الْوَرع والسلامة خوف عُقُوبَته ويوطن أهل الْبَريَّة والذعارة أنفسهم على حُلُول نقمته وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء انقياد الأخيار بِحسن الرَّغْبَة وانقياد الأشرار بطول الرهبة قَالَ الشَّاعِر (إِذا كُنْتُم للنَّاس فِي الأَرْض سادة ... فسوسوا كرام النَّاس بالحلم والبذل)

رعاية العلم ومراعاة العلماء

(وسوسوا لئام النَّاس بالذل وَحده ... جَمِيعًا فَإِن الذل يصلح للنذل) ويراعي أهل النّسك وَالصَّلَاح بغاية الإعظام ويعتمدهم بأجزل الإكرم ويتقرب إِلَيْهِم بِطَاعَة الله تَعَالَى فِي خلقه وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي أَدَاء حَقه ليكونوا لفعله حامدين وَإِلَى الله عز وَجل بِالدُّعَاءِ لَهُ مبتهلين فَلَنْ يعْدم من الله سُبْحَانَهُ إِجَابَة دُعَائِهِمْ رِعَايَة الْعلم ومراعاة الْعلمَاء فَأَما الْعلم فَيَنْبَغِي للْملك أَن يعرف فَضله ويستبطن أَهله ليَكُون بِالْعلمِ موسوما وَإِلَيْهِ مَنْسُوبا فَإِن الْإِنْسَان مَوْسُوم بسيما من قاربه ومنسوب إِلَيْهِ أفاعيل من صَاحبه وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَرْء على دين خَلِيله وَقَالَ الْمَرْء مَعَ من أحب

وَقَالَت الْحُكَمَاء يظنّ الْمَرْء مَا يظنّ بقرينه وَقد تخْتَص الْمُلُوك من هَذَا بِمَا يباينون بِهِ من سواهُم لخفاء أَحْوَالهم عَن الرّعية فيقضون عَلَيْهِم بِمَا قد عرفوه من أَحْوَال بطائنهم فَإِن استبطنوا الْعلم قضوا عَلَيْهِم بِالْعلمِ وَإِن استبطنوا الْجَهْل قضوا عَلَيْهِم بِمَا عرفوه من أَحْوَال بطانتهم الْجُهَّال وَإِن علمُوا مَا ينتشر من الْفساد الْعَظِيم بإهمال الْعلمَاء وَترك مُرَاعَاتهمْ وَذَلِكَ أَنه رُبمَا بعث بَعضهم قلَّة الْمَادَّة وَضعف الْحَال على مُسَامَحَة النَّفس فِي التبذل وارتكاب الشّبَه فِي التكسب فَإِذا وَافق ذَلِك إِعْرَاض السُّلْطَان عَنْهُم قبحت آثَارهم عِنْد الْعَامَّة وتقاصرت رتبتهم عِنْد الْخَاصَّة فهجروا هجر الْأَعْدَاء وزجروا زجر السُّفَهَاء ثمَّ سرى ذَلِك فِي حواصهم ومتصونيهم وَعم فِي جنسهم ومتدينهم فَذَهَبت بهجة الْعلم وبهاؤه وَقل طلابه وعلماءه وَصَارَ ذَرِيعَة إِلَى انقراضه ودراسته ثمَّ لَا يبعد أَن يظْهر أهل نحل مبتدعة ومذاهب مخترعة يزوقون كلَاما مموها ويزخرفون مذهبا مشوها يخلبون بِهِ قُلُوب الأغمار ويعتضدون على نصرته بالسفلة الأشرار فَيصب النَّاس إِلَيْهِم وينعطفوا عَلَيْهِم بخلابة كَلَامهم وَحسن ألطافهم مَعَ أَن لكل جَدِيد لَذَّة وَلكُل مستحدث صبوة وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أخوف

مَا أَخَاف على أمتِي مُنَافِق عليم اللِّسَان فَتَصِير حِينَئِذٍ الْبدع فَاشِية ومذاهب الْحق واهية ثمَّ يُفْضِي بهم الْأَمر إِلَى التحزب والعصبة فَإِذا رَأَوْا كَثْرَة جمعهم وَقُوَّة شوكتهم داخلهم عز الْقُوَّة ونخوة الْكَثْرَة فتضافر جهال نساكهم وفسقة عُلَمَائهمْ بالميل على مخالفيهم فَإِذا استتب لَهُم ذَلِك زاحموا السُّلْطَان فِي رئاسته وقبحوا عِنْد الْعَامَّة جميل سيرته فَرُبمَا انفتق مَالا يرتق فَإِن كبار الْأُمُور تبدو صغَارًا وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهلك أمتِي رجلَانِ عَالم فَاجر وجاهل متعبد وَسُئِلَ عَن شرار الأشرار فَقَالَ شرار الْعلمَاء وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَصم ظَهْري رجلَانِ

مكافأة المحسن ومجازاة المسيء

ناسك جَاهِل يَدْعُو إِلَى جَهله بنسكه وعالم فَاسق يَدْعُو إِلَى فسقه بِعِلْمِهِ وَهَذَا أَمر يجب على الْملك مراعاته لما فِيهِ من حراسة الدّين وَحفظ المملكة وحسم ذَلِك أَن يُرَاعِي الْعلم وَأَهله وَيصرف إِلَيْهِم حظا من عنايته ويعتمد أهل الْكَفَاءَة مِنْهُم بالتقريب والصيانة وَأهل الْحَاجة مِنْهُم بالرفد والإعانة فَفِي ذَلِك بهاء الْملك وإعزاز الدّين وَقد قيل إِن من إجلال الشَّرِيعَة إجلال أهل الشَّرِيعَة مُكَافَأَة المحسن ومجازاة الْمُسِيء وَليكن الْمَعْرُوف من شيمه والمألوف من أخلاقه أَنه يُكَافِئ المحسن بإحسانه ليألف النَّاس الْإِحْسَان رَغْبَة فِي إحسانه من غير أَن يَجْعَل لجائزته حدا لصلته قدرا فَإِن ذَلِك أبسط للأمل فِيهِ وَلَا يعرف مِنْهُ فِي الْمُسِيء شِيمَة مألوفة لَا فِي عَفْو وَلَا فِي عُقُوبَة لِأَن الْمُسِيء إِذا عرف مِنْهُ الْعَفو اجترأ وَإِن عرف مِنْهُ الْعقُوبَة قنط وَإِن لم يعرف مِنْهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا كَانَ على رَجَاء عَفوه وَخَوف من عُقُوبَته فَكَانَ ذَلِك أبلغ فِي تأديبه ومصلحته فَإِن رَآهُ أَهلا للعفو عَفا عَنهُ

خصال في سياسة مملكة وحراسة دولة

قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَفْو الْمُلُوك بَقَاء الْملك وَإِن رَآهُ للعقوبة مُسْتَحقّا عاقبه أدبا لَا غَضبا عَلَيْهِ خِصَال فِي سياسة مملكة وحراسة دولة فقد قَالَ أنو شرْوَان إِنِّي بلغت هَذِه الرُّتْبَة بثمان خِصَال وَذَلِكَ أَنِّي لم أهزل فِي أَمر وَلَا نهي قطّ وَلَا أخلف فِي وعد وَلَا وَعِيد قطّ وَوليت للكفاية وَأثبت للغناء لَا للهوى وعاقبت للأدب لَا للغضب وأودعت قُلُوب الرّعية شدَّة الْمحبَّة من غير جرْأَة وَقُوَّة الهيبة من غير ضغينة وعممت بالقوت وحذفت الفضول وَهَذِه أوضح سيرة سَار بهَا ملك فِي سياسة ملكه وحراسة دولته

وَقَالَ الشَّاعِر (تَعْفُو الْمُلُوك عَن الْعَظِيم ... من الذُّنُوب لفضلها) (وَلَقَد تعاقب فِي الْيَسِير ... وَلَيْسَ ذَاك لجهلها) (إِلَّا ليعرف فَضلهَا ... وَيخَاف شدَّة نكلها) وليعلم أَن الْقبْح فِي الظُّلم بِقدر الْحسن فِي الْعدْل والزهد فِي ولَايَة الظَّالِم بِقدر الرَّغْبَة فِي ولَايَة الْعَادِل فَيَنْبَغِي للْملك أَن يخْتَار لنَفسِهِ الرَّغْبَة فِي أَيَّامه بتسليط الْعدْل على ملكه وَالْإِحْسَان إِلَى رَعيته فَإِنَّهُ إِن قدر على ملكة أَجْسَادهم بسلطانه فَلَيْسَ يقدر على ملكة قُلُوبهم إِلَّا بإحسانه وَقد قيل من جمع المَال لنفع غَيره أطاعوه وَمن جمع المَال لنفع نَفسه أضاعوه

على الملك فعل الخير دائما

وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء من خَافَ إساءتك اعْتقد مساءتك فَإِن فتش عَن سرائرهم مَعَ استقامة ظواهرهم وَأَرَادَ أَن يؤاخذهم بِمَا يخفونه من ضمائرهم فقد كلف نَفسه هما قد كفيه واستفسد من يطيعه ويتقيه وَعدل عَمَّا يستصلح بِهِ السرائر من الْإِحْسَان إِلَى مَا يستفسد بِهِ الظَّوَاهِر من المكاشفة وَحكى اليزيدي رَحمَه الله أَن كسْرَى بن قباذ رفع إِلَيْهِ رجل من أَصْحَابه إِن فِي بطانة الْملك جمَاعَة قد فَسدتْ نياتهم وخبثت ضمائرهم وَقد هموا بِمَا لم يَفْعَلُوا وهم غير مأمونين على الْملك فَوَقع أَنا أملك الأجساد لَا النيات وَأحكم بِالْعَدْلِ لَا بالرضى وأفحص عَن الْأَعْمَال لَا عَن السرائر على الْملك فعل الْخَيْر دَائِما وَليكن من دأبه فعل الْخيرَات إِمَّا ابْتِدَاء من نَفسه أَو اقْتِدَاء بالأخيار

من سلفه وَقد قيل النَّاس فِي الْخَيْر أَرْبَعَة مِنْهُم من يَفْعَله ابْتِدَاء وَمِنْهُم من يَفْعَله اقْتِدَاء وَمِنْهُم من يتْركهُ حرمانا وَمِنْهُم من يتْركهُ اسْتِحْسَانًا فَمن يَفْعَله ابْتِدَاء فَهُوَ كريم وَمن يَفْعَله اقْتِدَاء فَهُوَ حَكِيم وَمن يتْركهُ حرمانا فَهُوَ شقي وَمن يتْركهُ اسْتِحْسَانًا فَهُوَ رَدِيء وَليكن مَا يخلفه من جميل الذّكر وَحسن السِّيرَة إِمَامًا يَقْتَدِي بِهِ الأخيار ومثالا يزدجر بِهِ الأشرار فَإِن ذَلِك أربح بضائعه يَوْم معاده وأنفع مَا يخلفه لمن اقْتدى بِهِ فَإِن الله تَعَالَى ولي توفيقه وتسديده وكفيل معونته وتأييده تمّ كتاب دُرَر السلوك بِحَمْد الله وَمِنْه وقوته وعونه وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد نبيه وَآله الطاهرين وَصَحبه وَسلم

§1/1